تقديم
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين
تطور العقل النقدي
نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس
دور الفلسفة في الثقافة المعاصرة
الوعي التاريخي بين الماضي والمستقبل
المفارقة التاريخية عند نيتشه
البيئة والمسئولية نحو نموذج معرفي وأخلاقي جديد للخروج من أزمة الإنسان مع بيئته
تقديم
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين
تطور العقل النقدي
نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس
دور الفلسفة في الثقافة المعاصرة
الوعي التاريخي بين الماضي والمستقبل
المفارقة التاريخية عند نيتشه
البيئة والمسئولية نحو نموذج معرفي وأخلاقي جديد للخروج من أزمة الإنسان مع بيئته
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين
وبحوث فلسفية أخرى
تأليف
عطيات أبو السعود
تقديم
يضم هذا الكتاب مجموعة من الدراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة التي نشر بعضها في مجلات ثقافية متنوعة على فترات زمنية مختلفة، وما زال البعض الآخر - حتى كتابة هذا التقديم - قيد النشر. وقد كانت بعض هذه الدراسات مساهمة في مناسبات خاصة؛ فالدراسة الأولى التي جعلناها العنوان الرئيسي لهذا الكتاب «الحصاد الفلسفي للقرن العشرين» تمت في إطار المشروع الكبير الذي تبنته مؤسسة عبد الحميد شومان الأردنية عن «حصاد القرن العشرين»، وهو المشروع الذي رصد كل ألوان المعرفة من علوم وفنون وآداب على مدى قرن من الزمان، واختصت هذه الدراسة بالحصاد الفلسفي للقرن العشرين.
وكانت الدراسة الخاصة ب «المفارقة التاريخية عند نيتشه» مشاركة في احتفال العالم بمرور مائة عام على رحيل نيتشه. وقد كنت في ذلك العام في مهمة علمية بالولايات المتحدة الأمريكية، وعاصرت هذه الاحتفالات التي تمثلت في إقامة عدد كبير من المؤتمرات والندوات التي اهتمت بإعادة إحياء فكر نيتشه واكتشافه من جديد، ومحاولة تقييمه، وإعادة الاعتبار له. وفي هذه الفترة الزمنية نفسها - أي فترة وجودي بالولايات المتحدة الأمريكية - تعرفت عن قرب على فكر الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي عندما حضر إلى ولاية فرجينيا حيث كنت أقيم - وقد كان يعمل بجامعتها أستاذا للعلوم الإنسانية قبل انتقاله إلى ولاية كاليفورنيا - وذلك للمشاركة في احتفال قسم الفلسفة بجامعة فرجينيا التكنولوجية ببلوغ إحدى عضوات هيئة التدريس فيه عامها التسعين. وينظر الأمريكيون إلى ريتشارد رورتي على أنه الفيلسوف الأول للدولة ومجدد البراجماتية. وقد دفعتني هذه المناسبة إلى التعرف على فكر هذا الفيلسوف، وتمكنت من الحصول على مؤلفاته، فكانت الدراسة الخاصة ب «دور الفلسفة في الثقافة المعاصرة، بحث في آراء فيلسوف البراجماتية الجديدة ريتشارد رورتي».
وعلى الرغم من تنوع موضوعات هذا الكتاب وانتمائها إلى الفكر الغربي، إلا أن ما يربطها جميعا هو التوجه النقدي لهذا الفكر الذي لم نكتف بعرضه، والتعريف به، والإطلال عليه فحسب، بل تناولناه تناولا نقديا في محاولة للحوار مع هذا الفكر والوقوف منه مواقف تحليلية وتقييمية يمكن أن تفيد في تفعيل نشاطنا الفلسفي في العالم العربي. ولعل النقد - بعد العرض والتعريف الضروريين - أن يكون هو إسهامنا الحقيقي والإيجابي في الفكر العالمي - على الأقل في مرحلتنا الحالية - الأمر الذي يمكن أن يبلور لدينا نظريات ومدارس فلسفية ما زلنا نفتقر إليها في حياتنا الفكرية المعاصرة.
في النهاية أرجو أن يساعد هذا الكتاب على إعطاء القارئ فكرة عن بعض ما يدور في الساحة الفلسفية الغربية من دراسات وحوارات ومشكلات وقضايا لا مفر لنا من الإلمام بها، والتعرف عليها، واتخاذ المواقف النقدية المناسبة منها، بحيث يؤدي ذلك كله إلى إثراء حياتنا الفكرية وحفز طموحاتنا إلى التقدم والنهضة الحقيقية.
الإسكندرية، في أغسطس 2002م
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين
مقدمة
يعيش العالم الآن الأيام الأخيرة من القرن العشرين. ومع اقتراب النهاية التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى تعالت صيحات بعض المفكرين، فمنهم من يتنبأ بنهاية العالم، ومنهم من يقول بنهاية التاريخ، وآخرون يعلنون نهاية الفلسفة، ولكن أين الحقيقة من الأوهام في هذه المزاعم؟
إذا تناولنا الزعم القائل بنهاية الفلسفة، وحاولنا فحصه للوقوف على حقيقة الأمر فيه، فلا بد ونحن على مشارف الألف الثالثة للميلاد أن نتخذ موقف المراجعة النقدية لكل الاتجاهات الفلسفية التي سادت القرن العشرين، وأن نرصد حركة التفكير الفلسفي - وهو موضوع هذا البحث - حتى نتبين هل أفضت هذه الحركة إلى وضع نهاية لهذا التفكير بالفعل أم لا؟ وكيف تجلت الروح النقدية بأشكال وصور مختلفة في جميع التيارات الفلسفية التي سنتعرض لها بالرصد والمتابعة والتقييم؟ وأخيرا هل استطاعت الفلسفة طوال مائة عام - وهي الحقبة الزمنية التي يتناولها البحث بالتقييم - أن تواكب احتياجات المجتمع المتغيرة في تلك الفترة التاريخية التي تميزت بالاحتجاج والتمرد على كل ما هو مألوف ومعتاد؟
وإذا كان الرد على هذا السؤال بالإيجاب، فما هي السمات العامة للتفكير الفلسفي التي ميزت القرن العشرين عن القرون الماضية؟ وهل استطاعت الفلسفة أن تلحق بركب التطورات السريعة للتقدم العلمي والاجتماعي، بحيث أصبح وجودها لازمة ضرورية مصاحبة لهذا التطور؟ أم أن الطفرات التي حققها التقدم المذهل في العلوم الطبيعية قد أزاح دورها الريادي؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل تراجعت الفلسفة بالفعل عن مكانتها بما يسمح للبعض بإعلان نهايتها؟ وهل النهاية المقصودة في هذا المقام تعني المعنى الحرفي للكلمة، أم هي إعلان بنهاية المشكلات التقليدية للفلسفة ومنع طغيانها على الفلسفة المعاصرة؟ أم هي إيذان بتحولات جديدة في التفكير الفلسفي وفي طرح مشكلاته كما تمثلت في الثلث الأخير من القرن العشرين؟ وإذا كانت الفلسفة تقف الآن في مفترق الطرق بين التقدم الهائل للعلوم من ناحية، وعصر يموج بالمتغيرات والمتناقضات والتحولات في ظل ثورة المعلومات والاتصالات من ناحية أخرى، فما هي الوظيفة الموكلة إليها في خضم الهجوم الشديد عليها من قبل بعض الاتجاهات - كالماركسية والبراجماتية والوضعية المنطقية والوجودية - بهدف التقليص من مهمتها؟ وإذا كانت الفلسفة جزءا من الحياة وعليها مسئولية تاريخية لا ينبغي التهوين من شأنها، فماذا تبقى لها؟ وما مصيرها؟ وماذا ينبغي على كل فيلسوف حي الضمير أن يفعل؟ وما هي مهمته؟
يحاول هذا البحث الرد على هذه التساؤلات التي تستلزم الإجابة عليها الرجوع إلى الوراء قليلا لرصد حصاد التفكير الفلسفي منذ بدايات القرن العشرين، وحتى نهايته بقدر الاستطاعة، فكثرة الفلسفات المتنوعة والمختلفة بشكل مذهل ومحير في آن واحد، تجعل مهمة محاولة إيجاد وحدة تربط هذا التنوع مهمة مشكوكا فيها، طالما كنا نحن أنفسنا ننتمي إلى هذا العصر، وغارقون فيه حتى آذاننا. وربما ترجع صعوبة تقديم صورة كلية ونظرة بانورامية شاملة على التيارات الفلسفية في القرن العشرين إلى عدة عوامل نحاول إجمال أهمها في النقاط التالية:
أولا:
أن التنوع الهائل للتيارات الفلسفية في القرن العشرين يجعل مهمة رصدها من الأمور الشاقة العسيرة. فلم يشهد أي قرن من القرون الماضية مثل هذا الكم الضخم من الاتجاهات الفلسفية المتشابهة أحيانا والمتباينة أحيانا أخرى كثيرة كما شهد القرن العشرون. وإذا كنا نستطيع أن نصف القرون الماضية بأن نقول إن القرن السابع عشر هو عصر المذاهب العقلية والتجريبية، وإن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، والقرن التاسع عشر هو عصر الفلسفات المادية بأنواعها المختلفة، فإننا لا نستطيع أن نفعل هذا مع القرن العشرين الذي تميز بتيارات فلسفية متنوعة تنوعا مبالغا فيه مما يجعل من غير الممكن تحديد خصائص عامة لكل هذه التيارات.
ثانيا:
أن التفكير الفلسفي في القرن العشرين ليس مقطوع الصلة بفلسفات القرن التاسع عشر ولا بالقرون السابقة عليه. فهناك بعض التيارات - خاصة في النصف الأول من القرن - التي تعد امتدادا وتطويرا للأفكار الأساسية التي سادت في القرن الماضي أو حتى القرن الذي سبقه. وإذا كان هذا التأثير لا ينفي عن هذه التيارات جدتها وأصالتها، فهذه هي طبيعة التفكير الفلسفي الذي يتميز بأنه فكر متصل ومستمر وفي حالة جدل وحركة دائمين. كما تتميز بعض اتجاهاته بأنها تكاد أن تكون مقطوعة الصلة بكل ما سبقها، فهناك تيارات ومذاهب - في النصف الثاني من القرن - جديدة ووليدة القرن العشرين، وتكاد أن تكون في زعم أصحابها بداية جديدة كل الجدة، ومختلفة عن التيارات السابقة عليها، وبين هذا الاتصال والانقطاع يقع الراصد لحركة الفكر في نوع من الحيرة والذهول معا تجعل من الصعب عليه أن يلم بهذه الحركة في نظرة واحدة موحدة.
ثالثا:
يتميز القرن العشرون بأنه عصر يموج بالمتناقضات والمتقابلات ويحفل بالتغيرات والتحولات السريعة. وتنتاب الباحث في سمات التفكير الفلسفي في القرن العشرين وحصاده النهائي مشاعر متناقضة ومتباينة بسبب تشابك الفلسفة في هذا القرن مع علوم أخرى كثيرة، وعلى الرغم من انفصال العلوم عن الفلسفة قبل قرنين من الزمان، وعلى الرغم أيضا من أن الفلسفة لم تعد هي أم العلوم ولا المشرع لها ولا الحاكم المطلق في أمرها، إلا أنها عادت وتشابكت مع العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية مرة أخرى بصور مختلفة، كما تداخلت مع كل آداب العصر وفنونه. وبالإضافة إلى هذا الشعور المتناقض والمتباين يحس الباحث أيضا بالاغتراب كلما توغل بحثه واقترب من نهاية القرن، فهناك نوع من الانشطار بين بداية القرن ونهايته، فالتطور والتحول السريع الذي حدث في التفكير الفلسفي في النصف الثاني - أو إذا توخينا الدقة في بداية السبعينيات من هذا القرن - هو المسئول عن الإحساس بهذا التغريب، حتى ليخيل للمرء أن انتقاله من النصف الأول من القرن إلى نصفه الثاني أشبه بالخروج من عباءة العصر الوسيط إلى عصر جديد كل الجدة. إن النظرة العامة إلى المشكلات التقليدية للفلسفة من ميتافيزيقيا ومعرفة ومنطق وأخلاق قد اهتزت من أساسها؛ إذ «أصبحت الميتافيزيقا والمعرفة مجرد أيديولوجيا، والأيديولوجيا نفسها قد ساءت سمعتها بشكل متزايد. لم يعد أحد يجرؤ على التساؤل عن العناصر الأساسية للوجود، كما فعل الميتافيزيقيون القدامى، ولم يعد باستطاعة أحد أن يعلمنا المبادئ الأساسية للمعرفة الإنسانية، كما فعل الإبستمولوجيون القدامى، ولم يعد المنطق موضوعا فلسفيا، بل أصبح معظم المناطقة أعضاء في أقسام الرياضيات. كذلك الأمر في فلسفة الأخلاق التي تحولت إلى الدراسات الفلسفية التحليلية، وانتهت إلى ما بعد الأخلاق
meta-ethics
وهي الدراسة التي يفترض أنها ستجد مكانها الصحيح في علم اللغويات الجديد.»
1 (1) خصائص التفكير الفلسفي في القرن العشرين
للأسباب السابقة يصعب أن تتوحد فلسفات القرن العشرين تحت تصنيف واضح، كما يصعب وضع خصائص للتفكير الفلسفي لهذا القرن يمكن أن تنطبق على كل تياراته المتنوعة. ومع ذلك يمكن إجمال سمات التفكير الفلسفي في القرن العشرين في النقاط التالية: (1)
يتصف التفكير الفلسفي - خاصة في النصف الأول من القرن - بالاستمرارية والاتصال مع فكر القرن التاسع عشر بالإضافة أيضا إلى الجدة، فقد «حاول تقديم إجابات متطورة عن أسئلة أو تساؤلات طرحها الإنسان في نهاية القرن التاسع عشر، بل وفيما قبل ذلك القرن. إلا أن سمة الحياة الجديدة بوجه عام أدت إلى طرح أسئلة جديدة كذلك، فالسؤال عما إذا كان سوء استخدام اللغة يؤدي إلى كثير من مشكلات الفلسفة بعامة، والميتافيزيقا بخاصة؛ سؤال جديد في فلسفة التحليل المعاصر.»
2 (2)
اختفت المذاهب والأنساق الفلسفية الكبرى التي تميز القرون الماضية، «ولا نكاد نجد لدى أغلب الفلاسفة المعاصرين هذه الأنساق أو التركيبات الفكرية الهائلة أو المذاهب الفلسفية الضخمة التي نجدها في الفلسفات التقليدية. وإنما نجد نزعات تحليلية يتوخى أصحابها الاهتمام بالمنهج، ويحرصون حرصا شديدا على الوضوح في الفكر والمعنى، وكذا الدقة البالغة في استخدام اللغة وأساليب التعبير.»
3 (3)
التمرد على النزعة المثالية هي السمة المميزة للعقل الفلسفي في القرن العشرين. وقد عبر هذا التمرد عن نفسه في أشكال عديدة من التفكير سادت في الفلسفة المعاصرة: الماركسية، والوضعية، والفلسفة التحليلية الإنجليزية، والبراجماتية والوجودية. تمرد الماركسيون على النزعات المثالية لإغفالها الظروف المادية الاجتماعية والتاريخية للمجتمع، كما تمرد الوضعيون عليها، واعتبروا عباراتها فارغة من المعنى، وتمرد التحليليون الإنجليز على المثالية على أساس من نزعتهم الواقعية، وتمردت الوجودية عليها أيضا؛ لأنها لم تكترث بالقلق الإنساني والتاريخ والزمان، وهذا التمرد على المثالية هو في حقيقة الأمر ثورة على النزعة العقلية بوجه عام. (4)
تحول الهجوم على الميتافيزيقا العقلية التقليدية إلى هجوم على الفروض المنهجية للنزعة العقلية، «لم تكن البراجماتية ولا الوجودية وحدهما في نقد النزعة العقلية الكلاسيكية. فالحقيقة أن الهجوم عليها جاء من كل الاتجاهات، وكان إحدى العلامات المميزة والسائدة في القرن العشرين، فكل فيلسوف منذ كانط جعل جزءا كبيرا من مهمته - سواء بشكل ضمني أو صريح - مواصلة نقد العقل الذي استهله كانط نفسه، وقد أعلن هوسرل مؤسس الفينومينولوجيا الحديثة أن مهمة الفلسفة هي إعادة تأسيس أو تكوين العقل
reconstitution of reason .»
4
وهذا يدلنا على أن النقد الجذري هو القاسم المشترك لا بين هذين الفيلسوفين الأصليين فحسب، بل بين جميع الاتجاهات التي سنتوقف عندها بعد قليل. (5)
ترتب على رفض الفلسفة المثالية «أن أصبح الاتجاه إلى الواقع وإلى الإنسان أمرا طبيعيا، فنزع كثير من الفلاسفة المعاصرين إلى الواقعية، وترتب على نقد فكرة المطلق لدى معظم الفلاسفة المعاصرين ازدياد الاهتمام بالإنسان الفرد، بذلك عادت أصداء دعوة سقراط إلى معرفة الإنسان لنفسه تتردد من جديد، وبخاصة عند بعض الوجوديين.»
5 (6)
أصبحت الفلسفات المعاصرة أكثر ارتباطا بالعلم، وإن لم تعد قائمة على العلم ونتائجه بشكل مباشر كما كان الحال في القرن التاسع عشر. وانعكس هذا التأثير على استخدام المنهج العلمي والاستعانة بنتائج العلوم الطبيعية والنظريات العلمية في أغلب التيارات الفلسفية السائدة في القرن العشرين، حتى أصبح يطلق عليه اسم عصر المنهج والتحليل. وإذا كان الاهتمام بالمنهج يعود إلى عهد ديكارت وهيوم ... إلخ، إلا أن هذا القرن نجح نجاحا كبيرا في تحليل المفاهيم وتصنيف أشكال التفكير والتحرر من الميتافيزيقا التقليدية. (7)
كانت العقود الأولى من القرن العشرين فترة فحص نقدي، وامتدت الدراسة النقدية طوال القرن لتشمل كل مناحي الحياة والعقل والعلم والأخلاق والفن والدين، بل والفلسفة ذاتها. صحيح أن التحليل النقدي هو جوهر الفلسفة على امتداد تاريخها، لكن الدراسات النقدية في القرن العشرين اتخذت أبعادا مختلفة وشملت كل شيء في حياة الإنسان في المجتمعات الرأسمالية والصناعية المتقدمة، حتى تبلورت في مدرسة فلسفية حاولت أن تؤسس نظرية نقدية كان لها تأثيرها على أغلب فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين، وهي مدرسة فرانكفورت ونظريتها النقدية الاجتماعية. (8)
يوصف القرن العشرين بأنه عصر الكلمات والرموز بقدر ما هو عصر مضاد للميتافيزيقا. وينطبق هذا بوجه خاص على النصف الثاني من القرن وهي الفترة الزمنية التي ظهرت فيها تيارات فلسفية يمكن القول بأنها جديدة ومقطوعة الصلة بما سبقها، ومفرطة في طموحها. فقد انشغل الفلاسفة المعاصرون في إنجلترا وأمريكا بتحليل المفاهيم والبحث عن الدلالة والمعنى في الاستخدامات اللغوية، وحدث نوع من التحول في التفكير الفلسفي في تلك الحقبة، وتطورت الفلسفة التحليلية الإنجليزية، «وتحولت إلى دراسة اللغة العادية في كل تنوعها وكان فيتجنشتين هو المهندس الرئيسي لهذا التحول، حينما أكد أننا نكتشف اللغة من خلال استعمالها في مختلف مجالات النشاط الإنساني في حياتنا اليومية، وليس فحسب في استخدامها العلمي ، فالكلمة لها معنى فقط داخل تيار الحياة.»
6
وهكذا سادت تيارات فلسفية طالبت العقل بالتريث وآمنت بأن الجهل باللغة وسوء استخدامها هو المسئول عن الإخفاق العقلي والفوضى الروحية التي سادت التفكير الغربي، وأصبحت اللغة هي أحدث ملاذ للفلسفة والمأوى الآمن من الهجوم الضار عليها. وتطورت هذه النوعية من الدراسات على أيدي الفلاسفة الفرنسيين بوجه خاص، كما سنرى في تحليلات البنيويين والتفكيكيين. (9)
ظهرت في الثلث الأخير من القرن العشرين بعض التيارات الفلسفية المعروفة باسم فلسفات ما بعد الحداثة، وشهدت فرنسا على وجه التحديد تحولا جديدا في الفكر الفلسفي يتسم بشيء من الأفول النسبي لفلسفات الوجود. وظهرت البنيوية ثم التفكيكية وغيرهما من فلسفات ما بعد الحداثة التي تعد رد فعل بنهاية الحداثة أو هي التجربة الأخيرة بالحداثة، كما أنها رد الفعل العقلي والأخلاقي والجمالي لنهاية الحداثة. (10)
واجه التفكير الفلسفي في نهاية القرن مأزقا شديدا، فبعد أن تطورت العلوم الطبيعية الحديثة تطورا هائلا أبعدت مجالات كثيرة عن سلطة التفكير الفلسفي، ولم تعد الفلسفة تستطيع أن تزعم أنها تسيطر على كل جوانب المعرفة، كما وجدت نفسها - أي الفلسفة - في مفترق طرق ونقطة تحول، وتعالت الصيحات بأنها أصبحت عديمة النفع، وكان لا بد من التفكير: ماذا بعد الفلسفة؟ وظهرت بعض التيارات التي تؤكد أن «استمرار الفلسفة لا يكون إلا من خلال تحولها إلى هيرمنيوطيقا فلسفية أي التأويل الفلسفي»،
7
كما في مشروع جادامر وريكور، أو في تحطيم «أو تجاوز وتفكيك» الميتافيزيقا الغربية كما عند دريدا، أو في نقد الأيديولوجيا المتجذرة في الظلم الاجتماعي عند هابرماس، أو في استمرارها عند البعض في السيمانطيقا (علم الدلالة)، وعند البعض الآخر في النظرية العامة للاتصال اللغوي.
وفي كل الأحوال كان التحول البارز الذي تعين على الفلسفة أن تتجه إليه هو التحولات اللغوية التي انطلقت بشكل أساسي من فلسفة كل من هيدجر وفيتجنشتين. وينتهي القرن بطرح التساؤل عن مصير الفلسفة! فقد رأى البعض علامات النهاية ونذرها الزاحفة، ورأى البعض الآخر أن هناك حاجة ماسة لمفهوم نسقي جديد للفلسفة، ورأى آخرون أنها «ليست في العلم ولا الفن ولا هي نظام معرفي
Discipline ، ولا يمكن لها أن تقدم أي شيء، بل هي دائما وللأبد نشاط وفعالية للروح الإنسانية»،
8
وإن اختلفت الآراء كذلك حول طبيعة هذه الفاعلية وموضوعها وأدواتها ... (2) تصنيف التيارات الفلسفية في القرن العشرين
تعددت المدارس الفلسفية، وتنوعت في القرن العشرين - كما سبق القبول - إلى حد اختلاف الباحثين والفلاسفة أنفسهم حول تقسيمها، فيقول رسل: «بثلاث فرق أساسية، الأولى اتباع الفلسفة الكلاسيكية (فلسفة كانط وهيجل)، والثانية تتكون من البراجماتيين وبرجسون، والثالثة ممن يتصلون بالعلم.»
9
وقدم «وولف» ستة اتجاهات: «المذهب المادي، المذهب المثالي المطلق، مذهب الكثرة الروحية، مذهب التجربة الجديد (الظاهريات)، فلسفة الحياة ومذهب الواقع.»
10
أما بوشنسكي فقد ميز أهم النظم الفلسفية في النصف الأول من القرن العشرين من حيث المحتوى إلى ست مجموعات «المذهب التجريبي أو فلسفة المادة، وهو خليفة المذهب الوضعي (وهما يمتدان من مذاهب القرن التاسع عشر)، والمثالية في صورتيها الهيجلية والكانطية. ثم يأتي مذهبان قطعا كل حبال الاتصال مع القرن التاسع عشر؛ وهما فلسفة الحياة وفلسفة الماهيات أو الفينومينولوجيا. وأخيرا تأتي مجموعتان تعبران عن المحاولات الأصيلة والمعبرة عن القرن العشرين، وهما مجموعة الفلسفة الوجودية ومجموعة ميتافيزيقا الوجود الجديدة.»
11
أما تصنيف هذه المذاهب حسب المنهج فيرده بوشنسكي إلى «التحليل الرياضي المنطقي من جهة، وإلى العمليات الفينومينولوجية من جهة أخرى.»
12
ومما لا شك فيه أن تصنيف المذاهب - كما يعترف بوشنسكي نفسه - لا يخلو من تعسف؛ لأن هناك فروقا كبيرة تفصل بين فلسفات تم وضعها تحت عنوان واحد، ومع ذلك فالتصنيف ضرورة من أجل تقديم صورة كلية ونظرة شاملة. وسنعرض الآن لأهم التيارات الفلسفية في القرن العشرين، ولكن هذا العرض أيضا لا يخلو من تعسف، فالمساحة المتاحة لهذا البحث لا تسمح بعرض كل الاتجاهات؛ لذلك سنقتصر على أكثر التيارات تأثيرا في فلسفة القرن العشرين، وسيتم اختيار الفلاسفة الذين نظن أن لهم وجهات نظر ثاقبة، أو لهم إسهام مميز وتأثير واضح في مناهج أو نظريات أو تأملات فلسفية أخرى، والذين أصبح لهم تأثير على عقول فلاسفة واعدين الآن .
سنبدأ أولا بعرض التيارات الفلسفية التي سادت الفكر الغربي في النصف الأول من القرن العشرين، والتي كانت رد فعل أو امتدادا لتيارات القرن التاسع عشر، ولكننا سنستثني من هذا العرض الفلسفة الماركسية، وعلى الرغم من أنها تنتمي إلى مذاهب القرن التاسع عشر، فقد كان لها تأثير على بعض الفلاسفة في القرن العشرين، لا سيما بعض الفلاسفة الماركسيين الذين اجتهدوا في تجديد الفكر الماركسي من الداخل - مثل بلوخ وأصحاب التيار النقدي الاجتماعي من مدرسة فرانكفورت - وحاولوا تحذير العالم مما سيئول إليه الفكر العقائدي المتزمت بعد أن شهد النصف الأول من القرن العشرين أهوالا عديدة، فقد سيطرت حكومات شمولية استبدادية على النظم السياسية في العديد من بلدان أوروبا كالفاشية الإيطالية والشيوعية السوفيتية والنازية الألمانية، وشهد أيضا ملايين الضحايا في حربين عالميتين انتهتا بأن تركتا العالم في حالة فوضى، بعد أن وصلت ذروته بإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي. لذلك ظهرت الدعوة إلى تجديد الفكر الماركسي والوقوف في وجه النظم الشمولية، ولكن لم تكن هناك آذان صاغية لهذا التجديد، ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى المصير المأساوي الذي انتهت إليه الماركسية، فالانهيار العظيم يشهد عليه. ومع ذلك سنكتفي بالإشارة إلى تيار واحد حاول تجديد الفكر الماركسي من حيث المنهج، وإن كان قد تخلى عن معظم مقولاته الفلسفية الأساسية، وهو التيار النقدي لمدرسة فرانكفورت، والذي سنعرض له في حينه. ونبدأ العرض بالتيارات التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين مثل البرجسونية والبراجماتية والفلسفة التحليلية. وقد كانت فلسفة برجسون الحيوية مناهضة للمذهب المثالي والفلسفة الوضعية المنتمين للقرن الماضي، كما عرضت لأول مرة مفهوم الديمومة. وقدم برجسون نظريته في التطور، وكانت دفعة كبيرة للأبحاث الفلسفية اللاحقة لها.
وكانت البراجماتية امتدادا للتيار التجريبي باعتبارها شكلا من أشكال الفلسفة التجريبية، ثم أصبح لها تأثير عميق على المسار اللاحق لها، «ليس فقط على الفلسفة التكنولوجية، بل أيضا على ازدهار نظم معرفية لم تكن مستقلة بنفسها تمام الاستقلال
half-independent disciplines
مثل علم الدلالة، وعلم النفس، والسوسيولوجيا والتشريع والتعليم.»
13
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى تعتبر البراجماتية بمثابة حركة انتقالية أو الحلقة المفقودة بين عصر الأيديولوجيا وعصر التحليل.
ثم نعرض للفلسفة التحليلية وللوضعية المنطقية التي صدمت الحياة الفلسفية، وكانت الطفل المرعب لفلسفة القرن العشرين، فلم تكن تسعى كغيرها من التيارات إلى تجديد الفلسفة، بل دعت إلى تدميرها، بزعم أنها تبحث في موضوعات لا معنى لها. وبذل الوضعيون المناطقة كل جهودهم لوضع حد حاسم بين الميتافيزيقا والعلم الطبيعي، وجعلوا مهمتهم الأولى هي حذف الميتافيزيقا، ثم توضيح لغة العلم وتحديدها. وعلى الرغم من الصخب الذي أحدثه أصحاب هذا الاتجاه في بدايته المبكرة، إلا أن نجمهم قد أفل وانخفض صوتهم، وتحول اتجاههم الفلسفي إلى تيارات علمية وتجريبية أخرى متطورة.
ثم يعرض البحث لأكثر التيارات تأثيرا في القرن العشرين - والتي لم تكتشف في رأينا كل كنوزها حتى الآن - وهي فلسفة الظاهريات أو الفينومينولوجيا ومؤسسها هوسرل، أو هو بالأحرى مؤسس فلسفة الوعي، الذي كانت مهمته إعادة بناء نقدي للمعرفة، وربما لا نبالغ إذا قلنا إن الظاهريات هي بحق العباءة التي خرجت منها معظم التيارات الفلسفية اللاحقة لها في هذا القرن، وإن لم يكن لها تلك الشعبية التي حظيت بها هذه التيارات (مثل الوجودية على سبيل المثال). والظاهريات هي الفلسفة التي تنتمي عن أصالة لفكر القرن العشرين، وهي التي يصفها مؤلفها بأنها «عالم البحث المحايد الذي تنبت منه جذور شتى العلوم.»
14
ثم ننتقل إلى الوجودية وهي من أكثر الفلسفات انتشارا في منتصف القرن العشرين. وهي أيضا من أكثر الفلسفات التي تأثرت - بكل تياراتها المختلفة - بظاهريات هوسرل. عادت الوجودية بتاريخ الفلسفة إلى جذور السؤال عن الوجود والماهية، كما عبرت عن أزمة الإنسان الأوروبي في مرحلة ما بين الحربين العالميتين. وإذا كانت الوجودية قد انحسرت منذ ما يقرب من ربع قرن، إلا أنها امتدت في تيارات أخرى انتشرت في الثلث الأخير من القرن العشرين، وهي التي تسمى بفلسفات «ما بعد الحداثة»، والتي انبثقت من فلسفة هيدجر على التحديد.
ثم نعرض لتيار آخر اجتاح الفكر الفلسفي الأوروبي منذ أواخر الربع الأول من القرن العشرين، لكنه لم يتبلور في شكل نظرية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو التيار النقدي الاجتماعي الذي أرسى دعائمه أعضاء مدرسة فرانكفورت، وصاغوا له النظرية التي عرفت باسم «النظرية النقدية». وشكلت هذه المدرسة تيارا فلسفيا داخل الفكر المعاصر، مستعينة بالأدوات التحليلية والطاقة النقدية للماركسية، لتحليل المجتمع الصناعي والرأسمالي. وإن كان يؤخذ على أصحاب النظرية النقدية أنهم لم يقيموا نسقا منهجيا محكما، إلا أنهم يمثلون تيارا فلسفيا لا يمكن تجاهله، فقد حاول أن يعيد للفلسفة دورها في المجتمع، وخاصة على يد أحد أهم أعلام جيلها الثاني وهو يورجين هابرماس.
ثم نعرض للبنيوية، ذلك التيار الذي سيطر على الفكر الفرنسي في الستينيات، بعد أن هدأ الصراع الفكري بين الوجودية السارترية وأنصار الماركسية، ذلك الصراع الذي سيطر على الساحة الثقافية الفرنسية في تلك الفترة الزمنية. والبنيوية ليست مذهبا فلسفيا جديدا بقدر ما هي منهج في المعرفة العلمية، احتذى بالنجاح الذي حققته علوم اللغة بهدف الوصول إلى مرتبة العلم المنضبط على نمط العلوم الطبيعية. وقد أثارت البنيوية، فكرا ومنهجا، الكثير من الجدل بين الحماس لها من ناحية وبين الغضب عليها من ناحية أخرى.
ويعرض البحث للفلسفات الجديدة التي ظهرت في مطلع السبعينيات، وتركز معظمها في الفكر الفرنسي على وجه التحديد. ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر فلسفات «المابعدية» - إذا صح هذا التعبير - أعني تلك التيارات التي اتخذت شعار: «ما بعد التجريبية»، «ما بعد العصر الصناعي»، «ما بعد الميتافيزيقا»، «ما بعد الأخلاق»، «ما بعد الحداثة»، «ما بعد الفلسفة»، «ما بعد النقد»، «ما بعد البنيوية»، «ما بعد الحكاية». ولا غرابة في أن تظهر هذه الاتجاهات في الثقافة الفرنسية التي اشتهرت «بالبدع» أو «الموضات» الثقافية والفكرية بنفس القدر الذي اكتسبت به شهرتها في «تقليعة» أو «موضة» الأزياء. تعبر كل هذه «المابعدات» عن التغيرات الأساسية التي طرأت على الثقافة والمجتمع الغربي في أخريات القرن العشرين، وظهرت بوضوح في مجالات الآداب والفنون، ثم انتقلت إلى مجالات الفلسفة والنظريات الاجتماعية. ومن أهم هذه التيارات التي سنعرض لها في هذا البحث فلسفة التأويل (الهرمنيوطيقا) والتفكيكية. (3) أهم التيارات الفلسفية في القرن العشرين
قبل أن نعرض لأهم تيارات هذا القرن لا بد أن نؤكد أن الغالبية العظمى من فلاسفة القرن العشرين انتابتهم رغبة جامحة للإتيان بأفكار وتيارات جديدة، واقتلاع القديم من جذوره، ولهذا السبب كانت الروح النقدية هي الدافع الأول في هذه التيارات. وإذا كانت هذه الرغبة مشروعة في الحياة بصفة عامة، فهي بغير شك أكثر مشروعية في الفكر الفلسفي الذي يعد النقد جوهره وأهم سمة من سماته، هذا من جانب، ومن جانب آخر لا بد من التأكيد أيضا أنه ليس هناك بداية مطلقة من الصفر، كما يستحيل على أي جديد أن يتبرأ تماما من دينه نحو الأسلاف، ولا يمكن على الإطلاق أن تكون هناك جدة مطلقة لا تتصل على نحو من الأنحاء - ولو على سبيل الرفض والقطعية - بما سبقها من أشكال الفكر ومضامينه. (3-1) فلسفة الحياة
نبدأ هذه البانوراما الفلسفية للقرن العشرين بالتيار المسمى بفلسفة الحياة، وسنكتفي منه بالفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (1859-1941م)، ولن نقف عنده كثيرا، لا لعدم أهميته ولكن لأنه - من بين فلاسفة قلائل - حظي باهتمام كبير في الفكر العربي، حيث ترجمت معظم مؤلفاته إلى اللغة العربية، وصدرت في عدة طبعات مختلفة، وتجاوبت معه الرومانسية العربية. لقد كان لبرجسون تأثير قوي ليس على الحياة الفكرية الفلسفية فحسب، بل على الحياة الفكرية والأدبية أيضا في النصف الأول من القرن العشرين، لما كان يتمتع به من أسلوب أدبي مرهف ودقة في التعبيرات الفلسفية، فذاعت شهرته وراجت كتبه. وعلى الرغم من أن آراء برجسون ليست جديدة تماما على الفكر الفلسفي الغربي - حيث نجد فيها أصداء هرقليطس وأفلوطين وهيجل وشيلنج ومين دي بيران - إلا أنه «يعد أكبر فيلسوف في فرنسا منذ عهد بعيد لما بذله من براعة في الجمع بين هذه الآراء والتجديد في عرضها، وقد أذاع لونا من التفكير وأسلوبا في التعبير طغيا على سائر فروع المعرفة العلمية وتجاوزاها إلى الأدب.»
15
واجهت فلسفة برجسون الحيوية كلا من النزعة الآلية الميكانيكية والنزعة المادية مواجهة نقدية حاسمة. وقدم برجسون فلسفة للحياة من خلال نظرية التطور في إطار حدده هو لنفسه واتخذه أساسا لاتجاهه الفلسفي، وليس في الإطار الذي حدده كل من اسبنسر ودارون، فقد عرض لتطور الحياة في لغة شعرية وأدبية بعيدة عن اللغة العلمية التي استخدمها علماء البيولوجيا. وقد اتخذ من «الوثبة الحيوية» أصلا للتطور، كما عرضها في كتابه «التطور الخالق» عام 1907م، ولم يكشف العقل عن هذه الدفعة أو الوثبة الحيوية، بل هناك ملكة أسمى منه - في رأي برجسون - وهي الحدس التي نتعرف من خلالها على ما بداخلنا من صيرورة مستمرة وديمومة حقيقية، وهي الملكة الوحيدة القادرة على فهم الحياة، وإدراك كل ما هو حي ومتغير ومتحرك وجديد في الزمان.
وفي كتابه «المعطيات المباشرة للشعور» يؤكد برجسون أن الحياة النفسية «تيار غير منقطع من الظواهر المتنوعة، أي تقدم متصل من الكيفيات المتداخلة، بخلاف الظواهر المادية التي هي كثرة من الأحداث المتمايزة المتعاقبة.»
16
وإذا كان برجسون يرفض المنهج العقلي كمنهج للفلسفة، فهو لا ينكره في ميدان العلم؛ لأنه هو القادر على القياس والتحليل والتركيب، ولكنه لا يستطيع النفاذ إلى داخل الأشياء، بل يعرفها من الخارج فحسب. أما الزمان الشعوري أو الباطني فلا يمكن إدراكه إلا بالحدس، وهو ضرب من الإدراك المباشر لحياتنا الباطنية ولمجرى شعورنا الداخلي. وقد حاول برجسون بذلك «تجاوز التفرقة بين الذات والموضوع بوصفهما قطبين متضادين، ولكنه نظر إلى هذا التجاوز نظرة مثالية، مقدما العالم الداخلي للإنسان، حدسه وحريته، بوصفهما بديهيات أساسية في الفلسفة.»
17
لقد كان الإسهام الأكبر الذي قدمه برجسون للفلسفة في بداية القرن العشرين هو إنقاذ فلسفة الروح من النزعة الوضعية، وقصد إلى «إنقاذ القيم التي أطاحها المذهب المادي، فهو واحد من أولئك الذين يقومون في الإنسانية ليعلنوا إيمانهم بالروح.»
18
ولقد كانت فلسفة برجسون بأكملها دفاعا عن الروح والحرية، والتأكيد على أن لكل إنسان شخصيته الحية المتميزة، وأن «كل خط للتطور ينتهي إلى تحرير الوعي عند الإنسان، ويظهر الإنسان وكأنه الغاية النهائية من تنظيم الحياة على كوكب الأرض»،
19
ولكن فلسفة برجسون انحسرت مع نهاية الحرب العالمية الثانية - على الرغم من انتشارها السريع والشهرة التي حظيت بها في معظم بلدان أوروبا، وامتدت إلى الشعوب الشرقية - ويعزو البعض هذا الانحسار إلى اهتمامها المبالغ فيه بالزمان الشعوري، باعتبار أنه وحده هو الزمان الحقيقي، وتجاهلها للزمان المكاني. وربما يعود السبب الحقيقي لهذا الانحسار هو اكتساح الوجودية للساحة الفلسفية والفكرية في فرنسا في تلك الفترة وخاصة الوجودية السارترية. (3-2) البراجماتية
تعد البراجماتية من بين فلسفات القرن العشرين التي أدت دورا هاما في الفكر المعاصر، واشتهرت بأنها شديدة الإحساس بالمصالح الإنسانية. وهي الفلسفة التي ترجمت الأفكار إلى فعل وعمل؛ فالحقيقي في الفلسفة البراجماتية هو ما يمكن التحقق من صدقه في الواقع الموضوعي، وأن المنفعة والقيمة والنجاح هي المعيار الوحيد للحقيقة. ولا نستطيع القول إن البراجماتية مذهب فلسفي بقدر ما هي منهج يتتبع النتائج العملية للأفكار. وعلى الرغم من ردود الأفعال المتباينة التي تشكك في قيمة وأصالة البراجماتية، إلا أنها تعبر عن فلسفة حضارة جديدة، فبدون تشارلز بيرس ووليم جيمس، وجون ديوي (وهم أعلام هذا التيار) يصعب تخيل الحياة العقلية في القرن العشرين وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية معقل هذا التيار. وعادة «ما ينظر إلى بيرس على أنه سقراط النزعة البراجماتية، وجيمس على أنه أفلاطونها أما ديوي فهو أرسطو.»
20
في حضارة القارة الجديدة.
تشارلز بيرس (1839-1914م) «أول فيلسوف أمريكي يخرج على العالم بفكر جديد يبلور فيه الحياة العقلية كما تمثلت في القارة الجديدة، فهو الذي خلق الفلسفة البراجماتية خلقا، ثم هو الذي بلغ بها غاية كمالها، حتى إذا ما جاء بعده التابعان الكبيران اللذان سارا على نهجه، وهما وليم جيمس وجون ديوي لم يسعهما إلا أن يتحركا في الإطار نفسه.»
21
وأهم ما يميز فلسفة بيرس هي أنها فلسفة علمية وليست تأملية، وأنها بعيدة عن الرطانة الفلسفية الأكاديمية. ويعتبره البعض «أكبر مفكر أنجبته أمريكا، له إسهاماته المتميزة في المنطق، وفلسفة العلم، والميتافيزيقا، والإبستمولوجيا، وفروع أخرى من الفلسفة بجانب اشتغاله بالعلم.»
22
والفكرة الأساسية عند بيرس هي أن الوظيفة الوحيدة للفكر تنحصر في النتيجة العملية المثمرة التي يتمخض عنها الفكر. ويشترك وليم جيمس (1842-1910م) مع بيرس في هذه الفكرة الأساسية، وهي أن الفكر لا يكون مفيدا وله معنى يمكن فهمه، ولا يكون له مصداقية إلا من خلال علاقته بغاياته، فالمعرفة بالنسبة لهما ليست تأملا ولا حدسا، بل هي فعل وعمل.
وربما كان بيرس ووليم جيمس هما أول من «عرض بوضوح الاتجاه المميز للقرن العشرين في النظر بعين الاعتبار للمعنى، ووضعه في قلب الفلسفة، ففي اعتقادهما أن الفكرة الموجودة في العقل لها وظيفة تكيفية تتجلى في الفلسفة وفي نظرية المعنى»،
23
وهذه هي إحدى آثار نظرية دارون التطورية. ولوليم جيمس إسهاماته في ظهور البراجماتية على الساحة الفلسفية، على الرغم من أنه ليس مؤسس هذه النزعة (مثل بيرس)، ولا هو الذي قدمها بشكل محدد (مثل جون ديوي)، ولكن قوة شخصيته ونشاطه لعبا دورا حاسما في الأثر الذي طبعته البراجماتية على معاصريه. ومحاضراته عن البراجماتية يؤرخ بها لبداية هذا التيار الفلسفي كحركة واضحة المعالم، خاصة في بحثه عن مفهوم الصدق، فبعد أن اختلف الفلاسفة طويلا حول طبيعة الصدق، جاء جيمس ليؤكد أن الفكرة الصادقة هي التي تتلاءم مع غيرها من الأفكار التي تثبت صحتها عمليا. وتصبح الفكرة حقيقية عندما تثبت التجربة أنها صالحة ومفيدة.
ثم يأتي جون ديوي (1859-1952م) أحد الفلاسفة الثلاثة الذين طوروا البراجماتية بما له من وعي عميق بالبعد الاجتماعي للفكر الفلسفي. فقد أدرك أكثر من أسلافه ليس فحسب قيمة التفاعل بين الفلسفة والأنشطة الثقافية الكبرى، بل أيضا قيمة الفلسفة ذاتها ومواجهتها المستمرة مع السياسة والتعليم. مما جعل لفلسفته تأثيرا عظيما على الحياة الأمريكية، فقد «ذاعت شهرة جون ديوي على الأخص باعتباره مفكرا تربويا يروم إصلاح مناهج التربية على أساس آراء اجتماعية متشددة في شأن الطابع الاجتماعي للتربية. وقد كانت فلسفته لمدة طويلة أقوى قوة عقلية في تلك البلاد التي تعبد التكنولوجيا، ولم تعرف خبرة التقدم العلمي على النحو الذي عرفته أوروبا.»
24
لقد شارك جون ديوي زميليه بيرس وجيمس في المبدأ العام للبراجماتية، وهو أن الفكرة خطة عمل ، وأنها - أي الفكرة - لن تكتسب أية قيمة إلا حين تثبت أنها قابلة للعمل، وقادرة على تحقيق نجاح تلك الخطة، ولكن لفلسفة ديوي مفتاح آخر مختلف وهو مفهومه عن الخبرة وتأثره بالنزعة السلوكية، والخبرة عنده هي خبرة بالطبيعة؛ لأنه لا توجد - في رأيه - معرفة حقيقية غير التي يأتي بها منهج العلوم الطبيعية؛ ولذلك فهو يرفض كل الأفكار التي تتعالى على الطبيعة، ويتجه مباشرة إلى الخبرة.
ولعل أهم إسهام قدمه ديوي في تطور البراجماتية هو نظريته في التربية ورفعه شعار التعليم بالممارسة؛ فالتربية الواعية هي إعادة بناء مستمر للخبرة، وأن الأفكار لا تكون أفكارا حقيقية إلا إذا كانت أدوات أو ذرائع نستعين بها في حل المشكلات التي تواجه الفرد والمجتمع على حد سواء. ولا غرابة في أن تنشأ الفلسفة البراجماتية وتجد صدى لها - بل وتحقق نجاحا باهرا أيضا - في مجتمع يحكمه منطق القوة والنجاح كالمجتمع الأمريكي، ولكنه ليس بالضرورة هو أفضل المجتمعات. وربما لهذا السبب أيضا لم تجد البراجماتية رد فعل إيجابي في المجتمعات ذات القيم المثالية العريقة؛ لأن ربط الأفكار الحقيقية والصادقة بآثارها العملية سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة استدعى استبعاد كل القضايا الأخلاقية وأحكام القيمة، بل وبعض قضايا العلم أيضا من دائرة الحق والصدق. كما يحصر الفكر الفلسفي في الجانب العملي الذي يحقق منفعة مباشرة، ويزعم بغير حق أن الحقيقة مساوية للنجاح والتأثير العملي. والأبعد من هذا أن البراجماتية بهذا المفهوم تهدم الهدف الأسمى للفلسفة، وهو البحث عن الحقيقة ذاتها، أي البحث المنزه والمجرد من كل غاية أو هدف أو منفعة عملية، وربما كان هذا هو الجانب السلبي من المنهج البراجماتي، لكن هناك بغير شك جانبا إيجابيا يتمثل في نزعتها النقدية للمطلقات المثالية والميتافيزيقية، كما تتمثل أيضا في ترجمتها للأفكار إلى فعل وسلوك عملي، وتوجهها بوجه خاص نحو آفاق المستقبل. (3-3) الفلسفة التحليلية
أحدثت الفلسفة التحليلية ثورة في تاريخ الفكر الفلسفي - كما يقول آير - بانتقاله على أيدي التحليليين من البحث في مجال الموضوعات والأشياء إلى مجال آخر يبحث في الألفاظ والعبارات التي يستخدمها العلماء والفلاسفة. ولم تكن الفلسفة التحليلية مذهبا، بل هي منهج في البحث اهتم اهتماما شديدا بالتحليل اللغوي بهدف إضفاء الوضوح والدقة على لغة الفلسفة، والكشف عن حقيقة الكثير من مشكلاتها، وجورج مور (1873-1958م) هو رائد النزعة التحليلية في الفلسفة المعاصرة، وهو يمثل مع رسل وفيتجنشتين المدرسة التحليلية التي يطلق عليها اسم الواقعية الجديدة. والتحليل عند مور ينصب على التصورات أو الأفكار والمفاهيم، وليس على الألفاظ أو العبارات اللغوية. كما اصطنع رسل منهجا للتحليل للوصول إلى المكونات الأساسية التي يتألف منها الفكر عن طريق التحليل اللغوي، وأيضا عن طريق تحليل المفاهيم والتصورات الرياضية وتحويلها إلى مفاهيم منطقية. وقد حصر رسل مهمته في أن «يمنطق الفلسفة كلها، من أجل أن تقلع الفلسفة عن دراسة الوجود الكلي، وأن تقنع بدراسة الوجود العام، وهو الوجود المنطقي الذي أراد أن يحصر فيه الفلسفة كلها»،
25
فالمعروف أن السمة الأساسية التي تجمع بين فلاسفة التحليل هو عداؤهم الشديد للفلسفة المثالية والميتافيزيقا بوجه خاص.
تتحول الفلسفة كلها على يد فيتجنشتين - الذي يحتل مكانة عظيمة الشأن، في النزعة التحليلية - إلى تحليل للغة. وقد تجاوز تأثيره الفلسفة التحليلية ليتبوأ موقعا هاما في الفلسفة المعاصرة، ففلسفته المتأخرة وخاصة في كتابة «بحوث فلسفية» فتحت «آفاقا جديدة أفاد منها علم اللغة والعلوم المتصلة به، ولم يقتصر الأمر على اكتشاف الفروق الأساسية بين لغة العلم ولغة الفلسفة ولغة كل يوم، وإنما تعداه إلى الاختلافات المتنوعة بين اللغات، واختلاف العناصر المكونة داخل كل لغة على حدة، وتعدد الألعاب اللغوية حسب القواعد المستخدمة في كل لعبة بمفردها.»
26
ولا ترجع أهمية فيتجنشتين إلى تأسيسه لمنهج جديد للتحليل المنطقي للغة، بل تمتد أيضا إلى إثارته للقضايا «بطريقة نقدية أصيلة أخرجتها من دائرة «التسليم»، ووضعتها في دائرة «الإشكال»، وبذلك استحقت أن تكون رافدا هاما من روافد النزعة النقدية الغالبة على التفكير الفلسفي المعاصر.»
27 (3-4) الوضعية المنطقية
ظهرت الوضعية المنطقية حوالي عام 1922م بالتقاء مجموعة عرفت باسم حلقة فيننا، وكان لكتاب فيتجنشتين «رسالة منطقية فلسفية» أثر كبير على أعضاء هذه الحلقة، كما كان أيضا لمنطق رسل وطريقته الفنية في التحليل أثرها العميق عليهم، ولقد «اختار الوضعيون المناطقة لفظة «منطقي» ليشير إلى اهتمامهم بالتحليل المنطقي للمعرفة، ولكل نتائج العلم والحياة اليومية لإضفاء الوضوح عليها، وشرح العلاقة التي تربط هذه النتائج.»
28
وللوضعية المنطقية بعض السمات الخاصة التي أثارت حولها الكثير من الجدل والخلاف في النصف الأول من القرن العشرين منها: رفض الفلسفة التقليدية بما في ذلك رفض الفلسفات المثالية والميتافيزيقا لحساب العلم والتفكير العلمي. ويرجع رفض الوضعيين المناطقة للمثالية إلى أنهم ورثة بيرس من ناحية، ورسل من ناحية أخرى، وقد حصروا الفلسفة في وضع أسس التفكير العلمي أو خدمة العلم الوضعي، وربطوا التراث التجريبي بالتطور الجديد في المنطق.
من أهم المشكلات التي أثارتها الوضعية المنطقية مشكلة «مبدأ التحقق»
Verification ، ويقوم هذا المبدأ على أن الأحكام أو العبارات التي «لا نستطيع إثباتها بالإدراك التجريبي هي بالمعنى الحرفي للكلمة مجرد لغو؛ إذ لا يوجد أي معنى أو دلالة يمكن أن تنسب إليهما ... فما يمكن إثباته عن طريق الوقائع
facts
هو وحده ما يمكن أن يكون له معنى ... ولقد طبق الوضعيون المناطقة هذا المبدأ على رفضهم للميتافيزيقا»،
29
باعتبار أن قضاياها هي من قبيل ما لا معنى له. وينسب أعضاء حلقة فيينا هذا المبدأ إلى فيتجنشتين، والذي كان له أكبر تأثير عليهم خاصة في كتابه «رسالة منطقية فلسفية» - وهو الكتاب الذي كان نقطة تحول في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر - والذي انتهى فيه إلى أن «مشكلات الميتافيزيقا والفلسفة التقليدية قد نشأت عن إساءة فهم منطق اللغة، وأن تحليل لغة العبارات والقضايا قد بين أن معظمها ليس كاذبا، وإنما هو خال من المعنى.»
30
يعد كارناب (1891-1970م) أبرز ممثلي الفلسفة الوضعية، وصار المتحدث باسم حلقة فيينا إلى أن فقدت الحركة زخمها من الناحية الفلسفية عام 1936م، وتشتت أعضاؤها بموت بعض روادها ومقتل شليك، وهجرة بعض أعضائها إلى بريطانيا، والبعض الآخر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن القول إن المرحلة الأولى من الوضعية المنطقية قد خبت وانطفأت شعلتها للأسباب السابقة، وبسبب انصراف الحركة الفلسفية عنها - بعد أن كانت تشغل مكانا متميزا في فلسفة القرن العشرين - كنوع من الاحتجاج على دوجماطيقية أعضائها، ولكن هذا لا يعني أن الوضعية المنطقية قد انقرضت أو انتهت تماما، وإنما تطورت عند كارناب أفضل ممثليها وأنشطهم، وخاصة في دراساته في السيمانطيقا أو علم المعاني، التي يتجاوز فيها التحليلي المنطقي للغة.
وربما يكون الدرس الوحيد المستفاد من غلو هذه المدرسة في مرحلتها الأولى أنه ليس هناك رأي قاطع وحاسم في الفلسفة، وكما أن هناك مبدأ التحقق من الصدق؛ فهناك أيضا مبدأ التكذيب - الذي قال به بوبر - والذي يعني أن القضية أو النظرية تظل صادقة، حتى تظهر قضية أو نظرية أخرى تكذبها. وإذا كان للوضعية المنطقية تأثير إيجابي في الحياة الفلسفية المعاصرة، فهو بلا شك أنها دفعت الدراسات المنطقية دفعة هائلة نحو التجديد، كما أنها برفضها للميتافيزيقا نبهت الفلاسفة إلى ضرورة إعادة النظر في استخدامهم للعبارات الفلسفية الفضفاضة، وأن عليهم أن يقدموا نماذج للأفكار تتسم بالدقة والوضوح، وأن يصوغوا عباراتهم الفلسفية صياغة لغوية دقيقة. (3-5) فلسفة الظاهريات (الفينومينولوجيا)
كان للفلسفة التحليلية عند مور ورسل وفيتجنشتين أثر كبير على فلاسفة البلدان الناطقة بالإنجليزية، بينما ساد في أوروبا نظام من التفلسف برز في الوجودية الألمانية، والوجودية الفرنسية وكلاهما تأثر إلى حد كبير بفينومينولوجيا هوسرل - وهي مفتاح تطور الوجودية المعاصرة - فكان الاختلاف شاسعا بين الفلاسفة التحليليين من ناحية، والفلاسفة المهتمين بالتراث الأوروبي المعاصر من ناحية أخرى، بحيث يصعب على كلا الفريقين الاتصال بالآخر. ورفضت الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة أن تنظر للفلسفة باعتبارها علما تجريبيا، وكان هوسرل (1859-1938م) أحد حاملي لواء هذا الاعتراض، الذي بدأ فلسفته بالهجوم الشرس على علم النفس، بل جعل هدفه تدمير النزعة السيكولوجية في المنطق، والهجوم على المثالية والوضعية التجريبية، وقدم منهجه في الظاهريات.
الظاهريات هي أحد التيارات الهامة في فلسفة القرن العشرين التي سادها الاعتقاد بأن الفلسفة ليست كالعلوم الطبيعية أو الواقعية، وأنها لا يمكن أن تستخدم مناهج تلك العلوم. ولذلك فإن أهم سمتين أساسيتين من سمات الفينومينولوجيا هي أنها منهج في المقام الأول «ينحصر في وصف الظاهرة أي ما هو معطى مباشرة ... ومن جهة أخرى فإن موضوعها - أي الفينومينولوجيا - هو الماهية
essence
أي المضمون العقلي المثالي للظواهر، الذي يدرك في إدراك مباشر، هو رؤية الماهيات.»
31
وقد عارض هوسرل بهذا الفلسفة الكانطية التي تنكر معرفة الماهيات. واستطاع أن يؤسس فلسفة جديدة في الفكر الغربي في القرن العشرين، يمكن القول بأنها فلسفة البدايات الأولى التي لا تفترض مسبقا معرفة قبلية بالأشياء، بل تقوم بتجربة الأشياء في الشعور كظواهر محضة. الفينومينولوجيا - إذن - هي علم دراسة الظواهر أو المعطيات التي تتكشف في الوعي، وجعل هوسرل مهمته إيجاد المنهج الفلسفي الذي يستطيع رؤية الماهيات أو حقيقة الموضوعات العينية.
والماهيات ليست ماثلة أمام الذهن أو الوعي، ولكن بلوغها لن يكون إلا من خلال مراحل متدرجة هي مراحل المنهج الفينومينولوجي الذي ليس استنباطيا ولا تجريبيا، بل هو منهج استبطاني ليس بالطريقة السيكولوجية، وإنما يتم من خلال عمليات ثلاث تبدأ بالاستغناء عن كل المعلومات السابقة عن الشيء، وبالتوقف عن الحكم، ووضع بعض عناصر المعطى - وهي العناصر التي لا تهتم بها الذات، بحيث لا يبقى لها إلا ما هو معطى من الموضوع - بين قوسين واستبعادها من التأمل، أي تقويس العالم، والانصراف بالوعي إلى الماهية الخالصة، وهذا ما يسميه هوسرل بالرد الترنسندنتالي، ولكن الوعي لا يكون إلا وعيا بشيء ما، أي أن للوعي طابعا قصديا، ونشاطاته نشاطات قصدية. والقصدية هي الفكرة الأساسية في فلسفة الظاهريات. ويتجاوز الوعي الصفات العارضة وينفذ إلى الماهية، وهو ما يسميه هوسرل بالرد الماهوي، بمعنى الوصول إلى ماهية الشيء، ثم البحث عن معنى أو دلالة الظاهرة. بمعنى آخر يمكن أن نقول إنه تتم عملية حفر للوعي أو - إذا استعنا بتعبير فوكو - أركيولوجيا الوعي.
مهمة الفيلسوف الفينومينولوجي إذن هي بحث الظاهرة الماثلة أمام الوعي أو الشعور الذي يتوجه إليها، ويقصدها «بأفعاله القصدية، وغدت رؤية الماهيات وتحليلات المعنى هي أدواته في البحث.»
32
ولعل ما أسفر عنه هذا المنهج هو نوع جديد من المثالية، أطلق عليه المثالية الذاتية المتعالية. إن الحقيقة الوحيدة والمطلقة في هذا المنهج هي الذاتية المتعالية التي يعتمد عليها كل وجود آخر في العالم، بحيث يمكن أن نقول إنها ذروة الذاتية بعد ديكارت، بل هي تعميق للذاتية والارتفاع بها. فإذا ما اندثر كل شيء في العالم سيبقى الوعي صانع الماهيات والحقائق. وربما لهذا السبب أيضا تعرضت فلسفة الظاهريات للنقد كشكل من أشكال المثالية الذاتية، فهي كفلسفة للباطن قد أكدت «عجز كل الفلسفات المثالية الذاتية عن التأثير في حركة الواقع التاريخي والاجتماعي»،
33
ولكنها من ناحية أخرى كانت شهادة بإفلاس العقل الغربي، وعودة إلى الشعور الفردي الحي؛ فقد أيقظت الوعي بالأشياء والعالم والتجربة الحية. وبرؤية الماهيات من خلال الوعي أو الشعور تصبح الحقائق حية.
إن أثر الفينومينولوجيا على الفلسفات الأخرى يؤكد الجانب الإيجابي منها، فهي كمنهج - أكثر منها فلسفة - تعد منهجا خصبا أثر على العديد من فلسفات العصر، وطبق تطبيقات مثمرة في مجالات مختلفة؛ لقد أعطى هوسرل إشارة البدء من جديد لعلوم كثيرة منها «علم النفس، دراسة العقل، والمنطق، وفلسفة الرياضيات، والقانون، والعلوم الاجتماعية، وفلسفة الفن والأخلاق وفلسفة الدين.»
34
هذا بالإضافة أيضا إلى تأثيرها العميق - كما سبقت الإشارة - على الفلسفات الوجودية، وفلسفة اللغة، وفلسفة التأويل أو الهرمنيوطيقا، وتأثيرها غير المباشر على أعضاء مدرسة فرانكفورت. وعلى الرغم من تأثير فلسفة الظاهريات في تيارات متعددة وبعثها للحياة في حقول بحثية جديدة، إلا أنها تعد أقل الفلسفات حظا من الانتشار والفهم أيضا. وربما يعود هذا إلى غموضها من ناحية، وصعوبة التعامل مع مفاهيمها المخالفة للنظم الفلسفية السائدة حينذاك من ناحية أخرى. فهي ما تزال غير معروفة معرفة كافية بالمقارنة مع التيارات الفلسفية المعاصرة لها، والتي حظيت بانتشار واسع ودراسات وافية، وإن لم تكن تفوقها عمقا وقدرة على التأثير. وعلى الرغم مما تحتويه كتابات هوسرل من تحليلات دقيقة وعميقة إلا أن «المؤرخين لم يضعوا أيديهم بعد على كل ما يشكل قيمة هذه الكتابات التي تعد نبعا عظيما للمعرفة، ولم يحددوا بعد مدى قوة فائدتها، ويظهر أن كتابات هوسرل (التي ما زالت تنشر تباعا حتى اليوم) في طريقها إلى أن تصبح مصدرا أساسيا معتمدا من مصادر الفلسفة الغربية ترجع إليها الأجيال القادمة في الحضارة الغربية.»
35
هكذا فتح البحث الفينومينولوجي آفاقا جديدة جعلته أحد المنابع الرئيسية للتفكير الفلسفي للحضارة الغربية في القرن العشرين. وكما جاءت الظاهريات ببعض وجهات النظر النقدية - الجذرية - للفلسفات السابقة عليها، وزعمت أنها فلسفة البدايات، وكانت صيحتها على لسان هوسرل بالرجوع إلى الشيء نفسه، وكما وجه نقده اللاذع للوعي الأوروبي وأزماته، محاولا البدء من الوعي - تعميقا لفلسفة ديكارت - وكما وجهت الفينومينولوجيا نقدها للمثالية والتجريبية والنزعة النفسية في المنطق، فإن هناك بعض الانتقادات التي وجهت إلى الظاهريات نفسها وعرضتها للنقد لاستغراقها في استبطان الوعي وإغفالها إلى حد كبير للبعد الاجتماعي، وتحويلها للفلسفة إلى نوع من الاستبطان المنطقي المعرفي الذي انتهى إلى مثالية ذاتية متعالية بعكس الهدف الأصلي لهذه الفلسفة. (3-6) الفلسفة الوجودية
كان للمنهج الفينومينولوجي أكبر الأثر على الفلسفة الوجودية التي كان لها حظ كبير من الشهرة والانتشار - خاصة فيما بعد الحرب العالمية الثانية - يفوق بكثير الأصول التي نهلت منها. لقد كانت رد فعل قوي على المذاهب العلمية والفلسفات التي حاولت أن ترسخ في الأذهان فكرة المطلق. وإذا كان نيوتن «قد وضع أساس المطلق في العلم. وجاء هيجل ليؤكد فكرة المطلق في الفلسفة، فقد جاء عدد من المفكرين وركزوا على التجربة الإنسانية الفردية الحية التي تتمتع باستقلال ذاتي.»
36
ونقطة البدء في الفلسفة الوجودية هي الإنسان الفرد بمفارقاته الفردية، والمواقف التي يخوضها مع الحياة، وتحليل الوجود الإنساني إنما يبرهن على أن الموجود (الإنساني) هو الذي يتساءل عن الوجود.
تتعدد تيارات الفلسفة الوجودية وتتباين فيما بينها، على الرغم من أنها نبعت جميعا من مصادر واحدة، وإلى جانب تأثير المنهج الظاهرياتي على جميع فلاسفة الوجود - بصفة عامة - فقد كانت لفلسفة الحياة بصماتها أيضا، بالإضافة إلى انتساب جميع فلاسفة الوجود إلى كيركيجورد الأب الروحي للفلسفة الوجودية. وأهم أعلام التيار الوجودي هم جابريل مارسيل، وكارل ياسبرز، ومارتن هيدجر وجان بول سارتر ، ويمثل ياسبرز وهيدجر تيار الوجودية الألمانية وهما اللذان تأثرا بكيركيجورد، وأضافا إليه وأخرجا فلسفته الوجودية من الوجود الذاتي بمعناه الضيق إلى الوجود العام. وهناك أيضا الوجودية الفرنسية بشقيها المؤمن والملحد، يمثل جابريل مارسيل التيار الأول، ويمثل كل من سارتر وميرلونتي التيار الثاني. وهناك اختلافات أساسية فيما بين أعلام هذه الاتجاهات تجعل من الصعب الحديث عنهم جميعا تحت مسمى واحد. ومع ذلك نستطيع أن نجمل بعض الخصائص المشتركة بين الفلاسفة الوجوديين: (1)
تنبع الفلسفة الوجودية من تجربة حية معاشة تسمى تجربة وجودية، تحمل طابعا شخصيا. (2)
الوجود هو الموضوع الرئيسي للبحث الفلسفي عند الوجوديين. (3)
يتصور الوجوديون الوجود على نحو فاعلي نشط فلا «يكون» الوجود، بل «يصير». (4)
أن الوجوديين يفهمون «الذاتية» بمعناها الخلاق؛ فالإنسان يخلق نفسه بنفسه. (5)
يقول كل المفكرين الوجوديين بالتبعية المزدوجة، تبعية الإنسان للعالم وتبعيته للبشر. (6)
يرفض كل الوجوديين التمييز بين الذات والموضوع، بل ينبغي التعامل مع الواقع الذي يتم في تجربة القلق، وفيه يدرك الإنسان أنه محدود قاصر. وبالرغم من هذه السمات المشتركة بين الفلسفات الوجودية، فإنه توجد اختلافات عميقة بين ممثلي الوجودية، إذا أخذ كل منهم بمفرده.
37
حظيت الوجودية الفرنسية - وخاصة السارترية - بشهرة واسعة ليس في أوساط المثقفين فقط، بل أيضا على المستوى الجماهيري والشعبي، ويليها حظا من هذه الشهرة وجودية هيدجر، وإن كان انتشار هذه الأخيرة على المستوى الأكاديمي أكثر منها على المستوى الجماهيري. وعلى الرغم من هذا يعد كارل ياسبرز (1883-1969م) - الأقل شهرة وانتشارا - من بين «الفلاسفة الوجوديين المعاصرين أغزرهم إنتاجا، وأوضحهم تفكيرا، وأوسعهم اهتماما، وأقربهم إلى التفكير العام. ليس فيه غموض هيدجر ولا جفاف لغته، وليس فيه عبث سارتر.»
38
ويؤكد ياسبرز - كسائر الوجوديين - أن الإنسان هو الحقيقة الأساسية التي يمكن إدراكها في العالم، وأنه موجود في مواقف عينية واقعية في الحياة. وأن الوجود «انفتاح على العالم، ولن يتحقق - أي الوجود - إلا في الفعل والسلوك، ونقابل هذا الانفتاح في المواقف الحدية (مثل الموت والألم والصراع والخطيئة)، وفي الوعي التاريخي، وفي الحرية، وفي التواصل مع الآخرين.»
39
يتحقق وجود الإنسان إذن في لحظة خروجه من حال الإمكان إلى حال التحقق، وهو بهذا يحقق معنى الحرية التي هي جوهر الوجود الماهوي عند ياسبرز.
ثم يأتي مارتن هيدجر (1889-1976م) الممثل الآخر للوجودية الألمانية، والأكثر شهرة من سلفه، ويعلن أن نقطة البدء في فلسفته هي الموجود - هناك
Dasein
ليبدأ مرحلة جديدة في فهم الإنسان. ويبدأ أيضا بحثه عن «الوجود الأصيل» مسقطا بذلك مشكلة وجود العالم الخارجي؛ لأن الموجود هناك بطبيعته موجود في العالم، وبحثه عن وجوده الخاص يرتبط ببحثه عن الوجود العام. وينطلق هيدجر في «تحليلاته الأنطولوجية للوجود الإنساني من الحياة اليومية أو «الموقف الطبيعي» الذي نحياه جميعا. وهذه التحليلات للوجود-في-العالم، والوجود بالقرب من الأشياء والمعية والأداتية ... إلخ تعد من أثمن ما قدم هيدجر للحياة الفلسفية.»
40
مما جعله يمثل تحولا بارزا في الفكر المعاصر خاصة في كتابه «الوجود والزمان» الذي يعتبره بعض الباحثين بداية عصر جديد من التفلسف كان له أكبر الأثر على بعض التيارات الفلسفية في القرن العشرين.
يؤكد هيدجر أن المنهج الوحيد الملائم للتحليل الوجودي هو المنهج الفينومينولوجي، ولكنه لم يأخذ بمفهوم هوسرل للظاهريات «كفلسفة ترانسندنتالية تصل في مراحلها التكوينية الأخيرة إلى رد كل شيء إلى الأنا (الذات أو الوعي) الخالص الذي يبقى ولو فني العالم كله ... ولكنه يعلن تنصله من الظاهريات فلسفة واتجاها، واستفادته منها منهجا وطريقا للكشف عن أشكال الوجود.»
41
وكأن فلسفة الظاهريات تقوم عند هيدجر بدور عمل التأويل، وهي تدرس الكينونة من أجل تفسير تركيبها وتكوينها، وتصبح الفلسفة نظرية أنطولوجية فينومينولوجية عامة، تنتج عن تأويل «الموجود-هناك».
42
مهمة التحليل الأنطولوجي إذن عند هيدجر هي الكشف عن الوجود الإنساني بصفة عامة، أي وجوده-في-العالم، بمعنى أنه يمضي من تحليل الموجود إلى تحليل الوجود.
والوجود - في - العالم عند هيدجر يعني أن الوجود البشري قذف به على غير إرادته في عالم ليس من صنعه، وفي محاولته - أي الموجود البشري - المستمرة للخروج من ذاته يصطدم بعالم الأشياء والأدوات ليحقق إمكانياته، ويكون ما لم يكنه، والموجود البشري لا يوجد في العالم فقط، بل أيضا مع الآخرين. والقلق الوجودي - وليس السيكولوجي - هو ما يميز حياة «الموجود-هناك»، وهو الحالة الانفعالية التي تتكشف فيها حقيقة الوجود، وأنه وجود للموت، وأن الموت هو أعلى إمكانيات «الموجود-هناك» وهي إمكانية انتهائه وموته. ومفهوم هيدجر عن الموت يفترض كذب المفهوم الأفلاطوني، المسيحي، بمعنى انفصال الجسد الفاني عن الروح الخالدة، فالموت عدم مطلق، سقوط في اللاشيء. وكما ألقي الإنسان في العالم بدون هدف أو معنى، فهو يلقى به أيضا للموت وبدون أن يكون لمجيئه أو رحيله معنى.
43
فالإنسان محكوم عليه بالموت، والموت هو عبور «الموجود-هناك» إلى حيث لم يعد هناك وجود.
كانت الوجودية الفرنسية هي التيار الآخر للفلسفة الوجودية، وقد انقسم هذا التيار نفسه - كما سبق القول - إلى تيارين متعارضين، أحدهما ديني كاثوليكي ويمثله جابريل مارسيل (1889-1973م)، والآخر ملحد ويتزعمه سارتر. لن نقف عند الأول، أعني جابريل مارسيل؛ لأنه لم يؤسس نظاما فلسفيا، ولم يترك سوى تأملات على شكل يوميات، وهو أقرب إلى كيركيجورد من كل ممثلي الفلسفة الوجودية، ولم يكن له شهرة ولا تأثير سارتر، القطب الآخر للوجودية الفرنسية، الذي تجاوز تأثيره ساحة الفكر الفرنسي إلى بلدان أخرى كثيرة، ومنها بعض البلدان العربية التي حظي فيها باهتمام كبير وحركة ترجمة واسعة لأعماله.
تطورت فلسفة سارتر (1905-1980م) على مراحل ثلاث تأثر فيها بثلاثة فلاسفة هم هوسرل وهيدجر وماركس. كانت المرحلة الأولى من هذا التطور سيكولوجية ظاهرية، والمرحلة الثانية أنطولوجية، ثم المرحلة الثالثة وجودية ذات ميول ماركسية. وأثمر هذا التطور الأخير ما يعد أهم كتب سارتر وهو «نقد العقل الجدلي» الذي أدرك فيه البعد التاريخي للوجود الإنساني مما أتاح الفرصة لإقامة فلسفة أساسها عقل جدلي يدرك أن حقيقة الإنسان متغيرة، ولن تتوقف عن الصيرورة.
وإذا كان الإنسان عند هيدجر هو الكائن المحكوم عليه بالموت، فهو عند سارتر محكوم عليه بالحرية؛ لأنه هو الذي يختار أن يصبح أو يصير. وكما يقول سارتر في الوجودية والنزعة الإنسانية، أن الإنسان مسئول عن وجوده ونوعه، وكذلك مسئول عن كل البشر في كل اختيار أو قرار له. ومبدأ الوجود عنده، الإنسان هو ما يصنعه بنفسه! الإنسان مشروع
Man is Project .
44
والإنسان يوجد بقدر ما يحقق ذاته وإمكاناته في أفعال ملموسة، بمعنى آخر أن الإنسان هو مجموع أفعاله.
يعود الانتشار الواسع للفلسفة الوجودية في منتصف القرن العشرين - إلى الحد الذي أصبحت معه «موضة العصر» - إلى أنها تعبر عن أزمة مبادئ وقيم مرحلة ما بين الحربين العالميتين، لقد وضعت المبادئ الأساسية للفلسفة التقليدية بكل قيمها وحقائقها موضع التساؤل، معتبرة مشكلة الإنسان المشكلة الأساسية. فقد عاد الفلاسفة الوجوديون بتاريخ الفلسفة إلى السؤال عن مصير وماهية الإنسان، والسؤال عن معنى الوجود أو حقيقته بعد أن طغى الطابع العلمي على فلسفات القرن التاسع عشر، واختزلت الوجود الإنساني وقصرته على الوجود المادي، فجاءت الفلسفة الوجودية لتبحث عن ماهية الوجود الإنساني من حيث وجوده - في - العالم، ووجوده مع الآخرين ومن أجلهم. وربما كان هذا سببا قويا في انحسار الفلسفة الوجودية - فيما بعد - واتهامها بإهمال الجانب العقلي في الإنسان باعتباره عصب الثقافة الأوروبية القائمة على العلم.
حدث نوع من الانحسار للفكر الوجودي بعد موت كل من هيدجر وسارتر، وبقيت قيمة فلسفة هذا الأخير في كونها أعمالا أدبية. أما عن فلسفة هيدجر فنستطيع أن نقول إنها من النوع الذي يتم اكتشاف كنوزها، وتزداد أهميتها بعد موت أصحابها، فعلى الرغم من انحسار التفكير في الوجودية كفلسفة، بقيت قيمة فلسفة هيدجر في أنها تولدت عنها فلسفات أخرى أثارت الكثير من الجدل، وأحدثت تغييرا جذريا في مسار التفكير الفلسفي في الثلث الأخير من القرن العشرين، وأقصد بوجه خاص تأثير فلسفة هيدجر - لا سيما في تحليلاته لبعض نصوص الفلاسفة قبل سقراط والنصوص الشعرية لهيلدرلن وغيره - على كل من فلسفة التأويل أو الهرمنيوطيقا والنزعة التفكيكية. وفيما بين التأثير الفعال والتراجع والانحسار تعرضت الفلسفة الوجودية للكثير من النقد، على الرغم من أنها قامت في الأساس لتوجيه النقد للفلسفات السابقة عليها، وعلى الرغم أيضا من زعم أحد روادها (أعني هيدجر) أنه تجاوز الميتافيزيقا الغربية، وأنه يؤسس فكرا جديدا للوجود. على الرغم من كل هذا فإن الوجودية نفسها لم تسلم من سهام النقد الموجه إليها باعتبارها نزعة معادية للعلم. وكانت فلسفة هيدجر في بعض جوانبها مرتعا خصبا لهذا النقد، خاصة في إغفالها البعد الاجتماعي والسياسي في حياة الموجود الفرد، وانغلاق فلاسفة الوجود بصفة عامة في الفردية الذاتية - باستثناء سارتر - إلى حد تجاهل الواقع الجدلي المتحرك حولهم. وقد كان هذا الجانب هو الأساس الذي ارتكز عليه نقد أعضاء مدرسة فرانكفورت لفلسفات الوجود. (3-7) النظرية النقدية
امتد تأثير بعض أفكار فلسفة الظاهريات وفلسفة الحياة وفلسفات الوجود إلى تيار آخر ساد في أواخر الثلاثينيات من هذا القرن أطلق عليه اسم التيار النقدي، وانطلق من «معهد البحوث الاجتماعية» بمدينة فرانكفورت، ومن هنا أطلق على هذا التيار اسم «مدرسة فرانكفورت»، واحتفظ بهذا الاسم حتى بعد أن هاجر أعضاؤه - في فترة الحكم النازي - إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم بعد عودتهم مرة أخرى إلى بلادهم عام 1951م. اتخذ أعضاء هذه المدرسة من التحليل النقدي منهجا لهم فعرفت باسم «النظرية النقدية»، وقد تطورت هذه النظرية على مرحلتين أساسيتين، تمت المرحلة الأولى على يد الجيل الأول من المؤسسين وهم هوركهيمر وأدورنو وماركوز وإريك فروم وغيرهم، وتطورت المرحلة الثانية على يد الجيل الثاني الذي يعد هابرماس أحد أشهر أعلامها.
إن السمة الأساسية التي جمعت أعضاء «مدرسة فرانكفورت» بجيلها الأول والثاني هو «نقد» العقلانية التقنية التي سادت الفكر الغربي في ظل الحضارة الصناعية والنظام الرأسمالي. إنها تعبير عن رفض العقلانية العلمية، وعقل التنوير بكل ما نتج عنه، وقد تبنى أعضاء المدرسة المنهج التحليلي النقدي للماركسية دون مقولاتها التقليدية. «وبلغت هذه المدرسة ذروة تأثيرها على الحياة الفلسفية والعقلية وعلى تفكير الرأي العام المثقف في أوروبا وألمانيا الغربية في النصف الثاني من عقد السبعينيات عندما تبنت حركة الطلاب المعروفة بعض أفكار النظرية النقدية وأدمجتها في أيديولوجيتها اليسارية الجديدة الرافضة لكل أشكال السلطة والتسلط.»
45
اكتفى الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت بنقد سلبيات المجتمع الأوروبي في ذلك الحين التي ذكرنا بعضها، ولكنها لم ترق إلى وضع نظرية نقد نسقية، ولم تقدم بديلا عما قامت بتوجيه النقد إليه. ولعل الدور الهام الذي لعبته هذه النظرية في مرحلتها الأولى هو تأكيدها على الدور النقدي للفلسفة. وأخيرا «تشتت أبناء الجيل الأول للمدرسة مع بداية الثمانينيات، وبقيت أفكارهم الثورية بغير أثر علمي ملموس، وانفضت عنهم حركة الطلاب المتمردين، وأحكمت الدولة قبضتها، وراحت تطارد اليسار الجديد وعلى رأسه رواد المدرسة وتلاميذهم، لكن المدرسة ظلت حية في الجيل التالي الذي ما يزال ممثلوه ممسكين بالخيوط التي نسجها الرواد، عاكفين على مواصلة تراثها النقدي الثوري وبلوة نظريتها النقدية.»
46
ويعد يورجين هابرماس (1929م-...) أهم ممثلي الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت. أفاد كثيرا من تطور العلوم الاجتماعية، وتعمق في مشكلات نظرية المعرفة وفلسفة اللغة، وبعض اتجاهات الفلسفة المعاصرة كالهرمنيوطيقا والأنثروبولوجيا الفلسفية، وانعكست كل هذه التيارات على تطويره للنظرية النقدية، أو بمعنى آخر إعادة بنائها وتزويدها بدماء جديدة، وساهمت كل اتجاهات الفلسفة المعاصرة - بالإضافة إلى التراث النقدي الذي ينحدر منه هابرماس نفسه: بدءا من كانط، وانتهاء بالجيل الأول من مؤسس النظرية - في تكوين القاعدة النقدية لفلسفة هابرماس، بحيث مكنته من «تأسيس منطلقات جديدة لنظرية نقدية خاصة به تتميز بمتانتها المعرفية والمنهجية، وتتسم بالامتداد والتواصل مع متغيرات المستقبل.»
47
وإذا كان الجيل الأول من مؤسسي النظرية النقدية قد هاجم عقل التنوير وكل ما تمخضت عنه أفكار الحداثة، فإن هابرماس دافع عن العقل، ونظر إلى الحداثة على أنها مشروع لم يكتمل بعد. وعندما نادى بعض المحدثين بأن تتخلى الفلسفة عن دور المرشد أو القاضي الذي يعين للعلوم مكانها ومناهجها ووظيفتها، وحاولوا تبرير قولهم بخلع الفلسفة عن عرشها بزعم أن الأفكار الأساسية (مثل الحقيقة والمطلق) ليست شروطا ضرورية للحياة البشرية، بل من الممكن أن تسقطها البشرية من حسابها؛ أقول عندما نادوا بذلك، تصدى هابرماس للدفاع عن دور الفلسفة وضرورة ارتباطها بالعقل، ولكنها عنده ليست دليلا للعلوم أو المعرفة، وإنما تشغل مكانها داخل العلوم، بمعنى أن الفلسفة لا تضع حدودا للعلوم ومناهجها، بل تكون هي نفسها منخرطة في هذه العلوم ومفسرة لها.
أكد هابرماس - إذن - على دور الفلسفة «باعتبارها منخرطة
Stand-in
في المجتمع، وأكد على علاقتها بالأبحاث التجريبية العينية، فلم تعد وظيفة الفلسفة أنها الحاكم المطلق في العلم والثقافة، بل دخلت في علاقة مع العلوم الإنسانية وتاريخ العلم، ومع فلسفة اللغة واللغويات التجريبية.»
48
ويمكن القول إن محاولة هابرماس الأساسية - منذ كتابه «المعرفة والمصلحة»، وحتى «نظرية الفعل التواصلي» - هي وضع إطار عمل شامل للعقلانية والتعقل. إن التفكير الفلسفي يبدأ بتأمل العقل المتمثل في المعرفة، والكلام والفعل، ويحتفظ بدوره الرئيسي «كحارس للعقل»، وبذلك يقدم هابرماس نوعا من «الخطاب المهجن» الذي يدمج الأفكار الفلسفية في سياق البحث التجريبي معارضا بذلك التصورات والمفاهيم التقليدية للفلسفة.
