على أنهم كانوا يقابلون بهذه الكبرياء كبرياء الوجاهة والثروة التي كانوا يستنكرونها على خصومهم الصدوقيين، وكانوا يثورون على السلطان «الرسمي»، حيث كان في الهيكل أو في المراجع الأجنبية، فكانوا ينكرون على الكهان استبدادهم بالشعائر والمراسم، وينكرون في الوقت نفسه عادات الأجانب والمتشبهين بهم محاكاة للحكام والمتسلطين.
وقد كانت ثورتهم الأولى على البدع الأجنبية التي كانوا يرفضونها كل الرفض، ولا يسامحون من يقبلها، فلما أمر الملك «أنطيوخس» كاهن الهيكل أن يضحي في مذبحه بالخنازير (سنة 168 قبل الميلاد) قاموا قيامة رجل واحد، وعرضوا أنفسهم للموت بالمئات والألوف كراهة لهذه البدعة النجسة، وحدث في عهد الرومان أن الوالي «بترونيوس» عجب من عنادهم في مقاومة الدولة الرومانية مع ضعفهم وقوتها، فسأل زعماءهم: كيف يخطر لكم أن تحاربوا قيصر ولستم أكفاء لقوته؟! فقالوا: نحن لا نحارب قيصر، ولا نزعم أننا أكفاء لقوته، ولكننا نموت على بكرة أبينا، ولا نخالف الشريعة، وكشفوا رقابهم مستعدين لإثبات ما يقولون.
ومن نقائضهم أن ثورتهم على استبداد الهيكل، ورغبتهم في تعميم الشعائر التي كانت محصورة في المحاريب هي التي دعتهم إلى إقامة هذه الشعائر في البيوت بغير حاجة إلى الكهان المرسومين، ولكنهم لم يلبثوا أن جعلوا من كل بيت هيكلا مقدس المراسم، فكانوا على ميلهم إلى السماحة ومقاومة الاستبداد «الرسمي» أشد من المتشددين.
إلا أن الغالب عليهم حين يبتعدون عن الأمور التي تتعرض لهذه النقائض أنهم أقرب إلى التصرف والقياس، أو أقرب إلى تحكيم العقل في مسائل النصوص والتقاليد، فكان الصدوقيون مثلا يصرون على شريعة العين بالعين والسن بالسن ولا يقبلون الدية، وكان الفريسيون على عكس ذلك يفضلون الدية والمسامحة على القصاص، وكان الصدوقيون أقرب إلى المادية والقواعد العملية، وكانوا هم أقرب إلى الروحانية والآداب النظرية، أو آداب التأمل والتفكير، وقد كان إنكار البعث والحياة الروحية أشد ما ينكرونه على خصومهم الصدوقيين، ومن أجل هذا سبقوهم مراحل إلى انتظار الخلاص، أو انتظار المسيح المخلص في عالم الروح، غير مقيد بشروط الصولة والصولجان.
وإذا وصف الصدوقيون على الإجمال بأنهم طبقة «الأرستقراطيين»، فالذين يستحقون وصف الديمقراطيين دون غيرهم من طوائف اليهود في ذلك العصر؛ هم الفريسيون.
وقد جاء عصر الميلاد وهم ينقسمون إلى فريقين: فريق منهما يتبع الحكيم «هلل» الذي قدم إلى فلسطين من بابل، وهو الفريق السمح الودود في معاملة الأجانب؛ والفريق الآخر يتبع الحكيم «شماي»، وهو أقرب إلى التحرج والتضييق، ورد الراغبين في دخول الدين من غير اليهود، وكان شعار هلل الاعتدال بين الزهد والمتاعة، وكلمته المأثورة: «إن الزيادة في اللحم زيادة في الدود.» وشريعته في المعاملة أن الشريعة كلها كلمة واحدة، وهي ألا تصيب أحدا بما تكره أن تصاب به، وكل ما عدا ذلك من الأحكام المنزلة فهو تفسير وتفصيل، وأما الحكيم شماي فقد كان الاعتدال بين الزهد والمتاع أكثر مما يطيق، وروي أنه كان يحترف التجارة ليعيش من كسب عمله، وأن غيرته على القديم كانت أقوى من إقباله على التجديد والتصرف في تأويل النصوص.
والقول الراجح بين المؤرخين أن معلمي السيد المسيح في صباه كانوا من طائفة الفريسيين. •••
والطائفة الثالثة التي تقل عن هاتين الطائفتين في العدد كثيرا، وتساويهما أو تزيد عليهما في القوة والأثر هي طائفة الآسين أو الآسينيين كما يكتبها رواة الأخبار عنها في عصر الميلاد .
عددها كما قدره المؤرخ يوسفيوس والفيلسوف فيلون لا يزيد على أربعة آلاف، يعيش أكثرهم في جنوب فلسطين.
ومصدر قوتهم صرامة العقيدة وتنظيم الخطة، وقد تكون دلالتهم أعظم من قوتهم؛ لأنهم طائفة من صميم الأمة الإسرائيلية قد استقلت بشعائرها، وعباداتها، وآرائها، وأسرارها، وأوشكت أن تستقل عن «الهيكل» كله في علاقتها بالدين والقومية، ولولا أنها تعترف بتقريب القرابين في الهيكل لما حسبت من طوائف اليهود، ولكنها مع هذا تنكر ذبح الحيوان، ولا تقرب القرابين من غير النبات.
صفحة غير معروفة