ويرفض رورتي أيضا اختزال الإنسان في ملكة واحدة أساسية هي ملكة العقل، أو أن تكون هذه الملكة بمثابة محكمة لأفكارنا ورغباتنا واعتقاداتنا وموجه لاختياراتنا؛ إذ إننا نعرف أنفسنا من خلال ميولنا واتجاهاتنا وإمكاناتنا. ويؤكد رورتي بهذا نزعته البراجماتية التي تتمحور حول إمكانية البشر تنمية نشاطهم ومؤسساتهم وإبداع مبادئهم التي تنظم سلوكهم؛ فالخبرة الإنسانية في الفلسفة البراجماتية هي المنبع الأساسي لكل معرفة. وبهذا المعنى السابق لا تتم معرفة الذات عند رورتي إلا من خلال إبداع الذات، ولا تكون معرفة العالم الخارجي إلا من خلال محاولاتنا العديدة المتكررة للتكيف أو التلاؤم مع الواقع الخارجي. فالمعرفة - كما عند جيمس وديوي وفيتجنشتين - نشاط متجدد، وليست مجرد تأمل. إن المفهوم التقليدي للفلسفة لا يساعدنا على التوصل إلى شيء ما حقيقي في بحثنا عن ماهية الحقيقة، ولا يساعدنا على فعل الخير من خلال بحثنا عن ماهية الخير؛ لذلك تحاول البراجماتية أن تتجاوز التفرقة - التي انحدرت إلينا من التراث الأفلاطوني - بين الحقيقة
truth
والظن
doxa ، وهي التفرقة التي تمثلت في خطين متوازيين بين الفلسفة المثالية والفلسفة الوضعية. كما ترفض البراجماتية أيضا فكرة أن الحقيقة هي «التطابق مع الواقع»؛ لأن مئات السنين فشلت في إيجاد معنى لفكرة التطابق. ولذلك فإن الحقيقة أو الفكرة الصادقة هي التي تساعدنا - في رأي رورتي - على التلاؤم أو التوافق - وليس التطابق - مع الواقع. وهو في هذا يعبر تعبيرا صادقا عن المذهب البراجماتي الذي يؤكد على أن «الأفكار هي أساسا خطط ومناهج لإحداث تغييرات معينة في الأشياء الموجودة من قبل. وهذه النظرة تعارض المذهب العقلي وما يقول به من نظرية النسخ
copy theory ؛ فالأفكار من حيث هي كذلك تظل عديمة الفعل وعاجزة ما دامت تعني أنها تعكس حقيقة كاملة»،
10
ومن هنا تدور فكرة رورتي الأساسية حول رفضه للأفكار كصورة طبق الأصل من حقيقة ثابتة كما تنعكس صورة شخص في المرآة عنه؛ فالحقيقة ليست ثابتة وليست نظاما كاملا، بل هي تغير دائم ومستمر.
هكذا يدين رورتي الأفكار التي انحدرت إلينا من القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولعله أراد بنقده هذا أن يعيد بناء الفلسفة الحديثة، وهي البيئة التي ظهرت فيها الفلسفة التحليلية. ويعتمد نقد رورتي على فكرة مفادها أن النموذج الفلسفي الذي ساد في تلك الفترة التاريخية لم يعد يصلح الآن لمعالجة مشكلات فلسفية جديدة. وربما كانت حجته في هذا هي أن التفكير الفلسفي في مطلع العصر الحديث قد جاء بنموذج مخالف تمام الاختلاف للنموذج الفلسفي الذي كان سائدا في التراث المدرسي، مما جعل هذا الأخير ينهار في فترة زمنية ليست بالقصيرة، ولكنها أيضا ليست ممتدة. ويفهم من هذا أن التطور أو التغير التاريخي عادة ما يأتي مصحوبا بنموذج مختلف، كالنموذج الإرشادي المصاحب للمجتمع العلمي عند كون. ويعني رورتي بهذا أننا نعتقد خطأ أننا نتعامل مع نفس المشكلات الفلسفية الأساسية التي كان يتعامل معها أسلافنا، في حين أنها في واقع الأمر مشكلات مختلفة فرضتها الظروف التاريخية المتغيرة، وربما كان النموذج الجديد يتعامل مع المشكلات الأساسية بشكل أفضل. ولكي نفهم سير الحركة التاريخية لتراث الفلسفة الحديثة، علينا أن نكشف عن مجموعة الاستعارات والمشكلات التي ميزت اللغة وأشكال الحياة ووضعت نماذج التفلسف، أي علينا باختصار أن نتتبع تاريخ نشأة وسقوط العقل. (1-2) نقد النزعة التحليلية
يعود رورتي للوراء للبحث في تاريخ الحدوس الفلسفية التي سبقت الفلسفة التحليلية، تلك الحدوس التي نشأت بمجرد التفكير فيها ، فكانت مشكلة العقل والجسم - على سبيل المثال - هي المشكلة الأساسية للفلسفة التي نتجت عن التفرقة الحاسمة بين ما هو عقلي وما هو جسدي، ولكن من أين نشأ هذا الحدس؟ يجيب رورتي: «من وجهة نظري - التي أتفق فيها مع فيتجنشتين - أن الحدس ليس شيئا أكثر أو أقل من الاعتياد أو الألفة مع لعبة اللغة التي وجدنا أنفسنا نلعبها.»
11
صفحة غير معروفة