وإذا كان الجيل الأول من مؤسسي «النظرية النقدية» قد اقتصر على نقد أفكار وعقلانية الحداثة، واكتفوا بتوجيه سهام النقد إلى كل أوجه الحياة الفلسفية المحيطة بهم، فإنهم لم ينجحوا في بلورة نظرية نقدية نسقية، ولم يقدموا في النهاية غير نظرة تشاؤمية إلى الوجود والتاريخ عندما عجزوا عن إمكانية التغيير، فإن هابرماس يؤكد أن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد، ولكنه يؤكد من ناحية أخرى أن «فلسفة الوعي وفلسفة الذات قد استنفدت كل طاقاتها، ويتعين إدخال مسألة التفاهم والتواصل لتنشيط التفكير الفلسفي في اللغة والزمن والذات والحداثة والعقل.»
49
ولذلك أسس هابرماس نظرية فلسفية أطلق عليها اسم «نظرية الفعل التواصلي» تتخذ من النقد مرتكزا لها، وتستند إلى صياغة جديدة للعقلانية قائمة على التواصل بين الذوات الفاعلة في المجتمع. ويقدم هابرماس مفهوما للتفاعل يقوم على الممارسة الاجتماعية التي تصاغ باللغة العادية. وتقوم على أخلاقيات الحوار بين أفراد المجتمع، ويتم توظيف اللغة من أجل التفاهم للتوصل إلى نوع من الاتفاق بين الذوات. (3-8) البنيوية
بعد أن انحسرت الوجودية كفلسفة من الساحة الثقافية في الغرب الأوروبي، ظهرت «موضة» البنيوية في الساحة الثقافية الفرنسية على وجه الخصوص، واكتسحت ميادين شديدة التنوع، منها ما يختص بمجال اللغويات وأهم أعلامه جاكوبسون وشومسكي، ومنها ما ينتمي إلى علم النفس ويمثله لا كان، ومنها ما يختص بالنقد الأدبي الذي يهتم بالبنية الفنية للنص، مثلما فعل رولان بارت الذي انتقد سيطرة أيديولوجية المؤلف سواء في الأدب أو الفلسفة باعتبار أن سلطة المؤلف تعبر عن تاريخ ومجتمع وتحيل إليهما، وبارت يريد إلغاء هذه السلطة لفهم النص الأدبي بعيدا عنها. أما في ميدان الفلسفة، فيعد فوكو أحد أشهر أعلام البنيوية، على الرغم من تنكره أحيانا من الانتماء إليها. وكان ألتوسير بنيويا في تأويله للماركسية، ثم يأتي ليفي شتراوس مؤسس الأنثروبولوجيا البنيوية. وكان للتطور المعاصر للعلوم والممارسة الاجتماعية فضل كبير في ظهور البنيوية، كما كان علم اللغة أحد مصادرها.
تعتبر البنيوية منهجا علميا أكثر منها مذهبا فلسفيا، وعداؤها للنزعة التجريبية والنزعة التاريخية هي أهم ما يميزها. أثارت البنيوية ردود أفعال متباينة - كما أشرنا في المقدمة - بين الحماس العاطفي لها والرفض الغاضب عليها. أنكرت الذات واهتمت بالنسق «اللغوي»، كنسق منطقي لا يتوافق مع الواقع؛ فأصبح البحث البنيوي لا يتجه نحو الموضوع، بل نحو نسق الدلالات؛ بمعنى آخر أصبحت الدلالة اللغوية من المفاهيم الأساسية في النزعة البنيوية بمختلف أشكالها، وأصبحت اللغة هي الحقيقة الموضوعية التي لا تظهر إلا باختفاء الذات.
كانت الأنثروبولوجيا البنيوية هي ميدان بحث ليفي شتراوس (1908م-...)، وقد كان «للبحوث اللغوية دور عظيم الأهمية في تحديد الاتجاه الذي سارت فيه بنيوية ليفي شتراوس، وفي صبغ أبحاثه الأنثروبولوجية بطابعها المميز.»
50
لم يكتف شتراوس - في أبحاثه - بالوقوف على ثقافة بعينها، بل سعى إلى الوصول للمبادئ الأساسية التي يشترك فيها العقل البشري في كل زمان ومكان، وتكون البنية العامة للفكر البشري. وقد كان دي سوسير (1857-1913م) هو الذي أوحى لشتراوس بذلك؛ ففي الوقت الذي كان فيه علماء اللغة يربطون بين تطور اللغة وتطور المجتمع، فإن دي سوسير «لم يعد يهتم بالبحث التكويني التاريخي، وقلب العلاقة بين النسق والتاريخ، وقد ميز عالم اللغة بين اللغة باعتبارها مجموعة من المواضعات المتفق عليها، والتي تتيح استخدام اللغة وممارستها عند الأفراد وبين الكلام الذي يمثل تلك الممارسة نفسها.»
51
أي أن هناك اتساقا يحد العلاقة بين عناصر اللغة بدون أن يكون لها علاقة بالعالم الخارجي الذي تعبر عنه أو تدل عليه.
يعد ميشيل فوكو (1915-1980م) من أكثر البنيويون شهرة. وكان كتابه «الكلمات والأشياء» من أكثر كتبه التي أثارت ضجة كبرى، ولكن بعض الباحثين رأى أن هذه الضجة مؤقتة. «إذ إن الكتاب بعد مضي عشر سنوات على نشره، لم يثبت قدرته على الصمود للزمن»، وقد طبق فوكو منهجه الحفري (الأركيولوجي) على دراسته للعلوم الإنسانية؛ ففي هذا الكتاب يعرض «صور العقل الأوروبي في القرن العشرين منذ عصر النهضة، وفيه يحاول أن يهتدي في كل عصر إلى عناصر الثبات وراء التحول الظاهري، وأن العناصر الثابتة هي الأساسية والجوهرية، وأن العناصر المتحولة والمتغيرة سطحية عرضية.»
52
واهتم فوكو - في المراحل الأخيرة من تطور تفكيره - اهتماما كبيرا بتحليل الأشكال المختلفة من الممارسات الخطابية لإبراز التمايزات والاختلافات التي تنشأ في الأشكال الخطابية. وعلى الرغم من استمراره في تحليلاته الأركيولوجية، إلا أنه ابتعد إلى حد كبير عن البنيوية، واقترب من أفكار فلاسفة التأويل، فبدأ البحث عن الدلالة في الأشكال الخطابية المتنوعة.
وعلى الرغم من أن فوكو يصف نمط تفكيره بأنه فلسفة نقدية، إلا أن البنيوية نفسها تعرضت للكثير من النقد بحجة أنها أنكرت الفاعلية الإنسانية، وتصورت إمكانية بناء أنساق تجريدية ثابتة وساكنة بعيدا عن حرية الإنسان وفاعليته، وعلى الرغم من محاولة بعض البنيويين الدفاع عن أنفسهم من تهمة معاداة النزعة الإنسانية، وإن أنساقهم التي توصف بأنها مجردة وتستبعد الذات والتاريخ هي ثمرة دراسات عميقة لفترات تاريخية هامة في حياة الجنس البشري، وهي التي تمثلت في المجتمعات البدائية الأولى، كما أن دراساتهم أيضا هي التي أضفت على الأساطير نوعا من المعقولية بعد أن ظلت حقبة طويلة من الزمان خارج نطاق العقل والمعقول. على الرغم من كل هذا الدفاع، فإن التطور التاريخي نفسه قد أثبت أن البنيوية لم تستطع الصمود طويلا أمام عالم يموج بالمتغيرات، وأن فاعلية الإنسان بإمكانها التدخل في مجريات الأمور لزعزعة كل الأنساق الثابتة والمستقرة، ولذلك سرعان ما انحسرت البنيوية بأسرع مما توقع روادها وعارضتها تيارات أخرى أطلقت على نفسها اسم «ما بعد البنيوية» أو «ما بعد الحداثة» تركت أثرا كبيرا على الفكر الفرنسي المعاصر. (3-9) ما بعد الحداثة
هكذا حدث نوع من الانتقال من البنيوية الحداثية إلى تيارات «ما بعد البنيوية» أو «ما بعد الحداثة» التي استندت إلى نقدها للبنيوية، وأكدت على «التفاعل المتبادل بين القارئ والنص، ولا ترى ما بعد البنيوية أن ثمة شيئا قائما خلف اللغة مثلما كانت تذهب البنيوية، وبذلك فهي إعلان بنهاية التفكير البنيوي في العلوم الإنسانية.»
53
وربما لا نبعد عن الحقيقة إذ قلنا إن فلسفات «المابعدية» على اختلافها وتنوعها - وهي التي أشرنا إليها في المقدمة - كانت تعبيرا عن السخط والتمرد على التقدم التكنولوجي في المجتمعات الصناعية والرأسمالية، وعلى العقلانية الأداتية التي أتت بها الحداثة الأوروبية منذ عصر النهضة، وازدادت بشكل مذهل في الفترة من 1850م حتى 1950م. إن ما بعد الحداثة تقدم نفسها تاريخيا ونقديا في علاقتها بالحداثة، وكانت نتيجة انهيار ألوان مختلفة من اليقين التقليدي أو التاريخي بحيث انتهت الحداثة، أو أصبحت في حكم المنتهية (على الرغم من إيمان البعض - كهابرماس - بأن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد)، بمعنى آخر نستطيع أن نقول إن «ما بعد الحداثة» هي الوعي بنهاية الحداثة. وكانت هذه هي النظرة الأساسية لمن يسمون فلاسفة ما بعد الحداثة، والتي أدت بهم إلى الموقف النقدي من الحداثة، وتمثلت في تجربة جديدة تظهر في شكل التحدي للتقاليد والسلطة، ومراجعة وفحص المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا وتفكيكها لبيان نزعتها المنطقية المركزية، وفي تبني كل ما هو جديد أو غير مألوف. كما تتجلى أيضا في الكشف عن المسلمات والقوى التي كانت فاعلة في الرؤيا الحداثية، وإخضاع هذه القوى الأيديولوجية والتقنية للتحليل النقدي الدقيق،
54
أو بالأحرى للتحطيم أو التفكيك.
تميزت تيارات «ما بعد الحداثة» بسمات خاصة أولها ارتباطها بعلوم اللغة وعلم الدلالة والمعنى. كما حدث نوع من الامتزاج - في هذه النوعية من الدراسات - بين الفلسفة والنقد الأدبي؛ فكان هذا الأخير هو الميدان الرئيسي الذي شهد التطبيقات العملية لهذه التيارات. وأخيرا تقوم هذه الدراسات على المناهج النقدية أو التفكيك بمعناه الإيجابي والسلبي معا . لقد قامت فلسفة التأويل (الهرمنيوطيقا) على نقد وتفكيك النصوص الأدبية من أجل الفهم والوقوف على المعنى والدلالة والقيمة التي ينطوي عليها النص ، أي أنه تفكيك من أجل البناء. بينما تقوم التفكيكية على المعنى السلبي للكلمة والهادف إلى نقد وتفكيك النص للوقوف على التناقض والاختلاف بداخله، أي أنه نقد لا يتجاوز مرحلة الهدم. تمثلت أفكار ما بعد الحداثة - إذن - في عقلانية التأويل والتفكيك وفلسفة الاختلاف. (3-10) فلسفة التأويل (الهرمنيوطيقا)
تمتد جذور التأويل كمنهج نقدي إلى العصور الوسطى عندما تمثلت في تفسير وتأويل النصوص الدينية واستنكاه المعنى الكامن في النص من الداخل، ولكنها تميزت في الربع الأخير من القرن العشرين بأن أصبحت اتجاها فلسفيا يهدف إلى نظرة جديدة إلى العالم وإلى الوجود عن طريق تفسير النصوص وتأويلها، وانفتاح الذات على الآخر من خلال عملية الفهم التي ترتكز في المقام الأول على اللغة والكلمة كرمز لهذه اللغة. كما أعادت الهرمنيوطيقا للذات التاريخية مكانتها بعد أن أنكرتها البنيوية. وفلسفة التأويل هي نتاج امتزاجات فلسفات عديدة كالفلسفة الوجودية والمنهج الظاهرياتي والمنهج البنيوي. لقد أخذت من هيدجر فكرة أن وجود الإنسان أسبق من بحثه عن المعرفة، أي أن الإنسان ككائن موجود أسبق منه ككائن عارف. وبذلك تحولت الفلسفة في الهرمنيوطيقا إلى دراسة انخراط الإنسان في العالم، كيف يفهم العالم ويفهم نفسه من خلال العالم، أي كيف يتحول من كائن معرفي إلى كائن يصنع وجودا جديدا، وبذلك تحولت الفلسفة إلى فهم الإنسان لنفسه بشكل جديد بتأسيس عقلانية جديدة.
يتفق فلاسفة التأويل على أن التشكلات المختلفة للغة وممارستها وتحولات آفاق المعنى فيها ليست خالية من الأغراض والمصالح والرغبات والبحث عن القوة والسلطة، فليس هناك معنى للقول ببراءة اللغة؛ لأن تشكلات اللغة والمعنى دائما تنطوي على مصالح وأهداف وصراعات ورغبات ... إلخ، وبذلك يؤكد فلاسفة التأويل مسألة الفهم التأويلي الأصيل في سبيل بحث مشترك عن موضوعية الموضوع، والكشف عن التحيزات والأحكام المسبقة والكامنة في بناءات الهيمنة والسيطرة،
55
أي رفع الأقنعة عن مفاهيم القوة والسيطرة الكامنة في اللغة واستخداماتها، وكأن أزمة اللغة المعاصرة ليست شيئا آخر سوى «التأرجح بين إزالة الحجب التي يختفي المعنى وراءها، واستعادة المعنى الحقيقي.»
56
ولما كانت الهرمنيوطيقا منفتحة على كل ألوان المذاهب الفلسفية والاجتماعية والعلوم الإنسانية بصفة عامة، وكانت أيضا ذات روابط وعلاقات وثيقة بمختلف مناهج النقد الأدبي، فلا نستطيع بطبيعة الحال أن نتتبع تطبيقاتها على جل هذه المجالات المعرفية، لذلك سنعرض باختصار للمنهج الهرمنيوطيقي عند اثنين من أشهر أعلامه وهما بول ريكور وجادامر.
يعرف بول ريكور (1913م-...) بأنه فيلسوف المعنى الذي يهتم بالدرجة الأولى بتنظير المنهج الهرمنيوطيقي من أجل الوقوف على المضامين الدلالية للنصوص. ويختلف بول ريكور عن رواد الهرمنيوطيقا «بالقدر الذي يتجاوز فيه المجال المعرفي الضيق للنصوص التراثية في علاقتها بتطور فقه اللغة الكلاسيكية والعلوم التاريخية، وبالقدر الذي يطرح فيه قضية التفسير وفهم التاريخ كجزء من مجال أوسع هو مجال الفهم مرتكزا في ذلك على الجوانب النفسية والحياتية والتاريخية واللغوية التي تتجاذب النص في علاقته الحية المتجددة بضمير المفسر.»
57
وحديث ريكور عن العلاقة الحية بين النص والمفسر يجعله قريبا من المنهج الفينومينولوجي إلى حد كبير، كما يقربه أيضا من هيدجر أكبر فلاسفة الوجود المعاصرين عندما رأى أن اللغة هي تجلي الوجود في العالم، «ومن ثم فإن تفسير النصوص هو تفسير للوجود، ومهمة تفسير النصوص هي مهمة الوعي بالوجود، وهكذا ارتبط المبحث اللغوي في النصوص بالمبحث الأنطولوجي في الفلسفة؛ فتفسير النصوص هو قراءة للغة الوجود وسماع صوته كما تتجليان فيها.»
58
ويحاول ريكور «تأسيس الفهم على اكتشاف المستويات الدلالية والرمزية للغة التي تتيح للذات المدركة أو العارفة فهم نص من النصوص أو تفسير التاريخ انطلاقا من رؤية معينة للحياة»،
59
لكن محاولة ريكور - تأسيس معرفة بالوجود - تختلف عن محاولة فهم حقيقة الوجود العام المباشر الذي يقصده هيدجر؛ لأن الوجود الذي يعنيه فيلسوف التأويل هو الوجود الدال والمرموز.
إذا كان للبنيوية تأثير على المنهج الهرمنيوطيقي، فهي - أي البنيوية - تعد عند ريكور البداية التي ينطلق منها، وهي كمنهج علمي تتطلب الانفصال التام بين ذاتية الباحث وموضوع بحثه، وبالتالي تختلف عن التفسير الرمزي الذي ينتهجه، ولأنه مدرك للفرق الجوهري بين المنحى البنيوي الظاهري وبين المنحى الهرمنيوطيقي التأملي، أخذ يبحث عن «العلاقة التي يمكن أن تربط بينهما كقطبين متوازيين من أقطاب المعرفة والوجود: القطب الموضوعي للمدخل البنيوي من جهة، والقطب الوجودي أو الأنطولوجي للمدخل الهرمنيوطيقي من جهة أخرى.»
60
وعكف بول ريكور على تطبيق منهجه التأويلي على النصوص الأدبية بكل أشكالها في محاولة لإثبات كيف أن الرمز والاستعارة والمجاز ليست فحسب أشكالا أدبية أو محسنات بديعية لإضفاء الجانب الجمالي على العمل الأدبي، بل إنها تتحول من خلال التأويل إلى نوع من الوعي بالوجود، أو نوع من تحقيق الذات لذاتها وكينونتها الحرة ووعيها بنفسها وإمكاناتها.
وننتقل إلى القطب الآخر من أعلام فلاسفة التأويل وهو هانز جورج جادامر (1900م-...) الذي أعطى للهرمنيوطيقا بعدا أشمل وأكثر عمقا عندما اعتبرها استمرارا للفلسفة العملية بأساليب مختلفة. ويصر جادامر على أن «الوعي هو دائما وجود أكثر من أن يكون وعيا، وأن وجودنا التاريخي سابق على أي فصل تجريدي بين الذات والموضوع في المعرفة، كما أنه هو أساس هذا الفصل. ومهمة الهرمنيوطيقا الفلسفية أن ترفع إلى مستوى الوعي التأملي تلك القدرة الإنسانية الأساسية على التواصل المعقول مع الموجودات التي تعيش معنا. وذلك لتحقيق الفهم المتبادل من خلال اللغة، وهي بهذه المثابة - أي الهرمنيوطيقا - تظل سابقة على نوع معين من الفعل العملي، كما تظل كذلك مرتبطة به.»
61
والموضوع الأساسي للتأويل الفلسفي عند جادامر هو الدور الرئيسي الذي تقوم به الأخطاء والأحكام المسبقة في الفهم: «إن التحيزات
غير العادلة ليست بالضرورة خاطئة وغير مبررة، بحيث تشوه الحقيقة بشكل لا يمكن تجنبه. فالواقع أن تاريخية وجودنا تستلزم أن يشكل التحيز، بالمعنى الحرفي للكلمة (أي الأحكام المسبقة) التوجه الأصلي لقدرتنا الكلية على التجربة. التحيز إذا هو أساس انفتاحنا على العالم.»
62
وهو أيضا أساس فهمنا له، فالفهم «ليس أسلوبا ذاتيا على الإطلاق تجاه الأشياء المعطاة، وإنما يختص بالتاريخ المؤثر لما يفهم، أي أنه بمعنى آخر فهم متعلق بوجود ذلك الذي يفهم.»
63
وهكذا يكون الفهم عند جادامر أسلوبا في الوجود التاريخي.
ويؤكد جادامر، مصداقا لهيدجر أو استمرارا له، أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة موضوعية في التاريخ؛ لأنها - أي الحقيقة - أسلوب في الوجود التاريخي قبل أن تكون معرفة يمكن أن تصبح موضوعية. ويمكن أن ننظر إلى «الدلالة الأنطولوجية للهرمنيوطيقا من خلال التحدي الذي تقدمه للمنظور الفلسفي الذي يفرض الانقسام الواضح بين الذات والموضوع.»
64
ويؤكد جادامر الطابع الأنطولوجي لوجودنا ولأسلوب فهمنا للعالم في واحد من أهم إنجازاته وهو كتابه «الحقيقة والمنهج» محاولا إثبات أن الهرمنيوطيقا - التي هي فن الفهم - لها «دلالة وجودية عامة، فلم تعد تشير ببساطة إلى آلية تفسيرية تستخدم داخل أنظمة خاصة مثل اللاهوت والتشريع، وإنما المسألة الأساسية هي كيف يكون الفهم بصفة عامة ممكنا.»
65
ولذلك ينسب جادامر الأخطاء إلى إمكانية الفهم، وأن الوصول إلى المثل الأعلى للتنوير، وهو المعرفة الكاملة - أي المعرفة المتحررة من كل وجهات النظر الخاصة أو من كل التحيزات - هو أمر مستحيل، بل محض وهم باعتبارها تصورا حديا أو نهائيا؛ لأننا في الأصل كائنات موجودة وفاعلة في التاريخ، والوعي نفسه هو أحد أساليب وجودنا التاريخي؛ أي أن الوعي نفسه محدود ومحدد بالتاريخ.
لقد أعطى جادامر للهرمنيوطيقا بعدا أعمق عندما جعل للفهم دورا أساسيا في فلسفته التأويلية، وعلى الرغم من أن مقولة الفهم قديمة في تاريخ الفلسفة، إلا أن جادامر توسع في إمكانيات الفهم توسعا لا حد له؛ فالهرمينوطيقا لديه هي مفتاح لفهم البشرية وفهم الآخرين: «الفهم حدث يتم بشكل متبادل بين كل من المفسر والنص، الذات والموضوع. ولهذا فإن البحث عن معنى موضوعي، في ذاته، غير ملائم لاستيعاب الفهم بوصفه ذاتا شفافة تحتوي المضمون في ذاتها أو تتحكم تحكما نهائيا كاملا في موضوعها.»
66
وربما تتضح أهمية مفهوم أو نظرية الفهم عند جادامر في الأزمة التي واجهها العالم في العصر الحديث والمتعلقة بالقدرة على فهم الماضي وفهم الثقافات الأخرى، ويريد جادامر أن يقيم نوعا من التواصل اللغوي بين البشر لفهم أنفسهم وفهم الآخرين بحرية وتعاطف. وقد دافع جادامر عن الذاتية، وكيفية انصهار الذات في النص والتحامها بأفقه، فوعيه التاريخي الفعال يتضمن من الوجود أكثر مما يتضمن من الوعي.
هكذا حدث عن جادامر نوع من التحول من التأمل في الذات على الطريقة الديكارتية إلى نظرة جديدة تماما: إن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بتعامله مع العالم وبقصديته المتجهة نحو الآخرين من خلال اللغة، ومن خلال سلوكه مع الأشياء والأحداث. وهذه نظرة مختلفة تماما إلى الإنسان الذي لا يعرف نفسه - كما يرى جادامر - ولا يقوم بعملية المعرفة عن طريق الفصل بين الذات والموضوع؛ لأن وجود الإنسان التاريخي أسبق من بحثه عن المعرفة أو من معرفته لنفسه. لقد تحولت الفلسفة الآن إلى التأمل في الشروط التي لا غنى عنها للقصدية (باعتبارها ماهية الوعي عند هوسرل)، ويكشف هذا التأمل أننا قبل كل شيء كائنات فاعلة ومجسدة في العالم، وأن معرفتنا للعالم تقوم على تعاملنا معه، وأنه ليس هناك مجال «لموضعة» سيطرتنا على العالم باعتبارنا كائنات فاعلة فيه.
67
وقد أصبحت مهمة الفلسفة هي توضيح هذه الخلفية أو هذا الموقف، وبيان ما ينطوي عليه ومراجعته باستمرار بحيث نصل إلى فهم أفضل للإنسان ككائن فاعل وعارف ومنفتح على العالم وعلى الآخرين انفتاحا حرا.
هكذا تحول المثل القديم من معرفة الذات إلى صنع الذات بحدوث تحول في التراث العقلي الذي كان يرتكز على النقد الذاتي، فلم تعد المعرفة من خلال معرفة الذات فقط. بل من خلال التعامل مع الآخرين والأشياء من حولنا عبر اللغة. بذلك تحولت الفلسفة إلى بحث في اللغة، ولهذا السبب نفسه ينتظر الكثير من فلاسفة التأويل لتأسيس فلسفة حرية وانفتاح عن طريق لغة مشتركة يكشف فيها عن جذور الهيمنة والكذب والخطأ والسيطرة؛ لكي تستهدف الوصول إلى لغة إنسانية وعقلانية تجمع بين البشر على أساس الثقة المتبادلة والحوار المفتوح، ومن ثم يبحث فلاسفة التأويل في الأيديولوجيات في محاولة لرفع الأقنعة عن بعض المفاهيم المستخدمة مثل السلطة، والمعنى والأيديولوجيا ... إلخ. (3-11) التفكيكية
ننتقل الآن من القراءة الهرمنيوطيقية - التي تفضي إلى «المعنى الحقيقي» أو إلى دلالة النص الفلسفي أو حقيقة الموضوع الذي يطرحه النص - إلى نوع آخر من فلسفة قراءة وتفسير النصوص وهي التفكيكية التي يحلو للبعض أن يصفها بأنها تعبر عن أفكار لنهايات: نهاية التاريخ ونهاية الفلسفة. والتفكيكية هي آخر الفلسفات أو التيارات التي ظهرت في الربع الأخير من القرن العشرين في محاولة لتفكيك ثوابت الفكر الفلسفي الغربي من أنساق ومذاهب ومفاهيم منطقية وعقلية، أنها بمعنى آخر خطاب نقدي - في نهايات القرن العشرين - لكل إبداعات الحضارة الغربية وثوابتها العقلية المستقرة. وجاك دريدا (1931م-...) هو أحد أقطاب هذا الخطاب التفكيكي، وقد احتل مركز الدائرة في المسرح الفلسفي الفرنسي عام 1967م بنشر ثلاثة كتب كانت بداية مشروعه لتفكيك الميتافيزيقا الغربية أو ما سماه مركزية اللوجوس
Logo centrism .
اكتفى هذا الخطاب التفكيكي بالنقد والهدم بغير أن يتجاوزه إلى مرحلة البناء، أو إيجاد خطاب بديل، أي أنه لم يتجاوز الجانب السلبي من النقد، واستخدم كل الأدوات النقدية بدون أن يحاول بناء صرح خاص به، أو نظرية جديدة بديلة. تبحث القراءة التفكيكية عن التوتر بين الإيماءة والتعبير في النص، وقد قدم دريدا - لأول مرة - لفظة جديدة للقاموس الفلسفي وهي الاختلاف
différance ، أي أنه لا يبحث في النصوص عن التساوق والتكامل، بل يلقي الضوء على التعارضات والمفارقات التي تميز سلسلة الأضداد المشهورة التي تختص بها «متقابلات الحضارة الغربية: كالعقل والأسطورة، والمنطق والبلاغة، والعقلاني والحسي، والكلام والكتابة، والحرفي والتصوري أو المجازي، والطبيعة والثقافة، والحد والدلالة. ويزعم دريدا أن هذه التصورات المتضادة ليست من طبيعة الأشياء، وإنما تعكس استراتيجيات الاستبعاد والقمع التي لم تستطع المذاهب الفلسفية الغربية الإبقاء عليها إلا على حساب ما يشوبها من تناقضات داخلية ومفارقات كامنة فيها.»
68
ومهمة التفكيك هي إظهار هذه المتناقضات إلى النور.
ليست التفكيكية نوعا من القراءة الجدلية، وليست قراءة تأويلية تقصد الدلالة والمعنى، ولكنها قراءة تهدف إلى تفتيت النص من الداخل، وإظهار أوجه الاختلاف والتناقض داخله، بحيث تتكاثر القراءات، ويحيلنا النص إلى نصوص أخرى كامنة فيه
Interteatuality (أو التناص كما يطلق عليه المشتغلون عندنا بالنقد الأدبي). التفكيكية إذن قراءة تلقي الضوء على التصورات المتضادة، ومن ثم تضع مفاهيم الوجود التي كانت مسئولة عنها موضع السؤال. لقد فسر دريدا القراءات الإنسانية لكل من هيجل وهوسرل وهيدجر التي احتلت مكانة أساسية في الحياة العقلية في فرنسا بعد الحرب، سواء كانت فكرة ال «نحن في ظاهريات هيجل أو التوجه إلى بداهة المعنى عند هوسرل، أو حتى محاولة هيدجر للوصول إلى حقيقة الوجود العام عن طريق تحليلاته الوجودية للموجود الإنساني الملقى به هناك أو ال
Dasein . كل هذا يدل على أن النزعة المنطقية العقلية ما زالت مسيطرة على الفكر الغربي، ومعنى هذا أننا جميعا لم نتخل عن البحث عن غاية أو هدف نهائي.»
69
وهذا ما جعل هدف دريدا محاولة اكتشاف إمكانية وجود فلسفة خالية من المركز، وخالية من أي ذات متعالية وبغير هدف أو غاية.
يتميز دريدا بنزعة شكية ترتاب في كل الأوليات التي سادت التراث الفلسفي الغربي مثل: «تقديم الحضور على الغياب، والكلام على الكتابة، والتشابه على الاختلاف، والأبدية على الزمن المتناهي»، وهو ببرنامجه في التفكيك يحاول أن «يتحدى هذه الأوليات، وأن يحدد الإطار النقدي لكل النصوص الأساسية في هذا التراث الغربي، فيتساءل عما أظهرته وعما سكتت عنه.»
70
لم يهدف دريدا إذن بمنهجه التفكيكي لوضع نظرية بديلة، ولكنه اكتفى فقط بفحص أدوات ومواد واستراتيجيات الآخرين دون أن يحاول أن يبني بناء خاصا به، ولقد كان هو نفسه على وعي بذلك، و«يعلم تماما أن التفكيك لا يمكن أن يصبح هو النموذج السائد الذي يجب أن يحل محل جميع النماذج الأخرى، وإلا فإنه يكون قد استبدل بنموذج عقلي مركزي نموذجا عقليا مركزيا آخر.»
71
ولكنه أراد فقط وقف التصورات الميتافيزيقية المتوارثة في خطابنا الفلسفي، وكأنما أراد أن يذكرنا بأننا «لم نفهم شوق نيتشه في زرادشت إلى ذلك الإنسان الذي يرقص فرحا خارج بيت الوجود»، فأراد أن يتحدى بمنهجه التفكيكي كل الأفكار المسبقة أو القبلية التي سادت الخطاب الفلسفي الغربي، ولكنه منهج لم يتجاوز - كما قلنا - مرحلة النقد والهدم إلى مرحلة التأسيس والبناء.
بعد هذا العرض لأهم تيارات الفلسفة الغربية في القرن العشرين ، وبعد أن وضع الفلاسفة أسس نقدهم للميتافيزيقا وتحليلاتهم للمعنى والأشكال اللغوية، وبعد أن كادت الفلسفة أن تتحول إلى منطق وفلسفة للغة، فهل صدق الشعار الذي أعلنه البعض عن نهاية الفلسفة؟ وإذا لم يكن هذا الزعم صحيحا، فما هي إذن الوظيفة الباقية للفلسفة؟ إذا كان من الصحيح أن الفلسفة لم تعد تدعي أنها تضع مذاهب شاملة، وعلى الرغم من أنها سلبت الكثير من وظائفها التقليدية، إلا أنه من الصحيح أيضا القول إنه حدث نوع من التحول للتفكير الفلسفي يشهد عليه تاريخ الفلسفة طوال القرن العشرين، بحيث يظل السؤال عما يبقى لها مشروعا، ولعله قد اتضح من العرض السابق أن الدور المهم الذي يكفل فرصتها في البقاء هو وظيفتها النقدية، بمعنى أنها وسيلة أو أداة نقدية سواء للعلم الوضعي أو للمجتمع البشري وتنظيم حياة الإنسان فيه. ولا عجب في هذا، فقد رأينا أن هذا هو الدور الذي حدده لها الفكر الغربي الذي طبع على النقد الذاتي المستمر. ولا حاجة بنا لأن نذكر القارئ بأن ما عرضناه من اتجاهات فلسفية ليس كافيا ولا شاملا، بسبب ما فرضته ظروف هذا البحث. (4) الإسهام الفلسفي العربي بين الترديد والتجديد
والآن علينا أن ننتقل إلى الجانب العربي لنتعرف على إسهام الفلسفة العربية في التيارات الفكرية التي اجتاحت الساحة الغربية في القرن العشرين، وحقيقة الأمر أن طرح هذه القضية بهذه الصيغة يغلب عليه طابع المبالغة والتفاؤل معا، فلا نستطيع بطبيعة الحال أن نقول إن هناك فلسفة عربية خالصة بالمعنى الدقيق لكلمة فلسفة، أو إن هناك مذاهب ومدارس فلسفية عربية بالمعنى المتعارف عليه في الفكر الغربي، ولكن هناك بالتأكيد محاولات للتفلسف متأثرة بالتيارات المتنوعة للفلسفة الغربية. وإذا توخينا الدقة قلنا إنه نوع من التلقي أو الاستقبال بأشكال مختلفة لتلك التيارات تمثلت في حركة نشطة لترجمة وتقديم وتعريف وعرض المذاهب الفلسفية الغربية على تنوعها، كما أن هناك أيضا محاولات لمفكرين عرب لتأصيل بعض الاتجاهات الفلسفية داخل الواقع الثقافي العربي. وسوف نعرض الآن نماذج منها بقدر ما تسمح به المساحة المتاحة لهذا البحث.
بالعودة إلى فلسفات بداية القرن نجد صدى أفكار كل من برجسون وفلسفة الحياة على الساحة الأدبية العربية على وجه الخصوص. وعلى الرغم من ترجمة أغلب أعمال برجسون إلى العربية، إلا أننا لم نجد لها انعكاسا من الناحية الفلسفية الدقيقة خارج أسوار المؤسسات الأكاديمية (وذلك باستثناء جوانية عثمان أمين التي بقيت شذرات متفرقة لم تكتمل في بناء متكامل)، بل انحصر تأثيرها على الأدب والأدباء، وخاصة في نظرتها الحيوية إلى الإنسان، واستعادة الاهتمام بالشعور الحي المتدفق والحرية والطاقة الروحية، وربما يكون هذا هو السبب في انجذاب المفكرين العرب إلى فلسفة برجسون بسبب ما وجدوا فيها من نزعة رومانسية تناسب العقلية العربية إلى حد كبير، وإن كانت هذه النزعة قد انحسرت عنها الأضواء كما انحسرت عنها في موطنها الأصلي تماما. •••
غلب على الفكر العربي التيار الوجودي، وخاصة فلسفة سارتر التي حظيت خلال الخمسينيات والستينيات بالقسط الأكبر من الاهتمام لا سيما بعد ترجمة جل أعمال سارتر إلى العربية، وليس هذا بالأمر الغريب، فقد رأينا كيف انتشر هذا التيار في البلدان الغربية انتشار النار في الهشيم. وعلى الرغم من أن تأثير الوجودية كان أعظم على الشعراء والقصاصين العرب، فقد حاول بعض المشتغلين بالفلسفة تأصيل التيار الوجودي في الفكر العربي بالعودة إلى التراث، ومحاولة تطبيق الوجودية، وبخاصة مفهوم القلق، على الفكر العربي كما فعل عبد الرحمن بدوي في كتابيه «الإنسانية والوجودية في الفكر العربي»، و«شخصيات قلقة في الإسلام»، وحتى لقد رأى البعض أنه «مفكر وجودي أضاف إلى الفكر الوجودي إضافات إبداعية ترتفع به فوق حدود النقل والتقليد والاتباع.»
72
وعبد الرحمن بدوي هو المفكر الوحيد في الفكر العربي المعاصر الذي وصف نفسه بأنه فيلسوف وعرف اتجاهه الفكري بأنه «الفلسفة الوجودية في الاتجاه الذي بدأه هيدجر.» وقد أسهم في تكوين الوجودية بكتابه «الزمان الوجودي»، وتمتاز وجوديته - على حد قوله - من وجودية هيدجر وغيره من الوجوديين بالنزعة الديناميكية التي تجعل للفعل الأولوية على الفكر، وتستند في استخلاصها لمعاني الوجود إلى العقل والعاطفة والإرادة معا، وإلى التجربة الحية، وهذه بدورها تعتمد على ملكة الوجدان بوصفها أقدر ملكات الإدراك على فهم الوجود الحي.
73
وعلى الرغم من أن عبد الرحمن بدوي زعم أنه وضع الخطوط العامة لمذهب جديد في الوجود، ووعد بأنه سيجعل مهمته في الحياة تفصيل أجزائه،
74
إلا أنه لم يكمل محاولته فقط، بل وانصرف عنها أيضا انصرافا تاما. ويعزو بعض المفكرين توقف المشروع الوجودي عند بدوي إلى تغير الأوضاع السياسية والاجتماعية والموضوعية من حوله، بالإضافة إلى تراجع المشروع الوجودي في الفكر الفلسفي المعاصر في العالم بصفة عامة، وإن لم يمنع ذلك بدوي من التمسك بالوجودية كفلسفة له.
75 •••
إذا انتقلنا إلى الوضعية المنطقية وجدنا أنها أكثر التيارات التي حاول المهتمون بها ترسيخ أسسها العلمية في المجتمع العربي الذي كان - وما يزال - يعاني من التردي في الخرافات والغيبيات من ناحية، والابتعاد عن الروح العلمية في طرح قضاياه من ناحية أخرى. وكان زكي نجيب محمود هو الذي أخذ على عاتقه هذه المهمة، ويمكن اعتباره «أحد المفكرين العرب القلائل الذين صاغوا موقفا فلسفيا واضحا، داعيا إلى الأخذ بالتفكير العلمي، مطالبا بسيادة منطق العقل. أما طريق ذلك فكان الوضعية المنطقية التي نذر نفسه لشرحها وتفصيلها وتبسيطها.»
76
وكما كانت الوضعية المنطقية هي الطفل المرعب في تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوروبا، كانت كذلك عند محاولة ترسيخها في الفكر العربي. وتعرض زكي نجيب محمود للنقد والهجوم من كل حدب وصوب، في مرحلة من أهم مراحل الفكر العربي للتخلص من اللاعقلانية التي سادته، ومواصلة طرح مشروع التنوير طرحا علميا جديدا، لقد حاول زكي نجيب محمود الخروج بمشروعه التنويري من داخل أسوار الجامعة إلى عامة الناس بدعوته التي «تكاد ترقى عنده إلى مرتبة الرسالة المقدسة، إلى قيمتي الدقة والنقد. فكتابته كلها كفاح في معركة واحدة طويلة متصلة، هي معركة الدعوة إلى الانضباط في الأفكار، والتدقيق في الأقوال، وإخضاع الأحكام الشائعة للفحص والاختبار.»
77
كانت مهمة زكي نجيب محمود في حقيقتها مهمة تحررية، أي تحرير الحياة الثقافية العربية من بعض جوانبها اللاعقلانية، وتحرير العقل من مسلمات موروثة وبديهيات غير قابلة للنقاش، ومحاولة وضعه - أي العقل - على أولى درجات المنهج العلمي. ولتحقيق هذا الهدف لم يكن أمامه من سبيل - في معركته للتنوير - غير التحليل اللغوي المنطقي ، واستخدام السلاح النقدي للوضعية المنطقية لمراجعة كل المسلمات والبديهيات الموروثة وغير المدروسة في آن واحد. ويمكن القول أيضا بأن زكي نجيب محمود بقدر ما كان وضعيا منطقيا، كان أيضا براجماتيا من حيث إيمانه بأن الفكرة هي خطة عمل، ودعوته إلى إصلاح الفكر بأن يكون «عالم الكلام» هو جانب «التخطيط» لعالم العمل والتطبيق، أنه لم يكن مصادفة أن أصبح «التخطيط» علامة من أبرز العلامات المميزة لعصرنا؛ لأن التخطيط تحليله هو أن «الفكر» خطة لعمل نؤديه أو هو لا يكون فكرا.
78
وربما انتهى البعض لذلك السبب إلى أن خلاصة تعريفات العقل والعقلانية عند زكي نجيب محمود «أنها عملية إجرائية خالصة بصرف النظر عن مبادئها وغاياتها ... فالعقل إذن مجرد سلوك عملي يبدأ من مقدمات مبدئية مفروضة أو قيم أخلاقية مطلقة، وينتهي إلى أهداف مبتغاة ... ولهذا فهو إلى جانب طابعه الإجرائي الخالص له طابع نفعي كذلك، وهو وسيلة أو أداة عملية لتحقيق غاية. وسلامته وصحته في مدى دقته في الوصول إلى هذه الغاية، إنها إذن دقة براجماتية نفعية.»
79 •••
وننتقل إلى تأثير تيار آخر على الفكر العربي ألا وهو البنيوية، وكان ميشيل فوكو هو أكثر أقطابها حظا من الانتشار في الفكر العربي الحديث. وربما يكون هذا الانتشار هو سبب أو نتيجة «الترجمات المختلفة لنصوصه وعدد الدراسات المختلفة التي تناولت الفيلسوف، والتي تعادل اهتمام العرب بفلاسفة غربيين أمثال ديكارت وسارتر وماركس، أي أولئك الفلاسفة الذين يشكلون توجها فكريا أو تيارا فكريا وحدثا ثقافيا.»
80
وقد قام بعض المفكرين العرب بتوظيف الفكر البنيوي وتطبيقه على بعض نصوص الأدب العربي القديم والحديث. وربما تكون أوضح محاولات هذا التوظيف هي انعكاسات تطبيق المنهج البنيوي على النقد الأدبي بين المتحمسين والمعارضين له، فقد تحمس له بعض المشتغلين بالنقد الأدبي (مثل جابر عصفور، وحكمت الخطيب، وكمال أبو ديب)، وعارضه بنفس القدر من الحماس البعض الآخر من النقاد (مثل شكري عياد وعبد العزيز حمودة)، وذلك لرفضهم لفكرة نقل مدارس نقدية تنتمي إلى مناخ ثقافي وفكر فلسفي محددين إلى مناخ ثقافي وفكر فلسفي مغايرين تماما. ويرى هذا الأخير أن الحداثيين العرب عندما ينقلون المصطلح النقدي الجديد، ويعزلونه عن خلفيته الفكرية والفلسفية، فإنه «يفرغ من دلالته، ويفقد القدرة على أن يحدد معنى. فإذا نقلناه بعوالقه الفلسفية أدى إلى الفوضى والاضطراب؛ إذ إن القيم المعرفية القادمة مع المصطلح تختلف، بل تتعارض أحيانا مع القيم المعرفية التي طورها الفكر العربي المختلف.»
81
وإذا صح قول هذا الناقد، فإن النتيجة المترتبة عليه هي أن ما ينطبق على النقد الأدبي يمكن أن ينسحب بطبيعة الحال على سائر المجالات المعرفية الأخرى، أي محاولة نقل فلسفات ومناهج بحث غربية وإدماجها في بنية الثقافة العربية التي تتسم بطبيعتها بسياق اجتماعي وتاريخي ومعرفي مغاير؛ مما يثير الكثير من الجدل والتساؤلات حول مدى صدق ومشروعية هذه المحاولات. وهذه حجج مردود عليها، ولكننا سنرجئ الرد قليلا.
وكما حاول نقاد الأدب العربي تطبيق المنهج البنيوي على النصوص الأدبية العربية، حاول أيضا بعض المفكرين العرب توظيف هذا المنهج في بحث التراث الفلسفي العربي، كتلك المحاولات التي قام بها العديد من مفكري المغرب العربي (أمثال محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، والتريكي، وصفدي، وغيرهم)، ولا نستطيع بطبيعة الحال تتبع المشروعات الفكرية التي طرحها أصحابها، ولكن سنكتفي بالحديث المقتضب عن مثال واحد فقط، وليكن هو المشروع الذي طرحه محمد عابد الجابري لنقد العقل العربي، وقد قدم الجابري مشروعا في نقد العقل العربي، وتحليل المكونات الثقافية العربية التي ساهمت بدورها في تكوين العقل العربي ذاته، واستهل هذه الدراسة بكتابه «تكوين العقل العربي»، الذي بدأ به مشروعه النقدي على أساس من التحليل الإبستمولوجي: «إن وجهتنا هي تحليل الأساس الإبستمولوجي للثقافة العربية التي أنتجت العقل.»
82
واستأنف هذا النقد في كتابه «بنية العقل العربي» الذي قدم فيه دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية على أساس من التحليل البنيوي. وينقسم المشروع إلى «جزأين منفصلين، ولكن متماثلين: جزء يتناول تكوين العقل العربي، وجزء يتناول تحليل بنية العقل العربي؛ الأول يهيمن فيه التحليل التكويني، والثاني يسود فيه التحليل البنيوي.»
83
وقد حدد الجابري الهدف من مشروعه النقدي للعقل العربي في «تبيان مكونات الثقافة العربية الإسلامية وفحصها ونقدها وصولا إلى إعادة بناء الذات العربية على أسس جديدة قوامها التخلص من رواسب النماذج السلبية الماضية.»
84
ومما لا شك فيه أن هذا المشروع هو جزء متميز من مشروع أكبر بدأه رواد النهضة العربية في أواخر القرن الماضي، وأوائل القرن العشرين، لخوض معركة التنوير التي شغلت أذهان كبار مفكري ومثقفي العالم العربي، ولكن مشروع النهضة أصيب بنكسة نتيجة زحف التيار السلفي الإسلامي، ولأسباب تاريخية وسياسية واجتماعية عديدة. وربما لهذا السبب أخذ الجابري على عاتقه مهمة تحرير العقل العربي من سلطة التفكير السلفي الرجعي المتزمت، ومن كل السلطات الموروثة التي قيدت انطلاقه إلى الحرية والتقدم. وقد تراوح تقييم مشروع الجابري ما بين الإعجاب به من ناحية، والمعارضة له من ناحية أخرى، فاعتبره البعض «من أبرز وأعمق المفكرين العرب الذين يتبنون النقد الإبستمولوجي للفكر العربي.»
85
وبينما استقبلت بعض الأوساط العربية مشروع الجابري على أنه «فتح جديد»، وأنه استطاع أن يرسم خريطة تضبط منطق التراث العربي الإسلامي ورؤيته، «رأت أوساط ثقافية عربية أخرى في ذلك الفتح والإنجازات التي ترتبت عليه تراجعا إلى وراء، ووجها مكرورا من أوجه إشكالية قديمة مأزومة، أو دعوة إلى صياغة أنساق مغلقة قد تفصح عن لا تاريخية فاضحة، في حين أعلن البعض أن الجابري لم يقدم أكثر من «تصنيف أكاديمي» لما قاله سابقوه، مع إفادته من المناهج الغربية»،
86
التي حاول زرعها في الواقع العربي وتكييفها مع بعض مفاهيم تراثه. •••
أما عن تلقي الفكر العربي لفلسفات ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة كما بدت في توظيف المنهج التأويلي (أو الهرمنيوطيقي) والمنهج التفكيكي، فقد كشفت عن عجز العقل العربي - في ظروفه الراهنة - عن استيعاب هذه التيارات كما تمثلت في المنهج التأويلي، ومحاولة تطبيقه على بعض النصوص التراثية. وربما يعود السبب في هذا إلى أن الروح النقدية لم تتأصل بعد في الفكر العربي، هذا بالإضافة إلى أن السمة الأساسية التي تميز العقلية العربية - وهي أنها عقلية نصية - مرتبطة أشد الارتباط بالنص الديني ، ولا تستطيع الفكاك منه، ويكفي الإشارة هنا إلى محاولات نصر حامد أبو زيد، وكيف تلقت السلفية العربية المتزمتة هذه المحاولات، وكيف تعاملت معها، عندما سعى إلى «إعادة قراءة الفكر الديني برؤية جديدة مختلفة عن أغلب القراءات السابقة بما يعيد بناءه بناء جديدا ... قراءة تقوم على التحليل العلمي النقدي التاريخي للنصوص.»
87
كان هذا الجهد الجاد - من بين جهود أخرى كثيرة - محاولة للخروج من أزمة العقل العربي التي تواجه معركة التنوير العربي، لا سيما عندما تستند هذه المحاولة في تحليلها للنصوص لاستخراج دلالتها إلى «عدة أسس منهجية ومفهومية لعل من أبرزها تسلحه بالمناهج العلمية الحديثة في إنتاج دلالة هذه النصوص مثل الألسنية والهرمنيوطيقا وعلم الاجتماع. والحرص على إنتاج الدلالة من داخل النصوص نفسها، دون أن يفرض عليها أي رؤية أيديولوجية من خارجها»،
88
ولكن تم إجهاض هذه المحاولة في مهدها من قبل التيارات السلفية الرجعية الرافضة للنقد والحوار والتغيير، والتي غلبت - للأسف الشديد - على الساحة الثقافية العربية.
وربما أيضا بسبب ارتباط العقلية العربية بالنصوص التراثية، تجد محاولات تطبيق المنهج التفكيكي من قبل بعض المفكرين والمثقفين العرب إعراضا، بل واعتراضا شديدا خاصة إذا ما تعرضت لتفكيك النصوص الوثيقة الصلة بالتراث الديني الإسلامي، كما في محاولة محمد أركون قراءة الفكر الإسلامي قراءة علمية، وتقديم مشروع لنقد العقل الإسلامي، «وتبني نمط التحليل البنيوي كمرحلة لازمة اعتمد مقاييس التاريخ الحفري في رسم حركية المفاهيم ونظام المعارف، وكانت منهجيته القائمة على الأنثربولوجيا والتحليل اللساني، السيميائي تتلخص في إخضاع القرآن الكريم لمحك النقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني التفكيكي، وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وانهدامه.»
89 •••
يمكننا أن نسأل الآن: ما مدى إسهام تلقي واستقبال هذه التيارات في إثراء الفكر الفلسفي العربي؟ إن ما يثبته الواقع الفعلي حتى الآن أن كل هذه الجهود المشكورة لم تؤت ثمارها المرجوة، ولم تساهم في ازدياد وعينا بالحاضر كما يتجلى هذا بوضوح في محاولات قراءة بعض نصوص التراث قراءة جديدة من منظور عصري ومغايرة للقراءات السائدة والمألوفة، ومسلحة بمناهج تحليلية ونقدية لاستلهام الجوانب المضيئة من التراث وتجديدها أو تطويرها وفق متطلبات العصر. وبقدر ما كانت هذه الجهود محاولة للخروج بالعقل العربي من أزمته، بقدر ما كانت صدمة له في نفس الوقت. وبدلا من أن تستخدم العقلية العربية هذه القراءات الجديدة كأحد الأسلحة الهامة في معركة التنوير العربي، استخدمتها العقلية السلفية المتزمتة في إحداث نوع من النكوص الفكري والارتداد إلى قرون طويلة مضت. وبدلا من البحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الإخفاق، نجد الأصوات تتعالى بعدم مشروعية نقل مناهج وفلسفات غربية ومحاولة زرعها في واقع ثقافي مغاير بحجج كثيرة. فهناك من وجد أن هذه الاجتهادات مجرد محاولات ل «زرع بذور أفكار جديدة في تربة جديدة دون البحث في الشروط الملائمة لنمو هذا الزرع الجديد، فقد تجاهلوا ظروف المجتمع العربي التاريخية والثقافية، حيث يهيمن التفكير الديني والغيبي، فكانوا بذلك أوفياء لأفكارهم ومذاهبهم الجديدة أكثر مما هم أوفياء لمجتمعهم وثقافته وحاجاته ومتطلباته.»
90
والغريب أن يظهر على الساحة الثقافية العربية أيضا ليس فقط من يطعن في مشروعية التلقي من تيارات غربية، بل أيضا من يشكك في فهم العقلية العربية لهذه التيارات، وذلك مثلا عندما يطرح هذا السؤال: هل استطاع الواقع الثقافي العربي أن يعي التجربة الغربية بكل غناها وأحداثها المنظورة وغير المنظورة، وهل يملك الأدوات المعرفية التي تؤهله لاكتشاف هذه التجربة،
91
ثم تطرح إجابة على هذه التساؤلات تنطوي على صيغ إنكارية. إن هذه الانتقادات والاعتراضات قد تكون مصيبة في بعض جوانبها، ولكنها أيضا مخطئة في جوانبها الأخرى. فالتراث الفكري الإنساني ليس له وطن محدد أو هو بالأحرى وطن لكل إنسان يفكر، كما أن الإبداع البشري بكل تجلياته الفكرية والعلمية والمنهجية الفكرية هو ملك للجميع، وماذا يمنع المشتغلين بالثقافة العربية من التسلح بأدوات ومناهج العصر ما داموا يطوعونها لمتطلبات مجتمعاتهم؟ وما هو المبرر أن تنفصل الثقافة العربية عن ثقافة العصر بحجة أنها ثقافة وافدة أو مناهج عربية؟ إن هذه الأدوات والمناهج تلقي المزيد من الضوء على تراثنا لاكتشاف الجوانب الحية منه، والتي تستحق أن تتطور لتواكب الحاضر المتغير ، ولكي تتخلص أيضا من الجوانب الميتة التي تعوق تطورنا، فالبديل هو الاعتكاف على ذواتنا وتراثنا دون الالتفات إلى أهمية الوعي بمعرفة عصرنا وثقافته المتطورة. ثم لماذا ننقل آخر مناهج ومدارس ومنجزات العلم والتكنولوجيا ولا ننقل الأفكار والمناهج الفكرية؟
حقيقة الأمر أن السؤال عن صحة ومشروعية التلقي أو عن نجاحها أو إخفاقها يجب أن يسبقه البحث عن الأسباب الحقيقية التي عوقت التفكير الفلسفي العربي، وعرقلت أيضا كل المشروعات الطموحة لتجديد الفكر العربي المعاصر. كما يجب أن يسبقه أيضا السؤال الأكثر أهمية وهو: لماذا اقتصرت الساحة الفلسفية العربية على تلقي تيارات ومناهج غربية ولم تبدع بذاتها فلسفاتها الخاصة النابعة من عمق مشكلاتها، فاقتصرت على التأثر دون التأثير، وارتضت أن تكون مفعولا وليست فاعلا؟ وإلى متى سنظل منفعلين ولسنا فاعلين؟ الإجابة على هذه التساؤلات تحتاج إلى دراسة عميقة لملابسات الظروف العربية التي تحول دون قيام فلسفة عربية خاصة بها، وليس هذا البحث مجالها على أية حال، ولكن لعل أهم الأسباب جميعا هو أن الفلسفة لا تزدهر إلا في مجتمع بلغ درجة معينة من التقدم الثقافي، وتوفرت له بيئة ملائمة ترعى الفكر الفلسفي، وتوفر مناخ الحرية الذي يسمح بالتفلسف. فأين نحن من كل هذا، وما زلنا نحيا في ظل تيار سلفي متزمت يضع ثوابت فكرية يحذر الاقتراب منها، ونعيش في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لا تعوق التفكير الفلسفي وحده، بل والبحث العلمي أيضا، ويكفي أن نقول صراحة إن السلطة السياسية في معظم بلدان العالم العربي لا تسمح بممارسة الديمقراطية ممارسة حقيقية، ولا تعرف منها غير قشورها وإطارها الخارجي دون مضمونها الحي.
إن المشكلة الحقيقية التي تواجه المثقف أو المفكر العربي - ولا أقول الفيلسوف فما زلنا بعيدين عن أن يكون لدينا فلاسفة بالمعنى الحقيقي - هي كيف يصبح المجتمع المدني مجتمعا ديمقراطيا قائما على الحرية. ويبقى التحدي الحقيقي للفكر العربي في لحظتنا الراهنة هو أن يمارس النقد بمناهجه ومدارسه المختلفة، وأن يفكك أغلال التقاليد التي تكبله، وأن يتحرر من الأفكار الموروثة التي لا تؤمن بحق الاختلاف والمغايرة، بل تخشى المخاطرة بتغيير القيم الثقافية البالية والجامدة، وتتهم المشتغلين بالفلسفة بالتجريد والمروق والتجديف. لكل هذه الأسباب لم تسهم المحاولات التي تحدثنا عنها إسهاما حقيقيا وملموسا في إثراء فكر فلسفي عربي، ولم تؤسس الروح الفلسفية الأصلية أو جوهر الروح الفلسفي وهو النقد الذاتي على مستوى الفرد والمجتمع، هذا النقد الذي قام عليه الفكر الغربي وشكل أساس وعيه وتطوره. ولذلك فإنه بصرف النظر عن التأييد أو الاعتراض على مشروعية التلقي من حضارة غربية، فالشيء الجدير بالتقدير والذي يجب وضعه موضع الاعتبار هو الجهد المشكور الذي بذله من أخذوا على عاتقهم تأصيل وتوظيف تلك التيارات الغربية في واقع الثقافة العربية من أجل تنمية الوعي العربي وتحرير العقل والفكر من ركام اللامعقول الذي يثقل كاهل الثقافة العربية.
يكفي المحاولات التي تحدثنا عنها أنها تعد بمثابة المراحل التمهيدية للنهضة الحقيقية (أعني بذلك الترجمات الواسعة والشرح والتعليق والتحقيق ... إلخ)، وهي مراحل ضرورية وسابقة لمرحلة الإبداع الفكري الحقيقي. فالتاريخ يشهد بأن كل الأمم والشعوب التي سبقتنا على طريق النهضة مرت بهذه المراحل الأساسية. وإذا كنا نأمل في ظهور تيارات فلسفية عربية تنبع من واقع مجتمعاتنا ومشكلاتنا التي لا يتعرض لها الغرب، أو التي تجاوزها خلال مسيرته منذ عصر النهضة حتى الآن، فإن هذا لا يمنعنا من الاهتداء بمناهج وأدوات البحث المعروفة لدى الآخرين دون خشية على ثقافتنا أو هويتنا من تلقي تيارات غربية أو غيرها. فنحن أيضا لسنا قادمين من فراغ، ولكننا منحدرون من تراث ثقافي طويل، كما أن الهوية العربية بتاريخها الحضاري ليست بهذه الهشاشة، حتى نخشى عليها من رياح التغيير، فمن حقنا أن ننهل من الإبداع البشري أيا كان موطنه، ومن حقنا أن نتعرف على كل التيارات الفكرية، ثم من حقنا أيضا بعد ذلك أن نقبلها أو نرفضها وفقا لمعيارين؛ الأول: براجماتي بمعنى أن نأخذ منها ما يثبت مع الزمن نفعه لنا ونجاحه في زيادة وعينا بأنفسنا وحاضرنا وتراثنا، والآخر معرفة أصوات العصر لنكون معاصرين، حتى لا ينظر إلينا على أننا بقايا متخلفة من عصور ماضية، نجتر الماضي ونعيش فيه مكتفين بهذا الاجترار. وإذا كنا نتطلع إلى أن تنبع الفلسفة أو الفلسفات التي نأمل في تبلورها في مجتمعنا الثقافي من أزماتنا العربية، فإننا نأمل أيضا في استعادة الروح النقدية الحرة في الفكر العربي دون أن يمنعنا هذا بطبيعة الحال من تلقي فلسفات غربية وتوظيف مناهجها النقدية على مشاكل مجتمعاتنا، على أن نكون مشاركين في ثقافة العصر لا تابعين لها. فبدون النقد المرتبط بواقعنا، وبدون الحرية والديمقراطية التي لا غنى عنها لازدهار الروح النقدية، سنظل تابعين متأثرين مجترين لما ينتجه الغرب، وسنقتصر على التفاخر بما نعلم فحسب، ولن نكون أنفسنا أبدا، لا مبتكرين ولا مبدعين.
تطور العقل النقدي
من كانط إلى هابرماس
نشأ التفكير الفلسفي من دهشة الإنسان وحيرته أمام الكون وظواهره المتغيرة من حوله. وقام هذا التفكير منذ بداياته على افتراض أصل ثابت وراء هذه الظواهر الكونية المتغيرة. واختلف هذا الأصل الثابت من فيلسوف إلى آخر، ومن عصر إلى عصر. هكذا كان الحال منذ أفلاطون الذي تبلورت فلسفته في نظرية المثل القائمة على وجود عالم ثابت هو عالم المعقولات الذي يتصف بالثبات والضرورة والكلية، وانعكس هذا التصور - أي تصور الأصل الثابت وراء الظواهر المحسوسة المتغيرة - على الإنسان نفسه، مما أدى إلى القول بأن في الطبيعة البشرية أيضا جانبا ثابتا أبديا لا يتغير وهو العقل، فكان تصور عقل إنساني عام وكلي ليس للبيئة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أي أثر عليه؛ فالعقل هو الطبيعة الثابتة الوحيدة وسط الظواهر التي تموج بالمتغيرات.
هكذا نجد أنفسنا منذ بداية تاريخ الفلسفة أمام فكر يفترض جوهرا ثابتا للأشياء، بحيث إن كل «ما يطرأ عليها من تغيرات ظاهرة، فهي أعراض لذلك الجوهر ... أي إن الخلفية الثقافية والفكرية كانت دائما وعلى امتداد التاريخ تفترض للأشياء طبائع ثابتة، تغمرها موجات الظواهر المتغيرة، ثم تنحسر لتجيء سواها، فإذا استطعنا أن نعرف هذه الحقائق الثابتة بما يحددها ويعين قوانينها كنا بذلك قد أمسكنا بناصية الطبيعة كلها.»
1
واستمر الحال كذلك مع أعلام الفكر الفلسفي الحديث بدءا من ديكارت (1595-1650م) الذي أطلق عبارته الشهيرة «إن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس»، وأقام مذهبه العقلي على أساس أن الحقيقة قائمة في العقل ولا وجود لها خارج الفكر، وأن الوضوح والتميز هما معيار هذا الفكر، إلى جون لوك (1632-1704م) - وهو الفيلسوف التجريبي - الذي أقر أيضا بطبيعة ثابتة للعقل، وجعل منه صفحاء بيضاء تنقش التجربة عليها حروفها الأولى، ثم جاء فيكو (1668-1744م)، وعارض بفلسفته التاريخية النزعة العقلية الديكارتية، وتحولت الذات العاقلة إلى ذات تاريخية، أي إلى ذات عاقلة ومعقولة في آن واحد؛ فالعقل الإنساني هو صانع التاريخ، وهو موضوعه أيضا. بذلك يكون فيكو هو أول من قدم نظرية تاريخية عن حقيقة التغيير من خلال تفسيره للتاريخ بوصفه عملية عقلية منظمة خلاقة. فالتاريخ الذي يتألف من أحداث ووقائع ومؤسسات اجتماعية تعبر عن أحوال العقل، قد جعل هذا العقل نفسه موضوعا للمعرفة. وإذا كان بعض الباحثين ينسبون إلى هيجل أنه أول من أدخل العقل في التاريخ، فنحن نؤكد في هذا المجال أن فيكو سبق هيجل، وكان بحق أول من أطلق العقل في التاريخ؛ لأن التطور التاريخي الاجتماعي للعقل عند فيكو مختلف كل الاختلاف عن تصور هيجل الذي لا شك أنه تصور ميتافيزيقي متعال على التاريخ، ويكفي أن نقول إن الدور الذي يقوم به العقل مختلف تمام الاختلاف عند فيكو عنه عند هيجل؛ فالعقل المطلق عند هذا الأخير يتطور - كما هو معروف - تطورا ذاتيا نحو الوعي بذاته، أما عند فيكو فهو لا يتطور إلا داخل ظروف تاريخية اجتماعية محددة يكون مشروطا بها؛ لأنه لم يتصور العقل كماهية مستقلة، ولم ينسب له أي قدرة ذاتية على التطور، وبذلك يكون قد قدم نقدا للعقل التاريخي يذكرنا من بعض الوجوه بنقد العقل الخالص الذي قدمه كانط فيما بعد،
2
وإن كان من الضروري القول بأن هذا النقد الأخير معرفي محض وغير تاريخي على الإطلاق.
لقد قام كانط (1724-1804م) بتحليل العقل نفسه، ورسم صورة جديدة لطبيعة العقل الذي يقوم بنقد ذاته بذاته، ووضع «الشروط القبلية» التي تجعل التجربة ممكنة ؛ فالعقل - كما يقول كانط نفسه في المدخل إلى نقد العقل الخالص - هو «الملكة التي تمدنا بمبادئ المعرفة ... وهذا العقل لن تكون وظيفته هي التوسع في معرفتنا، بل سيقتصر على تطهير عقلنا وتخليصه من الأخطاء.»
3
ولهذا كانت فلسفة كانط عقلية نقدية شارطة (ترنسندنتالية)؛ لأنها لا تهدف إلى التوسع في المعرفة، بقدر ما تهدف إلى تصحيحها، واختيار قيمة المعارف القبلية. إن العقل عنده لا يبحث في طبيعة الأشياء الخارجية، وإنما هو الذي يشرع لها، ولم يقدم كانط كما أعلن بنفسه «إلا نقد ملكة العقل الخالص نفسها، ومتى أصبح هذا النقد هو الأساس صار لدينا المحك أو المعيار الأكيد الذي نقدر به القيمة الفلسفية للمؤلفات القديمة والحديثة.»
4
والمنهج الذي يستخدمه العقل في نقده لنفسه هو المنهج الشارطي (الترانسندنتالي) الذي يضع الشروط التي تجعل التجربة ممكنة، ليؤدي نقد العقل في نهاية الأمر إلى المعرفة العلمية الموثوق بها.
والحقيقة أن التفكير الترانسندنتالي عند كانط في شروط وإمكان المعرفة لا يعطي للفلسفة دورا واحدا، بل «دورين متميزين كما قال ريتشارد رورتي: الأول باعتبارها محكمة العقل؛ أي الذات العارفة التي من خلالها نفهم العالم ونفهم أنفسنا بشكل عقلاني. وبناء على هذا الدور الأول يتحدد دورها الثاني، وهو أنها لا تستطيع أن تحكم على نتائج العلوم الأخرى فقط، بل تقوم أيضا بتنظيمها وتحديد المكان الصحيح لكل منها، ومجال مصداقيتها ومنهجها السليم.»
5
وترتب على هذا الدور الذي نسبه كانط للفلسفة ثلاثة مفاهيم رئيسية، وهي: مفهوم العقل العام، والذات المستقلة، ومفهوم المعرفة التصورية (أو المعرفة من خلال تصورات ومفاهيم عقلية) مما دفع الفلاسفة بعد كانط - وبخاصة هيجل وأصحاب النزعة البراجماتية وفلسفة التأويل - إلى انتقاد فكرته عن العقل بتقويض زعمه باكتشاف بناءات عقلية عامة وضرورية للشروط التي تجعل التجربة ممكنة. أضف إلى هذا «أن تطور العلوم الاجتماعية والتاريخية جعل هذه المزاعم نسبية وليست مطلقة، وأظهر الروابط التجريبية المعقدة التي تربط العقل باللغة والفعل كما تربطه بنسيج الاتصالات اليومية داخل أشكال الحياة المتنوعة ثقافيا وتاريخيا.»
6
ارتبط هذا النقد للعقل بنقد الذات العاقلة من حيث سيادتها على نفسها وعلى العالم، وهو ما افترضه التراث الديكارتي والكانطي. «فالذات هنا هي التي تشكل الطبيعة الخارجية وهي المهيمنة على الطبيعة الداخلية - على الأقل بالنسبة لكانط - وهذه السيادة المنسوبة للذات قد انتقدها كل من فرويد وماركس ودارون، الذين بينوا بطرق مختلفة دور الرغبات والانفعالات والمصالح في تكوين وتوجيه العقل نفسه»،
7
وأوضحوا أن الذات لا تشكل العالم، وإنما هي عنصر واحد من عناصر العالم المكتشف لغويا وتاريخيا واجتماعيا.
امتدت هذه الخلفية الثقافية والفكرية التي افترضت أن العقل طبيعة ثابتة في الإنسان - وذلك باستثناء الآراء الجديدة التي أتى بها فيكو كما أسلفنا القول - عبر قرون طويلة من تاريخ الفكر الفلسفي، إلى أن جاء هيجل (1770-1831م) ليعبر عن تصور عصر جديد انطلق مع بدايات القرن التاسع عشر، عصر يحمل ثقافة وفكرا جديدين، ويستعيد صيرورة هيراقليطس لتصبح هي طبيعة الأشياء، ويحل «التطور» و«التغير» محل «الثبات» و«التحدد». وأصبحت طبيعة العقل عند هيجل مختلفة عنها عند كل من ديكارت وكانط، فإذا كان ديكارت قد أقام مذهبه العقلي على أساس الكوجيتو أو اليقين الذاتي كمعيار للوضوح والتميز، وكان كانط قد أقام فلسفته النقدية لتمييز المعرفة العلمية الصحيحة عن المعرفة الميتافيزيقية التي تؤدي إلى وقوع العقل في التناقض، فإن هيجل قد جعل من هذا التناقض جوهرا لفلسفته ومنهجه الجدلي. ها هو ذا يقول في مقدمة «ظاهريات الروح» مشيرا إلى المذاهب العقلية السابقة عليه: «إن العقل قد جاوز الحياة الجوهرية التي كان يحياها في عنصر الفكر: جاوز إيمانه الأول المباشر، جاوز الرضا والأمن اللذين كان يكفلهما للوعي الوفاق بين العقل والماهية ... وما جاوز العقل تلك الحالة وحدها إلى الطرف النقيض، إلا للرجوع بنفسه على نفسه دونما جوهر. فلم يقف الأمر عند فقدان حياته الجوهرية، وإنما أصبح أيضا وعيا بهذا الفقدان.»
8
كما يقول في موضع آخر من مقدمة الظاهريات: «إن العقل إنما يغدو موضوعا؛ لأنه تلك الحركة القائمة في مغايرته نفسه، أي في صيرورته موضوعا لذاته.»
9
وبفضل منطق هيجل الجدلي دخل العقل في الوعي وفي الطبيعة نفسها، ثم تجلى في التاريخ، وأصبح هو جوهر التاريخ ومحركه، بل أصبحت العملية المعرفية نفسها تنمو في مراحل متعددة، والوصول للمطلق لا يكون إلا في ختام هذه المراحل: «الكل ليس إلا الماهية في تحقيقها واكتمالها عن طريق نموها. فالمطلق يجب القول عنه: إنه في جوهره نتيجة، أي هو لا يصير ما هو إياه حقيقة إلا في الختام. في هذه الصيرورة تقوم طبيعته من حيث هو دخول فعلي في الواقع.»
10
هكذا هاجم هيجل المعرفة العقلية الخالصة التي فصلت الفكر عن الوجود، كما هاجم الفلسفة التجريبية الخالصة التي أغفلت السمات العقلية للواقع، وأقام منهجه الجدلي الذي وحد فيه بين الفكر والوجود، حتى ليمكن القول: «إن العقل يدرس من نواح ثلاث: فهو يدرس في حالة كونه مجردا، وذلك في المنطق، ويدرس من حيث تحققه في الكون وذلك في فلسفة الطبيعة، ويدرس من حيث إنه يتحقق عن طريق الفكر والنشاط الإنساني، وذلك في فلسفة الروح»،
11
ولكن يظل السؤال قائما وهو: هل استمر تطور العقل النقدي في هذا المنهج الجدلي الهيجلي أم توقف عند مرحلة بعينها وهي على وجه التحديد عصر هيجل نفسه؟ لقد بقي هذا التساؤل موضع إشكال وجدل، واختلفت حوله الآراء،
12
ولم تزل مختلفة بين شراح هيجل وأصحاب المنهج الجدلي على اختلاف تصوراتهم له بما لا يسمح بمناقشته في هذا المجال المحدود.
وإذا كانت الثورية هي طابع المنطق الجدلي الهيجلي، فإنها لم تنطلق بشكل واقعي على يد هيجل نفسه، وإنما أطلقها ماركس (1818-1883م) - الذي زعم أنه أوقف جدل هيجل على قدميه - من مكمنها، ولم يقصر دور العقل على التفسير، بل تخطاه إلى التغيير. ولا شك أن فلسفة كل من كانط وهيجل كانت أسبق من المحاولة الماركسية لتغيير دور الفلسفة (وبالتالي تغيير الدور الذي يلعبه العقل في العملية المعرفية)، إلا أنهما قدما حلا للمشكلة أعطى للفلسفة دورا يمكن وصفه بأنه غير تاريخي ولا واقعي-نقدي؛ فقد حولتها الكانطية إلى فلسفة ذاتية، وحاول هيجل أن يتحاشى هذا العجر ويتجاوزه، فقدم حلا محوطا بافتراضات ميتافيزيقية يتعذر الدفاع عنها، لكن مهمة العقل عند ماركس تحولت إلى نقد الواقع وتغيير العالم، وله يعود الفضل في هبوب عاصفة النقد والتغيير التي اجتاحت كل التيارات الفلسفية التي جاءت بعده، فمنذ أن أعلن في بيانه الشيوعي المبكر عام 1844م عن الحاجة إلى «نقد قاس لكل شيء موجود» كان هذا إيذانا بميلاد نظرية نقدية للمجتمع تعد نموذجا لخطاب علمي اجتماعي في منتصف القرن التاسع عشر، «ووجد ماركس في فلسفة هيجل المفهوم الذي احتاجه ليحول دور الفلسفة إلى نظرية نقدية، ألا وهو مفهوم «الرفع»،
13
وظل هذا المفهوم قابلا للتطور والتحديد الذاتي في النظرية النقدية المعاصرة من لوكاتش حتى هابرماس.»
14
لقد ظل مفهوم المعرفة التصويرية التي تفترض وجود الذات في مقابل عالم الموضوعات المستقل، ظل سائدا حتى الجيل الثاني من فلاسفة القرن التاسع عشر، على الرغم من نقد هيجل له في الفصل الخاص بالإدراك الحسي في كتابه «ظاهريات الروح». ولذلك كانت تفرقة هوركهيمر الحاسمة بين النظريات النقدية والنظريات التقليدية هي إحدى الصياغات الهامة في القرن العشرين لنقد المعرفة التصويرية وذاتها التأملية وغير التاريخية عند كانط؛ إذ أكد هوركهيمر (الذي يعد رأيه تعبيرا عن رأي أصحاب النظرية النقدية جميعهم) أن كلا من الذات والعالم قد تطورا معا في صيرورة المجتمع كما سنرى بعد قليل بشيء من التفصيل.
ومع تطور الدراسات الاجتماعية التي شهدت طفرة هائلة في غضون القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ذهب عالم الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920م) - وهو أحد منظري العقلانية الحديثة - إلى أن التقدم التقني قد أفرز نوعا من العقلانية العلمية التي لها منهجها ووسائلها، أي إنها بمعنى آخر هي عقلانية المنهج والوسائل من أجل تحقيق غايات، ولكن التقدم العلمي غير مسئول عن تطبيقاته، وبالتالي فإن العقلانية غير مسئولة عن الغايات التي أصبحت فيما بعد لا عقلانية. ولذلك طالب ماكس فيبر بالفصل بين مجالي العلم والسياسة، والنظرية والتطبيق، والوسيلة والغاية، مؤكدا أن أحكام القيمة لا يمكن أن تزعم لنفسها الصدق الموضوعي، كما أنه «لم يثق في أحكام القيمة والسياسة التي تنبع من رومانسية الأمل الثوري .»
15
لذلك طالب بفصل مجالات البحث، «فالبحث العلمي التجريبي يمكن أن يوضح الوسائل الضرورية للوصول إلى غايات معينة، كما يمكنه أن يكشف عن النتائج المترتبة على السياسات المختلفة التي لا يمكن الكشف عنها بطريقة أخرى. كذلك يستطيع البحث الفلسفي أن يكشف عن البناء التصوري للنظم المعيارية المختلفة، وأن يحدد مكانها بالنسبة للقيم الأخرى الممكنة كما يحدد مجالات صلاحيتها، غير أن مثل هذه الدراسات لا يمكنها أن تبين صحة أي إجابات تقدم على المسائل المعيارية.»
16
هكذا استبعد فيبر أحكام القيمة كشروط مسبقة للعلم؛ لأن كل العلوم الطبيعية في رأيه «تحاول الإجابة على هذا السؤال: ماذا ينبغي علينا أن نفعل إذا أردنا أن نسيطر على حياتنا بشكل تقني؟ وسواء أردنا بالفعل أن نسيطر عليها تقنيا، أو كان لهذا الكلام معنى فهو لم يوضع موضع الاختبار والفحص.»
17
إن العالم الذي لا يقصر جهوده على تحديد الوقائع والحقائق، وإنما يسأل نفسه عن قيمتها، يجب أن يعرف على حد قول ماكس فيبر: «إن النبي والداعية لا يتسع لهما منبر واحد.»
18
وإذا كان فيبر قد رأى أن العقلانية هي قانون العلم، فإنه ظل واعيا بحدود هذه العقلانية وأخطارها. وإذا كانت مهمة العقل عنده هي «حساب العلاقة بين الوسائل والغايات، فلن يكون بوسع البشر أن يتنصلوا من مسئولية اختيارهم، وأن قدرا ضخما من المسئولية قد يتجاوز الطاقة الأخلاقية للأفراد، وقد يجرفهم إلى خضم اللاعقلانية.»
19
وإذا كانت هناك «فئتان من الأفعال تتميزان بالعقلانية إحداهما تستخدم الوسائل الملائمة لتحقيق الأهداف العقلية المختارة، والثانية تستعين بوسائل مشابهة لإشباع قيم مطلقة وأهداف أخلاقية»،
20
فإن العقل مسئول عن هذا الاختيار، أي إن مهمته تكمن في اختيار وتدبير الوسائل للسلوك العقلاني الهادف المحسوب. فالاختيار المعياري كما بين فيبر «لا يعتمد فحسب على الاعتبارات التقنية المستخدمة منه للوصول إلى أهداف معينة ، بل إن الاختلاف حول المعايير أمر ممكن وضروري، وهو كامن في طبيعة هذه المعايير المستخدمة لمناقشة مثل هذه المسائل. والقول بأن مثل هذا الاختلاف في الآراء يمكن أن يسوى تسوية نهائية، هو قول متناقض »،
21
لذلك كانت مهمة الاختيار بالغة الصعوبة، وتفوق طاقة البشر، وقد تجرفهم إلى اللاعقلانية كما نرى اليوم في الأزمات التي تواجهها البشرية نتيجة التطور المذهل في التقنية.
وقد تابع ماكس فيبر المعركة الدائرة بين الفريق الذي يوجه العلم لهدف محدد، والفريق الذي يحيط الفعل بهالة سحرية، بين الصرامة والأصالة في الحياة العقلية والسياسية. لقد كان عقلانيا تجريبيا، ولكنه يرفض تجريد العلم من سحره، وكثيرا ما كان يشكو من أن العقلانية نزعت كل أستار السحر التي تحيط بالمعرفة، أي إنها عقلانية جافة وليست عقلانية إنسانية بالقدر الكافي، ولم تضع في اعتبارها العلاقة الحميمة بين الإنسان والطبيعة. إن العقلانية التي كانت غايتها تحرير الإنسان قد وضعته في زنزانة خانقة واستعبدته بدلا من أن تحرره. ولقد أدرك فيبر - على الرغم من إيمانه بتجريبية العلم - أخطار العقلانية العلمية، ولكنه أبرز الفارق الكبير بين تحديد الأهداف والوسائل عن طريق العلم وبين الأصالة السياسية التي تنطوي على هالة سحرية. ولذلك هاجم ماركيوز في مؤتمر هايدلبرج عام 1965م، ما اعتبره الجانب السلبي في فلسفة فيبر كعالم اجتماع تجريبي، واتهمه بأنه يدعم الوضع القائم، وفي هذا تناقض مع كونه سياسيا إلى جانب كونه اجتماعيا، ولكن ماركيوز أغفل بلا شك أن فيبر برغم عقلانيته وإيمانه بتجريبية العلم كان يتخوف من التغير المفزع الذي تحولت به الوسائل الاقتصادية والتقنية إلى غايات في ذاتها بعد أن كانت في الأصل تستهدف تحرير الإنسان، «فالتغيير الذي يتم بوسائل اقتصادية وتقنية كان غايته تحرير البشر، وقد كان يأمل - كما يقول - لاندمان أن يتحطم هذا السجن الاقتصادي التقني في الثورة الروسية عام 1905م، ولكن لم يحدث هذا مما جعله يتساءل: أيهما يلوح في أفق المستقبل: ميلاد جديد أم تحجر آلي؟»
22
وسادت في مطلع القرن العشرين بدايات اتجاه نقدي ارتبط إلى حد كبير بالفكر الماركسي، وأخذ منه فهمه النقدي التحليلي للواقع، فكانت أفكار كل من جورج لوكاتش وارنست بلوخ تمهيدا لميلاد تيار نقدي أكثر تنظيما فيما بعد، وهو ما أطلق عليه اسم «النظرية النقدية». وقد استمر نقد العقلانية الغربية - كما تمثلت في العلم والتقنية والحضارة الرأسمالية والصناعية الحديثة - من وجهة نظر ماركسية متزمتة عند جورج لوكاتش (1885-1971م) الذي انطلق في مقولته عن التشييء (وهو الأساس الموضوعي للشعور الذاتي تشييء بالاغتراب) من المقولات الماركسية عن الاغتراب، وهي التي ترى أن العقلانية الاقتصادية للنظام الرأسمالي أدت إلى «تشييء» الإنسان، وجعله جزءا خاضعا لقوانينه الآلية، أي جزءا من عملية الإنتاج لا طرفا فيه. «هذه العقلانية لم تحرر الإنسان بل «شيأت» علاقاته بكل الأشياء من حوله، وكان ذلك نتيجة ضرورية للتشذر وانفصال الأجزاء عن الكل المعاش.»
23
لقد جاءت العقلانية الاقتصادية لتفرغ الكل الموضوعي للحضارة من وحدته الداخلية مما أفقد الواقع كليته؛ ففي ظل التقدم الهائل للعلوم الجزئية، وانحصار كل علم في مجال تخصصه الدقيق، فقدت هذه العلوم السياق الكلي لمجالاتها. أضف إلى هذا أن العقلانية قامت بتقسيم صيرورة العمل الموحد إلى وظائف جزئية منعزلة بشكل مصطنع، «وتطور كل علم بشكل مستقل ومنعزل عن بقية العلوم الأخرى في الهدف والمنهج، وتحرك كل علم في نظام عقلي جزئي يعمل بدون معوقات، ولكنه يفتقد «المقولة الحقيقية للواقع» أي الكلية»،
24
التي تقتضي أن يعلو المجتمع ككل على هذا الواقع المتكثر أو المبعثر أو المتشذر. إن الكلية هي المبدأ البديهي للمجتمع، ويجب أن تكون العقلانية هي القاعدة الأساسية لنقد الواقع الموجود وهدف التاريخ، ولكن «العقلانية العلمية تجاهلت السمات النوعية الفردية، ولم تنتبه لها إلا كلما أزعجت الحسابات المسبقة لمسار تقدم العمل.»
