وأحس عبد المطلب قلة حوله في قومه لقلة أولاده، فنذر إن ولد له عشرة بنين ثم بلغوا معه أن يمنعوه من مثل ما لقي حين حفر زمزم لينحرن أحدهم لله عند الكعبة. وتوافى بنوه عشرة آنس فيهم المقدرة على أن يمنعوه؛ فدعاهم إلى الوفاء بنذره فأطاعوه. وفي سبيل هذا الوفاء كتب كل واحد من الأبناء اسمه على قدح، وأخذها عبد المطلب وذهب بها إلى صاحب القداح عند هبل في جوف الكعبة. وكانت العرب كلما اشتدت بها الحيرة في أمر لجأت إلى صاحب القداح كي يستفتي لها كبير الآلهة الأصنام عن طريق القداح. وكانت عبد الله بن عبد المطلب أصغر أبنائه وأحبهم لذلك إليه. فلما ضرب صاحب القداح القداح التي عليها أسماء هؤلاء الأبناء ليختار هبل من بينها من ينحره أبوه، خرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد المطلب الفتى بيده وذهب به لينحره حيث كانت تنحر العرب عند زمزم بين إساف ونائلة. إذ ذاك قامت قريش كلها من أنديتها تهيب به أن لا يفعل، وأن يلتمس عن عدم ذبحه عند هبل عذرا. وتردد عبد المطلب لدى إلحاحهم. وسألهم ما عساه يفعل لترضى الآلهة؟ قال المغيرة بن عبد الله المخزومي: إن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وتشاور القوم، واستقر رأيهم على الذهاب إلى عرافة بيثرب لها في مثل هذه الأمور رأي. وجاءوا العرافة، فاستمهلتهم إلى الغد ثم قالت لهم كم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل. قالت: فارجعوا إلى بلادكم ثم تقربوا وقربوا عشرا من الإبل ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم. وقبلوا، وجعلت القداح تخرج على عبد الله فيزيدون في الإبل حتى بلغت مائة، عند ذلك خرجت القداح على الإبل. فقالت قريش لعبد المطلب، وكان أثناء ذلك كله واقفا يدعو ربه: قد رضي ربك يا عبد المطلب. قال عبد المطلب: لا والله ، حتى أضرب عليها ثلاث مرات. وفي المرات الثلاث خرجت القداح على الإبل؛ فاطمأن عبد المطلب إلى رضاء ربه ونحرت الإبل، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.
بذلك تجري كتب السيرة فتصف طرفا من عادات العرب وعقائدهم وأوضاع هذه العقائد، وتدل في الوقت نفسه على ما بلغت مكة في بلاد العرب من مقام كريم ببيتها الحرام. ويروي الطبري - استدلالا على قصة الفداء هذه - أن امرأة من المسلمين نذرت إن فعلت كذا لتنحرن ابنها، وفعلت ذلك الأمر، ثم ذهبت إلى عبد الله بن عمر فلم ير في فتياها شيئا، فذهبت إلى عبد الله بن العباس فأفتاها بأن تنحر مائة من الإبل، كما كان الأمر في فداء عبد الله بن عبد المطلب، فلما عرف ذلك مروان والي المدينة أنكره، وقال: لا نذر في معصية.
أدت مكانة مكة ومقام بيتها الحرام إلى إقامة بعض البلاد البعيدة معابد فيها لعلها تصرف الناس عن مكة وعن بيتها. فأقام الغساسنة بيتا بالحيرة. وأقام أبرهة الأشرم بيتا باليمن. فلم يغن ذلك العرب عن بيت مكة ولا هو صرفهم عن البلد الحرام. وقد عني أبرهة بزخرفة بيت اليمن غاية العناية، وجلب له من فاخر الأثاث ما خيل إليه معه أنه صارف العرب وصارف أهل مكة أنفسهم إليه. فلما رأى العرب لا تتجه إلا إلى البيت العتيق، ورأى أهل اليمن يدعون البيت الذي بني يعتبرون حجهم مقبولا إلا بمكة، لم يجد عامل النجاشي وسيلة إلا هدم بيت إبراهيم وإسماعيل. وتهيأ للحرب في جيش لجب من الحبشة تقدمه على فيل عظيم ركبه. وسمعت العرب بذلك. فخافت العاقبة، وعظم عليها أن يقدم رجل حبشي على هدم بيت حجهم ومقام أصنامهم. وهب رجل، كان من أشراف أهل اليمن وملوكها يدعى ذا نفر، فاستنفر قومه ومن أجاب من غيرهم من العرب لمقاتلة أبرهة وصده عما يريد من هدم بيت الله. لكنه لم يستطع أن يثبت لأبرهة بل هزم وأخذ أسيرا. وهزم كذلك نفيل بن حبيب الخثعمي حين جمع قومه من قبيلتي شهران وناهس وأخذ كذلك أسيرا، فأقام نفسه دليلا لأبرهة وجيشه، فلما نزل أبرهة الطائف كلمه أهلها بأن بيتهم ليس هو البيت الذي يريد، إنما هو بيت اللات، وبعثوا معه من يدلهم على مكة.
