تجاه المسيحية التي انتشرت في ظل لواء الروم ونفوذها وقفت مجوسية الفرس تؤازرها قوى الشرق الأقصى وقوة الهند المعنوية. وقد ظلت آشور وظلت مدنية مصر الممتدة في فينيقيا عصورا طويلة حائلة دون انتطاح عقائد الغرب والشرق وحضارتيهما. على أن دخول مصر وفينيقيا في المسيحية أذاب هذا الحائل ووقف مسيحية الغرب ومجوسية الشرق وجها لوجه. وقد ظل الشرق والغرب عصورا متصلة وفي نفس كل من الهيبة لدين الآخر ما أقام مكان ذلك الحائل الطبيعي الأول حائلا آخر معنويا، اقتضى كلتا قوتيه أن توجه جهودها وغزواتها الروحية في ناحيتها، وألا تفكر في دعوة الأخرى إلى عقيدتها أو حضارتها، مع ما اتصل بينهما على مر القرون من حروب. ومع أن فارس انتصرت على الروم وحكمت الشام ومصر ووقفت على أبواب بزنطية، لم يفكر ملوكها في نشر المجوسية أو إحلالها محل النصرانية. بل احترم الغزاة عقائد المحكومين، وعاونوهم على تشييد ما خربت الحرب من معابدهم، وتركوا لهم الحرية في إقامة شعائرهم. وكل ما صنع الفرس أن أخذوا الصليب الأعظم وأبقوه عندهم، حتى دارت دائرة الحرب عليهم واسترده الروم منهم، وكذلك ظلت غزوات الغرب الروحية في الغرب، وغزوات الشرق في الشرق؛ وبذلك كان الحائل المعنوي في مثل منعة الحائل الطبيعي، وكفل تكافؤ القوتين من الناحية الروحية عدم تصادمهما.
وظلت الحال كذلك إلى القرن السادس المسيحي. وفي هذه الأثناء اشتدت المنافسة بين رومية وبزنطية. أما رومية، التي أظلت أعلامها ربوع أوروبا إلى الغال وإلى السلت في إنكلترا أجيالا عدة، والتي فاخرت العالم - وما زالت تفاخره - بعهد يوليوس قيصر، فقد بدأ مجدها ينزوي رويدا رويدا، حتى انفردت بزنطية بالسلطان وأصبحت وارثة الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف. وبلغ من انحلال رومية من بعد أن أغار الفندال الهمج عليها وأخذوا بأيديهم مقاليد حكمها. وكان لهذه الأحداث أثرها الطبيعي في المسيحية التي نشأت في أحضان رومية، وذاق الذين آمنوا بعيسى أكبر تضحياتهم هولا في ظلالها.
بدأت هذه المسيحية تتعدد مذاهبها وينقسم كل مذهب على توالي الزمن فرقا وأحزابا؛ وسار لكل شيعة في أوضاع الدين وأسسه رأي يخالف رأي الشيعة الأخرى. وتنكرت هذه الطوائف بعضها لبعض بسبب خلافها في الرأي تنكرا أنتج العداوة الشخصية التي تلمسها حيثما دب الضعف الخلقي والذهني إلى النفوس فجعلها سريعة إلى الخوف، سريعة لذلك إلى التعصب الأعمى والجمود القتال. كان من بين صفوف طوائف المسيحية في تلك الأزمان من ينكرون أن لعيسى جسدا يزيد على طيف يتبدى به للناس. وكان من بينها من يزاوجون بين شخصه ونفسه زواجا روحيا يحتاج إلى كثير من كد الخيال والذهن لتصوره، وغير هؤلاء وأولئك من كانوا يعبدون مريم، على حين كان ينكر غيرهم بقاءها عذراء بعد وضع المسيح. وكذلك كان الجدل بين أتباع عيسى جدل أيام الانحلال في كل أمة وعصر: يقف عند الألفاظ والأعداد، يسبغ على كل لفظ وكل عدد من المعاني، ويضفي عليه من الأسرار، ويحيطه من ألوان الخيال، بما يعجز عنه المنطق ولا تسيغه إلا سفسطة الجدل العقيم.