25
لقد قام مشروع لوكاتش النقدي على رفض النظرة الأحادية للجدل؛ أي رفض جدل العقل عند هيجل، ورفض جدل المادة عند ماركس، والمزج بينهما في ثنائية تتفاعل مع حركة المجتمع. وربما يكون الجديد في فلسفة لوكاتش النقدية هو «التعامل مع معضلة الفكر والممارسة التي ستمتد داخل النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت ... وتتسم هذه المحاولة الفلسفية النقدية لجورج لوكاتش باسترجاع الطاقة الكامنة في نقد الاقتصاد السياسي، ليس بصفته نقدا يتوقف عند حدود الاقتصاد السياسي فقط، بل بصفته نقدا يمتد داخل العلاقات الاجتماعية»،
26
لذلك كان له تأثير كبير على أصحاب النظرية النقدية فيما بعد من خلال نظرته الفلسفية للثنائية الجدلية وارتباطها بالمجال الاجتماعي والسياسي، وكذلك من خلال انفتاحه على الحياة الثقافية والأدبية ومعطيات الواقع. فقد رأى «أن التشيؤ هو العملية التي بها تصبح منتجات العمل البشري أشياء مستقلة، أو ظواهر معطاة تتحكم في الناس عن طريق قوانين تبدو وكأنها لا ترد، فيتحولون من الناحيتين الذاتية والموضوعية إلى مشاهدين سلبيين بدلا من أن يكونوا ذوات فاعلة مبدعة، ويخضعون نشاطهم الإنساني الخلاق لقوى لا شخصية غريبة عنهم ومدمرة لطبيعتهم وماهيتهم الأصلية. ويتضح تجريد الإنسان من إنسانيته في التنظيم الداخلي للمصنع الذي يمثل صورة عالم مصغر من عالم المجتمع الرأسمالي الأكبر الذي نفذ بتخصصه في تقسيم العمل وبعقليته الصناعية والاستهلاكية، حتى في صميم الحياة الحميمة للإنسان.»
27
ويشغل أرنست بلوخ (1885-1977م) مكانة خاصة بين نقاد العقل المعاصرين، كما يعد «حلقة هامة في تطور الفكر النقدي، حيث كشف عن جذوره الأولى في التراث الفلسفي والبشري على السواء. لقد قدم يوتوبيا نقدية معارضة للنزعة الوضعية التي تتعلق بالوقائع القائمة والحقائق غير المتعالية، وقدم نقدا للواقع السائد بعقلانية جديدة يمكن أن نطلق عليها اسم العقلانية اليوتوبية. فالواقع الراهن في تصوره يموج بالإمكانات وبقلق الصيرورة ولم يكتمل بعد، مما يجعل اليوتوبيا عنده حقيقة مسلما بها تسير جنبا إلى جنب الواقع، بل وتصاحبه، وهي - أي اليوتوبيا - تتحدث باسم الليس-بعد أو المستقبل، وتحاول تشكيل نماذج لوجود حقيقي ممكن لم يتحقق بعد.»
28
وقد قامت نظرية بلوخ النقدية على تفتيت بنية الواقع، واستخلاص شعاع أمل جديد كامن في أعماق واقع مظلم، بل وأحيانا ميئوس منه، أي إن نقده مفعم بخلفية متفائلة على خلاف الخلفية المتشائمة التي اجتاحت التيار النقدي اللاحق. وقدم بلوخ يوتوبيا ترتبط بالتاريخ العقلي الذي ما زال يحقق نفسه بأن يظهر للنور الجوهر اليوتوبي والحقيقة أو الماهية الجوهرية للشيء. وتساعد اليوتوبيا هذه الحقيقة على أن تبرز إلى الواقع ومن خلاله أيضا، فتكشف عن كيفيات جديدة في الطبيعة عن طريق العقل الخيالي أو اليوتوبي الذي يستخلص الممكن من الواقع اليومي العيني، ولا يتم هذا إلا بالاعتراف بالواقع، ورفضه في آن واحد، كما أنه ليس هناك حد فاصل بين الممكن والواقع؛ لأن الواقع كان ممكنا في الماضي، وما زال ممكنا في المستقبل.
29
وبتأثير من النزعة النقدية عند كل من لوكاتش وبلوخ - مع مؤثرات أخرى لا يتسع هذا المجال المحدود لذكرها - ظهرت مجموعة من المفكرين النقديين الشبان الذي ركزوا جهودهم على الاهتمام بالأبحاث الاجتماعية النقدية وبلورتها في نظرية مستقلة وتوجيهها من كونها مجرد جهود فردية متفرقة إلى تيار نقدي مستقل، هو الذي أشرنا إليه من قبل، وعرف باسم مدرسة فرانكفورت «وهو الاسم الذي عرف به أعضاء المدرسة بعد الحرب العالمية الثانية. أما من ناحية المنهج الذي اتبعوه في النظر والتطبيق فقد استندوا فيه إلى روح الفلسفة الماركسية مع الابتعاد عن معظم مقولاتها الأساسية، ومن ثم عرفوا باسم أصحاب النظرية النقدية»،
30
وكان أدورنو (1903-1969م) - وهو من أهم أعضاء الجيل الأول لهذه المدرسة - قد انتقد العقل الذي أشادت به حركة التنوير وأعلت من شأنه، فعرض في كتابه «جدل التنوير» - الذي اشترك في تأليفه مع صديقه هوكهيمر - فكرة التدمير-الذاتي للتنوير، وأكد أن الفلسفة الوضعية قد أصابته بالانتكاس أو النكوص. فالتنوير الذي مجد العقل وآمن به إيمانا لا حد له، وكان «هدفه هو تحرير الإنسان من التعصب والخوف ومن السلطة المطلقة وتجريد العالم من سحره القديم لصالح المعرفة العلمية التجريبية»،
31
هذا التنوير قد أصابته انتكاسة ترجع إلى مصدرين: «الأول هو النزعة العلمية أو الوضعية التي حددت العلم بوقائع معينة، واستبدلت الصيغ الرياضية بالمفاهيم، وحولت الكيفيات إلى وظائف، ورفضت أي شيء يمكن اعتباره وهما أو خيالا أو بلا معنى. والثاني هو العقل الأداتي غير النقدي للعلم الذي اعتمد على الشكلانية (النزعة الشكلية). فالعلم كمنهج تحليلي لا يستطيع أن يضفي معنى أو قيمة على أي شيء غير قابل للقياس وغير خاضع للصيغة الرياضية.»
32
والأداتية محددة أو مشروطة بالواقع؛ لأن العلم يتعلق بالقوة (أو بالسلطة المهيمنة)؛ ولذلك ينتج فكرا «مشيئا» خاليا من المضمون، بل هو المنهج والفاعلية والتنظيم والتقنية، وبالتالي انحدر التنوير من الوعي بالثورة إلى مجرد وسائل لتحقيق تلك الغاية.
إن التنوير الذي كان هدفه الأصلي هو تحرير العقل البشري من الأسطورة تحول هو ذاته إلى أسطورة تخفي الهيمنة والسيطرة والتسلط، وسعى إلى تأييد الواقع السائد، ولم يعد يخدم قضية الحرية، بل حرص على إخضاع كل شيء متفرد تحت لوائه، وجعل حرية السيطرة الكامنة فيه تسود الأشياء، ثم ترتد إلى وجود الإنسان نفسه ووعيه. وأنتجت النزعة العقلية غير الثورية تسلطية جديدة، وأصبح الهدف النهائي للعقل «المستنير» هو السيطرة على الطبيعة عن طريق التكنولوجيا. «فالعقل الذي حرر الإنسان من سلطة الطبيعة، يبرر الآن سيطرته على الإنسان نفسه باعتباره جزءا من الطبيعة التي يسيطر عليها، بل ويقوم بعملية «تكيف» مع حضارة لا إنسانية»
33
اعتمدت على الجانب التقني فقط، وهيأت «العامة» لتحمل الاستبداد وأنواع القيود التي يفرضها على الأشياء والإنسان. ولم يتم هذا بفعل المناوئين للعقل، بل بفعل التنوير نفسه.
ولكن كيف صار التنوير ضد الحقيقة؟ «عن طريق التجريد الرياضي الشامل للواقع، وهو التجريد الذي صار مرادفا للحقيقة.»
34
لقد تحول الفكر إلى آلة رياضية تتحرك بذاتها، بحيث يمكن أن تحل الآلة محله، وتم هذا كله على حساب الواقع المعطى وعلى حساب الفن، وبغرض السيطرة والهيمنة عليهما، والنتيجة هي «عدم فهم الواقع الحي ونفي أو استبعاد كل واقع فردي مباشر. هكذا تحول التنوير - كما سبق القول - إلى الأسطورة التي لم ينجح أبدا في تفاديها»،
35
وأصبحت الوحدة العلمية أو التوحيد (أي توحيد الطبيعة وموضعتها، بمعنى جعلها موضوعية تخدم أهداف الإنسان العملية فقط)، والتجريد والتسوية هو هدف التنوير النهائي بصرف النظر عن تعقد الواقع وخصوصيته وكيفياته المختلفة.
36
إن إخضاع العقل للتجربة الحسية الحية بالانفصال عنها «وتكميمها» أدى إلى إفقار كل من التجربة والعقل معا. وكان هذا مظهرا من مظاهر انتصار العقل الأداتي وسعيه للسيطرة على كل شيء بما في ذلك العقل والتفكير نفسه ... وهكذا اغترب الناس في المجتمع الشمولي الحديث، سواء كان رأسماليا أو شيوعيا، وبرزت الوحشية واللاإنسانية التي أراد التنوير في الأصل أن يحاربهما، فتحول التقدم إلى تراجع،
37
وأصبحت لعنة التقدم المتواصل هو النكوص المتواصل. وتعاظم اغتراب الجماهير التي تموضعت وتشيأت ووقعت، مثلها مثل حكامها ومديريها، في نفس الشبكة المخيفة التي تثبت الوضع القائم.
وازداد رفض أدورنو للعقلانية العلمية في كتابه «الجدل السلبي» الذي تأثر فيه بالنزعة الاجتماعية لدور كايم، وعارض تسلطية المؤسسات الاجتماعية التي تخنق الفرد، ورأى «أن العلاقة بين سيطرة الإنسان على الطبيعة وسيطرة الإنسان على الإنسان ترجع بشكل أساسي إلى علاقة المفهوم أو التصور العام بالموجودات الجزئية غير التصورية، فعندما يغلف تصور عقلي عام الموضوع، ويهيمن عليه، يتلاشى ما يتسم به هذا الموضوع من تفرد عيني لكي ينضوي تحت ذلك التصور العام.»
38
ولا تدرك الذات أنها تحولت إلى موضوع؛ لأن عملية الهيمنة الأصلية بدأت منها. كما أنها غفلت عن هذا التحول تحت تأثير النشوة التي استشعرتها نتيجة انتصارها على الواقع الخارجي أو تحررها منه.
وليس العقل هو السلطة البشرية التي يمكن الاحتكام إليها عند مواجهة تسلط لا إنساني؛ لأنه (أي العقل) «هو المسئول عن هذه اللاإنسانية. ولأنه هو نفسه قد نبع من إرادة التسلط، فالصلة الحميمة التي تربط العقل بالتسلط ليست هي السمة المميزة للعقل الأداتي أو التقني أو العلمي فقط، وإنما هي سمة تميز كل عقل، حتى لو حاول المقاومة كما في العقل الحدسي أو الجدلي. ومثلما انطبع العقل بالتسلط، فإن الوعي بل وبنية أنفسنا أيضا، قد انطبعت بالتسلط»،
39
وليس لهذا الفساد أو الإفساد الذي أصاب الذات بداية تاريخية، بل نما من داخلها بشكل متزايد. إنه نزوع أو ميل طبيعي في العقل، وبالتالي من الصعب الاعتقاد بأن الذات تستطيع بما لها من قدرة تنويرية أن تلغي الظروف المغتربة التي خضعت لها. لقد وعد العقل أن يحرر الإنسان (بوصفه ذاتا) من سيطرة الطبيعة، إلا أنه استعبده بوصفه موضوعا لسيطرته، وهذا الانقلاب من الذات إلى الموضوع يصعب إدراكه بالعقل.
ويواصل أدورنو هجومه على المعرفة التصورية، فيؤكد أن التصور يعزل الشيء عن ذاته، أي يلغي فرديته، وأن ارتباط التصور بالشيء هو من قبيل ارتباط القوي بالضعيف. وواقع الأمر أن اعتراض أدورنو على العقل التصوري ليس بالفكرة الجديدة، وإنما يرجع له الفضل في أنه أوضح أن النزعة التعميمية هي نزعة تؤدي إلى الشمولية والهيمنة، ولكن هل يصدق زعمه هذا في كل الأحوال؟ إننا إذا أمعنا النظر وجدنا أن المعرفة التصورية لم تنظر دائما للموضوع العيني (المدرج تحت تصور ما)، وكأنه قد عرف معرفة تامة، يدل على هذا أن الفكر في نهاية القرن الثامن عشر تمرد على استبداد المعرفة التصورية، أي على النزعة التصورية الكلية؛ لأنه وجد «أن الشيء المدرج تحت التصور الكلي ليس مجرد عينة مساوية لكل العينات الأخرى تحت سقف التصور، بل أن هذا الشيء العيني له خصوصيته الفردية التي تميزه عن غيره. ولم يكن هذا بديلا عن الفكر التصوري»؛
40
لأن الرجوع للحسي أو العيني المباشر ليس عدولا عن المعرفة العقلية المنهجية، كما أن المعرفة التصورية ليست كلها هيمنة وسيطرة على الأشياء، بل هي على العكس من ذلك تتيح لنا أن ننفذ إلى الخصائص النوعية للشيء، وتمهد الطريق المؤدي إلى إدراك فرديته وخصوصيته.
إن علاقة التصور بالشيء - كما يقول لاندمان - «ليست كما يراها أدورنو هي علاقة الأقوى بالأضعف، بل هي علاقة العام بالخاص، فهو لا يفسده ولا يحتقره ولا يقلل من شأنه، ولا يخضعه إخضاع العبيد، ولا يجرده من قيمته، وإنما يحاول أن يفهمه ويجد له مكانا في النظام العقلي المتسق. ولو صح أن هذا الاحتواء التصوري للشيء هو في ذاته جريمة يرتكبها عدوانيون أو نخبة من العدوانيين المتوحشين (ويقصد بهم العلماء) لو صح هذا لكان على البشرية أن تتوقف عن استخدام اللغة جنبا إلى جنب مع توقفها عن استخدام العقل ... لماذا؟ لأن الكلمات نفسها أنواع من الاحتواء.»
41
مهما يكن من شيء فلا بد من الإشادة بالدور الذي قام به أدورنو في نقد العقل، فقد وضعه داخل السياق الاجتماعي كله، وأثبت أن بعض المذاهب الفلسفية - مثل البراجماتية والوضعية - قد جعلته أداة في خدمة الإنتاج الصناعي، ووظفته لخدمة مصالح معينة، وعزلته تماما عن مجال القيم كالعدالة والتسامح ... إلخ، وقد ترتب على ذلك أن العقل عندما استخدم هذا الاستخدام الأحادي نظر أيضا إلى موضوعاته نظرة أحادية هي نظرة السيد للمسود، فكرس بذلك اغتراب الموضوع عن الذات واغتراب الذات عن الموضوع، وترجمت العقلانية المتسلطة إلى نظم شمولية متسلطة بدورها. والسؤال الحقيقي الآن هو: كيف نعيد للعقل شموليته أو كليته الاجتماعية، أي كيف نعيد وضعه في السياق الاجتماعي الشامل ليكون عقلا اجتماعيا تاريخيا، وليس معرفيا فحسب؟ الإجابة هي من خلال فلسفة أكثر إنسانية، فلم يعد العقل ملكة ذاتية مستقلة، بل إنه يتطور تاريخيا واجتماعيا، ويتغير هو نفسه وفق الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويمكن الرد على ملاحظة أدورنو عن توظيف العقل لمصالح معينة بأن ما حدث هو استغلال ثمار العقل من المعرفة لأجل أسباب وأهداف غير عقلانية وغير إنسانية، ولو أدركنا العقل في مختلف وظائفه، ونظرنا له نظرة كلية حية، لوجدنا أنه لا يمكن توجيه الاتهام للعقل التصوري الذي يقوم بعملية معرفية بحتة، بل يوجه الاتهام إلى توظيف العقل من جهات مختلفة لتحقيق مصالح ربما تكون سياسية أو اقتصادية لا تتصل بالمعرفة الخالصة. والواقع أن أدورنو خلط بين المعرفة واستخداماتها، وخلط أيضا بين السياسي والمعرفي، مما أدى إلى سوء فهم العملية المعرفية نفسها. ولا يمكن إنكار فوائد العلم العقلانية في الفهم الأفضل للواقع المادي وتشكيله؛ ولذلك انتصرت النزعة الآلية. أضف إلى هذا أن القدرة على التصنيف والقياس الكمي لا غبار عليها؛ لأنها إنجازات عقلية أصيلة، وإن كانت تكشف عن جانب واحد فقط من الموجود الفردي، ولا يصح أن تحجب عنا الجانب العيني الحي منه ما دام كلاهما يساعدنا على إدراك الواقع. والحقيقة أن ما يريده أدورنو هو أن الفكر التطبيقي لا ينبغي أن يكون شموليا، ولا أن يطبق بغير استثناء، وذلك إذا أردنا إنقاذ الموجود الفردي، واحترام تفرده. ولا تقتصر هذه الفكرة على أدورنو فحسب، بل اتجهت الفلسفة المعاصرة في مجموعها ضد الهوية لكي تحرر التعدد أو الكثرة، وترد إليها فرديتها الحميمة، ولكن الدفاع عن خصوصية الكائن واحترام فردانيته التاريخية ، وحمايته من هيمنة وشمولية العقل لا يعني إبطال الفكر العقلاني التصوري؛ إذ لا يمكن توقف الإبداع لمجرد أن يماره توظف توظيفا لا إنسانيا.
والمشكلة في حقيقة أمرها ليست في العقل نفسه الذي يقدم أساسا محايدا لتطبيقاته، وإنما تكمن في استخدامه استخداما سيئا، وخاصة من قبل أولئك الذين يبتغون المصلحة والهيمنة فقط. وأدورنوليس ضد العقلانية التصورية أو التصنيفية في ذاتها، بل ضد استخدامها لتحقيق مصالح تفضي بها إلى اللاعقلانية. ويجب التأكيد من ناحية أخرى على أنه إذا كان العقل يمارس السيطرة فهو لا يمارسها على البشر والأشياء، وإنما يمارسها على القوى غير العاقلة داخل الوعي المعرفي. لقد أوجد العقل الغربي حضارة قوامها التقدم العلمي، ولكن توظيف هذا العقل توظيفا خاطئا وانفصاله عن الحياة نفسها، وتصوره أنه النموذج الأوحد جعله يثمر حضارة عقلانية غير إنسانية، أوقعته في أزمات اللاعقلانية بصور وأشكال مختلفة (منها ما يطلق عليه اليوم اسم ما بعد الحداثة).
ولكن هل يريد أدورنو العودة إلى النزعة الحدسية المباشرة دون وسيط عقلي أو تصوري؟ الواقع أن كل كتاباته تنفي هذا؛ لأنه يؤسس عقلانية جديدة يصفها بأنها عقلانية نقدية، أي تنقد هيمنة عقلانية الفكر الغربي الذي يزعم بعض أعضاء النظرية النقدية - مثل ماركيوز - أنها بدأت من منطق أرسطو الذي اتجه لتثبيت هوية الأشياء، وتعريفها، وتحديدها تمهيدا للسيطرة عليها بمختلف أنواع السيطرة. وإذا رجعنا إلى السؤال السابق عن العودة للنزعة الحدسية، سنجد أن برجسون ذاته - وهو فيلسوف الحدس بغير منازع - لم يلغ التفكير العقلاني، بل وجد أن العقل ينصب على مجال العمل فهو يصنف، ويقيس قياسا كميا ... إلخ، ويوظف الموجودات في المصالح العملية، وإن كان الوصول لروح الأشياء وكنهها لا يتم إلا عن طريق الحدس. وإذن فالعقل في حد ذاته محايد لا يخضع الأشياء ، ولكنه ينحرف فقط عندما يوظف لتحقيق مصالح معينة.
ويؤكد ماكس هوركهيمر (1895-1973م) في كتابه «نقد العقل الأداتي» - ما سبق أن أكده بالاشتراك مع صديقه أدورنو في جدل التنوير - أي هجومه على المعرفة التصورية، وهجومه على العقل الذي يرى «أنه لا يمكن أن يعود إلى صوابه إلا عندما يعترف بأنه ليس عقلا مطلقا، وإنما هو نسبي متغير. فمنذ العصور القديمة وحتى ليبنتز لم يكن العقل ملكة ذاتية فقط، بل كان أيضا ملكة تتجه لمعرفة العالم الموضوعي، أي أن العقل الذاتي هو المسئول عن معرفة طبيعة الأشياء في العالم الموضوعي»،
42
لذلك كانت الأهداف إنسانية؛ لأنها تنشد انسجام العقل مع العالم الخارجي. وقد عرضنا في الصفحات السابقة كيف هاجم هوركهيمر الفلسفة الترانسندنتالية الكانطية في إطار نقده للمعرفة التصورية في محاولة منه لتنقية دور العقل؛ ولذلك رأى أن التنوير المضاد للدين والميتافيزيقا دمر انسجام العقل (أو الإنسان) مع العالم الخارجي مما ترتب عليه ظهور نمطين للعقل؛ أحدهما: عقل تنويري غايته التحرر والعدالة وإلغاء التشيؤ، والآخر: عقل أداتي غايته التسلط والسيطرة، ويؤدي إلى المادية والعدمية، وكلا النمطين متعارضان وغاية هوركهيمر هي توحيد التجريبية والعقلية في منهج ترنسندنتالي (أو شارطي لإمكان كل معرفة ضرورية وعامة الصدق).
وعلى الرغم من أن العقل الأداتي أو التقني له مزاياه، إلا أن النزعة الوضعية والبراجماتية ألحقتا به الضرر، فقد أصبح التقدم الفكري يعني تقدما صناعيا، وانفصلت المفاهيم والتصورات عن مصدرها العقلي، ولم يعد العقل هو قانونها ولا عادت قادرة على تحقيق أهداف الحياة. فالعدالة والحرية لا يمكن لهما أن يتحققا بالوضعية العلمية التي سلبت العقل كل علاقة بهما ولم تهتم إلا بالوقائع، وأصبحت خادمة لأدوات الإنتاج الموجودة، وانفصلت عن السياق الاجتماعي فلم تثمر غير الاغتراب.
ويرى هوركهيمر أن مهمة العقل الآن هي نقد ما يسمى بالعقل، أي أن تواجه النظرية النقدية العقل بالعقل نفسه؛ وذلك بأن يضع نفسه في خدمة الكل أو المجموع الاجتماعي القائم. إنها - أي النظرية النقدية - «تعارض العقل الذي تهيمن عليه أية سلطة خارجية، كما تعارض العقل الذي يصر في صراعه من أجل البقاء على أن يخضع الآخر، وينكر عليه حريته، وذلك حتى تستعيد النظرية النقدية المفهوم أو التصور المثالي للعقل الذي يهتم بإلغاء الظلم الاجتماعي.»
43
ويأتي هربرت ماركوز (1898-1979م) ليقدم نظرية نقدية موجهة بشكل أساسي ضد المجتمع الصناعي - ذي البعد الواحد - في النظام الرأسمالي. وهو يحدد دور العقل فيها بتفتيت بنية هذا المجتمع ومؤسساته السياسية، ثم يوكل إليه أيضا مهمة تغيير واقع المجتمع بالثورة عليه، والبحث عن قوى جديدة لم تنخرط بعد في تروس الآلة الصناعية. وعلى الرغم من وجود قدرات عقلية في المجتمع الرأسمالي، إلا أن النظام السياسي يتسم بأنه لا عقلاني؛ ولذلك يتم توظيف العقل في الحضارة الصناعية لإخفاء هذه اللاعقلانية. كما تؤدي لا عقلانية العقل إلى إنتاجية متزايدة، فتقوم أجهزة الإعلام عن طريق الإيحاء بخلق احتياجات جديدة للبشر من أجل زيادة الإنتاج، أو على الأقل من أجل المحافظة على معدله. لم تعد الاحتياجات البشرية تنشأ من داخل الفرد، بل صارت تنشأ لأسباب تقنية واقتصادية، فالنظام الرأسمالي يقوم بتلبية الاحتياجات اللاعقلية للبشر من أجل زيادة العمل والإنتاج، وليس من أجل تحقيق سعادتهم. ولكن كيف تحولت العقلانية التقنية إلى لا عقلانية؟ لقد أمنت التقنية مستوى معيشة الفرد وراحته، ولكنها فرضت عليه من القيود ما سلبه حريته، مما جعل العقل لا يحقق غرضه الأصيل في توفير حياة إنسانية متطورة بشكل حر، بل فرضت الحضارة اللاعقلانية حصارا حول الوعي والوجود المغترب. «إن عقلانية المجتمع المعاصر وتقدمه وتطوره هي في مبدئها لا عقلانية»،
44
وأصبحت الحضارة نظاما ليس هدفه التغيير العقلي - الذي يعني تغيير النظام نفسه - بل هدفه تعقيل اللاحرية التي تجعل من استعباد الإنسان شيئا لا مفر منه. هكذا سيطر العقل الأداتي على الحياة الإنسانية؛ فالمنهج العلمي الذي مد سيطرته على الطبيعة، نجح الآن في السيطرة على الإنسان نفسه. وإذا كان عقل التنوير قد انتقد السيطرة وسعى لإلغائها، فقد سمح بالعقل التقني الذي أفرز «المجتمع الشمولي العقلاني»، وقد نجح هذا العقل في ترسيخ الخضوع للتسلط بشكل لا يمكن ملاحظته، بحيث تحولت التقنية إلى أيديولوجيا؛ لأن القيود التي تفرضها تظهر على أنها خاضعة للعقل الذي رتب ونظم كل شيء على نحو أفضل عن طريق تلبية وإشباع الحاجات والرغبات المادية بشكل أفضل مما كان في السابق. وبذلك يتم تسكين الرغبة في التحرر، ويتقبل البشر هذا الكبت بدون احتجاج، ويتأسس هذا الرضا في وعيهم وتصورهم؛ إذ وجدوا سعادتهم في السلع التي يستهلكونها، بينما هي تستهلكهم. «إن التكنولوجيا المعاصرة تضفي صيغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل تقنيا أن يكون الإنسان سيد نفسه، وأن يختار أسلوب حياته ... إن الإنسان بات خاضعا لجهاز تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل.»
45
وإذا كانت السيطرة في الماضي «يفرضها أفراد وضعوا أنفسهم فوق قمة تراتبية، فإنها تفرض اليوم من النظام الكلي نفسه؛ ففي ظل هذا النظام توجد مجموعات لها سلطة إدارية تجد مصلحتها في حفظ النظام، ولكن هؤلاء ليس لديهم الشجاعة أن يعلنوا أن الاحتياجات التي يحققها زائفة، وأن النظام المسيطر يعمل على خلق احتياجات جديدة، وخلق وسائل جديدة لتلبية هذه الاحتياجات.»
46
إن العقل الكمي الخاضع للقياس الذي يفصل ما هو كائن عما ينبغي أن يكون، ويقدم نفسه باعتباره متحررا من القيمة، هو نفسه العقل الذي لا يفهم الواقع المعاصر؛ فنزعة الفعالية في العلوم الطبيعية، والنزعة السلوكية في العلوم الاجتماعية، لم يرتفعا فوق الوضع القائم، ونجد على سبيل المثال أن «علم الاجتماع التجريبي يبحث الظواهر الاجتماعية بمعزل تام عن سياقها الاجتماعي التاريخي الذي نشأت فيه؛ ولذلك تأتي قياساته غامضة وغير دقيقة؛ لأن السياق الاجتماعي هو الذي يحدد الواقع وبدونه لن يكون الواقع مفهوما، وقد أدى هذا - في رأي لاندمان - إلى أن المجتمع الحديث يمارس التسلط، ويبرع في جعله غير مرئي وغير محسوس، فنشأ بطبيعة الحال علم اجتماع غير قادر على التعرف على التسلط، بل أصبح عاملا مساعدا على حفظ النظام، وباعثا على الطمأنينة.»
47
ويشارك ماركوز كلا من هوركهيمر وأدورنو الرأي في أن العقل لا هو مطلق ولا ثابت، بل هو نسبي متغير ينتمي إلى اللحظة التاريخية، وأن التطور التاريخي والواقع المتغير قدما عقلانية تحولت إلى لا عقلانية. والعقلانية المعاصرة تريد أن تؤيد الوضع القائم، وتزعم أنها تقدم نظريات تعارض اللاعقلانية الموجودة. وإذا كانت وظيفة الفلسفة دائما هي التعرف على لا عقلانية الواقع، ورفضه رفضا عينيا، فإنها قصرت وظيفتها اليوم في رأي ماركوز على ما يسمى بعقلانية ما بعد التقنية، على حين أنه يمكن للفلسفة أن تقدم وظيفة بديلة عندما لا تجد حرجا من العودة إلى أحكام القيمة، وتتجاوز النظام الموجود، وتعلو عليه بشكل نقدي، ولكن تزداد صعوبة هذه المهمة عندما تزداد فعالية هذا النظام بأن يرفع من مستوى معيشة أفراده، ويمارس مهارته في التعتيم على الاعتراضات الداخلية، بحيث يبدو البحث عن بديل لهذا النظام شيئا غير عقلاني، «إن البنية التقنية وفعالية جهاز التدمير والإنتاج قد ساهمتا في إخضاع السكان لتقسيم العمل ... والرقابات التقنية غدت اليوم تعبيرا عن ذات العقل الذي أصبح خادما لكل الجماعات ولكل المصالح الاجتماعية، بحيث إن كل تناقض يبدو لا عقلانيا وكل معارضة مستحيلة.»
48
إن تدعيم هذه العقلانية الزائفة لا يولد سوى الكبت والتدمير، بحيث لا يجدي معها إصلاحات أو تحسينات، بل لا بد من تغيير جذري وثوري للنظام بأكمله. وهذا يعني تحطيم العقلانية التقنية السائدة.
هل يفهم مما سبق أن ماركوز يعارض التقدم التقني؟ حقيقة الأمر أنه يطالب بتقنية تحت سيطرة البشر، تقنية غير موجهة وغير مستبدة ولا متحكمة في الإنسان، وأن تتم سيطرة الغايات على الوسائل، وأن تعاود التقنية الظهور من أجل خدمة الإنسان وتحقيق سعادته. كما يجب أن يرفض الوعي الأخلاقيات التي قام عليها العمل من أجل تحقيق أهداف اقتصادية عملية، وأن تتحول المعرفة البرجوازية التي تخدم المصلحة إلى معرفة خالية من المنفعة.
ونلاحظ عند ماركوز نمطين من النقد؛ أحدهما: «محافظ»، والآخر: «ماركس». لقد أراد لنظريته النقدية أن تكون ثورية بالمعنى الماركسي، ولكن الثورة الحقيقية عنده غير ممكنة؛ لأن ثورته هي ثورة الهامشيين والمنبوذين. لذلك فهو لا يحسب في جانب الفوضوية الشاذة، ولا في جانب التغيير الاجتماعي الجذري، ولذلك أيضا ظل محافظا رغم ادعائه للثورية. وعلى أية حال فمهما كان الرأي في أصالة فكر ماركوز، فهو قد أثر تأثيرا عميقا على الفكر السياسي في أواخر الستينيات من هذا القرن خاصة في ثورة الطلاب التي اندلعت في أواخر الستينيات.
هنا يحسن بنا أن نقف وقفة نقدية من أصحاب النظرية النقدية، فمع أن الفكر الفلسفي المعاصر قد تجاوز التفكير الميتافيزيقي الكانطي والهيجلي، إلا أنه ما زال هو التأمل العقلي الذي يؤصل الجوانب المعرفية والسلوكية والأخلاقية. وعلى الرغم من زعم أصحاب النظرية النقدية بأنهم قد تخلصوا من التأثير الكانطي والهيجلي معا، إلا أن بدايات النظرية نفسها تؤكد عكس ذلك، فهي لم تستطع أن تتخلص تماما من تناقضاتهما، ومن هنا تأتي أهمية الدور الذي يلعبه هابرماس (1929م) أبرز أعضاء الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت لكي تتجنب النظرية النقدية أخطاء الفلسفة الترانسندنتالية الكانطية والجدل الشمولي الهيجلي، على الرغم من اعترافه بأهميتهما، وبأن هيجل «وضع أساس النزعة المطلقة الفلسفية التي تطمح أو تستهدف دورا أكبر للفلسفة من ذلك الذي طمح إليه كانط»، فقد التقط نظرية الحداثة الكامنة عند كانط، وأبرزها وطورها من نوع من النقد المعرفي إلى نوع من النقد للأشكال المتناقضة للحداثة، وهذه الانعطافة الهامة هي التي أعطت للفلسفة قيمة تاريخية عالمية في علاقتها بالثقافة ككل.
49
وإذا كان هابرماس يعترف بأن الفلسفة تساهم بدور هام في تحليل الأسس العقلية للمعرفة والفعل والقول، فهو يقر أيضا بأنها تكتسب علاقة قوية بالكل ويتساءل: «لكن هل هذا يكفي؟ وماذا عن النافذة التي فتحها كانط وهيجل على كلية الثقافة بتصوراتهما ومفاهيمهما التأسيسية والافتراضية للعقل؟»
50
لم تعد الفلسفة في رأي هابرماس هي القاضي الذي تمثل أمامه مختلف العلوم والثقافات لكي يعين لكل منها مكانه، ولهذا نجده يتساءل: «ماذا يحدث لو تنازلت الفلسفة عن دور القاضي في شئون العلم تماما كما في شئون الثقافة؟ هل يعني هذا أن علاقة الفلسفة بالكلية قد انقطعت؟ وهل يعني أنها لم تعد حارسة للعقلانية ؟»
51
يحاول هابرماس الإجابة على هذه الأسئلة ببيان أن موقف الثقافة ككل لا يختلف عن موقف العلم ككل، فهما ليسا بحاجة إلى تأسيس أو تبرير من جانب الفلسفة: «فمنذ فجر الحداثة في القرن الثامن عشر أوجدت الثقافة تلك البناءات العقلانية التي حددها كل من ماكس فيبر وامبل لاسك بوصفها مجالات القيم الثقافية، ووجود هذه المجالات يستدعي الوصف والتحليل وليس التأسيس الفلسفي»،
52
فانقسام العقل عند ماكس فيبر إلى مجالات ثلاثة - على سبيل المثال - وهي العلم الوضعي، والمشروعية الأخلاقية والمعايير الجمالية، لم يكن للفلسفة فيه إلا دور قليل.
ويرى هابرماس أن الإنقاذ الوحيد للمضمون العقلي للتراث الفلسفي يكمن في فهم العلوم الأخرى، بحيث تصبح مهمة النظرية النقدية هي تحويل دور العقل من وظيفته المتعالية التي تحدد لكل علم مكانه، إلى وظيفة التفاعل والحوار مع العلوم الأخرى. لقد أراد أن يعيد تشكيل النظرية عن طريق إعادة بناء العقلانية الاجتماعية فقدم ما أطلق عليه «العقلانية التواصلية» في مقابل «العقلانية الأداتية» التي هاجمها الجيل الأول من أصحاب النظرية النقدية، وبذلك انطلق هابرماس إلى خطوات أوسع، ووضع معايير نقدية جديدة من أجل تأسيس نظرية للمجتمع تستهدف عقلنة الحياة الاجتماعية، أو بمعنى آخر إقامة حياة اجتماعية حرة على أسس عقلانية. هكذا نجد أن النقد عند هابرماس قد أخذ أبعادا أخرى، فهو «يعتقد أن العقل الحديث لم يستنفد كل إمكاناته للقيام بمراجعة ذاته، ومحاكمة نتاجاته اللاعقلانية، ومن ثم يتعين إيجاد تصور مختلف للعقلانية إذا أردنا عدم السقوط في الأسطورة كما حدث لمعظم الفلاسفة الذين اعترضوا على عالم التقنية مثل هيدجر.»
53
وقد تأثرت النزعة النقدية عند هابرماس إلى حد كبير بعقلانية ماكس فيبر، فهي عند هذا الأخير - كما سبق القول - في مجالات ثلاثة: مجال الوقائع الموضوعية العلمية، ومجال المعايير والمشروعية، وأخيرا مجال القيم والدلالات الرمزية. وقد حاول هابرماس إعادة صياغة هذا البناء العقلاني الاجتماعي، فأصبحت شروط السلوك العقلاني في رأيه «لا تقتصر على المستوى المعرفي الأداتي، بل تمتد أيضا إلى مجال الأخلاق العملية.»
54
ومعنى هذا أنه لا يغفل أهمية العقلانية الأداتية الموجهة لهدف ولا دورها في تلبية المتطلبات المادية في المجتمع، ولكنه أيضا يؤكد على جانب آخر على قدر كبير من الأهمية، وهو فهم التفاعل الداخلي بين الذوات، والتفاعل اللغوي في الحوار لتصبح العقلانية عنده في نهاية الأمر بمثابة استعداد خاص لذوات لديها القدرة على القول والفعل، ولكي يصل إلى «فهم العالم المعيش، فإن الأمر لا يقتصر على ثمار العلم والتقنية، وإنما يتعلق بالفلسفة التي عليها أن تقوم بدور المؤول (أو المفسر)، وأن تجدد صلتها بالكلية، وأن تكون قادرة على المساهمة في حركة التفاعل بين الأبعاد المعرفية الأداتية، والممارسة الأخلاقية والتعبير الجمالي ... وبذلك تتخلى الفلسفة عن دور القاضي الثقافي، وتلعب دورا آخر هو دور المؤول الوسيط.»
55
ولم ينكر هابرماس الدور الكانطي والهيجلي في مشروعه الفلسفي، بل رأى «أن أساليب التفكير الترانسندنتالي والجدلي ما زالت صالحة؛ لأنها تستطيع أن تقدم الأسس والفروض النظرية التي تقوم عليها ميادين الفعل والتجربة والتواصل اللغوي. وتقديم أمثلة عن التعاون والتكامل الناجحين بين الفلسفة والعلم يمكن أن يتم من خلال معرفة تطور النظرية العقلانية بدون أي مطامح ذات نزعات تأسيسية أو أخلاقية على طريقة كانط أو هيجل ... ومن خلال تجاربي واهتماماتي البحثية بدا أن هناك تعاونا بين فلسفة العلم وتاريخ العلم، بين نظرية أفعال الكلام والدراسات التجريبية للتداول اللغوي»،
56
وبذلك دخلت الفلسفة في شكل من أشكال التعاون مع العلوم الإنسانية.
بهذه النظرة إلى رفع الفلسفة إلى علم إنساني فلسفي يتحول التفكير العقلي الفلسفي إلى نظرية نقدية لا يمكن لها أن تعمل مستقلة عن العلوم التجريبية، أو ما يسميه هابرماس علوم إعادة البناء الاجتماعي، على ألا تكون وظيفتها بحث نتائج العلوم خاصة بعد تزايد مجالات التخصص الدقيق في فروع العلوم المختلفة، بل تكون وظيفتها هي عمل نوع من الحوار، ووضع بعض الفروض التجريبية التي تنصب على المشاكل العملية مثل ممارسات الحياة اليومية والكلام والسلوك والتعاون مع العلوم المختلفة، وذلك كله دون أن تفقد ما يميز الفلسفة دائما، وهو الطابع الكلي، بل تمارس هذه الوظيفة الواقعية الجديدة في إطار العقلانية والحرية.
هكذا قام هابرماس بإعادة بناء النظرية النقدية، وجعل لها دورا أكثر تواضعا، وأدمجها داخل الحياة العملية والعلوم الاجتماعية والتجريبية. وتحتفظ الفلسفة عنده بدورها التقليدي كحارسة للعقل واستقلاله، ولكنها تستطيع الآن - كما يرى بومان - أن توظف المعارف التي تتوصل إليها العلوم الاجتماعية والتجريبية في نقد الحياة بالطريقة التي قام بها الإغريق ولأداء الدور السقراطي العريق في نقد الحياة.
57
إن للفلسفة دورا تؤديه من خلال التأمل في المعرفة والكلام والفعل، ومن خلال هذا التأمل تستطيع الفلسفة أن تساعد في تحديد أو إبراز بعض الشروط اللازمة لإقامة شكل من أشكال الحياة العقلانية، سواء استطاعت المجتمعات بعد ذلك أن تحققه أم خرجت عليه، بمعنى أن تساعدنا على فهم وتفسير ونقد التقاليد والمؤسسات التي نتوارثها باعتبارنا أعضاء في مجتمعات معينة، ونعيش في ظروف تاريخية محددة. وبهذا يختلف هابرماس اختلافا صريحا عن النظرة السلبية للتاريخ التي ذهبت إليها مدرسة فرانكفورت في مرحلتها المتأخرة. فنظريته النقدية تحاول أن تفتح نافذة الأمل - مهما يكن هذا الأمل متواضعا - في تحقيق بعض الشروط اللازمة لإقامة حياة اجتماعية على أسس عقلانية. ولعل ماركس - في رأي بومان - قد شارك في هذا الأمل في أحلك أيام نشأة الرأسمالية. وتصبح النظرية النقدية نظرية عملية كلما استطاعت أن تزود المتطلعين للتغير الاجتماعي بنظرات تدلهم على إمكان العثور على حلول للمشاكل التي تواجههم بطريقة عقلانية ومستقلة كلما تهيأت الظروف والشروط التي تسمح بذلك. وقد سبق أن قامت النظرية النقدية دائما بهذه الأدوار المعيارية والتفسيرية والعملية منذ أن حاول ماركس أن يحول الفلسفة إلى أداة للتغير والتحرر.
58
وأخيرا نسأل: ماذا قدم لنا نقد العقل الذي امتد من كانط وهيجل وماركس إلى أصحاب النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت عبر أجيالها المختلفة؟ ماذا قدم لنا بعد أن نزل العقل، أو بمعنى آخر أجبر على النزول عن عرشه المتوج إلى قلب المجتمع والتاريخ؟ وإلام أدى تطور مفهوم العقل منذ الإغريق وعصر التنوير وتطور آلياته ومناهجه المعبرة عنه حتى الآن؟ هل استطاع أن يحقق وضعا وحياة أفضل للإنسان الذي هو هدف التاريخ وغايته؟ وهل أمكنه أن يحرره من القوى التي استعبدته عبر عصور طويلة سواء أكانت قوى طبيعية أو سياسية، ومن الظروف والقيود التي كبلته على مدى تاريخه الطويل؟
لقد رأينا أن العقل تطور إلى لا عقل كما أثبت ذلك أعضاء مدرسة فرانكفورت في نظرياتهم النقدية التي تعد آخر حلقة من حلقات تطور العقل النقدي، وقد بينوا بطرق مختلفة أن العقلانية المعاصرة ربطت بين العقلانية والتكنولوجيا الأداتية، أي عقلانية السيطرة عن طريق التقنية كما ركزوا نقدهم على العقل الأداتي الذي اتخذ العقل أداة منهجية للسيطرة على الطبيعة والتاريخ معا، ومما لا شك فيه أن نقد العقل في مدرسة فرانكفورت يختلف اختلافا أساسيا عن النقد السابق له منذ نقد كانط للعقل، وحتى نيتشه، ومن جاء بعده؛ إذ يتميز بأنه نقد ذو بعد اجتماعي، وأنه يدور في المقام الأول حول نقد نظرية الحقيقة أو الهوية عند هيجل لإقامة بناء نقدي على أساس اجتماعي، فكان لا بد من دحض نظرية الهوية لإظهار واقع البشر كما رأينا عند أدورنو في دعوته إلى «اللاهوية».
إن اتخاذ أصحاب النظرية النقدية من النقد أداة لتغيير المجتمع من جذوره، وللكشف عن اللاعقلانية التي تمخضت عن العقل نفسه، لم يكن رفضا للعقلانية - كما قد يبدو ذلك من القراءة السطحية لأفكارهم - بل كان في الحقيقة دعوة إلى مزيد من العقلانية التي تدرك التغاير والاختلاف بدلا من الوحدة والتوحد. وإذا كان مفهوم العقل أو العقلانية في نقد مدرسة فرانكفورت قد عجز عن إقامة نسق عقلي متكامل، ولم يركز على شكل واحد من أشكال العقل الذي أثبتوا أن له أشكالا متعددة، فهو لا يصدر أيضا عن مفهوم متعال على الواقع وخارج عن التاريخ، بل يسعى إلى تحليل نقدي للواقع، ومواجهة لا عقلانيته للكشف عن كل ما يعوق العقلانية الإنسانية، أي أنهم يسعون باختصار إلى تغيير الواقع ليصبح أكثر إنسانية.
وإذا كانت النظرية النقدية تنتمي إلى التراث الماركسي كأحد الروافد الأساسية في تكوينها كمنهجية علمية ونقدية مع تأويل جديد للمادية التاريخية بطبيعة الحال قام به أعضاء المدرسة بأشكال مختلفة، إلا أنها - أي النظرية النقدية - قد ارتفعت - في تقديرنا - من منهجية نقدية إلى فلسفة تاريخ جديدة، أي أن البعد الحقيقي للنظرية النقدية هو فلسفة التاريخ. فهي تعيد تقييم الذات التاريخية نفسها، وتحلل علاقة العقل بالتاريخ ، الأمر الذي يفضي إلى إعادة تقييم التاريخ وغاية الحضارة، بحيث يمكن القول بأن النظرية النقدية في حقيقتها الأخيرة هي تعبير عن فلسفة مدرسة فرانكفورت في التاريخ؛ فالعقل الذي قضى على الأسطورة، قد تحول هو ذاته إلى أسطورة، ودخل في أزمة مع نفسه في قلب التاريخ حين جعل العقل الأداتي من الإنسان سيدا على الطبيعة، ثم أصبح الإنسان نفسه مجرد أداة إلى آخر ما عرضنا له سابقا، بالإضافة إلى عدم فصل العقل والتنوير عن الجذور الاجتماعية والسياسية ولا عن تطور العقل التاريخي من أجل تغيير الواقع، وهذا كله ليس سوى فلسفة تاريخ جديدة لإنسانية جديدة.
ونعيد طرح السؤال السابق: ماذا قدمت مدرسة فرانكفورت؟ لا بد قبل محاولة الإجابة أن ننوه هنا بأن هذا البحث ليس بحثا عن هذه المدرسة بوجه خاص ولا هو تعريف بأعضائها الذين يحتاجون بغير شك إلى دراسات مستفيضة، ولكننا نتعرض لها فقط من حيث إنها تمثل آخر حلقة من حلقات تطور العقل النقدي الذي هو موضوع هذا البحث. وفي هذه الحدود نعيد طرح السؤال بصورة أخرى: ماذا قدمت النظرية النقدية للخروج من اللاعقلانية؟ هل بالتخلي عن العقلانية وإزالة العقل؟ لا، بل بمزيد من العقلانية بإعادة إدخال العقل في التاريخ، وبتعقيل العقل لذاته، فلا يكفي نقد العقل للواقع فحسب، بل آن الأوان لينقد العقل ذاته لإنقاذه من نفسه، ويعيد التفكير في علاقة الإنسان بالطبيعة، وفي علاقة الناس فيما بينهم كما بين هابرماس في نظرية «الفعل التواصلي»، أي الانتقال من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي الذي يفترض أن يسترد دوره الخلاق في الحياة الإنسانية الحرة الواعية.
وأخيرا يلح السؤال: هل استطاعت النظرية النقدية بالفعل إنقاذ العقل من نفسه؟ وهل استطاعت أن تقترب من هدفها الأساسي وهو تحرير إنسانية الإنسان وتأكيد فرديته المقهورة، وإبعاد أشباح اللاعقلانية الزاحفة عليه في عصرنا الحاضر بأشكال مختلفة؟ الواقع أن بعض أعضاء المدرسة - مثل أدورنو وماركيوز - لم يجدوا هذا الإنقاذ إلا في الفن.
59
وفيما عدا ذلك فقد غلب التشاؤم على معظم أعضاء المدرسة، ومع ذلك تظل أهمية النظرية النقدية كامنة في سلاحها النقدي، وفي تعبيرها عن صرخة العقل في مواجهة تناقضاته. وإذا كانت هذه الصرخة قد بقيت حتى الآن على مستوى الفكر الفلسفي والتأملي، ولم تستطع أن تشكل نظرية متكاملة وقادرة على توجيه الفعل الإنساني على أرض الواقع، فإنها تظل تعبيرا حيا وصادقا عن أزمة العقل التاريخي والنقدي في الحياة الفلسفية المعاصرة في الغرب.
نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس
مقدمة
يورجين هابرماس
Jürgen Habermas (1929م-...)
فيلسوف وعالم اجتماع ألماني، وواحد من أهم أعضاء الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت، وقد اعتاد الباحثون على التأريخ لهذه المدرسة بأنها تطورت على مرحلتين أساسيتين: تمت المرحلة الأولى على أيدي الجيل الأول من المؤسسين وعلى رأسهم هوركهيمر وأورنو وإيريك فروم وغيرهم. ثم جاءت المرحلة الثانية متمثلة في الجيل الثاني، ويعد هابرماس اليوم بغير شك أكبر الشخصيات المرموقة المعبرة عن هذا الجيل، وهو شخصية مثيرة للخلاف والجدل في المناقشات الفلسفية والنقدية الاجتماعية في ألمانيا وخارجها، وقد حقق شهرة واسعة في البلدان الأوروبية والإنجلوسكسونية على السواء.
تأثر هابرماس بأستاذه أدورنو في بداية حياته الفكرية، ثم تحرر من هذا التأثير وانتقده، ونهج نهجا مخالفا، وهب حياته للدفاع عن عقل التنوير الذي انتقده أدورنو وهوركهيمر وأدانه سائر أعضاء الجيل الأول من مؤسسي مدرسة فرانكفورت. وعلى الرغم من تأثر هابرماس بالنزعة النقدية لهذه المدرسة، إلا أنه لم يقف عند حدودها، بل تجاوزها واستعان - بجانب تراث الفلسفة الألمانية - بمختلف العلوم الإنسانية وشتى الاتجاهات الفلسفية المعاصرة، كفلسفة اللغة وفلسفة التأويل والأنثروبولوجيا الفلسفية، «علاوة على الكانطية والهيجيلية والماركسية والتيارات الفلسفية الألمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن المصادر الأساسية لنظرية هابرماس النقدية بدأت أولا عبر تأثره العميق بفلسفة مارتن هيدجر، ثم بالفلاسفة الألمان المعاصرين، وبخاصة رواد مدرسة فرانكفورت، أو أولئك الذين جمعوا بين الفلسفة والسوسيولوجيا والمنظور السياسي في دراسة الواقع.»
1
وبالإضافة إلى دراسته للتاريخ وعلم النفس والاقتصاد السياسي والأدب الألماني، فقد أفاد هابرماس - على وجه الخصوص - إفادة هائلة من تطور علم اللغة في عصره، وربما لهذا السبب ينظر له بعض الباحثين على أنه يمثل تيارا مختلفا عن التيار الذي انطلقت منه النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، مما جعلهم ينكرون انتماءه للجيل الثاني، ويزعمون أنه مؤسس نظرية نقدية جديدة. والواقع أن قولهم هذا فيه إجحاف وتجاوز للحقيقة، فعلى الرغم من أن هابرماس أمد النظرية النقدية بدماء جديدة استقاها من مختلف العلوم الإنسانية التي نهل منها، ووضع أسسا نقدية جديدة محاولا «الخروج من دائرة النظرية النقدية بطرحه نظرية اجتماعية أكثر اتساقا وتنظيما، ليضع بذلك نسقا تحليليا شبيها بعض الشيء في خطوطه العريضة بنسق بارسونز النظري»،
2
فليس هذا بالشيء الغريب على فيلسوف هو سليل تراث نقدي طويل، بدءا من كانط وهيجل إلى ماركس ونيتشه وهيدجر وحتى الجيل الأول من مؤسسي مدرسة فرانكفورت أنفسهم. لكل هذا يعد تفكير هابرماس تطويرا للنظرية النقدية وممثلا لجيلها الثاني؛ فمنطق التطور التاريخي والفكري يقضي بألا يأتي الجيل الثاني نسخة مكررة من الجيل الأول، ومرددا لنفس الأفكار. هذا بالإضافة إلى أنه - أي هابرماس - استفاد من تطور العلوم المعاصرة مما جعله يوسع آفاق النظرية النقدية إلى حد بعيد، ويضعها في نسق اجتماعي شامل، حتى امتدت شهرته إلى سائر أنحاء أوروبا وأمريكا لأصالة ما طرحه من إشكالات فلسفية واجتماعية عديدة.
تطور فكر هابرماس على مرحلتين؛ اتسمت المرحلة الأولى بالطابع التحليلي الإبستمولوجي، وتمثلت في أعماله عن «التقنية والعلم كأيديولوجيا» و«الرأي العام»، كما كان كتابه «المعرفة والمصلحة» (عام 1965م) أول كتبه المهمة في هذه المرحلة التي تبني فيها منهجا نقديا متأثرا بفلسفة كانط وماركس، وحاول في هذا الكتاب أن «يعيد بناء تسلسل جينالوجي للعلوم الطبيعية والإنسانية الحديثة؛ وذلك بالرجوع إلى الظروف الاجتماعية والتاريخية والمعرفية التي نشأت في ظلها، وقد كشف هذا البحث الاستقصائي - في رأيه - عند تزايد التخصص في مجالات المعرفة التكوينية المختلفة، بحيث بلغت مرحلة تعذر فيها الحوار النقدي بين هذه المجالات، ونتج عن ذلك أن وقع التفكير - لا سيما في الفلسفة والعلوم الإنسانية - تحت تأثير أشكال مختلفة من التفكير الذاتي النسبي أو حتى غير العقلاني»،
3
وقد كشفت المرحلة التحليلية من تفكيره عن الخلط بين المجالات والمستويات المعرفية التي انتهت إلى فصل النظر عن العمل.
تحرر هابرماس بعد ذلك من أسر فلسفة التأمل الذاتي التي طغت على تفكيره المبكر في مرحلة الشباب، وتحول - بدءا من كتابه «منطق العلوم الاجتماعية» - إلى مرحلة أخرى يمكن أن نطلق عليها اسم المرحلة التأسيسية، كما تمثلت في «نظرية الفعل التواصلي» بجزأيه، و«الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي»، و«الخطاب الفلسفي للحداثة»، وهي الأعمال التي توجت مشروعه الفلسفي. وتحول هابرماس من مفكر يهتم بالموضوعات والأشياء إلى مفكر يهتم بقضايا التفاهم والتواصل بين الذوات. وسعى إلى تأسيس نظرية نقدية جديدة تهدف إلى هدم فلسفة الذات وفلسفات الوعي المتمركزة حول العقل من ناحية، وإلى وضع الأسس النظرية لفلسفة تدور حول التواصل من خلال اللغة من ناحية أخرى «ما أنهك هو نموذج فلسفة الوعي، ولئن كان الأمر كذلك، فإنه لا بد من أن تختفي أعراض الإنهاك فعلا بالانتقال إلى نموذج التفاهم.»
4
ومنذ ذلك الحين يعمل هابرماس على تغيير اتجاه الفكر الفلسفي، من فلسفة تدور حول الذات إلى فلسفة تدور حول التواصل الإنساني، بل وينبغي أن يستبدل «بنموذج معرفة الأشياء نموذج الوفاق بين ذوات قادرة على الكلام والعمل.»
5
إن الذي دفع هابرماس إلى التحول اللغوي هو عجز التيارات السابقة عليه عن إنتاج الأسس المعيارية لنظرية نقدية للمجتمع. وقد تبلور هذا الاتجاه في مشروع فلسفي انتهى بوضع «نظرية الفعل التواصلي». فما هي الملامح الأساسية لمشروع هابرماس الفلسفي؟ وماذا يعني بالفعل التواصلي؟ وما هي الأسس النظرية التي استند إليها هذا التواصل؟
سنحاول فيما يلي التعرف على الملامح الأساسية لهذا المشروع الضخم، ولما كانت التفاصيل الدقيقة لنظرية الفعل التواصلي تفوق حدود هذا البحث، فقد رأينا إجمال الأفكار الأساسية أو الخطوط العريضة لهذه النظرية في النقاط الآتية التي سنعرض لها تباعا: (1)
المؤثرات الفكرية في مشروع هابرماس، ونتناول أهم الأفكار التي انطلق منها، والتيارات الفلسفية التي ساعدت على بلورة نظرية الفعل التواصلي. (2)
العقلانية التواصلية، وتتناول مفهوم هابرماس عن العقلانية كما حددها ماكس فيبر، ومحاولة تأسيس عقلانية جديدة يعد البعد التواصلي أحد أبعادها الأساسية. (3)
شروط تحقق التجربة التواصلية، وتتناول أهم الشروط التي يجب توافرها - في رأي هابرماس - ومراعاتها في الحوار بين المتحاورين من أجل تحقيق تواصل غير مشوه. (4)
نظرية الفعل التواصلي، وتتناول النماذج الأربعة للفعل الاجتماعي (الفعل الغائي - الفعل الموجه بالمعايير - الفعل الدرامي - ثم أخيرا الفعل التواصلي)، ثم نعرض بشيء من التفصيل لفلسفة اللغة التي تعد هي الوسيط الذي يتم التواصل من خلاله، وذلك لبلوغ نوع من التفاهم بين المشاركين في التجربة التواصلية. (5)
عقلنة العالم المعيش، وتتناول مكونات العالم المعيش، وإمكان إعادة بنائه بناء عقلانيا باعتباره السياق الاجتماعي الذي تتم فيه أفعال التواصل.
وننهي هذا البحث بخاتمة تلقي نظرة تقييمية عامة على أبعاد المشروع الفلسفي لهابرماس. (1) المؤثرات الفكرية في مشروع هابرماس
يعد هابرماس - كما سبق القول - ممثلا للجيل الثاني من النظرية النقدية التي أخذت على عاتقها نقد عقل التنوير، وتجلى هذا النقد بصورة واضحة في «جدل التنوير» لهوركيمر وأدورنو، الذي عبرا فيه عن الانتكاسة التي أصابت التنوير والنكوص الذي أصاب العقل عندما تم توظيفه كأداة لخدمة الإنتاج الصناعي في المجتمعات الرأسمالية، وما ترتب على ذلك من اغتراب الذات عن الموضوع، وتحول عقل التنوير إلى ما أطلق عليه اسم «العقل الأداتي». وقد شارك هابرماس أعضاء الجيل الأول في نقدهم للعقل الأداتي، وكان بإمكانه أن يسير في «الجدل السلبي» الذي سار فيه أدورنو، ولكنه لم يجد فيه عاملا مساعدا على بناء نظرية نقدية متناسقة منهجيا، وذلك على الرغم من أن الفرصة لذلك كانت مواتية عندما بحث كل من هوركهيمر وماركوزة أوائل الثلاثينيات في بدايات الفلسفة البراجوازية العقلية، ووجدا فيها إمكانات عقلية كان من الممكن تنميتها على يد الطبقة العاملة والطبقات الهامشية، ولكن «جدل التنوير» كشف عن انهيار العقل ، وبدأت الشكوك تحوم حول هذا الأمر، وخاصة أن أدورنو كشف عن تناقضات النظرية النقدية، وأظهر التنوير في شكل معاد للحقيقة والصدق، فرأى هابرماس أنه لا بد أن يخرج من دائرة الجدل السلبي الذي لم يتبن سوى جانب الهدم.
وسرعان ما تحول هابرماس إلى ناقد للنظرية النقدية نفسها وجيلها الأول - في المرحلة الثانية من تطوره الفكري - وتصدى لما اعتبره نقاط ضعف في بنية النظرية، بل إن الأمر على حد قوله: «لم يكن ثمة نظرية نقدية (هكذا أجاب في إحدى مقابلاته على سؤال عما يراه من أوجه القصور في النظرية النقدية) لم يوجد مذهب متماسك ... لأن نظرية المجتمع ينبغي أن تكون نسقية، وبدا لي أن أوجه الضعف في النظرية النقدية يمكن أن تجمع تحت عنوان «الأسس المعيارية» وفي «مفهوم الحقيقة وعلاقتها بالأنظمة العلمية» و«التقليل من قيمة التراث الديمقراطي والدولة الدستورية».»
6
هكذا كان افتقار النظرية النقدية إلى الأسس المعيارية للنقد، واقتصارها على نقد مفهوم العقل الأداتي بغير أن تتجاوزه إلى نظرية نسقية، وتبنيها - في رأي هابرماس - لمفهوم الحقيقة عند هيجل مع أنه لا يتفق مع قابلية البحث العلمي للخطأ. وعدم أخذها - على مستوى النظرية السياسية - الديمقراطية مأخذا جادا، كل هذا دفعه - أي هابرماس - إلى البحث عن دماء جديدة تغذي النظرية النقدية، وتتلافى أوجه القصور فيها بوضع نظرية في الفعل التواصلي تكون «بديلا عن فلسفة التاريخ التي عولت عليها النظرية النقدية المبكرة، والتي يعد الدفاع عنها ممكنا.»
7
ومن أجل هذا جمع بين الهرمينوطيقا (فلسفة التأويل) وفلسفة اللغة، بحيث يمكن القول إنه مدين بنظريته عن الفعل التواصلي لحدوث استقاها من اللغويين والتحليليين.
انطلق هابرماس من سد الثغرات التي وجدها في النظرية النقدية، ونصب نفسه مدافعا عن العقل والعقلانية التي وجد فيها أساسا لنظرية اجتماعية نقدية جديدة، ومن أجل هذا الهدف وجد نفسه في مواجهة مع مشكلات الحداثة، وما آل إليه العقل الحديث، كما وجد نفسه أيضا في حالة مواجهة مع كل التيارات الفلسفية المضادة للحداثة، وتيارات ما يسمى ب «ما بعد-الحداثة» ونزعاتها التفكيكية للعقل. وكان عليه أن يتصدى للمطالبين بتحجيم دور العقل والمحتجين على هيمنته، داعيا لتفعيله لا لتحجيمه، ورافعا شعاره الشهير «إن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد.» ولكن نقد العقل من قبل التيارات الفلسفية المعاصرة هو الذي دفع هابرماس لإعادة صياغة نظرية عقلانية جديدة. كما دفعته فلسفة هيدجر بتحليلاتها الأنطولوجية - التي ركزت على وجود الإنسان في العالم ووجوده مع الآخرين ... إلخ، ولم تنطلق من الوعي - إلى «الاهتمام بالوعي الفردي والوعي الجماعي، ومحاولة الكشف عن درة هذا الوعي على تحديد نمط الوجود ... فتأسست لديه البدايات الأولى التي قادته إلى التطلع نحو التحرر الاجتماعي من منظور سوسيولوجي وهو المنظور الغائب في فلسفة هيدجر»،
8
ولذلك كان هدف هابرماس هو تحرير الوعي الاجتماعي وتأسيس نظرية تقوم على التواصل الإنساني.
كان علم الاجتماع أيضا أحد المكونات الأساسية في مشروع هابرماس الفلسفي؛ لارتباطه بمشكلة العقلانية والمشكلات التي نجمت عن تحديث المجتمع، وأهمية دور النظرية الاجتماعية في تحولات القيم الموجهة لمؤسسات المجتمع من اقتصادية وسياسية واجتماعية. كما أن تأسيس نظرية للمجتمع تطلب منه إعادة بناء تاريخي للنظريات الاجتماعية الكلاسيكية. ومن هنا كان اهتمامه بعلماء الاجتماع أمثال ماكس فيبر ودور كايم وتالكوت بارسونز، والتفاته بوجه خاص لنظرية الفعل عند هذا الأخير الذي اتخذ منه نموذجا وشرع في العمل على صياغة نظريته في الفعل التواصلي. فقد حاول هابرماس تقديم نظرية بها نوع من التداخل بين منطلقات مختلفة، فقام بالتأليف بين النزعة الوظيفية عند تالكوت بارسونز وبين النظرية العقلانية عند ماكس فيبر مستندا إلى التحليل الماركسي من أجل تأسيس نظرية للمجتمع الحديث محاولا كذلك حل أزمة العلوم الاجتماعية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف قام هابرماس بتطوير أفكاره بتناول: «(أ) نظرية دور كايم عن تطور القانون، ووضع التطور القانوني في سياق الأشكال المتغيرة للتكامل الاجتماعي التي انتبه إليها. (ب) منطق هذا التغير في الشكل يمكن أن يتضح من خلال تجربة فكرية تقوم على أساس فكر دور كايم، كما يعتمد تفسيرها أو شرحها - أي التجربة الفكرية - على أفكار ميد حول أخلاق الخطاب، وتشخيص ميد عن التطور الحتمي للفردية سيتيح لنا أن نتوسع في بحث الهوية والتفرد.»
9
وكانت النظرية العقلانية عند ماكس فيبر مرجعا أساسيا في مشروع هابرماس الفلسفي والخلفية التي قام عليها والتي تحددت في إعادة بناء العقلانية الاجتماعية عند ماكس فيبر بعد أن قام بتحليل المفهوم العقلي عنده: «ينظر ماكس فيبر إلى مفهوم العقلانية العملية من ثلاث منظورات: استخدام الوسائل، ووضع الغايات، والتوجه نحو القيم. وتقاس العقلانية الأداتية لفعل ما بالتخطيط الفعال لتطبيق الوسائل في سبيل الوصول إلى أهداف معينة، وتقاس عقلانية اختيار الفعل بالتقدير الصحيح للغايات والأهداف في ضوء قيم محددة ووسائل ممكنة وظروف معينة. وتقاس العقلانية المعيارية للفعل بالقدرة على التوحيد والتنظيم المنهجي والنفاذ إلى مستويات القيمة. والمبادئ التي يخضع لها اختيار الأفعال، ويطلق فيبر على هذه الأفعال التي تحقق شروط عقلانية الوسائل والاختيار اسم «العقلانية الغائية» كما أطلق على تلك الأفعال التي تحقق الشروط المعيارية العقلية اسم «عقلية القيم»، وهذان الجانبان يمكن أن يختلفا بعضهما عن بعض.»
10
هكذا قسم فيبر النشاط العقلي إلى ثلاثة مجالات: مجال الواقعية الموضوعية العلمية أو العلم الوضعي، ومجال المعايير والمشروعية أو المشروعية الأخلاقية، ومجال القيم والدلالات الرمزية أو المعايير الجمالية. وقد فصل فيبر بين المجالات الثلاثة: «فالتقدم الذي نحرزه على مستوى العقلانية الغائية يمكن أن يكون في صالح نموذج عقلاني غائي، وإن كان يحيط به الشك من الناحية الأخلاقية، وبذلك يكون على حساب الفعل المرتبط بعقلانية القيم، والواقع أن الثقافة الغربية العقلانية قد تطورت في هذا الاتجاه، ولكن هناك ما يدل أيضا على الاتجاه المعاكس، فتعقيل الاتجاهات القيمية يمكن أن يقوم على تعطيل الفعل العقلاني الهادف أو الغائي في نفس الوقت، ويضرب فيبر مثلا على ذلك بالبوذية المبكرة التي يعتبر أنها قامت على أسس أخلاقية عقلانية بمعنى أنها مكنت معتنقيها من التحكم في كل الدوافع الغريزية، وإن كانت في الوقت نفسه قد أدت بهم إلى الفشل في السيطرة على العالم بشكل منهجي منظم.»
11
أعاد هابرماس النظر في هذه المجالات الثلاثة من أجل وضع نظرية عقلانية للمجتمع أو من أجل عقلنة العالم المعيش، وذلك بدمج هذه المجالات (العلم-الأخلاق-الفن) التي فصلها ماكس فيبر عن بعضها: إن السلوك العقلاني المنهجي في الحياة يتميز بأنه يقوم ببناء ذلك النموذج من الفعل المركب الذي يهدف إلى العقلانية والاستزادة منها أو تفعيلها في كل الجوانب الثلاثة السابقة الذكر، بحيث يجمع بين هذه البناءات العقلانية ويدمجها بعضها في بعض؛ لكي تتعاون لإحداث نوع من الاستقرار مما يجعل النجاح في أحد هذه المستويات يفترض - وإلى حد ما يشجع على - النجاح في المستويين الآخرين؛ فالسلوك العقلاني المنهجي في الحياة يشجع على نجاح الفعل على النحو التالي: (1)
من زاوية العقلانية الأداتية، وذلك بإيجاد حل لقضايا التقنية وإيجاد الوسائل الفعالة. (2)
من زاوية عقلانية الاختيار، وذلك بالاختيار الصائب بين البدائل المختلفة للفعل (فنحن نتحدث عن العقلانية الاستراتيجية عندما نضع في اعتبارنا القرارات العقلية التي يتخذها الخصوم). (3)
وأخيرا من زاوية العقلانية المعيارية، وذلك بإيجاد حلول للمهام الأخلاقية العلمية داخل إطار أخلاق تقوم على المبادئ.
12
حاول هابرماس تحليل البنية الاجتماعية للعقل، ووضع الشروط اللازمة لإقامة حياة اجتماعية على أسس عقلية؛ فإذا كان كل نشاط عقلي عند ماكس فيبر هو نشاط موجه لغاية بعينها. ومن ثم فهناك ارتباط ضروري بين العقلانية والتقدم العلمي والتقني، فإن هابرماس في سياق إعادة صياغته للعقلانية، يحلل النشاط العقلي في كل أبعاده، ليس فقط من المنظور المعرفي-الأداتي، بل أيضا بإدخال الأبعاد الأخلاقية - العملية والجمالية - التعبيرية. وبعد أن أكدت عقلانية ماكس فيبر على النشاط العملي في الفعل العقلي، جاء هابرماس ليؤكد - إلى جانب هذا المفهوم العملي للعقلانية - على النشاط التواصلي.
كانت فلسفة اللغة أيضا أحد - بل أهم - الروافد الأساسية في تكوين نظرية الفعل التواصلي؛ فقد اهتم هابرماس اهتماما خاصا بأعمال اللغويين وفلاسفة اللغة خاصة عند كل من جون أوستن
John Austin
وجون سورل
John Searle
في نظرية «أفعال الكلام»، وهي النظرية التي تنطلق مما يسمى بفلسفة اللغة الطبيعية، والتي طرحها فيتجنشتين في كتابه «بحوث فلسفية»، وفي فكرته الأساسية عن «ألعاب اللغة» واستحالة الفصل بين الدلالة والتركيب والتداول (أي الاستخدام الفعلي الحي للغة)، والتي تختلف جميعا من لعبة إلى أخرى، ولكن جون أوستن هو المؤسس لهذه النظرية التي انطلقت عنده من نقده لزعم فلسفي يدعي أن قول شيء ما هو دوما إثبات شيء ما، أي أن دور اللغة يقتصر على الإخبار عن العالم. وبالتالي فالقضايا النافعة هي التي تقبل الصدق أو الكذب، وما عداها ليس سوى أحكام خالية من المعنى. ولدحض هذا الرأي يقدم أوستن نماذج من عبارات لها صيغة الجمل الإخبارية، ولكنها لا تصف ولا تثبت حدثا أو واقعا، بل يتم بها إنجاز فعل ما (مثال ذلك جملة «بعتك سيارتي» عند التلفظ بهذه العبارة يقوم القائل بفعل البيع ولا يصف حال البيع) بهذا المعنى، فإن المتكلم يقوم بإنجاز فعل ما عند التلفظ بأي تعبير. وقد تابع الفيلسوف الأمريكي جون سورل تطور «نظرية أفعال الكلام»، واقترح معايير جديدة لتصنيف أفعال الكلام، وقد لاقت النظرية - أي نظرية أفعال الكلام - اهتماما كبيرا من جانب الفلاسفة واللغويين على السواء. (2) العقلانية التواصلية
انطلق هابرماس من مفهوم جديد للعقلانية، فإذا كانت الحداثة الأوروبية قد انتهت إلى ما يعرف بالعقل الأداتي، فقد أدانته كل التيارات الفلسفية المضادة للحداثة، وتعالت صيحات التخلي عن العقل، وعن الفلسفة التي يعتبر العقل موضوعها الأساسي. ومن هنا جاءت دعوة هابرماس لتفعيل دور الفلسفة والتأكيد على أهمية العقل باعتباره المنطلق الأساسي لأي نظرية في المجتمع. ولذلك أراد هابرماس تفجير الطاقة الإبداعية لعقل التنوير باعتبار أن الحداثة - في رأيه - مشروع لم يكتمل بعد. وإذ كان التطور الحديث - كما سبق القول - كشف عن سلبيات العقلانية الأداتية، فإن هذا ليس مبررا كافيا للتخلي عن مشروع الحداثة، بل لا بد أن تواصل المجتمعات الحديثة تطورها باستكمال هذا المفهوم الأداتي بإدخال البعد التواصلي في مفهوم العقلانية.
يحدد هابرماس مفهوم العقلانية بقوله: «إن ما نسميه «عقلانية» هو أولا الاستعداد الذي تبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والعمل وعلى اكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ.»
13
وإذا كانت الحداثة قد انتهت بما يسميه هابرماس بالتمايز بين العلم والأخلاق والفن ، فإن قصر مفهوم العقل على فلسفات الوعي مؤكدا أنه - أي الوعي - يمثل جانبا واحدا فقط من النشاط العقلي، وأراد وضع العقل في إطار أشمل؛ لهذا قام بإدخال البعد التواصلي في مفهومه الجديد عن العقلانية. وهذا البعد هو الذي يحقق التفاعل بين الناس من خلال التواصل اللغوي الهادف إلى التفاهم المتبادل وفق قواعد أخلاقية تحكم العملية التواصلية حسب معايير متفق عليها، ومن خلال هذا نصل - في رأيه - إلى العقلانية التواصلية.
ولكن ما هل العقلانية التواصلية التي حاول هابرماس أن يقدم من خلالها تفسيرا لبنية المجتمع المعاصر؟ يجيب الفيلسوف على هذا السؤال بتحديد أبعاد ثلاثة ينطوي عليها مفهوم العقلانية التواصلية: «أولها: علاقة الذات العارفة بعالم الأحداث والوقائع، ثانيها: علاقتها بعالم اجتماعي يتميز بالفاعلية وبالانخراط الشخصي في التفاعل مع الآخرين، وأخيرا علاقة شخص يعاني أو شخص عاطفي - بتعبير فويرباخ - علاقته بطبيعته الباطنة أو بذاتيته وذاتية الآخرين.»
14
تلك هي الأبعاد الثلاثة التي تتضح للمرء عندما يحلل عمليات التواصل.
ويهدف هابرماس من العقلانية التواصلية إلى وضع نظرية نقدية لمجتمع يقوم على أسس عقلانية: «أريد أن أبين أنه من الممكن تطوير نظرية الحداثة باستخدام مفاهيم نظرية تواصلية تملك دقة تحليلية تحتاجها الظاهرة الاجتماعية المرضية التي يسميها التراث الماركسي بالتشيؤ.»
15
ولن يكون هذا إلا بإعادة توظيف أو تحديد دور الفلسفة في المجتمع، عندما تقوم - أي الفلسفة - بدور التفسير أو التأويل، وأيضا عندما تتحول وظيفتها من وظيفة المرشد أو القاضي للعلوم الأخرى إلى الانخراط في المجتمع بإقامة نوع من التعاون والحوار بينها وبين مختلف العلوم. «إن مفهوم العقل التواصلي المتأصل في الممارسة اللغوية والموجه للتفاهم يتطلب من الفلسفة أن تأخذ على عاتقها من جديد إنجاز مهام نسقية، وفي هذه الحالة يمكن للعلوم الاجتماعية الدخول في علاقة تعاونية مع الفلسفة التي تضطلع بمهمة العمل على تأسيس نظرية عقلانية.»
16
على أن تمارس هذه الوظيفة الجديدة في إطار العقلانية والحرية. هذا من جانب، ومن جانب آخر يساهم علم الاجتماع أيضا في تحقيق هذا المفهوم الجديد للعقلانية التواصلية باعتباره - أي علم الاجتماع - العلم الذي يبحث في التحولات التي تطرأ على الحياة الاجتماعية، والأمراض الاجتماعية التي نجمت عن عمليات التحديث والعقلانية.
وقد نظر هابرماس إلى الحياة اليومية على أنها وسيط واعد بإعادة الوحدة المفقودة للعقل، وأن «التفسيرات المعرفية والتوقعات الأخلاقية وأشكال التعبير والتقييم لا تستغني خلال التواصل اليومي عن أن تتداخل وتتفاعل، والوصول إلى فهم العالم المعيش يتطلب تراثا حضاريا يتخلل المنظور كله، ولا يقتصر على ثمار العلم والتكنولوجيا.»
17
المشكلة إذن هي كيف يتحقق التوازن من جديد بين عناصر العقل المنفصلة؟ رأى هابرماس أن الحل لن يكون إلا من خلال التواصل في الحياة اليومية، وأن للفلسفة دورا في «تحريك التفاعل بين الأبعاد المعرفية الأداتية، والأخلاقية-العملية، والجمالية-التعبيرية التي كادت أن تتوقف اليوم ... والقضية هي كيف يتم التغلب على عزلة الثقافة العلمية والأخلاقية والفنية. وكيف يمكن ربطها بالعالم المعيش، وكيف يتم ذلك كله بغير انتقاص من عقلانيتها الخاصة، أي العلوم والأخلاق والفن.»
18
ويؤكد هابرماس أن هذا لن يتحقق إلا من خلال الفلسفة باعتبارها «حارسة للعقلانية»، وأنها لا تأخذ بالممارسات العادية كما هي في الحياة اليومية، بل تحفز للوصول إلى مبرراتها العقلية وأسبابها الحقيقية، فهناك أسباب وراء أفعال التواصل سواء بين الناس أو بين العلوم المختلفة.
ويتضمن مفهوم العقلانية التواصلية كل ما يتعلق بالنشاط العقلي، ولما كان هذا النشاط العقلي يدور حول المعرفة وتطبيقاتها، فقد قسمه هابرماس إلى نوعين: (1) نشاط عقلي معرفي-أداتي، وهو النشاط الموجه إلى غاية، ويحقق النفع، وتسخر فيه المعرفة من أجل النجاح، ويستخدم الإنسان هذا النوع من النشاط لمعرفة البيئة المحيطة به. ويحدد هابرماس العلاقة بين العقلانية والمعرفة بأنها - أي العقلانية - «لا تهتم كثيرا بامتلاك المعرفة بقدر ما تهتم بالطريقة التي تستخدم بها الذوات القادرة على الكلام والفعل هذه المعرفة وكيف تعمل على تطبيقها.»
19 (2) نشاط عقلي وتواصلي وتمارسه ذوات قادرة على الكلام والفعل. فإذا كانت غاية النشاط الأداتي هو تحقيق المنفعة والنجاح عن طريق التقنية للسيطرة على البيئة الطبيعية والإنسانية على السواء، فإن غاية النشاط التواصلي - باعتباره معنيا بما يجري في الحياة الاجتماعية - هو التوجه نحو التفاهم بين الذوات. بمعنى آخر ينظر هابرماس إلى النشاط العقلي من منظورين؛ أحدهما هو المنظور الأداتي أو الاستخدام الأداتي للمعرفة، والآخر هو المنظور التواصلي، وهو نوع من المعرفة التعبيرية اللغوية.
من هذين النوعين من النشاط العقلي يصوغ هابرماس مفهوما تركيبيا لعقلانية تواصلية جديدة تجمع بين المجالات الثلاثة للعقل عند كانط، أي العقل النظري والعملي وملكة الحكم، كما يقول هابرماس نفسه في إحدى مقابلاته: «ينبغي أن يكشف العقل عن وحدة لحظات العقل المتفرقة في نقد كانط الثلاثي: وحدة العقل النظري مع البصيرة الأخلاقية والحكم الجمالي.»
20
وقد انطلق هابرماس من هذا المفهوم الجديد للعقلانية إلى تحليل البنية الاجتماعية للعقل، وهو التحليل الذي أفضى به إلى وضع نظريته في الفعل التواصلي. وقد بدأت بوادر هذه النظرية في كتابه «المعرفة والمصلحة» قبل أن يتوجها في كتاب ضخم من جزأين. ففي هذا المؤلف (أي المعرفة والمصلحة) صنف هابرماس المعرفة العلمية في ثلاثة أنواع مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمصالح البشرية، أي أنها ليست معرفة محايدة ولا منزهة عن الغرض، كما أنها تربط الإنسان ببيئته الطبيعية من ناحية، وبالطبيعة الاجتماعية من ناحية أخرى، وأول هذه الأنواع هي المعرفة التجريبية-التحليلية المتمثلة في العلوم الوضعية، والمصلحة المرتبطة بهذا النوع هي المصلحة التقنية. وتنمو هذه المعرفة من خلال العمل، وهي التي سادت في المجتمعات الحديثة، وأطلق عليها اسم العقل الأداتي.
وعلى الرغم من عدم رفض هابرماس لهذا النوع الأول من المعرفة، بل واعترافه بأهميته الشديدة، إلا أنه يؤكد أن العمل وحده ليس كافيا لتمكين الإنسان من تحويل بيئته، بل إن القدرة على استخدام اللغة والرموز والعلامات من أجل تحقيق التواصل بين البشر لا تقل أهمية عن العمل. فإذا كانت القدرة على هذا الأخير قد أفضت إلى ظهور «المصلحة التقنية»، فإن القدرة على التواصل تفضي إلى ظهور «المصلحة العملية» المتمثلة في العلوم التاريخية-التأويلية، وهي معرفة تتجه إلى تحليل النصوص وتأويلها وتحددها مصلحة عملية تهدف إلى حفظ وتوسيع مجال الفهم الممكن بين الكائنات البشرية وتحسين عملية الاتصال.
وينصب اهتمام المصلحة العملية على «التفاعل البشري؛ أي على طريقة تأويل أفعالنا تجاه بعضنا البعض، وطريقة فهمنا لبعض، والسبل التي نتفاعل بها في إطار التنظيمات الاجتماعية ... وتهدف إحدى أفكار هابرماس الأساسية إلى الكشف عن الوسيلة التي بموجبها تقوم البنى الاجتماعية بتشويه عملية التفاعل، وتثير فيها الاضطراب والبلبلة؛ إذ إن سوء الفهم وارد بين البشر، ويمكن خداعهم وتضليلهم بشكل منظم.»
21
ثم يظهر النوع الثالث والأخير من المعرفة والمتمثل في العلوم والفلسفات التي يغلب عليها الطابع النقدي، والمصلحة المرتبطة بهذا النوع هي التحرر من كل أشكال الاغتراب، و«من العلوم التي تسعى إلى هذا الهدف نقد الأيديولوجيات والتحليل النفسي والنظرية النقدية ذاتها، وكلها علوم تعمل على كشف القوى والمصالح الخاصة التي تشوه فعل التواصل، وتبحث الشروط اللازمة للتوصل إلى إجماع حقيق لا يعوقه قهر أو قمع داخلي أو خارجي، والتحرر من كل أشكال السيطرة وأبنيتها.»
