38
ومع هوبز يتحول العمل والإنتاج - اللذان كان المجتمع الأرستقراطي قد لفظهما نهائيا - إلى أداة لتقييم العالم. فكانت النهضة هي اللحظة التاريخية التي توقفت فيها الرؤية الأفلاطونية التي تهتم بتأمل الأفكار أو المثل، وازدرت العمل وترفعت عنه.
إذا كنا قد اتخذنا من عصر النهضة - على وجه التحديد - نموذجا للوعي التاريخي، فإن هذا يعني أن العصر الذي سبقه - أي العصر الوسيط - لم يكن كذلك. فهل يعني هذا أن العصر الذي يعنيه يمثل حالة انقطاع عن العصر السابق له؟ وهل يحق لنا أن نقول إنه عصر بداية جديدة كل الجدة ومقطوعة الصلة بما قبلها؟ وإذا كان هذا صحيحا، فهل يمكن لنا أن نحدد عصر النهضة تحديدا زمنيا دقيقا يبدأ من تاريخ هذه القطيعة؟ حقيقة الأمر أن الحدود الفاصلة بين حقبتين تاريخيتين - كما بينا سلفا - غير ممكنة من الناحية العملية، بالإضافة إلى أنها شديدة الصعوبة في عصر النهضة؛ لأن عصر النهضة - كما يرى جورج سارتون - قد مر «بفترتين إحيائيتين، بدأت أولى هاتين الفترتين في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، وبلغت أوجها في القرن الثالث عشر بحافز من المعارف الإغريقية العربية التي تلقاها غرب أوروبا «عن طريق العرب». وأما الفترة الثانية التي شهدت تقدم المنهج التجريبي فلم تبدأ قبل القرن السابع عشر. وكانت أولى هاتين الفترتين الإحيائيتين في جوهرها إقرارا للصلات بمعين الحياة الثقافية الأساسي، أي كتابات الإغريق كما نقلها وصححها الباحثون من أبناء الضاد ... أما فترة الإحياء الثانية، فكانت في الواقع بداية جديدة ... باعتبارها بداية العلم الحديث.»
39
يتضح من النص السابق استمرارية واتصال تراث الماضي بحاضر النهضة، مما يوحي بنفي فكرة القطيعة المعرفية بين زمن النهضة والأزمان السابقة عليها، ولكن حقيقة الأمر أنه حدث في هذا العصر «بلا ريب انقطاع، ولكنه في نفس الوقت اتصال وتواصل؛ انقطاع بالنسبة لما قبله، ولكنه انقطاع لا يتحدد بسنة ولا بعقد ولا حتى بنصف قرن، كما أنه انقطاع لا يلغي ما قبله، وهو بالنسبة إلى ما بعده شيء بارز ومذهل.»
40
بهذا المعنى لم تكن النهضة الأوروبية مجرد تطور نوعي وكمي للتراث والتاريخ الثقافي، ولا كانت مجرد ميلاد جديد لتراث قديم فحسب، بل هي ولادة شيء لم يحدث أن تصوره إنسان في زمن من أزمنة الماضي، فكانت بحق انطلاقا وبعثا أو ميلادا جديدا كل الجدة، و«كأية حركة تاريخية كبرى، فإن لعصر النهضة ينابيع أصيلة عميقة، فالسياسة والدين والتجارة والصناعة والشغف بتحليل معرفة علمية جديدة، وروح المخاطرة ... قد أسهمت جميعا في حفز الحركة.»
41
لقد كانت النهضة لحظة امتلاك الوعي وتحديده لذاته، لحظة إدراك الواقع العيني واكتشاف الإمكانات الثورية الكامنة فيه، والتصميم الإرادي على نقلها من حالة الإمكان إلى حالة التحقق، أي اللحظة القادرة على استشراف المستقبل. ومع أنه «لم يكن في عصر النهضة نهضة علمية كبيرة، فقد كان مرحلة لازمة للتطور، إنه بمثابة إحدى المعارك التي ينبغي للبشر خوض غمارها لكي يصلوا إلى مستوى أرفع»،
42
صفحة غير معروفة