86

في هذه الفترة كان الإسراء والمعراج. وكان محمد ليلة الإسراء في بيت ابنة عمه هند ابنة أبي طالب، وكنيتها أم هانئ. وقد كانت هند تقول: «إن رسول الله نام عندي تلك الليلة في بيتي فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا. فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله؛ فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين . فقلت له: يا نبي الله لا تحدث به الناس فيكذبوك ويؤذوك. قال: والله لأحدثنهموه.»

يستند الذين يقولون بأن الإسراء والمعراج إنما كان بروح محمد إلى حديث أم هانئ هذا، وإلى ما كانت تقوله عائشة: ما فقد جسد رسول الله

صلى الله عليه وسلم

ولكن الله أسرى بروحه. وكان معاوية ابن أبي سفيان إذا سئل عن مسرى الرسول قال: كانت رؤيا من الله صادقة. وهم يستشهدون إلى جانب ذلك كله بقوله تعالى:

وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس .

2

وفي رأي آخرين أن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس كان بالجسد، مستدلين على ذلك بما ذكر محمد أنه شاهد في البادية أثناء مسراه مما سيأتي خبره، وأن المعراج إلى السماء كان بالروح. ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن الإسراء والمعراج كانا جميعا بالجسد. وقد كثرت مناقشات المتكلمين في هذا الخلاف حتى كتبت فيه ألوف الصحف. ولنا في حكمة الإسراء رأي نبديه. ولسنا ندري أسبقنا إليه أم لم نسبق. لكنا قبل أن نبدي هذا الرأي - بل لكي نبديه - يجب أن نروي قصة الإسراء والمعراج على نحو ما جاءت به كتب السيرة.

سرد المستشرق درمنجم هذه القصة مستخلصة من مختلف كتب السيرة في عبارة طلية رائعة، هذه ترجمتها: في منتصف ليلة بلغ السكون فيها غاية جلاله، وصمتت فيه طيور الليل وسكتت الضواري، وانقطع خرير الغدران وصفير الرياح، استيقظ محمد على صوت يصيح به: أيها النائم قم. وقام فإذا أمامه الملك جبريل وضاء الجبين أبيض الوجه كبياض الثلج مرسلا شعره الأشقر، واقفا في ثيابه المزركشة بالدر والذهب، ومن حوله أجنحة من كل الألوان ترعش، وفي يده دابة عجيبة هي البراق، ولها أجنحة كأجنحة النسر انحنت أمام الرسول، فاعتلاها وانطلقت به انطلاق السهم فوق جبال مكة ورمال الصحراء متجهة صوب الشمال. وصحبه الملك في هذه الرحلة، ثم وقف به عند جبل سيناء حيث كلم الله موسى، ثم وقف به مرة أخرى في بيت لحم حيث ولد عيسى، وانطلق بعد ذلك في الهواء في حين حاولت أصوات خفية أن تستوقف النبي الذي رأى في إخلاصه لرسالته أن ليس لغير الله أن يستوقف حيث شاء دابته. وبلغ بيت المقدس، فقيد محمد دابته وصلى على أطلال هيكل سليمان ومعه إبراهيم وموسى وعيسى، ثم أتي بالمعراج فارتكز على صخرة يعقوب وعليه صعد محمد سراعا إلى السموات، وكانت السماء الأولى من فضة خالصة علقت إليها النجوم بسلاسل من ذهب، وقد قام على كل منها ملك يحرسها حتى لا تعرج الشياطين إلى علو عليها أو يستمع الجن منها إلى أسرار السماء. في هذه السماء ألقى محمد التحية على آدم، وفيها كانت صور الخلق جميعا تسبح بحمد ربها. ولقي محمد في السموات الست الأخرى نوحا وهارون وموسى وإبراهيم وداود وسليمان وإدريس ويحيى وعيسى. ورأى فيها ملك الموت عزرائيل، بلغ من ضخامته أن كان ما بين عينيه مسيرة سبعين ألف يوم، ومن سلطانه أن كانت تحت إمرته مائة ألف فرقة، وكان يسجل في كتاب ضخم أسماء من يولدون ومن يموتون. ورأى ملك الدمع يبكي من خطايا الناس، وملك النقمة ذا الوجه النحاسي المتصرف في عنصر النار والجالس على عرش من لهب. وقد رأى كذلك ملكا ضخما نصفه من نار ونصفه من ثلج وحوله من الملائكة فرقة لا تفتر عن ذكر الله قائلة: اللهم قد جمعت الثلج والنار، وجمعت كل عبادك في طاعة سنتك. وكان في السماء السابعة مقر أهل العدل ملك أكبر من الأرض كلها، له سبعون ألف رأس، في كل رأس سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان، يتكلم كل لسان سبعين ألف لغة، من كل لغة سبعين ألف لهجة، وكلها تسبح بحمد الله وتقدس له.

وبينما هو يتأمل هذا الخلق الغريب إذا به ارتفع إلى قمة سدرة المنتهى، تقوم إلى يمين العرش وتظل ملايين الملايين من الأرواح الملائكية. وبعد أن تخطى في أقل من لمح البصر بحارا شاسعة ومناطق ضياء يعشى وظلمة قاتمة وملايين الحجب من ظلمات ونار وماء وهواء وفضاء، يفصل بين كل واحد منها وما بعده مسيرة خمسمائة عام، تخطى حجب الجمال والكمال والسر والجلال والوحدة، قامت وراءها سبعون ألف فرقة من الملائكة سجدا لا يتحركون ولا يؤذن لهم فينطقون. ثم أحس بنفسه يرتفع إلى حيث المولى جل شأنه، فأخذه الدهش وإذا الأرض والسماء مجتمعتان لا يكاد يراهما، وكأنما ابتلعهما الفناء فلم ير منهما إلا حجم سمسمة في مزرعة واسعة. وكذلك يجب أن يكون الإنسان في حضرة ملك العالم.

ثم كان في حضرة العرش وكان منه قاب قوسي أو أدنى، يشهد الله بعين بصيرته، ويرى أشياء يعجز اللسان عن التعبير عنها وتفوق كل ما يحيط به فهم الإنسان. ومد العلي العظيم يدا على صدر محمد والأخرى على كتفه، فأحس النبي كأنه أثلج إلى فقاره، ثم بسكينة راضية وفناء في الله مستطاب.

صفحة غير معروفة