22
أي أن هذا النوع الأخير من المعرفة مرتبط أيضا باللغة، ويسعى إلى تخليص التفاعل والتواصل من العناصر التي تشوهه. (3) شروط تحقق التجربة التواصلية
لا يريد هابرماس للنشاط التواصلي أن يتخبط في العشوائية، وحتى لا يصبح تواصلا مشوها لا بد أن تحكمه شروط يجب أن تتوافر في المشاركين في التفاعل. فإذا كانت نظرية الفعل تبتعد عن فلسفة الوعي، فالنشاط التواصلي لا يكون مجرد فعل تقوم به ذات منعزلة، ولكنه مناقشة أو حوار يتم بين مختلف الذوات الفاعلة أو بين ذاتين فاعلتين على الأقل. وتنتقل نظرية الفعل التواصلي من نموذج حوار الذات مع نفسها إلى حوار يتم بين الذوات المشاركة في التواصل. أي أنه بمعنى آخر ليس حوارا فرديا للفاعل مع ذاته، وإنما هو حوار ومناقشة تدور بين ذوات فاعلة مختلفة، وهو حوار تحكمه شروط أهمها:
أن النشاط التواصلي لن يتم إلا من خلال علاقة تفاعل بين فردين أو أكثر داخل سياق العالم المعيش؛ ولذلك فمن حق كل شخص له القدرة على الكلام والفعل أن يشارك في التجربة التواصلية، على أن يعلن اعترافه بمزاعم أو مطالب الصدق المتفق عليها.
أن تتم عملية التواصل من خلال اللغة التي يتم بواسطتها علاقة بين المشاركين في التفاعل وبين العالم الخارجي، وبينهم وبين الذوات الأخرى، باعتبارها - أي اللغة - الوسيط الأساسي في النشاط التواصلي، وعن طريقها يتم الوصول إلى نوع من التفاهم بتوظيف الجمل والعبارات أو التعبيرات التي يتلفظ بها أعضاء الجماعة المشاركة في التواصل سواء كانوا متحدثين أو مستمعين.
أن تهدف التجربة التواصلية للوصول إلى اتفاق بين الذوات المشاركة في التفاعل، ويفترض هذا الاتفاق وجود معرفة مشتركة بينهم، أو على الأقل وجود نوع من التقارب في وجهات النظر، وأن يتم الاعتراف المتبادل على مزاعم الصدق (التي سنشير إليها بعد قليل) من أجل الوصول إلى إجماع.
إذا تشكك أحد المشاركين في التواصل في الدقة المعيارية لتعبير ما، أو إذا تعرض أحد مزاعم الصدق للشك، أو لم يستطع المشاركون في التواصل تبريره أو الدفاع عنه بالحجج العقلية، فإن مزاعم الصدق نفسها تصبح موضع سؤال، وربما يختل التواصل أو يتوقف، وفي هذه الحالة لا بد للمشاركين في التواصل من إعادة فحص تلك المزاعم من جديد، ومراجعتها مراجعة نقدية لتصحيح أخطائها، ومعنى هذا أن العملية التواصلية تخضع لما يسمى بديمقراطية الحوار.
يفترض المشاركون في التواصل أن الحوار له «قواعده الأخلاقية التي من أهمها توافر ظروف تضمن الإجماع الذي لن يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل.»
23
وبهذا يخضع الحوار لمعايير مفهومة يمكن تبريرها، والبرهنة عليها بحجج عقلانية معترف بها من قبل أطراف التواصل.
أن يتحرر الحوار من كل أشكال الضغط والقهر التي يمكن أن تمارس عليه من الخارج، أي أن يكون حوارا حرا بين ذوات حرة ومتكافئة في المكانة والمستوى لضمان موقف مثالي للحديث.
أن يتاح لكل مشارك في الحوار فرصة مساوية لسائر المشاركين، وأن يتمتع كل منهم بحق التأكيد أو الدفاع أو التساؤل حول ما يراه من قبول أو رفض لمزاعم الصدق وفق المعايير المعترف بها، مع الاعتراف بإمكانية الوقوع في الخطأ، وإمكانية تصحيحه أيضا فلا شيء يعلو على النقد، ولا نمارس أي سلطة على الحوار سوى سلطة العقل.
أن يعبر كل مشارك في التواصل عن مزاعم الصدق والقدرة على تبريرها للمشاركة في عملية التفاهم المتبادل بأن: «يختار تعبيرا معقولا لكي يتمكن المتكلم والمستمع من تفهم الواحد للآخر، والمتكلم يجب أن تكون له نية توصيل مضمون قضوي (من القضية) حقيقي لكي يتمكن المستمع من مشاطرة معرفته، وعلى هذا المتكلم أيضا أن يعبر عن مقاصده بصدق، لكي يتمكن المستمع من تصديق تلفظ المتكلم (والثقة به)، وأخيرا يتعين على المتكلم اختيار تلفظ دقيق بالقياس إلى المعايير والقيم الجاري بها العمل، لكي يتمكن المستمع من قبول هذا التلفظ بطريقة تجعل المتكلم والمستمع في وضعية القدرة على الاتفاق على التلفظ ذي الخلفية المعيارية.»
24
بذلك حدد هابرماس شروط التواصل والمطالب الأساسية المفترضة لفهم الأقوال والتعبيرات، وهي نفس المطالب الأربعة التي تستلزمها أفعال الكلام: «قابلية التعبير اللغوي للفهم، وحقيقة مضمونه أو صدق محتواه، ومصداقية مقاصد المعبر عنه أو إخلاصها، والمشروعية المعيارية للقول أو التعبير، أي المطالبة بأن يكون صحيحا أو ملائما بالنظر إلى علاقته بمضمون قيمي أو معياري يقربه المتكلم والسامع معا.»
25
وهذه هي الشروط الأساسية للحوار أو المناقشة الحرة التي تضمن تحقيق تواصل غير مشوه، فإذا ما توافرت هذه الشروط أمكن صياغة نظرية محكمة للفعل التواصلي. (4) نظرية الفعل التواصلي
يدين هابرماس في نظريته عن الفعل التواصلي إلى فلسفة اللغة كما صرح هو نفسه بذلك في إحدى مقابلاته: «أنا مدين لكل من النزعات التداولية والتحليلية للنظرية اللغوية ... إن غاية الفهم المتبادل مغروسة في الاتصال اللغوي.»
26
كما استمد أيضا بعض عناصرها - أي نظرية الفعل التواصلي - من نظرية أفعال الكلام بوجه خاص، ومن علم اللغة الاجتماعي «إن مفهوم الفعل التواصلي يفترض اللغة بوصفها الوسط الذي يمكن أن يتحقق فيه نوع من التفاهم، ومن خلاله يستطيع المشاركون في التفاعل أن يثيروا مزاعم الصدق التي يمكن الاتفاق عليها أو الاختلاف حولها.»
27
كما طور هابرماس نظريته من بعض الأفكار المتعلقة بالمضامين التي ينطوي عليها الحوار أو المحادثة كما طورها مفكرون من أمثال بول جرايس.
28
وقد كان أحد الأسباب التي دفعت هابرماس إلى هذا التحول نحو اللغة هو بغير شك ذلك «الرفض المنتشر على نطاق واسع لما يسمى بالحجج التأسيسية في كل أشكالها ومظاهرها.»
29
وقد كان من أسباب هذا التحول أيضا اقتناع هابرماس المتزايد بأن التفكير التنويري (أو مشروع الحداثة) قد قام بالتحديد بمثل هذا النقد، وذلك بتركيزه الشديد على النموذج المعرفي المتمركز حول الذات. لهذا كان هدفه هو إعادة صياغة هذا المشروع التنويري أو الحداثي من خلال ما سماه بالبراجماطيقا (أو التداول اللغوي).
لقد صاغ هابرماس من مفهومه الجديد عن العقلانية نظرية في الفعل التواصلي تنشئ «علاقة داخلية بين البراكسيس (الممارسة) وبين العقلانية وتدرس المتضمنات العقلية التي تفترضها ممارسة تواصلية يومية، وتتيح للمضمون المعياري المرتبط بالفاعلية الموجهة نحو الفهم المتبادل التوصل إلى مفهوم عقلانية تواصلية.»
30
وتدخل نظرية الفعل التواصلي ضمن إطار مشروع هابرماس الأكبر، وهو تأسيس نظرية نقدية للمجتمع الحديث، ويمكن إجمال مشروعه في مراحل ثلاث: يرى في المرحلة الأولى ضرورة التحرر من «فلسفة الوعي»، وهي الفلسفة التي ترى أن العلاقة بين اللغة والفعل كالعلاقة بين الذات والموضوع، بينما يؤكد هابرماس أن العلاقة في الفعل التواصلي تكون بين ذات وذات. ويرى في المرحلة الثانية ضرورة أن يتخذ الفعل صورتين: الفعل الاستراتيجي، ويتضمن الفعل العقلاني الغائي، وفعل التواصل الذي يرمي للوصول إلى الفهم. ويرى في المرحلة الثالثة ضرورة إعطاء فعل التواصل الأولوية مما يترتب عليه أمور ثلاثة؛ أولا: أن العقلانية - بهذا المعنى - تستلزم نسقا اجتماعيا ديمقراطيا يشمل الجميع، ولا يستبعد أحدا، وهدفه ليس الهيمنة، بل الوصول إلى تفاهم. ثانيا: ثمة نظام أخلاقي - يحاول هابرماس الكشف عنه - يتوجه إلى التوصل لمعايير عبر نقاش عقلاني حر، تبحث فيه نتائج كل معيار من تلك المعايير الأخلاقية، أي نظام يلقى القبول والرضا عن طريق الإقناع العقلي، وليس عن طريق القوة أو القسر. ثالثا: فكرة وجود مجتمع ديمقراطي بحق، يكون فيه للجميع فرص متكافئة لاستخدام أدوات العقل، كالمساهمة في الحوار، ويكون لكل فرد فيه صوت مسموع يحسب حسابه عند اتخاذ القرار النهائي.
31
ويمثل مفهوم الفعل التواصلي - كما حدده هابرماس نفسه في تصديره للكتاب الذي يحمل نفس العنوان - مدخلا لثلاثة موضوعات متشابكة؛ أولا: مفهوم العقلانية التواصلية الذي هو ذو طابع شكي، وإن كان في نفس الوقت يقاوم الاقتصار على معالجة العقل من الناحية المعرفية معالجة أداتية. ثانيا: مفهوم ثنائي المستوى عن المجتمع يربط بن العالم المعيش ونماذج المنظومات (أو المؤسسات) في شكل ليس إنشائيا فحسب. ثالثا وأخيرا: نظرية عن الحداثة تفسر نمط الأمراض الاجتماعية المتزايدة في عصرنا الحديث.
32
والمقصود - إذن - بنظرية الفعل التواصلي هو وضع سياق الحياة الاجتماعية التي نجمت عن مفارقات الحداثة في إطار تصوري عقلي أو مفهومي، ومعنى هذا بعبارة أخرى أن هابرماس أراد إحكام البناء التصوري العقلي للبناءات الاجتماعية التي يتم فيها التواصل.
يعرض هابرماس أربعة نماذج للفعل استقاها من نظريات العلوم الاجتماعية: (1)
النموذج الغائي للفعل، ويطلق عليه اسم النموذج الاستراتيجي، وغالبا ما يفسر تفسيرا نفعيا؛ فالفاعل يفترض أنه يختار ويحسب الوسائل والغايات من وجهة نظر تحقيق أكبر قدر من المنفعة. وهذا النموذج هو الذي يكمن وراء كل مناهج البحث النظرية التي تحتاج إلى اتخاذ قرار في الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي. (2)
مفهوم نموذج الفعل الذي توجهه وتنظمه المعايير، وهذا النموذج لا يشير إلى سلوك أفراد منعزلين يلتقون مصادفة بأفراد آخرين في محيطهم، وإنما يشير إلى سلوك أعضاء في جماعة اجتماعية يوجهون أفعالهم نحو قيم مشتركة. فالفاعل الفرد يعمل وفق معيار معين (أو يخرق هذا المعيار) عندما تتوافر في موقف معين شروط معينة يمكن أن ينطبق فيها ذلك المعيار. والمعايير تعبر عن اتفاق يتم التوصل إليه في داخل جماعة اجتماعية معينة. وجميع أعضاء الجماعة الذين يعتقدون بصدق معيار معين ينتظر منهم أن يتوقعوا من كل واحد منهم أن يقوم بتنفيذ الأفعال المطلوبة أو الامتناع عنها عندما تحكم بذلك مواقف معينة. والمفهوم الأساسي للموافقة على المعيار معناه الوفاء بتوقع سلوك معين. وهذا السلوك الأخير لا يحمل المعنى المعرفي بتوقع حدث متنبأ به، وإنما يحمل المعنى المعياري الكامن في توقع الأعضاء لسلوك معين. إن هذا النموذج المعياري للفعل يكمن وراء نظرية الدور المعروفة في علم الاجتماع. (3)
مفهوم الفعل الدرامي لا يحيل في المقام الأول إلى فاعل منفرد أو عضو في جماعة اجتماعية، وإنما يحيل إلى المساهمين في فعل مشترك، بحيث يكونون جمهورا يعرضون أنفسهم أمامه. والفاعل هنا يثير في جمهوره صورة معينة أو إحساسا معينا عنه هو نفسه. وذلك بالكشف عن ذاتيته كشفا متعمدا أو غير متعمد (بشكل مباشر أو غير مباشر). ففي الفعل الدرامي يستغل المساهمون هذا، ويحركون أفعالهم المشتركة بإتاحة الفرصة للتعرف على عوالمهم الذاتية. وهكذا فإن مفهوم تقديم الذات لا يعني السلوك التعبيري التلقائي، بل التعبير المنظم عن التجارب الشخصية بالنظر إلى جمهور يراقب هذا التعبير. إن النموذج الدرامي للفعل يستخدم قبل كل شيء في الوصف الفينومينولوجي للأفعال المشتركة «بين الذوات»، ولكنه لم يتطور حتى الآن، بحيث يصبح منهجا نظريا عاما. (4)
أخيرا نصل إلى مفهوم الفعل التواصلي الذي يحيل إلى الفعل المشترك لذاتين على الأقل قادرين على الكلام والفعل وإقامة علاقات شخصية مشتركة (سواء كانت علاقات لغوية أو غير لغوية)، إن الفاعلين هنا يسعون إلى تفهم موقف الفعل، وفهم خططهما للفعل؛ وذلك لكي ينسقا أفعالهما بالتراضي أو الاتفاق بينهما. والمفهوم الأساسي عن التفسير يشير في المقام الأول إلى السعي إلى تعريفات أو تحديدات للموقف، بحيث يمكن التوصل فيه إلى إجماع، وكما سنرى فإن اللغة لها مكان متميز في هذا النموذج.
33
تلعب اللغة إذن دورا أساسيا في نظرية الفعل التواصلي باعتبارها - أي اللغة - الوسيط الأساسي للتواصل بين الذوات. وحجة هابرماس في هذا هو أن قدرتنا على التواصل ذات بنية وقواعد أساسية لا توجد إلا في اللغة التي تتعلمها وتتحدث بها كل الذوات. فالتجربة التواصلية ليست هي القدرة على إنتاج جمل لها قواعد، وليست اللغة مجرد «نسق من الرموز له تركيبه النحوي ومعجمه وصوتياته ... أو له خصائصه الدلالية فقط، بل يهتم هابرماس باللغة من منظور خصائصها التداولية، فاللغة تشكل عنده نسقا من القواعد تساعد على توليد تعبيرات لدرجة أن كل تعبير مصاغ بشكل صحيح يعتبر عنصرا من عناصر هذه اللغة. ومن ثم فإن الذوات القادرة على استعمال هذه التعبيرات تشارك في عمليات التواصل؛ لأنها تستطيع التعبير وفهم الجمل والجواب عليها»،
34
تتشكل اللغة إذن من خلال التفاعل بين الذوات، والحديث بين المشاركين في التفاعل يربطهم بالعالم المعيش حولهم، وبالذوات الأخرى، ويربطهم أيضا بمشاعرهم ورغباتهم ومقاصدهم. ولذلك ترتبط نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس بنظرية أفعال الكلام.
وتقدم أفعال الكلام «بنية تلتقي فيها ثلاثة مكونات: (1) مكون جملي مهمته تصور (أو ذكر) أحوال الشيء. (2) مكون فعل منطوق مهمته عقد علاقات بين الأشخاص. (3) وأخيرا مكون لساني يعبر عن قصد المتكلم.
35
واستنادا إلى هذه الوظائف الثلاث للغة يمكن استخلاص ثلاثة جوانب مختلفة للمصداقية يتسنى وفقا لها رفض المستمع لعبارة المتكلم إذا رفض إما «حقيقة» ما أكد في العبارة (أو أيضا حقيقة الافتراضات الوجودية التي تشرف على مضمون العبارة)، «صحة» فعل اللسان نظرا للسياق المعياري، للصياغة (أو أيضا شرعية السياق المفترض ذاته)، وإما أخيرا «صدق» القصد الذي عبر عنه المتحدث (أي التطابق المفترض بين ما أراد قوله وبين ما قاله).»
36
هكذا تقضي نظرية الفعل التواصلي إلى مبدأ يقر بأننا نفهم قضية أو عبارة ما عندما نعرف شروط صحتها.
إن الأفعال التي تخضع للمعايير، مثلها مثل التأكيدات أو الأفعال الكلامية التقريرية، لها طابع التعبيرات الدالة على معنى وتكون قابلة للفهم في سياقها الخاص، كما أنها مرتبطة بمزاعم الصدق القابلة للنقد، فهي تحيل إلى معايير وتجارب ذاتية أكثر مما تحيل إلى وقائع خالصة. والفاعل في هذه الحالة يؤكد أن سلوكه صحيح بالنسبة إلى سياق معياري مشروع، أو أن أقواله بضمير المتكلم عن تجربة شخصية مارسها هي أقوال صادقة وأمينة. بيد أن هذه التعبيرات يمكن أن يسري عليها الخطأ كما يسري على الأفعال الكلامية التقريرية، ذلك «أن إمكانية اعتراف الذوات فيما بينها بمزاعم الصدق القابلة للنقد هو عنصر أساسي من عناصر عقلانيتها، والمعرفة الكامنة في الأفعال الخاضعة للمعايير أو في التعبيرات الذاتية، هذه المعرفة لا تحيل إلى حالات واقعية للأشياء، بل تحيل إلى صدق المعايير أو إلى التعبير عن التجارب الذاتية. إن المتكلم الذي يفصح عن هذه التعبيرات لا يحيلنا إلى شيء من أشياء العالم الموضوعي، وإنما يحيلنا إلى شيء موجود في العالم الاجتماعي المشترك أو في عالمه الذاتي الخاص به.»
37
أراد هابرماس وضع نظرية تحافظ على الالتزام بقيم الحقيقة والنقد والإجماع العقلي، ولكنها مع ذلك تؤكد ثقتها بإمكان التوصل إلى موقف لغوي مثالي، أي إلى مجال عام للمناقشة أو الحوار الحر الخالي من كل قمع. والتحرر الحقيقي يكون في «العودة إلى البراكسيس (الممارسة) كمقولة متضمنة في المشاركة الفعالة لكل فرد في التحكم في الظاهرة الاجتماعية، بمعنى آخر أن يكون الناس ذوات وليسوا موضوعات، ولهذا الغرض يجب، في رأي هابرماس، تحسين الاتصال الإنساني والمناقشة الحرة»،
38
فعندما تقوم الذات (أو الأنا) بفعل من أفعال الكلام، وعندما تتخذ ذات أخرى (أو الآخر) موقفا من هذا الفعل، فإنهما - أي الأنا والآخر - يعترف كل منهما بالآخر وينسجان أو يقيمان علاقة تواصلية بين الذوات الذين دمجوا اجتماعيا عبر التواصل، وهي علاقة مختلفة عن تلك الموجودة بينهم وبين العالم المادي.
لقد حاول هابرماس استخلاص المحتوى المعياري لفكرة الفهم الموجودة في اللغة والتواصل، وأدى هذا إلى مفهوم مركب لا يتضمن فحسب أن نفهم معنى الأفعال الكلامية، بل يتضمن كذلك التفاهم المتبادل بين المشاركين في التواصل، ليس فقط التفاهم حول معرفة تخص أمرا ما في العالم الموضوعي، بل تخص الوقائع والمعايير أيضا، وكذلك التجارب الشخصية: «إن المتحدث في كل فعل من أفعال كلامه يرجع في آن واحد إلى شيء ما يخص العالم الموضوعي وعالم الطائفة الاجتماعية، وإلى عالمه الذاتي»،
39
فهذا النموذج من الفعل التواصلي «يفترض أن المشاركين في التفاعل يمكن أن يعبئوا إمكاناتهم العقلية - التي تتركز وفقا للتحليل السابق في العلاقات الثلاث للقائم بفعل التواصل بالعالم - بحيث يكون ذلك معبرا عن الرغبة الصريحة في التوصل إلى التفاهم.»
40
لكن ماذا يعني هابرماس على وجه التحديد بالتفاهم؟ أنه ذلك الاتفاق الحادث بين المشاركين في عملية التواصل، بمعنى أن يحيل التفاهم إلى اتفاق مبرر عقليا بين الذوات القادرة على الكلام والفعل للوصول إلى إجماع، ولتحقيق هذا الغرض يكون للفهم «مستويات ثلاثة يكون على كل مشارك في التفاعل أن يحترمها لتحقيق غرض الفهم؛ ولهذا فإن المستمع يفهم التعبير أولا، أي يدرك دلالة ما يقال ، ثم يتخذ هذا المستمع موقفا بالإيجاب أو بالسلب، بالقياس إلى ادعاء معلن من فعل الكلام ثانيا، أي أنه يقبل أو يرفض العرض الذي يقترحه فعل الكلام. ونتيجة اتفاق ما يوجه المستمع فعله حسب المتطلبات القائمة بشكل توافقي ثالثا.»
41
وبهذا المعنى لن يتحقق الفهم إلا بتوافر مستويات ثلاثة أو اتباع خطوات ثلاث وهي أولا أن يفهم المستمع التعبير فهما جيدا ويدرك دلالته، ثانيا أن يتخذ موقفا إيجابيا أو سلبيا من هذا التعبير، أي يقبل أو يرفض ما تقترحه أفعال الكلام - بالمعنى السابق شرحه - وهو القول الذي لا يصف أو يثبت واقعا، بل يتطلب إنجاز فعل ما عند سماعه. ثم ثالثا وأخيرا يقوم المستمع بإنجاز الفعل بشكل يتوافق مع فعل الكلام.
إن مفتاح فكرة هابرماس عن التوصل إلى التفاهم تنطوي على اتفاق يقاس بما سماه بمزاعم الصدق
Validity Claims ، ففي الفعل التواصلي «تتوقف حصيلة التفاعل نفسه على إمكانية توصل المشاركين فيه إلى اتفاق فيما بينهم على تقييم مشترك لعلاقاتهم، وحسب هذا النموذج من الفعل، فإن النجاح الوحيد الممكن لتفاعل ما يتمثل في توصل المشاركين إلى إجماع عام بنعم أو لا لمزاعم الصدق المرتكزة على أسس عقلية.»
42
يتوقف إذن نجاح الفاعلية التواصلية على أن يتوصل المشاركون إلى اتفاق متبادل حول تحديد علاقتهم بالعالم. ونموذج نجاح التفاعل هو الوصول إلى إجماع بين مختلف المشاركين على مزاعم الصدق المدعمة بالحجج والبراهين العقلية.
لكن ما هي المقاييس التي يجب على أطراف التواصل مراعاتها لتحقيق هذا الهدف؟ أنها - كما حددها هابرماس - الحقيقة والدقة والصدق، أي على المشاركين في التفاعل توخي حقيقة العبارة ودقتها وصدقها واستنادها إلى الحجج والبراهين العقلية. وإذن فبإمكانية الوصول إلى التفاهم تكمن في «إمكان استخدام الأسباب أو الحجج التي تساعد على الحصول على اعتراف الذوات فيما بينها
Intersubjective
بمزاعم أو مطالب الصدق القابلة للنقد»،
43
هذا الإمكان موجود في الأبعاد الثلاثة السابقة، وليست مزاعم الصدق أو مطالبة مقصورة فحسب على صدق القضايا أو على فاعلية الوسائل التي تمكن من التوصل إلى نتائج يمكن نقدها، والدفاع عنها بأسباب عقلية ، بل يضاف إلى هذا أيضا المطلب القائل بأنه فعل صحيح أو ملائم، وذلك في علاقته بسياق معياري معين، أو أن مثل هذا السياق يستحق أن يعترف به كسياق مشروع. كل هذا يمكن أن يناقش بالحجج العقلية، بل يمكن أيضا أن يناقش المطلب الذي يلح على أن أية عبارة من العبارات هي تعبير صادق وأصيل عن تجارب الفرد الذاتية من عكس ذلك. والشاهد أنه في كل هذه الأبعاد يمكنه الوصول إلى اتفاق حول المطالب المختلف عليها عن طريق الحجة والاستبصار أو البصيرة، وبغير الرجوع إلى القوة والبطش، أي بالرجوع إلى الأسباب والحجج العقلية وحدها. وفي كل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة يوجد ثمة وسط تأملي يتيح معالجة أساليب الحجاج العقلي أو النقد التي تساعدنا على إثبات صحة المزاعم المختلف عليها، ومحاولة الدفاع عنها، أو حتى نقدها، ولأن مزاعم الصدق يمكن أن تنتقد، فهناك إمكانية لتصحيح الأخطاء والتعلم منها. ومن الطبيعي أن تخضع هذه المزاعم للاختبار والنقد والمراجعة. وهناك طرق عديدة لمناقشة وتنفيذ هذه المزاعم: «إن المعقولية التي تميز الممارسة التواصلية في الحياة اليومية إنما تشير أو تحيل إلى ممارسة الحجاج العقلي، وكأنه هو محكمة الاستئناف التي تمكن من استمرار الفعل التواصلي بوسائل أخرى عندما يصل الاختلاف في الآراء إلى حد لا يمكن تجاوزه عن طريق الأساليب الروتينية، بل لا يمكن أيضا فضه (أي الاختلاف) عن طريق الاستخدام المباشر أو الاستراتيجي للقوة.»
44
هكذا تعد الحياة اليومية أحد الأبعاد المهمة في فلسفة هابرماس التواصلية، وترتبط نظرية الفعل التواصل بالعالم المعيش ارتباطا أساسيا باعتباره - أي العالم المعيش - الخلفية الكامنة وراء كل مشارك في التواصل، وباعتباره أيضا السياق الذي يمكن أن يساعد على حل مشكلات الفهم، فأعضاء أي تجمع اجتماعي يشاركون في العالم المعيش الخاص بهم. فما هي إذن مكونات هذا العالم؟ (5) عقلنة العالم المعيش
يحاول هابرماس أن يشرح مفهوم العالم المعيش في الجزء الثاني من مؤلفه عن نظرية الفعل التواصل مستعينا في ذلك بما سبق أن شرحه في الجزء الأول من المؤلف نفسه عن النظرية التواصلية وعن أفعال الكلام؛ وذلك لأن مفهوم العالم المعيش بمكوناته المختلفة يمثل السياق الذي يشكل عملية التفاهم بين الذوات، كما أن أية نظرية عن المجتمع - وهو الهدف النهائي عند هابرماس - لا يمكن لها أن تقتصر على نظرية الفعل التواصلي دون أن تستمد شرعيتها من العالم المعيش. ويبين هابرماس كيف «أن هذا العالم المعيش - بوصفه الأفق الذي تتحرك فيه الأفعال التواصلية بصفة مستمرة - عرضة للتغير من خلال تحول بنية المجتمع ككل.»
45
إن فكرة العالم المعيش ليست فكرة جديدة ابتدعها هابرماس، لقد سبقه هوسرل في تحليل العالم المعيش تحليلا ظاهراتيا، كما أن فيتجنشتين قد تناوله من خلال تحليله لأشكال الحياة، إلا أنهما في رأي هابرماس لم يكن لهما هدف منهجي: «إذا طرحنا جانبا المشاكل الفلسفية للوعي التي تعامل بها هوسرل مع مشكلة العالم المعيش، فبإمكاننا أن نفكر في العالم المعيش كما يتمثل في مجموعة من النماذج التفسيرية نقلت عن طريق الثقافة الموروثة، ونظمت من خلال اللغة. عندئذ لا نحتاج إلى فكرة السياق المرجعي الذي يربط بين عناصر الموقف الواحد بعضها ببعض، كما يربط الموقف نفسه بالعالم المعيش، ولا نحتاج أيضا أن نفسر هذا كله في إطار فلسفة الظاهريات ولا في إطار سيكولوجية الإدراك.»
46
وترتب على ما سبق أن اتجه هابرماس إلى البحث في بناءات العالم المعيش بحثا تداوليا شكليا، بحيث يبرز البناءات التي تظل ثابتة على الرغم من تغير صور العالم المعيش وأشكال الحياة.
وإذا كان هابرماس قد ركز جهده في المجلد الأول من كتابه «نظرية الفعل التواصلي» على إعادة صياغة عقلانية ماكس فيبر من أجل تأسيس عقلانية جديدة، فإنه قد ركز جهده في المجلد الثاني من مؤلفه على إعادة عقلنة العالم المعيش. بمعنى آخر أنه - أي هابرماس - قدم فكرة العالم المعيش باعتبارها مكملة لمفهوم العقل التواصلي؛ لأنها مرتبطة أيضا بمفهوم المجتمع، بل وتشكل سياق الفعل الاجتماعي. وقد تناول هابرماس في المجلد الثاني أربع نقاط أساسية يقوم عليها هذا الجزء، وحاول شرحها في البداية: (1)
أن يوضح أن العالم المعيش مرتبط بالعوالم الثلاثة «الثقافة والمجتمع والشخص»، وهي التي تقيم عليها الذوات - التي تهدف إلى التفاهم المتبادل - تحديداتها المشتركة للمواقف المختلفة. (2)
أن يطور مفهوم العالم المعيش بوصفه السياق الذي يتم فيه العفل التواصلي، ويربطه بمفهوم دور كايم عن الوعي الجمعي. (3)
أن يربط مفاهيم العالم المعيش التي تستخدم عادة في علم الاجتماع التفسيري بمفاهيم الحياة اليومية التي لا تصلح إلا للعرض السردي للأحداث التاريخية والظروف الاجتماعية. (4)
أن يبحث في الوظائف التي يقوم بها الفعل التواصلي لإقامة عالم متنوع الأبنية. ويتم هذا البحث في أفق العالم المعيش، بحيث يمكن بالاستناد إلى هذه الوظائف توضيح الشروط الضرورية لعقلنة العالم المعيش. ويؤدي هذا إلى آخر حدود البحوث النظرية التي توحد بين المجتمع والعالم المعيش.
47
وفي هذه الحالة يقترح هابرماس أن نفهم المجتمع بوصفه نسقا وعالما معيشا في وقت واحد.
لقد أكد لنا التراث المنحدر من مدرسة دور كايم أن النظرية الاجتماعية تقوم على مفهوم العالم المعيش الذي يدور حول مسألة التكامل الاجتماعي. وقد اختار بارسونز تعبير
Societal Community (أي الجماعة المنتمية إلى مجتمع أو الجماعة الاجتماعية) لكي يبين أن العالم المعيش بوصفه جماعة اجتماعية يشكل قلب المجتمع. مع العلم بأن مفهومه عن المجتمع هو أنه الجهة التي تحدد الحقوق والواجبات لأعضاء الجماعة عن طريق العلاقات الشخصية المشروعة المتبادلة بينهم. ومن ثم تكون الثقافة والشخصية مجرد إضافات وظيفية للجماعة الاجتماعية. فالثقافة تزود المجتمع بالقيم التي يمكن أن تصبح قيما مؤسساتية، كما أن الأفراد الذين أصبحوا منتمين إلى المجتمع يشاركون في الحياة بشكل يلائم التوقعات المعيارية.
وفي مقابل ما سبق نجد أن مدرسة ميد تقيم النظرية الاجتماعية على مفهوم عالم معيش مختزل ومقتصر على إضفاء الطابع الاجتماعي على الأفراد. وعلماء هذه المدرسة يفهمون العالم المعيش بوصفه الوسط الاجتماعي والثقافي للفعل التواصلي الذي يتصورونه في شكل دور محدد يقوم به الأفراد المنتمون إلى المجتمع. وهكذا نرى أن هذه المدرسة لا تلتفت إلى الثقافة التراثية والمجتمع إلا باعتبارهما وسائط يتم من خلالها العمليات التي ينخرط فيها لاعبو الأدوار طوال حياتهم. ومن الواضح أن هذه النظرة لا تعد نظرة متسقة إلا إذا تقلصت النظرية الاجتماعية، بحيث تتحول إلى علم نفس اجتماعي. ولو أخذنا في مقابل ما سبق مفهوم التفاعل الرمزي الذي جعله ميد نفسه مفهوما مركزيا، وتناولناه بالطريقة التي طرحناها من قبل (أي كمفهوم للتفاعل الذي يتم من خلال اللغة كما توجهه المعايير) لاستطعنا عندئذ أن ندخل من باب التحليلات الفينومينولوجية للعالم المعيش، بحيث نكون في هذه الحالة في وضع يسمح لنا بالإحاطة بالترابط المركب لكل هذه العمليات الإنتاجية.
48
لقد أشار بارسونز إلى النموذج النظري للنسق الاجتماعي إلا أنه فشل في الجمع بينه وبين العالم المعيش كمجال للفعل الاجتماعي، وتعذر عليه تحقيق التكامل بينهما في مفهومه عن مجتمع ذي مستويين يربط النسق بالعالم المعيش. بل إن تاريخ النظرية الاجتماعية منذ ماركس لم ينجح في رأي هابرماس في الجمع بين النسق والعالم المعيش؛ ولهذا كله حاول - أي هابرماس - أن يؤلف بينهما بالتأكيد على ضرورة الجمع بين الجانب النظري - الذي يحدد التصورات النسقية للمجتمع المتكامل - وبين نظرية الفعل لمجتمع مترابط من خلال أفعاله التواصلية: «إن نقطة انطلاقي إذن هي أن المشكلة النظرية المتعلقة بكيفية الجمع بين المفاهيم الأساسية للاتساق ونظرية الفعل الاجتماعي هي مشكلة حقيقية وأصلية. والصيغة المؤقتة التي اقترحها، والتي يمكن على أساسها تصور المجتمعات بوصفها كائنات نسقية مركبة لفعل مجموعات متكاملة اجتماعيا، هذه الصيغة تحتوي على هذين الجانبين معا.»
49
لقد توصلنا - كما سبق القول - إلى أن أية نظرية للمجتمع لا ينبغي أن تكتفي بالعقلانية الغائية فحسب، ولن تستقيم بالعقلانية التواصلية وحدها، بل بالجمع بينهما باعتبارهما يمثلان قطبي العقلانية الجديدة. فعلى الرغم من أن العقلانية الأداتية تستجيب للمتطلبات المادية بشكل يصعب معه التخلي عن دور التقنية في التنظيم المادي للمجتمع، إلا أنها غير قادرة على حل مشكلات متعلقة بالأخلاق أو الثقافة؛ لذلك تأتي العقلانية التواصلية لتهتم بالمشكلات والقضايا الرمزية والمقومات الثقافية المتعلقة بالمعايير الأخلاقية. والنتيجة المترتبة على هذا كله هو أن كلا من النشاط الغائي والأداتي والنشاط التواصلي يشارك في إعادة عقلنة العالم المعيش، عن طريق إعادة الإنتاج المادي للعالم المعيش بواسطة النشاط الغائي، وأيضا عن طريق إعادة الإنتاج الرمزي له - أي العالم المعيش - بواسطة النشاط التواصلي، باعتبار أن الأساس المادي للعالم هو الشرط الضروري للبنية الرمزية له، وباعتبار أيضا أن الفعل الأداتي هو أحد مكونات الفعل التواصلي. هكذا تمتزج خيوط مختلفة - يكشف عنها التواصل اليومي - من عناصر المعرفة الأداتية والعناصر الأخلاقية العملية بالإضافة إلى العنصر اللغوي، تمتزج جميعا في إعادة بناء العالم المعيش.
لم يتوقف هابرماس عند الإنتاج المادي للعالم الذي يتحقق عن طريق النشاط الغائي أو الأداتي، لا لعدم أهميته، بل لأنه الجانب الوحيد الذي أثمرته الحداثة الغربية. ولذلك أسهب في تفاصيل ما اعتبره الجانب المهمل في المشروع الحداثي، وهو النشاط التواصلي وما يفترضه من معايير وقيم أخلاقية. ويؤكد على ممارسة الفعل التواصلي في الحياة اليومية التي هي الوسط الذي يتم فيه إعادة الإنتاج الرمزي. إن المشاركين في التواصل يوجدون في تراث ثقافي يستخدمونه وفي نفس الوقت يجددونه، ولكي ينسقوا أفعالهم عن طريق اعتراف الذوات فيما بينهم بصحة مزاعم الصدق، فإنهم يحرصون على أن يصبحوا أعضاء في جماعات اجتماعية، كما يعملون في نفس الوقت على تدعيم هذه الجماعات وتحقيق تكاملها «إن الأفعال التواصلية ليست مجرد عمليات تفسيرية يتم فيها اختيار المعرفة الثقافية التراثية ... وإنما هي في الوقت نفسه عمليات تكامل اجتماعي وإضفاء للطابع الاجتماعي على الأشخاص المنتمين لمجتمع معين»،
50
ومن خلال التفاعل مع الأشخاص الأكفاء يستوعب الناشئون في وعيهم توجهات القيم للجماعة الاجتماعية التي ينتمون إليها، ويكتسبون القدرات العامة على الفعل.
كيف يمكن - إذن - عقلنة العالم المعيش؟ إن هذه المهمة كما تصورها هابرماس تقتضي القيام بثلاث عمليات لا ينفصل بعضها عن بعض من أجل تأسيس مجتمع عقلاني حديث: تتطلب العملية الأولى إعادة التحليل النقدي للمعرفة، وتقتضي الثانية تأسيس قيم ومعايير مجتمعية جديدة، أما الثالثة والأخيرة فهي تهتم بتنشئة ذات إنسانية قادرة على تحمل مسئوليتها، وعلى تأسيس هويتها الذاتية: «إذا نظرنا إلى التفاهم المتبادل نظرة وظيفية وجدنا أن الفعل التواصلي يعمل على نقل وتجديد المعرفة الثقافية التراثية، وإذا نظرنا إليه كفعل تنظيمي أو تنسيقي وجدنا أنه يساعد أو يعمل على التكامل الاجتماعي، وإقامة وترسيخ التضامن. وأخيرا فإننا لو نظرنا إليه من وجهة نظر إضفاء الطابع المجتمعي، فإن الفعل التواصلي يساعد في تكوين الهويات الشخصية. وهكذا نجد أن إنتاج البناءات الرمزية للعالم المعيش يتم عن طريق مواصلة المعرفة الصحيحة، وترسيخ التضامن الجمعي، وإضفاء الطابع الاجتماعي على الذوات المسئولة والفاعلة.»
51
وتمثل هذه العمليات السابقة العناصر البنائية للعالم المعيش - وهي الثقافة والمجتمع والشخص - بحيث يعاد بناؤه - أي العالم المعيش - بالاستخدام الأمثل للمعرفة وباستقرار المجتمع وتحقيق الاندماج بين أفراده، وبتكوين أفراد أو فاعلين يملكون القدرة على الكلام والفعل وقادرين أيضا على تحمل مسئولياتهم وتحقيق ذواتهم وتأكيد هوياتهم، هكذا نرى أن عقلنة العالم المعيش هو أحد المظاهر الإيجابية للحداثة أو المجتمع الحديث التي يجب المحافظة عليها، والتي تتم فيها مراجعة دائمة للتراث الثقافي، وكذلك إنتاج قيم ومبادئ أخلاقية وقانونية جديدة في المجتمع مغايرة للقديمة. ويتكفل النشاط التواصلي المدعم بالحجج والبراهين العقلية بوضع معايير لها أو تبريرها. وفي ظل هذا الإطار الثقافي والمعياري الجديد ينشأ الفرد الذي يسعى للدفاع عن ذاته، وتحمل مسئولية كلامه وأفعاله، أي الشخص القادر على المناقشة والحوار والقادر على الإجابة بنعم أو لا التي يتمرس عليها خلال التنشئة الاجتماعية، بحيث يصبح شخصا مستقلا، ولكنه مندمج اجتماعيا في جماعة تربطه بها علاقات اجتماعية ومصالح.
هكذا نجد أن العناصر البنائية المكونة للعالم المعيش (وهي الثقافة والمجتمع والشخصية) تتطابق معها عمليات إعادة الإنتاج (إعادة إنتاج ثقافي - تكامل اجتماعي - انتماء للجماعة)، وكلها ترتكز على الوجوه المختلفة للفعل التواصلي (التفاهم - التنسيق - الفعل الاجتماعي)، وكلها ممتدة الجذور في العناصر البنائية المكونة لأفعال الكلام (القضايا التقريرية - أفعال القول - الأقوال التعبيرية).
52
هذه التطابقات البنائية تتيح للفعل التواصلي أن يؤدي وظائفه المختلفة، وأن يصبح وسيطا دائما لإعادة الإنتاج الرمزي للعالم المعيش، فإذا حيل بين هذه الوظائف وبين التحقق ظهرت الاضطرابات في عملية إعادة الإنتاج كما نشأت كذلك مظاهر الأزمة مثل فقدان المعنى، واضطراب التوجهات، وغياب المشروعية، وسقوط القيم، والاغتراب، والأمراض النفسية وانهيار التراث.
خاتمة
كان هذا عرضا سريعا للمفاهيم الأساسية لنظرية الفعل التواصلي عند هابرماس بالقدر الذي سمحت به حدود هذا البحث. وإذا كان يصعب الإحاطة - في هذا المقام - بالجوانب التفصيلية الدقيقة لهذا المشروع الذي يحتاج إلى دراسة طويلة مستفيضة، فإن الأمر الأكثر صعوبة هو محاولة تقييمه، خاصة وأن صاحبه ما زال يواصل العطاء، مما يعني أن هذا المشروع يمكن الإضافة إليه، كما أنه يقبل التعديل أو التغيير، أي أنه بمعنى آخر مشروع ما زال في طور التطور والاكتمال، كما أقر هابرماس نفسه في بداية المجلد الأول من مؤلفه أنه لم يقدم نظرية نهائية أو تامة بشكل كامل، مما يعني أنه قدم فقط إطارا نظريا، وتوجهات أساسية للانتقال من فلسفة الوعي إلى فلسفة التواصل هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن أن نقول إن نظرية الفعل التواصلي ليست نظرية بعدية، بل هي نظرية اجتماعية تحاول أن تصحح مقاييسها النقدية. يضاف إلى هذا أن هابرماس من أكثر الفلاسفة المعاصرين الذين تثار حولهم الخلافات، لكل هذه الأسباب يصعب تقييم هذا المشروع تقييما نهائيا، كما يصعب أيضا الحكم عليه بآراء قاطعة، ولكن يمكن إجمال بعض وجهات النظر حول هذا المشروع الضخم.
يرى بعض الباحثين أن هابرماس اهتم بالتعليق النقدي على معظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع أكثر من اهتمامه بتقديم الأدوات المنهجية والنظرية الخاصة بنظريته عن الفعل التواصلي،
53
وإذا كان هذا النقد صحيحا في مجمله، إلا أنه أثبت في نفس الوقت قدرة هابرماس الهائلة على عرض وتقديم وتحليل نظريات وأفكار الآخرين. كما أن اهتمامه - أي هابرماس - بالتواصل والنظرية الاجتماعية للحقيقة جعل بعض الباحثين يذهب إلى أن نظريته تحتوي على بعد يوتوبي واضح؛ إذ إنه - أي هابرماس - يحيل في الغالب إلى مشروع أكثر مما يشير إلى واقع بعينه، ويتحدث عن أخلاق يتطلع أن تصاغ في معايير وعلاقات.
54
وربما كان هذا أيضا صحيحا إلى حد كبير؛ فالشروط التي وضعها هابرماس للحوار، والأخلاقيات التي رأى ضرورة الالتزام بها في النشاط التواصلي، والمعايير التي يجب أن تخضع لها أفعال التواصل، كل هذا أضفى على مشروعه بعدا يوتوبيا من ناحية، وبعدا مثاليا من ناحية أخرى، وإن كان هذا البعد اليوتوبي لم يحصر المشروع في دائرة المستحيل، أو عدم قابليته للتحقق، بل إن ملامسته للواقع المعيش تجعله في دائرة الممكن.
وعلى الرغم من اختلاف المفسرين اختلافا كبيرا في آرائهم حول مشروع هابرماس ومدى قدرته على الصمود في وجه الشكوك الكثيرة التي تثار حوله، إلا أن هناك شيئا واحدا على الأقل يتفق عليه المعلقون والشراح، وهو أن هابرماس قد حاول على الدوام أن يجمع بين هذه الاهتمامات الفلسفية المتخصصة وبين التزام حقيقي فعال بتنمية أو تدعيم المناقشة المستنيرة للقضايا الملحة بالنسبة للرأي العام، ولعله أن يكون أحد الفلاسفة القليلين الذين يلتزمون بالتمسك بالتراث النقدي في البحث المبدئي عن الحقيقة، وهو في هذا كله يقدم مثلا رائدا للفكر المستنير.
وربما ترجع أهمية الدور الذي يقوم به هابرماس في الفكر الفلسفي المعاصر إلى أنه ما زال متمسكا بدور الفلسفة، وإعادة توظيفها، وضرورة انخراطها في أي نظرية للمجتمع الحديث. هذا إلى جانب إيمانه بأن مشروع الحداثة لم يكتمل بعد، وتمسكه بإعادة الطاقة النقدية لعقل التنوير في عصر ارتفعت فيه الأصوات مطالبة بتخلي الفلسفة عن عرشها والعقل عن صولجانه، إلى جانب تيارات أخرى مضادة للتنوير والحداثة، ومن ثم وقف هابرماس مدافعا عن التنوير، وتصدى للظواهر المرضية التي ولدتها الحداثة وما بعد الحداثة، وربما لهذا السبب أيضا يحتاج الفكر العربي إلى دراسة هذا المشروع الفلسفي الكبير بشيء من التفصيل، وإلقاء المزيد من الضوء على جوانبه المختلفة من أجل تأسيس مجتمع يقوم على أسس عقلانية، ويسود بين أعضائه حوار حر خال من كل أشكال القمع والسيطرة، وإذا كان هابرماس يرى أن شروط الحوار الديمقراطي الحر لم تتوافر بعد في المجتمعات الغربية بكل ما تكفله هذه المجتمعات لأفرادها من حريات، وبقدر ما تسمح من مراجعات نقدية للتراث العقلي والديني، ولكل جوانب المجتمع والحياة على أوسع نطاق، فما أحوجنا نحن العرب إلى التفكير في هذه الشروط، وإلى صياغة مشروع للحداثة يقوم على أسس عقلانية ونقدية وليست غيبية أو خرافية متسلطة.
مصادر البحث
Towards a Rational Society (including Technology and science as ideology), Boston: Beacon Press, 1971 .
Knowledge and Human Interests, Boston: Beacon Press, 1972 .
Legitimation Crisis, Boston: Beacon Press, 1973 .
Theory and Practice, Boston: Beacon Press, 1973 .
Communication and the Evoluation of Society, Boston: Beacon Press, 1979 .
Theory of Communicative Action 2 vols, Boston: Beacon
1986 .
The Philosophical Discourse of Modernity, Cambridge, Mass: MIT Press 1987 .
On the Logic of the Social Sciences, Cambridge, Mass: MIT Press, 1988 .
The New Conservativism, Cambridge, Mass: MIT Press, 1989 .
The Structural Transformation of the Public Sphere. Cambridge, Mass: MIT Press, 1989 .
Moral Consciousness and Communicative Action Cambridge, Mass: Mit Press, 1990 .
1992 .
Justification and Application/Cambridge, Mass: MIT
.
دور الفلسفة في الثقافة المعاصرة
بحث نقدي في آراء فيلسوف البراجماتية الجديدة ريتشارد رورتي
مقدمة
لم يشهد عصر من العصور تنوعا في الاتجاهات الفكرية كما شهد القرن العشرون. وإذا كنا نستطيع أن نصف القرن السابع عشر بأنه عصر المذاهب الكبرى، وأن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، وأن القرن التاسع عشر هو عصر ازدهار العلوم الطبيعية والفلسفات الوضعية، فلا يمكننا أن نفعل هذا مع القرن العشرين الذي تنوعت فيه الاتجاهات الفكرية إلى حد التضارب والتناقض والبلبلة، ولكن إذا تطلب الأمر أن نطلق مصطلحا ما على هذا القرن، فيمكننا أن نقول إنه عصر «النهايات»: نهاية التاريخ (على حد زعم أحد المفكرين وهو فوكوياما)، نهاية اليوتوبيا ... إلخ. كما يمكننا أن نطلق عليه اسم عصر «السقوط»: سقوط العقل، سقوط الحداثة، سقوط الأيديولوجيا ... إلخ. ومن ناحية أخرى يمكننا أن نطلق عليه أيضا اسم عصر «الما بعديات»، أي العصر الذي يسوده الشعور بالقلق وعدم القدرة على تحديد تلك الاتجاهات التي تحوم حول تعريفاتها شكوك كثيرة مثل: ما بعد الحداثة، ما بعد الأخلاق، ما بعد الفلسفة ... إلخ.
ومن بين الفلاسفة الذين زعموا أنهم جاءوا بتصور جديد لثقافة ما بعد الفلسفة نجد المفكر الأمريكي ريتشارد رورتي
Richard Rorty (1931م-...) وهو فيلسوف يهتم بمشكلات العقل وماهية الإنسان، وناقد لمبادئ نظرية المعرفة التقليدية. وقد حصر على درجته العلمية الأولى من جامعة شيكاغو، وعلى الدكتوراه من جامعة ييل، وقام بالتدريس في جامعة برنستون بين عامي 1961م، 1982م، وهو نفس العام الذي انتقل فيه إلى جامعة فرجينيا ليشغل منصب أستاذ للعلوم الإنسانية، ثم انتقل إلى جامعة كاليفورنيا التي ما يزال يعمل بها . بدأ رورتي حياته الفكرية فيلسوفا تحليليا عاديا إلى أن نشر في عام 1979م كتابه «الفلسفة ومرآة الطبيعة»
الذي رفض فيه بشدة فكرة إمكان الحكم على معتقداتنا من وجهة نظر موضوعية ومتعالية، فأثار رأيه هذا اهتماما واسعا في الدوائر الفلسفية الأمريكية، وأطلق عليه بعض المفكرين لقب «نبي وشاعر البراجماتية الجديدة».
والبراجماتية الجديدة حركة فلسفية حديثة «تعتنق بشكل جذري أشكال التداخل والتفاعل بين السياقات الاجتماعية والعملية المختلفة، وتنفي إمكان قيام تصور كلي شامل عن الحقيقة أو الواقع. وقد ظهرت البراجماتية الجديدة كرد فعل نقدي للفلسفة التقليدية والفلسفة التحليلية. ولما كانت هذه الفلسفة تعتمد أساسا على آراء جون ديوي، وفيتجنشتين وكواين وسيلرز، فإن ريتشارد رورتي في كتابه «الفلسفة ومرآة الطبيعة» قد بدأ طريق العودة إلى الفلسفة البراجماتية.»
1
إن الفكرة المحورية عند رورتي في خطوطها العريضة هي تكرار للاعتراض الذي وجهه الفلاسفة المثاليون في القرن التاسع عشر إلى نظرية الواقعيين عن الحقيقة، أي نظرية التطابق (وهي النظرية التي تقول بأن الحقيقة هي تطابق ما في العقل مع ما في الواقع والعكس). وليس هناك سبيل - في رأي رورتي - لمعرفة الوقائع التي يفترض أن يتسق معها صدق معتقداتنا إلا من خلال معتقدات أخرى. وقد اعتمد في رفضه لوجود أي أساس وطيد للمعرفة على التراث البراجماتي، ثم على بعض الاتجاهات الحديثة التي سارت في الاتجاه نفسه، كما ألح على نقده لفكرة وجود أسس ثابتة يمكن أن تصدر فيها نظرية المعرفة أحكاما على المعتقدات بوجه عام، بل وأنكر أيضا أن يكون أي معتقد أكثر أهمية من أي معتقد آخر. ويخلص رورتي إلى نتيجة - تشكل المضمون العام لتفكيره - مفادها أن الفلسفة عاجزة عن أن تؤسس أو تقيم شيئا. ولذلك شرع في هدم التصور الذي تواضع الفلاسفة - طوال تاريخ الفلسفة - على أن يفهموا به النشاط الفلسفي ودور الفلسفة، واعتمد في هدمه للتصورات التقليدية - التي درج الفلاسفة على الأخذ بها عن تطور الفلسفة وفاعليتها - على فلاسفة ثلاثة هم: هيدجر وفيتجنشتين وديوي، واستلهم أفكارهم وكأنهم مجمع الخالدين الذين عملوا على تقويض المفهوم التقليدي الذي تبناه الفلاسفة التقليديون في نشاطهم الفلسفي.
هل كان نقد رورتي للفلسفة التأسيسية بمثابة دعوة للتخلي عن الفلسفة، أم دعوة - بالإضافة إلى دعوات أخرى سابقة - لتحويل دور الفلسفة في الفكر المعاصر؟ وإذا كانت الإجابة عن هذا السؤال بنعم، فما هو تصوره لثقافة ما بعد الفلسفة؟ سوف نحاول الإجابة على هذه التساؤلات من خلال محورين أساسيين: الأول هو نقد رورتي للفلسفة التأسيسية. ويتضمن هذا المحور: (1) تقويض المفهوم التقليدي للفلسفة. (2) نقد النزعة التحليلية. ويدور المحور الثاني حول ثقافة ما بعد الفلسفة، ويتناول: (1) تصور رورتي للدور الجديد للفلسفة في الفكر المعاصر، وذلك بأن يجعل المنظور التاريخي المتغير للمشكلات الفلسفية بديلا عن المنظور الأبدي لها. (2) دور اللغة في الفلسفة المعاصرة. (3) استبدال معرفة إبداع الذات بالمعرفة التقليدية. (1) نقد رورتي للفلسفة التأسيسية (1-1) تقويض المفهوم التقليدي للفلسفة
على الرغم من أن رورتي بدأ حياته الفلسفية كفيلسوف تحليلي، إلا أنه تحول منذ أن نشر كتابه «الفلسفة ومرآة الطبيعة» الذي يعتبره بعض المفكرين أهم وأجرأ كتاب نشره فيلسوف أمريكي في العقود الأخيرة: «لم نجد منذ وليم جيمس وجون ديوي مثل هذا النقد المدمر للفلسفة المهنية أو الحرفية
professional »،
2
تحول منذ نشره هذا الكتاب إلى مهاجم للنزعة التحليلية التي هي النتاج الشرعي - في رأيه - للفلسفة التأسيسية التي انحدرت إلينا من التراث الديكارتي-الكانطي. وركز رورتي هجومه على الفلسفة التحليلية المعاصرة وأصولها التاريخية والجذور التي استمدت منها أفكارها الأساسية، وخاصة نظريات القرن السابع عشر وما عرف عنها من اهتمام بنظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا. ويبين رورتي منذ البداية أن هناك خطأ في فهمنا للفلسفة بوصفها نظاما معرفيا يتعامل مع مشكلات أساسية ثابتة، تدل على هذا أول عبارة استهل بها كتابه السالف الذكر: «يعتقد الفلاسفة عادة أن نظامهم المعرفي يناقش مشكلات دائمة وأبدية، مشكلات تظهر بمجرد تأملها.»
3
يفسر رورتي في مقدمة كتابه لماذا اختار «الفلسفة ومرآة الطبيعة» عنوانا لمؤلفه بأنه يقدم صورا أكثر مما يقدم قضايا، ويطرح استعارات ولا يطرح عبارات تقريرية من النوع الذي يحدد طابع معتقداتنا الفلسفية. وهو يؤكد على أن الصورة التي تأسر الفلسفة التقليدية وتقيدها بأغلالها هي صورة العقل كمرآة كبيرة تحتوي على تمثلات متنوعة بعضها دقيق وبعضها غير دقيق، وهي في مجموعها قابلة لأن تدرس وتفحص عن طريق المناهج غير التجريبية. ولولا فكرة العقل كمرآة لما وجدت فكرة المعرفة - بوصفها تمثلات دقيقة - ولولا هذه الفكرة الأخيرة (أي المعرفة) لما كان هناك ثمة معنى لجهود ديكارت وكانط في الوصول إلى تمثلات دقيقة أو واضحة متميزة - بتعبير ديكارت - عن طريق فحص المرآة والعكوف على صقلها. وبدون فكرة العقل كمرآة أيضا ما كان هناك ثمة معنى للمزاعم الحديثة بأن الفلسفة هي «تحليل تصوري» أو «تحليل فينومينولوجي» أو «تفسير للمعاني» أو «اختبار لمنطق لغتنا» أو «بناء تكويني لنشاط الوعي»، وهي المزاعم التي تهكم عليها فيتجنشتين في بحوثه الفلسفية.
4
لقد قام فيتجنشتين بتفكيك هذه الصور المرآوية، ولكنه كان يفتقر إلى الوعي التاريخي، ومن هنا تأتي عظمة إسهام هيدجر الذي أعاد النظر في تاريخ الفلسفة كله ليبين الجذور التاريخية المرآوية للفلسفة ابتداء من أفلاطون حتى أعلام الفلسفة الحديثة، ولكن كلا الفيلسوفين عجز - في رأي رورتي - عن توضيح مدى سيطرة الصور المرآوية البصرية على العقل الغربي في إطار منظور اجتماعي. لقد اهتم كلاهما بالأفراد أكثر من اهتمامهما بالمجتمع. وفي الجانب الآخر نجد ديوي يستنبط حججه ضد الصور المرآوية من داخل رؤيته لمجتمع جديد، وعلى الرغم من افتقاده لمنطق فيتجنشتين الدقيق وللنظرة التاريخية الشاملة عند هيدجر، فلم تعد الثقافة في المجتمع المثالي الجديد الذي رسمه ديوي معرفة موضوعية، بل أصبحت خبرة جمالية. صحيح أن ديوي قد اتهم بالوقوع في النسبية واللاعقلانية، ولكن هذه الاتهامات لن يكون لها وزن - في رأي رورتي - إذا أخذنا نقد ديوي وفيتجنشتين وهيدجر مجتمعين للنزعة المرآوية في الفلسفة التقليدية.
5
يبدأ رورتي نقده للنماذج المختلفة لنظرية المعرفة التي أقرتها الفلسفة الحديثة بقوله: «يمكن للفلسفة أن تكون تأسيسية بالنسبة لبقية الثقافة
culture ؛ لأن الثقافة هي حشد لمزاعم المعرفة، والفلسفة تحكم على هذه المزاعم. إنها تفعل هذا لأنها تفهم أسس المعرفة، وتجد هذه الأسس في دراسة الإنسان ككائن عارف للعمليات العلمية، أو في فاعلية التمثل
activity of representation
التي تجعل المعرفة ممكنة، فأن تعرف هو أن تتمثل على نحو دقيق ما هو خارج العقل، ومن ثمة فلكي تفهم إمكانية وطبيعة المعرفة معناه أن تفهم الوسيلة التي يكون بها العقل قادرا على تشكيل أو بناء مثل هذه التمثلات . إن ما تهتم به الفلسفة بشكل أساسي هو أن تكون نظرية عامة التمثلات. وهناك نظرية تقسم الثقافة إلى مجالات تتمثل الواقع بشكل جيد، وأخرى تتمثله بشكل أقل جودة، وثالثة لا تتمثله على الإطلاق (على الرغم من تظاهرها بأنها تفعل هذا)»،
6
وهذا المفهوم للفلسفة الذي يبدو أنه حدسي وواضح كل الوضوح، هو في الحقيقة في رأي رورتي مفهوم معقد ومحرف للفلسفة، وهو المفهوم الذي أحال الفلسفة كلها إلى نظرية للمعرفة. ويعود الفضل في هذا المفهوم إلى مؤسسي الفلسفة الحديثة ديكارت ولوك وكانط: «نحن ندين بفكرة نظرية المعرفة القائمة على فهم العمليات العقلية إلى القرن السابع عشر - وخاصة للوك - وندين بفكرة العقل، بوصفه كيانا
entity
منفصلا تحدث فيه هذه العمليات العقلية، إلى نفس القرن - وخاصة لديكارت - كما ندين بفكرة الفلسفة بوصفها محكمة للعقل الخالص الذي بإمكانه أن يؤيد أو يدين مزاعم الثقافة إلى القرن الثامن عشر - وخاصة لكانط - لكن هذه الفكرة الكانطية تفترض مسبقا تصديقا عاما لأفكار لوك عن العمليات العقلية وأفكار ديكارت عن الجوهر العقلي.»
7
ويرفض رورتي - شأنه شأن سائر البراجماتيين - فكرة أن تكون هناك طبيعة جوهرية للإنسان، أو أن تكون هناك طبيعة باطنة للأشياء غير معروفة لنا، تمثلت في تاريخ الفلسفة على صورة «الروح» عند أفلاطون، و«الشيء في ذاته» عند كانط، بل ويرى أن ديفيدسون
8
ساعدنا على أن: «ننحي جانبا فكرة أن كلا من الذات والواقع ينطويان على طبيعة باطنة، طبيعة بعيدة تنتظر أن نعرفها»،
9
فإذا سلمنا بما يقوله رورتي بأنه لا توجد طبيعة جوهرية ثابتة للإنسان، فإنه يترتب على هذا أن على كل شخص مهمة إبداع ذاته، وكما أننا لا نحتاج أن نقتحم الطبيعة ونفهم لغتها الخاصة لكي نفسر الظاهرة الطبيعية ، فكذلك نحن في غنى عن البحث عن طبيعة بشرية جوهرية نسعى لاكتشافها لكي نعرف أنفسنا ونعرف الآخرين معرفة صادقة، فلسنا كائنات معدة سلفا، وإنما نسعى لاكتشاف أنفسنا، بل نحن نبدع أنفسنا من خلال محاولاتنا للتكيف مع التجربة، كما نطور خاصيتنا الفردية كما تظهر في التجربة. ولذلك فإن هدف المعرفة عند رورتي هو إيجاد أفضل الطرق للتوافق مع أنفسنا ومع العالم والأشياء، وهو بهذا المعنى يلتزم بالدور الوظيفي للمعرفة في الفلسفة البراجماتية، والذي يؤكد لا على الأشياء الموجودة سلفا أو على نسخ صور منها، بل على إعادة تشكيلها بشكل خلاق وبناء، بما يعني أن للمعرفة وظيفة عملية أكثر منها أبستمولوجية، وأنها أداة للتغيير والتعديل وسبيل إلى الإبداع لعالم ما زال في طور التكوين، ولم يتشكل بعد بصورة نهائية، بل إنه عالم مفتوح، وفي عملية صيرورة دائمة، كما يؤكد وليم جيمس أحد أقطاب النزعة البراجماتية، وكما يؤكد أيضا جون ديوي الذي يمثل قطبها الآخر على وظيفة الفلسفة التي لا تتعدى أن تكون خطة للسلوك نحو تغيير العالم الموجود.
ويرفض رورتي أيضا اختزال الإنسان في ملكة واحدة أساسية هي ملكة العقل، أو أن تكون هذه الملكة بمثابة محكمة لأفكارنا ورغباتنا واعتقاداتنا وموجه لاختياراتنا؛ إذ إننا نعرف أنفسنا من خلال ميولنا واتجاهاتنا وإمكاناتنا. ويؤكد رورتي بهذا نزعته البراجماتية التي تتمحور حول إمكانية البشر تنمية نشاطهم ومؤسساتهم وإبداع مبادئهم التي تنظم سلوكهم؛ فالخبرة الإنسانية في الفلسفة البراجماتية هي المنبع الأساسي لكل معرفة. وبهذا المعنى السابق لا تتم معرفة الذات عند رورتي إلا من خلال إبداع الذات، ولا تكون معرفة العالم الخارجي إلا من خلال محاولاتنا العديدة المتكررة للتكيف أو التلاؤم مع الواقع الخارجي. فالمعرفة - كما عند جيمس وديوي وفيتجنشتين - نشاط متجدد، وليست مجرد تأمل. إن المفهوم التقليدي للفلسفة لا يساعدنا على التوصل إلى شيء ما حقيقي في بحثنا عن ماهية الحقيقة، ولا يساعدنا على فعل الخير من خلال بحثنا عن ماهية الخير؛ لذلك تحاول البراجماتية أن تتجاوز التفرقة - التي انحدرت إلينا من التراث الأفلاطوني - بين الحقيقة
truth
والظن
doxa ، وهي التفرقة التي تمثلت في خطين متوازيين بين الفلسفة المثالية والفلسفة الوضعية. كما ترفض البراجماتية أيضا فكرة أن الحقيقة هي «التطابق مع الواقع»؛ لأن مئات السنين فشلت في إيجاد معنى لفكرة التطابق. ولذلك فإن الحقيقة أو الفكرة الصادقة هي التي تساعدنا - في رأي رورتي - على التلاؤم أو التوافق - وليس التطابق - مع الواقع. وهو في هذا يعبر تعبيرا صادقا عن المذهب البراجماتي الذي يؤكد على أن «الأفكار هي أساسا خطط ومناهج لإحداث تغييرات معينة في الأشياء الموجودة من قبل. وهذه النظرة تعارض المذهب العقلي وما يقول به من نظرية النسخ
copy theory ؛ فالأفكار من حيث هي كذلك تظل عديمة الفعل وعاجزة ما دامت تعني أنها تعكس حقيقة كاملة»،
10
ومن هنا تدور فكرة رورتي الأساسية حول رفضه للأفكار كصورة طبق الأصل من حقيقة ثابتة كما تنعكس صورة شخص في المرآة عنه؛ فالحقيقة ليست ثابتة وليست نظاما كاملا، بل هي تغير دائم ومستمر.
هكذا يدين رورتي الأفكار التي انحدرت إلينا من القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولعله أراد بنقده هذا أن يعيد بناء الفلسفة الحديثة، وهي البيئة التي ظهرت فيها الفلسفة التحليلية. ويعتمد نقد رورتي على فكرة مفادها أن النموذج الفلسفي الذي ساد في تلك الفترة التاريخية لم يعد يصلح الآن لمعالجة مشكلات فلسفية جديدة. وربما كانت حجته في هذا هي أن التفكير الفلسفي في مطلع العصر الحديث قد جاء بنموذج مخالف تمام الاختلاف للنموذج الفلسفي الذي كان سائدا في التراث المدرسي، مما جعل هذا الأخير ينهار في فترة زمنية ليست بالقصيرة، ولكنها أيضا ليست ممتدة. ويفهم من هذا أن التطور أو التغير التاريخي عادة ما يأتي مصحوبا بنموذج مختلف، كالنموذج الإرشادي المصاحب للمجتمع العلمي عند كون. ويعني رورتي بهذا أننا نعتقد خطأ أننا نتعامل مع نفس المشكلات الفلسفية الأساسية التي كان يتعامل معها أسلافنا، في حين أنها في واقع الأمر مشكلات مختلفة فرضتها الظروف التاريخية المتغيرة، وربما كان النموذج الجديد يتعامل مع المشكلات الأساسية بشكل أفضل. ولكي نفهم سير الحركة التاريخية لتراث الفلسفة الحديثة، علينا أن نكشف عن مجموعة الاستعارات والمشكلات التي ميزت اللغة وأشكال الحياة ووضعت نماذج التفلسف، أي علينا باختصار أن نتتبع تاريخ نشأة وسقوط العقل. (1-2) نقد النزعة التحليلية
يعود رورتي للوراء للبحث في تاريخ الحدوس الفلسفية التي سبقت الفلسفة التحليلية، تلك الحدوس التي نشأت بمجرد التفكير فيها ، فكانت مشكلة العقل والجسم - على سبيل المثال - هي المشكلة الأساسية للفلسفة التي نتجت عن التفرقة الحاسمة بين ما هو عقلي وما هو جسدي، ولكن من أين نشأ هذا الحدس؟ يجيب رورتي: «من وجهة نظري - التي أتفق فيها مع فيتجنشتين - أن الحدس ليس شيئا أكثر أو أقل من الاعتياد أو الألفة مع لعبة اللغة التي وجدنا أنفسنا نلعبها.»
11
فلو نظرنا إلى مشكلة العقل والجسم في تاريخ الفلسفة، لاتضح لنا كيف اختلفت المشكلة قبل ديكارت وبعده، ولتبين لنا أن ما نعرفه الآن على أنه حدوس أو أفكار واضحة ومتميزة لم تكن معروفة قبل اختراع ديكارت للعقل، فمنذ ذلك الحين أصبحت مشكلة الوعي هي المشكلة الأساسية في كل الفلسفات بعد ديكارت. لقد كان تأكيد ديكارت على العقل كجوهر مفكر لا يمكن الشك في وجوده، إيذانا بخلق الثنائية في تاريخ الفلسفة، كما أدى إلى صياغة مشكلة العقل والجسم صياغة أبستمولوجية.
لقد بدت المهمة الأولى في التراث الفلسفي هي حل المشكلات الإبستمولوجية، وكأن الفلسفة قد تحولت إلى مجرد نظام معرفي. وظهرت محاولات متأخرة لإنقاذ الإبستمولوجيا مما آلت إليه، تمثلت في إيجاد نظم معرفية جديدة، تحل محل المعرفة التقليدية، كعلم النفس التجريبي وفلسفة العقل، أو تسعى من ناحية أخرى للاستجابة للمشكلات الحقيقية التي حاولت الإبستمولوجيا التراثية التعامل معها. وقد وصف رورتي هذه المحاولات بأنها مضللة؛ لأنها لا تخرج - في رأيه - عن إعادة بناء تاريخي للأبستمولوجيا، بل إنها تمثل «الصورة الكانطية لاتحاد التصورات أو المفاهيم مع الحدوس الحسية لإنتاج المعرفة»،
12
ويستبدل رورتي ما يسميه السلوك المعرفي أو الإبستمولوجي بحدوس وتصورات كانط: «إنني أفسر العقلانية والسلامة المعرفية أو صحة المعرفة، أفسرها بالإحالة إلى ما أدعوه «السلوكية المعرفية»، وهي اتجاه مشترك بين ديوي وفيتجنشتين.»
13
بهذا المعنى يصبح بإمكاننا أن نفسر معقولية المعرفة وصحتها من خلال ما يعتبره المجتمع صوابا وخطأ وليس العكس، أي أن اللغة سلوك اجتماعي له قواعده التي تختلف باختلاف اللعبة اللغوية المتعلقة بها كما قال فيتجنشتين في مرحلة تطوره المتأخرة التي اتجه فيها اتجاها سلوكيا في فهم اللغة. ويترتب على ما سبق أن الحق والصحيح لا يقومان على أساس أنطولوجي، بل يتحددان بما هو موجود في المجتمع: «إن القول بأن الحق والصدق هما مسألتان تتعلقان بالممارسة الاجتماعية يمكن أن يؤدي إلى الحكم علينا بالوقوع في النسبية التي هي في ذاتها نوع من رد المدخل السلوكي إما إلى المعرفة أو إلى الأخلاق.»
14
ولكن صورة الفلسفة التقليدية من أفلاطون إلى كانط هي التي صورت لنا أن هناك أسسا خالدة يستند إليها الصدق والصواب، وأن المعرفة والأخلاق تقومان على هذه الأسس، وهذا هو الوهم الذي عاش عليه ما يسمى بالفلسفة منذ أفلاطون إلى كانط والاتجاه المثالي كله.
يعتقد رورتي «أن الفلسفة التحليلية بلغت ذروتها عند كواين
15 ⋆
وفيتجنشتين - في مرحلته المتأخرة - وسيلرز
16 ⋆
وديفيدسون، بحيث يمكن القول إنها تجاوزت ذاتها وألغتها. إن هؤلاء المفكرين زعزعوا التفرقة الوضعية بين ما هو دلالي وما هو براجماتي، وبين التحليلي والتأليفي، وبين اللغوي والتجريبي، وبين النظرية والملاحظة ... فالنزعة الكلية عند ديفيدسون تبين كيف تبدو اللغة بمجرد أن نتخلص من الافتراض الأساسي للفلسفة، ألا وهو أن الجمل الصادقة تنقسم إلى قسمين، أعلى وأدنى، أي إلى تلك الجمل التي تتطابق مع شيء ما وتلك التي لا تكون صادقة إلا عن طريق المواضعة والاتفاق.»
17
وبهذا المعنى يكون الحق والصدق مسألة مرتبطة بمعتقداتنا ومشاعرنا ولغتنا، أي أنهما - الحق والصدق - لا يكونان إلا في حدود معتقداتنا وفي حدود ما نقبله أو ما نرفضه، وفي حدود تعبيراتنا اللغوية أيضا. أما عن مدخل كواين وسيلرز إلى نظرية المعرفة فيتبين في قولهما إن الصدق والمعرفة لا يمكن الحكم عليهما إلا من خلال المعايير التي يتخذها الباحثون في أيامنا. وهذا المدخل ليس معناه - في رأي رورتي - التقليل من المكانة الرفيعة للمعرفة البشرية أو من أهميتها، وليس معناه القول بأنها مقطوعة الصلة بالعالم كما يتصور البعض. فالواقع أنهما يريدان أن يقولا أي تبرير - وهو المعيار الذي يبحث في الفلسفة التقليدية عن أساس عقلي متسق - لا يكون له معنى إلا بالإحالة إلى ما نوافق عليه، أو ما نتقبله بالفعل، وأنه ليس هناك من سبيل للخروج من دائرة معتقداتنا أو لغتنا للبحث عن معيار آخر غير التماسك أو الاتساق. ومعنى هذا أنهما - أي كواين وسيلرز - لا يريدان للصدق أو المعرفة أن يكون لهما طابع أبدي، ولا أن يؤسسا على أساس الاتساق فقط. وهنا تلعب المعتقدات دورا هاما لدى أصحاب هذا الاتجاه؛ فاتخاذنا معتقدا ما يعني تمسكنا بصدق هذا المعتقد، أي استعدادنا لأن نسلك وفقا له، بحيث تصبح كلمة العالم مرادفة لمجموع معتقداتنا الموثوق بها، والتي تتألف منها خبراتنا، أي أن مجموعة معتقداتنا هي التي تعطينا العالم.
أضف إلى هذا أن نظرة ديفيدسون إلى اللغة تجعلنا نتحاشى تعيين اللغة (بمعنى إضفاء صورة عينية عليها) على طريقة التراث الديكارتي، وخاصة على طريقة التراث المثالي الذي قام على فلسفة كانط؛ وذلك لأن وجهة نظر ديفيدسون: «لا تجعلنا ننظر إلى اللغة كشيء ثالث بين الذات والموضوع، ولا كوسط نحاول فيه أن نكون صورا للواقع، وإنما نجعلها جزءا لا يتجزأ من سلوك الجنس البشري. ومن هذا المنطلق، يكون النطق بالجمل أو العبارات هو أحد التصرفات التي يقوم بها البشر لكي يتلاءموا مع بيئتهم. وفي هذا الصدد تعتبر فكرة ديوي عن اللغة كأداة فكرة صحيحة إلى حد بعيد، لكن هذا لا يفترض أن نفصل الأداة أو اللغة عن مستخدميها، بل يجعلنا نتساءل ونبحث فقط عن مدى كفايتها لتحقيق أغراضنا.»
18
لقد كان هجوم فيتجنشتين وسيلرز وكواين على التمييزات المختلفة بين فئات الجمل أو أصناف العبارات هو الإسهام الكبير للفلسفة التحليلية، كما كان تأكيدا للإصرار على كلية اللغة أو على الوجود الكلي للغة - وذلك على خلاف النزعة الأفلاطونية - وهذا الإصرار هو الذي يميز البراجماتية، بل والفلسفة الأوروبية الحديثة. ويورد رورتي بعض العبارات من نصوص الفلاسفة كأمثلة على هذا، منها قول هيدجر: «إن الكلام عن اللغة يكاد بالضرورة أن يجعل منها موضوعا، عندئذ تتلاشى حقيقة اللغة»، وعبارة بيرس التي ينص فيها على أن: «الإنسان يصنع الكلمة، والكلمة لا تعني إلا ما أراد الإنسان أن يقصده بها ، وذلك فحسب بالنسبة لإنسان آخر. ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يفكر إلا بواسطة كلمات أو من خلال رموز أخرى، فإن هذه الكلمات أو الرموز يمكن أن تستدير إليه وتقول: إنك لا تعني شيئا لم نعلمك إياه، وذلك فحسب بقدر ما توجه كلمة تعبر عن تفكيرك ... إن الكلمة أو العلامة التي يستخدمها الإنسان هي الإنسان نفسه ... وهكذا، فإن لغتي هي المجموع الكلي لذاتي؛ ذلك لأن الإنسان هو الفكر.» وربما يلخص نص بيرس هذا مجمل فلسفته البراجماتية التي تقوم على أن الدلالة العقلية للفظ، أو العبارة تكمن في أثرها في السلوك. ثم يورد رورتي نص دريدا الذي يقول فيه: «إن بيرس يتوغل بعيدا في الاتجاه الذي وصفته بأنه تفكيك لشارطية المعنى، وهو الذي يمكنه من حين لآخر أن يضع نهاية مؤكدة للإحالة من علامة إلى علامة.» ويستشهد أيضا بنص من سيلرز عن: «أن النزعة الاسمية السيكولوجية - التي يترتب عليها كل وعي بالأنواع والتشابهات والوقائع أي باختصار كل وعي بالكيانات المجردة، بل كل وعي بالجزئيات - هي مسألة لغوية.» وقول فيتجنشتين: «في اللغة وحدها يستطيع الإنسان أن يعني شيئا عن طريق شيء آخر.» وقول جادامر أيضا: «أن الخبرة البشرية هي في جوهرها خبرة لغوية.»
19
وجميع العبارات السابقة - في رأي رورتي - لا يصح أن تجعلنا نتصور أن هناك شيئا جديدا ومثيرا قد تم اكتشافه عن اللغة، بحيث يؤكد أنها أهم مما كان يعتقد من قبل. فهو يرى أن عبارات الفلاسفة السابقين قد اكتفت بإبداء ملاحظات سلبية، وأنهم يقولون إن كل المحاولات التي بذلت لتجاوز اللغة إلى شيء يمكن أن يؤسسها، أو شيء تعبر به عن نفسها، أو تأمل في أن تكون مكافئة له، ويقولون إن كل هذه المحاولات قد باءت بالفشل.
ويؤكد رورتي على أن «شمولية اللغة مسألة تتعلق باللغة التي تتحرك في فراغات تسبب فيها فشل كل الفروض التي أخذت بنقط بداية طبيعية للتفكير، أي نقط بداية سابقة على الطريقة التي تتكلم بها ثقافة معينة ومستقلة عنها. ومن أمثال هذه الفروض والاقتراحات المرفوضة : الأفكار الواضحة المتميزة عند ديكارت، المعطيات الحسية عند التجريبيين، ومقولات الفهم الخالص عند كانط، وبناءات الوعي السابقة للغة وما أشبه ذلك.»
20
فالفلسفة التحليلية - إذن - تمثل تحولا لغويا من جهة أنها ساعدت على طرح أسئلة كانطية بدون أن تتكلم بلغة كانط عن التجربة ولا عن الوعي، أي أن فلسفة التحليل اللغوي قد استطاعت أن تتجاوز الكانطية وتتبنى توجها طبيعيا وسلوكيا في اللغة. وهذا الاتجاه أو التوجه قد أدى بها إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها رد الفعل الذي تمثل في فلسفة نيتشه وهيدجر. وهكذا تنتهي الفلسفة إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها تراث نيتشه وهيدجر ودريدا الذي يبدأ بنقد النزعة الأفلاطونية، وينتهي بنقد الفلسفة ذاتها. بمعنى آخر، إن حصيلة الفلسفة التحليلية التي تخطت النزعة الوضعية المنطقية تشبه الحصيلة التي انتهى إليها تراث نيتشه وهيدجر ودريدا، مما يعني أن كلا التراثين «التحليلي والأوروبي» يوجدان الآن في مرحلة الشك في وضعهما، وكلاهما يعيش حائرا بين ماض مرفوض، ومستقبل غامض لفكر ما بعد الفلسفة.
هكذا يكون رورتي قد وضعنا في مأزق شديد بعد أن رسم صورة قاتمة للفلسفة في نهايات القرن العشرين، فبعد أن بخس المشكلات الفلسفية قدرها، أصبح هناك نوع من الفراغ في المشهد الثقافي الذي اختفت منه الفلسفة كنظام معرفي، وانطفأت وخبت شعلتها بالطريقة التي خبا بها اللاهوت. وإذا كان هذا هو تصور رورتي لوضع الفلسفة في الثقافة، فما هو تصوره لثقافة ما بعد الفلسفة؟ هل ينتج عن هذا ثقافة لا عقلانية بعد أن فقدت الفلسفة زعمها التقليدي بأنها علمية؟ هل ستتحول الفلسفة إلى مجرد تاريخ يقوم المشتغلون بالفلسفة بتدريسه في قاعات الدرس في أعداد قليلة من أقسام الفلسفة؟ أم ستتحول الفلسفة إلى نوع من فلسفة اللغة، خاصة وأن البراجماتية التي ينتمي إليها رورتي تؤمن بأن المشكلات الفلسفية نشأت في الأساس من فكرة كلية وجود اللغة التي أدت إلى عدم قدرتنا على معرفة أن هذه المشكلات الفلسفية نشأت على وجه التحديد من أن اللغة غير ملائمة للوقائع؟ وإذا كان هذا صحيحا فهل قامت البراجماتية على سوء فهم للعلاقة بين اللغة والعالم؟ (2) ثقافة ما بعد الفلسفة (2-1) دور الفلسفة في الفكر المعاصر
أراد رورتي من نقده للفلسفة التقليدية أن يتخلص من الحصار الديكارتي الذي طوق تاريخ الفلسفة، والذي يتلخص في عبارة إما/أو التي عبرت عن الثنائية التي اتسم بها العصر الديكارتي والعصور التالية له، ووضعت الإنسان أمام خيارين لا بديل لهما، إما أن يسلم بوجود أسس ثابتة، أو أن يواجه بالفوضى العقلية. لذلك كان هدف رورتي من نقده للتراث الفلسفي هو أن يحرره من هذه الثنائية، بحيث نحتاج - لكي نفهم الأمور التي أراد لنا ديكارت أن نفهمها - نحتاج أن «نتحول إلى الخارج بدلا من الداخل، وأن نتجه إلى السياق الاجتماعي للتبرير (
justification ) العقلي أكثر مما نتجه إلى تمثلات داخلية، وتشجع على اتخاذ هذا الموقف تطورات فلسفية ظهرت في العقود الحديثة للقرن العشرين، ومن أهمها المحاولات التي ظهرت عند فيتجنشتين في بحوثه المنطقية، وعند كون في بنية الثورات العلمية»،
21
فإذا ما أخذنا في الاعتبار رأي هذا الأخير - أعني توماس كون - في أن كل ثورة علمية لا بد أن يصاحبها نموذج إرشادي مغاير للمعرفة العلمية السابقة على هذه الثورة، فإنه يترتب على هذا - وطبقا لما يعنيه رورتي - أنه ليس هناك نظام معرفي تأسيسي واحد تتمركز حوله الثقافة في أي مجتمع ويهيمن على كل تجلياتها، لا الفلسفة ولا التاريخ ولا العلم ولا أي نظام آخر، فليس هناك جزء من الثقافة أكثر تميزا من الأجزاء الأخرى، بما يعني أن كل فترة زمنية لها نموذج إرشادي مخالف للفترة السابقة عليها، وأنه ليست هناك أسس أبدية وثابتة تفرضها الفلسفة على الثقافة. وهذا النموذج الإرشادي المتغير يفرضه السياق الاجتماعي والاعتقادات والممارسات الاجتماعية واللغوية في كل فترة تاريخية.
