فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ،
1
وأن يقول لهم قولا لينا لعلهم يذكرون أو يخشون. فليصبر على أذاهم، إن الله مع الصابرين.
ولم يطل بمحمد الانتظار أكثر من بضع سنين حتى بدت له في الأفق تباشير الفوز آتية طلائعها من ناحية يثرب. ولمحمد بيثرب علاقة غير علاقة التجارة؛ له بها علاقة قربى، وله فيها قبر كانت أمه تحج إليه قبل موتها في كل عام مرة، أما ذوو قرباه فأولئك بنو النجار أخوال جده عبد المطلب. وأما ذلك القبر فقبر أبيه عبد الله بن عبد المطلب. إلى هذا القبر كانت تحج آمنة الزوج الوفية، وكان يحج عبد المطلب الأب الذي فقد ابنه وهو في شرخ شبابه وريعان قوته. وقد صحب محمد أمه إلى يثرب في السادسة من عمره، فزار معها قبر أبيه ثم قفلا عائدين، فمرضت آمنة في الطريق وماتت ودفنت بالأبواء في منتصف الطريق بين يثرب ومكة. فلا عجب أن تبدأ تباشير الفوز لمحمد من ناحية بلد له به هذه الصلة وإلى ناحيته كان يتجه حين يصلي جاعلا قبلته المسجد الأقصى ببيت المقدس، مقام سلفيه موسى وعيسى، ولا عجب أن تهيئ المقادير ليثرب هذا الحظ ليتم لمحمد بها النصر، وللإسلام بها الفوز والانتشار.
هيأت المقادير ليثرب هذا الحظ بما لم تهيئه لبلد آخر. فقد كان الأوس والخزرج من عباد الأوثان بيثرب يجاورون يهودها جوارا كثيرا ما شابته البغضاء وما تعدى البغضاء إلى القتال. وإن التاريخ ليروي أن المسيحيين في الشام، ممن كانوا يتبعون الدولة الرومانية الشرقية، وكان يمقتون اليهود أشد المقت لاعتقادهم أنهم هم الذين صلبوا المسيح ونكلوا به، قد أغاروا على يثرب ليقتلوا يهودها. فلما لم يظفروا بهم استعانوا بالأوس والخزرج على استدراجهم، ثم قتلوا عددا منهم غير قليل. وأنزل ذلك اليهود عن مكان السيادة الذي كان لهم، ورفع عرب الأوس والخزرج إلى مكانة غير مكانة العمال التي كانوا مقصورين من قبل عليها. وقد حاول العرب بعد ذلك أن يوقعوا باليهود مرة أخرى ليزدادوا في المدينة العامرة بالزراعة والماء سلطانا، فنجحوا في كيدهم بعض النجاح، ثم فطن اليهود لوقيعتهم بهم. بذلك تمكنت العداوة والبغضاء في نفوس يهود يثرب لأوسها وخزرجها، وفي نفوس الأوس والخزرج لليهود. ورأى أتباع موسى أن مقابلة القتال بالقتال قد تهوي بهم إلى الفناء إذا وجد الأوس والخزرج حلفا من بني دينهم العرب على أهل الكتاب هؤلاء، فسلكوا في سياستهم خطة غير خطة الغلب في المعارك. لجئوا إلى سياسة الوقيعة والتفريق، بأن دسوا بين الأوس والخزرج وأغروا بينهم بالعداوة والبغضاء حتى جعلوا كل فريق على أهبة مستمرة للقتل والقتال. بذلك أمن اليهود عدوانهم، وجعلوا يزيدون في تجارتهم وفي ثروتهم ويستعيدون ما فقدوا من سيادة ويستردون ما أضاعوا من دار ومن عقار.
كان لجوار اليهود والعرب بيثرب - فيما خلا هذا النزاع على السيادة والسلطان - أثر آخر أعمق عند الأوس والخزرج مما كان عند سائر أهل جزيرة العرب؛ ذلك هو الأثر الروحي. فقد كان اليهود - وهم أهل كتاب ودعاة وحدانية - يعيبون على جيرانهم الوثنيين اتخاذهم الأوثان زلفى إلى الله، وينذرونهم بعث نبي يقضي عليهم ويشايع اليهود. ولم تصل هذه الدعوة إلى تهويد العرب لسببين: أحدهما أن ما كان بين النصرانية واليهودية من حرب جعل يهود يثرب لا يطمعون في أكثر من السلامة التي تهيئ لهم سعة التجارة. والآخر أن اليهود يحسبون أنفسهم شعب الله المختار. ولا يرضون أن تكون لشعب غيرهم هذه المكانة، وهم لذلك لا يدعون لدينهم ولا يرضونه يخرج من بني إسرائيل. وعلى الرغم من قيام هذين السببين هيأ اتصال الجوار والتجارة، بين اليهود والعرب أوس يثرب وخزرجها ليكونوا أكثر استماعا للحديث في الشئون الروحية وفي سائر شئون الدين من غيرهم من العرب. يدلك على ذلك أن العرب لم تستجب لدعوة محمد الروحية مثلما استجاب أهل يثرب.
