القرآن أصدق مرجع
ولقد تبينت أن أصدق مرجع للسيرة إنما هو القرآن الكريم؛ فإن فيه إشارة إلى كل حادث من حياة النبي العربي يتخذها الباحث منارا يهتدي به في بحثه، ويمحص على ضيائه ما ورد في كتب السنة وما جاء في كتب السيرة المختلفة. وأردت جاهدا أن أقف على كل ما ورد في القرآن متصلا بحياة النبي؛ فإذا معونة صادقة في هذا الباب يقدمها إلي الأستاذ أحمد لطفي السيد الموظف بدار الكتب المصرية، هي مجموعة وافية مبوبة لآيات القرآن المتصلة بحياة من أوحي الكتاب الكريم إليه. وأخذت أدقق في هذه الآيات، فرأيت أن لا بد من الوقوف على أسباب نزولها وأوقات هذا النزول ومناسباته. وأعترف بأني - على ما بذلت في ذلك من جهد - لم أوفق لكل ما أردت منه. فكتب التفسير تشير أحيانا إليه وتهمل هذه الإشارة في أكثر الأحايين. ثم إن كتاب «أسباب النزول» للواحدي، وكتاب «الناسخ والمنسوخ» لابن سلامة، إنما تناولا هذا الموضوع الجليل الجدير بكل تدقيق واستيفاء تناولا موجزا. على أنني وقفت فيهما وفيما رجعت إليه من كتب التفسير على مسائل عدة استطعت أن أمحص بها ما ورد في كتب السيرة، ووجدت فيهما وفي كتب التفسير نفسها أشياء جديرة بمراجعة العلماء المتبحرين في علوم الكتاب والسنة وتحقيقهم إياها من جديد تحقيقا دقيقا.
المشورة الصادقة
ولما تقدم بي البحث بعض الشيء ألفيت المشورة الصادقة تصل إلي من كل صوب، ومن ناحية الشيوخ أكثر من كل ناحية أخرى بطبيعة الحال. وكانت المعونة الكبرى معونة دار الكتب ورجالها الذين أمدوني من ألوان المعونة بما لا يفي الشكر بحسن تقديره. ويكفي أن أذكر أن الأستاذ عبد الرحيم محمود المصحح بالقسم الأدبي بدار الكتب كان يكفيني مئونة الذهاب إلى الدار في كثير من الأحيان ويستعير لي ما أريد استعارته من الكتب مشمولا بعطف مدير الدار وكبار القائمين بالأمر فيها؛ وأن أذكر أني في كل مرة ذهبت إلى الدار كنت أجد أجمل العون في البحث عما أريد البحث فيه من موظفي الدار كبارا وصغارا، من عرفت منهم ومن لم أعرف. ثم إنه كانت تستغلق علي بعض المسائل أحيانا فأفضي إلى من آنس فيه المعرفة من أصدقائي بما استغلق علي فأجد في كثير من الأحيان خير العون. وجدت ذلك غير مرة عند الأستاذ الأكبر محمد مصطفى المراغي، ووجدته عند صديقي الضليع جعفر (باشا) والي الذي أعارني عدة كتب كصحيح مسلم وتواريخ مكة، ودلني على غير مسألة من المسائل وهداني إلى موضعها، وقد أعارني صديقي الأستاذ مكرم عبيد (باشا) كتاب المستشرق السير وليم موير «حياة محمد» وكتاب الأب لامنس «الإسلام». هذا إلى ما وجدت من عون في مؤلفات المعاصرين القيمة ككتاب «فجر الإسلام» للأستاذ أحمد أمين، و«قصص الأنبياء» للأستاذ عبد الوهاب النجار، و«في الأدب الجاهلي» للدكتور طه حسين، و«اليهود في بلاد العرب» لإسرائيل ولفنسن، وغير هذه من كتب المعاصرين كثير ذكرته في بيان المراجع القديمة والحديثة التي استعنت بها على وضع هذا الكتاب.
ولقد كنت كلما ازددت توسعا في البحث أرى مسائل تنجم أمامي وتستدعي التكفير ومزيدا من البحث لحلها. وكما عاونتني كتب السير وكتب التفسير في الاهتداء إلى غاية من تفكيري أطمئن إليها، عاونتني كذلك كتب المستشرقين في الاهتداء إلى غاية أطمئن إليها. على أنني رأيتني مضطرا في كل المواقف لأقصر بحثي في حدود حياة محمد نفسه ما لم أضطر إلى تناول مسائل أخرى متصلة بهذا البحث اضطرارا. ولو أنني أردت أن أبحث كل ما اتصل بهذه الحياة الفياضة العظيمة، لاحتاج الأمر إلى وضع مجلدات عدة في حجم هذا الكتاب. ويحسن أن أذكر أن كوسان دبرسفال وضع ثلاثة مجلدات بعنوان «رسالة في تاريخ العرب»، جعل المجلدين الأولين منها في تاريخ قبائل العرب وحياتها، وجعل الثالث عن محمد وخليفتيه الأولين أبي بكر وعمر. وطبقات ابن سعد تقع في مجلدات كثيرة يتناول جزؤها الأول حياة محمد، وسائر أجزائها حياة أصحابه. ولم يكن غرضي أول ما بدأت البحث ليتجاوز حياة محمد، فلم أرد في أثنائه أن أتركه يتشعب فيحول ذلك بيني وبين الغاية التي إليها قصدت.