قد يفهم مما سبق أنه من الممكن أن تتشكل الثقافة في أي مجتمع معاصر بدون فلسفة. وإذا كان يصعب علينا أن نتخيل المشهد الثقافي بدون فلسفة، فإنه من الصعب أيضا أن نتخيل ما يمكن أن تكون عليه الفلسفة بدون الإبستمولوجيا التي وجه رورتي لها سهام النقد، كما يصعب أيضا أن نصف نشاطا ما بأنه فلسفي ما لم يتضمن طريقة أو منهجا للمعرفة. إذن فما هو تصور رورتي للدور الذي يمكن أن تلعبه الفلسفة في الثقافة المعاصرة؟
ربما كانت نقطة البداية عنده هي التخلي عن الفكرة الأساسية في الفلسفة التقليدية، وهي أن للإنسان جوهرا تنعكس على مرآته بدقة كل معرفتنا عن العالم الخارجي: «علينا أن نخلص خطابنا تماما من كل الاستعارات البصرية، وبخاصة الاستعارات التي تعكس شيئا داخليا أو خارجيا»،
22
ولكن التخلي عن فكرة المرآة يؤدي إلى التخلي عن الفلسفة بوصفها نظاما معرفيا، مما يترتب عليه التخلي أيضا عن فكرة الفلسفة المتمركزة حول الإبستمولوجيا؛ ولذلك تكون «السلوكية المعرفية» التي يقول بها رورتي ضد فكرة «الكيانات العقلية» أو العمليات السيكولوجية، وضد الصورة التي تؤكد أن للإنسان ملكات أسمى، وهي الصورة التي اشترك في تكوينها كل من ديكارت ولوك، ولكن آثار هذه الصورة تم محوها في رأي رورتي من قبل عدد من الفلاسفة مثل ديوي وأريل وأوستن وفيتجنشتين وسيلرز وكواين. ومن ثم تكون «السلوكية المعرفية» هي رد الفعل على نظرية المعرفة التي حصرت نفسها في إطار أسس ثابتة وتمثلات عقلية (فلكي نكون عقلانيين وأبستمولوجيين لا بد أن نبحث عن أسس مشتركة ومتفق عليها بيننا وبين الكائنات البشرية الأخرى)، ويفترض رورتي أن سيلرز وكواين على وجه التحديد «جعلانا نملك نوعا جديدا وأفضل من الإبستمولوجيا السلوكية، ولكن بعد التخلي عن الإبستمولوجيا التأسيسية بدا هناك نوع من الفراغ بحاجة إلى أن يملأ.»
23
كان من الطبيعي أن تظهر بعض العلوم البديلة التي تحاول ملء هذا الفراغ. وقد كانت الهرمنيوطيقا أحد هذه العلوم. ويوضح رورتي أنها - أي الهرمنيوطيقا -: «ليست اسما لنظام معرفي، ولا هي منهج يحقق نوعا من النتائج التي فشلت الإبستمولوجيا في تحقيقها، ولا هي برنامج للبحث، ولكنها على العكس من ذلك تعبير عن الأمل الذي خلفه الفضاء الثقافي ولا تملؤه الإبستمولوجيا»،
24
وهذا هو الذي أكده جادامر أيضا في كتابه «الحقيقة والمنهج» حيث قال إنها - أي الهرمنيوطيقا -: «ليست منهجية للعلوم الإنسانية ، بل محاولة لفهم ما هي العلوم الإنسانية على حقيقتها وما وراء وعيها الذاتي بشكل منهجي، وماذا يربط هذه العلوم بتجربتنا في العالم»،
25
وإذا كان تاريخ الفلسفة قد تشكل من خلال البحث عن القياسية أو المعيارية، وهي التي تبلورت في الفلسفة الحديثة وميزت الإبستمولوجيا، فإن رورتي برفضه لهذا التراث ولكل ما هو قياسي لا يفهم الهرمنيوطيقا بوصفها منهجا جديدا أو نظاما معرفيا أو وسيلة جديدة لتحقيق القياسية.
يعيب رورتي على الفلاسفة التقليديين هروبهم من التاريخ، بمعنى أنه يعيب عليهم تناولهم للمشكلات الفلسفية من منظور غير تاريخي، ويأخذ عليهم رؤيتهم للعالم «من منظور الأبدية» على حد تعبير اسبينوزا، وينظر للمشكلات الفلسفية من منظور زماني تاريخي متغير. إنه لا يريد إيجاد بديل للنظم المعرفية الإبستمولوجية - على الرغم من أنه لا ينكر الدور الهام الذي قامت به الإبستمولوجيا في التقدم العلمي وفي المشهد الثقافي في الفلسفة الأوروبية - بل يريد تحويلا أو تغييرا في اتجاه الفلسفة ذاتها في الفكر المعاصر. إن ما «يريد رورتي أن يقوله لنا هو أن تاريخ الفلسفة، مثله مثل كل ثقافة، هو سلسلة من المصادفات أو العرضيات، هو تاريخ نشأة وزوال ألعاب اللغة المختلفة وأشكال الحياة»،
26
كما أن فهمه للفلسفة يسقط الفكرة الأساسية التي تزعم أن الفلاسفة هم الصفوة العارفة بأشياء لا يعرفها غيرهم من البشر، أي أنه يسقط زعم الفلاسفة بأنهم ملاك الحقيقة.
والواقع أن رورتي يقسم الفلاسفة إلى قسمين: فلاسفة نسقيين، وهم الذين يزخر بهم تاريخ الفلسفة، وفلاسفة يطلق عليهم اسم فلاسفة الهداية. وهو يفضل استخدام هذه الكلمة عن كلمة التربية
education
التي يجدها شديدة التسطح، وعن كلمة
Bildung (التي تعني التثقيف أو التكوين) التي تبدو شديدة الغرابة: «سوف استخدم كلمة
edification (الهداية أو الإرشاد) لكي تعبر عن مشروع إيجاد طرق أفضل وأكثر جدة وأكثر تشويقا وأكثر نفعا في الكلام
speaking . إن محاولة الإرشاد لأنفسنا وللآخرين ربما تساعدنا بالمعنى الهرمنيوطيقي أو التأويلي على إقامة روابط بين ثقافتنا وثقافة أخرى غريبة، أو بينها وبين مرحلة تاريخية معينة، أو في محاولة إقامة صلة بين نظامنا نحن (في القول والتفكير) وبين نظام آخر يبدو أنه يترسم أهدافا أو غايات بعيدة بلغة غير مألوفة»،
27
أعود فأقول إن هؤلاء الفلاسفة الهداة أخذوا على عاتقهم الشك في الفلسفة القائمة على القواعد القياسية، ومن هؤلاء الفلاسفة ديوي وفيتجنشتين وهيدجر الذين يعتبرهم رورتي من أعظم فلاسفة القرن العشرين: «في عصرنا ثلاثة من كبار المفكرين الهداة
edifying
هم ديوي وفيتجنشتين وهيدجر، لقد بذلوا أقصى جهدهم لكي يجعلوا من الصعب علينا أن نعتبر فكرهم تعبيرا عن المشكلات الفلسفية التقليدية، وأن نتصور خطأ أنهم يقيمون اقتراحات بنائية للفلسفة.»
28
ومحاولة الهداية أو الإرشاد لأنفسنا يمكن أيضا أن تقوم على فعل لغوي يبدع أهدافا جديدة وكلمات جديدة وأنظمة جديدة مخالفة لما هو متبع في المنهج التأويلي، أي محاولة تفسير كل ما يحيط بنا وما هو مألوف لنا من خلال المصطلحات غير المألوفة لابتكاراتنا أو إبداعاتنا الجديدة. وفي الحالتين (أي في حالة الموافقة أو المخالفة مع المنهج التأويلي) تقوم هذه العملية بالهداية أو الإرشاد بغير أن تكون إنشائية، على الأقل إذا كان المقصود بما هو إنشائي أو بنائي هو ذلك النوع من التعاون لإنجاز برامج بحثية على نحو ما يتم في الخطاب العادي أو الكلام العادي. ذلك لأن الخطاب الإرشادي يفترض فيه أن يكون غير مألوف، وأن يأخذنا بعيدا عن ذواتنا القديمة بفضل ما فيه من غرابة شديدة، وأن يساعدنا على أن نصبح كائنات جديدة. فإذا كان الفلاسفة النسقيون العظام - شأنهم شأن العلماء العظام - يبنون نظمهم من أجل الأبدية، فإن الفلاسفة الهداة يقومون بالهدم، أو يمارسون عمليات الهدم لصالح جيلهم الحاضر، وهم يفزعون من تصور أن لغتهم يمكن أن تصبح مؤسسية أو أن كتاباتهم يمكن أن تقاس على الكتابات التراثية : «إن الفلاسفة النسقيين العظام هم فلاسفة إنشائيون ويقدمون حججا وبراهين، أما الفلاسفة الهداة العظام فهم فلاسفة رد فعل، ويقدمون ألوانا من السخرية والتهكم ومن الحكم الموجزة، وهم يعلمون أن أعمالهم ليست أبدية، وأنها قد تنتهي بانتهاء العصر الذي كانوا يقاومونه. إنهم يبدون وكأنهم يتعمدون أن يكونوا فرعيين أو هامشيين ومختلفين عن الفلاسفة النسقيين العظام الذين يبنون للأبدية. إنهم - أي الفلاسفة الهداة - يهدمون من أجل جيلهم الذي يعيشون فيه ولا يهدفون كما يفعل الفلاسفة النسقيون أن يضعوا فلسفاتهم على طريق العلم المأمون. إنهم يريدون أن يفتحوا كل السبل أمام الإحساس بالدهشة الذي يستطيع الشعراء في بعض الأحيان أن يحدثوه. وهي الدهشة أو العجب من أن هناك شيئا جديدا تحت الشمس، شيء ليس مجرد تمثيل دقيق لما كان موجودا من قبل، شيء لا يمكن تفسيره ولا يكاد يوصف وصفا دقيقا.»
29
لم يقرر الفلاسفة الهداة الذين يمجدهم رورتي حقائق نهائية، ولم يسيروا في الفلسفة على طريق العلم الموضوعي المأمون. قد يفهم من هذا أن رورتي ضد الحقيقة الموضوعية، وربما يكون هذا صحيحا إلى حد كبير، ولكن لا بد من توضيح أنه - شأنه شأن بعض الفلاسفة الوجوديين - ليس ضد الحقيقة الموضوعية كما هي في العلوم الطبيعية وفي التاريخ، ولكنه يقر بأنها طريقة واحدة من بين طرق أخرى عديدة يمكن أن توصلنا إلى وصف أنفسنا، وإن كان من الممكن أن تخدعنا وتحول دون إتمام عملية الهداية أو الإرشاد. وتعود أهمية الرأي الذي يقر بأننا لا نملك ماهية ثابتة إلى أنه «يسمح لنا بأن ننظر إلى أوصافنا لأنفسنا كما نجدها في واحد من العلوم الطبيعية أو فيها مجتمعة، كما يسمح لنا بأن نعتبر هذه الأوصاف متكافئة مع الأوصاف البديلة المتعددة التي يقدمها الشعراء والروائيون وعلماء النفس التحليلي والنحاتون وعلماء الأنثروبولوجيا والمتصوفة. والخلاصة أن هذه الأوصاف أو التمثلات لا يصح أن نعتبرها تمثلات تفوق غيرها بحجة أن العلوم يتم الإجماع فيها أكثر مما يتم في الفنون والآداب، فالواقع أنها مجرد أوصاف ضمن رصيد كبير من الأوصاف الذاتية الممكنة.»
30
بهذا المعنى السابق يجب أن ننظر إلى الفلسفة الإرشادية باعتبارها حبا للحكمة، ودعوة للحوار، أو «محاولة للحيلولة دون تحول الحوار إلى بحث. إن الفلاسفة الهداة لا يمكنهم أن ينهوا الفلسفة، ولكنهم يساعدون على منعها من أن تسير على طريق العلم الموضوعي والنهائي.»
31
بهذا المعنى يدخل الفلاسفة الهداة في محادثة، وينظرون للفلسفة على أنها حكمة عملية ضرورية للمشاركة في الحوار، ولا يقرون حقائق نهائية ثابتة. وهذا هو ما يعنيه رورتي على وجه التحديد، فإذا نظرنا إلى عملية المعرفة لا باعتبارها تحصيلا لماهية يمكن أن يصفها العلماء أو الفلاسفة، «فإننا نكون قد وضعنا أنفسنا بذلك على طريق النظر إلى الحوار أو المحادثة باعتبارها السياق النهائي الذي يمكن أن تفهم المعرفة من خلاله. ومن ثم يتحول اهتمامنا من التركيز على العلاقة بين البشر والموضوعات التي يبحثونها إلى التركيز على العلاقة القائمة بين المعايير المختلفة للتبرير، ومن ثم إلى التغيرات الفعلية التي تعتري هذه المعايير التي تصنع التاريخ العقلي.»
32
ومع ذلك فإن التقابل بين الرغبة في الهداية (التي هي هدف فلاسفة رورتي المفضلين)، والرغبة في الحقيقة (التي هي هدف الفلاسفة النسقيين) لا يعد في رأي رورتي - وهو الرأي الذي يتفق فيه مع جادامر - تعبيرا عن توتر يحتاج إلى حل أو توفيق. وإذا كان هناك ثمة صراع بين الضدين فهو صراع بين النظرة الأفلاطونية - الأرسطية التي ترى الطريق الوحيد للهداية «إلى الحقيقة» هو أن نعرف ما يوجد في الخارج، أي نعكس الوقائع بدقة ونحقق ماهيتنا عن طريق معرفة الماهيات، وبين وجهة النظر التي ترى أن البحث عن الحقيقة هو أحد الطرق الكثيرة التي يمكن أن توجهنا وترشدنا. ويرى رورتي أن جادامر كان محقا عندما أشاد بنجاح هيدجر في استخلاص طريقة في البحث عن المعرفة الموضوعية (التي بدأها الإغريق واستخدموا فيها الرياضيات كنموذج) باعتباره مشروعا بشريا من بين مشاريع أخرى كثيرة.
هكذا يفترض رورتي - كسائر البراجماتيين - أنه لا يجب السؤال عن طبيعة الحقيقة أو الخير أو الدخول في مثل هذه الموضوعات الغامضة. إنه يريد تغيير موضوع الفلسفة، وبمعنى أكثر دقة يريد أن تنفتح الفلسفة على ميادين ونظم أخرى غير فلسفية، ولكن ليس معنى هذا أنه يطالب الفلاسفة بأن يتخلوا عن صرامة التفكير أو دقته، بل إن اتساع دائرة الفلسفة بالتفاعل مع الأنظمة والميادين الأخرى ومع علوم أخرى مختلفة، سيجعلها تؤسس علاقة حميمة بين الفكر والحياة وخلق نوع من التوازن بينهما يساعد على إيجاد أفضل الطرق للتعامل مع التجربة، بحيث يكون للنشاط العقلي نتائج عملية متصلة بالسلوك. من هنا كان هجومه (أي رورتي) على البعد الإبستمولوجي للتفكير الفلسفي الذي تجاهل الأبعاد الأخرى لمظاهر التجربة الإنسانية. وعندما تتخلى الفلسفة عن انشغالها التقليدي بالبحث عن الحقيقة، وتهدم مفرداتها البالية القديمة التي لم تعد تخدم الحاضر، عندئذ سيبرز الدور الجديد للفلسفة الذي يتلخص في اختراع نظريات ومفردات جديدة، وهو دور ليس مقصورا على الفلاسفة وحدهم، بل من الممكن أن يشارك فيه باحثون من ميادين ونظم أخرى. والسؤال الآن: ما هي سمات الدور الجديد للفلسفة كما يتصوره رورتي؟ وما هي علاقة هذا الدور الجديد بالواقع؟ (2-2) دور اللغة في الفلسفة المعاصرة
يربط رورتي بين الدور الجديد للفلسفة في الفكر المعاصر وبين اللغة، وهو في رأيه هذا يساير الاتجاه إلى فلسفة اللغة الذي ساد جل الفلسفات المعاصرة، والذي لا يرى أهمية ولا قيمة لأي موضوع فلسفي سوى فلسفة اللغة بما تتضمنه من البحث في مشكلات لغوية ونحوية تهم علماء اللغة، ومشكلات فلسفية تهتم بوضع نظريات في المعنى. ويؤكد رورتي أن التحرر من أسر الفلسفة التراثية يساعدنا إلى حد كبير على إدراك دور الفلسفة في التعامل اللغوي أو التخاطب مع الجنس البشري؛ فالتغير التاريخي يأتي بواقع جديد يصاحبه معرفة جديدة بمفردات جديدة. ولا يتم هذا على مستوى الظروف التاريخية والاجتماعية للمجتمع البشري فحسب، بل على مستوى المجتمع العلمي أيضا؛ فالاكتشافات العلمية الجديدة لا يتم شرحها بمفردات نظريات سابقة، بل تستحدث مفردات جديدة كتلك المفردات التي فرضتها النظريات العلمية الحديثة - مثل الذرة، الجزيء ... إلخ - لأن الحقائق الجديدة ولدت أوصافا ونظريات جديدة. من هنا تأتي أهمية اللغة المصاحبة لنمو المعرفة، مما يترتب عليه أن التغيرات الجديدة يصحبها تغير لغوي، بل إن هذه التغيرات هي التي توسع آفاق المعرفة. ومن هنا فإن اللغة تؤدي دورا هاما في ثقافة ما بعد الفلسفة.
والواقع إن ما يسمى بالتحول اللغوي في الفلسفة جاء على أيدي العديد من الفلاسفة. فقد ظهرت بوادره الأولى عند بيرس في نظريته عن العلامات، ثم كان فيتجنشتين هو نقطة التحول والمنعطف الجديد في الفلسفة المعاصرة عندما رد الفكر إلى اللغة ورد العالم الخارجي إلى وقائع، وسار في اتجاه التحول اللغوي الذي تابعه بعد ذلك رايل وأوستن. وقد كان لفيتجنشتين - في فلسفته المتأخرة - تأثير كبير على الفكرة الأساسية عند رورتي التي تدور حول ربط الفكر بالحياة أو الواقع عن طريق اللغة، فهذه الأخيرة - أي اللغة - تساعدنا على التلاؤم أو التوافق مع العالم عن طريق الاستخدام الناجح لها. وهذا هو الدور الجديد الذي على الفلسفة أن تضطلع به في الفكر المعاصر. كما كان الاتجاه السلوكي في فهم فيتجنشتين للغة ووظيفتها الذي تبينه هذه العبارة: «إننا في الواقع نفعل أشياء كثيرة بالجمل التي نقولها»،
33
أقول كان لهذا الاتجاه السلوكي أثره على رورتي عندما أكد على المكانة التي تحتلها اللغة في الفكر المعاصر وكيف تتحول إلى ما يمكن أن نسميه بالسلوكية اللغوية. لقد كان فيتجنشتين هو أحد الفلاسفة الذين ساعدوا رورتي على السير في هذا الاتجاه؛ فتقرير فيتجنشتين عن كيفية حصولنا على الكلمات الدالة على الألوان تشير إلى طريقة أخرى في وصف علاقتنا بالواقع. إنه يرى أن معرفتنا بالألوان تتجلى في السلوك الذي نقوم به تجاه الألوان، وجزء من هذا السلوك لغوي، أي أنه يقوم على تحديد الألوان وتصنيفها، والقدرة على التقاط الأشكال الملونة والإشارة إليها بشكل صحيح، ورؤيتنا للألوان بشكل واقعي تتجلى في الأداء الناجح للأنشطة مصحوبة بالكلمات الملائمة. وهذا هو السبب الذي جعل فيتجنشتين يقول بصورة حادة إن الإجابة الصحيحة على السؤال كيف تعرف أن هذا اللون أحمر؟ هي أنني تعلمت اللغة الإنجليزية.
34
والمغزى من هذه العبارة السابقة هو أن اللغة هي المرجع والمدخل الذي نثق به للولوج إلى الواقع، وعندما نقول إن الواقع هو ذلك الذي نعتمد عليه أو نثق به، فإننا بهذا القول نعترف بأننا نؤدي الوظيفة اللغوية بشكل صحيح؛ فكينونة العالم الواقعي أو واقعية العالم تتكشف من خلال الاستخدام الناجح للغة.
ويؤكد رورتي وجه نظر فيتجنشتين التي يقرر فيها أننا لا نستطيع أبدا أن نهرب من متاهة اللغة فيقول: «إن العالم هناك في الخارج، أما أوصافنا للعالم فليست كذلك؛ لأن العالم لا يتكلم، ولكننا نفعل ذلك.»
35
يفهم من هذه العبارة أن أوصاف العالم ليست سوى سلوك لغوي نقوم نحن به. وربما كان هدف رورتي من هذه العبارة هو معارضته لكل محاولة للربط بين أي تعبير لغوي أو أية فكرة وبين شيء آخر غير لغوي في إطار نظرية الصدق أو التطابق المزعومة. فنحن لا نستطيع - في رأيه - أن نتبين ما تحيل إليه عبارة أو فكرة أو مفهوم إلا من خلال تعبير لغوي آخر، وليس ثمة سبيل آخر يجعل الفكر يتلمس الواقع: «إن القول بأن الحقيقة أو الصدق ليست في الخارج هو القول ببساطة أنه حيث لا توجد عبارات لغوية فلا توجد حقيقة، وأن العبارات هي عناصر مكونة للغة البشرية، وأن اللغات البشرية هي إبداعات بشرية»،
36
إن العبارات الصادقة ليست مجرد إحالات إلى شيء وراءها، وإنما هي تعرض علينا الواقع الذي يتكون منه نسيج تجربتنا، فهي لا تعطينا شكل أو صورة الواقع، وإنما تمدنا كذلك بجوهر هذا الواقع. بهذا المعنى تربط اللغة بين التجربة البشرية والواقع. وبمعنى أكثر وضوحا إن علاقة اللغة بالواقع تعبر في الحقيقة عن معتقداتنا وآمالنا ورغباتنا وخبراتنا في هذا الواقع.
إن اللغة - كما يقر بهذا فيتجنشتين وأوستن - ليست مجرد لغة فقط؛ لأن الممارسات اللغوية هي ظواهر جوهرية في حياتنا تمدنا بمعتقدات صادقة نوجه سلوكنا وفقا لها. فمن المعروف أن الاعتقاد - إذا ما استبعدنا المدلول الديني لهذه الكلمة - هو اقتناع الإنسان بفكرة أو معتقد أو قضية ما لأسباب يراها المعتقد بهذه الفكرة مبررة ومقبولة لديه، حتى لو لم تكن كذلك بالنسبة للآخرين، ويدفعه هذا الاعتقاد إلى السلوك وفقا له. بمعنى آخر إن إيماننا بصدق معتقداتنا يحرك سلوكنا ويعطي لحياتنا معنى، وبذلك تصبح المعرفة جزءا من العملية السلوكية وليست مسألة ميتافيزيقية. والاعتقاد في صدق القضايا اللغوية يقوم إلى حد كبير على الاتفاق الجمعي على معاني الكلمات. فالكلمة الدالة على لون من الألوان، أو عضو من أعضاء الجسد، لا تفهم إلا في ضوء اتفاق مجتمع لغوي ما على معنى محدد لها، وترتيب حياته وسلوكه وفقا لذلك. معنى هذا أن اللغة أيضا - مثلها مثل كل الإبداعات البشرية - هي نتاج الزمن والتغير، لم تظهر اللغة لتتلاءم مع بناءات سابقة الوجود، بل يمكننا أن نقول: «إن اللغات أيضا عرضية
contingent
بمعنى أن العلاقة التي تربط بين الأصوات والعلامات التي يصنعها مستخدمو اللغة، وما يصاحب هذه الاستخدامات هي مخترعة وغير طبيعية
non-natural ، أي أن الصوت المستخدم لكي يشير إلى الماء - على سبيل المثال - هو صوت اعتباطي
arbitrary ، وهذا الصوت وليس صوتا آخر قد تم تداوله في هذا المجتمع. وربما يكون هذا الصوت مختلفا في مجتمع لغوي آخر، وهو في حقيقة الأمر مختلف، حتى على الرغم من أنه يشير إلى نفس الجسم وهو الماء.»
37
أصبحت المعرفة عند رورتي - مثله في ذلك مثل سائر البراجماتيين الذين يعد امتدادا لهم - خبرة حيوية نافعة تعرفنا بأنفسنا والواقع من حولنا. ولذلك فهو لا يفهم العالم بوصفه مجموعة من المعاني التي لها وجود مسبق، والتي تكتشف من خلال الفكر؛ لأنه يريد أن يفسح المجال للاكتشافات والمعارف الجديدة والمساهمات الخلاقة من خلال الاستعارات والنظريات الجديدة. فنحن لا نجد العالم سلسلة من الظواهر التي نعبر عنها باللغة، وإنما نحن الذين نصنع العالم من خلال اللغة، وما تمسك به اللغة ليس شيئا وهميا؛ لأن الاستخدام اللغوي الناجح يقاس بإضفاء الواقعية والموضوعية على خبراتنا. وبهذا المعنى تكون الظواهر التي نتلاءم معها، والتي تنعكس في سلوكنا قد أحسن صنعها أو إبداعها عندما نجد طريقنا في العالم، ونفهم كل ما يحيط بنا. بذلك يفهم رورتي اللغة فهما براجماتيا وسلوكيا مجاريا في ذلك ديوي وفيتجنشتين، حيث أصبحت اللغة عندهما صورة من الحياة يطورها الإنسان وفق أغراضه ونشاطه الحيوي. وتكشف اللغة أيضا - كما نرى عند فيتجنشتين - عن تشكيلات لغوية لألعاب متنوعة تستخدم فيها الكلمات والجمل استخدامات تفرض عليها معانيها، بحيث يتغير هذا المعنى إذا ما اختلفت اللعبة التي ترد فيها: «هناك عدد لا يحصى من الأنواع المختلفة لاستخدام ما نسميه «بالرموز» أو «الكلمات» أو «الجمل». وهذه الكثرة المتنوعة ليست ثابتة بحيث نعرفها مرة واحدة وإلى الأبد، بل يمكننا القول بأن هناك أنماطا جديدة للغة، وألعابا - لغوية جديدة تستحدث، بينما يكون قد توقف استخدام أنماط وألعاب - لغوية أخرى أصبحت مهملة وفي عداد النسيان.»
38
إن محاولة رورتي التي تتبعناها فيما سبق للتخلص من الصور المرآوية في تاريخ الفلسفة أو من فكرة المعرفة كمرآة جعلته يستخدم كلمة التلاؤم أو التوافق مصحوبة بحرف الجر «مع»
coping with
التي لا يقصد بها التلاؤم مع شيء محدد، بل التلاؤم المفتوح على إمكانات كثيرة كالتلاؤم أو التوافق مع النفس ومع الآخر، ومع المشكلات، أو مع التجربة والعالم. وربما يكون الهدف من فكرة «المعية» - التي تحمل دلالات الأنصار أو الاندماج أو الارتباط المباشر بالموضوع - هو تجنب التفرقة الثنائية الشهيرة في تاريخ الفلسفة بين الذات والموضوع، والعارف والمعروف، والظاهرة والشيء في ذاته. وعملية التلاؤم مع غير المألوف مهمة شاقة وعسيرة تتطلب منا استحداث أدوات ومفردات جديدة، ونماذج إرشادية جديدة، واستعارات جديدة، ونظريات واعتقادات لم يفسح لها المجال بعد. ويعتبر رورتي أن الكتابة هي أحد العوامل الأساسية التي تساعدنا على التلاؤم، وإن كان يرفض تصنيف الكتابة إلى أجناس مختلفة (أدبية أو فلسفية ... إلخ)، وينظر إلى كل كتابة إبداعية على أساس أنها نوع من الأدب بما في ذلك الأعمال الفلسفية، وربما تكون حجته في هذا هي اختفاء الحدود الفاصلة بين النظم المعرفية في عصرنا، وتداخل هذه النظم في بعضها البعض يقلل من شأن التصنيف الحاد لأجناس الكتابة. وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه في الرأي المثير للجدل والخلاف، فإن الكتابة هي أحد أشكال الإبداع البشري التي تساهم بشكل فعال في عملية تلاؤم الإنسان أو توافقه مع نفسه ومع العالم والتجربة. (2-3) استبدال إبداع-الذات بالوعي-الذاتي
يتضح من كل ما سبق رفض رورتي للمعرفة التقليدية التي تتم بين ذات عارفة موضوع للمعرفة، بل وذهابه إلى أبعد من هذا عندما وصف الوعي - الذاتي في التراث الديكارتي بأنه نوع من خداع - الذات. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يثور السؤال. كيف يمكن إذن معرفة الذات؟ إنها في رأي رورتي معرفة تتم عن طريق إبداع - الذات ولكن كيف يمكن أن يكون إبداع - الذات نوعا من المعرفة؟ وما الهدف منها؟ وكيف تتم؟
يتفق رورتي مع فرويد في اقتناعه بأن الإبداع الذاتي هو الذي يميز الكائنات البشرية عن غيرها من الكائنات الأخرى، كما يتفق معه أيضا في إعطائه العوامل العرضية أهمية خاصة في عملية إبداع - الذات. إن صنع أو إبداع - الذات هو صراع إنساني هدفه تدبير وسيلة للوجود، وإضفاء المعنى والقيمة عليه. فالإنسان ليس جوهرا أو ماهية ثابتة سابقة التجهيز، بل إن «حياة الإنسان تشبه قصيدة غير منتهية»،
39
كما أن شبكة اعتقاداته ورغباته وآماله وطموحاته لا يمكن أن تكون مسيرة مكتملة بشكل نهائي. إن اعتقادات ورغبات ومصالح وسلوك الكائنات البشرية تسمح بالتغيرات والتقلبات التي لا يمكن التنبؤ بها، فكما «أن معرفتنا عن العالم تتغير في ضوء الإسهامات العرضية للغتنا المتغيرة، كذلك يتغير مفهومنا عن أنفسنا.»
40
وليست الذات الإنسانية مجموعة محكمة من الملكات - كما هي عند كانط - ولكنها تتشكل أيضا من العديد من العرضيات والمصادفات والمواقف غير المتوقعة أو المتنبأ بها. وهذه الصدفة أو هذه العرضية ليست على مستوى الكائنات البشرية فحسب، بل هي أيضا على مستوى العالم كما يؤكد وليم جيمس: «إن تشبثت بعالم كامل الصنع، فإني لا أزال أعتقد أن عالما به صدفة أفضل وأحسن من عالم خال منها»؛
41
لأن ما يستحق المعرفة هو ما ليس مكتملا وما يزال مفتوحا على الصدفة غير المتوقعة. وفي هذه الحالة يصعب أن نتصور وجود نموذج لكائنات بشرية ثابتة، وقد أسهم فرويد في هدم هذه الصورة - أعني صورة وجود شيء بشري حقيقي معد مسبقا - عندما بين تأثير الخيال غير الواعي أو اللاشعوري والدور الذي يلعبه في تشكيل الذات الإنسانية، هذا بالإضافة إلى الوعي والتفكير، إلى جانب ردود الأفعال غير المتنبأ بها للاوعي والجوانب الغريزية الغائرة في الكائنات البشرية. الصدفة أو العرضية إذن تلعب دورا هاما في عملية إبداع-الذات، والأفراد المبدعون فقط هم الذين لديهم القدرة والمهارة الكافية للتعرف على - بل وتحديد - العرضيات والإمساك بها وتحويلها إلى وقائع هامة «إذا أمسكنا بالعرضيات الخاصة الحاسمة في ماضينا فسوف نصبح قادرين على صنع شيء ذي شأن لأنفسنا، وإبداع ذوات حاضرة نستطيع أن نحترمها.»
42
إن المصادفات والعرضيات تقتحم حياتنا، وبما أننا لا نستطيع التأثير في مجرى هذه المصادفات فعلينا مواجهتها. وإذا كانت حياتنا في بعض جوانبها محكومة بالصدفة التي لا يحكمها قانون، وفي بعضها الآخر بظروف سياسية وتاريخية مفروضة علينا، فإن «الكثير من الأحداث الهامة في حياتنا تنبع من ردود أفعالنا لمواجهات عرضية مع أناس آخرين ومواقف غير متوقعة. فنحن نحدد أنفسنا في مواجهة التحديات التي وضعتها في طريقنا ظروف بشرية وغير بشرية، أو نحن نفشل في مواجهتها. وهكذا تكون الشخصية الإنسانية شيئا يصنع، عملا فنيا.»
43
ولا مهرب لنا من أن نأخذ في حسابنا المصادفات أو العرضيات والأخطار، بل والفروض التي تظهر في حياتنا على غير توقع، وإذا كنا لا نستطيع أن نتجنب مثل هذه الأمور فإن مهمتنا هي الوعي بها ومواجهتها كما سبق القول.
لكن هل يملك جميع الناس هذا الوعي بعرضيات الحياة؟ حقيقة الأمر أن الأفراد الأقوياء فقط هم القادرون على إدراك مثل هذه العرضيات والإمساك بها لتساعدهم على إبداع ذواتهم، ومن هؤلاء - في رأي رورتي - نيتشه والشعراء النوابغ الذين استطاعوا أن يحولوا حياتهم إلى إبداعات أدبية، وأن يبدعوا استعارات وأوصافا جديدة، ويحولونها من السياق الخاص إلى السياق العام: «إن التقدم الشعري، والفني، والفلسفي، والعلمي أو السياسي ينتج من الصدفة العرضية لهاجس خاص مع حاجة عامة.»
44
وعملية إبداع الذات هي مهمة كل فرد وليست مقصورة فحسب على الشعراء الموهوبين الذين يملكون القدرة على خلق استعارات ومفردات جديدة. وإذا كنا قد أكدنا من قبل أن اللغة متغيرة، وأنها نتاج الزمن والظروف التاريخية، فإنه يترتب على ذلك أن كل تغير تاريخي يصاحبه تحول لغوي، وأن الاكتشافات غير المتوقعة تساعد على إيجاد مفردات جديدة، حيث تصبح المفردات الموجودة بالفعل بالية وغير كافية. كما أن وضع نظريات جديدة يستدعي التغلغل في جوانب غير معروفة للظاهرة موضوع البحث، بحيث تنمو المعرفة من صراع المفردات الجديدة مع القديمة، وتنمو المعرفة وتتطور مع نمو وتطور الجنس البشري.
بهذا المعنى السابق نكون نحن جميعا شعراء في إبداع الذات، ولكن بعضنا فقط هم الشعراء العظام، أي أن كلا منا يبدع ذاته بشكل مختلف. ومعنى هذا أن رأي رورتي في الذات الإنسانية ليس رأيا نخبويا، أي أنه لا يتحدث عن نخبة أو صفوة من البشر لديهم مواهب أو قدرات خاصة لإبداع-الذات، وحديثة عن إبداع مفردات واستعارات جديدة ليس مقصورا على فئة الشعراء فحسب - باعتبارهم الفئة التي تربطها باللغة علاقة خاصة تساعدهم على إبداع مفردات واستعارات جديدة - بل إن كل الكائنات البشرية قادرة على إبداع استعارات جديدة في ردود أفعالهم على عرضيات الحياة ومصادفات التجربة. ولذلك يؤكد رورتي أن ما يفعله الشعراء بكلماتهم، يمكن للآخرين أن يفعلوه بحياتهم، بزواجهم وأطفالهم، بتجارتهم، وحسابات أعمالهم وما يمتلكون في بيوتهم، بالموسيقى التي يسمعونها، والرياضة التي يمارسونها أو يشاهدونها، والأشجار التي يمرون عليها في طريقهم إلى العمل، وأيضا في كل نظرية علمية جديدة ... وهكذا.
لا شك أن كلمة إبداع تحمل مدلولا إيجابيا لدى السامع، فعندما نتحدث عن إبداع-الذات ينصرف الذهن إلى التفكير في شيء له قيمة، أو هدف ينطوي على شيء خير، ولكن ليس هناك ضمان أن يتحرك إبداع-الذات دائما في هذا الاتجاه، وهذا ما بينه رورتي في تحليله للرواية اليوتوبية لجورج أورويل
45 ⋆ (1984م). وقد ألقى هذا التحليل
46
الضوء على عملية إبداع أوبرين (أحد شخصيات الرواية) لذاته التي أثمرت كائنا يستمتع ويبتهج بقدرته على تدمير عقل (ونستون) بطل الرواية، وينتهي من هذا التحليل إلى أن التاريخ البشري يكتظ بمثل هذه النماذج. هنا يأتي ما نسميه بالاعتبارات الأخلاقية في عملية إبداع-الذات. فهل ينطوي هذا الإبداع على تلبية احتياجات ومصالح الذات المبدعة نفسها، أم لا بد أن ينطوي اختيار فعل الإبداع على تلبية وتحقيق مصالح الآخرين أيضا؟ بمعنى آخر هل ما يختاره الفرد من أفعال يبدع من خلالها ذاته ويحقق الخير لنفسه تحقق بالضرورة الخير للآخرين؟ مرة أخرى ليس هناك ضمان لأن تسير العملية الإبداعية في هذا الاتجاه، فما يختاره الشخص لنفسه ليس من الضروري أن يكون خيرا للآخرين، والعكس أيضا صحيح؛ أي أن ما يختاره الفرد ليحقق الخير لنفسه ليس بالضرورة ضارا بالآخرين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ربما يكون شيء ما خيرا للفرد بدون أن يكون بالضرورة خيرا ولا شرا للآخرين، فهذه مسألة خلافية ولا يمكن حسمها بسهولة في هذا المجال، ولكنها تؤكد أن الجانب الأخلاقي هو أحد الجوانب الهامة في عملية إبداع-الذات؛ لأنها تحدد العلاقة النهائية بين الذات المبدعة والآخرين. كما أن هذه العلاقة أيضا تساهم من جانب آخر في عملية الإبداع ذاتها؛ فعلى الرغم من أن الكائنات البشرية محكومة بوحدة طبيعية مشتركة (كالوحدة البيولوجية) إلا أنها تتسم بالتنوع الثقافي الهائل الذي يسمح بوجود سياقات اجتماعية مختلفة، تساهم بشكل كبير في إثراء عملية إبداع-الذات.
ولا شك أيضا أن عملية إبداع-الذات تنطوي في النهاية على محاولات الذوات البشرية لصنع شيء ذي قيمة لأنفسهم، ولإضفاء المعنى على وجودهم، ولكن ما هي الظروف التي يجب أن تتوافر لكي تؤتي هذه المحاولات ثمارها، ولكي تتم عملية صنع-الذات بصورة أفضل؟ إن عملية إبداع-الذات تستمد مادتها الأساسية من الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها الإنسان الذي ألقيت على عاتقه مهمة إبداع-ذاته. فإذا كانت هذه الظروف صارمة وتفرض قيودها الظالمة على مواطنيها، فإن مثل هذه الظروف والنظم تجلب المعاناة على أفرادها، بينما نجد في المقابل أن المجتمعات التي يسودها قيم كالحرية والتسامح والديمقراطية تفسح المجال للأفراد لإبداع-الذات بصورة أفضل. وتلعب الحرية دورا خاصا في صنع-الذات، والحرية كما يقول رورتي هي «إدراك أو التعرف على العرضية
Freedom as recognition of contingency »
47
فلكي نستجيب لعرضيات الحياة علينا أن نحسب حساب القيود المفروضة علينا من قبل الظروف الاجتماعية والسياسية؛ فالتعصب السياسي والقيود الاجتماعية الصارمة تشكل عقبة في طريق نمو وتطور الأفراد، وهي أحد العوائق التي تحول بين الفرد وبين إبداع-ذاته، لا سيما أن هذه العملية الأخيرة (أي إبداع-الذات) ليست بالمهمة اليسيرة، بل هي عمل شاق يتطلب أن يتمتع الفرد بقوة الشخصية لتكون لديه القدرة على مواجهة الظروف المعاكسة والمعوقة لتحقيق ذاته. ومما لا شك فيه أن توافر مناخ خاص مثل الحرية والتسامح والديمقراطية في مجتمع ما هو من الأمور الأساسية التي تفسح مجالا لعملية إبداع-الذات. •••
والآن وبعد أن عرضنا - بالقدر الذي تسمح به حدود هذا البحث - نقد رورتي للفلسفة التقليدية، وتصوره للمشهد الثقافي لمرحلة ما بعد الفلسفة، ما هي الخلاصة التي يمكننا أن نخرج بها من الجانبين؛ أعني جانب هدمه للتراث الفلسفي من ناحية وتصوره للحياة الفلسفية بعد أن أعلن نهاية الفلسفة من ناحية أخرى؟ بمعنى آخر ما هو المشروع الفلسفي الذي يريد رورتي تقديمه من خلال هذا الهدم وذلك التصور؟
لن نبالغ إذا وصفنا مشروع رورتي الفلسفي - إذا جاز لنا أن نطلق كلمة مشروع على التصور الذي وضعه - بأنه يغلب عليه جانب الهدم والنقد أكثر مما يقدم بديلا لكل ما تناوله بالنقد، وأنه لم يؤسس مشروعا فلسفيا بديلا عن الفلسفة التراثية. لقد أسهب طويلا في نقد التراث الفلسفي من أفلاطون حتى كانط والفلسفة التحليلية، بحيث لم يفسح مجالا كبيرا لجانب البناء على الأقل حتى الآن (لا يغيب عنا أننا نتحدث عن فيلسوف معاصر، تنظر إليه الأوساط الثقافية الأمريكية الآن على أنه الفيلسوف الأول فيها)، فهو ما زال يواصل العطاء، وما زال قادرا على استكمال جوانب النقص والقصور في تفكيره - ولا أقول فلسفته تمشيا مع رأيه بأنه لم يعد هناك ما يمكن أن نسميه فلسفة بالمعنى التقليدي للكلمة. إن قولنا بإخفاق رورتي في وضع تصور متكامل لمشروع فلسفي بديل قول ليس فيه تجني عليه، فقد اعترف هو نفسه بذلك في نهاية كتابه «الفلسفة مرآة الطبيعة» عندنا قال: «لقد حاولت أن أبين أن محاولة الفلاسفة للوصول إلى الأصل أو المبدأ الأول للخطاب تمد جذورها في اهتمامهم بأن ينظروا إلى الممارسات الاجتماعية للتبرير على اعتبار أنها أكثر كثيرا من أن تكون مجرد ممارسات. وقد ركزت بشكل أساسي على التعبيرات التي تمت في كتابات الفلسفة التحليلية، والنتيجة أنني لم أقدم إلا مقدمة، مجرد مقدمة أو تمهيد والمعالجة التاريخية بالمعنى الدقيق تقتضي اطلاعا ومهارات، وربما لا أملكها، ولكن ربما كانت هذه المقدمة كافية لكي تجعلنا نرى أن الموضوعات المعاصرة للفلسفة هي أحداث تدخل في مرحلة معينة من الحوار، وهو حوار لم يكن يعرف شيئا عن هذه الموضوعات أو القضايا، وربما لا يعود في المستقبل إلى معرفة شيء عنها.»
48
إن دعوة رورتي لتحول دور الفلسفة في الفكر المعاصر ليست جديدة كل الجدة، فهو في هذا يتسق مع تراثه البراجماتي الذي يحاول تغيير موضوع الفلسفة والغاية منها، بل ويسعى لوضع أفكار مضادة للفلسفة وبلغة غير فلسفية؛ لأن اللغة الفلسفية - في زعم البراجماتيين - تجسد الافتراضات الأفلاطونية التي لا تقر البراجماتية بنتائجها. وبذلك تصبح الفلسفة موضوعا شائكا ومعقدا، بل وغامضا أيضا، وربما لهذا السبب انتهى الأمر برورتي إلى الدعوة إلى اختفاء ما يسميه بطبقة الفلاسفة أو الصفوة، وإلى التوقف عن التفكير في المشكلات الفلسفية الخالصة، ووقف التعامل بالمصطلحات الفلسفية المألوفة. فقوله بالسلوكية المعرفية ورفضه للصور المرآوية يستلزم بالضرورة التخلي عن فكرة احتراف الفلسفة، بل يصل به الأمر إلى اعتبار أن غاية التفلسف هي عدم ممارسة الفلسفة على الإطلاق ... أراد رورتي للفلسفة إذن أن تكون صوتا في محادثة أو مخاطبة الجنس البشري، وأن تنصرف عن كونها موضوعا لبحث مهني أو حرفي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تتسق دعوته لتحول دور الفلسفة مع تيارات أخرى مختلفة خاصة بعد أن ألقت الفلسفة المعاصرة الضوء على الاهتمام الشديد بالحياة اليومية واللغة العادية مما جعل فكرة التحول اللغوي التي ينشدها لا تنطوي في الحقيقة على طرح جديد في الفكر المعاصر. ذلك أن الاتجاه السائد في معظم فلسفات النصف الثاني من القرن العشرين، قد أكد على أهمية فلسفة اللغة، فظهرت نظريات وتفسيرات وتيارات متنوعة في هذا المجال. هذا بالإضافة إلى أن كل ما قدمه رورتي من آراء وأفكار عن أهمية دور اللغة في الفلسفة المعاصرة مستمد بشكل أو بآخر من فيتجنشتين (وبصفة خاصة من فكرته عن ألعاب اللغة)، ومن كواين وديفيدسون وسيلرز وغيرهم من فلاسفة اللغة.
يتفق رورتي مع تراثه البراجماتي - وخاصة مع ديوي - الذي يقر بأنه ليس هناك مشكلات أبدية للفلسفة، وأن الفلاسفة ليست لديهم معرفة خاصة ولا هم صفوة الحكماء؛ ولذلك دعا إلى تحول دور الفلسفة في الفكر المعاصر. وإذا صح أن رورتي محق في دعوته هذه، أي في هدمه للتراث الفلسفي كفكر متعال على الواقع، فلا شك أن هذا حدث في فترات معينة من تاريخ الفلسفة مما جعلها تنفصل عن الواقع، ولا تؤثر فيه تأثيرا كبيرا، الأمر الذي دعا رورتي إلى المطالبة بتطوير دورها في التفاعل مع الحياة والنظم المعرفية الأخرى. وقد حالفه الصواب في هذه الدعوة الأخيرة، فلم يعد من الممكن الحديث عن المشاكل التقليدية في الفلسفة دون النظر في نتائج العلوم الأخرى في عصر يموج بمتغيرات هائلة على جميع المستويات. أقول إذا كان هذا صحيحا، فإنه من الصحيح أيضا أن رورتي قد جانبه الصواب عندما تصور أنه يستطيع أن يخلع الفلسفة عن عرشها، كتأمل ونظرة كلية شمولية تعد أهم سمات الفلسفة، كما أننا نشك في أنه استطاع أن يجردها من مهمتها الأزلية التي هي السؤال عن الأساس والجوهر، وأن ينزع عنها تفردها بالبحث عن الجذور وعن المعنى والحقيقة.
وإذا كان رورتي بدعوته إلى تحول دور الفلسفة يعارض المذاهب والبناءات الشامخة، فإن هذه المذاهب ذاتها إنما تعبر عن تحولات فلسفية للمشكلات الأبدية للفلسفة مع الاحتفاظ بماهية الفلسفة. وإذا كان يطالب بتحول دور الفلسفة في الفكر المعاصر، بحيث تتعاون مع مختلف العلوم والنظم المعرفية الأخرى، مما قد يفهم منه أن الفلسفة لا وجود لها بغير هذه العلوم وتلك النظم، فإن العلوم الأخرى بدورها لا غنى لها عن الفلسفة، ولا عن أسئلة الفيلسوف التي من الممكن أن تبدأ بها مرحلة جديدة من مراحل التطور العلمي لا ليحدد بها الحاضر فقط، بل المستقبل أيضا، وإذا كانت العلوم الأخرى ممعنة في التخصص ويستغرقها البحث في الجزئيات، فلا غنى لهذه العلوم عن النظرة الكلية الشاملة للفلسفة؛ فالفلسفة هي التي تحدد فائدة العلوم لمسيرة الجنس البشري، خاصة بعد التقدم العلمي الهائل وما أحدثه من تدمير للبيئة الطبيعية والحياة الإنسانية على السواء، وما أحدثته التكنولوجيا من تطبيقات غير إنسانية، وما أحدثته الحروب من دمار، وكلها مشكلات تصدى لها الفلاسفة (تلك الفئة التي يريد لها رورتي أن تختفي) بما استحدثوه من علوم مثل الأخلاق الطبية وفلسفة البيئة وغيرها لمواجهة الأخطار الناجمة عن استخدامات العلم وتطبيقاته، بحيث يصدق قول أفلاطون عن الفلسفة بأنها حارسة المدينة؛ إذ تواجه كل الأخطار اللاعقلانية والأساطير المدمرة، تماما كما واجه الفلاسفة النظم الفاشية والنازية؛ لأن مهمة الفلسفة ستبقى في النهاية هي المحافظة على العقل البشري وكرامة الإنسان أيضا.
لقد أراد رورتي من هجومه على الإبستمولوجيا استبدال الممارسة الاجتماعية بنظرية المعرفة؛ فقوله: «أن الحق والصدق مسألتان تتعلقان بالممارسة الاجتماعية»، هو تعبير عما يسميه السلوكية المعرفية، ولكن ألا تحتاج الممارسة الاجتماعية إلى تنظير يعرف ماهية الخير والشر؟ وهل هناك ممارسة اجتماعية لا يهديها النظر ويحول بينها وبين التحول إلى ما يمكن أن يكون ممارسات عشوائية. ووفق التفسير الذي يتبعه رورتي، فإن هذه الممارسات الاجتماعية تخضع أيضا للتغير التاريخي؛ ففي كل فترة تاريخية تظهر مجموعة من الممارسات الاجتماعية تتنافس وتتصارع، فكيف يتم التمييز بين أفضل هذه الممارسات وأسوأها؟ وكيف نحكم على ما يحتاج منها - أي الممارسات - إلى الإبقاء عليه وما يتطلب التخلص منه أو التخلي عنه؟ إن الفيلسوف هو الشخص الذي تقع هذه المهمة على عاتقه ، أي أن جوهر عمله هو متابعة نمو واستمرار وزوال أو بقاء هذه الممارسات وتناولها بالنقد، هذا النقد نفسه هو لب وجوهر التفكير الفلسفي الذي أعلن رورتي نهايته.
لقد أراد رورتي للفلسفة أن تتحول إلى ما أطلقنا عليه اسم اللغوية السلوكية، أي أن تكون صوتا في محادثة أو مخاطبة الجنس البشري. بهذا المعنى تصبح اللغة هي وسيلتنا للدخول إلى الواقع، وتكون أوصاف العالم هي السلوك اللغوي الذي نقوم به نحن، مما يترتب عليه أن الاستخدام الصحيح للغة يزيد من خبرتنا بالعالم. ولا جدال في أن ما نفهمه من الواقع هو ذلك الكم الهائل من الوقائع المألوفة المعترف بها في عبارات لا خلاف حولها، ولكن هل يعني هذا أن تتحول الفلسفة إلى مجرد سلوك لغوي أو مسألة لغوية فقط؟ إن هذا بطبيعة الحال غير كاف؛ فإذا كانت الفلسفة بصفة عامة تمثل رؤية الإنسان الكلية الشاملة للعالم أو الكون، فإن اللغة هي أحد جوانب هذه الرؤية فقط، وليست هي الرؤية كلها.
وأخيرا فلعل فكرة إبداع-الذات أن تكون من أكثر أفكار رورتي أهمية وجاذبية. ومع أن هذه الفكرة مسبوقة بصورة أو أخرى عند فلاسفة الوجود من نيتشه وكيركيجورد إلى هيدجر وسارتر، فإن ذلك لا ينفي أن لرورتي الفضل في إلقاء المزيد من الضوء على هذه الفكرة الهامة وتعميمها وإعطائها أبعادا اجتماعية وإنسانة أكثر بكثير من فلاسفة الوجود. والواقع أن تأكيد رورتي على أننا لسنا ذوات سابقة التجهيز نسعى لاكتشاف ذاتها من خلال الوعي الذاتي، ورفضه لفكرة أن العالم له وجود مسبق نكتشفه من خلال الفكر؛ يعني أننا نحن الذين نبدع أنفسنا، ونحن الذين نبدع العالم أيضا. وبقدر ما تحثنا هذه الفكرة على العمل الخلاق بقدر ما تنم عن تمجيد لقدرات الكائن البشري على الإبداع والابتكار.
وأخيرا لا يضيف نقد رورتي للفلسفة التراثية أو التأسيسية إلا القليل لنزعات نقدية أخرى سابقة؛ فمحاولته للنفاذ إلى القشرة الصلبة للفلسفة التقليدية سبقه إليها فلاسفة آخرون (مثل نيتشه وهيدجر وغيرهما)، ولا يغيب عن بالنا أن تلك النزعات النقدية نفسها هي نوع من الممارسة الفلسفية - سواء أراد رورتي ذلك أو لم يرد - وأن الهجوم على التراث الفلسفي لا يهدمه بقدر ما يثريه ويحدثه، ويصحح مساره ويجدد قضاياه ومشكلاته، وإلا أصبح حاضرنا معلقا في الهواء. ومع ذلك فإن أهمية نزعته النقدية التي تعلن نهاية الفلسفة تأتي من أنها تضع حدودا للدور الأبدي القديم للفلسفة الذي لم يعد يواكب عصر الاتصالات والمعلومات الآن. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لعل دعوته - التي تؤكدها نزعته النقدية - لتحول دور الفلسفة في اتجاه مغاير تماما لدورها التقليدي ومشاركتها في الحوار الثقافي والاجتماعي والعلمي العام، وانخراطها في السياق الاجتماعي والممارسات العملية واللغوية، لعلها أن تكون أكثر أفكاره تميزا، لا سيما إذا تذكرنا أن كثيرين غيره قد سبقوه للدعوة إلى نقد التراث الفلسفي التقليدي، بل والمطالبة بتجاوزه.
الوعي التاريخي بين الماضي والمستقبل
النهضة الأوروبية نموذجا
مقدمة
يتأرجح الفكر العربي هذه الأيام بين تيارين فكريين متعارضين، يهيب بنا أحدهما أن نعود إلى الماضي، حيث الجذور والأصول والبدايات الأولى بكل ما تحمله من قيم تراثية كان لها نتائجها المثمرة في الزمن الماضي متمثلا في حضارة شعت أضواؤها حقبة طويلة من الزمان. ويدعونا التيار الآخر لأن ننشد المستقبل ونتطلع إليه، وخاصة في ظل التغيرات العالمية المتلاحقة والتحولات الشديدة الأهمية في تاريخ البشرية، ويتحمس كلا التيارين تحمسا شديدا لوجهة نظره وحججه التي يسوقها، ولكن أين واقعنا الحاضر بين هذين التيارين المتعارضين؟ بمعنى آخر ما هو الموقف من الحاضر كنقطة انطلاق ومنعطف رئيسي إما للارتداد للخلف أو للتطلع إلى الأمام؟ وبمعنى ثالث أكثر وضوحا ما هو الدور الذي يقوم به الوعي التاريخي بالحاضر، والذي يتحدد وفقا له موقفنا من الماضي والمستقبل على السواء؟
يحاول هذا البحث تحسس الطريق للإجابة على هذه التساؤلات التي تدور حول ثلاثة محاور رئيسية هي الماضي والمستقبل والوعي التاريخي بهما، ولكن المحور الغائب الحاضر دوما في هذا البحث هو الزمن الحاضر الذي هو نقطة الاتصال بين البعدين الآخرين للزمان، وهما الماضي والمستقبل. ولذلك لا بد أن تكون البداية هي مناقشة الحجة التي يستند إليها أصحاب التيار الأول في دعوته للعودة إلى الجذور، أي العودة للعصور الذهبية الأولى لاستعادة لحظات زمنية بعينها، ومحاولة إحيائها في الزمن الحاضر، ومدى ما في هذه الحجة من وعي تاريخي بالماضي من ناحية، وبالحاضر من ناحية أخرى، وطرح الأسباب التاريخية الكامنة وراء هذا التفكير الذي يجتاح عالمنا العربي هذه الأيام. ثم يعرض البحث لكيفية التوجه إلى المستقبل بوصفه الإمكانية الوحيدة للتغير الإيجابي لأي مجتمع من المجتمعات عندما يعي الحدود الفاصلة بين أبعاد الزمان المختلفة من ماض وحاضر ومستقبل، أي عندما يعي جدلية الزمان والتاريخ، وعندما يفهم التاريخ من خلال فكرته عن الزمان، وكيف تنطوي رؤيته للعالم على رؤيته للزمان، ومن ثم ينتهي البحث إلى إشكالية إغفال كلا التيارين السابقين للزمن الحاضر عندما قهره أصحاب التيار الأول لحساب الزمن الماضي، وعندما تجاهله أصحاب التيار الثاني لحساب المستقبل. ويختتم البحث بعرض نموذج للوعي التاريخي بزمن الماضي والمستقبل انطلاقا من البعد الغائب في التيارين السابقين ألا وهو الزمن الحاضر، متمثلا هذا النموذج في عصر النهضة الأوروبية. (1) تحديد المفهوم
بداية لا يمكننا أن نتحدث عن الوعي التاريخي بدون أن نكون رؤية واضحة عن مفهوم الزمان، وما دامت أحداث التاريخ لا تدور إلا في الزمان، فإننا لا نتعرف على الزمان إلا من خلال أحداث التاريخ. والإنسان من بين الكائنات الحية جميعا هو الذي يصنع تاريخه، وهو الكائن الوحيد الذي لديه الوعي بالزمان. وإذا كان من الصحيح أن الكائنات الأخرى لها تاريخ، فإنه من الصحيح أيضا أنها لا تعي زمانها ولا تاريخها الطبيعي، والإنسان وحده هو صاحب التاريخ البشري وصانعه عن جدارة؛ ولذلك فهو القادر على فهم جدل الزمان والتاريخ. وبالرغم من أهمية الزمان في موضوعنا إلا أننا لن نتوقف أمام الزمان كإشكالية ميتافيزيقية وهي اللغز المحير الذي استعصى على كبار الفلاسفة قبل صغارها، فلن نطرح السؤال عن ماهية الزمان - التي تخرج بالبحث عن النطاق المرسوم له - ولن نحاول التعرف على بداياته أو نهاياته، ولن نسعى للبحث عما إذا كان أبديا سرمديا أم أنه حادث مخلوق مع العالم، فهذه قضايا يطول الاسترسال فيها ولا يحسمها التاريخ الطويل للفلسفة ولا نظنه سيحسمها في يوم من الأيام، ولن نتساءل أيضا إن كان وجود الزمان لا ينفصل عن الظواهر الطبيعية والأحداث التاريخية أم أن له وجودا موضوعيا؟ فهذه المشكلة لها جذورها الفلسفية والعلمية التي يشهد عليها تاريخ التفكير الفلسفي من ناحية، وتطور علم الطبيعة أو الفيزياء من ناحية أخرى، وهي المشكلة التي أثيرت على مستويين: (أ)
مستوى التنظير العقلي الفلسفي. (ب)
ومستوى العلم الطبيعي الفيزيائي.
ولن نعرض أيضا للزمان النفسي - على الرغم من أهميته - الذي دارت حوله تأملات وبحوث العديد من فلاسفة القرن العشرين، وهو ما أطلق عليه زمان الذاتية الفردية، أو زمن التجربة الحية. ولهذا سوف نقتصر على الزمان التاريخي - الذي يتداخل مع الزمان الطبيعي الكمي وزمان الوجدان الكيفي - وهو الزمان الذي تتفاوت سرعته وكثافته وفق ما يمتلئ به من مضمون يشكل التاريخ البشري.
لا بد أيضا من التنويه بأن ما نعنيه بالزمان التاريخي هنا يختلف عن الزمان التاريخي، الذي يهتم بأحداث الماضي المنظمة أو المنظومة في تتابع تاريخي للوقائع؛ أي تقسيم الزمان إلى أحقاب تاريخية من عصور قديمة ووسيطة وحديثة؛ فهذا التحقيب لا يجعل من الزمان زمانا تاريخيا، بل يظل زمانا تأريخيا. وعلى الرغم من أن تعاقب حالات الوعي هو الذي يؤكد تدفق الزمان؛ لأن الوعي «مصنوع على نحو لا يستطيع معه إلا أن يدرك تتابعا للحظات حاضرة، أو بالأحرى نقاطا في المكان والزمان»،
1
إلا أن الزمان ليس هو فحسب الزمان المتتابع في خط واحد، بل هناك أيضا الزمان التاريخي الذي تتفاوت سرعته وكثافته من ناحية الامتلاء بالمضمون، فنجد في الزمان التاريخي عصورا تاريخية متميزة من حيث بنيتها الممتلئة بمضامين التطور والتجدد، كما نجد عصورا شديدة التسطح، تماما كما مر الزمان الكوني بمراحل تطور تأرجحت بين التجانس والتفجر؛ فالزمان كالهيكل العظمي، والبنية الزمنية لا قيمة لها في حد ذاتها، بل تستمد قيمتها مما تحتويه من مضمون؛ ولذلك فبنية الزمان التاريخي لا تسير على وتيرة واحدة؛ لأنه يتغير حسب مضمونه التاريخي، كما أن تقييم الأبنية الزمنية نفسها يتم وفق ما تحمله من مضمون.
والزمان في سياقه الواقعي لا يمكن أن نفصله عن بنية الحياة الاجتماعية؛ ولذلك فهو يتميز بالانفصال وعدم التجانس حتى بين لحظاته المتزامنة أو المتعاصرة، بحيث نجد مستويات وصورا مختلفة للتزامن من النواحي التقنية والاقتصادية والاجتماعية والروحية تنطوي في ذاتها على صور أخرى من عدم التزامن، ولتوضيح هذا يمكن أن نتصور أزمنة مختلفة متعاصرة في أماكن مختلفة، فالحياة في قرية بسيطة في دولة من دول العالم الثالث تختلف في إيقاعها الزمني عن الحياة في مدينة صناعية أوروبية من دول العالم المتقدم. ونستطيع أن نقول إن الفترات الزمانية المتعاصرة من الناحية التاريخية تنطوي في نفس الوقت على اختلافات كيفية في داخل العصر الواحد، فاليوم الذي سقطت فيه القنبلة الذرية على هيروشيما ينتمي لنظام تاريخي مختلف عن نفس اليوم الذي عاشت فيه الولايات المتحدة بعيدة عن تلك الكارثة المدمرة؛ أي أن هناك عدم تعاصر في داخل التعاصر.
2
وإذا كان الحاضر التاريخي يتميز بمستويات وطبقات مختلفة، كما يتميز الزمان التاريخي بمستويات وطبقات مختلفة داخل المجتمع الواحد، فإننا نلاحظ تعدد أصوات الزمن بتعدد المستويات الاجتماعية، وأيضا بتعدد وتطور النشاط البشري، بحيث يختلف الزمان المصاحب لكل مستوى اختلافا أساسيا عن سائر المستويات الأخرى. فالإيقاع الزمني للفلاح - على سبيل المثال - يختلف عن الإيقاع الزمني للعامل قدر اختلاف هذا الأخير عن الحاكم، بحيث يمكن أن نقول إن «دراسة الأزمنة المختلفة داخل المجتمع الواحد هي من الأهمية بمكان. وأن أي مفهوم للزمن لا يضع في حسبانه تعدد هذه الأزمنة وتعقدها إنما يدخل في صعوبات لا يمكن التغلب عليها.»
3
وهكذا يصاحب مستوى التطور الاجتماعي وسماته واتجاهاته وما يترتب عليه من تنوع النشاط البشري؛ يصاحبه تعدد أصوات الزمن وإيقاعاته.
ويسمح التصور الجدلي للزمان بتصور العمليات المتطورة والمتغيرة فيه؛ لأنه يدور في مستويات زمنية متداخلة ومتقاطعة، بحيث يمكن تصوره ذا اتجاه وقابلا للانحناء والانكماش أو الامتداد وفق ما يمتلئ به من مضمون. ولا تختلف بنية الزمان باختلاف المستويات الاجتماعية فحسب، بل تختلف أيضا داخل الفئة الاجتماعية الواحدة: «إنه زمن قابل للقياس، خاضع للميكنة، ذلك هو زمن التاجر، ولكنه أيضا زمن متقطع، تتخلله فترات توقف ولحظات ميتة، زمن يرتبط بالإيقاعات السريعة أو البطيئة.»
4
بهذا يمكن أن نجد في التاريخ البشري نفسه، وفي داخل المستويات الاجتماعية نفسها أزمانا تميزت بالتجانس الشديد وأزمانا أخرى تميزت بطفرات حاسمة، وكما أن هناك عصورا مفرغة من المضمون والمعنى، فهناك عصور تاريخية أخرى متميزة من حيث بنيتها الممتلئة بالتطور والتجدد بمعانيهما المختلفة، ومن هنا يختلف بناء الزمان التاريخي، أي زمان الأحقاب والعصور الممتلئ عن زمان الساعة المتجانس المحايد الرتيب المفرغ من أي مضمون. (2) حدود الماضي والحاضر والمستقبل
بعد أن حددنا مفهوم الزمان التاريخي الذي سيدور حوله طرح قضايا هذا البحث، نعود إلى حجة أصحاب التيار الفكري الأول الداعي إلى العودة إلى الجذور، أي إلى الماضي. وقبل الخوض في تفاصيل هذه الحجة، نواجه تساؤلا ربما يبدو مألوفا، بل قد يكون ساذجا للوهلة الأولى: ما هي الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل؟ وكما يبدو السؤال مألوفا، تبدو الإجابة أيضا مألوفة ومطروحة في تاريخ الفلسفة. فالماضي هو ما حدث ولم يعد موجودا. والحاضر هو ما يحدث في الآن الهاربة دوما، والمستقبل هو ما لم يحدث أو لم يوجد بعد، ولكن يبدو أن هذه الحدود ليست واضحة بشكل كاف، و«الفشل في المعرفة المحددة لكلمات مثل الماضي والحاضر والمستقبل يمكن أن يؤدي إلى التفكير الخاطئ.»
5
فوفقا للتعريف السابق تكون الأحداث غير المعاصرة لنا في الحاضر، والتي تمت في فترة زمنية ماضية هي ما نطلق عليه الماضي. وحقيقة الأمر أن هذه - في رأينا - نظرة تغلب عليها السطحية، ولا تدل إلا على أننا نستخدم تصورات غير محددة عن الحاضر الذي يفهمه كل إنسان بدون أن يتساءل عنه أو يضعه موضع السؤال؛ لأن «التمييز بين حدود القمة والقاعدة للحاضر له مشاكله، والأحداث التي لم يعد لها دلالة للأحياء - وذلك بصرف النظر عن دلالتها المعرفية الخالصة - من الممكن أن تنسب إلى الماضي، فهي من جميع النواحي الأخرى خالية من أية قيمة، وبتبني هذا المنهج أو الاتجاه، فإن الحد الفاصل بين الحاضر والماضي يمكن أن يكون متعدد المسالك؛ إذ يمكن أن يحدد بنقاط مختلفة على مستويات زمنية مختلفة.»
6
بهذا المعنى يمكن أن نفسر لماذا ننظر إلى التراجيديا اليونانية أو الموسيقى الكلاسيكية على أنها تخص الزمن الحاضر، بينما ننظر إلى بصريات ابن الهيثم أو نيوتن - على سبيل المثال - على أنها تخص الزمن الماضي؟ لا بد أن تكون الإجابة أن هناك أحداثا تعلو على ارتباطاتها الاجتماعية والمعرفية وأخرى ليست كذلك. هناك أحداث أثارت اهتماما معرفيا في الماضي، وارتبطت بعصرها، ولكنها لا تستطيع أن تتجاوزه إلى عصر تال، اللهم إلا أن تتحول إلى تراكم تاريخي تنحصر قيمته في أنه يصبح المادة التي يعمل عليها الباحثون للعصور التاريخية القديمة. وهناك أيضا أحداث أثارت اهتماما معرفيا بمستقبل عصرها، أعني بهذا أن هناك أعمالا لا تمثل لعصرها قيمة حقيقية، بل تنتمي دلالتها المعرفية إلى زمن المستقبل، وبمعنى أكثر وضوحا لم تكتشف القيمة الحقيقية لها في عصرها؛ لأن دلالتها المعرفية تعلو على هذا العصر، ويتم اكتشاف جوهرها الحقيقي في عصور تالية، فإلى أي عصر تنتمي هذه الأعمال؟ هل هي تنتمي إلى الزمن الماضي - بحكم نشأتها في عصر تاريخي بعينه - أم تنتمي إلى زمن اكتشافها، أي إلى الزمن الحاضر؟ من هذه الناحية تكون هذه الأعمال منتمية إلى زمن المستقبل بالنسبة إلى عصرها (مستقبل عصرها). ومن هذا المنطلق أقول إن الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل شديدة التعقيد، وذلك إذا وضعنا في اعتبارنا مفهوم الزمن التاريخي الذي أوضحناه سلفا.
نواجه نفس الإشكالية بالنسبة للحدود الفاصلة بين الحاضر والمستقبل، فهذا الأخير يتم توقعه من استقراء الحاضر، واكتشاف الإمكانات الكامنة بداخله، والتي من الممكن أن تتحقق في زمن المستقبل؛ أي أن توقع المستقبل عادة ما يقوم على أساس معرفة معاصرة بالظروف الحاضرة، ولكن قد يأتي المستقبل برؤية تختلف جذريا عن التوقعات السابقة عليها، بل وأحيانا تعارضها، وبذلك يصبح المستقبل معارضا لزمن الحاضر الذي يكون قد أصبح بالفعل ماضيا. فإلى أي زمن ينسب هذا الجديد سواء كان منسجما مع توقعاتنا أو كان مخالفا لها؟ وما هي اللحظة الزمنية الفاصلة بين الحاضر (الهارب دوما) والمستقبل الذي بمجرد تبلوره يصبح حاضرا، ثم سرعان ما يذوب في الماضي؟ لا شك أن المشكلة أعقد من هذا بكثير، وربما لا تحسمها النظرة الواقعية ولا النظرة الميتافيزيقية لأبعادها، ولكننا نخلص من هذا كله إلى أننا لا نملك غير الحاضر الفعلي، فإلى أي حد يكون وعينا بهذا البعد الزمني الذي لا نملك سواه كما اتضح مما سبق؟ (3) جدل الماضي والحاضر
لا شك أن هناك علاقة جدلية بين الماضي والحاضر، فإذا كان الوعي التاريخي بالحاضر هو الذي يحدد - كما سبق القول - موقفنا من الماضي والمستقبل، فإن النظرة إلى الماضي تحدد هي أيضا الموقف من الحاضر، وترسم ملامح المستقبل، وإذا كان الماضي هو أنطولوجيا «الوجود الذي لم يعد موجودا»، والمستقبل هو «الوجود الذي لم يأت بعد»، وكلاهما «غير موجود هنا والآن»، أو هما «اللاوجود في الحاضر»، فالفرض المعرفي لوجودهما يكمن فقط في أن العقل يتذكر الماضي، ويتوقع المستقبل. أما الحاضر فهو أنطولوجيا الوجود الحقيقي. أو وجود الموجود الفعلي، والقادر على استدعاء الماضي وتوقع المستقبل. والحاضر باعتباره استمرارا للوجود والوعي معا هو المنعطف التاريخي الذي يحدد نقطة البداية لاتجاه حركة التاريخ إما تقهقرا إلى الخلف أو تقدما إلى الأمام.
إذا كان الأمر كذلك، فما مدى وعي أصحاب التيار الفكري الأول بالحاضر؟ وكيف انعكس على رؤيتهم للماضي؟ وما هي طبيعة نظرتهم إلى الماضي التي حددوا من خلالها موقفهم من الحاضر وتوجههم نحو المستقبل؟ إن نظرة أصحاب هذا التيار تفتقر إلى الوعي التاريخي بالحاضر والماضي على السواء؛ فقد رسموا صورا غير واقعية عن العصر الذهبي لزمن الماضي، وتصوروا إمكانية استحضاره في الحاضر ليصبح قوة فعالة فيه، متجاوزين بذلك المسافة الزمنية الشاسعة التي تفصلنا عن الماضي، ومتغافلين أيضا عن متطلبات الحاضر التي هي بطبيعة الحال متغيرة ومختلفة عما كانت تتطلبه الظروف التاريخية لزمن الماضي، بينما «النظرة التاريخية إلى الماضي هي التي تضعه في سياقه الفعلي، وتتأمله من منظور نسبي، بوصفه مرحلة انتهى عهدها، وتلاشت في مراحل لاحقة تجاوزتها بالتدريج حتى أوصلتنا إلى الحاضر.»
7
ربما يوحي هذا النص بأن الماضي يتم تجاوزه تماما، وأن الحاضر يتخطاه إلى مرحلة جديدة كل الجدة ، ولكن المقصود بتجاوز الماضي في الكلام السابق هو تواجد الماضي في الحاضر بشكل أو بآخر من خلال التواصل مع العناصر الحية والخلاقة والفاعلة فيه، وليس بالانقطاع عنه انقطاعا تاما. فهذا التواصل هو الذي يسمح بتجاوز الماضي إلى مرحلة أعلى وصولا إلى الحاضر الذي يحمل الجديد المغاير والذي تتطلبه ظروف الحاضر المتغيرة.
لا شك أن الواقع الحاضر هو لحظة زمنية تتصف بالإلغاز والغموض، ولكونها تتوسط الماضي والمستقبل، فإن ما يلقي عليها الضوء هو عمق الإحساس بالواقع التاريخي الذي يجعلنا نستقرئ الماضي بأكمله من منظور مستقبلي؛ لأن الوعي التاريخي هو الذي يمدنا بالقدرة على نفاذ الرؤية في الماضي. وإذا كان من الصحيح أن الزمن الماضي لا رجعة له من الناحية التاريخية، فمن الصحيح أيضا أن الماضي ليس مجرد تراكم نوعي وكمي لأحداث تمت في زمانها، وارتبطت بظروفها التاريخية، بل هو ماضي ينطوي على لحظات وعي؛ ولذلك أصبح تراثا ثقافيا يحمل قيما يمكن أن تدفع مسيرة التاريخ إلى الأمام، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الماضي - إذا نظرنا إليه وفق مفهوم الزمن التاريخي السابق شرحه - ينطوي أيضا على فترات زمنية خالية من المعنى، ومفرغة من القيمة، بحيث يمكن أن تدفع حركة التاريخ لا إلى الأمام، بل إلى الخلف (لا بالمعنى المكاني للكلمة فحسب، بل تفضي أيضا إلى التخلف بالبعد الزماني للكلمة). وبهذا تصدق عبارة: «من التراث ما يعرقل ومنه ما يحرك ويدفع.»
8
وكما أسلفنا القول، فإن الوعي التاريخي بالحاضر هو الذي يحدد توجهنا إما إلى الماضي أو إلى المستقبل. فإذا كان الحاضر مثمرا ومبدعا وملهما دخل في علاقة جدلية مع المستقبل وفتح الطريق إليه. ودخل كذلك مع الماضي في علاقة جدلية، وأخذ منه ما يدفعه لإغناء الحاضر والتوجه للمستقبل، ولكن إذا كان الحاضر عقيما وبائسا وخاليا من الأفعال المبدعة، فإنه يتخذ من الماضي بديلا عن الحياة في الحاضر. بعبارة أخرى لن يكون هناك أي معنى يمكن إضفاؤه على الحاضر إلا بالرجوع - أو إذا شئنا القول بالهروب - إلى الماضي، أي أن «الماضي يعزز الحاضر بدلا من أن يكون موضوعا للبحث النزيه المجرد عن الهوى.»
9
وبفراغ الحاضر من القيمة يفقد ديناميكيته ويستمد مقوماته من الماضي، وتفقد تجربة الزمن الحاضر معناها. فإذا توقف «أحد وجوه الزمان عن الوجود سيتوقف جريان الزمان. ولن تكون هناك إذن حياة طبيعية، أي يفسد الزمان وتفسد معه الحياة.»
10
وهنا تظهر محاولات استدعاء الماضي، وغرسه في بنية الزمن الحاضر؛ فالشعوب والحضارات «التي لا تعيش حياة أرضية فعالة، ولا تملأ حاضرها بأعمال لها تأثيرها تعيش في مقبرة
Cemetry
أو تعيش في الماضي.»
11
ولكننا سلمنا من قبل أن الزمان في حد ذاته حيادي القيمة، فكيف تم إضفاء المثالية والقيمة على الزمن الماضي لبعثه من جديد ليحيا في الحاضر؟
تحتفظ كل المجتمعات قديمها وحديثها بتصورات محددة عن ماضيها البعيد، ويغلب على هذه التصورات نوع من التقييم الإيجابي، وربما يتضح هذا في أسطورة العصر الذهبي المفقود الذي أضفت عليه المجتمعات الأولى نوعا من المثالية. فما هي العوامل التي ساهمت - سواء بشكل مباشر أو غير مباشر - في وضع الأسس الراسخة لهذه النظرة التي أحاطت العصور الماضية بهالة من القداسة؟ وكيف تم خلع القيمة وإضفاء المثالية على الماضي التاريخي؟
أسهمت بعض العوامل في تمجيد الماضي منها أن الثقافة الميثولوجية للشعوب رسمت صورا خيالية مثالية للأزمان الماضية، كما أن «الذكريات والأساطير في معظم الحضارات تفسد وتشوه التسلسل الزمني الدقيق. فهي تسلم بما لديها من شواهد دون نقد أو تمحيص. كما أنها تخلط الأسطورة بالتاريخ، والبشر بالآلهة والأبطال، والواقع بالخيال، والحقيقة بالمأثور الأدبي.»
12
فقد قامت الأسطورة بدور أساسي في إضفاء الحياة والديناميكية على الأسلاف الذين ظلوا حاضرين دائما في ذاكرة الشعوب على الرغم من غيابهم، وبعدهم الزمني والتاريخي. وترسخ التفكير الميثولوجي في الوعي الاجتماعي للشعوب - وإن كان بدرجات متفاوتة - وتوارثته الأجيال بحيث أصبح الماضي مشاركا في الحاضر، وأصبح الأسلاف الموتى - حتى من لم يدفعوا منهم حركة التاريخ في الماضي - هم الذين يتحكمون ويسيطرون ويديرون دفة الزمن الحاضر كنماذج يتوجب احتذاؤها.
13
بوسعنا أيضا إدراك العلاقة بين إضفاء المثالية على الماضي التاريخي وبين التجربة الاجتماعية، فعلى الرغم من أنها علاقة معقدة، ولكن لا يصعب التدليل عليها من الشواهد التاريخية. فقد ارتبطت عملية تقييم الماضي بظروف اجتماعية وتاريخية معينة، وارتبط تذكر العصور المثالية في الماضي البعيد «بالطبقات الاجتماعية الدنيا في المجتمع. وهي الطبقات غير القادرة على التعرف على رموز التقدم في التاريخ أو اكتشاف أية قيمة إيجابية في مساره تفتح الطريق أمامهم إلى مستقبل أفضل. وفي هذه الحالة تكون عملية التقدم في التاريخ هي في طريق العودة إلى عصر سابق. حيث كان يعيش كل الناس متساوين وسعداء. ويكون المستقبل في هذه الحالة هو التطلع إلى عودة الجنة المفقودة للحياة الطبيعية الأولى.»
14
وإذا كانت الطبقات الدنيا من المجتمع، وكذلك الشعوب في مراحل تدهور حضارتها تضع قيمة عليا لماضيها أكثر من حاضرها، وترسم صورة مبالغا فيها إلى حد لا تخطئه عين الدارسين للعصور التاريخية القديمة، فمن المفارقة أن تجد فئات اجتماعية أخرى تنظر إلى نفس الحقبة التاريخية نظرة يغلب عليها الازدواج، وأصحاب هذه الفئة هم الطبقات الاجتماعية الثورية الصاعدة في المجتمع التي تتصور أنها تأتي بفكر جديد مخالف للفكر السائد في مجتمعاتها بغرض التغيير ومثل هذه الطبقات إما أن تنظر إلى الماضي نظرة ازدراء واحتقار من منطلق أنه مخالف لأفكارهم الجديدة، فتنتقص من قدره وتبخسه حقه، وتتهمه بالتخلف أو الرجعية، وتحاول بقدر طاقتها نزع أية قيمة مثالية عنه، أو أن تسعى هذه الطبقات إلى البحث عن أسلاف لها في الماضي لتعطي حركاتها الاجتماعية الجديدة نوعا من الشرعية، ولتضفي عليها نوعا من الإجلال والعظمة المستمدة من الصور الخيالية للقداسة التي رسمتها عقول الشعوب لأحقابها الماضية. وفي كل الأحوال السابقة التي حصرت الزمن الماضي بين التقييم والتحطيم (أو التحقير) حدث نوع من التزييف للماضي، وعندئذ تصدق العبارة التي تنص على أن: «من الصعب النظر إلى الماضي بغير تزييفه؛ لأن الحاضر يغمر الماضي ويشوهه. إنه ليس هو الحاضر ولا الماضي، ولكنه نوع من الزمن المزيف.»
15
وتضفي الشعوب نوعا من المثالية والقداسة كذلك على بعض اللحظات التاريخية في الماضي متمثلة في زمن البدايات الأولى، سواء كانت بدايات دينية أم سياسية أم اجتماعية. ففي الحركات الدينية الكبرى يتم إضفاء قيمة خاصة على زمن ميلاد المبشرين بهذه الديانات، فيصبح زمنا مقدسا باعتباره لحظة تاريخية تختلف تماما عن كل الفترات الأخرى للتاريخ، وهي اللحظة التي شهدت ميلاد الحقيقة الأسمى، والتي ترتب عليها تطور المجتمع أو ميلاده من جديد. ثم يظهر من حين لآخر حركة إصلاحية دينية تزعم محاولة استعادة القيم المفقودة والحقائق السامية التي كانت سائدة في العصور الأولى للبدايات الدينية المقدسة، والتي أفسدتها فترات تاريخية لاحقة، وما يحدث مع مؤسسي الديانات، يحدث أيضا مع مؤسسي الحركات الثورية الاجتماعية والسياسية، حيث يضفي عليهم أتباع هذه الحركات هالة من القداسة ربما لإجبار أتباعهم على الانصياع لأفكارهم، كما يجعلون قيمة خاصة على اللحظات الزمنية التي انطلقت فيها هذه الحركات، باعتبارها اللحظات التي وضعت فيها المبادئ الأساسية، ويحاول أنصار هذه الحركات استدعاءها في الحاضر متذرعين بحجة المحافظة على الأفكار الأصلية والإخلاص والوفاء لها.