كان سويد بن الصامت من كبار أشراف يثرب، حتى كان قومه يسمونه الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه. وفي هذه الفترة التي نتحدث عنها قدم سويد مكة حاجا، فتصدى له محمد فدعاه إلى الله وإلى الإسلام. فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي! قال محمد: وما الذي معك؟ قال: حكمة لقمان. فطلب إليه محمد أن يعرضها عليه فعرضها؛ فقال له محمد: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل؛ هو قرآن أنزله الله علي هدى ونورا. وتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام. فطاب سويد نفسا بما سمع وقال: هذا حسن. وانصرف يفكر فيه. وإن قوما ليقولون حين قتلته الخزرج: إنه مات مسلما.
وليس سويد بن الصامت هو المثل الوحيد الذي يدل على أثر تجاور اليهود والعرب بيثرب من الناحية الروحية. فقد كان بين الأوس والخزرج من العداوة التي بث اليهود ما علمت، وكان كل منهم يلتمس الحلف من قبائل العرب ليقاتل الآخر. وكان من ذلك أن قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج. وسمع بهم محمد، فأتاهم فجلس إليهم ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أي قوم! هذا والله خير مما جئتم فيه. وعاد القوم إلى يثرب لم يسلم منهم غير إياس؛ لأنهم كانوا في شغل بالتماس الحلف استعدادا لوقعة بعاث التي اصطلى الأوس والخزرج جميعا بنارها بعد قليل من عود أبي الحيسر ومن معه إلى مكة. لكن كلام محمد ترك في نفوسهم بعد هذه الوقعة من الأثر ما دعا الأوس والخزرج جميعا ليلتمسوا في محمد نبيا ورسولا وحليفا وإماما.
كانت وقعة بعاث بعد قليل من عود أبي الحيسر ومن معه إلى يثرب، واقتتل فيها الأوس والخزرج قتالا شديدا أملته عداوة متأصلة، حتى لكان كل قوم يتساءلون إذا هم انتصروا: أيبقون على أصحابهم، أم يستأصلونهم ويجهزون عليهم. وكان أبو أسيد حضير الكتائب على رأس الأوس، وكان في نفسه من الحقد على الخزرج أشده. فلما بدأ القتال دارت على الأوس الدائرة، فولوا فرارا نحو نجد، فعيرتهم الخزرج. فلما سمع حضير تعييرهم طعن بسنان رمحه فخذه ونزل وصاح: واعقراه! والله لا أريم حتى أقتل! فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا فعاد الأوس للقتال وبهم من الألم مما أصابهم ما جعلهم يستبسلون مستيئسين، فيهزمون الخزرج شر هزيمة. وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها، حتى أجارها سعد بن معاذ الأشهلي. وأراد حضير أن يأتي الخزرج قصرا قصرا، ودارا دارا، يقتل ويهدم لا يبقي منهم أحدا، لولا أن منعه أبو قيس بن الأسلت إبقاء على بني دينهم؛ «فجوارهم خير من جوار الثعالب.»
واستعادت اليهود بعد هذا اليوم مكانتها بيثرب. ورأى المنتصر والمهزوم من الأوس والخزرج جميعا سوء ما صنعوا، وفكروا في عاقبة أمرهم، وتطلعوا إلى إقامة ملك عليهم. واختاروا لذلك عبد الله بن محمد من الخزرج المهزومة لمكانته وحسن رأيه. لكن تطور الأحوال تطورا سريعا حال دون ما أرادوا؛ ذلك أن نفرا من الخزرج خرجوا إلى مكة في موسم الحج، فلقيهم محمد فسألهم عن شأنهم وعرف أنهم من موالي اليهود. وقد كان اليهود بيثرب يقولون لهم إذا اختلفوا وإياهم: إن نبيا مبعوثا الآن قد أطل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم النبي أولئك النفر ودعاهم إلى الله، نظر بعضهم إلى بعض وقالوا: والله إنه للنبي الذي تواعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه. وأجابوا محمدا إلى دعوته وأسلموا، وقالوا له: «إنا قد تركنا قومنا - أي الأوس والخزرج - ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. وإن يجمعهم عليك فلا رجل أعز منك.» وعاد هؤلاء النفر إلى المدينة، ومن بينهم اثنان من بني النجار أخوال عبد المطلب جد محمد الذي كفله منذ مولده، فذكروا لقومهم إسلامهم، فألفوا قلوبا منشرحة ونفوسا متلهفة لدين يجعلهم موحدين كاليهود، بل يجعلهم خيرا منهم، فلم تبق دار من دور الأوس والخزرج جميعا إلا فيها ذكر محمد عليه السلام.
صفحة غير معروفة