قال أحد رهبان الكنيسة: «كانت أطراف المدينة جميعا ملأى بالجدل، ترى ذلك في الأسواق، وعند باعة الملابس، وصيارفة النقود، وباعة الأطعمة، فأنت تريد أن تبدل قطعة من ذهب فإذا بك في جدل عما خلق وعما لم يخلق! وأنت تريد أن تقف على ثمن الخبز فيجيبك من تسأله: الأب أعظم من الابن والابن خاضع له. وأنت تسأل عن حمامك وهل ماؤه ساخن، فيجيبك غلامك: لقد خلق الابن من العدم.»
على أن هذا الانحلال الذي طرأ على المسيحية فجعلها أحزابا وشيعا، لم يكن ذا أثر قوي في كيان الإمبراطورية الرومانية السياسي؛ بل ظلت هذه الإمبراطورية قوية متماسكة، وظلت هذه الفرق تعيش في كنفها في نوع من النضال لم يتعد الجدل الكلامي ولم يتعد المؤتمرات اللاهوتية التي كانت تعقد لتبت في مسألة من المسائل فلا يكون لقرار طائفة ما من السلطان ما يلزم الطوائف أو الفرق الأخرى. وأظلت الإمبراطورية هذه الفرق جميعا بحمايتها، ومدت لها جميعا في حرية الجدل بما زاد في سلطان الإمبراطور المدني من غير أن يضعف من هيبته الدينية. فقد كانت كل فرقة تعتمد على عطفه عليها، بل تذهب إلى الزعم بأنها تعتمد على تأييده إياها، وهذا التماسك في كيان الإمبراطورية هو الذي طوع للمسيحية أن يظل انتشارها في مسيره، وأن تصل من مصر الرومانية إلى الحبشة المستقلة المحالفة للروم فتجعل لحوض البحر الأحمر من المكانة ما لحوض البحر الأبيض، وأن تنتقل من الشام وفلسطين، حيث دان بها أهلها ودان بها العرب الغساسنة الذين هاجروا إليها، إلى شاطئ الفرات ليدين بها أهل الحيرة ويؤمن بها اللخميون والمناذرة الذين ارتحلوا من جدب الصحراء وباديتها ليستقروا في هذه المدائن الخصبة العامرة وليكونوا مستقلين زمنا لتحكمهم الفرس المجوسية من بعده.
ولقد أصاب المجوسية في الفرس من أسباب الانحلال في هذه الأثناء ما أصاب المسيحية في الإمبراطورية الرومانية. وإذا كانت عبادة النار قد ظلت الظاهرة المجوسية البادية للعيان، فإن آلهة الخير والشر وأتباعها قد انقسمت كذلك عند المجوس فرقا وطوائف، وليس ها هنا مكان عرضها. مع ذلك ظل كيان الفرس السياسي قويا، لم يؤثر فيه هذا الجدل الديني حول صور الآلهة والأفكار المطلقة التي ترتسم وراء هذه الصور. واحتمت الفرق الدينية المختلفة بعاهل الفرس الذي أظلها جميعا بلوائه، والذي ازداد باختلافها قوة على قوة، إذ جعل من اختلافها وسيلة لضرب بعضها ببعض كلما خيف أن تقوى شوكة إحداها على حساب الملك أو على حساب الفرق الأخرى.
هاتان القوتان المتقابلتان: قوة المسيحية وقوة المجوسية، قوة الغرب وقوة الشرق، ومعهما الدويلات المتصلة بهما والخاضعة لنفوذهما، كانتا في أوائل القرن السادس الميلادي تحيطان بشبه جزيرة العرب. لقد كان لكل واحدة منهما مطامع في الاستعمار والتوسع. وكان رجال الدين في كلتيهما يبذلون الجهود لنشر الدعوة إلى العقيدة التي يؤمنون بها؛ مع ذلك ظلت شبه الجزيرة وكأنها واحة حصينة آمنة من الغزو إلا في بعض أطرافها، آمنة من انتشار الدعوة الدينية، مسيحية أو مجوسية، إلا في قليل من قبائلها. وهذه ظاهرة قد تبدو في التاريخ عجيبة، لولا ما يفسرها من موقع بلاد العرب ومن طبيعتها، وما للموقع والطبيعة من أثر في حياة أهلها وفي أخلاقهم وميولهم ونزعاتهم.
