وربما يفضي أيضا أتباع هذه الحركات تلك المثالية على مولد حركاتهم في محاولة منهم للدفاع عن أفكارهم وتوجهاتهم ضد مساعي التعبير من ناحية، وأيضا لمحاربة أية أفكار جديدة أو مغايرة تعارض مصالحهم وأهدافهم، وللوقوف في وجه التهديدات التي تتعرض لها معتقداتهم من ناحية أخرى، فيتخذون من قداسة اللحظات التاريخية الأولى حجة قوية لتدعيم مواقفهم السكونية وتثبيتها عند محطات بعينها في مسار التاريخ، وفي سبيل هذه الغاية يلجئون في أحيان كثيرة إما إلى إخفاء الظواهر السلبية المرتبطة بزمن البدايات في محاولة لمحوها من ذاكرة التاريخ، أو يلجئون إلى تحويلها بحنكة شديدة إلى ظواهر إيجابية يحيطونها بهالة المجد والعظمة، وتاريخ الثورات في العالم يشهد على هذا.
يوجد أيضا في المجتمعات البدائيات الأولى والحضارات القديمة نوع من التقييم الإيجابي لزمن الماضي، والقيمة الخاصة التي نسبت إلى هذا الزمان تعود إلى أن بدايات البشرية هي اللحظات التي تم فيها وضع أسس كل المعتقدات وأشكال التنظيم الاجتماعي،
17
وهي أيضا الفترة التاريخية التي عاشتها الإنسانية بشكل تلقائي عفوي طبيعي، وفي حرية تامة قبل وضع القوانين المدنية التي تنظم المجتمع تنظيما فرض على الإنسان أنواعا عديدة من القيود، وأفقده حريته الطبيعية وحياته الفطرية التلقائية التي عاشها في ظل حياته البدائية. كل هذا على الرغم من أن الإنسان خلال هذه الحقبة الزمنية لم يكن على وعي بالتاريخ ولا بالماضي التاريخي، لكن هذا التقييم الإيجابي للمراحل البدائية الطبيعية الأولى في حياة الجنس البشري نجده أيضا في كتابات بعض المفكرين المتأخرين الذين عاصروا فترة ازدهار العلم والفن والفكر، ولكن راودهم الحنين الدائم للعصور البدائية الأولى، نجد هذا في كتابات روسو المبكرة، ونجده أيضا في الموقف التقييمي للعصور القديمة في عصر النهضة. وإذا كنا قد وسمنا العصور البدائية الأولى بأنها خالية من الوعي التاريخي أو من الماضي التاريخي، فإن العصر الأخير - أي عصر النهضة - هو نموذج لهذا الوعي التاريخي عندما بدأ الباحثون الأوربيون «يدركون لأول مرة كيف كانت أزمانهم متميزة عن الأيام السابقة، وأكبر رجال عصر النهضة مجتمعات الإغريق والرومان القديمة، وراودهم الأمل في محاكاتها، غير أنهم كلما توغلوا في دراسة تلك الحضارات، وجدوا أنها غير قابلة للمحاكاة أساسا. ذلك أن أوروبا الحديثة كانت تمتلك مزايا تكنولوجية لم تكن معروفة حينذاك ... واكتشاف هذه الفوارق الجوهرية القائمة بين الأزمنة الماضية وبين الحاضر هو لب البحث التاريخي الحديث. إذ تمخض لأول مرة عن الوعي بالمفارقة الزمنية.»
18
وسنرجئ الحديث عن هذه المفارقة الزمنية وعن الوعي التاريخي في عصر النهضة إلى الجزء الأخير من البحث.
