10
أما بوشنسكي فقد ميز أهم النظم الفلسفية في النصف الأول من القرن العشرين من حيث المحتوى إلى ست مجموعات «المذهب التجريبي أو فلسفة المادة، وهو خليفة المذهب الوضعي (وهما يمتدان من مذاهب القرن التاسع عشر)، والمثالية في صورتيها الهيجلية والكانطية. ثم يأتي مذهبان قطعا كل حبال الاتصال مع القرن التاسع عشر؛ وهما فلسفة الحياة وفلسفة الماهيات أو الفينومينولوجيا. وأخيرا تأتي مجموعتان تعبران عن المحاولات الأصيلة والمعبرة عن القرن العشرين، وهما مجموعة الفلسفة الوجودية ومجموعة ميتافيزيقا الوجود الجديدة.»
11
أما تصنيف هذه المذاهب حسب المنهج فيرده بوشنسكي إلى «التحليل الرياضي المنطقي من جهة، وإلى العمليات الفينومينولوجية من جهة أخرى.»
12
ومما لا شك فيه أن تصنيف المذاهب - كما يعترف بوشنسكي نفسه - لا يخلو من تعسف؛ لأن هناك فروقا كبيرة تفصل بين فلسفات تم وضعها تحت عنوان واحد، ومع ذلك فالتصنيف ضرورة من أجل تقديم صورة كلية ونظرة شاملة. وسنعرض الآن لأهم التيارات الفلسفية في القرن العشرين، ولكن هذا العرض أيضا لا يخلو من تعسف، فالمساحة المتاحة لهذا البحث لا تسمح بعرض كل الاتجاهات؛ لذلك سنقتصر على أكثر التيارات تأثيرا في فلسفة القرن العشرين، وسيتم اختيار الفلاسفة الذين نظن أن لهم وجهات نظر ثاقبة، أو لهم إسهام مميز وتأثير واضح في مناهج أو نظريات أو تأملات فلسفية أخرى، والذين أصبح لهم تأثير على عقول فلاسفة واعدين الآن .
سنبدأ أولا بعرض التيارات الفلسفية التي سادت الفكر الغربي في النصف الأول من القرن العشرين، والتي كانت رد فعل أو امتدادا لتيارات القرن التاسع عشر، ولكننا سنستثني من هذا العرض الفلسفة الماركسية، وعلى الرغم من أنها تنتمي إلى مذاهب القرن التاسع عشر، فقد كان لها تأثير على بعض الفلاسفة في القرن العشرين، لا سيما بعض الفلاسفة الماركسيين الذين اجتهدوا في تجديد الفكر الماركسي من الداخل - مثل بلوخ وأصحاب التيار النقدي الاجتماعي من مدرسة فرانكفورت - وحاولوا تحذير العالم مما سيئول إليه الفكر العقائدي المتزمت بعد أن شهد النصف الأول من القرن العشرين أهوالا عديدة، فقد سيطرت حكومات شمولية استبدادية على النظم السياسية في العديد من بلدان أوروبا كالفاشية الإيطالية والشيوعية السوفيتية والنازية الألمانية، وشهد أيضا ملايين الضحايا في حربين عالميتين انتهتا بأن تركتا العالم في حالة فوضى، بعد أن وصلت ذروته بإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي. لذلك ظهرت الدعوة إلى تجديد الفكر الماركسي والوقوف في وجه النظم الشمولية، ولكن لم تكن هناك آذان صاغية لهذا التجديد، ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى المصير المأساوي الذي انتهت إليه الماركسية، فالانهيار العظيم يشهد عليه. ومع ذلك سنكتفي بالإشارة إلى تيار واحد حاول تجديد الفكر الماركسي من حيث المنهج، وإن كان قد تخلى عن معظم مقولاته الفلسفية الأساسية، وهو التيار النقدي لمدرسة فرانكفورت، والذي سنعرض له في حينه. ونبدأ العرض بالتيارات التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين مثل البرجسونية والبراجماتية والفلسفة التحليلية. وقد كانت فلسفة برجسون الحيوية مناهضة للمذهب المثالي والفلسفة الوضعية المنتمين للقرن الماضي، كما عرضت لأول مرة مفهوم الديمومة. وقدم برجسون نظريته في التطور، وكانت دفعة كبيرة للأبحاث الفلسفية اللاحقة لها.
وكانت البراجماتية امتدادا للتيار التجريبي باعتبارها شكلا من أشكال الفلسفة التجريبية، ثم أصبح لها تأثير عميق على المسار اللاحق لها، «ليس فقط على الفلسفة التكنولوجية، بل أيضا على ازدهار نظم معرفية لم تكن مستقلة بنفسها تمام الاستقلال
half-independent disciplines
مثل علم الدلالة، وعلم النفس، والسوسيولوجيا والتشريع والتعليم.»
صفحة غير معروفة