في حدود السيرة لا أتعداها
وشيء آخر كان يمسكني في حدود هذه الحياة؛ ذلك روعة جلالها وباهر ضيائها جلالا وضياء يتوارى دونهما كل ما سواهما. فما كان أعظم أبا بكر! وما كان أعظم عمر؛ إذ كان كل منهما في خلافته علما يحجب سواه! وما أشد ما كان للسابقين الأولين إلى صحبة محمد من عظمة ثبتت على الأجيال وهي بعد مما تفاخر به الأجيال. لكن بهؤلاء جميعا كانوا يستظلون أثناء حياة النبي بجلال عظمته ويستضيئون بباهر لألائه. فليس من اليسير على من يبحث في سيرة الرسول أن يدعها لشيء سواها. وهو أشد شعورا بذلك إذا تناول البحث على الطريقة العلمية الحديثة على نحو ما حاولت أن أفعل؛ هذه الطريقة التي تجلو عظمة محمد على نحو يبهر العقل والقلب والعاطفة جميعا، ويغرس فيها من الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها ما لا يختلف فيه المسلم وغير المسلم.
وأنت إذا طرحت جانبا أولئك المتعصبين الحمقى الذين جعلوا النيل من محمد دأبهم كالمبشرين وأشباههم، فإنك واجد هذا الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها في كتب العلماء المستشرقين واضحين جليين. عقد كارليل في كتابه «الأبطال» فصلا عن محمد صور فيه الجذوة الإلهية المقدسة التي أوحت إلى محمد ما أوحت فصور العظمة في جلال قوتها. وموير، وإرفنج، وسبرنجر، وفيل، وغيرهم من المستشرقين والعلماء قد صور كل واحد منهم عظمة محمد تصويرا قويا وإن وقف هذا أو ذاك منهم عند مسائل اعتبرها مآخذ على صاحب الرسالة الإسلامية، لغير شيء إلا أنه لم يمتحنها ولم يمحصها التمحيص العلمي الدقيق، ولأنه اعتمد فيها على ما ورد في بعض كتب السيرة أو كتب التفسير من الروايات المضطربة، متناسيا أن أول كتب السيرة إنما كتب بعد قرنين من عصر محمد دست أثناءهما في سيرته وفي تعاليمه إسرائيليات كثيرة، ووضعت أثناءهما ألوف الأحاديث المكذوبة. ومع أن المستشرقين يقررون هذه الحقيقة، تراهم لا يأبون مع ذلك تناسيها ليقرروا أمورا يعتبرونها صحيحة مع أن أقل التمحيص ينفيها. من ذلك مسألة الغرانيق، ومسألة زيد وزينب، ومسألة أزواج النبي، مما أتيح لي امتحانه وتمحيصه في هذا الكتاب.
الكتاب بداءة البحث
لست مع ذلك أحسبني أوفيت على الغاية من البحث في حياة محمد. بل لعلي أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث في العربية على الطريقة العلمية الحديثة، وأن ما بذلت في هذه السبيل من مجهود لا يخرج هذا الكتاب عن أنه بداءة البحث من ناحية علمية إسلامية في هذا الموضوع الجليل. وإذا كان جماعة من العلماء والمؤرخين قد انقطعوا لبحث عصر من العصور، كما انقطع أولار في فرنسا لبحث عصر الثورة الفرنسية، وكما انقطع غيره من العلماء لبحث عصر أو عصور معينة من التاريخ في مختلف الأمم، فحياة محمد جديرة بأن ينقطع لبحثها على طريقة علمية جامعية أكثر من أستاذ يتخصص فيها ويتوفر عليها. وليس يساورني شك في أن الانقطاع والبحث العلمي، في هذه الفترة القصيرة من حياة بلاد العرب واتصالها بحياة الأمم المختلفة في ذلك العصر، تؤتي نتائجه العالم كله، لا الإسلام والمسلمين وحدهم، خير الثمرات. فهي تجلو أمام العلم كثيرا من المسائل النفسية والروحية فضلا عما تفيض عليه من ضياء في نواحي الحياة الاجتماعية والخلقية والتشريعية لا يزال العلم يتردد أمامها متأثرا بهذا النزاع الديني بين الإسلام والنصرانية، وبهذه المحاولات العقيمة التي يقصد منها إلى «تغريب» الشرقيين أو تنصير المسلمين، مما ثبت على الأجيال إخفاقه واستحالته وسوء أثره في علاقات أجزاء الإنسانية المختلفة بعضها ببعض.
صفحة غير معروفة