لقد كشفت النظرة التاريخية للماضي - كما عرضنا لها على الصفحات السابقة - عن عدم اكتشاف مواطن القوة والضعف فيه. والفكر الذي يدعو إلى تمجيد الماضي على إجماله بدون مراجعته مراجعة جذرية هو فكر يتجاوز «المفارقة الزمنية» - المشار إليها في النص السابق - بين الماضي والحاضر، ويقتصر على الاستعانة بمقومات الماضي لمواجهة المتغيرات المستجدة في زمن الحاضر. هذا الفكر غالبا ما يغيب عنه الرؤية النقدية للتراث الثقافي فلا يستطيع اكتشاف الإمكانات الكامنة في رحم الماضي، والتي من الممكن إلقاء الضوء عليها وتطويرها في الحاضر وفق متطلبات العصر لدفعه إلى الأمام، فيختلط الغث بالثمين، ويصبح «التطلع إلى الوراء» هو أمل الحاضر، وبذلك يضيع الماضي ويضيع معه الحاضر. فمتى يموت التراث ومتى يحيا؟ نستعين بالنص التالي للإجابة عن هذا السؤال: «لو شئنا أن نلخص في كلمة واحدة التضاد بين النظرة إلى التراث التي تؤدي إلى تقدم فكري، وتلك التي لا يترتب عليها سوى التخلف، لقلنا إن التراث في الأولى، يحيا من خلال موته، أما في الثانية فإنه يموت من خلال حياته. في الأولى يكون التراث متصلا، لا يطرأ عليه انقطاع، فتكون النتيجة أن كل مرحلة قديمة تمهد الطريق لمرحلة جديدة تعلو عليها، وتستوعبها في ذاتها، ولكن مع تجاوزها وتفنيدها ... أما في الثانية، حين يحدث انقطاع في التراث، وحين تتم محاولة الإحياء دون إدراك لمقتضيات العصر الجديد الذي طرأ بعد الانقطاع الطويل، فإن هذا الإحياء ذاته موت للتراث؛ لأنه يبعثه من جديد في غير وقته، ويزرعه - كالقلب الغريب - في جسم عصر لا بد أن يرفضه.»
19
من كل ما سبق يتضح أن النظرة التاريخية إلى الماضي تستوجب رؤيته في سياقه الخاص، وأن تعامل كل فترة زمنية بوصفها كيانا مستقلا، وذات دلالة في ذاتها. وبهذا المعنى يكون للحاضر أيضا كيانه الخاص، ودلالته التي تتجاوز الماضي، وقد يفهم من هذا الدعوة أو محاولة الفصل بين الأزمان التاريخية، أي فصل زمن الماضي عن الحاضر، وحقيقة الأمر أن هذا غير ممكن لأسباب تند عن محاولاتنا؛ لأن الماضي متضمن في الحاضر بشكل أو بآخر، وفي ضوء ما سبق شرحه، فإنه ليس هناك حدود فاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكن العلاقة بينهما علاقة جدلية وبقدر ما يوجد فيها انقطاع، كذلك يوجد اتصال بنفس القدر. (4) جدل الحاضر والمستقبل
إذا كنا قد رأينا في جدل الماضي والحاضر أن افتقار الحاضر للقيمة والمعنى يفضي بحركة التاريخ إلى العودة إلى الماضي والتشبث به، فلا بد أن يكون العكس صحيحا، أي عندما يكون الحاضر خلاقا ومبدعا ومثمرا، فإنه يفتح لنا الطريق إلى البعد الثالث والأخير من أبعاد الزمان ألا وهو المستقبل. فالمستقبل بهذا المعنى يستخلص من الحاضر، ويتم التنبؤ به على أساس المعرفة الموضوعية المحيطة بكل ظروف الحاضر. ومع ذلك فإن المستقبل عندما يأتي إلى النور قد يتبين أنه مختلف اختلافا جذريا عن التنبؤات والتوقعات التي تمت عنه، وقد يكون في بعض الأحيان متناقضا معها. فإلى أي حد يمكن أن يكون هذا صحيحا؟ الإجابة عن هذا السؤال تعود بنا إلى إشكالية الحد الفاصل بين الحاضر والمستقبل، والذي لا يمكن تحديده أو تعيينه بشكل ثابت، كأن تكون سنة معينة حدا فاصلا بين حقبتين زمنيتين. وربما تزداد الإشكالية صعوبة إذا ما أخذنا في الاعتبار فكرة عبور الزمن؛ لأن «فكرة الزمن الذي يعبر مرتبطة بفكرة الأحداث التي تتحول باستمرار من مستقبل إلى ماضي، فنحن نفكر في الأحداث باعتبار أنها تقربنا من المستقبل، بينما الواقع أننا نمسك بها في الحاضر اللحظي، ثم تذوب أو تتراجع إلى الماضي»،
صفحة غير معروفة