فلما اقترب أبرهة من مكة بعث رجلا من الجيش على فرسان له، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وبينها مائة بعير لعبد المطلب بن هاشم. وهمت قريش ومن معهم من أهل مكة بقتاله، ثم رأوا أن لا طاقة لهم به، وبعث أبرهة رجلا من رجاله يدعى حناطة الحميري سأل عن سيد مكة، فذهبوا به إلى عبد المطلب بن هاشم، فأبلغه رسالة أبرهة إليه، أنه لم يأت لحرب وإنما جاء لهدم البيت؛ فإن لم تحاربه مكة فلا حاجة به لدماء أهلها. فلما ذكر له عبد المطلب أنهم لا يريدون حربا سار به حناطة ومع عبد المطلب بعض أبنائه وبعض كبراء مكة حتى بلغوا معسكر الجيش. وأكرم أبرهة وفادة عبد المطلب وأجابه إلى رد إبله إليه. لكنه أبى إباء تاما كل حديث في أمر الكعبة ورجوعه عن هدمها، ورفض ما عرض عليه وفد مكة من النزول له عن ثلث ثروة تهامة. وعاد عبد المطلب وقومه إلى مكة؛ فنصح للناس أن يخرجوا منها إلى شعاب الجبل خيفة أبرهة وجيشه حين يدخلون البلد الحرام لهدم البيت العتيق.
وكانت ليلة ليلاء تلك التي فكر فيها القوم في هجر بلدهم وما هو نازل به وبهم. ذهب عبد المطلب ومعه نفر من قريش فأخذ حلقة باب الكعبة وجعل يدعو ويدعون يستنصرون آلهتهم على هذا المعتدي على بيت الله. فلما انصرفوا وخلت مكة منهم وآن لأبرهة أن يوجه جيشه ليتم ما اعتزم فيهدم البيت ويعود أدراجه إلى اليمن، كان وباء الجدري قد تفشى بالجيش وبدأ يفتك به؛ وكان فتكه ذريعا لم يعهد من قبل قط. ولعل جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر، وأصابت العدوى أبرهة نفسه، فأخذه الروع وأمر قومه بالعودة إلى اليمن. وفر الذين كانوا يدلون على الطريق ومات منهم من مات. وكان الوباء يزداد كل يوم شدة ورجال الجيش يموت منهم من يموت كل يوم بغير حساب. وبلغ أبرهة صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض، فلم يقم إلا قليلا حتى لحق بمن مات من جيشه. وبذلك أرخ أهل مكة بعام الفيل هذا، وخلده القرآن بذكره:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول .
9
زاد هذا الحادث الفذ العجيب في مكانة مكة الدينية، وزاد تبعا لذلك في مكانتها التجارية، وزاد أهلها انصرافا عن التفكير في شيء غير الاحتفاظ بتلك المكانة الرفيعة الممتازة ومحاربة من يحاول الانتقاص منها أو الاعتداء عليها.
وزاد المكيين حرصا على مكانة مدينتهم ما كانت تتيحه لهم من رخاء وترف على أوسع صورة يستطيع الذهن تصورها للترف في هذه الجهة الصحراوية البلقع الجرداء. فقد كان لأهلها غرام بالنبيذ أي غرام، وكانوا يجدون في النشوة به نعيما أي نعيم! نعيما يسر لهم أن يطلقوا لشهواتهم أعنتها، وأن يجدوا في الجواري والعبيد الذين يتجرون فيهم والذين يشترونهم متعا تغريهم بالمزيد منها، ويغريهم ذلك بالحرص على حريتهم وحرية مدينتهم، وباليقظة للذود عن هذه الحرية ودفع كل معتد أثيم تحدثه نفسه بالعدوان عليها.
ولم يكن شيء أشهى إليهم من أن يجعلوا سمرهم وشرابهم في سرة المدينة حول بناء الكعبة. وهناك إلى جانب ثلاثمائة صنم أو تزيد، لكل قبيلة من قبائل العرب بينها صنم أو أكثر، كان أكابر قريش والمقدمون من أهل مكة يجلسون؛ يقص كل منهم أمر ما اتصل به من أخبار البادية واليمن وجماعة المناذرة في الحيرة والغساسنة في الشام مما ترد به القوافل أو يتناقله سكان البادية. وكان ذلك يصل إليهم على سبيل الرواية تتناقلها قبيلة عن قبيلة، وكأن كل قبيلة لها مذيع وملتقط لاسلكي يتلقى الأنباء ويذيعها. يقص كل ما اتصل به من أخبار البادية ويروي روايات جيرانه وأصحابه ويشرب نبيذه ويعد نفسه بعد سمر الكعبة لسمر أكثر إشباعا لأهوائه وإمتاعا لشهواته.
صفحة غير معروفة