ثم إن التاريخ ومنطق حوادثه أصدق شاهد بكذب رواية المبشرين والمستشرقين في شأن تعدد زواج النبي. فهو كما قدمنا، لم يشرك مع خديجة أحدا مدى ثمان وعشرين سنة. فلما قبضها الله إليه تزوج سودة بنت زمعة أرملة السكران بن عمرو بن عبد شمس. ولم يرو راو أن سودة كانت من الجمال أو من الثروة أو المكانة بما يجعل لمطمع من مطامع الدنيا أثرا في زواجه منها. إنما كانت سودة زوجا لرجل من السابقين إلى الإسلام الذين احتملوا في سبيله الأذى والذين هاجروا إلى الحبشة بعد أن أمرهم النبي بالهجرة وراء البحر إليها. وقد أسلمت سودة وهاجرت معه، وعانت من المشاق ما عانى، ولقيت من الأذى ما لقي. فإذا تزوجها محمد بعد ذلك ليعولها وليرتفع بمكانتها إلى أمومة المؤمنين، فذلك أمر يستحق من أجله أسمى التقدير وأجل الحمد.
أما عائشة وحفصة فكانتا ابنتي وزيريه أبي بكر وعمر. وهذا الاعتبار هو الذي دعا محمدا أن يرتبط وإياهما برابطة المصاهرة بالتزوج من ابنتيهما، كما دعاه أن يرتبط بعثمان وبعلي برابطة المصاهرة بتزويجه ابنتيه منهما. وإذا صح القول في عائشة وفي حبه إياها، فإنما ذلك حب نشأ بعد الزواج لا حينه، فهو قد خطبها إلى أبيها وما تزال في التاسعة من عمرها، وقد بقيت سنتين قبل أن يبني بها. فليس مما يرضاه المنطق أن يكون قد أحبها وهي في هذه السن الصغيرة. يؤيد ذلك زواجه من حفصة بنت عمر في غير حب بشهادة أبيها نفسه. قال عمر: «والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم. قال: فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا وما تكلفك في أمره أريده ! فقالت لي: عجبا لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن تراجع أنت وإن ابنتك لتراجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يظل يومه غضبان؟! قال عمر: فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة، فقلت لها: يا بنية إنك لتراجعين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إياها ... وقال: والله لقد علمت أن رسول الله لا يحبك ولولا أنا لطلقك.» أفرأيت إذن أن محمدا لم يتزوج من عائشة ولم يتزوج من حفصة لحب أو لرغبة، وإنما تزوج منهما ليمتن أواصر هذه الجماعة الإسلامية الناشئة في شخصي وزيريه، كما تزوج من سودة ليعلم المجاهدين من المسلمين أنهم إذا استشهدوا في سبيل الله فلن يتركوا وراءهم نسوة وذرية ضعافا يخافون عليهم عيلة.
يقطع في ذلك زواجه من زينب بنت خزيمة ومن أم سلمة. فقد كانت زينب زوجا لعبيدة بن الحارث بن المطلب الذي استشهد يوم بدر، ولم تكن ذات جمال، وإنما عرفت بطيبتها وإحسانها حتى لقبت أم المساكين؛ وكانت قد تخطت الشباب، فلم يك إلا سنة أو سنتان ثم قبضها الله؛ فكانت بعد خديجة الوحيدة من أزواج النبي التي توفيت قبله. أما أم سلمة فكانت زوجا لأبي سلمة وكان لها منه أبناء عدة، وقد سبق القول: إن أبا سلمة جرح في أحد ثم برأ جرحه، فعقد له النبي لحرب بني أسد فشتتهم وعاد إلى المدينة بما غنم؛ ثم نغر عليه جرح أحد وما زال به حتى قضى عليه. وقد حضره النبي وهو على فراش موته، وظل إلى جانبه يدعو له بخير حتى مات فأسبل عينيه. وبعد أربعة أشهر من وفاته خطب محمد أم سلمة إلى نفسها؛ فاعتذرت بكثرة العيال وبأنها تخطت الشباب، فما زال بها حتى تزوج منها وحتى أخذ نفسه بالعناية بتنشئة أبنائها. أبعد ذلك يزعم المبشرون والمستشرقون أن أم سلمة كانت ذات جمال هو الذي دعا محمدا إلى التزوج منها؟!
إن يكن ذلك فقد كانت غيرها، من بنات المهاجرين والأنصار، من تفوقها جمالا وشبابا وثروة ونضرة ومن لا يبهظه عبء عيالها. لكنه إنما تزوج منها لهذا الاعتبار السامي الذي دعاه ليتزوج زينب بنت خزيمة، والذي زاد المسلمين به تعلقا وجعلهم يرون فيه نبي الله ورسوله، ويرون فيه إلى جانب ذلك أبا لهم جميعا: أبا لكل مسكين ومحروم وضعيف وبائس وعاجز، أبا لكل من فقد أباه شهيدا في سبيل الله.
صفحة غير معروفة