فشبه جزيرة العرب مستطيل غير متوازي الأضلاع، شماله فلسطين وبادية الشام، وشرقه الحيرة ودجلة والفرات وخليج فارس، وجنوبه المحيط الهندي وخليج عدن، وغربه بحر القلزم «البحر الأحمر». فهو إذن حصين بالبحر من غربه وجنوبه، وحصين بالصحراء من شماله، وبالصحراء وخليج فارس من شرقه. وليست هذه المناعة هي وحدها التي عصمته من الغزو الاستعماري أو الغزو الديني، بل عصمه كذلك ترامي أطرافه، فطول شبه الجزيرة يبلغ أكثر من ألف كيلومتر وعرضه يبلغ نحو الألف من الكيلومترات وعصمه أكثر من هذا جدبه جدبا صرف عين كل مستعمر عنه. فليس في هذه الناحية الفسيحة من الأرض نهر واحد، وليست لأمطارها فصول معروفة يمكن الاعتماد عليها وتنظيم الصناعة إياها. وفيما خلال اليمن الواقعة جنوب شبه الجزيرة والممتازة بخصب أرضها وكثرة نزول المطر فيها، فسائر بلاد العرب جبال ونجود وأودية غير ذات زرع وطبيعة جرداء لا تيسر الاستقرار ولا تجلب الحضارة، وهي لا تشجع على حياة غير حياة البادية وما تقضي به من الارتحال الدائم واتخاذ الجمل سفينة للصحراء، وانتجاع مراعي الإبل، والاستقرار عندها ريثما تأتي الإبل عليها، ثم الارتحال من جديد انتجاعا لمرعى جديد. وهذه المراعي ينتجعها بدو شبه الجزيرة إنما تدور حول عين من العيون، تتفجر عن ماء المطر الذي يتسلل خلال أرض البلاد الحجرية، فينبت تفجره الخضرة المنتشرة ها هنا وهناك في واحات تحيط بهذه العيون.
طبيعي في بلاد هذه حالها أن تكون كصحراء إفريقية الكبرى لا يقيم بها مقيم، ولا تعرف الحياة الإنسانية إليها سبيلا، وطبيعي ألا يكون لمن يحل بهذه الصحراء غرض أكثر من ارتيادها والنجاة بنفسه منها، إلا في هذه النواحي القليلة التي تنبت الكلأ والمرعى. وطبيعي أن تظل هذه النواحي مجهولة من الناس لقلة من يغامر بحياته لارتيادها. وقد كانت بلاد العرب فيما سوى اليمن مجهولة بالفعل من أهل تلك العصور القديمة.
لكن موقعها أنجاها من الإقفار وأمسك عليها أهلها. ففي تلك العصور القديمة لم يكن الناس قد أمنوا البحر ليتخذوه مركبا لتجارتهم أو لأسفارهم. وما تزال أمثال العرب تحت أنظارنا تنبئنا بما كان من خوف الناس البحر كخوفهم الموت، فلم يكن بد إذن للاتجار من أن تجد التجارة لها وسيلة انتقال غير هذا المركب الخطر المخوف. وكان أهم انتقال التجارة يومئذ بين الشرق والغرب: بين الروم وما وراءها، والهند وما وراءها. وكانت بلاد العرب طريق هذه التجارة التي كانت تجتاز إليها عن طريق مصر أو عن طريق الخليج الفارسي متخطية البوغاز الواقع على مدخل خليج فارس. فكان طبيعيا إذن أن يكون بدو شبه جزيرة العرب هم أمراء الصحراء كما أصبح رجال السفن في العصور التي تلت والتي طغى الماء فيها على اليابسة هم أمراء البحر.
صفحة غير معروفة