16
وربما يفضي أيضا أتباع هذه الحركات تلك المثالية على مولد حركاتهم في محاولة منهم للدفاع عن أفكارهم وتوجهاتهم ضد مساعي التعبير من ناحية، وأيضا لمحاربة أية أفكار جديدة أو مغايرة تعارض مصالحهم وأهدافهم، وللوقوف في وجه التهديدات التي تتعرض لها معتقداتهم من ناحية أخرى، فيتخذون من قداسة اللحظات التاريخية الأولى حجة قوية لتدعيم مواقفهم السكونية وتثبيتها عند محطات بعينها في مسار التاريخ، وفي سبيل هذه الغاية يلجئون في أحيان كثيرة إما إلى إخفاء الظواهر السلبية المرتبطة بزمن البدايات في محاولة لمحوها من ذاكرة التاريخ، أو يلجئون إلى تحويلها بحنكة شديدة إلى ظواهر إيجابية يحيطونها بهالة المجد والعظمة، وتاريخ الثورات في العالم يشهد على هذا.
يوجد أيضا في المجتمعات البدائيات الأولى والحضارات القديمة نوع من التقييم الإيجابي لزمن الماضي، والقيمة الخاصة التي نسبت إلى هذا الزمان تعود إلى أن بدايات البشرية هي اللحظات التي تم فيها وضع أسس كل المعتقدات وأشكال التنظيم الاجتماعي،
17
وهي أيضا الفترة التاريخية التي عاشتها الإنسانية بشكل تلقائي عفوي طبيعي، وفي حرية تامة قبل وضع القوانين المدنية التي تنظم المجتمع تنظيما فرض على الإنسان أنواعا عديدة من القيود، وأفقده حريته الطبيعية وحياته الفطرية التلقائية التي عاشها في ظل حياته البدائية. كل هذا على الرغم من أن الإنسان خلال هذه الحقبة الزمنية لم يكن على وعي بالتاريخ ولا بالماضي التاريخي، لكن هذا التقييم الإيجابي للمراحل البدائية الطبيعية الأولى في حياة الجنس البشري نجده أيضا في كتابات بعض المفكرين المتأخرين الذين عاصروا فترة ازدهار العلم والفن والفكر، ولكن راودهم الحنين الدائم للعصور البدائية الأولى، نجد هذا في كتابات روسو المبكرة، ونجده أيضا في الموقف التقييمي للعصور القديمة في عصر النهضة. وإذا كنا قد وسمنا العصور البدائية الأولى بأنها خالية من الوعي التاريخي أو من الماضي التاريخي، فإن العصر الأخير - أي عصر النهضة - هو نموذج لهذا الوعي التاريخي عندما بدأ الباحثون الأوربيون «يدركون لأول مرة كيف كانت أزمانهم متميزة عن الأيام السابقة، وأكبر رجال عصر النهضة مجتمعات الإغريق والرومان القديمة، وراودهم الأمل في محاكاتها، غير أنهم كلما توغلوا في دراسة تلك الحضارات، وجدوا أنها غير قابلة للمحاكاة أساسا. ذلك أن أوروبا الحديثة كانت تمتلك مزايا تكنولوجية لم تكن معروفة حينذاك ... واكتشاف هذه الفوارق الجوهرية القائمة بين الأزمنة الماضية وبين الحاضر هو لب البحث التاريخي الحديث. إذ تمخض لأول مرة عن الوعي بالمفارقة الزمنية.»
18
وسنرجئ الحديث عن هذه المفارقة الزمنية وعن الوعي التاريخي في عصر النهضة إلى الجزء الأخير من البحث.
لقد كشفت النظرة التاريخية للماضي - كما عرضنا لها على الصفحات السابقة - عن عدم اكتشاف مواطن القوة والضعف فيه. والفكر الذي يدعو إلى تمجيد الماضي على إجماله بدون مراجعته مراجعة جذرية هو فكر يتجاوز «المفارقة الزمنية» - المشار إليها في النص السابق - بين الماضي والحاضر، ويقتصر على الاستعانة بمقومات الماضي لمواجهة المتغيرات المستجدة في زمن الحاضر. هذا الفكر غالبا ما يغيب عنه الرؤية النقدية للتراث الثقافي فلا يستطيع اكتشاف الإمكانات الكامنة في رحم الماضي، والتي من الممكن إلقاء الضوء عليها وتطويرها في الحاضر وفق متطلبات العصر لدفعه إلى الأمام، فيختلط الغث بالثمين، ويصبح «التطلع إلى الوراء» هو أمل الحاضر، وبذلك يضيع الماضي ويضيع معه الحاضر. فمتى يموت التراث ومتى يحيا؟ نستعين بالنص التالي للإجابة عن هذا السؤال: «لو شئنا أن نلخص في كلمة واحدة التضاد بين النظرة إلى التراث التي تؤدي إلى تقدم فكري، وتلك التي لا يترتب عليها سوى التخلف، لقلنا إن التراث في الأولى، يحيا من خلال موته، أما في الثانية فإنه يموت من خلال حياته. في الأولى يكون التراث متصلا، لا يطرأ عليه انقطاع، فتكون النتيجة أن كل مرحلة قديمة تمهد الطريق لمرحلة جديدة تعلو عليها، وتستوعبها في ذاتها، ولكن مع تجاوزها وتفنيدها ... أما في الثانية، حين يحدث انقطاع في التراث، وحين تتم محاولة الإحياء دون إدراك لمقتضيات العصر الجديد الذي طرأ بعد الانقطاع الطويل، فإن هذا الإحياء ذاته موت للتراث؛ لأنه يبعثه من جديد في غير وقته، ويزرعه - كالقلب الغريب - في جسم عصر لا بد أن يرفضه.»
19
من كل ما سبق يتضح أن النظرة التاريخية إلى الماضي تستوجب رؤيته في سياقه الخاص، وأن تعامل كل فترة زمنية بوصفها كيانا مستقلا، وذات دلالة في ذاتها. وبهذا المعنى يكون للحاضر أيضا كيانه الخاص، ودلالته التي تتجاوز الماضي، وقد يفهم من هذا الدعوة أو محاولة الفصل بين الأزمان التاريخية، أي فصل زمن الماضي عن الحاضر، وحقيقة الأمر أن هذا غير ممكن لأسباب تند عن محاولاتنا؛ لأن الماضي متضمن في الحاضر بشكل أو بآخر، وفي ضوء ما سبق شرحه، فإنه ليس هناك حدود فاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكن العلاقة بينهما علاقة جدلية وبقدر ما يوجد فيها انقطاع، كذلك يوجد اتصال بنفس القدر. (4) جدل الحاضر والمستقبل
إذا كنا قد رأينا في جدل الماضي والحاضر أن افتقار الحاضر للقيمة والمعنى يفضي بحركة التاريخ إلى العودة إلى الماضي والتشبث به، فلا بد أن يكون العكس صحيحا، أي عندما يكون الحاضر خلاقا ومبدعا ومثمرا، فإنه يفتح لنا الطريق إلى البعد الثالث والأخير من أبعاد الزمان ألا وهو المستقبل. فالمستقبل بهذا المعنى يستخلص من الحاضر، ويتم التنبؤ به على أساس المعرفة الموضوعية المحيطة بكل ظروف الحاضر. ومع ذلك فإن المستقبل عندما يأتي إلى النور قد يتبين أنه مختلف اختلافا جذريا عن التنبؤات والتوقعات التي تمت عنه، وقد يكون في بعض الأحيان متناقضا معها. فإلى أي حد يمكن أن يكون هذا صحيحا؟ الإجابة عن هذا السؤال تعود بنا إلى إشكالية الحد الفاصل بين الحاضر والمستقبل، والذي لا يمكن تحديده أو تعيينه بشكل ثابت، كأن تكون سنة معينة حدا فاصلا بين حقبتين زمنيتين. وربما تزداد الإشكالية صعوبة إذا ما أخذنا في الاعتبار فكرة عبور الزمن؛ لأن «فكرة الزمن الذي يعبر مرتبطة بفكرة الأحداث التي تتحول باستمرار من مستقبل إلى ماضي، فنحن نفكر في الأحداث باعتبار أنها تقربنا من المستقبل، بينما الواقع أننا نمسك بها في الحاضر اللحظي، ثم تذوب أو تتراجع إلى الماضي»،
20
ولكن لو تجاوزنا هذه الإشكالية التي يصعب الفصل فيها، ونظرنا إلى القضية من زاوية العلاقة الجدلية بين الحاضر والمستقبل، لوجدنا أن توقعات المستقبل وتحققاتها تتوقف على شدة الوعي بالزمن الحاضر، ودراسة الواقع التاريخي دراسة متأنية لاستنباط ما بداخله من بذور يمكن أن تتطور في زمن المستقبل. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن أن تنتهي إلى أن الحاضر يضم كل الأحداث المستقبلية التي ستكون بدورها مجرد تكرار له - أي للحاضر - ومجرد نتائج مستخلصة منه، أو ربما تأتي أحداث المستقبل على صورة غير متوقعة نتيجة تطورات أو اكتشافات مفاجئة تجعل امتداد الحاضر في المستقبل أمرا مستحيلا، ومن هنا يصبح المستقبل شيئا جديدا كل الجدة بالنسبة لما سبقه.
والحقيقة أن للعلاقة الجدلية بين الحاضر والمستقبل أبعادا أخرى يشهد عليها التاريخ الإنساني، ويحددها موقف البشر من الحاضر نفسه. فعندما يستحوذ الحاضر على رضا الناس، فإنه يقلل من اهتمامهم لا بالمستقبل فحسب، بل بالماضي أيضا. ولعل عبارة نيتشه التالية أصدق تعبير عن حالة الوفاق مع اللحظة الحاضرة: «إنني طوال عمري لم أعرف الصراع، لم أرغب في شيء، ولم أتطلع لأي شيء . أنظر للمستقبل كبحر لامع السطح، لا أتمنى لأي شيء أن يكون غير ما هو عليه، ولا أتمنى لنفسي شيئا، لا أصارع في سبيل شيء.»
21
أما إذا كان الحاضر لا يرضى عنه الناس بأي شكل من الأشكال، بل يزودهم بالوسائل والإمكانات القادرة على التغلب على مشاكل هذا الحاضر، فإنه يفتح آفاق المستقبل بدون أن يجعل الحاضر منفرا لهم؛ لأن هذا الحاضر هو الأساس الذي يقوم عليه المستقبل. من ناحية أخرى، إذا نظر الناس إلى الحاضر بغير رضا واعتبروه غير محتمل، ولا يمكن التغلب على مصاعبه، فهذا الحاضر يجعلهم ينظرون إلى المستقبل نظرتهم إلى شيء غريب عنهم كما هم غرباء عنه. وهذه النظرة المغتربة إلى المستقبل تعتبر نفيا لهذا الحاضر نفسه. إنهم يحلمون في هذه الحالة بمستقبل أفضل مقترن بالرفض الكامل لأي محاولة لبنائه على أسس الحاضر، والدليل على ذلك أن الروابط القائمة بين المستقبل الأخروي وبين الحاضر تكون روابط سلبية ورمزية فحسب.
22
ومع أن الإيمان بالأخرويات جزء لا يتجزأ من التدين الصحيح، فإن الحلم الأخروي الذي يتشبث به الناس خصوصا في أوقات المحن وعندما ييأسون يأسا مطلقا من الحاضر، هو نوع من الهروب من العيش في الحاضر، أو هو بمعنى آخر تعبير عن حالة عدم الوفاق مع الواقع الحاضر، فيلتمسون العزاء في واقع آخر لا زماني، وفي عالم آخر ما ورائي وغير موجود في هذا العالم، وفي هذه الحالة تنفصم عرى العلاقة الجدلية بين الحاضر والمستقبل، ليس هذا فحسب، بل يغترب الحاضر ويغيب المستقبل تماما.
يتضح مما سبق أن الحاضر هو نقطة الانطلاق إما إلى الماضي أو إلى المستقبل، بحيث يمكننا أن نردد مع القديس أوغسطين في اعترافاته: «أن الإنسان لا يستطيع أن يقول إن هناك أزمانا ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن ربما يكون من الجائز أن يصيب عندما يقول بأن هناك ثلاثة أزمان، هي حاضر المجريات الماضية وحاضر الوقائع الحاضرة وحاضر الأحداث المقبلة. والواقع أن هذه الأشياء الثلاثة حاضرة في الذهن، وأنني لا أراها في أي مكان آخر، حاضر الماضي أو الذاكرة وحاضر الحاضر أو الحدس وحاضر المستقبل أو الترقب.»
23
قد يفهم من هذه العبارة التي اختزلت كل أبعاد الزمان في بعد واحد، أنه يتعين علينا أن نعيش في الحاضر، الذي لا نملك سواه، ولكن تواجهنا مشكلة الحاضر المتغير دوما، والذي سرعان ما يذوب في الماضي، فاللحظة الحاضر هاربة، فأين المخرج من فناء اللحظة؟ لن يتعرض هذا البحث لهذه الإشكالية الميتافيزيقية التي لم يحسمها التاريخ الطويل للفكر الفلسفي، ولا نظنه سيحسمها على الإطلاق، ولكن لما كانت «العلاقة المتبادلة بين الآتي والمنقضي تتعانق في الحاضر»،
24
فإننا سنعرض لزمن الحاضر بشكل أكثر واقعية طالما قدر علينا العيش فيه.
تفرض علينا كل التحليلات السابقة أن نمسك باللحظة الحاضرة، وأن نملأها بما يضفي عليها القيمة والمعنى على الرغم من تعرضها الدائم للهروب والزوال، ولعل الفناء السريع لها هو الذي يمنحها هذه الأهمية. وعلى الرغم من ذلك فإننا نجد تفاوتا في الوعي بالزمن الحاضر بين الأفراد والشعوب أيضا، بحيث تختلف تجربة الزمن اختلافات متباينة. ووفقا لما تناوله هذا البحث في بدايته من عدم تجانس الزمان التاريخي حتى بين لحظاته المتزامنة، وعن تعدد أصوات الزمن ليس في داخل العصر الواحد فحسب، بل أيضا بتعدد المستويات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد، فهل يصح لنا بعد كل هذا أن نساوي بين الأبنية الزمنية، بحيث نصدر حكما مطلقا بأن على البشر جميعا أن يحيوا في زمن الحاضر الذي رأينا - وفق التحليلات السابقة - أنه لم تحسم الحدود الفاصلة بينه وبين بعدي الزمان الآخرين «الماضي والمستقبل»؟ بطبيعة الحال لا نستطيع القول بهذا، وإلا وضعنا كل الفروض الأساسية لهذا البحث في مهب الريح. لكن يمكن التأكيد على أن هناك مواقف متعددة للتعامل مع تجربة الزمن لا على مستوى الأفراد فحسب، بل على مستوى الشعوب أيضا، بحيث يعيش الفرد (أو الأمة) زمن الحاضر بأسلوب أو بطريقة مغايرة لسائر أفراد مجتمعه، كأن يتخذ الإنسان موقف العيش في اللحظة. ويكون شعاره أن الإبداع في اللحظة أكثر أهمية من الماضي والمستقبل. فالماضي قد حدث ولا حيلة له في تغييره، والمستقبل يتطلب منه التضحية بالعيش في اللحظة من أجل إنجازات لم توجد بعد. بالإضافة إلى عدم تيقنه من أنه سيأتي وفق التصورات المرسومة له. ونجد نموذج هذا الموقف في عبارة نيتشه السابقة الذكر، وكذلك في بعض الأعمال الأدبية، فنجد عند جوته «فن التركيز على اللحظة الحاضرة والإحاطة الواعية بقيمة اللحظة»؛ إذ يقول على لسان فاوست:
عندئذ لا تتطلع الروح إلى الأمام وإلى الوراء؛
إذ الحاضر وحده عندنا هو السعادة والهناء.
25
ونجدها أيضا في نداء فاوست للحظة بالتريث والوقوف في محاولة لإيقاف عجلة الزمان عند لحظة السعادة القصوى، فيخاطبها قائلا:
توقفي إذن، فأنت رائعة الجمال.
إن أثر أيامي على الأرض،
لا يمكن أن يغيب في الدهور،
وفي استشعار سابق بمثل هذه السعادة،
فإني أستمتع الآن بأسمى اللحظات.
26
ولا يكون هذا الموقف على مستوى الأفراد (لا سيما المبدعين) فحسب، بل نجده أيضا في الحضارات التي يغلب عليها العيش في أزمنة محددة، وربما كان عصر النهضة مثالا على العيش في اللحظة، وإن كان الوعي التاريخي بهذا العصر على وجه التحديد جعله نموذجا لكل أبعاد الزمان كما سنرى في ختام هذا البحث.
وهناك أيضا نماذج من البشر تجعل من حاضرها نقطة انطلاق للعيش في المستقبل، وذلك بتنظيم الحياة الحاضرة تنظيما صارما قد يتضمن بعض التضحيات بلحظات الحاضر من أجل التخطيط لمشروعات المستقبل. ويبدو في هذا النموذج أنه من الأشياء العادية والطبيعية للإنسان أن يعيش من أجل المستقبل. فالإنسان بطبيعته كائن مستقبلي، ودائما ما يضع أمامه هدفا محددا يسعى ويخطط للوصول إليه، فالصبي - على سبيل المثال - يعيش حاضره في حالة استعداد نفسي وعلمي ليستقبل مرحلة الشباب، والشباب أيضا يخطط مستقبله ليكون رجلا ناضجا، وهكذا في مراحل العمر المختلفة يرسم الفرد دائما صورة للمستقبل، وينظم حياته الحاضرة وفقا لها. ومن ثم تصبح الحياة وفقا للنموذج السابق - أي العيش في اللحظة فحسب - علامة على التراخي والتقاعس وقصر النظر. كما أنها تعد دليلا على أن صاحبها يعيش على المستوى الحيواني الذي لا يتجاوز الاستمتاع باللحظة الحاضرة دون أن يفكر فيما يسبقها أو يلحقها، ومعنى هذا أنه يعيش لحظة حيوانية بدون العلو فوق الوجود في الزمن الحاضر. إننا نميل بحكم ماهيتنا البشرية إلى عدم الاستغراق في الزمن الحاضر، بل نحاول أن نتجاوزه إلى ما هو باق ودائم. بل إن الأمر لا يقف عند الفرد وحده، فهناك عصور تاريخية بأكملها وجهت حركة التاريخ ناحية المستقبل، ويمثل عصر التنوير هذا التوجه خصوصا مع انتشار فكرة التقدم، والإيمان غير المحدود بقدرة الجنس البشري على تحقيق التقدم في المستقبل.
والنموذج الثالث لتجربة الزمن الحاضر يتجلى في محاولة العلو على الزمن للوصول إلى الأبدية، ويمكن أن يتحقق هذا بطريقتين: فإما أن يتخذ شكل البقاء بالمعنى الديني والميتافيزيقي، وإما أن يتخذ شكلا إنسانيا وتاريخيا في التسليم ببقاء الجنس البشري. وهذه الأشكال الإنسانية من الدوام هي التي تتجاوز تيار الأحداث المتغيرة. ومن هذه الوجهة لا يكون التاريخ مجرد تاريخ للأحداث الماضية، وإنما يكون تاريخا للحقائق الإنسانية والقيم الإنسانية الباقية، أو التي لها صفة الدوام. والنظام الذي نفرضه على أنفسنا في هذا النموذج الثالث هو قبول ما تمليه علينا القيم الأخلاقية والدينية الثابتة التي لا تتغير. والحياة في هذه الحالة تنظمها قيم أبدية أو لا زمانية، وقد قدمها أخلاقيون وفلاسفة مع تسليمهم بطابع الإحكام الشديد الذي تحمله القيم الأخلاقية. وفي هذا الموقف الذي تتسع فيه المسافة بين الإنسان والقيم الأبدية المتعالية عليه، يسود الاعتقاد بأننا لا ننتمي واقعيا إلى هذا العالم الأبدي للقيم، وإنما يشارك فيه بالتطلع إليه والكفاح لأجل تحقيق قيمه الأخلاقية أو الدينية أو السياسية أو الاجتماعية. ومع ذلك تظل هناك فجوة لا يستهان بها بيننا وبينه، قد يكون فوقنا أو وراءنا، ولكننا نحاول الوصول إليه وهذا يتطلب منا نوعا من الزهد.
27
هناك أيضا نموذج رابع لتجربة الإنسان مع الزمن الحاضر يتعارض مع النموذج السابق، وتختفي فيه المسافة أو الفجوة المميزة له، وهو موقف يصبح فيه الإنسان مشاركا في عالم القيم كما يصبح أساس مشاركته في هذا العالم هو مقولة الحب التي تتغلب على الزمن، وتشارك في العالم الأبدي، وتحل محل الأخلاق الصارمة المنظمة بإحكام كما في النموذج السابق. ويمثل جويو (1854-1888م) هذا المفهوم الأخلاقي في كتابه «الأخلاق بلا إلزام ولا جزاء» الذي يقرر فيه أن الأخلاق هي فعل مباشر للإنسان، ولا يصح أن يرتبط بما ينبغي ولا بأي نوع من الرهبة والخوف والتهديد (كما في أخلاق الواجب الصورية عند كانط)، بل تصبح - أي الأخلاق - مفهوما أسمى للتعاون والحب. وهذا الموقف يمكن تشبيهه بالموقف الديونيسي
28
من الحياة الذي يتعارض مع موقف النموذج السابق الذي هو أقرب إلى الموقف الأبوللي القائم على العقل والاتزان والحكمة. وتظهر نفس الفكرة أيضا في ثقافات أخرى، وهي فكرة أن الحب يرتفع بنا فوق الزمن، ويخلق واقعا لا تقيده المعايير والجزاءات والقوانين المحكمة، ولا حتى الزهد في الحياة. وفكرة الحب هذه عبر عنها الحكيم الصيني لاوتزو: «عندما يذهب الحب يأتي العدل، وعندما لا يكون هناك عدل يظهر القانون. القانون هو إعلان بالافتقار إلى الإرادة الخيرة وبداية الفوضى
Chaos . بالتخلي عن القانون، والتخلي عن العدل، ستعود الجماعة إلى الأخوة والحب المتبادل.»
29
نجد فكرة الحب أيضا من الأفكار الأساسية عند عدد كبير من فلاسفة العصر الحاضر، ومن أهمهم فيلسوف القيم ماكس شيلر (1874-1928م) الذي أكد بأخلاقه المادية - في مقابل الأخلاق الصورية عند كانط - الجانب الانفعالي والوجداني في الإنسان، وقد كان للمنهج الفينومينولوجي تأثير بالغ في تحليلاته للانفعالات النفسية مفضلا منطق القلب الذي دعا إليه باسكال.
تبدو الحياة في الزمن الحاضر في كل النماذج السابقة غير محققة لرغباتنا ولا معبرة عن وعينا الصحيح بالزمن. فإذا كنا لا نستطيع إيقاف اللحظة، فما فائدة العيش فيها؟ وما فائدة العيش في المستقبل إذا كان يأتي أحيانا مخالفا التصورات المحددة له سلفا؟ وما فائدة العيش من أجل قيم أخلاقية جامدة وصارمة إذا كانت تطيح بكل المتع بعيدا عنا، وتجعلنا معلقين بقيم نكتفي بالتطلع إليها دون العيش الحقيقي فيها؟ ثم ما فائدة الاعتقاد بوهم أننا مشاركون في عالم القيم الأبدية من خلال الحب؟ ألا يمكن أن يكون هذا الحب مجرد وهم من اختراعنا؟ كيف إذن نحيا زمن الحاضر إذا كنا لا ننتمي إلى أي عالم آخر، بل نحن قوة دافعة في هذا العالم الذي وجدنا فيه؟ هل يكون الحل هو الموقف الذي قدمه برجسون وعبر عنه بمفهومه عن الديمومة بمعنى التدفق الدائم للزمان في مجرى الحياة الباطنة، أي زمن التجربة الحية وهو الزمان النفسي والكيفي المدرك بالحدس؟ وهل الديمومة - التي هي في مفهوم برجسون تقدم مستمر للماضي، ونفاذ له في المستقبل. أي أنها امتداد الماضي في الحاضر، واختراق هذا الأخير في المستقبل - هي اتصال وتواصل بين أبعاد الزمن، ويتحقق فيها الجديد دوما، كما يؤكد برجسون «كلما تعمقنا في فحص طبيعة الزمن فهمنا أن الديمومة تدل على الاختراع وخلق الصور، والإعداد المستمر للجديد على وجه الإطلاق»،
30
أتكون الديمومة بهذا هي الحل السحري لمشكلة الزمن الحاضر، وتكون موقفا من الزمان يختلف تمام الاختلاف عن المواقف السابقة؟
يبدو أننا ما زلنا بعيدين عن الحل الأمثل لتجربة الزمن في الحاضر، فلا هو العيش في اللحظة وحدها، ولا هو العيش في المستقبل فحسب، ولا في الأخلاق المنظمة، ولا في الأمل المشارك في مملكة سماوية، ولا في الديمومة الخالصة التي تنحصر في النهاية في الزمان النفسي. مع اليقين بأننا كأنماط بشرية متفردة يمكن أن نعيش في حاضرنا بكل هذه اللحظات السابقة بدرجات متفاوتة، تماما كما تعيش الشعوب أيضا حاضرها - كأنماط ثقافية متنوعة - أزمانا مختلفة، ولكننا ونحن نسعى للوصول إلى التجربة الصحيحة للعيش في الزمن الحاضر ينبغي علينا ألا نغفل الجوانب النفسية للتوجه الزمني. فمن الناحية النفسية يمكن النظر إلى الزمان بمستويات مختلفة؛ لأن مشكلة الزمان التاريخي ليست هي الوعي بالزمان فحسب، فالتوجه أو التكوين النفسي للشخصية يحدد التوجه ناحية أحد أبعاد الزمن وهي الماضي أو الحاضر أو المستقبل التي غالبا ما يحكمها التغيرات التي تطرأ على الشخصية. «فالشخص العصابي - على سبيل المثال - يتوجه غالبا ناحية الماضي في كل أفعاله ويعيش فيه. وبطبيعة الحال لا نشير هنا إلى التوجه للماضي الناتج عن اهتمام الشخص بالتاريخ، فهذا شيء مختلف تماما، بل وضروري لتحديد وضع الفرد بين الماضي والمستقبل. كما أن الانصراف إلى الاهتمام بالحاضر فحسب غالبا ما يعوق تطور الشخصية، ويؤدي إلى تغيرات سلبية نتيجة عدم استخدامها - أي الشخصية - لكل إمكانياتها مما يعرضها للتدمير وفقا للمبدأ القائل بأن العضو غير المستخدم يذبل ويذوي. ومع ذلك فإن التوجه للحاضر ليس دائما ميلا أو مزاجا شخصيا، ولكنه في أحيان أخرى يكون توجه مجتمع بأكمله، كما نجد في المجتمعات الصناعية الكبيرة التي تمارس ضغوطا قوية على شعوبها - من خلال نظام التعليم أو وسائل الإعلام - لتنفيذ سياستها الرأسمالية، وإثارة شهوة النزعة الاستهلاكية في حاضر مجتمعاتها أو في الهنا والآن. وهكذا تظهر التغيرات الإيجابية للشخصية فقط عند الاتجاه نحو المستقبل.»
31
هنا قد يلوح الحل الأمثل للتوجه الصحيح نحو الزمن الحاضر، وبمعنى أكثر دقة عندما يعيش الشخص بشكل مؤقت في الماضي أو الحاضر في الوقت الذي يهيمن عليه الاتجاه ناحية المستقبل.
إذا ما عدنا أدراجنا إلى بداية هذا البحث لمناقشة أصحاب التيار الأول (في ضوء ما توصلنا إليه من حل لإشكالية التعامل مع الزمن الحاضر)، وتفنيد دعوتهم للعودة إلى الجذور، فهل تصدق دعواهم التي تجتر الماضي وتتوهم سعادة العيش فيه والاكتفاء به، وتتصور خطأ أن هذا وحده هو الزمان الحقيقي؟ وهل تصدق دعوى التيار الثاني الذي يتطلع للمستقبل مطالبا بقطع كل الجسور مع الماضي؟ من كل ما سبق يتضح زيف الدعوتين وافتقارهما معا للوعي التاريخي بزمن الحاضر. فلا يمكن بطبيعة الحال الالتفات إلى الماضي، واعتباره حاضرا أبديا، فنحيا في واقع لا زماني. كما يستحيل بنفس القدر أن نقطع كل الخيوط مع الماضي؛ لأنه - أي الماضي - حي ولا يزال حيا بيننا على نحو ما ، حتى وإن لم تلحظه عين الراصد لحركة الواقع.
نعود إلى حيث انتهينا من كلامنا عن جدل الحاضر والمستقبل الذي خلصنا منه إلى أننا لا نملك سوى الواقع المعيش. فإذا كان «الواقع المعيش ... أو الحياة الحاضرة مبدعة فهي تنفتح على المستقبل، ومن خلال هذا الانفتاح على المستقبل نتحول إلى الماضي لنحصل منه على التجارب الضرورية للحاضر. وفي هذه الحالة يدخل الماضي حياتنا بشكل مباشر، وبطريقة أداتية كتجربة ضرورية لحياتنا الحاضرة الخلاقة.»
32
هنا تكون العودة إلى الماضي ضرورة ملحة للاستعداد للمستقبل، ولكن هذه العودة إلى الخلف أو إلى الماضي هي فقط لشحذ القوى، «كمن يقفز فوق خندق، فلا بد له أن يتحرك للخلف قليلا كي يحفز قواه ويستجمع سرعته.»
33
وبهذا المعنى وحده يمكننا أن نقول في النهاية إننا نعي الحاضر تمام الوعي عندما ينفذ فيه الماضي والمستقبل بالصورة التي أوضحناها. وعصر النهضة الأوروبية هو الفترة التاريخية التي وقع عليها اختيارنا لتكون نموذجا للوعي التاريخي بالزمن الحاضر، فهي العصر الذي تبلورت فيه النظرة الصحيحة الواعية للزمن، والتي انطلقت من الحاضر، وبدأت بداية جديدة كل الجدة مع عدم إغفال بعدي الماضي والمستقبل. (4-1) النهضة الأوروبية نموذجا للوعي التاريخي
ما دمنا قد اتخذنا من عصر النهضة الأوروبية نموذجا للوعي التاريخي، فلا بد أولا من التذكير بالمعنى الاشتقاقي للكلمة في أصلها الأجنبي، وفي ترجمتها العربية، لنؤكد من خلاله موقف الوعي في تلك الحقبة الزمنية من الماضي والمستقبل معا. فالكلمة الأصلية
Renaiss ance
تعني حرفيا الميلاد الجديد أو الميلاد الثاني. وقد اصطلح على ترجمتها في العربية بالنهضة التي تعني البعث أو النهوض من جديد بعد ركود طويل. وهي حركة ثقافية بدأت في إيطاليا منذ القرن الرابع عشر، وامتدت إلى بقية الدول الأوروبية، وسادتها حركة إحياء واسعة، وبعث للتراث اليوناني والروماني القديم، ولكنه لم يكن بعثا لشيء ماضي أو إحياء لعصر قديم، بل كان في جوهره ولادة جديدة لتراث قديم، بمعنى آخر كانت عودة نقدية فاحصة للماضي، ومؤسسة للمستقبل. فقد نظر الأوروبيون «إلى تراثهم، في عصر نهضتهم، نظرة ناضجة، لا تخجل من الاعتراف بالاختلاف الجذري بينه وبين حاضرهم الجديد، وكانت بذلك عاملا حاسما في القضاء السريع على تخلفهم الفكري.»
34
لقد تم توظيف رؤية الماضي بشكل نقدي وواع من أجل الحاضر، بأن وضع الأوروبيون تراثهم الماضي في سياقه التاريخي، وكانوا على وعي بأنه مضى، وأدركوا بحس تاريخي صادق تلك الفجوة الزمنية التي تفصل بين الماضي والحاضر، ومع اعترافهم بالقيمة الحقيقية لتراثهم الثقافي وتقييمه في إطار عصره، إلا أن هذا لم يمنعهم من الوعي بالحاضر الذي يعيشون فيه وإدراك متغيراته، فتملكتهم رغبة جامحة في البدء من جديد.
تميز عصر النهضة بنظرة جديدة للإنسان والكون؛ فقد كان في مفهومه العام «عصر الإنسانية، تميزه روح جديدة تفيض بالحرية وشعور جديد ومهيب بالفرد، وواقعية جديدة في تصور الطبيعة»
35
أنه أيضا عصر الاكتشافات الكبرى، وعصر الإصلاح الديني، ونمو الدول القومية، وبداية انطلاق الاقتصاد الرأسمالي والتجاري مصحوبا بنهضة فنية شملت كل ميادين الفنون والآداب. كما كانت النهضة فترة توهج فكري شمل الروح والمعرفة والفلسفة والسياسة والاجتماع، بحيث يمكن أن نقول إنها - أي النهضة - وضعت أوروبا على عتبة العصر الحديث.
وصف المؤرخ الفرنسي المشهور ميشليه النهضة بعبارة شهيرة قال فيها «إنها اكتشاف للعالم والإنسان»، أي أنها العصر الذي فتح «كتاب الطبيعة» و«كتاب التاريخ» معا. فقد انفتحت الطبيعة أمام الإنسان ليمعن النظر فيها، وساد العصر «الشعور بالاتساع واللامحدودية الذي يستولي على البشر.»
36
أي الشعور بلا محدودية الأرض الذي تجلى في الكشوف الجغرافية ورحلات كولمبوس وماجلان، ورحلات الدوران الأولى حول الكرة الأرضية. وأيضا الشعور بلا محدودية السماء، واكتشاف أن الأرض ليست هي مركز الكون، وأن هناك العديد من الأكوان الأخرى، الأمر الذي أدى إلى التخلي عن وجهة نظر مركزية الأرض لصالح مركزية الشمس. لقد كان الشعور باللامحدودية هو التعبير الحقيقي عن أهم الظواهر المميزة لعصر النهضة، وهي روح الجرأة والمخاطرة والمغامرة إلى ما وراء كل الحدود، حدود الأرض والسماء والعقل على السواء. الأمر الذي شجع العقل الأوروبي على طرح أسئلة كانت محرمة عليه، وأن يطوف في بلاد وشعوب نائية ويجوب عالما لم يجبه أحد من قبل. ويطأ أراضي وميادين جديدة بعقلية الرائد والفاتح والمغامر الذي يستمتع بمتعة الكشف ولذة المغامرة.
وكما انفتح «كتاب الطبيعة» انفتح أيضا «كتاب التاريخ»، واستعاد الإنسان «كرامته الإغريقية»، ولم يعد العالم متمركزا حول الشمس فقط، بل حول الإنسان أيضا. فالنهضة التي كانت في المقام الأول من أجل الإنسان لم يصنعها سوى الإنسان نفسه، فكان «الإنسان الصانع» الذي ابتدع فنونا عديدة، ووعت المخيلة دورها في مسار التاريخ، فانطلق الفنان باعتباره شخصية فردية خلاقة متحررا من روابط التقاليد إلى حد كبير، وكان اكتشاف المنظور الذي فتح الفن على عالم لا نهائي. لقد كانت الإنسانية الواعية بذاتها هي مفتاح عصر النهضة، فتم تفسير كل شيء بمصطلحات إنسانية معبرة عن الإنسان الذي يعيش على هذه الأرض، الإنسان الذي أكد فرديته، وامتلك ذاته، واتسعت معرفته وتطورت ملكاته النقدية الواعية. وكشفت النهضة عن ميلاد جديد لإنسان جديد، ومجتمع يحمل قيما جديدة، كما كانت عصر رفع لواء الفاعلية كشعار لإنسان حقق ذاته من خلال العمل، فكان الإنسان وإبداعاته الخلاقة هما الشحنة الهائلة التي دفعت النهضة إلى الأمام كحركة تاريخية في اتجاه المستقبل.
لقد كانت القضية الأساسية في عصر النهضة، هي خلق رابطة جديدة بين الإنسان والطبيعة، رابطة يتم فيها النظر إلى الكون نظرة جديدة غير سكونية، فكانت الطبيعة الفاعلة عند جوردانو برونو، أي الطبيعة المبدعة التي تشكل العالم، والتي بفضلها يشكل العالم ذاته بذاته، فكل من الإنسان والطبيعة يسيران جنبا إلى جنب، وكلاهما لم يكتمل بعد، بل ما زالت أمامهما إمكانية عيانية لعقد تحالف جديد، وكلاهما في صيرورة متجددة على حد تعبير باراسيلزوس
37
أن العالم يسقط في العدم إذا لم «يخلق ثانية» في كل لحظة. وأن الإنسان المسلح بخيال خلاق وذكاء مبدع مكلف بإنضاج إنسان أفضل وعالم أفضل. فالطبيعة لا تنتج شيئا كاملا منذ البداية، ولكن على الإنسان أن ينجز ويتمم كل شيء.
38
ومع هوبز يتحول العمل والإنتاج - اللذان كان المجتمع الأرستقراطي قد لفظهما نهائيا - إلى أداة لتقييم العالم. فكانت النهضة هي اللحظة التاريخية التي توقفت فيها الرؤية الأفلاطونية التي تهتم بتأمل الأفكار أو المثل، وازدرت العمل وترفعت عنه.
إذا كنا قد اتخذنا من عصر النهضة - على وجه التحديد - نموذجا للوعي التاريخي، فإن هذا يعني أن العصر الذي سبقه - أي العصر الوسيط - لم يكن كذلك. فهل يعني هذا أن العصر الذي يعنيه يمثل حالة انقطاع عن العصر السابق له؟ وهل يحق لنا أن نقول إنه عصر بداية جديدة كل الجدة ومقطوعة الصلة بما قبلها؟ وإذا كان هذا صحيحا، فهل يمكن لنا أن نحدد عصر النهضة تحديدا زمنيا دقيقا يبدأ من تاريخ هذه القطيعة؟ حقيقة الأمر أن الحدود الفاصلة بين حقبتين تاريخيتين - كما بينا سلفا - غير ممكنة من الناحية العملية، بالإضافة إلى أنها شديدة الصعوبة في عصر النهضة؛ لأن عصر النهضة - كما يرى جورج سارتون - قد مر «بفترتين إحيائيتين، بدأت أولى هاتين الفترتين في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، وبلغت أوجها في القرن الثالث عشر بحافز من المعارف الإغريقية العربية التي تلقاها غرب أوروبا «عن طريق العرب». وأما الفترة الثانية التي شهدت تقدم المنهج التجريبي فلم تبدأ قبل القرن السابع عشر. وكانت أولى هاتين الفترتين الإحيائيتين في جوهرها إقرارا للصلات بمعين الحياة الثقافية الأساسي، أي كتابات الإغريق كما نقلها وصححها الباحثون من أبناء الضاد ... أما فترة الإحياء الثانية، فكانت في الواقع بداية جديدة ... باعتبارها بداية العلم الحديث.»
39
يتضح من النص السابق استمرارية واتصال تراث الماضي بحاضر النهضة، مما يوحي بنفي فكرة القطيعة المعرفية بين زمن النهضة والأزمان السابقة عليها، ولكن حقيقة الأمر أنه حدث في هذا العصر «بلا ريب انقطاع، ولكنه في نفس الوقت اتصال وتواصل؛ انقطاع بالنسبة لما قبله، ولكنه انقطاع لا يتحدد بسنة ولا بعقد ولا حتى بنصف قرن، كما أنه انقطاع لا يلغي ما قبله، وهو بالنسبة إلى ما بعده شيء بارز ومذهل.»
40
بهذا المعنى لم تكن النهضة الأوروبية مجرد تطور نوعي وكمي للتراث والتاريخ الثقافي، ولا كانت مجرد ميلاد جديد لتراث قديم فحسب، بل هي ولادة شيء لم يحدث أن تصوره إنسان في زمن من أزمنة الماضي، فكانت بحق انطلاقا وبعثا أو ميلادا جديدا كل الجدة، و«كأية حركة تاريخية كبرى، فإن لعصر النهضة ينابيع أصيلة عميقة، فالسياسة والدين والتجارة والصناعة والشغف بتحليل معرفة علمية جديدة، وروح المخاطرة ... قد أسهمت جميعا في حفز الحركة.»
41
لقد كانت النهضة لحظة امتلاك الوعي وتحديده لذاته، لحظة إدراك الواقع العيني واكتشاف الإمكانات الثورية الكامنة فيه، والتصميم الإرادي على نقلها من حالة الإمكان إلى حالة التحقق، أي اللحظة القادرة على استشراف المستقبل. ومع أنه «لم يكن في عصر النهضة نهضة علمية كبيرة، فقد كان مرحلة لازمة للتطور، إنه بمثابة إحدى المعارك التي ينبغي للبشر خوض غمارها لكي يصلوا إلى مستوى أرفع»،
42
ومع ذلك فقد كشفت النهضة العلمية عن بداياتها في هذا العصر متمثلة في بعض الكتابات التي تميزت بشدة وعيها بالواقع التاريخي لحاضرها مثل «أطلنطا الجديدة» لفرنسيس بيكون، و«مدينة الشمس» لتوماسو كامبلانيلا، وهما المؤلفان اللذان كشفا عن إمكانات هائلة للتطور التقني بفضل قراءة مؤلفيهما لواقع عصرهما ودراسته بالعلم، فاستطاعا أن يستخرجا إمكاناته الكامنة التي أمكن تحقيقها في المستقبل. وقدما صورا لاختراعات علمية عديدة اهتمت بها، وحققتها القرون التالية لهما، كما حقق التقدم العلمي والثورة الصناعية بعد ذلك الكثير من هذه الصور. ولا تخلو كل إبداعات النهضة من إلقاء هذا الضوء على إمكانات الواقع الكامنة ولا من استشراق الجديد القادم في المستقبل.
كان عصر النهضة - إذن - لحظة (إذا جاز لنا استخدام هذه اللفظة) تتوسط بين الماضي بكل ما فيه من تراث ثقافي يحمل قيما يمكن أن تدفع مسيرة التاريخ إلى الأمام، وبين المستقبل بكل ما يحمله من إمكانات لم تتحقق بعد. وهي لحظة يمكن أن توصف بالغموض والنقص وعدم الاكتمال، وعلى الرغم من كل ذلك فهي اللحظة التي وضعت العقل الأوروبي على طريق المستقبل، كما كانت بمعنى آخر لحظة خروج من الكهف الوسيط إلى الوعي بحرية السؤال والبحث بغير حدود. إنها الميلاد الجديد الذي شمل كل ميادين الفكر والروح والعلم والكشف والمعرفة، وتأسس معه «حاضر» حمل في أحشائه المستقبل الذي ما يزال مستمرا ومتجددا إلى اليوم، بحيث نستطيع أن نقول إن حاضر أوروبا الآن والتقدم الذي نعيش فيه هو الابن الشرعي للأسس التي وضعها عصر النهضة. لقد كان - أي حاضر أوروبا الآن - هو المستقبل الذي حملته النهضة في أحشائها. ولقد امتزج التراث الثقافي والعلمي للزمن الماضي بالذات المكونة والفعالة والمبدعة في هذه النهضة، أي الإنسان، مما أدى إلى انطلاق النهضة في مجالات عديدة شكلت في مجموعها الكل الحضاري للبشرية الغربية الواعية الفعالة؛ ففي مجال الفلسفة كان جورداتو برونو وكامبانيلا وباراسيلزوس وياكوب بوهمه وفرنسيس بيكون. وفي مجال العلوم الطبيعية كان جاليليو وكيبلر ونيوتن. وفي فلسفة الحق والقانون والدولة والتاريخ كان ألتوسيوس وماكيافيلي وبودان وجروسيوس وتوماس هوبز وفيكو. وكل هذه الإبداعات الحضارية على تنوعها واختلاف مستوياتها والموجهة من أجل الإنسان لم يخلقها سوى الإنسان نفسه. الإنسان المزود بالوعي التاريخي بالمستقبل، وبالإرادة القادرة على تحقيق أحلامه المستقبلية في الواقع المتغير والمتحول باستمرار. وبهذا يمكن القول إن أعظم ما أبدعته النهضة الأوروبية أو أنتجته هو هذا الإنسان الجديد نفسه، وأن أعظم ما في هذا الإنسان هو وعيه الجديد أو بالأحرى وعيه التاريخي والجدلي بماضيه وحاضره ومستقبله.
المفارقة التاريخية عند نيتشه
إرادة الحياة بين الحس التاريخي والحس اللاتاريخي
مقدمة
يثير عنوان هذا البحث العديد من علامات الاستفهام أولها: ما هي المفارقة التاريخية؟ وثانيها: كيف تتأرجح دراسة التاريخ بين الحس التاريخي - وهو الأساس الذي تستند إليه أية دراسة موضوعية وجادة للأحداث التاريخية - وبين الحس اللاتاريخي وما يثيره من علامات تعجب لم تألفها الدراسات التاريخية؟ وثالث هذه التساؤلات وأهمها: لماذا نيتشه الآن؟ وهو سؤال لا يثيره عنوان هذا البحث فقط، بل هو مطروح في الدوائر الثقافية العالمية منذ فترة طويلة مضت وحتى أيامنا هذه. فعلى الرغم من مرور مائة عام على رحيل نيتشه، إلا أنه ما زال الفيلسوف الذي تدور حوله الدراسات في أنحاء عديدة من العالم، ليس فقط لأنه من كبار الفلاسفة الألمان في القرن التاسع عشر، وليس فحسب لتفرد شخصيته في تاريخ الفكر وأهميته الكبرى في تاريخ الفلسفة وتعامله مع أصعب المسائل تعقيدا، بل لأهمية أفكاره الفلسفية في ميادين عديدة من البحث المعاصر. وعالمية فكر نيتشه يتوقع لها أن تستمر وتزدهر في المستقبل في شكل سلسلة من الدراسات لتحليل وتفسير وتقييم الجوانب العديدة من فكره. وربما يكون الهدف من هذه الدراسات - على تنوعها - هو الإسهام في مراجعة فكر نيتشه الذي تعرض لسوء الفهم وسوء الاستخدام ما يقرب من قرن من الزمان، وتم التجني عليه وإخضاعه قسرا وظلما لأفكار ونظم سياسية - كالنازية والفاشية - ربطت اسمه بأكبر كارثة في التاريخ الحديث.
يعود سوء الفهم الذي تعرض له فكر نيتشه إلى أسباب عديدة، ساهم فيها بغير شك الفيلسوف نفسه بتناقضاته ومفارقاته الشهيرة، وتخفي كتاباته وراء أقنعة مجازية تستعصي على الفهم في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى صعوبة التعامل مع المادة الضخمة لأعماله التي اتسمت بالتشدر واللانسقية والنسيج غير المترابط - حتى داخل العمل الواحد - في شكل أمثال وحكم وجمل متقطعة. وقد تعرضت فلسفة نيتشه لسوء الفهم من قبل المتحمسين والمعارضين لها على السواء؛ تعامل البعض مع فلسفته الأخلاقية بشكل يغلب عليه الانفعال والتبسيط المخل الذي أساء فهم هذه الفلسفة على حقيقتها، كما فسر البعض الآخر فلسفته تفسيرات تدعم الأيديولوجية النازية مما نتج عنه كره الناس لنيتشه أكثر من كرههم للنازيين أنفسهم، أو الذين أساءوا استخدام أفكاره، وربما يكون غنى وثراء وتناقضات أفكار نيتشه وشاعرية أسلوبه الغني بالصور والاستعارات والرموز هي التي أثارت هذه المواقف المتباينة.
لكل الأسباب السابقة تأتي أهمية الدراسات المعاصرة التي تسهم في مراجعة نقدية متطورة لفلسفة نيتشه التي أثبتت قضايا عصرنا الحاضر أنها ما زالت حية بيننا، وأن نيتشه بكل المقاييس معاصر لنا، وأنه من طراز من الفلاسفة الذين لا يمكن أن نتجاهلهم، بل ويتحتم علينا أن نقدرهم حق قدرهم، حتى لو وجدنا أنفسنا في مواجهات خلافية معهم. لم يكن نيتشه مجرد فيلسوف صاغ وجهات نظر فلسفية حول بعض قضايا عصره، ولم يكن يسعى لفهم الفلسفة وتحليلها فحسب، بل تحدى تراثها تحديا نقديا ومارسها وعايشها معايشة باطنية، بل كان أيضا مهموما بماضي الفلسفة وحاضرها ومستقبلها، وهو الذي وضع «مصير الفلسفة ومستقبلها» موضع سؤال وشك، ووضع نبوءة للتاريخ لمائتي عام قادمة محذرا ومنذرا بمستقبل الفلسفة ومستقبل البشرية. وبفضله ما زال السؤال عن مستقبل الفلسفة والبشرية مطروحا حتى اليوم. والآن وبعد مرور مائة عام، هل صدقت نبوءة نيتشه في التاريخ عندما أطلق صيحته: «الآن ستفنى الأخلاق بالتدريج: هذه رؤية كبرى في مائة فصل للقرنين القادمين في أوروبا، وهي الأكثر رعبا، والأكثر شكا، وربما الأكثر أملا من كل الرؤى.»
1
هل ستظل صرخة التحذير التي أطلقها قائمة لمائة عام أخرى؟ وهل كان نيتشه فيلسوفا متعاليا على التاريخ، أم أن رؤيته لم تتجاوز التاريخ؟ وهل صدق استقراؤه لواقع حاضره الثقافي؟ وهل بلورة نيتشه لمشكلة الزمن الحاضر بوضعها في إطار أوسع، وهو مشكلة الحضارة الأوروبية ومصيرها ينم عن وعي وحس تاريخي أم أنه يكشف عن الحس اللاتاريخي - بكل ما تحمله الكلمة من مفارقة - أم أنه جمع بين الوعي التاريخي واللاتاريخي معا؟ وهل هذه الرؤية النكوصية للتاريخ - التي تفسر تاريخ الحضارة الغربية في عصره بأنه ارتداد ونكوص من عصور بطولية إلى عصر تدهور وانحطاط تجوس فيه العدمية - كانت من أجل الهدم فقط، أم من أجل إثارة التفكير في المستقبل في ضوء قلقه على المستقبل الإنساني؟ ثم أخيرا هل الهدف النهائي لنقد نيتشه وهدمه للحضارة الغربية هو تدمير أم إبداع؟ بمعنى آخر، هل هو آلام احتضار أم مخاض ميلاد؟
سيحاول هذا البحث الإجابة عن هذه التساؤلات التي تدور في محورين أساسيين: يدور المحور الأول حول: فلسفة نيتشه التاريخية، ويتناول مفهوم نيتشه عن التاريخ، وكيف يكون في خدمة الطاقة المبدعة للحياة انطلاقا من نقده لمفهوم الحقيقة. وينقسم هذا المحور إلى ثلاث نقاط: (1) أنواع التاريخ، ويعرض للأنواع الثلاثة للتاريخ التي حددها نيتشه، وكيفية ارتباط كل منها بالحياة. (2) المفارقة التاريخية، وهي التي تتضح معالمها في تأكيد نيتشه على الحس التاريخي والحس اللاتاريخي معا، كما تتأكد أيضا في فكرة العود الأبدي عندما يصبح الماضي مستقبلا، ويصبح المستقبل ماضيا. (3) الرؤية النكوصية للتاريخ، وتعرض لرؤية نيتشه لتدهور التاريخ من عصور بطولية نبيلة تعبر عن أخلاق السادة، إلى عصور متدهورة تتحكم فيها أخلاق العبيد.
أما عن المحور الثاني فيدور حول كشف قناع الزمن الحاضر، ويعرض لرؤية نيتشه النقدية التي تدين تدهور الحضارة في العصر الحديث، وتؤكد رؤية نيتشه النكوصية للتاريخ والحضارة، وهي التي سيدور حولها المحور الأول. وينقسم هذا المحور أيضا إلى ثلاث نقاط: (1) الرؤية النقدية للعصر الحديث بين نيتشه وروسو، وقد اقتصرنا في هذه النقطة على تفسير كل منهما لمشكلة التدهور الحضاري، وبحثهما عن العلل التاريخية لفساد زمنهما الحاضر. (2) أصول المجتمع البشري، التي تتناول الرؤيتين المتعارضتين عند كلا المفكرين لتلك الأصول، وهنا ننتهي إلى النقطة الثالثة والأخيرة من هذا البحث وهي (3) مأساوية الوجود التاريخي للإنسان، ويتناول كيف واجه كلاهما تلك المأساة. وينتهي البحث بخاتمة قصيرة عن ضرورة الاهتمام بفلسفة نيتشه التي يمكن أن تساعدنا على تجاوز المحنة الحاضرة للوجود والتاريخ العربي. (1) فلسفة نيتشه التاريخية
قد يتوقع القارئ أن نتحدث تحت هذا العنوان عن نوع المعرفة التي اتبعها نيتشه في دراسة التاريخ، أو عن المنهج الذي سلكه لنفس الغرض، وهي الأمور التقليدية التي تتعرض لها أغلب دراسات فلسفة التاريخ، لكن الأمر يختلف عندما نتحدث عن فيلسوف غير تقليدي مثل نيتشه؛ فالتاريخ بالنسبة له ليس موضوعا للقراءة، ودراسته لا تنحصر في جمع وثائق وحقائق عن أحداث الماضي وشخصياته، ولا أهمية عنده للترتيب الزماني أو المكاني لأحداث التاريخ، بل لا يعنيه منه تلك المسيرة الأخلاقية التي رسمها الله للإنسان على الأرض للوصول في النهاية إلى المملكة النهائية أو مملكة الله. إن التاريخ بالنسبة لنيتشه مشكلة فلسفية وجودية عينية، وقيمته تكمن في توظيفه «للزمن القادم»، وغايته الكبرى هي الوصول لنماذجه الأسمى.
تنطلق فلسفة نيتشه بأكملها - لا فلسفته التاريخية فقط - من مشروع طموح لإعادة تقييم كل القيم الموروثة. وهو يستهل مشروعه بطرح السؤال: «بماذا نؤمن؟ من هنا يجب أن تحدد أهمية كل الأشياء من جديد.»
2
وقد جعل نيتشه من النقد أساس هذا التقييم ونقطة بدايته، وحدد لمشروعه جانبين يمثل الجانب الأول العنصر الإيجابي لإعادة التقييم كما ظهر في «هكذا تكلم زرادشت»، وتمثل مؤلفاته المتأخرة العنصر السلبي منه: «والآن بعد أن تم الجزء الإيجابي من مهمتي، فقد جاء دور الرفض، دور إطلاق صوت: «اللا» في القول والفعل، إعادة تقييم القيم الموجودة نفسها، تلك الحرب الكبرى، الإهابة بيوم القرار الحاسم.»
3
وقد طرح نيتشه بحثه النقدي للقيم في خمسة تساؤلات حول القيم الأساسية التي قام عليها جوهر التراث الغربي: «ما قيمة المعرفة؟ ما قيمة الأخلاق؟ ما قيمة الدين؟ ما قيمة الفن؟ ما قيمة الدولة؟»
4
ولأن كلا من هذه الأسئلة يستلزم بحثا أو بحوثا مستقلة خاصة عندما نعرف أن إعادة تقييم القيم هي المشروع الأساسي لكل أعمال نيتشه منذ كتاباته الأولى الخصبة، وحتى مؤلفاته المتأخرة الأكثر نضجا، وأن مشكلات القيمة هي المهمة التي وهب حياته الفلسفية من أجلها، فلن نتناول في هذا المجال سوى السؤال الأول الذي يندرج هذا البحث في إطاره لما يتضمنه من أسئلة أخرى: «ما قيمة الحقيقة؟ ما قيمة العقل؟ ما قيمة الموضوعية؟ وما قيمة العلم؟ ما قيمة التاريخ؟ وهل الحقيقة شيء يمكن الوصول إليه؟»
5
لم يطرح نيتشه تساؤله عن طبيعة المعرفة، ولم يهتم بطبيعة الحقيقة - كما فعل سائر الفلاسفة - وإنما حصر دائرة بحثه في قيمة المعرفة، وقيمة الحقيقة، فكان هجومه على التراث الفلسفي الغربي هو بداية هذا المشروع النقدي. فإذا كان أفلاطون «قد وضع في محاورة «الجمهورية» أسس التاريخ الغربي، فإن نيتشه قد دمر في «هكذا تكلم زرادشت» هذا التاريخ الذي وهن وفسد بعد أن أضنته المسيحية تاريخيا.»
6
وإذا كان هناك العديد من الفلاسفة الذين اهتموا بطبيعة الحقيقة، فإن القليل منهم هو الذي شك في قيمة الحقيقة، فاتخذ نيتشه من هذا الإغفال نقطة بدايته، وجعل قيمة الحقيقة - وليست طبيعتها - محورا لفلسفته في إطار نقده للقيم. ولا شك أن عملية إعادة تقييم القيم أدت إلى رفضها بالكامل. فقد رفض نيتشه رفضا نهائيا نظرية المثل أو الصور الأفلاطونية، وأخذ على عاتقه تدمير تلك النزعة. وإذا كان أفلاطون قد أسس قديما ما أطلق عليه «العالم الحق»، فقد أكد نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» أن العالم الحقيقي محض خرافة، وبدأ نقده للتاريخ من نقده للفكرة الأفلاطونية-المسيحية عن الحقيقة مدينا تمييز الفكر الأوروبي بين «ماهية الشيء» و«ما يبدو منه»، مؤكدا أن روح الاستياء والمرارة التي تميز تاريخ الميتافيزيقا الغربية كله من أفلاطون حتى كانط، إنما كانت نتيجة المقابلة بين عالمين متعارضين «العالم الماورائي» الذي تم تصويره على أنه العالم الحق، وعالم الصيرورة (الهنا والآن) الذي تم تصويره على أنه العالم الظاهر فحسب. وهي الفكرة التي جعلت مفكري التراث الغربي يخلقون «عالما ميتافيزيقيا» كان عند أفلاطون هو «العالم المثل» وكان في المسيحية هو «ملكوت الرب».
نظرت الحضارة الغربية إلى القيم على أنها الحقيقة التي تستحق التبجيل، فهذه القيم هي التي وضعت الخير في مقابل الشر، والصدق في مقابل الكذب. وأخذ نيتشه على عاتقه اقتفاء آثار سلالة تلك القيم ليؤكد عدم وجود قيمة بدون تقييم «أيا كانت القيم في عالمنا الآن فليس لها قيمة في حد ذاتها، ولا وفق طبيعتها - الطبيعة دائما بلا قيمة، ولكنها تكتسب القيمة في بعض الأحيان لكونها موجودة - لكننا نحن الذين أضفينا عليها هذه القيمة.»
7
وقد اضطلع نيتشه بهذه المهمة النقدية في كتابه «جينالوجيا الأخلاق»، وهي المهمة التي تطلبت دراسة الظروف التي نشأت فيها القيم الأخلاقية - كيف نمت وتطورت وتغيرت - وتطلبت أيضا دراسة الأشكال المختلفة التي ظهرت فيها تلك القيم الأخلاقية. وقد ظهر اهتمام نيتشه بسلالة الأخلاق «في وقت مبكر في سن الثالثة عشر، فكرس جهده الفلسفي للبحث عن أصل الشر، وعلى الرغم من أنه نسبه - أي الشر - في هذه المرحلة إلى الله، إلا أنه فصل في سن متأخرة بين اللاهوت والأخلاق، وتوقف عن النظر إلى الشر فيما وراء العالم. فكانت دراسته للتاريخ وعلم اللغة واهتمامه بعلم النفس قد حولت إشكاليته وصاغتها بشكل أكثر نضجا تحت أية ظروف ورث الإنسان أحكام القيمة عن الخير والشر؟ وهل أحكام القيمة تعد ازدهارا للإنسانية أم علامة على تدهورها؟»
8
للأسباب السابقة قدم نيتشه تحليلا تاريخيا وسيكولوجيا لنشأة القيم وتطورها في محاولة لإقناعنا بالتخلي عن كل أشكال النزعة الأفلاطونية-المسيحية التي وضعت القيم في عالم الخلود أو في السماء، وهو ما يشجعنا على إيجاد قائمة جديدة من القيم تتصدى للتدهور العدمي الذي غرق فيه التراث الأوروبي . ويناشدنا نيتشه «بتغيير مكان القيم من السماء إلى الأرض، من الأبدية إلى التاريخ، ويتطلب هذا التغيير إثبات الوجود الأرضي والتاريخي؛ لأنه إذا تم إنكار أو إغفال أي جزء من الوجود الإنساني، فإن هذا سيفسح مجالا للمثالية أو يسمح بعودتها وعودة فكرة «ما ينبغي أن يكون» لتعود معها الثنائية التراثية بين الوجود الإنساني الناقص الخالي من القيم واليوتوبيا المتخطية أو المتجاوزة للتاريخ
transhistorical Utopia
كما عند أفلاطون أو المسيحية.»
9
ويرى نيتشه أن مشكلتنا هي أننا ما زلنا نؤمن بقيم مطلقة وغير مشروطة للحقيقة، وذلك بغير أن نتحقق منها، وأن «ما نحتاجه هو الشك المطلق في كل المفاهيم الموروثة.»
10
يهاجم نيتشه التأريخ الحديث الذي يقف أمام ما يسميه «حقائق» موقفا رافضا للتقييم سواء كان هذا التقييم بإقرارها أو برفضها. ويتساءل في كتابه «جينالوجيا الأخلاق»: «هل يعلن التأريخ الحديث موقفا أكثر تأكيدا للحياة والمثل؟ إن زعمه الأمثل هذه الأيام أنه مرآة: يرفض كل غائية، ولا يرغب في إثبات أي شيء.»
11
ويرجع نيتشه هذا الموقف السلبي - في رأيه - لأصحاب النزعة التاريخية إلى نموذج الزهد الذي ساد كل الفلسفات السابقة التي نظرت إلى الله كحاكم أسمى ننشده ونحتكم إليه، والذي يطالبنا نيتشه بالتخلي عنه؛ ولذلك تبحث المقالة الثالثة من «جينالوجيا الأخلاق» عن تحرير الإنسان وإرادته من ذلك النموذج، ولا يتم هذا إلا بالبحث في أصول الأخلاق لنكتشف في النهاية أننا نفقد الثقة به (أي بالنموذج)، وينفض الإنسان عن نفسه الخوف ليكتسب الشجاعة: «وبصرف النظر عن المثل الأعلى للزهد
ascetic ideal ، فإن الجنس البشري لم يكن له معنى، وجوده على الأرض بلا هدف: لماذا الإنسان على الإطلاق؟ كان سؤالا بلا إجابة، إرادة الإنسان والأرض كانت محتجبة وراء القدر الإنساني الأعظم ... ما يعنيه المثل الأعلى للزهد هو أن شيئا ما مفتقد، أن الإنسان كان محاطا بفراغ مخيف، لا يعرف كيف يبرر ويؤكد نفسه، وأنه يعاني من مشكلة أن يجد لنفسه معنى، ولكن مشكلته ليست في المعاناة نفسها، ولكن في عدم وجود إجابة عن صرخته المتسائلة: لماذا أعاني؟»
12
وقد عمقت المسيحية في رأي نيتشه من معاناة الإنسان عندما أنزلت اللعنة على الجنس البشري من منظور فكرة الذنب والخطيئة الأولى، وجعلتهما عمق جوهرها لتدمير الحياة. فأصبح الزهد وما يصاحبه من معاناة نوعا من العقاب والتطهير معا، وكان أيضا هو الذي «قدم للإنسان المعنى، بل كان هو المعنى الوحيد الذي قدم حتى الآن أي معنى هو أفضل من لا شيء على الإطلاق، فيه فسرت المعاناة، وبد الفراغ الهائل وكأنه امتلأ ... معاناة مدمرة من منظور الذنب، مع كل هذا تم إنقاذ الإنسان، امتلك المعنى، ولكن لم يعد بالإمكان أن نخفي عن أنفسنا أن الإرادة التي أخذت وجهتها من المثل الأعلى للزهد: هي هذه الكراهية للبشر ... هذا الفزع من الحواس، من العقل نفسه، الخوف من السعادة والجمال، هذا التوق إلى الهروب بعيدا عن كل ظهور وتغير وصيرورة والموت والتمني والتوق نفسه - كل هذا يعني - أنها إرادة اللاشيء
nothingness ، كراهية الحياة، التمرد على الفروض الأساسية للحياة، ولكنها تبقى إرادة! والإنسان يفضل إرادة اللاشيء على ألا تكون هناك إرادة.»
13
يتضح من تحليل النص أن المعاناة التي يعانيها إنسان نيتشه تختلف - بغير شك - عن معاناة الإنسان المسيحي، وإن كان لا يفهم من الأولى هل يمارس الإنسان المعاناة من أجل ذاتها، أم من أجل البحث عن المعنى؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو المعنى الذي يقصده إنسان نيتشه؟ لكن المعاناة في الحالة الثانية «المسيحية» هي كما سبق القول نوع من العقاب والخنوع للتطهر من الذنب الذي ألقت به الديانة المسيحية على عاتق البشر؛ ولذلك يعتقد نيتشه أن البحث في أصول الأخلاق وتسلسلها هو المسئول عن موت المسيحية كعقيدة، وهو أيضا المسئول عن ضعف وهلاك الأخلاق المرتبطة بها. يرفض نيتشه إذن نظرية الحقيقة التي تقر بأن الحقيقة ثابتة، وهي النظرية التي تأسس عليها التراث الفلسفي، والتي استندت إلى نموذج الزهد العازف عن الحياة، ويرفض أيضا الإرادة المفارقة والمنحرفة - في رأيه - لهذا النموذج، فما هي إذن الحقيقة التي ينشدها نيتشه؟ وما هي الإرادة المصاحبة لها؟
تشكل فكرة الحقيقة محورا أساسيا في فلسفة نيتشه ، ولكننا لا نستطيع أن نخوض في هذه المشكلة الكبرى التي تضمنت موقفه من نظريات الحقيقة. فقد تناولت دراسات عديدة مشكلة الحقيقة عند نيتشه وعرضت تفسيرات كثيرة لها منها ما اعتبره بعض الباحثين تفسيرات تقليدية للمشكلة كتلك التي قدمها كل من هيدجر وكاوفمان، ومنها ما أطلق عليه تفسيرات غير تقليدية كما عند دي مان
De man ، والدراسات التي وردت في كتاب«نيتشه الجديد»
New Nietzsche ، وهناك بعض الدراسات التي تؤكد تطور فكرة نيتشه نفسه من موقفه من الحقيقة خاصة في أعماله المتأخرة التي ربط فيها بين الحقيقة والعلم، وعلاقة الحقيقة بإرادة القوة وإرادة الحقيقة. وللأسباب السابقة لن نتعرض لجوهر هذه المشكلة التي من الممكن أن تجرف هذا البحث عن الإطار المرسوم له، ولكننا سنشير فقط إلى هجوم نيتشه الشديد على المثل الأعلى للزهد لاعتقاده أن الإيمان بالحقيقة هو التعبير الأخير عن هذا المثل الأعلى.
ربط نيتشه مبدأ الزهد بالفلسفة، فإذا كانت الروح الفلسفية قد نشأت لظروف طارئة من المثل الأعلى للزهد، فهو يحاول من جانبه تحرير الفيلسوف من الزهد وتحرير الحقيقة من العبودية. فقد درج الفلاسفة على النظر إلى الحقيقة على أنها ثابتة، وبذلك تم عزلها عن الحياة، في حين يرى نيتشه أن الحقيقة متغيرة، وتخضع لتقلبات الحياة وتغيراتها. ولذلك يطرح سؤاله «الجينالوجي»: ماذا تريد إرادة الفيلسوف للحقيقة؟ لتأتي الإجابة بأنها إرادة محافظة، كل ما تنشده هو المحافظة على الذات. فالفيلسوف يفضل التحديد على عدم التحديد، الثابت على المتغير، الواحد على المتعدد، لقد كان الدافع الأخلاقي في تاريخ الفلسفة هو دافع الإبقاء على نموذج محدد من الحياة.
ويرفض نيتشه - بطبيعة الحال - إرادة الفيلسوف للحقيقة بالمعنى السابق شرحه؛ لأنه يرى أن الفيلسوف ممثل لإرادة القوة ، ولاقتناعه أيضا بأنه لا يمكن لأي شيء أن ينشأ مستقلا عما حوله، ولا يمكن له أن يحيا بعيدا عن علاقته بالأشياء الأخرى، فهذه العلاقة هي التي تشكل ظروف وجوده واستمراره لقد نشأت كل القيم والأفكار والمفاهيم في الزمان وفي صور متعددة؛ ولذلك كانت مهمة نيتشه في بحثه عن أنساب الأخلاق هي أن يبرز تلك الظروف العينية والتاريخية إلى النور. كذلك انحصرت مهمته في تقديم تحليل أو تشخيص تاريخي للحاضر، وتقويضه ليفتح إمكانيات تدعيم أو تعزيز الحياة، فالتقييم الأخلاقي إذن هو أساس البحث عن الحقيقة. وتصبح الحقيقة في رأي نيتشه «قيمة تستحق الاحترام فقط عندما ترتبط بالتقييم»، أي عندما ترتبط بفعل الإرادة. فالحقائق ليست في عالم المثل الأفلاطوني ولا في طبيعة الأشياء، وإنما في الإرادة التي تعبر عن نفسها في هذا العالم، عالمنا الأرضي، وبهذا المعنى فقط تكون «جينالوجيا الأخلاق» عند نيتشه هي المنهج الذي بفضله نكتشف أصل الأفكار والمثل في فعل الإرادة. وتركز الجينالوجيا على نوعية خاصة للإرادة، فعلى سبيل المثال يعيد نيتشه تفسير عبارة «الحقيقة قيمة» أو «الحقيقة تستحق التبجيل» في عبارة أكثر دقة «أنا أريد الحقيقة بدلا من الخطأ. الجينالوجيا إذن دراسة للطريقة التي تريدها الإرادة، هل هي إرادة ضعيفة أم قوية؟ هل هي إرادة نبيلة أم تابعة؟ هل هي فعل مبدع أم رد فعل انتقامي؟ هل هي إثبات للحياة أم إنكار للإرادة؟»
14
لذلك كله جاء بحث نيتشه في أنساب الأخلاق على مرحلتين، في المرحلة الأولى بحث الظروف التي نشأت في ظلها أحكام القيمة، وفي المرحلة الثانية طرح التساؤل عن قيمة أحكام القيمة. بعبارة أخرى نستطيع أن نقول إن المرحلة الأولى كانت بمثابة المرحلة التمهيدية للمرحلة الأخرى النقدية؛ ولذلك كانت الوظيفة الأساسية لجينالوجيا نيتشه هي وظيفة نقدية. «إن البحث في أصول تقييماتنا وقوائم الخير ليس متطابقا على الإطلاق مع النقد الموجه لها على الرغم من أن الإحساس بنوع من الأصل المخجل يجلب معه شعورا بتناقص قيمة الشيء الذي نشأ بهذه الطريقة، كما يمهد السبيل لموقف نقدي منه. ما هي على الحقيقة قيمة تقييماتنا وقوائمنا الأخلاقية؟ ما هي محصلة سطوتها؟ وبالنسبة لأي شيء؟ الإجابة من أجل الحياة»، لكن ما الذي يعنيه نيتشه بالحياة التي طرح من أجلها كل تلك الأسئلة؟ يتساءل هو نفسه، ثم يجيب: «لكن ما هي هذه الحياة؟ تشتد الحاجة إلى صيغة جديدة أكثر تحديدا لمفهوم الحياة، إن مفهومي عنها هو: الحياة هي إرادة القوة.»
15
يبدو تعريف نيتشه للحياة في هذه العبارة غير محدد تماما - كما تصور هو ذلك - ولن نجد في كتاباته - على كثرتها - تعريفا جامعا مانعا لمفهومه عن الحياة. وليس ما يهمنا هنا هو البحث عن مفهوم محدد لفكرة الحياة، بل إن ما يهمنا هو تأكيد نيتشه على أن الوجود كله ليس إلا الحياة، وليست هذه الحياة إلا إرادة، ولكن هذه الإرادة ليست فحسب إرادة حياة كما يقول شوبنهور، بل هي إرادة القوة التي لا تعني سوى التسامي والعلو. ولذلك فإن الحقيقة عند نيتشه هي ما يساعدنا على الاستمرار في الحياة، وهي في كلمة واحدة ما ينفع الحياة، وبهذا المعنى تكون الحقيقة مرتبطة بالحياة ومتقلبة معها، وليست ثابتة ولا مطلقة، بل هي وسيلة غايتها نفع الحياة. (1-1) أنواع التاريخ
امتد هجوم نيتشه على القيم إلى الهجوم على التاريخ والنزعة التاريخية - هذه النزعة التي رأت أنها حققت غايتها في عصره - فطرح سؤاله عن قيمة التاريخ وليس عن نوع المعرفة التي تسلم بها الدراسات التاريخية، ولم يعنه مدى صدق معرفتنا التاريخية عن الماضي، بل جاء سؤاله عن قيمة التاريخ؛ لأنه كان على وعي كامل بمخاطر استخدام التاريخ؛ لذلك جاء تأمله الثاني في كتابه تأملات في غير أوانها تحت عنوان يحمل دلالات هذا الوعي «استخدامات ومساوئ التاريخ بالنسبة للحياة»
On the Uses and Disadvantage of History for life . لا يبحث هذا التأمل عن الترتيب الزماني لما حدث في التاريخ، بل يحاول أن يفضح زيف ما يسميه التاريخيون في عصره بالوعي التاريخي ليثبت أنه إحدى العلامات الأساسية للوضع المتفسخ للعصر الحاضر: «سأحاول أن أنظر من جديد لأشياء يفخر بها عصرنا أي دراسته للتاريخ لكشف ما به من ضرر وخلل وعجز ... إن الحس التاريخي المتضخم - كما هو في عصرنا - بإمكانه أن يدمر الأمة.»
16
كما حدد نيتشه هدفه بوضوح من دراسة التاريخ، ولماذا نحتاجه: «أي فائدة من التاريخ إذا انحصر في كونه تعليما عقيما بغير حيوية، ومعرفة لا ترتبط بالفعل، ألا يصبح التاريخ بذلك شيئا كماليا لا جدوى منه ... نحن نحتاج التاريخ ، لكن لأسباب مختلفة عن تلك الأسباب التي يحتاجها المتسكع في بستان المعرفة ... نحن نحتاج التاريخ من أجل الحياة والفعل، لا لكي ندير ظهورنا للحياة والفعل ... نحن نخدم التاريخ بالقدر الذي يخدم به الحياة.»
17
هكذا لم يبحث نيتشه في التاريخ إلا باعتباره مجالا يخدم الحياة، الحياة على هذه الأرض وفي هذا العالم وليس في عالم آخر. ولذلك أنزل نيتشه القيم من عالم السماء إلى عالم الأرض، لا للهبوط بها إلى أدنى المستويات، بل لتغدو متعلقة بالحياة الأرضية ومرتبطة بها. إن عودة القيم إلى الأرض وإلى الإنسان لا يعني سوى تمجيد قدرة الإنسان على الخلق والإبداع، والتأكيد على أن الحياة هي القوة الدافعة وراء هذا الخلق والإبداع، كما أن الحياة هي العنصر الكامن وراء كل قيمة، وكل معرفة. وعلى الرغم مما في الحياة من قوى دافعة، إلا أنها مليئة بالفظائع أيضا، فإذا كانت الحياة هي إرادة القوة، فإن هذه القوة - بالمعنى السابق أي التسامي والعلو - تتجلى في قدرة الإنسان على الوعي بهذه الفظائع ومواجهتها بشجاعة، وبقدرته أيضا على إثراء نفسه بالعلم والمعرفة والسيطرة على الطبيعة، ومقدرته على الفعل الخلاق، وشجاعته في الانتصار على نفسه. كل هذا من أجل تمجيد الحياة وإعلائها، وكل هذا النشاط الخلاق لا يتم إلا من خلال التاريخ الذي يتحول إلى مجال يخدم الحياة.
وإذا وضع التاريخ في خدمة الطاقة المبدعة للحياة، فنحن نحتاج - في رأيه - إلى أن نتعرف على ثلاثة أشكال رئيسية لدراسة وكتابة التاريخ: النوع الأول يسميه نيتشه التاريخ التذكاري
monumental history ، والنوع الثاني أطلق عليه اسم التاريخ العتيق
Antiquarian history ، والنوع الثالث والأخير هو التاريخ النقدي
Critical history . وتتعلق هذه الأشكال الثلاثة «بحياة الكائن البشري؛ فالتاريخ التذكاري يتعلق بالإنسان ككائن فاعل ومناضل، ويتعلق التاريخ العتيق به ككائن محافظ ومنطو، أما التاريخ النقدي فيرتبط بالإنسان باعتباره كائنا يعاني ويسعى إلى التحرر.
18
فالنوع الأول لدراسة التاريخ يتطلب إنسانا مفعما بالقوة، وقادرا على الفعل، إنسانا لا يستوقفه من التاريخ سوى اللحظات الكبرى في حياة الجنس البشري، ليعرف من خلال التاريخ أن الأفعال المجيدة كانت ممكنة في يوم ما، وأن هذا المجد من الممكن أن يعود مرة أخرى؛ لأن مثل هذا التاريخ هو نوع من تأكيد الحياة وتعزيزها، يجنب الإنسان اليأس ويساعده على الفعل. وهذا التاريخ التذكاري يكشف الماضي النبيل المنسي عندما يتعرف فيه الإنسان على المجد البشري في فترات الفعل البطولي الذي يخلق الأبدية في مواجهة صيرورة الزمن، بحيث لم يعد الوجود الإنساني في تلك اللحظات الكلاسيكية النادرة لعبة يلهو بها الزمن، أو يبتلعه تدفق الصيرورة بلا رحمة. ولذلك لا بد من الوقوف أمام لحظات الوجود الإنساني النبيل الذي تمثل في المجد والأفعال البطولية، ولا بد من تقدير حياة العظماء الذين استطاعوا فرض الأبدية على تدفق الصيرورة من خلال أعمال مجيدة، فتغلبوا بذلك على الزوال والفناء الذي هو طبيعة كل الأشياء.»
ومع ذلك لم يغفل نيتشه مخاطر استخدام هذا النوع من التاريخ. فعندما يكون الدارسون له من البشر الذين يتسمون بالقوة ويمتلكون إرادة الفعل، أي عندما يتناوله بشر عظماء، فإنهم يستلهمون منه الشجاعة، ويتعلمون من آثار الماضي، ويحولون هذا التعلم إلى ممارسة من أجل تعزيز الحياة، أي من أجل أن يصبح الماضي في خدمة الحاضر. أما إذا تناول هذا النوع من التاريخ بشر يتصفون بالضعف، فإنهم يحولون آثار الماضي إلى أصنام جامدة، ويخنقون قوته المبدعة ولا يوظفونه لتعزيز حياة الحاضر زاعمين أن عظمة الماضي ومجده لا يمكن أن يعودا، رافعين شعارهم «انظر، هذا هو الفن الحقيقي، لا تعر اهتماما لهؤلاء الذين يريدون شيئا جديدا»،
19
وفي هذه الحالة يصبح التاريخ التذكاري «زيا تنكريا لكراهيتهم للمجد والقوة في عصرهم، كراهية تتخفى وراء إعجابهم المتخم بمجد وقوة العصور الماضية، وبهذا يقلبون المعنى الحقيقي لهذا النوع من التاريخ سواء كانوا على وعي بهذا أو لم يكونوا، ويعملون وفق شعارهم: دع الميت يدفن الحي»،
20
مثل هؤلاء البشر يتعرفون على العظمة، ولكنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثلها؛ ولذلك يخنقون الحاضر بالتوقف عن استلهام مجد وعظمة لحظات بعينها من الماضي، ناظرين إلى هذا الماضي على أنه موضوع ثابت وغير قابل للتغيير، رافضين تجربته ومعايشته من جديد.
يتميز النوع الثاني من التاريخ - وهو التاريخ العتيق - بنوع من التبجيل والطاعة والاعتراف بفضل الأسلاف على الوجود، ويميل الباحث في هذا التاريخ إلى المحافظة على جذوره وميراثه متصورا أنه يخدم الحياة «بالاهتمام بما كان موجودا في الماضي، ويريد المحافظة على الظروف التي أتى هو نفسه للوجود في ظلها لمن يأتون بعده، وهكذا يخدم الحياة.»
21
يقع المؤرخ لهذا النوع من التاريخ أسيرا لكل ما ينحدر إليه من الماضي، وهنا تكمن خطورة استخدام هذا التاريخ في رأي نيتشه؛ لأن «كل شيء ماضي وقديم ... يستحق في النهاية التبجيل، بينما كل شيء جديد يرفض ويستبعد.»
22
ويفقد المؤرخ لهذا النوع من التاريخ التوتر المبدع بين الماضي والحاضر برفضه الانفتاح على الحاضر والجديد، وبهذا يميل إلى تحنيط الحياة، بل وإلى إفنائها أيضا، ظنا منه أنه يحافظ عليها «عندما تخدم حياة الماضي ... عندما لا يعود الحس التاريخي يحافظ على الحياة، بل يحنطها، تموت الشجرة إذن بالتدريج من قمتها إلى جذورها، وفي النهاية تفنى الجذور نفسها. إن التاريخ العتيق نفسه يفسد منذ اللحظة التي لم يعد فيها ينشط ويوحي بحياة الحاضر.»
23
وفي هذا النوع من التاريخ تستمد الشعوب مقومات وجودها من اجترار الماضي والعيش فيه، بل وتتخذ منه بديلا عن الحياة في الحاضر. ونجد نموذجا على هذا النوع من التاريخ في واقعنا العربي لدى أصحاب الدعوة للعودة إلى جذور وأصول الحضارة العربية في زمانها الماضي بدون نقد أو تمحيص لاستخلاص أفضل عناصرها وتوظيفها وفق متطلبات زمننا الحاضر، واستبعاد ما لم يعد يصلح لمتغيرات الواقع الجديد. وبذلك يفرغون الحاضر من القيمة، ويكتفون بالوقوف أمام إنجازات الماضي، وكأن التقدم في نظرهم هو في طريق العودة إلى الوراء، بحيث يصبح الأسلاف هم الذين يتحكمون في التاريخ.
من هذا الموقف الذي انتهى إليه كل من النوعين الأول والثاني من التاريخ وموقفهما من الماضي تظهر ضرورة النوع الثالث، أي النوع النقدي: «إذا أراد الإنسان أن يحقق شيئا ما عظيما، فإنه يحتاج أن يسيطر على الماضي من خلال التاريخ التذكاري ، ومن يصر في الجانب الآخر على ما هو تقليدي ومبجل، فإنه يهتم بالماضي كنوع من التاريخ العتيق، أما من هو مهموم ومحزون ببؤس الحاضر، ويريد أن يلقي بالعبء بعيدا بأي ثمن، فهو وحده بحاجة إلى التاريخ النقدي، ذلك الذي يحاكم التاريخ ويدينه»،
24
ويشكل التاريخ النقدي الوجه السلبي من التاريخ التذكاري. فإذا كان هذا الأخير يمتلك الماضي ويستحوذ عليه؛ فعلى التاريخ النقدي أن يمتلك القوة لتحطيم هذا الماضي وتدميره. ولكي يعيش الإنسان عليه أن يستخدم القوة من حين لآخر ليحطم جزءا من الماضي، ويفعل هذا «بأن يحضره - أي الماضي - أمام محكمة تفحصه بنوع من الشك وأخيرا تدينه: كل ماض يستحق أن يدان؛ لأن تلك هي طبيعة الكائنات البشرية، فالعنف والضعف الإنساني قد لعبا دورا عظيما في حياة البشر.»
25
وإذا كان الماضي قد أدى دورا خطيرا في إضعاف الجنس البشري، فقد حدد نيتشه الوسيلة المثالية - في رأيه - للتعامل مع هذا الماضي أو مع ذلك التاريخ: «إن أفضل ما نفعله هو مواجهة تراثنا وطبيعتنا الموروثة بمعرفتها، ومن خلال طبيعة أخرى جديدة، نفجر الصراع المنظم ضد ميراثنا الفطري أو الموروث، ونغرس في أنفسنا عادات جديدة، غريزة جديدة، طبيعية جديدة تطرح طبيعتنا الأولى بعيدا.»
26
هكذا يدعونا نيتشه إلى التعامل بقسوة مع الماضي الذي نحن نتاج له، فنحن نتاج جرائم الأجيال السابقة وحصيلة أخطائها. وعلى الرغم من أن هذا واقع لا يمكن تغييره، فإن بإمكاننا أن نعيد تفسير ماضينا بشكل نقدي، وأن نبدع تاريخا آخر بديلا نبتكره نحن بأنفسنا بخلق طبيعة أخرى للجنس البشري.
ويعد هذا النوع الثالث من التاريخ - أعني التاريخ النقدي - أصلح أنواع التاريخ لتعزيز الحياة، وهو الذي يحاكم الماضي وينقده ويستمد منه أفضل إمكاناته وعناصره ليطورها في الحاضر، ولينطلق بها إلى المستقبل. ويدعو نيتشه كل من يمارس التاريخ النقدي أن يخلق طبيعة جديدة إذا أراد تأكيد الحياة وتعزيزها. وقد كان نيتشه على وعي بما قد يثيره قوله هذا من التساؤلات أو - إذا تحرينا الدقة - من المخاوف حول تلك الطبيعة الثانية، التي قد يفهم منها أنها طبيعة تابعة للأولى؛ ولذلك يسارع بتبديد تلك المخاوف بقوله: «لهؤلاء الذين يستخدمون التاريخ النقدي من أجل الحياة، هناك شيء جدير بالملاحظة وهو معرفة أن هذه الطبيعة الأولى كانت في يوم ما طبيعة ثانية، وأن كل طبيعة ثانية منتصرة ستصبح طبيعة أولى.»
27
ولكن إذا كان نيتشه يحثنا على ممارسة التاريخ النقدي الذي يحاكم الماضي ويدينه ويدمره لخلق تاريخ جديد، فإن خطورة استخدام التاريخ سواء كان تذكريا أم عتيقا أم نقديا تكمن في أنه يظل دائما مرتبطا بالماضي، وكأن مشكلة التاريخ تتلخص في كيفية التعامل مع الماضي؛ فكيف إذن يرتبط الوجود التاريخي بالماضي؟ إن ما يعني نيتشه من الماضي هو تأثيره على الوجود التاريخي وليس الزمان الذي مضى ويتعذر رجوعه. أي أن المشكلة تتحول إلى علاقة التاريخ بالحياة، فكيف يرتبط كل منهما بالآخر؟ يؤكد نيتشه في تأمله الثاني في كتابه «تأملات في غير أوانها» على الطبيعة التاريخية واللاتاريخية معا، وضرورة كليهما لصحة الحياة والفرد والشعب والثقافة، ولكن كيف يعيش الإنسان بشكل تاريخي وغير تاريخي في آن واحد؟ (1-2) المفارقة التاريخية عند نيتشه
قبل أن نتكلم عن المفارقة التاريخية عند نيتشه، لا بد أن نتوقف عند مفهوم المفارقة نفسه
paradox ، وهي كلمة مشتقة من الكلمتين اليونانيتين
para (أي ضد)
doxa (أي الرأي أو الظن)، والكمة تعني في مجموعها ما يكون ضد المسلم به والمعتقد فيه أو المنتظر. أما المفارقة في المنطق فتعني العبارة غير الواضحة بذاتها، وإن كانت تعبر عن حقيقة ما عكس المتوقع منها. وقد آثرنا استخدام مفهوم المفارقة في الحديث عن فلسفة نيتشه لما تعنيه الكلمة من معنى ما وراء العقل أو متجاوز للعقل. ويجب ألا يجزع القارئ من هذه المفارقة، فعندما نتحدث عن فيلسوف مثل نيتشه، فإننا لا نستطيع أن نفهمه من خلال المفاهيم والتصورات العقلية المألوفة في تاريخ الفلسفة، ولا أن نتعامل مع أفكاره من خلال قواعد وقوانين المنطق؛ لأن نيتشه فيلسوف لم يعتكف - كسائر الفلاسفة - في برج عال ليصوغ نظرية فلسفية أو نسقا فكريا، بل عاش الفلسفة وتألم بها، وكتب بقلم شاعر وتحدث بصوت نبي، مبشرا بحضارة جديدة وتاريخ جديد وإنسان جديد، فلا عجب إذن أن تتسم كتاباته بالمفارقات وهو صاحب العبارة الشهيرة: «العالم تناقض كبير.»
إذا عدنا إلى الرؤية تاريخية لزمن نيتشه وجدنا أن أصحاب النزعة التاريخية يدعوننا إلى التمسك بالحس أو الوعي التاريخي، بينما يدعونا نيتشه - هذا الفيلسوف السابق لأوانه على حد تعبيره! - إلى الحس اللاتاريخي جنبا إلى جنب مع الحس التاريخي. وهنا تكمن المفارقة النيتشوية التي يحملها هذا البحث عنوانا له والمتمثلة في السؤال الذي طرحناه منذ قليل: كيف يعيش الإنسان بشكل تاريخي وغير تاريخي في آن واحد؟ تتأكد هذه العلاقة الجدلية بين الطبيعة التاريخية واللاتاريخية للإنسان في التفرقة التي أقامها نيتشه بين الإنسان والحيوان من حيث علاقة كل منهما بالزمن. فإذا كان الأخير يعيش بشكل غير تاريخي - لا يعرف معنى الأمس أو اليوم أو الغد - وتتميز حياته بالنسيان السلبي، فإن الإنسان يتأكد وجوده الحقيقي في قدرته على النسيان، ولكنه ليس النسيان السلبي كما في حالة الحيوان، بل هو نسيان من النوع الإيجابي، ووجود الإنسان هو فحسب في «قدرته على النسيان في الوقت المناسب والتذكر في الوقت المناسب، في غريزته المفعمة بالقوة لأن يحيا بشكل تاريخي عندما يكون ذلك ضروريا، وأن يحيا بشكل لا تاريخي عندما يكون ذلك ضروريا، فاللاتاريخي والتاريخي ضروريان بنفس القدر لصحة الفرد والناس والثقافة»،
28
والقدرة على النسيان هي الشرط الأساسي والجوهري لسعادة الجنس البشري. فإذا كانت دراسة التاريخ تتطلب التذكر الفعال للحظات الكبرى في تاريخ الإنسانية، فهي تتطلب أيضا النسيان الفعال «النسيان أساسي لأي فعل، تماما كما أنه ليس النور فقط، بل الظلام أيضا أساس لحياة كل كائن حي. والإنسان الذي يريد أن يحيا بشكل تاريخي فحسب سيكون مثل من حرم قسرا من النوم، أو الحيوان الذي اضطر أن يعيش قط بالاجترار وسيظل يعيد الاجترار.»
29
ومهمة الإنسان إذن هي تطوير قدرته على النسيان من أجل الحياة؛ لأن النسيان الإيجابي الفعال له قوة مبدعة. التذكر والنسيان إذن ضروريان بنفس القدر في التعامل مع التاريخ ليكون في خدمة الحياة.
وبقدر ما تتوقف قيمة دراسة التاريخ على تأكيد الحياة وتدعيمها، تتوقف أيضا على تأكيد قوة الوعي اللاتاريخي وتدعيمه. فالتاريخ في رأي نيتشه ليس عالما خالصا كالرياضيات، ولذلك فهو يرفض الحجج «العلمية» التي تزعم أن التاريخ علم موضوعي متعلق بالحقائق التجريبية، ويؤكد أن الظاهرة التاريخية ليست ظاهرة معرفية فحسب، بل يجب توظيفها من أجل الحياة. ويتجلى العنصر اللاتاريخي في قوة توظيف الماضي لأغراض الحياة. وهو بهذا يشير إلى العلاقة بين الماضي والمستقبل التي لا يحكمها الصراع، بل إن الماضي يصبح مستقبلا؛ فالعنصر اللاتاريخي بالمعنى السابق هو الذي يوجه الماضي ناحية المستقبل، وحتى الذين يتصورون أنهم يتمتعون بالحس التاريخي فقط، فإن «النظر إلى الماضي يفرض عليهم الاتجاه للمستقبل، ويشجعهم على الاستمرار في العيش، وتحقيق آمالهم التي يريدونها ... ويعتقد هؤلاء التاريخيون أن معنى الوجود سيأتي للنور أكثر فأكثر في مسار تقدمهم، وهم يسيرون وراءهم فقط ليتعلموا فهم الحاضر وتمني المستقبل. هؤلاء ليس لديهم أية فكرة - على الرغم من انشغالهم بالتاريخ - عن أنهم في الواقع يفكرون ويعملون بشكل غير تاريخي، وأن انشغالهم بالتاريخ لا يتوقف على المعرفة الخالصة، بل على خدمة الحياة.»
30
هكذا يكون الإحساس باللاتاريخية هو الأساس الذي يقوم عليه استخدام التاريخ من أجل الحياة عندما يظهر معنى جديد للماضي، إنه يعود - أي الماضي - للإنسان مرة أخرى، ويجعله كائنا مستقبليا قادرا على أن يظهر للنور تاريخا جديدا مختلفا عما قد ظهر بالفعل.
هكذا يصبح الماضي - بالمعنى السابق - نموذجا إرشاديا مبدعا للمستقبل، فالنفاذ إلى المستقبل لن يكون إلا من خلال الماضي، بمعنى آخر ليس بإمكاننا الوصول إلى الماضي إلا عندما ندخل في المستقبل، وهي الفكرة الملغزة والمحيرة في فلسفة نيتشه، أعني فكرة العود الأبدي التي عبر عنها بلغة ميتافيزيقية غامضة. وتؤكد هذه الفكرة على أن كل اللحظات التي انقضت في حياة الإنسان ستعود مرة أخرى. وأن كل الأشياء والوقائع التي حدثت في الماضي ستعود لتحدث مرة أخرى في المستقبل. وكأن هذه النظرية تقر بأبدية الزمان أو دورية التاريخ، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يتسق هذا مع رفض نيتشه للأبدية في صورتها الأفلاطونية؟ هل قال نيتشه بالعود الأبدي للهرب من تناهي الوجود الإنساني؟ وهل العود الأبدي إنكار للأبدية وتأكيد لمفهوم الوجود التاريخي؟ أم هو تأكيد لها، أي للأبدية؟
يصعب في حقيقة الأمر تحليل البنية الداخلية لفكرة العود الأبدي على أنها مجموعة من الحجج العقلية، علمية كانت أم فلسفية. فالفكرة في جوهرها بقدر ما تلخص غموض فلسفة نيتشه ومفارقاتها بصفة عامة، فهي تؤكد أيضا البناء الزمني للعود الأبدي من خلال تأكيدها على أن كل شيء سيعود، أي أن هناك عودة لكل لحظات الإنسانية، فهل هي إذن بحث في طبيعة الزمن؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الفكرة في مضمونها تعني أن جوهر الزمن هو التكرار الأبدي، مما يجعل الباحث لفكرة العود الأبدي يعتقد أن الفروق الموجودة بين الأبعاد الزمانية محض وهم، فإما أن تتلاشى - في هذه الحالة - المسافة التي تفصل بين الماضي والمستقبل، أو أن الأبعاد الزمانية تتداخل في بعضها البعض، ويفقد الزمن وجهته الصحيحة، ومسيرته المألوفة لنا (من الماضي إلى الحاضر، ثم التقدم في المستقبل) على نحو يثير الحيرة والارتباك، مما جعل بعض الباحثين يقول بتعدد الأبنية الزمنية المتشابكة عند نيتشه: «(1) فالوجود التاريخي في جوهره متوجه نحو المستقبل، إنه يرى معنى الوجود في مسار عملية تقدمه. والوجود التاريخي يحوي داخله بذرة المستقبل، التي تتوجه بالضرورة إلى الأمام بصورة حتمية. وكل نمو أو تطور هو كامن بالقوة في هذه البذرة كما أنه يتوق باستمرار لكي يفض نفسه. (2) ومع ذلك ففي تفسير الوجود التاريخي المتجه للمستقبل، هناك دائما صدى لتحديد الصيرورة باعتبارها تحررا من الوجود الأبدي بصورة قابلة للعقاب، وقد تم التعبير عن هذا بوضوح في وصف الحياة اللاتاريخية بأنها تلك القوة المظلمة المندفعة، والتي لا تشبع من الرغبة في ذاتها. الوجود التاريخي هو ذلك الوجود الذي يعاني أو يحرك هذه القوة المظلمة المندفعة إلى الماضي، ويواجهها باعتبارها قيدا على زماننا، وهو قيد يشلنا ويعلمنا في نفس الوقت، وذلك على التحديد في سعيها واندفاعها نحو المستقبل. هكذا ينشأ تناقض بين زمن الصيرورة الذي يتلاشى في الماضي وزمن الوجود التاريخي الذي يتجه نحو المستقبل بوصفه هدف تقدمه. وينشأ السؤال المتعلق بالوجود التاريخي: كيف ينبغي أن تكون علاقته بهذه الحياة، وهي التي يقابلها باعتبارها كانت موجودة دائما أمامه، أو كيف تكون علاقته بالماضي بأوسع معانيه. وهكذا يواجه الوجود التاريخي بالسؤال عما إذا كان عليه أن يكون ماضيا لم ينقطع، أو أن يكون قادرا على أن يعيد صنع التاريخ مما قد حدث بالفعل. (3) ويتضح مما سبق أن الزمن لا يختفي ببساطة في الماضي ولا يتلاشى فيه، وإنما يرجع ثانية للإنسان ويتحداه أن يقيم علاقة معه. هذه العودة للماضي هي إلى أقصى حد البنية الأساسية والبنية الإشكالية في نفس الوقت. والتفكير فيها (أي العودة للماضي) مع التفكير في اتجاه زمني معين لا ينساب من المستقبل إلى الماضي، وكذلك لا ينمو ولا يتجه من الماضي إلى المستقبل يسقط أي فكرة عن توجه زمني ذي بعد واحد من حيث تقاطع كل العوامل التي يتحدد بها هذا التوجه الزمني أن الماضي يعود.»
31
وتضعنا فكرة العود الأبدي في مفارقة أخرى، فمن ناحية يكون الماضي مستقبلا، كما يصبح المستقبل ماضيا، ومن ناحية أخرى تصبح الزمانية والأبدية شيئا واحدا، وكأن الفكرة تعتمد في أساسها على أبدية دورة الزمن، التي تعني أزلية الماضي وأبدية المستقبل معا، عندما تصبح النهاية عودة إلى البداية، ولكن الفكرة في مجموعها تضعنا في إشكالية التعرف على - أو تحديد - الأبعاد الزمنية الثلاثة. وربما نجد في «اللحظة» الحل الوحيد لهذا اللغز المحير، فهي - أي اللحظة - تجمع كل الأبعاد الزمنية في «آن» واحدة، وهي جوهر الزمن. وتأكيد اللحظة هو تأكيد لطبيعة الزمن نفسه: «وإذا كان لدى الإنسان القوة والشجاعة ليؤكد اللحظة التي تشكل الزمن، فسيكون الإنسان - إذن - قادرا على تأكيد طبيعة الزمن نفسه، تماما مثل تأكيد الوجود الإنساني كله باعتباره غير منفصل عن قدره أو مصيره، مثل هذا التأكيد يعتمد على أن نعرف أن حياة الإنسان كلية ومصيرية، وأن اللحظة ليست مكتفية بذاتها ولا منعزلة عن كل اللحظات الأخرى؛ لأن تجربة اللحظة باعتبارها أبدية تكشف كل وجود الإنسان.»
32
يفهم من كل هذا أن كلية الوجود مفهوم يتضمن تفسير الأبدية، فكل لحظة هي كلية الوجود، وكلية الوجود هي في كل لحظة، إذن «لا يستطيع أي من الماضي أو المستقبل أن يأتي بأي شيء ... النتيجة هي نوع من اللاحركة في العلاقة بين لحظات الزمن. لكي تتحقق كلية الوجود، ليس من الضروري أن تتحرك من الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل، طالما أن كل شيء حاضر في كل لحظة.»
33
ربما يفهم مما سبق أن في كلية الوجود إنكارا للحركة، هذا بالإضافة إلى أنها تبدو كما لو كانت أبدية تتقنع بالزمانية التي تعارض الأبدية، ولكن لكي نفهم نيتشه - هذا الفيلسوف غير التقليدي - يجب أن نتحرر من المضامين التقليدية لمفهوم كل من الأبدية والزمانية اللذين وفقا لهما تعني الأبدية الوجود غير المتحرك الذي يعلو على الصيرورة، بمعنى آخر أن الأبدية تعني الواحد، والزمانية تعني التعدد؛ وذلك لأن نيتشه يفهم علاقة الواحد بالكثرة كوحدة قائمة على التعدد. ولهذا فإن الأبدي والزمني عنده ليسا متعارضين. وكما أن الوجود ليس معارضا للصيرورة، فإن الأبدية أيضا ليست معارضة للزمانية. لم يفصل نيتشه إذن الأبدي عن الزمني، بل أوجد علاقة متداخلة بينهما بما يعني أن اللحظة الحاضرة تتضمن لحظات الزمن الماضي وزمن المستقبل. ويتشكل موقف الإنسان من الحياة بأن يتعلم كيف يعيش اللحظة، وكيف أن الكائن الإنساني الأعلى ممكن في كل العصور - كما كان كذلك في الماضي - وهو الذي يشكل ثقافة العصر، وهو عند نيتشه الإنسان المبدع المتجاوز للتاريخ، المبدع للقيم. وإذا كان للتاريخ هدف، فإنه لن يكون شيئا آخر سوى عمل تلك الشخصيات المتجاوزة للتاريخ التي تعيش اللحظة وتبدع من أجل الأبدية. ويمتدح نيتشه الفرد المتجاوز للتاريخ، الذي لا يرى الخلاص في صيرورة التاريخ، وإنما يراه في العالم الذي يكتمل ويصل لنهايته في كل لحظة.
لقد رأى البعض أن فكرة العود الأبدي لا يمكنها أن تأتي بإبداع متفرد، وأنها غير منسجمة مع فكرة الاختيار الحر، بالإضافة إلى أنها تعطل شرعية الإبداع الإنساني، ولكن كيف يكون ذلك وكل فلسفة نيتشه تتجه إلى إبداع الجديد؟ ربما يزول هذا اللبس عندما نعرف أن فكرة العود الأبدي تؤكد أن على الإنسان أن يعمل أو يبدع أفضل ما عنده في اللحظة؛ وذلك لأنه على وعي بأنها ستعود إليه ثانية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تؤكد الفكرة على عنصر المسئولية الملقاة على عاتق الإنسان إزاء أفعاله وإبداعه في اللحظة التي سترتد إليه ثانية في دورة تالية. ربما تكون هذه أيضا هي إحدى مفارقات نيتشه التاريخية «إن إرادة العودة إلى الوراء لا يمكن لها أن تتحقق إلا بالإرادة المتجهة إلى الأمام. ويكون خلاص الماضي أو إنقاذه كامنا في الإرادة المبدعة للمستقبل. فالمستقبل هو الذي يتم فيه إبداع الجديد من القديم من الماضي»،
34
هكذا تتشكل من الماضي إرادة مبدعة جديدة في «اللحظة البريئة» الكامنة في المستقبل، والتي تضمن وصول الجديد والمتفرد. كل شيء سيصير، لذلك فليس هناك حقائق أبدية وليس هناك قيم مطلقة. وسواء كانت فكرة العود الأبدي إنكارا للأبدية أم تأكيدا للصيرورة، ولتدفق الزمن، فإنها مما لا شك فيه تأكيد للمفهوم الصحيح للوجود التاريخي. وإذا كان الوجود هو الصيرورة، فكل شيء يتغير. وبما أن الصيرورة في حد ذاتها ليست خيرا ولا شرا، ليست حسنة ولا سيئة، فنحن نستطيع إذن أن نفرض عليها - أي على حركاتها العشوائية - ما نريد من القيم؛ ولهذا فإن الإبداع لا يمكن تمييزه عن العماء
Chaos . وبذلك تكون الحياة - في اعتقاد نيتشه - مرادفة للعماء، أي أنها في ذاتها بلا قيمة؛ لأن المعنى والقيمة إبداع إنساني، ومن ثم يعتمد الإبداع الإنساني على العماء.
هكذا نجد أن نيتشه ، وبعد أن صدمنا بفراغ الحياة من القيمة، حاول ملء فراغ القيم من خلال مفاهيمه وتصوراته عن العود الأبدي. وإذا لم يكن الوجود الإنساني سوى تفسيرات للعماء أو تقلبات له، فإنه يترتب عليه أن الإبداع الإنساني الذي يتم في اللحظة البريئة هو ما وراء الخير والشر، و«مهمة الصيرورة - أي أن نصير نحن أنفسنا -
to become what we are
هي مهمة مزدوجة ومفارقة تتطلب قدرة الفرد المبدع على حفظ التوتر بين البراءة والتجربة، بين الجهل والمعرفة، أن يعرف متى يتذكر ومتى ينسى ... هي أيضا مهمة اتحاد غريب للعماء والبصيرة.»
35
بهذا المعنى السابق يصبح الهدف الأسمى لنيتشه من فكرة العود الأبدي هو إضفاء القيمة والمعنى على وجود الإنسان في العالم الأرضي الذي يحيا فيه؛ ليس هذا فحسب، بل إن الفكرة في ذاتها هي بمثابة دعوة للتعلق بالحياة والارتباط بها وليس إنكارها أو الزهد فيها. إن فكرة الفناء أو التناهي الذي يهدد حياة الفرد، قد تدعو الإنسان للإعراض عن هذه الحياة الفانية التي مآلها إلى زوال، وربما تكون هذه الفكرة - الفناء أو التناهي - قد شغلت نيتشه كثيرا، فأراد أن يخلص الإنسان منها بأن جعل الفناء أو التناهي مرحلة من مراحل حياة أبدية متكررة دوما؛ بحيث إن ارتباط فكرة التناهي بالعالم الأرضي لا يصرف النظر عنه. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن صيرورة العالم لا تنفي عنه صفة الدوام. من هنا جاء تأكيد نيتشه على فكرة العود الأبدي كمحاولة لإضفاء الخلود والأبدية على الحياة، وسد الفجوة بين ثنائيات أرقت الإنسان طوال تاريخه كالتناهي واللاتناهي، والصيرورة والثبات، والفناء والخلود، فلم تعد هذه الثنائيات تتصادم، بل أصبحت مرحلة من مراحل حياة أبدية يتعلق بها الإنسان وينشد المزيد منها. كما تقضي الفكرة أيضا - أي فكرة العود الأبدي - على إحساس الإنسان باستعباد الزمن، بحيث لا يصبح أسيرا للماضي، بل مسيطرا عليه، وذلك عندما يعود إليه مرة أخرى ويخضعه لإرادته، على الرغم من أن الفكرة في ذاتها تتسم بالقدرية، وهذه أيضا من مفارقات نيتشه التاريخية.
تكشف فكرة العود الأبدي عند نيتشه عن كيفية خضوع الإنسان للضرورة بحريته، وما دام العود الأبدي يعتمد على وحدة اللحظة والصيرورة، فإننا إذا أردنا اللحظة فلا بد أن نتقبل ما تفضي إليه تلك اللحظة بنوع من القدرية العمياء، بل أيضا بنوع من «حب القدر»
Amor
Fati ، فكل ما يحدث في حياتنا الإنسانية مجرد تغيرات عشوائية للعماء
Chaos
تحدث بطريقة قدرية متفردة، ولكن ماذا تعني هذه القدرية عند نيتشه؟ هل ستجعلنا نعزف عن الحياة ونعرض عنها، ما دامت تفرض علينا تقلباتها العشوائية التي ربما تأتي على غير إرادتنا؟ الواقع أن فكرة نيتشه عن حب القدر لا تزيدنا إلا إقبالا على الحياة وتمسكا بها، فعلى الرغم مما نتعرض له من معاناة وآلام في هذه الحياة، فعلينا أن نتقبلها بكل حب وشجاعة، أي أن حب القدر لا يزيد الإنسان إلا تعلقا بالحياة وإقبالا عليها.
وتدور فكرة العود الأبدي حول إثبات اللحظة التي هي في نفس الوقت إثبات للصيرورة ... جوهر الزمن. والعود الأبدي يتمثل عند نيتشه في العبء الذي يحمله الإنسان بحريته، وهو القادر على التغلب على الاستياء والحقد على الحياة من خلال تأكيد مأساة وجوده في كل لحظة. ولهذا يدعونا نيتشه إلى أن نتخيل شيطانا يهبط إلينا في ساعة وحدتنا الموحشة، ويخبرنا بأن الحياة التي نعيشها الآن، والتي عشناها ستتكرر أكثر من مرة، بل ستتكرر عددا من المرات لا حصر له، وفي تتابع بدون نقص أو زيادة. «ويعني هذا أنه ليس هناك أي شيء جديد في هذه الحياة المعادة، وكل ألم، كل بهجة، كل شيء سوف يعود إلينا مرة ومرات، كيف نستجيب لهذا الشيطان؟ هل نلقي بأنفسنا على الأرض ونلعنه، أم نجرب الألم المروع عندما نعرف أن المقدس يتحدث إلينا؟»
36
والواقع أن تساؤل نيتشه السابق يؤكد على المفارقة التاريخية، فهو يدعونا إلى الإمساك باللحظة والعيش فيها، فلا معنى - إذن - للنظر إلى الماضي في ندم إذا كان سيعود مرة أخرى، كما أنه ليس هناك ما يدعو للجزع من المستقبل ما دام سيعود أيضا في دورة أبدية، في صيرورة اللحظة التي يلتقي فيها الماضي بالمستقبل، فيصبح المستقبل ماضيا كما يصبح الماضي مستقبلا، ويتخلق الجديد من القديم ويتحول القديم إلى إبداع جديد، ولكن هل سيحقق التاريخ تقدما في هذه الصيرورة الأبدية على ما تحمله هذه العبارة من مفارقة أيضا؟ وكيف نظر فيلسوف «الإبداع في اللحظة» إلى مسار التاريخ؟ بمعنى آخر كيف سيكون مسار التاريخ في ظل هذه العودة الأبدية للأحداث؟ (1-3) الرؤية النكوصية للتاريخ
نظر نيتشه إلى التاريخ نظرة تختلف عن رؤية عصر التنوير له، فقد ساد هذا الأخير فلسفة تحدوها ثقة مطلقة في العقل البشري، وإيمان بأن مسار التاريخ ينطلق في خط مستقيم نحو التقدم. بينما نظر نيتشه إلى ذلك المسار نظرة نكوصية. ولا بد أن ننوه إلى أن النكوص المقصود في هذا المقام ليس هو المصطلح المستخدم في علم النفس، والذي يعني النكوص إلى مرحلة تخلف مضت؛ لأن ما نعنيه هو ارتداد العصور التاريخية وانتكاسها من عصور بطولية إلى عصر فساد وانهيار، مما جعل نيتشه يثور ثورة عارمة على زمنه الحاضر، أي على عصره. وفي الوقت الذي اعتقد فيه المجتمع الأوروبي الحديث أنه خطا خطوات هائلة في التقدم إلى الأمام، قام نيتشه بكشف قناع التنوير، فكان هو المشخص الأمين والصريح لتدهور الحضارة الغربية وانحدارها. وقد رأى
Stanley Rosen
أن ثورة نيتشه على عصره مرت بمرحلتين: المرحلة التشخيصية، ثم المرحلة الثورية، وتتكون هذه الأخيرة من مرحلتين فرعيتين: الأولى تدميرية، والأخرى مبدعة أو متنبئة بإبداع جديد. في المرحلة الأولى يجب أن نتحرر من الماضي بالعدمية الفعالة أو التدميرية، وفي الثانية يجب أن نقهر هذا البعد العدمي بفعل مبدع.
37
قدم نيتشه في المرحلة التشخيصية لثورته على الحضارة الغربية تحليلا تاريخيا وسيكولوجيا دقيقا لتدهور هذه الحضارة، وسلط الضوء على الظلام الكامن فيها، ثم تحول في المرحلة الثانية ولبس - في رأي ستانلي روزن - قناع الأيديولوجية الثورية، واستخدم ما يسمى بالبلاغة المزدوجة
Double rhetoric
في المرحلتين التدميرية والإبداعية للأيديولوجيا الثورية؛ فلكي يدمر كان على نيتشه أن ينشد العدمية، ولكي يبدع كان عليه أن يقهرها.
38
اتخذ نيتشه الخطوة الأولى الجريئة والخطيرة من أجل الخطوة الثانية. والأولى هي تدمير كل الأسس الطبيعية والمتعالية للقيم التراثية، والثانية هي تحرير الإنسانية من كل القيود المفروضة على الإبداع. وربما كان التدمير هو الجانب الحقيقي الأصيل في فلسفة نيتشه، والتدمير الذي يعنيه هو التحريض على الإبداع، التحريض على ظهور الإنسان الجديد أو «السوبر مان». قام نيتشه بالتدمير على أمل أن ينهض من رماد الحاضر طفل مبدع لقائمة جديدة من القيم، ويمكن أن نقول إن التدمير هو القاعدة الأساسية التي ابتدعها نيتشه لهدم المرحلة المتدهورة لزمنه الحاضر.
عندما أعلن نيتشه ثورته على التراث الفلسفي كان واعيا باللحظة التاريخية المختلفة التي يعيشها، وكان على معرفة كاملة بما أثمرته الحداثة المتأخرة؛ بحيث يمكن أن نقول إن تدمير نيتشه للتراث كان إيحاء بمرحلة جديدة من الوجود التاريخي، وإن تحليله لزمنه الحاضر قد استند إلى الرؤية النقدية التي استنكرت قراءة كانط الأخلاقية للتاريخ، وأعلنت عداءها لتأثير النزعة الهيجيلية في دراسة وكتابة التاريخ. الأولى صورت التاريخ على أنه حلقات للصراع بين الطبيعة والأخلاق، وأنه - أي التاريخ - وسيلة الإنسان الوحيدة للوصول إلى غايته ككائن أخلاقي يعيش في مملكة الغايات، أي أن التاريخ بالنسبة لكانط هو الساحة التي يتم فيها تسوية الخصومة أو التضاد بين الطبيعة والأخلاق. وقد عارض نيتشه «وجهة نظر كانط الأخلاقية وانتقد بشدة - خاصة في كتاباته التي تركها وراءه، ولم تنشر إلا بعد موته - ما سماه «ممارسات العقل الثوري» و«ثورة العقل العملي» التي تكشف عن كراهية للطبيعة والصيرورة. فالتاريخ عند كانط لا يمثل سوى مرحلة تطور أخلاقي للإنسان باعتباره غاية في ذاته
End-in-itself ، ولا تتعلق فلسفة التاريخ بتاريخ الأخلاق، بل بتحقيق الإنسان لجوهره الأخلاقي باعتباره كائنا عقلانيا»،
39
إذ يصبح الإنسان أخلاقيا من خلال ممارسته لإرادته العقلية.
أما عن هيجل فقد أعلن نيتشه عداءه لفلسفته التاريخية، هذا على الرغم من أن بعض الباحثين - مثل برنشتاين - قد فسر نيتشه تفسيرا يفهم منه أنه قدم فلسفة للتاريخ نصف هيجيلية، وقام بعقد مقارنات بين «جينالوجيا الأخلاق» لنيتشه و«ظاهريات الروح» لهيجل باعتبارهما رصدا للحركة التاريخية للفكر الأوروبي، وباعتبار أن فلسفة هيجل كشفت بالتدريج عن الحق في الفلسفة والدين؛ فالحالات المعرفية التي صورها نيتشه في معالجته لهذا الموضوع أشارت إلى وجود نوع من الضرورة الجدلية التي تنتمي إلى شكل أو نموذج التحليل التاريخي عند هيجل، ومع ذلك فقد كان نيتشه أكثر اهتماما بنقد المراحل الأولى أكثر من اهتمامه بتوضيح أن كل مرحلة تفترض مسبقا المرحلة السابقة عليها، وأن المرحلة الأخيرة تتضمن في داخلها كل المراحل السابقة.
40
كما وجد البعض الآخر من الباحثين - مثل روزن - أن في فكرة العود الأبدي عند نيتشه أثرا لمذهب هيجل عن عودة الوعي الجدلي المتطور، ففي كليهما تكمن البداية والنهاية لهذا التاريخ. كما يرى أيضا أن مذهب نيتشه في العود الأبدي قد يذكرنا بمذهب هيجل في دورية التصور والمفهوم المتطور تطورا كاملا. بمعنى أن نيتشه يستعيد تاريخ الفلسفة الأوروبية في كل من البداية والنهاية لهذا التاريخ. إن دورية التاريخ هي عودة كل المواقف الفلسفية الممكنة، وما يسميه نيتشه المنظورات الشاملة
Comprehensive persectives
أو الألواح الأساسية للقيم، ولكن السلب عند هيجل أو العماء
Chaos
الباطن في حركة التاريخ ينظم نفسه لكي يتمخض عنه كلية الصيرورة. أما عند نيتشه فإن العماء ينظم نفسه في منظورات
perspectives
أو عوالم
worlds
تعود بشكل دائم. الصعوبة عند هيجل هي كيف يتواءم المطلق مع الإنسان، والأبدي مع الزمني، وكيف يمكن للوعي المتناهي أو الوعي الذاتي أن يتحد مع المطلق، في الوقت الذي يحتفظ فيه بهويته الذاتية المتناهية. وهناك صعوبة مشابهة عند نيتشه أيضا، فعلى فيلسوف المستقبل أو الروح الحر أن يصبح خالقا لنموذج جديد للجنس البشري، ولكي يفعل هذا لا بد أن يعلم أن الذاتية والوعي الذاتي هي أشياء وهمية أو منظوران للمطلق الأساسي الذي يسميه «إرادة القوة»، لكن في قاع العماء يكون الحل عند هيجل في وحدة المتناهي واللامتناهي باعتبارهما «حقيقة الكلية الشاملة». أما عند نيتشه فيبدو أنه لا يوجد حل ما دام العماء يلغي معنى وأهمية كل إبداع أو منظور متناه،
41
ولكن هل صحيح - كما يقول روزن - أن العماء يلغي معنى كل إبداع؟ لقد سبق الإجابة عن هذا السؤال في معرض حديثنا عن العود الأبدي، حيث أكدنا الفكرة النيتشوية عن أن الحياة صيرورة، وهذه الأخيرة مرادفة للعماء، وأننا نستطيع أن نفرض على حركاتها العشوائية ما نشاء من المعنى والقيمة في «اللحظة البريئة» أي أن الفعل الإبداعي الحر، هو الذي يحيل اللحظة إلى أبدية متجددة في كل لحظة، وذلك بأن يحقق فيها إرادة القوة، ويضفي عليها القيم المعبرة عن هذه الإرادة.
وعلى الرغم من هذه المحاولات التي تقرب فلسفة نيتشه من جدلية هيجل، فقد هاجم نيتشه فلسفة هيجل التاريخية هجوما عنيفا، وخاصة في فكرة التقدم، فبينما وجد هيجل أن التاريخ العالمي في تقدم نحو الحرية، وأنه بلغ ذروته في عصر هيجل نفسه، نرى على العكس أن نيتشه يعلن تدهور التاريخ وانهياره، بل يرى فيه ارتدادا ونكوصا. ففي عرض هيجل للتطور التاريخي نجد أنه سلب كل إنجازات الإمبراطورية الرومانية في التاريخ وانتقدها بلا رحمة لكي يمجد المسيحية باعتبارها احتجاجا مشروعا على روما وعلى كل العالم الذي يحكم حكما مطلقا مستبدا. وعلى الرغم من أن طبيعة منهج هيجل تحتم عليه أن يشير إلى الإسهام الحقيقي لكل قوة سياسية كبيرة في الماضي لعبت دورا هاما في التطور التاريخي بما في ذلك العالم الروماني، إلا أنه قدم الإنجازات الرومانية على أنها أخطاء بغيضة ليبرهن بذلك على تقدم مسار التاريخ. أما نيتشه فقد ذهب إلى عكس موقف هيجل عندما أعلى من شأن الإمبراطورية الرومانية التي وجد فيها، وفي العصر اليوناني الكلاسيكي (خاصة عصر ما قبل سقراط) فترات بطولة وحيوية، وإن كان لا يعفي بعض حكام روما من النقد خاصة الذين تسببوا في أعظم كارثة في التاريخ - في رأي نيتشه - عندما سمح انحطاطهم وفساد حكمهم بانتشار الديانة المسيحية في العالم: «إن انحطاط الحكام والطبقة الحاكمة هما علة الأذى الأعظم في التاريخ، بدون قياصرة الرومان، والمجتمع الروماني، لم يكن لجنون أو حماقة المسيحية أن تصل إلى السلطة أبدا.»
42
لم يقر نيتشه بأن نيرون أو غيره كانوا حكاما عظماء، ولكنه أنكر أن الجنس الروماني كله كان منحطا، بل امتدح الحصاد الإيجابي في العصور البطولية للإمبراطورية الرومانية القديمة بلا تحفظ، وأكد أنه في اللحظة التي انتصرت فيها المسيحية بدأ التاريخ في الارتداد والنكوص.
لقد فسر نيتشه التاريخ في كتابه «جينالوجيا الأخلاق» بأنه صراع بين نوعين من الأخلاق: أخلاق السادة وأخلاق العبيد. تمثل النوع الأول في الحضارات الكبرى الأرستقراطية كالحضارة اليونانية والرومانية والجرمانية، وهي في رأيه العصور البطولية التي تميزت بالقوة والحيوية والسيادة. ويمثل النوع الثاني العصر المسيحي وما صاحبه من قيم تعبر عن أخلاق العبيد. وما التاريخ البشري إلا محاولة كل من هذين النوعين السيطرة والسيادة على الآخر، وعقد نيتشه مقارنة بين صحة وقوة الإمبراطورية الرومانية وبين ضعف ومرض الديانة اليهودية-المسيحية عبر القرون، فبعد الصراع الميلودرامي التاريخي بين الإمبراطورية الرومانية والدين المسيحي، انتصرت المسيحية واكتسبت شعبيتها الكبيرة، وازداد توهجها بشكل لا يمكن تجاهله، وانتصرت معها قيم العبيد، إلى أن جاء عصر النهضة الذي تألق بعودة النموذج الكلاسيكي - وهو النموذج النبيل في رأي نيتشه - لتقييم كل الأشياء، ومن ثم عاد مجد روما من جديد، وبدت الإمبراطورية الرومانية وكأنما استيقظت من الموت، وبدأت المثل والقيم الأرستقراطية تنهض من جديد، واستعادت أخلاق السادة، ولكن سرعان ما انتصرت الروح العبودية للديانة اليهودية-المسيحية مرة أخرى في حركة الإصلاح الديني التي قام بها مارتن لوثر، ودبت الروح في الكنيسة مرة أخرى، كما انتصرت أخلاق العبيد ثانية مع الثورة الفرنسية، وانهارت معها آخر النظم النبيلة في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر: «مع الثورة الفرنسية انتصرت اليهودية مرة أخرى على النموذج الكلاسيكي، وفي هذا العصر كان المغزى الأكثر عمقا وأهمية هو انهيار آخر نبالة سياسية في أوروبا، انهارت في القرنين الفرنسيين السابع عشر والثامن عشر تحت تأثير غرائز العامة التي اتصفت بروح الانتقام والحقد، وسادت البهجة الكبرى، أي سادت نزعة حماسية صاخبة لم يسمع بها على الأرض من قبل.»
43
ولكن مع ظهور نابليون عادت قيم السادة الأرستقراطية مرة أخرى، ولكن سرعان ما سقطت وزالت بسقوط نابليون الذي اعتبره نيتشه آخر شعاع نور لقيم السادة في أوروبا. وهكذا وصل نيتشه إلى إدانة واتهام العصر الحديث الذي نتج عن دين العبودية، وعندما صرح بأن آخر النظم النبيلة في أوروبا قد انهار مع الثورة الفرنسية، فقد أعطى للصراع بعدا سياسيا، وواصل رؤيته النكوصية للتاريخ التي امتدت من هجومه على الإنسان الذي روضته الديانة المسيحية وأضعفته ، إلى الهجوم على الإنسان الحديث - الذي هو امتداد لتلك الديانة - وعلى عصره الحديث الذي يمثل سيادة قيم العبيد المتدهورة.
ولكن كيف يمكننا - في ضوء نظرية نيتشه عن العود الأبدي السابق شرحها - أن نفسر هذه الرؤية النكوصية للتاريخ؟ ألا تمثل هذه الرؤية نوعا من التناقض في فكر نيتشه؟ ألا يمكن - وفق الدورة الأبدية للتاريخ - أن تعود العصور البطولية مرة ومرات أخرى كثيرة؟ هذه التساؤلات وأخرى غيرها عديدة لا نجد لها إجابة شافية عند نيتشه، وهذه أيضا إحدى مفارقاته؛ إذ يصعب تصور رؤيته النكوصية للتاريخ في ضوء نظريته عن العود الأبدي، وهي النظرية التي تنهار تماما إذا ما حاولنا تحليلها تحليلا منطقيا دقيقا، وذلك بسبب افتقادها إلى المعقولية، وإن لم يكن هذا غريبا على فيلسوف هو ضد إعمال العقل. (2) كشف قناع الزمن الحاضر (العصر الحديث) بين نيتشه وروسو
يمثل الزمن الحاضر مفترق طرق حاسما في كل فلسفة للتاريخ: فكيف نظر نيتشه إلى زمنه الحاضر؟ وهل اختلفت رؤيته التاريخية أم تشابهت مع من سبقوه من فلاسفة التاريخ؟ في واقع الأمر إن رؤية نيتشه للزمن الحاضر اختلفت عن أوغسطين - على سبيل المثال - الذي اجتمعت كل أبعاد الزمن عنده في الحاضر، فالإنسان عنده لا يتحكم في التاريخ؛ لأنه محدد سلفا من قبل العناية الإلهية، كما اختلفت أيضا عن هيجل الذي رأى - كما شرحنا فيما سبق - في مسار التاريخ تقدما بلغ ذروته في عصره، ولم يكن متشابها مع ماركس الذي كان انتصار التاريخ عنده مضمونا بحكم الحتمية التاريخية ووفق تصوره للتطور الحتمي للتاريخ. كما اختلفت رؤيته أيضا عن فلاسفة التاريخ في عصر التنوير الذين آمنوا إيمانا مطلقا بتقدم وازدهار التاريخ في عصرهم. في حين نرى عند نيتشه هجوما عنيفا على زمنه الحاضر واتهاما لإنسان العصر الحديث بالضعف عبر عنه تعبيرا شاعريا في كتابه «هكذا تكلم زرادشت».
يصعد نيتشه كراهيته ونفوره من زمنه الحاضر إلى درجة التحذير من المستقبل، بحيث نستطيع أن نقول إن فلسفته في التاريخ تطورت في ضوء قلقه على المستقبل الإنساني، كما تطورت من تأمل الماضي بجانبيه، جانب التدهور وأسبابه، وجانب الأمل الذي يؤسس أحد أركان فلسفته التاريخية، وهي أنها فلسفة أرادت أن تحدث نوعا من إثارة التفكير والتحريض على الفعل لترتقي بالمستقبل الإنساني عندما أكد بشكل مثير ومحرض الاحتياج الإنساني للسيطرة على التاريخ: «ما هو إذن منتهى آمالنا هو أن نتوجه نحو إيجاد فلاسفة جدد وليس هناك اختيار، نحو أرواح قوية وأصيلة بالقدر الذي يزودنا بالدوافع التي تجعلنا نقيم تقييمات مضادة، ونعيد التقييم ونقلب ما يسمى بالقيم الأبدية نحو رواد، رجال مستقبل يشغلون أنفسهم في الوقت الحاضر بربط العقدة التي تضطر إرادة العامة إلى السير في طرق جديدة، نحو تعليم الإنسان أن مستقبل الإنسان هو إرادته، وأن مستقبله متوقف على الإرادة الإنسانية، وأن نعد لمخاطرات عظمى ومحاولات شاملة لإحلال النظام والتهذيب عن طريق وضع نهاية للهيمنة المرعبة للاعقل والمصادفة التي سميت حتى الآن باسم التاريخ.»
44
وإذا كانت رؤية نيتشه التاريخية قد اختلفت عن رؤى فلاسفة التاريخ السابق ذكرهم، فهي قد تشابهت إلى حد ما مع رؤية جان جاك روسو (1712-1778م)، حيث نظر كلاهما إلى الزمن الحاضر نظرة نقدية فاحصة عبرت عن رؤية نكوصية للتاريخ. (2-1) الرؤية النقدية للعصر الحديث بين نيتشه وروسو
لقد شهد العصر الحديث مفكرين كبيرين قدما تحليلا وافيا لتدهور الحضارة الغربية والإنسان الحديث، هما نيتشه وروسو، فعبرا عن أكبر تيارين نقديين للحضارة التي أنتجها العصر الحديث. إن أفكارهما ما زالت تخضع لتفسيرات متنوعة، كما أن كليهما قد وضع مشكلة التاريخ والإنسان في نطاق أوسع وهو مشكلة الحضارة. لقد قدما تحليلا سيكولوجيا لإنسان الزمن الحاضر، وبحثا عن العلل التاريخية التي أصابته - في رأيهما - بالاضطراب العصبي. وعلى الرغم من هجوم نيتشه على روسو، إلا أن هذا الأخير لعب دورا هاما في تفكير نيتشه السياسي، هذا برغم المحاولات العديدة لنزع الصفة السياسية عن فلسفة نيتشه، وحصرها في مجال الأخلاق فحسب. اهتم كلا الفيلسوفين بانحلال الحضارة الإنسانية، واتفقا في نقدهما للثقافة الحديثة المتدهورة. وقدم كلاهما تاريخ التطور الأخلاقي والسياسي للإنسان، وبحثا في أصول المجتمع البشري، كما فسرا مصير الإنسان من خلال الطبيعة المتناقضة للحياة السياسية والأخلاقية في العصر الحديث. وإذا كان كل من نيتشه وروسو قد سعى إلى تحويل الطبيعة البشرية في سياق حضارة متدهورة، فإن ما يفرق بينهما هو تفسير كل منهما لمشكلة التدهور التي يمكن رؤيتها في مفاهيمهما المتعارضة لكيفية وصول إنسانية المستقبل إلى ذروتها.
كان نيتشه على وعي بأن التأثير الهائل لروسو على الثقافة والفلسفة الألمانية مشابه تماما لتأثير الثورة الكوبرنيقية على كانط في فلسفته المعرفية والأخلاقية. وربما يعود هذا إلى أن روسو في رأي البعض هو «أول مفكر يبين تناقضات الحياة السياسية الحديثة «بين الفرد والمجتمع، الإنسان والمواطن، الاستقلال والتسلط، الحرية والضرورة ... إلخ» والتفكير في التناقضات هو الموضوع الرئيسي في الفلسفة الألمانية منذ كانط»،
45
لذلك كان لفكر روسو السياسي تأثير كبير على الفلسفة الألمانية، وبخاصة على كانط وهيجل وماركس، حيث فسره البعض بأن ليبرالي، وفسره البعض الآخر بأنه شمولي. وقد سمحت تعارضات ومفارقات فكر روسو بهذه التفسيرات المتنوعة، خاصة في العلاقة بين الفرد والمجتمع، عندما أقر في كتابه «أصول التفاوت الاجتماعي» (عام 1755م) بحقوق الفرد، ثم عاد في العقد الاجتماعي (عام 1762م)، وأخضع كل هذه الحقوق للدولة. وكان نيتشه على وعي أيضا بالدور الذي أداه روسو في تشكيل الحداثة، وكيف ألهمت كتاباته الثورة الفرنسية. وعلى الرغم من معارضة نيتشه لروسو، إلا أن من الممكن أن نعتبر هذا الأخير هو مفتاح فلسفة نيتشه - كخصم له - في تفسير الحداثة، حتى لقد ذهب البعض إلى القول بأن نيتشه كناقد للحضارة الغربية في القرن التاسع عشر يمثل ما كان يمثله روسو في القرن الثامن عشر في نقده النافذ لتلك الحضارة. لقد أثار كلاهما التفكير في العديد من القضايا والأسئلة المتعلقة بقيمة الحضارة التي ما زالت أصداؤها تتردد حتى الآن. فما أثاره روسو عن آثار الحضارة الصناعية لم يفقد معناه في عصرنا الإيكولوجي الآن، بينما تشخيص نيتشه للعدمية وانقلاب القيم والحالة المتدهورة للحضارة الإنسانية ما يزال - ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين - كابوسا لم نستيقظ منه بعد.
تعرضت أفكار كل من نيتشه وروسو لقراءة سياسية وأخلاقية مزدوجة، فقد اتهم كل منهما بأن له نزعة فردية أخلاقية، كما كان لأفكارهما صدى لدى بعض النظم الشمولية في القرن العشرين، عندما ربط البعض فكر روسو بالأحداث الدامية والمفزعة للثورة الفرنسية، وربط البعض الآخر فكر نيتشه بالمحاولة النازية للسيطرة على العالم، ثم الأحداث الدامية للحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من إعلان نيتشه أنه ضد روسو، وأنه تحدى نزعته الرومانسية وتشاؤمه التاريخي، إلا أن هناك أوجه تشابه بينهما، كما أن هناك أيضا مسافة تفصل بينهما واختلافات في توجهاتهما.
لقد اختزل روسو مشكلة الحضارة في مشكلة الأصالة، أي البحث عما هو أصيل، وما هو صناعي في طبيعة الإنسان، وحصر المشكلة في التنظيمات الاجتماعية الفاسدة التي تقف في طريق طبيعتنا الأخلاقية الحقيقية، فبحث عن الطبيعة الخيرة للإنسان التي لم تعد موجودة، وربما لم توجد أبدا بعد أن أفسدها التطور التاريخي للبشرية. بينما المشكلة بالنسبة لنيتشه هي في الحقيقة مشكلة التاريخ وطبيعة الزمن، بحيث تكمن مشكلة الحضارة الإنسانية لديه في إخفاقها في تأسيس علاقة أصيلة بالماضي. فالإنسان لا يمكنه وقف صيرورة الزمن، ولكنه يشاهد فقط هذه الصيرورة دون أن يشارك فيها ليرى نفسه في النهاية وقد أصبح ضحية الزمن مما يؤدي به إلى النقمة على الحياة، ومحاولة الانتقام منها. وبما أنه ليس بإمكاننا العودة إلى الوراء بسبب تعاقب الحياة وأنفسنا والآخرين - إذ ليس بإمكاننا وقف عجلة الزمن ولا تغيير ما قد حدث بالفعل - فإن المشكلة التي تواجهنا كبشر محددين بالوعي التاريخي هي كيف نقيم علاقة أصيلة مع الماضي، وذلك بأن نصبح تاريخيين، حتى ولو تحقق هذا عن طريق المفارقة التاريخية - التي تحدثنا عنها من قبل - أي بأن نتعلم أيضا كيف نصبح لا تاريخيين.
هذه المفارقة التاريخية نجدها أيضا عند روسو - وإن كانت بشكل آخر مختلف - فإذا كان البعض يطلق على روسو وصف «نبي التاريخ»، فإنه لم يجد في التاريخ ما يفسر أو يحل له اللغز الغامض، وهو إصلاح ما فسد من الأخلاق، لا يمكن العودة إلى البراءة الطبيعية الأولى، إلى العصر الذهبي، ولهذا السبب لا يمكننا استحضار الماضي، فليس أمامنا إذن سوى المستقبل الذي يكمن فيه الأمل في الإصلاح، بل إنه الفرصة الوحيدة لتحقيق السعادة الإنسانية الحقيقية والعدل والمساواة والانسجام في العلاقات الاجتماعية، ولكن قانون التطور الذي بين أنه لا عودة بالزمن إلى الوراء، قد بين أيضا أن المستقبل قد حطم القيم الإنسانية. وهكذا وجد روسو نفسه في مصيدة الزمن! فسخط على الحضارة التي أثمرتها الصيرورة الزمنية، وأصبح عدوا للزمن الذي لا يمثل بالنسبة له سوى التغير والانحدار والتدهور، ومن ثم يئس روسو تماما من التاريخ، ونقم على كل ما يأتي به التطور التاريخي الذي حطم بساطة الإنسان وسعادته وشفافيته. وسواء كان روسو على وعي بما يواجهه تفكيره من مشكلة الحضارة أم على غير وعي، فإن تفكيره كان مصحوبا بيأس عميق. لقد وضع روسو نفسه - ووضعنا معه - في مواجهة مع الطبيعة من جانب والمجتمع المدني من جانب آخر.
أما عن نيتشه فقد وضع مشكلة الحضارة لا في داخل الحضارة نفسها، بل في الأخلاق. وإذا كان روسو يرى أن الحضارة الحديثة لم تجلب معها غير الشر، فإن نيتشه أحال المشكلة إلى إعادة تقييم ما نسميه بالخير والشر، أي إعادة تقييم كل القيم. إن مسألة الحضارة لا تتوقف في رأيه على الخيرية الطبيعية للإنسان التي أفسدتها أمراض المجتمع الحديث، وليست في إصلاح أصول الأخلاق الإنسانية، بل هي في إعادة تقييم تلك الأخلاق إلى حد تجاوزها لنفسها. وحقيقة الأمر أن المشكلة في إطارها الأوسع هي مشكلة التاريخ، وهي الفكرة المهيمنة على كل فلسفة نيتشه، والتي تعبر في أعماقها عن القلق على مصير الإنسانية، بحيث يصبح التجاوز الذاتي للأخلاق هو في الحقيقة التغلب على مشكلة التاريخ والميتافيزيقا والحضارة والتراث.
46 (2-2) أصول المجتمع البشري بين نيتشه وروسو
لم يتفق نيتشه وروسو في نقدهما للحضارة الغربية فحسب، وإنما اتفقا أيضا في تأكيدهما أن أصول المجتمع البشري تكمن في أن الإنسان كائن تاريخي، وإن كانا قد اختلفا في النتائج التي توصلا إليها في بحثهما في هذه الأصول. وليست فكرة البحث عن الأصول غريبة عن تاريخ الفلسفة، ولكن «السمة غير المألوفة لجينالوجيا نيتشه في بحثه عن الأصول تفترض أنه لا يوجد شيء في هذه الأصول، فبينما يبحث الآخرون لإيجاد شيء ما في نقائه الأصلي، شيء ما لم تفقده الثقافة ولا التاريخ بريقه، ينكر نيتشه فكرة البنية الأساسية التي وجدت في تاريخ الفلسفة بكل أشكالها (الجوهر - الذات - الروح - الشيء في ذاته) وإذن فلا يوجد ما يسمى بالأخلاق الطبيعية. لقد بحث كل من نيتشه وروسو عن أصول النظام الاجتماعي ومشكلة الحضارة، وعلى الرغم من بدايتهما من فرضيات متشابهة أهمها أن الإنسان كائن تاريخي، فقد توصل كل منهما إلى نتائج متباينة. انتقد نيتشه مبدأ الخيرية الأصلية لطبيعة الإنسان التي تغنى بها روسو، ووصفه بأنه مبدأ مضلل، فليست التنظيمات الاجتماعية الفاسدة هي التي دمرت هذه الطبيعة الخيرة، وعندما تسقط تلك التنظيمات أو عندما يتم إصلاحها، فلن تظهر من جديد تلك الطبيعة الخيرة المختفية أو المكبوتة. إن هذه الطريقة في البحث عن الأصول - في رأي نيتشه - تمثل بحثا مضللا لمعرفة أنفسنا، بل إن النزعة الأخلاقية الطبيعية والإيمان بالخيرية الطبيعية عند روسو هي التي منعته من إيجاد حل للغز مشكلة الحضارة التي عبر عنها بلغة متشائمة.»
لذلك جاءت جينالوجيا الأخلاق لنيتشه ولم تنظر لمشكلة التاريخ على أنه بحث عن الأصول فحسب، ولم تكن هجوما على قيم العصر الحديث فقط، بل كانت أيضا ضد طريقة معينة لتفسير أصول ومعنى وأنساب تلك القيم. ولم تهدف الجينالوجيا إلى اكتشاف جذور الهوية الإنسانية، ولكنها سعت لإقامة نماذج مختلفة لما أبدعه الكائن البشري كفرد؛ ولذلك تؤكد الجينالوجيا على خصوصية وتفرد الأحداث التاريخية. وقام نقد نيتشه الجينالوجي على أساس منهجه في التاريخ، وهو أنه ليس هناك حقائق تاريخية، بل هناك تفسيرات أخلاقية لما نسميه حقائق. لذلك فهو يحاول كشف معنى التاريخ من بحثه الجينالوجي في أصول وتطور الأخلاق.
كان العدل هو الفرضية الأساسية التي ميزت بدايات الجنس البشري عند روسو، بينما كان الظلم هو البديهية الأساسية لتلك البدايات عند نيتشه. فقد مجد الأول الحالة البدائية الأولى للإنسان التي تمثل بالنسبة له مرحلة ما قبل الاضطراب العصبي الذي أصاب الإنسان في العصر الحديث. وتطلع روسو إلى العصور الأولى عندما كان البشر - على الرغم من أن طبيعتهم الإنسانية لم تكن أفضل مما هي عليه في العصر الحديث - يتمتعون بوجود آمن، وبوضوح كل منهم للآخر، وكانت هذه الشفافية في العلاقات الإنسانية تمنع تطور الرذائل كالغرور والتكبر التي أفسدت الإنسان الحديث. وبالغ روسو في هذه الصورة ليسلط الضوء على شرور ومساوئ العصر الحاضر، ويرثي حالة الخداع والعبودية التي سادت العادات الحديثة. أعلن روسو في خطابه عام 1750م بمناسبة حصوله على جائزة بحثه عن تقدم العلوم والفنون «أن أناس العصر الحديث هم «قطيع من البشر» أطلق عليهم اسم «العبيد السعداء» الذين يتجاهلون فقرهم وبؤسهم، بحيث أصبحوا كتلة من البشر ليس لها ملامح وصورهم بشكل منفر وكريه.»
47
نظر نيتشه إلى روسو على أنه فيلسوف سياسي للمرارة والحقد والنقمة في العصر الحديث، وعلى أنه أول رجل حداثي صور الحضارة بشكل يوحي بالشفقة على الإنسان مما يؤدي إلى الشعور بالاحتقار والاشمئزاز منه، خاصة عندما أعلن للناس في تصدير خطابه الثاني عن أصول التفاوت الاجتماعي بأنه «ساخط على وضعكم الحاضر، بسب ما يهدد سلالتكم التعيسة، ربما تتمنون لو كانت لديكم القوة للعودة إلى الوراء، وسيكون هذا الشعور إطراء لأسلافكم، ونقدا لمعاصريكم، ورعبا لسيئي الحظ الذين سوف يأتون بعدكم.»
48
ويرى نيتشه أن المرارة والاستياء الواضح في فكر روسو هما نتيجة النزعة الأخلاقية التي وجهت كل تفكيره.
وأخيرا فقد قدم كل من نيتشه وروسو صورة متعارضة عن أصول المجتمع البشري وأزمة الإنسان الحديث التي ردها روسو إلى المنافسة والاغتراب الذاتي، وافتقاد حالة المساواة الطبيعية الأولى؛ ولذلك لم توجد عنده سلالة أنساب للسيد والعبد (التي نجدها عند نيتشه)؛ لأنها لم تكن من السمات الطبيعية الأولى للجنس البشري، وإنما ظهر هذا التقسيم التراتبي للمجتمع مع تطور التنظيمات الاجتماعية التي سببت اغتراب الإنسان عن نفسه، فتدهورت أحواله بدلا من أن يرتقي بطبيعته، وظهرت المنافسة التي أثمرها التطور التاريخي، وانتهت إلى تحقيق سعادة الفرد على حساب الآخرين. بينما نجد عند نيتشه أن أزمة الإنسان الحديث أعمق بكثير من تلك المنافسة والاغتراب- الذاتي اللذين يتحدث عنهما روسو، بل ذهب نيتشه إلى العكس من هذا عندما رأى ضرورة الحفاظ عليهما، وأيضا على النظام التراتبي للمجتمع؛ ولذلك نجد عنده جينالوجيا السيد والعبد، حيث إن السيادة هي السمة الطبيعية، والسيد هو الشكل الطبيعي للإنسان، وكما أن هناك سادة، فهناك أيضا عبيد. وكانت مهمة نيتشه في الجينالوجيا أن يقدم هؤلاء السادة باعتبارهم تمثلات عليا للوجود. وإذا كان روسو يؤكد أن التراتبية والتنافس ما هما إلا متغيرات تاريخية، فإن نيتشه يؤكد من جانب آخر أن المجتمع التراتبي هو المجتمع الطبيعي. وإذا كان روسو ينشد العودة إلى الخيرية الطبيعية التي افترض أنها كانت الفطرة الطبيعية للبشر، فإن نيتشه ينشد العودة إلى العدوانية أو السلوك الشرس الذي يحقق السيادة. وبينما يتمنى روسو أن تحقق البشرية «خيريتها الطبيعية» يدعو نيتشه البشرية أن تتعلم كيف تصبح «أكثر شرا». (2-3) مأساوية (تراجيدية) الوجود التاريخي
كان نيتشه على وعي تام بالغموض الذي يميز علاقة روسو بالتاريخ. كما كان على اقتناع بأن الوجود التاريخي مأساة، ولكنه رأى أنه مأساة ضرورية، وأن على الكائنات البشرية أن تكون قوية وشجاعة بقدر كاف لتؤكد السمة المأساوية لوجودها، وإلا فلن يبقى أمامها سوى الهروب من هذا الوجود للبحث عما وراء هذا العالم، فيصبحون ناقمين على الحياة، منكرين واقعها القاسي والمتغير والفاني، لا هروب من الزمن إذن، فهو قانون الحياة حيث كل شيء يفنى ويموت، ولكن كيف يتغلب الإنسان على المأساوية التي وجد نيتشه أنها طابع الوجود الإنساني ؟ هل بروح الاستياء أو الانتقام أو الضغينة التي زعم - أي نيتشه - أنها هي الحل الذي هرب إليه روسو في مواجهة هذه المأساة؟
تؤدي فكرة الضغينة
resentment
دورا هاما في فلسفة نيتشه؛ إذ يفسر من خلالها تاريخ الأخلاق كله بوصفه تاريخا تتميز فيه أخلاق السادة عن أخلاق العبيد؛ ولذلك تسعى فلسفة نيتشه بأكملها إلى تحرير الأرواح الحرة من هذه الروح الانتقامية التي تولدت من المعاناة. ويصف نيتشه روسو بأنه فيلسوف المرارة والاستياء الذي أضفى على حياته الشخصية، ومعاناته معنى كليا، فبدلا من أن يبحث عن مصدر معاناته ألقى باللوم والمسئولية على عاتق المجتمع: «رجال مثل روسو يعرفون كيف يوظفون ضعفهم. إن عجزهم ورذائلهم تبدو كما لو كانت سمادا لمواهبهم، فإذا كان روسو قد نعى فساد وانحلال المجتمع باعتباره نتيجة باعثة على الأسى على الحضارة، فهو قد فعل هذا على أساس تجربة شخصية. إن المرارة التي نتجت من هذه التجربة أعطت لإدانته الحافة الحادة وسموم السهام التي أطلقها، إنه يفضي بهمومه كفرد أولا وقبل كل شيء، ويعتقد أنه يبحث عن الشفاء الذي يؤثر بشكل مباشر على المجتمع، ولكنه سيكون من خلال المجتمع، وبشكل غير مباشر فائدة أو منفعة له هو نفسه»،
49
ويعبر موقف الاستياء عن نفسه بشكل سلبي يتكشف - في رأي نيتشه - في أخلاق العبيد: «ليس هناك أكثر رعبا من طبقة العبيد البرابرة الذين ينظرون لوجودهم على أنه ظلم، ويستعدون الآن ليثأروا ليس فقط لأنفسهم، بل لكل الأجيال،
50
فبدلا من أن ينتصر الفرد الذي يشعر بمأساة الوجود على طبيعته المدمرة لذاته وللآخرين، وبدلا من أن يثبت نفسه ووجوده بروح نبيلة، وبدلا من أن يقهر روح المرارة والاستياء المؤذية، نجده يسعى للتعويض عن ذلك بالانتقام، ويدافع عن نفسه بالأخلاق السلبية - التي هي نموذج لوعي العبيد - بأن يعلن أن الآخرين (السادة أو المجتمع) هم الأشرار، ويزعم لنفسه العكس من ذلك بأن يفترض الطيبة والنقاء في طبيعته.»
لقد أضفى روسو على الطبيعة السمة الأخلاقية بأن صور الحالة الطبيعية الأولى على أنها بريئة وغير فاسدة. بينما يرى نيتشه أن الطبيعة في حد ذاتها دورة صماء تتسم باللامبالاة، الطبيعة في نفسها عبث، تدور دورتها بلا هدف، وبدون عدل ولا رحمة؛ ولهذا لا يمكن أن نسم دورتها العمياء بالسمة الأخلاقية، ولا أن نسلبها إياها فنقول إنها لا أخلاقية. ولذلك يسخر نيتشه من الفلسفة الرواقية التي تطالبنا أن نعيش وفقا للطبيعة، أي أن نعيش وفق المبدأ الكلي الكامن في الطبيعة، أي وفق التجانس والحكمة الكلية.
51
فإذا كانت الطبيعة في أعماقها - عند نيتشه - هي التعريف السابق شرحه، فكيف نعيش وفقا له؟ إننا بهذا المعنى لن يكون بإمكاننا أن نفكر في الوجود الإنساني باعتباره نتيجة تصميم أو إرادة أو هدف خاص، لن يمكننا أن نتصور الإنسان خاضعا لمحاولة تحقيق نموذج للسعادة أو الأخلاق، فنحن الذين اخترعنا مفهوم الهدف، والواقع أنه ليس هناك هدف للوجود الإنساني أي أن الهدف مفتقد. كما أنه ليس هناك من يفرض على الإنسان صفاته: لا الله ولا المجتمع ولا الأسلاف أو الآباء، ولا يوجد من يفرض عليه أفعاله؛ لأن على الإنسان أن يصبح نفسه.
لا توجد إذن إنسانية طبيعية في رأي نيتشه، ولكن الإنسان يصل إلى الطبيعة بعد صراع طويل، وقد وجد ذلك في إنسان القرن التاسع عشر: «إن هناك علامات على أن الإنسان الأوروبي في القرن التاسع عشر أقل خجلا من غرائزه، لقد خطا خطوة نحو السماح لنفسه بنزعة طبيعية غير مشروطة، أي لا أخلاقية (بالمعنى التقليدي للأخلاق)، وبدون أن يزداد إحساسه بالمرارة. يخيل لبعض من يسمعون هذا كأن الفساد قد تقدم واستشرى. من المؤكد أن الإنسان لم يقترب من الطبيعة التي يتكلم عنها روسو، لكنه حقق خطوة أخرى نحو التقدم في الحضارة التي احتقرها أو مقتها روسو.»
52
لا يمكن لنا إذن - في رأى نيتشه - أن نعيش وفقا للطبيعة، بل أن نعيش وفقا للحياة، وكأنه استبدل الحياة بالطبيعة، أي أن نعيش وفقا لأعماق الحياة وإرادة الحياة.
قد يفهم مما سبق أن نيتشه ينكر فكرة العودة إلى الطبيعة، بينما حقيقة الأمر أنه ينشد العودة إلى الطبيعة، ولكن مفهومه عن تلك العودة مختلف ومعارض لمفهوم روسو، فهو يصرح في نص له بعنوان التقدم في نظري: «أنا أيضا أتكلم عن العودة إلى الطبيعة على الرغم من أنها ليست عملية رجوع إلى الوراء، بل انطلاق أو صعود إلى أعلى، نحو طبيعة ونزعة طبيعية عالية حرة، بل مرعبة، طبيعة قادرة على أن تقوم بالمهام العظمى كما هي قادرة على أن تلعب معها. على سبيل المثال نابليون كان مثلا للعودة إلى الطبيعة، أما روسو فلا.»
53
ويميز نيتشه بين ثلاثة نماذج للإنسان يحدد من خلالها نوع «العودة إلى الطبيعة» الذي نشده ووجده في أحد هذه النماذج: النموذج الأول يمكن أن نطلق عليه نموذج إنسان روسو، فقد رسم نيتشه صورة له انتهت بتصوير روسو نفسه على أنه حالم يوتوبي وثوري اجتماعي وفي نفس الوقت له موقف من الحياة يتسم بالمرارة والنقمة؛ فصرخة روسو للعودة إلى الحيوية الطبيعية إنما تنم عن احتقار الإنسان لنفسه وتوقه للعودة إلى الوراء. أما عن النموذج الثاني فهو إنسان جوته، وهو النموذج المضاد للنوع الأول، فقد مجد نيتشه جوته باعتباره تجسيدا لهذا النموذج الثاني الذي أطلق عليه وصف النموذج الديونيسي. ويتحدث نيتشه عن شمولية جوته، بمعنى التأليف بين العقل والحساسية، بين المشاعر والإرادة: «ليس جوته مجرد ألماني، بل هو حدث أوروبي محاولة رائعة لتجاوز القرن الثامن عشر، أو التغلب عليه عن طريق العودة إلى الطبيعة، والصعود إلى النزعة الطبيعية لعصر النهضة، لقد استطاع أن يقهر ذاته ويتجاوزها
Self-overcoming ، وأن يحمل في صدره أقوى غرائز هذا القرن: عاطفيته، تعبده للطبيعة وروحه المضادة للتاريخ، ومثاليته وعدم واقعيته وثوريته.»
54
فالعودة إلى الطبيعة التي يفضلها نيتشه، ووجدها متجسدة في جوته نفسه - وهي بالطبع مختلفة عن العودة إلى الطبيعة كما هي عند روسو - تتمثل في رمز الانتصار على الرومانسية أو قهرها وتجاوزها، كما تؤكد السمة اللاأخلاقية للوجود، والتي تعني أن الوجود في حد ذاته ليس وجودا أخلاقيا، ولكننا نحن الذين نضفي عليه التقييم الأخلاقي، كما تؤكد أيضا تبني موقف من الحياة فيما وراء الخير والشر، موقف تأكيد وتعزيز للحياة وليس احتقارها، ويأتي أخيرا إنسان شوبنهور الذي يرفضه نيتشه لسبب بسيط وهو رفضه - أي شوبنهور - للحياة وعزوفه عنها.
ويعود هجوم نيتشه على روسو إلى تفسير هذا الأخير لمشكلة الحضارة التي زعم أنها أفسدت الوجود التاريخي للإنسان، فقد كتب نيتشه تحت عنوان ضد روسو: «لسوء الحظ لم يعد الإنسان شريرا بما فيه الكفاية؛ إن خصوم روسو الذين يقولون إن الإنسان حيوان مفترس هم لسوء الحظ مخطئون. إن لعنة الإنسان لا تكمن في فساده، بل في مدى ما وصل إليه من الرقة والأخلاقية.»
55
ويتضح من هذا النص هجوم نيتشه على الفهم التقليدي للتقدم الحضاري، وإعادة تقييمه لمشكلة الحضارة من جديد، فهو لم يدحض الحجة القائلة بأن الحضارة قد أفسدت الإنسان، بل هو يصرح بأنها لم تفسده بما فيه الكفاية، الأمر الذي يفهم منه أن التدهور أو الانحلال هو أحد المظاهر الضرورية للحياة واللازمة لنموها وبقائها، وربما كان أيضا هو أحد الأسباب التي تضفي المأساوية على الوجود الإنساني. وبذلك لا يمكن لنا أن نفسر العدمية بأنها هي علة التدهور، وإنما هي النتيجة المنطقية له: «إن كل حركة مثمرة ومفعمة بالقوة تحدثها الإنسانية تبدع أيضا، وفي نفس الوقت حركة عدمية.»
56
يتصور نيتشه إذن النزعة العدمية كشرط تاريخي أو حالة تاريخية، لا كحالة شاملة للعقل، إنها حالة غامضة يمكن تفسيرها بطريقتين: فيمكن أن تفسر على أنها علامة على القوة المتزايدة للروح، وهي التي يسميها نيتشه بالعدمية الفعالة
Active Nihilism ، كما يمكن أن تفسر على أنها انحدار ونكوص لقوة الروح، وهي التي يسميها بالعدمية السلبية
.
57
بذلك يكون نيتشه قد وضع مشكلة الحضارة في إطار تاريخ النزعة العدمية الأوروبية. ومن ثم قام بمحاولته الجريئة لإعادة تقييم كل القيم بما في ذلك قيمة الحضارة نفسها.
إن الوعي التراجيدي بالحياة يكمن في فلسفة نيتشه. وقد عبر نيتشه نفسه عن ذلك بشجاعة نادرة بأن أعلن أنه أول فيلسوف تراجيدي يقبل على الحياة بكليتها أو في مجموعها. إنه يقول نعم لطبيعتها المتنوعة والمتعارضة، نعم للبهجة والألم معا، وربما كان هذا أبلغ تعبير عن قوة إرادة الحياة التي تبتهج حتى بالكوارث والمآسي: «إن قول نعم للحياة - بما في ذلك أغرب وأفظع مشاكلها، وإرادة الحياة المبتهجة بقدرتها التي لا تنفد على التضحية بأسمى نماذجها - ذلك هو الذي وصفته بأنه ديونيسي، وهو الذي رجحت أنه هو الجسر الموصل إلى نفسية الشاعر التراجيدي.»
58
يتغلب الإنسان إذن على مأساوية وجوده التاريخي بالمزيد من إرادة الحياة، فالحياة والألم لا ينفصلان. وإذا كانت الأخلاق التقليدية أو الموروثة هي نسق من التفكير يحاول - في رأي نيتشه - أن يفرض مستوى مطلقا من الصواب والخطأ، والخير والشر على الوجود، فإنها - أي الأخلاق - تقطع التجربة الإنسانية المفعمة بوفرة الحياة، وهي محاولة لإدانة الوجود، كما هي محاولة لإدانة وإنكار إرادة القوة، وهي عند نيتشه الغريزة الأساسية للإنسان التي من خلالها ينمو يتطور.
ماذا بعد عرض فلسفة نيتشه التاريخية وما تحمله من مفارقة بين الوعي التاريخي والوعي اللاتاريخي؟ هل ساهمت هذه الرؤية النقدية للتاريخ في حل مشكلة التاريخ أو مشكلة الحضارة التي وصلت أزمتها إلى متفرق طرق لم يظهر فيه بارقة أمل لإصلاح ما أفسده التطور الثقافي والحضاري؟ ربما يكون الإسهام الحقيقي لهذه الرؤية النقدية لمشكلة التاريخ (التي ألقينا عليها الضوء بقدر ما سمحت به الخطوط العريضة لهذا البحث) هو إعادة النظر في الموروث الثقافي، ومراجعة اعتقادات ظل الإيمان راسخا في الأذهان فترات طويلة من الزمن، وذلك فضلا عن إسهامها في إعادة تقييم كل ما أثمرته الحضارة الإنسانية. لقد كان نيتشه رائدا جسورا لتيارات عديدة جاءت بعده، وأخذت على عاتقها مراجعة التراث الغربي، وزعزعة الثقة في الميراث الحضاري. واستمرت هذه التيارات - التي أخذت وجهتها من نيتشه - في فلسفات هيدجر، ومن يطلق عليهم اسم فلاسفة الاختلاف وتيار ما يسمى الآن بفلسفة «ما بعد الحداثة»، وعلى رأسها التيار التفكيكي الذي يتزعمه جاك دريد - على الرغم من رفض هذا الأخير إدراج منهجه التفكيكي تحت ما يسمى ب «ما بعد الحداثة» - فمنذ إطلاق نيتشه صرخته الأولى وإعلانه «موت الإله» كحد أوروبي - وهي الفكرة التي قصد بها تحطيم الميتافيزيقا الغربية وتدميرها وإعلان موتها وزلزلة الأسس التي يستند إليها التراث الحضاري الغربي - منذ ذلك الحين ما زالت تتوالى التيارات والرؤى النقدية من أجل إعادة التقييم. لم يكن هدم نيتشه للتاريخ وللحضارة إلا من أجل بناء هذا التاريخ وتلك الحضارة من جديد، ولم يكن هجومه على إنسان العصر الحديث إلا من أجل ظهور إنسان آخر جديد سماه «السوبر مان» أو الإنسان الأعلى. وبفضل دعوة نيتشه لتدمير التاريخ والحضارة الغربية، يعيد الغرب الآن حساباته من جديد لتأسيس مفاهيم جديدة تستند إليها حضارة غريبة جديدة.
وإذا كانت الدوائر العالمية الآن - من خلال الاهتمام الشديد بمرور مائة عام على رحيل نيتشه - تعبر عن احتياجها إلى فكره، وتقدم الدراسات والتحليلات والتفسيرات التي لا حصر لها عن السؤال المطروح في بداية هذا البحث، لماذا نيتشه الآن؟ فأحسب أننا نحن العرب أشد احتياجا من الغربيين إلى رؤية نيتشه النقدية للتاريخ والحضارة، كما أننا أشد احتياجا من الغرب إلى أن يكون لدينا الوعي التاريخي والوعي اللاتاريخي معا، أي أن تكون لدينا القدرة على التذكر والقدرة على النسيان بنفس القدر، أي القدرة والشجاعة على الفحص النقدي للماضي، لا لكي نعيش في الماضي فنعرض حاضرنا للخطر، بل أن يكون فحصا نقديا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فنستحضر من الماضي لحظات مجده بالقدرة على التذكر، ونغفل ظروفا ولحظات من الماضي لا يجب التمسك بها بالقدرة على النسيان، حتى نتمكن من أن نعيش الحاضر بالكامل ونتجه بقوة وشجاعة نحو المستقبل المأمول.
ما أحوجنا نحن العرب إلى أن تكون لدينا جسارة نيتشه وشجاعته في الهدم والتدمير، حتى نستعيد القدرة على البناء والإبداع من جديد. أما إذا طرحنا السؤال السابق - لماذا نيتشه الآن؟ - في عالمنا العربي، فالإجابة في جملة واحدة؛ لأنه ما أحوجنا اليوم إلى نيتشه «عربي» يحطم الأوثان، ويصرخ داعيا إلى حضارة جديدة، ووعي وإرادة حياة جديدة، وتاريخ جديد، وحاضر جديد يتمخض - بالإرادة والوعي والقيم الجديدة - عن مستقبل جديد.
البيئة والمسئولية نحو نموذج معرفي وأخلاقي جديد للخروج من أزمة الإنسان مع بيئته
مقدمة
تتعالى الأصوات في العقود الأخيرة بالشكوى تارة والتحذير تارة أخرى من مشكلات بيئية ستواجه البشرية في مستقبل ليس بالبعيد، ومن كوارث وشيكة الحدوث، وأزمات بدأ الإنسان يعاني من عواقبها الوخيمة بفعل تدمير البيئة الطبيعية التي طالتها يد التقنية الحديثة بالاستغلال والتخريب، مما جعل فلاسفة الأخلاق المهتمين بشئون البيئة يعيدون النظر في علاقة الإنسان بالبيئة الطبيعية، التي ارتبطت بتاريخ الفكر البشري منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وبصفة خاصة منذ بدايات الفلسفة الشرقية والفلاسفة قبل سقراط.
وقد مرت العلاقة بين الإنسان والبيئة بتحولات تاريخية كبيرة عبر تاريخ البشرية بأكمله، ولكن هذا البحث سيلقي الضوء على هذه العلاقة من الناحية الفلسفية. وقد استخدم الفلاسفة مصطلح الطبيعة بمعناه الأعم والأشمل للتعبير عن البيئة التي لم تظهر كمصطلح إلا في نهاية القرن التاسع عشر مع بداية ظهور الأزمة. ولذلك سيعرض البحث لتحولات العلاقة بين الإنسان والطبيعة عبر تاريخ الفكر الفلسفي، والتي انتهت في الآونة الأخيرة إلى سيطرة الطرف الأول في هذه العلاقة (وهو الإنسان) سيطرة شبه كاملة على الطرف الثاني (وهو الطبيعة) بفضل التفوق التقني، ولكن هل ما يصيبنا الآن من كوارث طبيعية وبيئية هو رد فعل وصرخة احتجاج من الطبيعة على ما تعرضت له من ظلم وعدوان؟ أم هي إشارات تحذير للإنسان بأنه لن تكون له الكلمة الأخيرة في الدراما الكونية التي هو مجرد جزء ضئيل منها؟ أم هو إعلان من الطبيعة بأنها هي الأخرى لها ذات وقيمة مستقلة عن البشر الذين توهموا أنهم الكائنات الوحيدة الحاملة للقيمة والقادرة على التقييم؟ وإذا كان الأمر كذلك فأين وكيف المخرج من هذا المأزق البيئي البشري؟
هدف البحث: سيحاول هذا البحث الإجابة عن هذه الأسئلة التي يستلزم الرد على السؤال الأول منها تتبع العلاقة بين الإنسان والطبيعة من الناحية الفلسفية، وكيف تدرجت من علاقة حميمة آمنة إلى علاقة هيمنة وسيطرة، وذلك من خلال نموذج معرفي أفضى إلى إخضاع البيئة بالكامل لسطوة التقنية. وتقتضي الإجابة عن السؤال الثاني إثارة المشكلة الأساسية التي أدت إلى مثل هذه السيطرة، وهي النزعة المركزية الإنسانية التي وضعت الإنسان في مركز السيطرة والسطوة، ومنحته حق إخضاع سائر الكائنات والعناصر البيئية الأخرى لمصلحته، وكيف ساهمت عدة علوم حديثة في إنهاء هذه المركزية الإنسانية بإثبات أن الإنسان ليس إلا جزءا ضئيلا من كون لا نهاية له. وإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن أن تنتهي مزاعم الإنسان التي صورت له أنه هو الكائن الوحيد الحامل للقيمة والسيد المسيطر على كل شيء؟ من هنا تأتي الإجابة عن السؤال الثالث بمحاولة البحث عن القيمة الباطنة في الطبيعة، ودلالات هذه القيمة على وجود كائنات وعناصر أخرى تحمل قيمة في ذاتها، وطبيعية الموقف البشري الذي ينبغي اتخاذه منها.
ويعرض البحث في النهاية محاولات إيجاد مخرج من أزمة الإنسان مع بيئته من خلال المسئولية الأخلاقية تجاه البيئة، كما يدعو إلى مواصلة الجهود المشتركة للبحث عن أخلاقيات بيئية رشيدة تستند على نموذج معرفي جديد، أي نموذج يقوم على تنمية الوعي الأخلاقي والجمالي بالبيئة، ولفت الأنظار إلى المسئولية العالمية المشتركة في ظل أخلاق كوكبية جديدة تضع في اعتبارها بالدرجة الأولى حماية البيئة وصيانتها من منطلق كونها ميراث البشرية ورصيدها الذي ينبغي صيانته والمحافظة عليه.
مصطلحات بيئية: قبل التعرض لهذه الأسئلة والإشكاليات يجدر بنا أن نقف عند المصطلحات الأساسية التي يتناولها البحث: الطبيعة
Nature ، والبيئة الطبيعية
Natural Environment ، وعلم الأيكولوجيا
Ecology ، وهي مصطلحات تبدو كأنها مترادفة أو ذات مضمون واحد. والواقع أن هناك اختلافات بين هذه المصطلحات، وإن كانت في حقيقة الأمر اختلافات طفيفة، ولكنها دقيقة. ففي الموسوعات الفلسفية تعني الطبيعية بالمعنى الأشمل «الموجودات في مجموعها، أي أنها نوع من الجرد لكل ما هو موجود في الكون، كما أنها تشير أيضا إلى مبادئ وقوانين البنية التي تتحكم في سلوك الكائنات والأشياء، وهذان المعنيان لا ينفصلان عن بعضهما.»
1
ويتم تعريف الطبيعة أيضا باستخدام الصفة من الاسم، أي تعريف شيء ما بأنه طبيعي من خلال التناظر والتضاد، بحيث نقصد بهذا الشيء أنه الفطري في مقابل المكتسب،
2
والتلقائي في مقابل الإرادي، والعفوي في مقابل المتروي والمقصود، والطبيعي في مقابل الوضعي والمفتعل أو الصناعي، كما أننا نقول كذلك بالطبيعي في مقابل المعجز أو الخارق للطبيعة، لننتهي من هذا كله إلى أنها (أي الطبيعة) تجمع بين الموجودات الطبيعية التي تعبر عن الإرادة الإلهية الفاعلة في الطبيعة، والتي لا تتدخل فيها الإرادة البشرية وبين المصنوعات الإنسانية أي ما قام به الإنسان محاولة منه للتدخل في تغيير مسار الطبيعة سواء كان هذا بقصد منه أو عن غير قصد.
أما مصطلح البيئة الطبيعية
Natural Environment ، فيدل على «ظروف المكان الذي يعيش فيه الكائن الحي بكل ما فيه من عناصر أو مكونات طبيعية يتأثر بها ويؤثر فيها.» وتصف البيئة الطبيعية تلك الخصائص الطبيعية (مثل المناخ أو الجيولوجيا وغيرها من عناصر البيئة الطبيعية) التي هي ليست من صنع الإنسان ولا يستطيع تغييرها، بينما تشتمل البيئة الجغرافية على البيئة الطبيعية بجانب أي تغيير أو تعديل قام به البشر على هذه البيئة (مثل التصنيع أو تحويل المناطق الريفية إلى مناطق حضارية) أما علم الأيكولوجيا
Ecology ، فهو العلم الذي يقوم على «دراسة تفاعل الكائنات العضوية الحية مع بيئتها الطبيعية»،
3
أي أنه العلم الذي يدرس العلاقات بين عناصر الكائنات الحية وغير الحية. وقد أكدت قضية التوازن الأيكولوجي منذ الستينيات أن الناس يجب أن تعيش في حدود الموارد البيئية المحدودة، وليس ثمة شك أن المحافظة على البيئة هو الموضوع الأساسي الذي يهتم به علم الأيكولوجيا، ويحذر مما تتعرض له مناطق واسعة من البيئة الطبيعية من سوء الاستخدام والإسراف.
هناك أيضا مصطلحات بيئية خاصة مع تطور علم الأيكولوجيا الحديث، ولكن هذا البحث يقتصر على هذه المصطلحات الثلاثة فقط؛ لأنها - في رأينا - تعبر عن المراحل التاريخية للعلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية، حيث يعبر المصطلح الأول (أي الطبيعة) عن الرؤية الفلسفية التي تطورت من خلالها علاقة الإنسان بالمحيط البيئي حوله. فقد كان مصطلح الطبيعة هو المفهوم الأساسي الذي يعبر عن نظرة الإنسان للعالم طوال تاريخ الفلسفة، في حين أن مفهوم البيئة الطبيعية بالمعنى المعاصر لم يكن من مصطلحات الفلاسفة لا في العصر اليوناني ولا حتى في العصور الحديثة. والواقع أن المصطلح «البيئة الطبيعة» وهو المصطلح الثاني إنما يعبر عن بداية أزمة الإنسان مع بيئته الطبيعية، تلك الأزمة التي بدأت بوادرها في أواخر القرن التاسع عشر مع تطور التقدم العلمي والتقني. ثم ظهر مصطلح الأيكولوجيا، وهو المصطلح الثالث والأخير، في الآونة الأخيرة بعد أن استفحلت أزمة الإنسان مع البيئة. فجاء علم الأيكولوجيا كأحد وسائل الإنقاذ من الأزمة. ومما لا شك فيه أن أزمة الإنسان مع بيئته الطبيعية لها جانب علمي وتكنولوجي، وتتداخل فيها عناصر كثيرة وتعالجها مجالات مختلفة تخرج عن نطاق هذا البحث، وتدخل في دوائر متخصصة وبعيدة عن المجال الفلسفي الذي سيقتصر البحث عليه. (1) رؤية تاريخية تقييمية للعلاقة بين الإنسان والطبيعة
العلاقة التاريخية بين الإنسان والطبيعة في تاريخ الفكر الفلسفي علاقة قديمة قدم الفلاسفة الطبيعيين قبل سقراط، وإن كانت جذورها تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك التاريخ في الفلسفات الشرقية القديمة، ولكننا سنصرف النظر عن هذه الأخيرة، ليس لعدم أهميتها، بل لجدارتها بأن يفرد لها بحث أو بحوث أخرى مستقلة. كما سنقتصر في هذا الجزء التاريخي على أهم المحطات الرئيسية التي تلقي الضوء على تحولات الموقف الفلسفي من الطبيعة، وهي التي بدأت بسؤال الفلاسفة الأيونيين (أو الطبيعيين) عن ماهية الطبيعة، وكأن السؤال كان يتطلب البحث عن المادة الأولى التي يتكون منها العالم الطبيعي، فقال طاليس بالماء، وحددها انكسيمينيس بالهواء، وردها أنكسيماندر إلى «الأبيرون» الذي يفتقد إلى كل تحدد أو تعين، ثم تحول السؤال عند الفيثاغوريين فلم يعد بحثا عن ماهية الطبيعة، بل عن بنائها ووجودها في الشكل الهندسي لتصبح مادة العالم قادرة على استقبال الأشكال الرياضية.
أما عالم الطبيعة عند أفلاطون فهو عالم ناقص بالضرورة؛ لأن الزمان يسري عليه، فهو غير ثابت، كما أنه نتاج الخلق الديني أو بالأحرى الصنع الإلهي؛ إذ تم إيجاده وفقا لنماذج الأشكال الأبدية الثابتة. والألوهية لا تحول بين أي شيء وبين أن يوجد؛ لأن كل شيء تتجلى فيه قدرتها العظيمة على الإبداع، وقد كانت هذه أول فكرة تقرر أن الطبيعة سلسلة كبرى من الموجودات المتفاوتة في ترتيبها على سلم الوجود، وهو ما وضحه أرسطو بفكرته عن المحرك الأول الذي لا يتحرك والذي هو العلة الغائية الأخيرة للطبيعة. باختصار كانت نظرة فلاسفة اليونان إلى الطبيعة تتسم بالحيوية والعضوية، كما تنطوي على مفهوم الكون المنظم العاقل؛ إذ «اعتقد المفكرون اليونانيون أن وجود العقل في الطبيعة هو مصدر الانتظام القائم في العالم الطبيعي أو مبدأ اتساقه.»
4
والنتيجة التي نستخلصها من هذا العرض الشديد الإيجاز أن الكون الذي يتصف بالانسجام والاتساق وله عقل يسيره ويضفي عليه مثل هذا النظام لا بد أن تكون له قيمة باطنة فيه، ولم يستمدها من شيء آخر سوى العقل الباطن في الطبيعة.
اختفت النظرة العضوية والحيوية من عالم الطبيعة بدءا من العصر الوسيط بسبب سيادة التصور الديني وفكرة الخلق من العدم. لم يعد عقل الطبيعة هو الذي يسيرها، بل العقل الإلهي الذي أخرج العالم من ظلام العدم إلى نور الوجود، مما جعل الطبيعة بل الكون بأكمله مرهونا بالإرادة الإلهية. لقد رأت مشيئة الله - التي هي خيرة في ذاتها - أنه من الأفضل أن يخلق العالم من أن يظل عدما، فكانت هذه هي فلسفة الطبيعة التي سادت العصور الوسطى وتبناها المفكرون المسيحيون أمثال أوغسطين وتوما الأكويني، ثم جاء فكر عصر النهضة ليؤكد المفهوم المسيحي لخلق العالم، وليرسم صورة للطبيعة باعتبارها آلة لا عقل فيها. و«اعتمد العلم الطبيعي لعصر النهضة على تشبيه الطبيعة بوصفها شيئا من صنع الإرادة الإلهية، بالآلات التي تعد من صنع الإنسان.»
5
وهكذا بدأ تجريد الطبيعة من سحرها ومن مغزاها الإنساني شيئا فشيئا إلى أن تفككت العلاقة بين الإنسان والطبيعة مع بدايات الفلسفة الحديثة ونشأة العلم الحديث.
اتسعت الفجوة بين الإنسان والطبيعة بشكل لا تخطئه عين مع الثنائية التي اتسم بها الفكر الديكارتي وطبعت العصر الحديث - والعصور التالية له - بطابعها عندما وضع الذات في مقابل عالم الأشياء، وبذلك عزل الإنسان عن الطبيعة عزلا تاما، وسار كل منهما في طريق مواز للآخر دون أن يلتقيا. وعلى الرغم من أنه حفظ للطبيعة استقلالها، إلا أنه جردها من طابعها السحري وقوتها الذاتية، وقدم نظرية للمعرفة قوامها العقل وغايتها «أن نجعل أنفسنا سادة ومسخرين للطبيعة.»
6
وبذلك أكد ديكارت صيحة بيكون - المبشر بالمنهج التجريبي في العصر الحديث - الذي نادى بأن المعرفة قوة يجب إخضاعها لمنفعة الإنسان وفائدته، ودعا إلى استخدام الملاحظة والتجربة لمعرفة قوانين الطبيعة من أجل السيطرة عليها، وممارسة السلطة على الأشياء والسيادة على العالم لتحقيق سعادة البشرية.
هكذا صاغ ديكارت في مستهل العصر الحديث نموذجا معرفيا عقليا تزامن مع نشأة العلم الحديث، وتأسيس مناهج دقيقة للسيطرة العلمية على الطبيعة بفضل جاليليو وكبلر وغيرهما لإقامة علم طبيعي رياضي، ثم جاء إسحاق نيوتن الذي كان له الفضل في تفسير قوانين كبلر، ووضع أهم كتبه «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» عام 1687م الذي تعود أهميته في تاريخ الفلسفة إلى أنه كان بداية انفصال العلم الطبيعي عن دائرة العلوم الفلسفية على عكس ما يوحي به العنوان. وانحصرت فلسفة الطبيعة منذ ذلك التاريخ في فرعين من فروع الدراسات الفلسفية: أحدهما فلسفة العلم الذي قصر اهتمامه على دراسة المناهج والمفاهيم والنظريات العلمية، والآخر علم الجمال الذي اختزل الطبيعة في إطار التجربة الفنية والجمالية، دون أن يركز أي منهما على مفهوم الطبيعة ذاته. بينما تحولت علوم أخرى مثل السياسة والأخلاق والاجتماع إلى الاهتمام بدراسة البيئة الاجتماعية دونما اهتمام بالبيئة الطبيعية.
أما على مستوى العلم الطبيعي الذي تطور بصورة هائلة في خط مستقيم بدءا من الثنائية الديكارتية - التي أعلت من شأن العقل - فقد كان هذا إيذانا باختفاء المفاهيم الكيفية للطبيعة التي طالما تغنى بها جوردانو برونو، وبداية اتفاق غير معلن على أن ما يمكن التعرف عليه هو ما ينتج رياضيا فحسب، وأن ما يفهم بشكل آلي هو فقط المفهوم عليا، وحجبت القوانين الآلية للعلم الطبيعي والميكانيكا الكلاسيكية في القرن الثامن عشر العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة، وأصبح العقل الإنساني نفسه هو المشرع لقوانين الطبيعة عند كانط، وارتبطت النزعة الآلية الطبيعية ارتباطا وثيقا بالتقنية، ولكن هذه الآلية زادت الطبيعة فقرا، فقد وقف العلم «عاجزا عن تفسير الطبيعة بمصطلحات العلل الغائية.»
7
وصار العلم والتقنية اللذان تطورا منذ بدايات العصر الحديث والثورة الصناعية «غريبين غربة تامة عن خصائص الطبيعة، وعن معناها الحقيقي، كما أن الفكر الحسابي الذي يتجه إلى تكميم كل شيء قد حجر وشيأ كل شيء لمسته يداه»،
8
ومما لا شك فيه أنه قد تم منذ عصر التنوير تجريد الطبيعة من سحرها وبلغت ذروة هذا الجريد في عصرنا الحاضر.
ثبت عصر التنوير فكرة أساسية مفادها أن الإنسان هو محور الكون، وهي الفكرة التي ورثها من العصر المسيحي الوسيط، وعلى الرغم من أن عصر التنوير قد ثار على الفكر الديني، وحاول أن يتحرر من أسره، إلا أنه استبقى الفكرة التي تقر بأن للإنسان وضعا خاصا بين المخلوقات الأخرى في الطبيعة. لقد رسخت الديانة المسيحية في الأذهان أن الله خلق البشر على صورته ليكونوا حالة خاصة بين الكائنات الأخرى غير الشبيهة بالله. وأكدت الديانة الإسلامية أيضا هذا التميز للإنسان على سائر المخلوقات الأخرى في قوله تعالى:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .
9
وورث عصر التنوير هذه الفكرة لا ليؤكد جانبها الديني، وإنما للتدليل على تميز الإنسان وتفوقه العقلي على سائر الكائنات. ولعل عبارة كانط التالية تلخص فكر التنوير بأكمله. «أن الإنسان هو الكائن الوحيد على الأرض الذي يملك العقل أو الفهم، وهو على يقين سيد الطبيعة بلا نزاع، وإذا نظرنا إلى الطبيعة باعتبارها نسقا غائيا متكاملا، فقد ولد الإنسان ليكون الغاية النهائية لها.»
10
وهذا النص يؤكد ارتباط ثلاثة عوامل أساسية رسخت المركزية البشرية ألا وهي العقل، والسيادة أو السيطرة، والغائية. فقد استطاع الإنسان بفضل العقل أن يسيطر على الطبيعة ليصبح هو محور الكون وغايته، أو محور الدائرة ومركزها. وكانت هذه أيضا هي الفكرة التي أكدها فرويد في معرض كلامه عن التسامي بالعدوان البشري بالتوجه ناحية المجال الحيوي، وبعيدا عن البشر الآخرين، فلكي «يصبح الإنسان عضوا في المجتمع البشري، عليه أن يتوجه - بمساعدة التقنية المسترشدة بالعلم - لمهاجمة الطبيعة وإخضاعها للإرادة البشرية.»
11
إن فكرة استخدام القوة العقلية للعلم لقهر الطبيعة وغزوها بالحرب أو الإخضاع - كما ترى ماري ميدجلي - ظلت فكرة عادية تماما عند العديد من المفكرين، على الأقل في كل من العالمين الرأسمالي والشيوعي، ولعل النص الذي أوردته يؤكد هذا الرأي: «يسهل التنبؤ بأنه في المستقبل، عندما يبلغ العلم والتقنية الكمال الذي لا يمكن تخيله، ستصبح الطبيعة كالشمع الطيع في يد الإنسان، حيث سيكون قادرا على أن ينطلق في أي شكل يختار»،
12
وليست الإنجازات العلمية والتقنية هي وحدها التي ساعدت على السيطرة على الطبيعة، وإنما التقدم في الدراسات التاريخية، التي مجدت الإنسان باعتباره صانع التاريخ ومحقق الإنجازات البشرية، قد ساعد أيضا على اتساع الفجوة بين الإنسان والطبيعة. ولعل كل هذه المظاهر أو السمات المعبرة عن المركزية الإنسانية هي وليدة فلسفات الذات والنموذج المعرفي الذي وضعه ديكارت - كما سبق القول - وجعل الذات في مقابل عالم الأشياء، بحيث انتهى هذا النموذج العقلي بعد سلسلة طويلة من التطورات إلى عقلانية أداتية، وإلى نوع من التقنية المدمرة التي قال عنها هيدجر في مقاله الشهير عن التقنية «إن التقنية أو الصنعة هي الفاعلية العنيفة للمعرفة»، ولقد أدت التقنية طبقا لهذا النموذج إلى غزو وحشي للواقع، وأصبحت الذات «متجردة من كل دور أخلاقي وسياسي وجمالي؛ لأن دورها مقصور على الملاحظة «المحضة» والقياس والحساب المحض»،
13
كنتيجة طبيعية لسيادة النظر إلى الطبيعة نظرة كمية مكنت من السيطرة عليها. ومع أننا بطبيعة الحال لا نرفض هذا الجانب الكمي الذي ساعد على تقدم العلوم الطبيعية تقدما هائلا، إلا أن من الضروري ألا يغيب عن بالنا أنه جانب واحد فقط من جوانب الواقع، ولا يستوعب كل جوانبه.
هكذا «ازداد الاعتراف بعظمة الإنسان، لا بمعنى قدرته على الإحساس بالوعي الذاتي، ولكن بوجه خاص لما عنده من قدرة عقلانية وقدرة على السيطرة على الطبيعة»
14
إلى الحد الذي أفضى إلى تدمير البيئة الطبيعية وخلق مشكلات بيئية ناجمة عن سوء استغلال الإنسان للطبيعة ومواردها. وإذا بالتقنية - التي كانت تهدف في البداية إلى سعادة الإنسان ورفاهيته - تتحول إلى عامل مدمر يهدد حياة الإنسان وبقاءه. وإذا بالتقدم العلمي نفسه يلقي بشكوكه حول طريقة التفكير نفسها، كما أن وجهات النظر العلمية التي كانت تؤكد النزعة المركزية الإنسانية أصبحت هي نفسها موضع شك، كما أصبحت فكرة الغاية النهائية للكون غريبة على العلم الحديث شأنها في هذا شأن الفكرة الأخرى التي تثبت الإنسان في مركز الكون. ومن مفارقات العلم أن تأتي العلوم الحديثة لتحذرنا وتثبت خطأ المركزية الإنسانية التي تزعم أن الإنسان هو الهدف الأول من خلق العالم؛ فعلم الفلك يثبت أن الكون ليس له مركز فيزيقي وليس هناك ما نطلق عليه فوق أو تحت، وإنما هناك كون أشبه بالمسرح العظيم الاتساع في مكان وزمان لا متناهيين تتحرك فيه الكائنات البشرية بشكل غير مدرك بالحس مثل الحشرات والبكتريا على أحسن تقدير.
ويعلمنا علم الأحياء أن الكائنات البشرية من بين الكائنات الحية التي ظهرت على مسرح الكون، ولكن ظهورها كان متأخرا، وربما تكون قد وصلت إلى خشبة المسرح بالمصادفة البحتة، بمعنى أنه ربما لم يكن الإنسان - كما يفهم من بعض العلوم الحديثة - هو الغاية النهائية للطبيعة أو تاج الخليقة كما هو مأثور في التراث الديني وفلسفة العصر الوسيط، ولم تكن هذه الكائنات البشرية أبدا على صورة الله كما تقول المسيحية. ثم يضيف علم الجغرافيا أن القارات التي اعتدنا التفكير فيها على أنها ثابتة وراسخة في مسرح الكون إنما هي متحركة. وفي الآونة الأخيرة يأتي علم الأيكولوجيا ليخبرنا أننا لا نشكل الشمع في أمان كما تفعل الطبيعة ليلبي احتياجاتنا، ومن المرجح ألا نتمكن من ذلك أبدا، بل على العكس من ذلك فإننا دائبون على تحطيم فروع الشجرة التي نجلس عليها، ولن نتوقف عن هذا إلا إذا استجبنا للمبادئ الداخلية التي تحكم الطبيعة بدلا من محاولة تدميرها بأدوات ابتكرناها بأنفسنا. والمفارقة التي قد تبدو كوميدية أو تراجيدية - حسبما تنظر إليها - هي أن العلم الذي طالما بدا لؤلؤة أو جوهرة متألقة في تاج سيد الطبيعة بلا نزاع، قد انقلب إلى فأس يضرب الأرض تحت عرشه ويهدمها.
15
هذه المفارقة العلمية وضعت الإنسان في مأزق، وولدت مشاعر متضادة بين شعوره المتضخم بأهميته الهائلة على مسرح الحياة من ناحية، وضآلته وتفاهته في الكون من ناحية أخرى، كما أحدثت فجوة عميقة بين نزعة إنسانية ركز أصحابها كل جهودهم لجعل الإنسان هو كل شيء بزعم أهمية النوع البشري وتبوئه مركزا أساسيا بين المخلوقات الأرضية، وبين علوم ودراسات حديثة لا ترى الكائنات البشرية سوى دمى مرتعشة أو أسراب نمل أو بكتريا ظهرت صدفة أو اتفاقا على خشبة المسرح الكوني. وربما لن يستطيع الإنسان سد هذه الفجوة في الحالين. إذا أصر من ناحية على أن يكون كل شيء، أو إذا استسلم من ناحية أخرى لنتائج العلوم الحديثة، فأصبح لا شيء. فكيف الخروج من هذا المأزق.
لن يكون الخروج من هذا المأزق إلا إذا تحرر الإنسان من الفكر الذي أفضى به إلى هذا التضاد، وتبنى فكرا جديدا يضع الإنسان في حجمه الصحيح، وينظر إلى الطبيعة بوصفها ذاتا مستقلة، لا مجرد وسيلة لإشباع رغباتنا وتلبية احتياجاتنا. ومعنى هذا أنه لن يكون لنا خلاص من هذا المأزق إلا برؤية راشدة جديدة للعالم، بمعنى آخر هناك حاجة ملحة لإيجاد نموذج معرفي جديد يمكن أن يهتدي بالنموذج المصاحب للثورة العلمية عند توماس كون، الذي يؤكد أن كل ثورة علمية لا بد أن يصاحبها نموذج إرشادي
مغاير للمعرفة العلمية السابقة على هذه الثورة. وعلى الرغم من أن كون قد استخدم مصطلح النموذج الإرشادي بمعان عديدة ومختلفة، إلا أنه أكد على المعنى السوسيولوجي للمصطلح، وهو أنه: «يعبر عن جماع المعتقدات والقيم المتعارف عليها والتقنيات المشتركة بين أعضاء مجتمع بذاته.»
16
مما يتيح للجماعة العلمية الملتزمة بهذه النماذج الإرشادية حل بعض المشكلات التي تواجه المجتمع العلمي. ذلك أنه «عندما تتغير النماذج الإرشادية يتغير معها العالم ذاته ... إن التحولات التي طرأت على النماذج الإرشادية تجعل العلماء بالفعل يرون العالم الخاص بموضوع بحثهم في صورة مغايرة. وطالما أن تعاملهم مع هذا العالم لا يكون إلا من خلال ما يرونه ويفعلونه، فقد تحدونا رغبة في القول بأنه عقب حدوث ثورة علمية يجد العلماء أنفسهم يستجيبون لعالم مغاير.»
17
إن المجتمع الذي يقصده كون هو المجتمع العلمي، وما يسري على العلم باعتباره فرعا من فروع المعرفة، لا بد أن يسري بالضرورة على مجالات أو فروع المعرفة الأخرى، وبهذا المعنى يمكن لنا أن نتلمس الطريق إلى نموذج معرفي جديد يساعدنا على تغيير جذري في الوعي لإعادة تقييم موقفنا من الطبيعة. وإذا كان النموذج المعرفي السابق قد تمخض عن جعل البشر الكائنات الوحيدة القادرة على التقييم، بمعنى أنه جعلهم يقيمون البيئة الطبيعية تقييما أداتيا خالصا لتلبية مصالحهم الذاتية، فإن هذا النموذج قد وضع أسسا معرفية كان لها أثر سلبي على البيئة الطبيعية، وجردها من أية قيمة خاصة بها، كما قطع العلاقة الحميمة والمتوازنة التي كانت تربط الإنسان بالطبيعة في العصور الماضية. (2) نموذج معرفي جديد للخروج من أزمة الإنسان مع بيئته
ليس هدفنا من الكلام السابق أن يجرنا إلى الحديث عن ذاتية القيم أو موضوعيتها، فهذا أمر لم يحسمه التاريخ الطويل لعلم الجمال، وإنما نريد أن نؤكد النقطة الهامة في هذا الموضوع، وهي أن الإنسان هو الكائن الذي باستطاعته إدراك قيمة الأشياء بصرف النظر عما إذا كانت هذه القيمة نابعة من الذات المدركة (أي الإنسان) أو من الشيء المدرك (أي البيئة الطبيعية). وإذا صح أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بلا قيمة، فمن الصحيح أيضا أن الأشياء الطبيعية لا يمكن أن تحيا بدون أن يكون لها قيمة في ذاتها. بمعنى آخر إذا كان الكائن البشري له قيمة، وهو جزء من إبداعات هذه الأرض، فإن الأرض بكل ما فيها وما عليها ينطق بالقيمة. وإذا لم يكن هذا صحيحا، فكيف يثمر ما هو عديم القيمة (الأرض) كائنا (كالإنسان) له قيمة في ذاته، بل وله القدرة على التقييم. وما دمنا نعيب على النموذج المعرفي السابق أنه أدى في نهاية الأمر إلى إخضاع البيئة الطبيعية وقهرها بالعلم، ونطالب بنموذج آخر جديد ينصت إلى صوت الطبيعة، ويعيد الاعتبار لقوانينها ونواميسها الداخلية، فلا بد أن يتخذ هذا النموذج موقفا أكثر إنصافا من البيئة الطبيعية، وأعمق إيمانا بأن لها قيمة كامنة فيها وليست متوقفة على الإدراك كما يقول باركلي على سبيل المثال.
وربما يكون هذا الموقف الجديد قد عبر عنه أصدق تعبير عنوان كتاب بول تيلور
«احترام الطبيعة» الذي يؤكد أنه الموقف الوحيد الملائم لنظرة الإنسان إلى الطبيعة. فإذا كان النموذج السابق ينطلق من الاعتقاد في «النزعة المركزية الإنسانية»، فلا بد أن يأتي النموذج الجديد باعتقاد مختلف يقوم على «النظرة الحيوية إلى الطبيعة» التي ترتكز على احترام البيئة الطبيعية باعتباره «الموقف الأخلاقي الأساسي». هذه النظرة الحيوية المركزية إلى البيئة الطبيعية - من كونها رصيد البشرية وميراثها الذي ينبغي صيانته - هي التي تفسر وتبرر اتخاذ الإنسان لذلك الموقف الأخلاقي الذي ينعكس إيجابا عليه. ويثير هذا الموقف قضية هامة، وهي مسئولية الإنسان الأخلاقية تجاه البيئة الطبيعية، وضرورة أن يأتي النموذج المعرفي الجديد متضمنا نزعة أخلاقية متمركزة من حول البيئة الطبيعية في مقابل النزعة الأخلاقية السابقة المتمركزة من حول الإنسان، لإيجاد نوع من التناغم والانسجام بين الأخلاق البيئية (أي المتعلقة بتقييم القدرات البيئية وإمكاناتها) والأخلاق الإنسانية التي ينبغي أن تقنن بيئيا.
وبطبيعة الحال، فإن الحديث عن الأخلاق البيئية يفترض بشكل مسبق أن للطبيعة أو للمحيط البيئي بصفة عامة قيمة باطنة، من هنا يتبين لنا أن مشكلة النموذج المعرفي الجديد تعبر عن أزمة قيم، وأن بقاء البيئة الطبيعية وقدراتها على العطاء المتواصل مرتبط بتغير قيمنا تجاه البيئة من ناحية، والاعتراف من ناحية أخرى بأن للبيئة الطبيعية أيضا قيمة باطنة مستقلة عن العقل الذي يقيمها. وقد تبدو هذه نظرة رومانسية إلى الطبيعة باعتبارها ذاتا أو آخر، خاصة وأن هناك من ينكر أن يكون للبيئة الطبيعية قيمة خارج العقل. فها هو وليم جيمس يعلن في بداية القرن العشرين: «أن العالم بدون عقل المدرك ليس فيه جزء واحد يفوق في أهميته أي جزء آخر. وبدون عقل المدرك يبدو كل شيء سلبا ومواتا. وأيا كانت القيمة التي تبدو مشحونة بها عوالمنا، فما هي في الواقع إلا هدايا خالصة أضفاها عليها المدرك.»
18
ثم هناك أيضا في نهاية القرن العشرين من يعتقدون «أن علماء الأخلاق المهتمين بشئون البيئة قد ضلوا طريقهم بالبحث عن القيمة في الكائنات الحية مستقلة عن التقييم البشري، فقد أغفل هؤلاء الفكرة الأساسية في عملية تقييم أي شيء وهي حدوثها من وجهة نظر الشخص الذي يقوم بالتقييم، وأن البشر وحدهم هم الذي يخلعون القيمة على الأشياء.»
19
والحقيقة أن المشكلة ليست في النظرة الرومانسية إلى الطبيعة، ولا في النظرة الذاتية التي تجعل الإنسان مصدرا للقيمة؛ لأن كليهما سيجعل الإشكالية محصورة في دائرة محورها الإنسان. ولهذا يتعين علينا الآن أن نوضح أن القيمة كامنة في البيئة الطبيعية نفسها، وفي الكائنات الطبيعية ذاتها.
وقبل أن نتطرق للحديث عن هذا الجانب المتعلق بالقيم، فمن الضروري أن نؤكد أنه لا خلاف حول أهمية القيمة الموضوعية للعالم الطبيعي؛ لأن معرفة العالم معرفة موضوعية تساعدنا على اكتشاف ما فيه من قيم وإبداعات خلاقة، وبدون دراسة هذا الإبداع أو الجوانب الخلاقة في البيئة، سنصبح كمن يطلق قيما على عالم لم نعرف قيمته معرفة كافية. ولكيلا نضفي على العالم قيما ذاتية أو قيما تمليها الصدفة، لا بد أن نعرف العالم نفسه معرفة موضوعية. وتبدأ معرفتنا بالعالم الطبيعي من خلال عمليتين أساسيتين: الأولى هي تطور الكائنات ومحافظتها على نفسها، وهي العملية التي تنم عن قيمة إبداعية، والثانية هي إدراك البشر لتلك القيم الموضوعية للطبيعة، والوعي بأن من يدركون هذه القيم هم أنفسهم جزء من نماذج الأرض المبدعة وثمرة نتاجها الطبيعي.
يؤكد القيمة الباطنة في البيئة الطبيعية ثلاث فرضيات أساسية: (1) فرضية نفي الغائية. (2) فرضية الاستقلال. (3) فرضية اللاتناسق. تقر الفرضية الأولى «أن الأرض (الطبيعة) لم تأت للوجود وتستمر فيه من أجل خدمة الأغراض البشرية، وبهذا المعنى ليس هناك غائية.»
20
وعلى الرغم من أن هناك جوانب في البيئة الطبيعية تمثل قيمة أداتية للجنس البشري مثل الطعام والملبس والمأوى، كما أن هناك جوانب أخرى من البيئة الطبيعية تمثل قيمة أداتية أيضا للكائنات غير البشرية «النباتات يمكن أن تستفيد من الطبيعة غير الحية لتدعيم كمالها الوظيفي، وبهذا المعنى يكون ثاني أكسيد الكربون، والماء والحرارة والضوء المستمد من الشمس ... إلخ ذات قيمة أداتية بالنسبة للنبات.»
21
كما يحدث أيضا نفس الشيء بالنسبة للحشرات التي تمثل أوراق النبات بالنسبة لها قيمة أداتية. فهل يعني هذا أن البيئة الطبيعية غير الحية وجدت من أجل تحقيق هذه الأغراض؟ لا شك في أنه سيكون من الخطأ القول إن الطبيعة وجدت أو ظهرت إلى الوجود من أجل تحقيق قيمة نفعية أو أداتية للحياة البشرية أو غير البشرية.
وتعبر فرضية الاستقلال عن القيمة الباطنة في البيئة الطبيعية من خلال بعض الخصائص الطبيعية التي يؤكدها تاريخ التطور الطبيعي الطويل ومنها: (1) أن الأرض نشأت مستقلة تماما عن البشر، وسابقة على وجودهم بما لا نهاية له من الدهور، بينما لم تظهر الحياة البشرية على مسرح الطبيعة إلا منذ ما يقرب من مائة ألف سنة. (2) يمكن للنوع البشري أن يفنى لسبب أو آخر، بينما تبقى الأرض ومجالها الحيوي وتمتلئ بأنواع أخرى جديدة من الوجود (أو الموجودات). (3) قدرة المجال الحيوي على أداء وظيفته بشكل كامل وسليم بغير عون أو مساعدة من البشر.
22
ويترتب على هذا أن نشأة البيئة الطبيعية واستمرارها في الوجود لا يعتمد على الوجود البشري، وأن كمال وسلامة أدائها الوظيفي مستقل تماما عن الإنسان، بل إن هذا الأخير قد عرض تلك السلامة للتدمير عندما شرع في التدخل في البيئة الطبيعية دون مراعاة نواميسها وقوانينها الداخلية، ويعني هذا أن الأرض ومجالها الحيوي لهما القدرة على الوجود والاستمرار، وأداء وظيفتهما بدون الاعتماد على البشر.
أما الفرضية الثالثة والأخيرة فهي التي تقر بأنه «ليس هناك تناسق في الارتباط العلي بين البشر والطبيعة، فبينما يعتمد البشر على الطبيعة، بحيث لا يمكنهم أن يحيوا بمنأى عنها، فإن وجود الطبيعة وسلامة وظيفتها مستقلان عن الوجود البشري.»
23
ولدينا أيضا في الفكر العربي ما يؤكد هذه الفرضية بشكل غير مباشر في تعريف ابن سينا للطبيعة: «الطبيعة هي المبدأ الفعلي أو الانفعالي الأول الدائم لحركة الجسم وسكوناته، من حيث إن الموجودات تتحرك وتسكن على نسق واحد، فتدل على أن فيها علة الحركة والسكون، وعلة اطرادهما، فالفعل الباطن واطراده (القانون) علامتان على الطبيعة.»
24
وربما يدل هذا التعريف على القيمة الباطنة في الطبيعة باعتبار أنها علة ذاتها، وتعتمد اعتمادا ذاتيا لبلوغ كمالها الوظيفي. بهذا المعنى فإن البيئة الطبيعية غير الحية توجد من أجل ذاتها، وليس من أجل الإنسان وخدمة أغراضه، تماما كما وجد الإنسان من أجل ذاته، وليس من أجل الطبيعة، وإذا اعترفنا بأن للإنسان قيمة في ذاته؛ لأنه مخلوق لذاته، فلا بد أن نمنح البيئة الطبيعية نفس الحق ونعترف بأن لها قيمة كامنة في باطنها ما دامت قد وجدت لذاتها، ولا ينفي هذا ولا يقلل منه أن يجد فيها الإنسان منفعة له، ويكتشف فيها قيمة أداتية تحقق أغراضه.
ويؤدي الإيمان بالقيمة الباطنة في الطبيعة - من الناحية الفلسفية - إلى فكرة مفادها وضع الذات الطبيعية في مقابل الذات الإنسانية، وقد تبدو هذه الفكرة متشابهة مع النموذج المعرفي المتوارث من ديكارت، والذي وضع الذات في مقابل عالم الأشياء. وهو النموذج الذي نطالب بتغييره الآن، ولكن لا بد من التذكير بأن النموذج المعرفي الديكارتي إذا كان قد اعترف للعالم الطبيعي بوجوده المستقل عن عالم الذات، فهو لم يفعل هذا إلا لإثبات التفوق العقلي للإنسان والبرهنة على قدرة العقل على السيطرة على العالم الطبيعي - كما ورد في بداية هذا البحث - وهي الرؤية الفلسفية التي استمرت حتى هيجل عندما رفض الحركة الداخلية للطبيعة، ومنح للإنسان القدرة على التحكم في قوانينها عن طريق الدهاء، بحيث يحيل أعمالها العمياء إلى أعمال هادفة بعكس ما كانت تريده الطبيعة نفسها. ولا شك أن هذه الرؤية تعبر عن فلسفة الأنا والسيطرة المطلقة، وتسخير كل شيء للأنا البشرية. بينما تشكل فكرة ذات الطبيعة هنا موقفا مختلفا من الطبيعة، ليس نابعا من السيطرة أو الهيمنة عليها. بل إن النظر إلى الطبيعة بوصفها ذاتا يمكن أن يكون منطلقا لرؤية ثورية جديدة للعالم تستمد غذاءها من تراث صوفي طويل ، وتحدوها الرغبة والشوق لإعادة السحر إلى العالم (كما في التراث الشرقي القديم الذي يتميز بانسجام الإنسان وتناغمه مع الطبيعة)، وربما تستند هذه الرؤية أيضا إلى تراث رومانسي لا ينتقص من شأنها، فعندما فقد الإنسان رومانسيته فقد معها توازنه مع البيئة الطبيعية من حوله، وتحولت علاقة الانسجام مع الطبيعة إلى نوع من التعالي عليها. إن فكرة ذات الطبيعة تولد لدى الذات الإنسانية الشعور بالآخر، أي أن الطبيعة هي «الآخر» المختلف عنها. و«فكرة أخرية الطبيعة
Otherness ، أي انفصالها وتميزها عن المخلوقات البشرية أو عن المخلوقات التي تنتج الثقافة والتقنية، يؤكد فكرة القيمة الباطنة الموجودة في الطبيعة، كما أن إحساسنا بآخرية الطبيعة هو الذي يثير فينا الاستجابة التي تمكننا من إضفاء القيمة عليها.»
25
من الصحيح إذن أن للطبيعة قيمة باطنة في ذاتها، ومستقلة عن الإنسان، ومن الصحيح أيضا أن البشر وحدهم هم القادرون على التقييم، ولكنهم لا يقيمون عالما بلا قيم، بل إن البيئة الطبيعية تعرض عليهم بغير شك ما يستوجب التقييم.
إن فكرة النظر إلى الطبيعة باعتبار أنها «الآخر» تتطلب تجاوز النظرة الإنسانية الضيقة التي تتمركز حول الإنسان وتضعه على قمة سلم الموجودات (أو التسلسل الهرمي للموجودات)،
26 «فآخرية» الطبيعة التي تحدثنا عنها هي الأساس الوطيد لما يكمن فيها من قيمة باطنة. هذا بالإضافة إلى قيمتها الجمالية التي تدعم أيضا قيمتها الباطنة؛ ففي الطبيعة خصائص (مثل التنوع والثبات، الجلال والجمال، الانسجام والرقة، الإبداع والتنظيم ... إلخ) نلمس فيها القيمة الجمالية للطبيعة، والتي تساعدنا على إدراكها، وربما تكون هذه الخصائص ذاتها هي التي تساعدنا على إقناع الرافضين للقيمة الباطنة في الطبيعة، أي إقناعهم بقيمتها الجمالية الإيجابية التي هي الأساس الوطيد لما يكمن فيها من قيمة باطنة، ولعل أهم ما يميز القيمة الجمالية للطبيعة هي أنها تحققت بغير تصميم قصدي، وبدون تدخل هادف، وتنبع قيمة الطبيعة من أنها تطورت تطورا طبيعيا بدون تدخل تكنولوجي. ويكشف علم الأيكولوجيا عن هذا التطور والعمليات الطبيعية المختلفة التي تؤدي إلى التنظيم الذي نلاحظه في الطبيعة، والذي هو أحد أسباب قيمتها الباطنة.
إن الإشكالية الحقيقية في علاقة الإنسان ببيئته الطبيعية هي أن نقول إن البيئة الطبيعية غير الحية يمكن أن يكون لها قيمة باطنة، وربما تقترب هذه الإشكالية من الحل عند الإقرار أو الاعتراف بأن البيئة الطبيعية الحية وغير الحية متداخلان، فكل منهما يتضمن الآخر بشكل لا مفر منه، فإذا ما اعترفنا بأن لأحدهما قيمة في ذاته ، فلا بد أن ينسحب هذا الاعتراف - بطبيعة الحال - على الآخر، فكل ما حولنا له قيمة باطنة، ينطبق هذا على الطبيعة الحية وغير الحية على السواء، ولعل هذا هو الذي جعل بول تيلور يميز بين ثلاثة أنواع من القيمة. (1) القيمة الباطنة
Intrinsic Value
وهي القيمة الإيجابية التي يضفيها البشر على حدث أو تجربة ما من حيث إمكان الاستمتاع بها في ذاتها ولذاتها. (2) القيمة الملازمة لشيء ما أو لمكان ما أو المتضمنة في طبيعة الشيء نفسه
Inherent Value ، والتي تجعلنا نعتقد أن هذا الشيء أو هذا المكان ينبغي الحفاظ عليه لا بسبب قيمته النفعية أو التجارية، بل ببساطة لأنه جميل في ذاته أو له أهمية تاريخية أو دلالة ثقافية أو حضارية. (3) الجدارة الكامنة في الشيء
Inherent Worth ، وهي التي لا تنبع فحسب من قيم يستمدها أو يضيفها عليه من يقوم بتقييمه، بل تقوم على حرية الشيء نفسه، ويكون هذا الشيء أو الكائن خيرا إذا أمكن أن يوصف بالخير بغير إحالة إلى أي شيء آخر. ومعنى هذا أن كون الشيء موجودا يعطي له الجدارة أو الخيرية، وأن أي كائن سواء كان نباتا أو حيوانا، وباعتباره فردا هو في الحقيقة يمثل غائية الحياة. وعلى هذا فإن «كل الأشخاص أو الكائنات الأخلاقية الذين لديهم وعي أخلاقي عليهم واجب أولي في تنمية الحفاظ على خيرية الشيء، وتنميتها باعتبارها خيرا في ذاته.»
27
وقد استطاع بول تيلور وفقا للتحليل السابق لأنواع القيمة أن يحسم الصراع بين ما يمكن أن نطلق عليه خير البشر، وخير ما هو غير بشري. فلكل شيء، حتى لو كان حزمة أعشاب - وفق القيمة الثالثة من التحليل السابق - جدارة كامنة فيه، ويستحق الاعتبار الأخلاقي، وكل إنسان يتخذ هذا الموقف الأخلاقي - وهو احترام الطبيعة - فإنما «يقر بمجموعة من المبادئ المعيارية، ويلزم نفسه بالتقيد بقواعد السلوك الصحيح ومستويات الخلق الطيب التي تتسق مع اتخاذ موقف الاحترام من الطبيعة.»
28
هكذا أصبح «الاحترام» هو الموقف الأخلاقي الجديد الذي ينبغي أن ينظر إليه بعين الاعتبار عندما نكون بصدد تأسيس أخلاق بيئية، وذلك بعد أن أوهمنا التقدم العلمي والتقني بأننا يمكن أن نتحكم في الطبيعة بالسيطرة عليها، مما جعل العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية تتسم لفترة طويلة من الزمن بنوع من التكبر والغطرسة من قبل الطرف الأول (الإنسان) تجاه الطرف الثاني (البيئة الطبيعية) بزعم المكانة المتميزة للنوع البشري، ولكن التطور قد أثبت - كما رأينا - عدم شرعية هيراركية (تراتبية) الموجودات. كما أن نشأة البيئة الطبيعية واستمرار وجودها وسلامة أدائها الوظيفي دون الاعتماد على البشر - كما سبقت الإشارة - يجب أن يحول موقف الإنسان منها من التكبر والغطرسة إلى التواضع والتهيب؛ لأنه في حضور الطبيعة «يجب أن تمتلئ نفوس البشر بالإجلال مع الهيبة والدهشة، الدهشة من أن ما نشاهده هو إلى حد كبير نوع من الإعجاز، والتهيب ليس فقط لأن الطبيعة معجزة، بل لأنها تملك قوة تفوقنا وعليها يعتمد وجودنا.»
29
فكيف يتكبر الإنسان، ويترفع على من لا يعتمد عليه في وجوده وبقائه! هذا الشعور بالإجلال والاتضاع أمام البيئة الطبيعية هو الذي يملي علينا أن نسلك حيالها السلوك الملائم، ألا وهو الاحترام.
ربما تصور البعض أن النظام الأخلاقي المتمركز حول البيئة يتضمن التزامات مختلفة عما يتضمنه النظام الأخلاقي المتمركز حول الإنسان، بينما لا يوجد في حقيقة الأمر تعارض أساسي كما رأينا في موقف تيلور المتمثل في إيمانه بضرورة تناسق أو انسجام الأخلاق البيئية مع الأخلاق الإنسانية. ولعل هذا الموقف أن يكون مشابها إلى حد كبير للموقف الأخلاقي الكانطي الذي طالما اتهم بأنه معاد للقيم الخاصة بالبيئة. وحجة القائلين بذلك «إن كانط يعلي من قيمة الكائن الإنساني العاقل، بينما ينكر على الكائنات غير العاقلة أي اعتبار أخلاقي.»
30
ولقد أثير هذا الاتهام بحجة أن كانط يقصر المواقف الأخلاقية على البشر باعتبارهم الفاعلين الأخلاقيين أو القادرين على الفعل الأخلاقي مما يترتب عليه أن يقتصر على الكائنات القادرة على أداء الواجب، وتستثنى منه الكائنات غير العاقلة.
ويحاول أحد الباحثين الرد على هذا الاتهام بقوله إن المهتمين بأخلاق البيئة لم يتدبروا هذا الأمر بشكل كاف؛ لأنهم «فهموا من الواجبات المباشرة أنها متضايفة مع الحقوق، ومن ثم يكون الاعتراض على الأخلاق الكانطية هو أنها تنفي عن الكائنات غير العاقلة أي حقوق طالما أنها عاجزة عن القيام بأي واجبات.»
31
وحقيقة الأمر أن الاتهامات الموجهة إلى الأخلاق الكانطية المتمركزة حول الإنسان أثارت تساؤلات هامة عن معنى الموقف أو الاعتبار الأخلاقي نفسه، فلم تركز الأخلاق الكانطية على من يقع عليهم الفعل الأخلاقي في مقابل الفاعل الأخلاقي العاقل.
ولكن هل يعني عدم وجود التزام أخلاقي نحو الكائنات غير العاقلة - مثل الحيوانات على سبيل المثال - هل يعني هذا أن نؤذيها أو نظلمها؟ الواقع أن كانط لم يقصد ذلك على الإطلاق؛ لأنه كما يقول في محاضراته في الأخلاق: «إن واجباتنا تجاه الحيوانات هي مجرد واجبات غير مباشرة تجاه الإنسانية»، ثم يستطرد بذكر هذا المثال: «إذا ضرب رجل كلبا بالرصاص، فإنه لم يخطئ في واجبه نحو الكلب؛ لأن الكلب لا يستطيع أن يحكم، ولكن فعله (أي القتل) غير إنساني، ويدمر في نفسه أو ذاته تلك الإنسانية التي من واجبه أن يبديها نحو البشر.»
32
وهناك من يستشهد بهذه العبارة لإثبات تحيز الأخلاق عند كانط، وتمركزها حول الإنسان. ومما لا شك فيه أن هذا الرأي صحيح إلى حد كبير؛ فالأخلاق الكانطية هي ذروة المركزية الإنسانية التي يعارضها هذا البحث، حتى لو انتهت عنده بما يوحي بأنها إرهاصات بأخلاق بيئية، فهذا ما لم يقصده كانط صراحة أو بشكل مباشر (على الإطلاق). وإيمانه بأن واجباتنا تجاه الحيوانات هي واجبات غير مباشرة تجاه الإنسانية لم يكن إلا من منطلق هذه المركزية الإنسانية التي لم يحاول إخفاءها أو الالتفاف حولها. فالأخلاق الكانطية هي بلورة لأفكار عصر التنوير بأكمله، وإن كان هذا الموقف لم يمنعه من الوقوف من الطبيعة موقف التواضع والاحترام، وإذا كان هذا هو الموقف الذي نسعى إليه في تأسيس أخلاق بيئية، فلا نزعم أن كانط كان معنيا بتأسيس تلك الأخلاق التي ننشدها؛ لأنه لسبب بسيط لم تكن في زمنه مشكلة للإنسان مع بيئته؛ إذ لم تظهر بوادر هذه الأمة إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إلى أن تفجرت في العقود الأخيرة منه. وأيا كان الرأي في الأخلاق الكانطية تجاه الكائنات غير العاقلة، فلا يمكننا أن نتغافل عن شعور كانط بالرهبة والإجلال أمام الطبيعة، وليس أدل على ذلك من العبارة المحفورة على قبره،
33
والتي تعني أن الطبيعة لها قيمة باطنة في ذاتها، وإن كانت واجباتنا ناحيتها غير مباشرة؛ لأننا إذا دمرنا الطبيعة، فهذا يعني تدمير طبيعتنا البشرية ذاتها التي هي جزء من الطبيعة ككل.
والواقع أن التاريخ قد أثبت صدق فكرة كانط - بدون أن نشغل أنفسنا بالحاملين للاعتبار الأخلاقي عنده - عما يعنيه تدمير البيئة الطبيعية من تدمير للطبيعة البشرية ذاتها. ومما لا شك فيه أن المشكلات البيئية المعاصرة التي نجمت عن سوء استغلال الإنسان للبيئة ومواردها الطبيعية قد تمخض عنه تدمير مقومات الحياة الإنسانية ذاتها. أضف إلى ذلك المخاطر التي أصبحت تهدد كوكب الأرض، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في علاقتنا بهذا الكوكب الذي تتوقف عليه حياتنا؛ لأن البشرية «منذ فجر التاريخ تواجه حقيقة مفادها أننا نعيش على الكوكب الوحيد الذي يستطيع أن يعول الحياة.»
34
ويفسر هذا علاقة التبعية المتبادلة بين البشر وكوكب الأرض، وكيف انعكست عواقب النشاط البشري على البيئة الطبيعية، وكيف أثرت التغيرات الطبيعية بدورها على المجتمع البشري.
يبدو مما سبق أن إدراك القيمة الباطنة في البيئة الطبيعية ينصب على كوكب الأرض، ربما لأن الأنظمة الأرضية لها نوع من التميز والتفرد لارتباطها بالحياة الإنسانية التي نشأت فوقها، وربما لا تكون الأرض هي الكوكب الوحيد الذي يحتوي على أشياء لها قيمة، ولكنها بغير شك الكوكب الوحيد الذي نعلم حتى الآن أن به بيئة ومجالا حيويا وحياة عضوية تسمح بالحياة عليه، ولكن تقييم الإنسان للأرض عادة ما يكون تقييما أداتيا وفق مصلحته الذاتية، ومن منطلق أن الأشياء والأحداث الطبيعية تسهم في إشباع الرغبات والمصالح الإنسانية. ولذلك فإن الاعتقاد بأن للأرض قيمة باطنة يبدو كأنه نوع من البرهنة على المحال؛ فالأرض ليس لها قيمة في حد ذاتها، ولكنها استمدت هذه القيمة من اندماجها في نظام بيئي متكامل سمح بنشأة الإنسان من جزئها العضوي، وظهر على سطحها عندما أثمرت الأرض أكثر ثمراتها تعقيدا وهو الإنسان العاقل. كما أنها - أي الأرض - لم تستمد قيمتها من ارتباط تاريخها الطبيعي بالتاريخ البشري الذي جاء متأخرا عنها بآلاف السنين. بهذا المعنى فإن البرهنة على القيمة الباطنة للأرض ونظامها البيئي ليس نوعا من البرهنة على المستحيل، لكن ماذا بعد أن أثبت العلم أن الكونيات الحديثة برهنت على أننا نحيا في كون لا نهائي لا مركز له أو محيط؟ وبعد أن أصبح واضحا «أننا لا نسكن في مركز متميز من الكون، بل في كوكب ضئيل على أطراف مجرة متواضعة تضم مائة ألف مليون مجرة على الأقل في القطاع الذي نسكنه من الكون، أو ما يعرف بالكون المنظور أو المرصود؛ إذ لا يمكننا أن نلم بحجم الكون كله.»
35
فهل يحق لنا الآن أن نعطي كل هذه الأهمية لكوكب الأرض وهو مجرد جزء ضئيل من الكون اللانهائي؟ وهل يوجد في الكون جزء له أهمية أكثر من أي جزء آخر؟ إذا صح ما سبق قوله بأن كل ما يوجد لذاته، وينشأ ويستمر بشكل مستقل، وبدون الاعتماد على شيء آخر، له قيمة باطنة، فكل ما في الكون ينطوي على قيمة داخلية أو كامنة فيه.
ولكن الأرض ومجالها الحيوي هي الكوكب الوحيد الذي يوفر أو تتوافر فيه بيئة صالحة للحياة، وهذه البيئة ليست مجرد نظام بيئي، بل مجموعة ضخمة من النظم البيئية التي تتداخل فيها الطبيعة الحية وغير الحية، ولا تبدو الطبيعة «كركام تنتشر داخله أنواع عديدة منهمكة في التنافس بضراوة أو يلتهم بعضها البعض الآخر، بل كمكان رمزي منظم وعامر بالمعاني التي تتيح لكل نوع إمكانية الحياة في أحسن ظروف ممكنة»،
36
من هنا تأتي أهمية تأسيس أخلاق بيئية مرتبطة بالأرض، ولا بد أن تكون هذه الأخلاق هي الركيزة الأساسية في النموذج المعرفي الذي أصبح مطلبا ملحا يستحق أن تتضافر الجهود لوضعه.
إن مفهوم البيئة
Environment
باعتبارها الوسط أو المحيط الذي ينشأ فيه الكائن، يشير إلى المجال الذي يضفي على حياتنا الدلالة والمعنى
a field of Significance ، كأن يشعر شخص ما (أو حيوان) بالألفة والانتماء إلى الوطن أو إلى موضع معين من البيئة.
37
ويفرض هذا المفهوم على الإنسان التزاما أخلاقيا تجاه بيئته التي تمثل له ميدانا ذا دلالة ومعنى، ولا يقتصر الأمر على هذا فحسب، بل يفرض عليه أيضا نفس الالتزام الأخلاقي تجاه المجالات الأخرى التي تحمل دلالة ومعنى للكائنات الأخرى من أجل توفير بيئة ملائمة للعيش، بعد أن غدت البيئة ملكا مشتركا لجميع أعضائها، مما جعل صيانة المحيط البيئي أو المجال الحيوي مطلبا أساسيا لاستمرار الحياة الإنسانية، خاصة بعد أن أصبحت البشرية تواجه مشكلات حرجة مع بيئتها كاتساع ثقب الأوزون، وتركز ثاني أكسيد الكربون في الجو، وارتفاع درجة حرارة الأرض، وجرف التربة وما ترتب عليه من تدهور الأراضي الزراعية وما نتج عنه من مجاعات في أنحاء كثيرة من المعمورة، وتغير المناخ الذي أدى إلى فيضانات عارمة في أنحاء من العالم يقابله الزحف الصحراوي أو التصحر في أماكن أخرى، وفناء العديد من الأنواع والسلالات النباتية والحيوانية، وتدمير الغابات، واستنفاذ موارد الطاقة، والتلوث الذي طال الماء والهواء على السواء، والنمو السكاني المتزايد الذي يهدد التوازن الطبيعي وغيرها من كوارث بيئية عديدة.
إن هذه الكوارث البيئية العديدة والمتنوعة التي حدثت في أنحاء متفرقة من العالم خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين بفضل التقدم العلمي والتقني. هذه الكوارث قد لفتت الانتباه إلى أهمية المسئولية الأخلاقية عن البيئة؛ لأنه عندما تخلى الإنسان عن مسئوليته تجاه الطبيعة أصبح قوة مدمرة لها بدلا من أن يكون قوة معمرة. ومن ثم فإن «اتخاذ القرار بشأن صيانة المحيط الحيوي لا يمكن تأجيله أو تجاهله أمام هذه المشكلات»،
38
والمعايير التي نحتاجها لإنقاذ الجنس البشري هي نفس المعايير المطلوبة لإنقاذ بقية المجال الحيوي، إذ لا يوجد قارب نجاة يمكن أن ينقذ الجنس البشري وحده. فالبشر ليسوا أسمى من الكائنات التي تشاركهم نفس البيئة. ولذلك نجد أنه من الضروري الأخذ بالمبادئ الأربعة الأساسية التي أقرها تيلور في هذا الشأن، وتستحق أن نعود لتأكيدها بشيء من التفصيل: (1)
الاعتقاد بأن البشر أعضاء في مجتمع الحياة الأرضية بنفس المعنى ونفس الظروف والشروط التي تكون بها بقية الكائنات الحية أعضاء في نفس المجتمع. (2)
الاعتقاد بأن أفراد النوع من الكائنات الحية الأخرى هي عناصر مكملة في نظام يعتمد كل عنصر فيه على الآخر، بحيث إن بقاء كل كائن حي على قيد الحياة أو رضاءه أو شقاءه لا يتحدد فقط بشروط البيئة الطبيعية، وإنما يتحدد كذلك بعلاقاته بغيره من الكائنات الحية. (3)
الاعتقاد بأن كل الكائنات العضوية هي غايات في ذاتها، وأن كلا منها كيان متفرد، ويسعى إلى تحقيق خيره الخاص بوسائله الذاتية. (4)
لا لزوم للاعتقاد بأن الجنس البشري أسمى من غيره من الكائنات الحية الأخرى.
39
من كل ما سبق يتضح أنه ليس أمام المجتمع البشري سوى طريقين لا ثالث لهما، إما إنقاذ وحماية وصيانة البيئة الطبيعية كمتطلب لاستمرار الحياة البشرية، أو مواجهة الكارثة المحققة إذا أغفلنا أو تغافلنا عن إدراك الحجم الحقيقي لمشكلات البيئة. فالحفاظ عليها (أي البيئة) أصبح مسئولية عامة ومشتركة بين الأفراد والدول والحكومات والمنظمات غير الحكومية والشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للقارات؛ لأن هذه المؤسسات لا تتعامل مع بيئتها التنظيمية الداخلية فحسب، بل مع البيئة الطبيعية ذاتها، ولأن مثل هذه الأمور الداخلية والخارجية يجب التعامل معها كأمور متعلقة «بالوعي المشترك الذي يتطلب تخطيطا طويل الأجل يقوم على العناصر الأخلاقية والاجتماعية التي تعتمد عليها العقلانية والاحترام، وهما اللذان يؤلفان العنصرين الفلسفيين اللذين يتكون منهما الوعي المشترك. فالعقلانية عنصر أخلاقي موجه توجيها ذاتيا تحدد أي جماعة من خلاله أهدافها وسبل تحقيق هذه الأهداف عن طريق الاختيارات العقلية المحسوبة بدقة (...) أما الاحترام فهو - كما رأينا من قبل - عنصر أخلاقي موجه نحو الآخرين، ومن خلاله تحدد الجماعة علاقتها برؤى الآخرين وحاجاتهم في نطاق قدراتها التنظيمية.»
40
ويمثل العنصران السابقان أساس المسئولية المشتركة. (3) الوعي البيئي والمسئولية الأخلاقية
إن الوعي البيئي هو الذي يحدد المسئولية الأخلاقية المشتركة تجاه البيئة الطبيعية من ناحية، والمجتمع البشري من ناحية أخرى. فمما لا شك فيه أن الأخلاق هي أحد الأبعاد الأساسية - التي لا يمكن الاستخفاف بها - في مشكلة الإنسان مع بيئته الطبيعية، فالأخلاق هي جزء من البيئة الاجتماعية أو النسيج الاجتماعي الذي يعمل فيه الفاعلون الأخلاقيون الذين لديهم وعي بالقواعد والممارسات الأخلاقية المسموح بها، مما يترتب عليه أن الأخلاق جزء من المجتمع البشري ومرتبطة أشد الارتباط بما يفعله البشر، وما ينتج عن هذا الفعل من تأثير على حياتهم البشرية من ناحية، وعلى المحيط البيئي من حولهم من ناحية أخرى. ولكي تغدو البيئة الملائمة للعيش - التي تحدثنا عنها سابقا - ليست فقط كلاما نظريا، بل إجراءات عملية لحماية الإنسان من الهواء الملوث الذي يتنفسه، ومن المؤثرات السرطانية في الماء الذي يشربه ... إلخ، فإن حماية البيئة من أجل بقاء الجنس البشري تتضمن «عملية إنقاذ لها ثلاثة أبعاد: البعد الأول هو إنقاذ الكوكب من الكوارث البيئية المتعددة. والبعد الثاني هو إنقاذ الجنس البشري من الأشكال المختلفة من التدمير الذاتي الذي أصبح ممكنا من خلال التطور التكنولوجي، أما البعد الثالث فهو تحقيق العدل الاقتصادي والاجتماعي الحقيقي بين كل أعضاء «العائلة البشرية».»
41
ومما يؤسف له أن حضارتنا العلمية والتقنية قد دمرت - وما زالت تدمر - توازن البيئة الطبيعية، ونحن لا نقدر حتى الآن حجم الدمار الذي ألحقناه بكوكبنا، ولم ندرك بشكل كاف أن بقاء وحماية محيطنا الحيوي الذي يستند إليه وجودنا البشري يتطلب أن نغير قيمنا، وكما أن تغيير القيم نفسه يتطلب تغييرا جذريا للوعي إذا أردنا إيجاد مخرج لأزمة البيئة التي نتحمل وحدنا المسئولية عنها، كما يجب أن تشمل الأخلاق البيئية ليس فقط موقفنا من كوكب الأرض، بل كذلك موقفنا من الكواكب الأخرى.
ويبدو مما سبق أن هناك نوعا من التناقض والمفارقة بين العلم والأخلاق، ففي الوقت الذي نتحدث فيه عن التقدم العلمي والتقني الهائل الذي وصل إليه العقل البشري في العقود الأخيرة من القرن العشرين، نجد في الجانب الآخر تدنيا في السلوك البشري في التعامل مع منجزات العقل إلى الحد الذي يمكن وصفه بأنه نوع من النكوص في الناحية الأخلاقية، مما يستدعي التوقف لتحليل العلاقة بين التطور المعرفي (العلمي والتقني) وبين التطور الأخلاقي. وقد استطاع لوارنس كولبرج - الأستاذ بجامعة شيكاغو - في دراسته عن الضمير الإنساني،
42
التي قام بها بين عامي 1963-1973م أن يكتشف نوعا من التضايف بين التطور المعرفي والتطور الأخلاقي، وأظهرت العينات التي بحثها أن الأفراد يتقدمون في مراحل سلوكهم الأخلاقي عن طريق الترابط المتبادل بينه وبين مستويات الوعي المعرفي أكثر بكثير من ارتباطه بمستويات الطبقة الاجتماعية أو التقاليد الدينية والتوجهات الثقافية. والشيء المهم بالنسبة لعملية التطور الأخلاقي للضمير المشترك، هو أن العكس من ذلك يبدو صحيحا. فالسلوك الأخلاقي أو غير الأخلاقي المشترك يبدو أنه غير مرتبط ارتباطا أساسيا بالمعرفة العلمية أو التقنية، بدليل أن هناك كثيرا من المؤسسات التي تملك هذا التطور الأخير بدرجات شديدة التعقيد، ومع ذلك فهي تمثل مستويات متدنية للأخلاق المشتركة.
وقد أثبتت دراسات كولبرج أن ضمير الفرد يتشكل من خلال عملية تطور أخلاقي في ست مراحل عبر الزمان. ففي المرحلة الأولى يقوم الفرد بالفعل الأخلاقي بدافع من الخوف من العقوبة، أو المرحلة الثانية فيمكن أن نطلق عليها اسم أخلاق المنفعة أو النسبية الأداتية، بمعنى أن يتصرف الشخص وفق منفعته الخاصة، وهي تمثل مرحلة ما قبل الأخلاق الاصطلاحية أو المتواضع عليها (وهي الأخلاق التي تمارس في دنيا المال والأعمال). في المرحلة الثالثة تكون الأخلاق اجتماعية أي نابعة من قيم متفق عليها اجتماعيا. في المرحلة الرابعة يتصرف الفرد أخلاقيا وفق قواعد ومعايير ينظمها القانون. وتقوم المرحلة الخامسة من تطور الأخلاق على التعاقد القانوني، والسلوك في هذه المرحلة يعكس نوعا من الأخلاقية يقوم على استعداد الإنسان للحفاظ على وعوده كما تنص عليها التعاقدات القانونية . أما المرحلة السادسة والأخيرة فتقوم على المبادئ الأخلاقية الكلية. والأخلاقية في هذه المرحلة متطورة إلى أقصى حد، وتظهر بشكل خلاق عند أولئك الأشخاص الذين يوجهون حياتهم من خلال سلوك منظم وصارم طبقا للمبادئ الكلية للعدل والتعاون المشترك.
43
وينتهي كولبرج من دراسته إلى أن عددا قليلا من الناس هم الذين يصلون إلى هذه المرحلة، بل يندر الوصول إليها ندرة شديدة. (4) نتائج تقييم العلاقة بين الإنسان وبيئته
يتضح لنا من الدراسة السابقة لماذا تتصرف بعض الدول الكبرى بلا مسئولية من منطلق التطور المعرفي العلمي المتقدم، بينما تكتفي من التطور الأخلاقي البيئي بمراحله البدائية، وكيف وصلت البشرية إلى مفترق طرق يحتاج الأمر معه إلى التوقف طويلا للتأمل فيما آلت إليه الحضارة الإنسانية. وهذا يؤكد من جانب آخر الحاجة الملحة إلى نموذج معرفي أخلاقي جديد في مقابل النموذج (الديكارتي-البيكوني) الذي أفضى بنا على مدى ثلاثة قرون إلى عقلانية أداتية خالصة. وربما يكون تغيير النموذج - بالمعنى الذي سبق أن أشرنا إليه عند توماس بيكون - هو المعنى المقصود في هذا الصدد «عندما تتغير النماذج الإرشادية يتغير معها العالم ذاته.» وبهذا المعنى نفسه لا بد أن يأتي النموذج المقترح بنظرة جديدة إلى العالم وقيم أخلاقية مغايرة للقيم المصاحبة للنموذج السابق، نظرة وقيم تعيد التصالح بين الإنسان ومحيطه البيئي، وتستعيد العلاقة الحميمة الآمنة بينهما بعد أن تحولت إلى مجابهة وصراع انتهى بالسيطرة البشرية الكاذبة؛ لأنها سيطرة خادعة ومدمرة لمقومات وجود الإنسان. ويرى بعض الباحثين - تعزيزا للفكرة السابقة - أن هذه الأزمة قد أحدثتها القيم الغربية، وأن أسبابها تعود إلى «الفروض الفلسفية الخاطئة التي سلم بها العالم الغربي الحديث، وتمتد جذورها وخيوطها في فكر كل من فرانسيس بيكون وديكارت وهوبز ولوك وهيوم.»
44
ويتمثل أهم هذه الفروض الفلسفية التي أصبحت موضع شك في العصر الحديث في ستة فروض: (1)
النزعة الذرية التي نظرت إلى الواقع على أنه أجزاء أو ذرات صغيرة غير مترابطة، ولم تنظر إليه على أنه كل عضوي موحد مما ترتب عليه تحطيم مشاعر الارتباط بالأرض خاصة بعد الثورة الصناعية، والإعلاء من الشعور بالنزعة الفردية على حساب الدفء والمشاعر والعاطفة والألفة بين الكائنات البشرية، وانهيار التعاطف بين البشر والحيوانات. (2)
النظر بعين الاعتبار إلى الوضع الاقتصادي على حساب البيئة، وهو ما بدأ مع التصنيع ونشأة الرأسمالية، وتقديس الربح، وتشجيع الحركة الاستهلاكية، وتضليل الرأي العام، وخلق «حاجات» اصطناعية. (3)
نبذ الأرض، وهي الفرضية التي تنظر للأرض على أنها مصدر للموارد الطبيعية فحسب، وأن للبشر حق السيطرة عليها واستغلالها. (4)
انتصار الجشع على مستوى الأفراد والمجتمعات على حد سواء. (5)
سوء فهم السعادة الذي يسود المجتمعات الصناعية للعالم الأول على وجه الخصوص، وتتمثل في فكرة خاطئة مضللة عن أن النقود والممتلكات المادية هي التي تجلب السعادة للبشر. (6)
تدعيم السيطرة، وهو الموقف الذي ساد، وكان له أكبر أثر تدميري في العصر الحديث بفعل السيطرة التقنية على الكائنات الحية ومحيطها الحيوي، بل وعلى كل شيء على سطح الأرض أو تحتها.
45 (5) سبل مواجهة الأمة
هذا الوضع غير المتوازن بين الإنسان وبيئته يفرض علينا أن نتساءل: ما هو المخرج إذن من هذه الأزمة وكيف يمكن تصوره؟ إن الخروج من الأزمة البيئية لا بد أن يكون في رأي البعض من خلال نظام جديد وقيم جديدة، أو فيما نطلق عليه الآن اسم النزعة الكوكبية
Globalism ؛ لأن هناك احتياجا شديدا إلى «أخلاقيات كوكبية تتعلق بالتغير الجذري لطريقتنا في التفكير والإحساس وعلاقتنا بكوكب الأرض وعلاقة بعضنا بالبعض، كما تتطلب إعادة تقييم موقفنا من الطبيعة واستهلاك الموارد غير القابلة للتجديد ... والشخص المؤمن بالكوكبية هو الذي يشارك في صنع التغيير الثوري للوعي.»
46
هذه الأخلاقيات الجديدة تتطلب - كما ذكرنا من قبل - تنمية الوعي البيئي الكوني، الذي يرتكز على تضافر العنصر البيئي والعنصر الإنساني، على أن يكون الاحترام هو العلاقة القائمة بينهما؛ احترام الأرض وكل الكائنات الحية بشرية أو غير بشرية، أي أننا نحتاج إلى الوعي بأننا أفراد مشاركون في دراما كونية هائلة، أو كما يقول هوايتهد: «نحن في العالم والعالم فينا»، فليس هناك ما يدعو إلى ابتلاع الكائنات الأخرى أو السيطرة عليها؛ لأن هذا الوعي البيئي الكوني الجديد يولد لدينا الإحساس بجماعية المصير، ويفرض علينا شكلا جديدا من المسئولية ناحية البيئة، بحيث نتخذ إزاءها موقف الاحترام، هذه القيمة الأخلاقية التي تلاشت أو كادت أن تتلاشى في القرن العشرين، وهكذا تتطلب «الجوهرية المشتركة» للإنسان والبيئة الطبيعية فهما جديدا للعالم، وعلما آخر وتقنية أخرى يعتمدان على طريقة الإنسان في النظر إلى البيئة الطبيعية والإحساس بها.
نعم ... نريد علما آخر وتقنية أخرى، علما يبتعد عن فلسفات الذات وتقنية تبتعد عما يمكن أن نسميه بتقنية السيطرة والعنف وهما - أي العلم والتقنية - اللذان أفرزهما العلم الحديث كمحصلة نهائية لنظرته إلى البيئة الطبيعية من الناحية الكمية فحسب، وإغفال جوانبها الكيفية. وكثيرا ما ينظر إلى الكوارث البيئية كالفيضانات والجفاف والأوبئة ... إلخ، على أنها نوع من الكوارث الطبيعية «كما لو لم يكن هناك أناس يمكن أن يكون لهم دخل أو دور في صنعها. والحقيقة أن الطبيعة تعتبر بصفة عامة هي المانع أو المسكن لهذه الكوارث، وأن زيادة أعداد الفيضانات وحدتها وانحباس الأمطار وغيرها من المآسي المشابهة تحدث أو تتفاقم عادة نتيجة أسلوب العنف والقسوة الذي يتبعه الإنسان في حق بيئته الطبيعية.»
47
لذلك أدرك الأيكولوجيون خطورة تدهور المحيط الحيوي، وسيادة تقنية العنف في العقود الأخيرة من القرن العشرين هي التي يمكن أن تفسر لنا أصالة المشروع الأيكولوجي الذي ينظر إلى البيئة الطبيعية نظرة مختلفة، ويضعها في موضع مساو لوضع الإنسان، بحيث يستعيد التعاطف معها في محاولة للتخلص من التطورات الشاذة للمشروع التقني.
إن النظر إلى البيئة الطبيعية باعتبارها ذاتا أو آخر يمكن اعتباره من جهة محاولة لإعادة السحر إلى العالم، كما يمكن اعتباره من جهة أخرى محاولة لاستعادة النظرة الحيوية إلى الأرض (أو جايا
Gaia
بالمعنى الديني القديم عند الإغريق)، بوصفها الأم التي تحتضن كل الكائنات الحية أكثر منها مصدر موارد تستغل فحسب. وهي نظرة تفضي إلى الاحترام والتبجيل، والاستعاضة عن النزعة الذرية
Atomism
بالنزعة الكلية
Holism ... وقد يبدو من كل هذا أن تلك رؤية رومانسية إلى البيئة الطبيعية مما يطرح السؤال عن مشروعية الخطاب الأيكولوجي، وهل هو صورة يوتوبية خيالية أم مشروع جاد للمستقبل؟ إن الخطاب الأيكولوجي يمكن أن يتصوره البعض «مجرد تعبير عن رغبات أو أماني لا يمكن تحقيقها أو عن خيالات (فانتازيا)، ولكنه من ناحية أخرى يمكن أن يكون برنامجا معبرا عن التصميم على اكتشاف طبيعة جديدة تضفي عليها الروح والمعنى»،
48
ولكن يجب أن يحذر هذا المشروع الضخم من الوقوع في خطرين متطرفين : «الوقوع في الهيمنة الوحشية على القوى الطبيعية، والوقوع في نوع من الروحية أو الصوفية الجوفاء.»
49
خاتمة
نخلص من كل ما سبق إلى أن الإنسان والبيئة الطبيعية يمثلان قطبين في متصل واحد (مع وجود مستويات أخرى بطبيعة الحال من العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية تتوسط المسافة بين هذين القطبين). وقد بدأ المتصل بخوف الإنسان من قوة وبطش البيئة الطبيعية، عندما نظر إليها على أنها شيء آخر مختلف عنه يثير فيه الرعب، فتحولت الحيرة وعدم فهم ما يحدث حوله من ظواهر طبيعية تهدد حياته وبقاءه (من برق ورعد وأعاصير وفيضانات وبراكين ... إلخ) تحولت إلى خوف مدمر للبيئة الطبيعية ذاتها، وذلك لحماية نفسه من أهوالها. وقد انتهى هذا المتصل - كما رأينا - إلى تدمير الإنسان للبيئة الطبيعية إلى الحد الذي أصبح يهدد حياته وبقاءه أيضا، مما جعل الأيكولوجيين يبذلون المزيد من الجهد في محاولة لإنقاذ البيئة الطبيعية من قوة الإنسان وبطشه.
صحيح أن الإنسان هو الكائن الذي كتب عليه أن ينظم هذا العالم باعتباره الكائن العاقل الوحيد على هذا الكوكب، ولكن من الصحيح أيضا أنه ليس سوى نوع واحد بين أنواع وكائنات أخرى عديدة، وإذا كان العقل هو الملكة التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات، فإنها قد تحولت (أي ملكة العقل) من نعمة ممنوحة له إلى نقمة عليه منذ أن رفع ديكارت لواء العقل، ووضع أسس نموذج معرفي قائم على الثنائيات المتضادة، مما أدى في نهاية الأمر إلى السيطرة الكاملة على البيئة الطبيعية وتدميرها، فكيف يكون المخرج؟ أي كيف نعود إلى البيئة وتعود البيئة إلينا؟ بمعنى آخر كيف نحقق التوازن والتوازي بين إمكانيات البيئة الطبيعية وقدراتها وبين احتياجات الإنسان الراشدة بما يسهم في استدامة التنمية من ناحية، وحماية البيئة الطبيعية وصيانتها من ناحية أخرى؟
لن يكون المخرج إذن إلا بالتخلي عن نموذج الثنائيات الضدية، أي لا بد أن تتحول الثنائيات والازدواجيات المتضادة والحاسمة إلى قطبين في داخل نسق أكبر لا يكون التفكير فيه قائما على هذا أو ذاك، بل يكون هذا وذاك، ولا يتأتى هذا - كما بينا في هذا البحث - إلا من خلال نموذج معرفي جديد يجمع بين المتقابلات، ويقضي على التوتر القائم بين الثنائيات المتضادة التي تفصل بين العقل والجسم، الطبيعة والحضارة، القيم الباطنة والقيم الأداتية ... إلخ، نموذج يعلمنا أن نرى المفارقات والاختلافات بوضوح، وأن ننظر إلى هذه الاختلافات لا على أنها مجرد متعارضات، بل كأقطاب متناقضة في تفاعل داخل ميادين معقدة من العلاقات. وقد لا يرى البعض في مثل هذا النموذج الحل القاطع والسريع لمشكلة تتفاقم آثارها بشكل مرعب ومخيف؛ لأن تغيير النموذج المعرفي في مجالات النظم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية لا يكون ثوريا، ولا يؤتي بثمار سريعة كما هو الحال عند توماس كون في مجال النظريات العلمية، وغالبا ما يستغرق التغيير المصاحب للنموذج الجديد زمنا إن لم يكن طويلا فهو ليس بالقصير، ولكن هذه من ناحية أخرى ليست بالحجة القوية بدليل أنه قد تمت بعض التحولات في النظم الفكرية بشكل ثوري وفجائي، ولم تمر بتلك التطورات البطيئة، بل أحدثت طفرة معرفية كالماركسية على سبيل المثال وغيرها.
لقد حاولنا تحسس الطريق إلى نموذج معرفي جديد لإعادة تقييم موقفنا من البيئة الطبيعية، وهي محاولة أولية تحتاج إلى تكاتف جهود العلماء من مختلف الميادين والتخصصات لكي يتحقق لها المزيد من التنسيق والوضوح، كما بينا أن هذا النموذج المعرفي يأخذ في الاعتبار القيم البيئية؛ لأن المشكلة التي تتعلق بالمأزق البيئي - كما رأينا - هي في المقام الأول مشكلة أخلاقية، فلا بد إذن أن يحاول النموذج المعرفي الجديد تأسيس أخلاق بيئية جديدة تقوم على عناصر أساسية، يمكن أن نوجزها فيما يلي: (1)
دحض النزعة المركزية الإنسانية التي تجعل الإنسان مصدر القيمة وموطنها ومنبعها الوحيد. (2)
الإيمان بمفهوم القيمة الباطنة في البيئة الطبيعية. (3)
أن يكون «احترام البيئة الطبيعية» هو القيمة الأخلاقية الأساسية التي ترتكز عليها الأخلاق البيئية. (4)
تنمية الوعي الجمالي والوعي الكوني المشترك بأهمية عودة العلاقة الحميمة بين الإنسان والبيئة الطبيعية. (5)
النظرة الحيوية إلى البيئة باعتبارها الأم أو «الموطن» الذي تتوفر فيه مقومات الحياة البشرية. (6)
تنمية الإحساس بمبدأ المسئولية المشتركة تجاه البيئة ومحيطها الحيوي، وما يستلزمه ذلك من التركيز على فكرة الضمير البيئي وإحيائها بالمعنى الشامل الذي يضع «المصير الجماعي» نصب عينيه. (7)
سن قوانين أخلاقية لحماية البيئة الطبيعية؛ فالبيئة الملائمة للعيش باعتبارها حقا مشروعا هي مطلب أساسي من أجل بقاء واستمرار الجنس البشري وسائر الكائنات الأخرى. (8)
تحمل الشركات الكبرى مسئولية أفعالها؛ لأنها مسئولة عما تنتجه، وعن آثار إنتاجها على الجنس البشري وبقية الكائنات الحية. (9)
الاحتياج إلى تكاتف جهود العلماء في جميع التخصصات المختلفة لتنمية التكنولوجيا، وإنتاج ما يمكن أن نطلق عليه تكنولوجيا نظيفة لا تدمر البيئة.
ولكي يتحقق مثل هذا النموذج لا بد أن يتوقف العلم عن أن يكون عبدا تجره التقنية والمصالح الأنانية من رقبته، وألا يقتصر دوره على خدمة الإنتاج والسلع المادية التي تتجه إلى الربح فقط، بل لا بد أن يعود العلم كما كان معرفة بالحقيقة، أي معرفة غير مرتبطة بمنفعة محددة. ولا بد أيضا أن يصاحب التطور العلمي تطور أخلاقي مماثل، حتى لا يتحول - كما حدث في العقود الأخيرة - إلى فأس يحفر بيديه قبر الكائنات البشرية وغير البشري على السواء. وإذا لم نسرع بالسيطرة على أزمة البيئة، فربما يرى العالم نهاية التاريخ البشري في وقت أقرب بكثير مما نتصور.
ولعل الأبيات التالية للمتصوفة الألمانية هيلد جاردفون بنجين
50
أن تكون تعبيرا صادقا عما سيلحق الجنس البشري من جراء سوء استخدامه لبيئته الطبيعية، ومع أنها تؤكد النزعة الإنسانية التي رفضناها، فهي من ناحية أخرى تنبهنا إلى العلاقة الحميمة التي يجب أن تسود بين الإنسان والبيئة، وهي العلاقة التي دعت إليها جميع الأديان السماوية والأرضية، كما حثت عليها الفلسفات الكبرى في الشرق والغرب قبل الميلاد: إن الأعلى والأدنى/ والخلق جميعا/ أعطاها الله إلى الجنس البشري وأودعها بين يديه لكي يتصرف فيها/ فإذا الإنسان أساء استخدام عطيته/ سمح العدل الرباني لخلقه/ بمعاقبة الإنسان ...
ومن هذا المنطلق، فإن النموذج المعرفي الجديد ينبغي أن يرتكز - إلى جانب كل الأسس التي سبق ذكرها - على أخلاقيات الأديان السماوية التي علمتنا أننا لم نخلق العالم ولا نملكه حتى نعطي لأنفسنا حق التصرف فيه وفق إرادتنا ورغباتنا، ولكننا نستمتع بثماره كهدية أو هبة لا يحق لنا امتلاكها، وبشرط أن نتركه - أي العالم - في حالة جيدة للآخرين، وأن تكون عقيدتنا الحقيقية هي الرحمة والرفق بالكائنات الطبيعية الأخرى، والتواضع أمام البيئة الطبيعية التي نخضع وإياها لإله واحد، وأن نحقق العدل بالشكل الذي يحفظ علاقة التوازن بين الإنسان وبيئته بما يحقق مصلحة طرفي العلاقة، صيانة البيئة وحمايتها من ناحية، وتحقيق احتياجات الإنسان الأساسية بصورة متواصلة من ناحية أخرى.
صفحة غير معروفة