وأصبحت لعنة التقدم المتواصل هو النكوص المتواصل. وتعاظم اغتراب الجماهير التي تموضعت وتشيأت ووقعت، مثلها مثل حكامها ومديريها، في نفس الشبكة المخيفة التي تثبت الوضع القائم.
وازداد رفض أدورنو للعقلانية العلمية في كتابه «الجدل السلبي» الذي تأثر فيه بالنزعة الاجتماعية لدور كايم، وعارض تسلطية المؤسسات الاجتماعية التي تخنق الفرد، ورأى «أن العلاقة بين سيطرة الإنسان على الطبيعة وسيطرة الإنسان على الإنسان ترجع بشكل أساسي إلى علاقة المفهوم أو التصور العام بالموجودات الجزئية غير التصورية، فعندما يغلف تصور عقلي عام الموضوع، ويهيمن عليه، يتلاشى ما يتسم به هذا الموضوع من تفرد عيني لكي ينضوي تحت ذلك التصور العام.»
38
ولا تدرك الذات أنها تحولت إلى موضوع؛ لأن عملية الهيمنة الأصلية بدأت منها. كما أنها غفلت عن هذا التحول تحت تأثير النشوة التي استشعرتها نتيجة انتصارها على الواقع الخارجي أو تحررها منه.
وليس العقل هو السلطة البشرية التي يمكن الاحتكام إليها عند مواجهة تسلط لا إنساني؛ لأنه (أي العقل) «هو المسئول عن هذه اللاإنسانية. ولأنه هو نفسه قد نبع من إرادة التسلط، فالصلة الحميمة التي تربط العقل بالتسلط ليست هي السمة المميزة للعقل الأداتي أو التقني أو العلمي فقط، وإنما هي سمة تميز كل عقل، حتى لو حاول المقاومة كما في العقل الحدسي أو الجدلي. ومثلما انطبع العقل بالتسلط، فإن الوعي بل وبنية أنفسنا أيضا، قد انطبعت بالتسلط»،
39
وليس لهذا الفساد أو الإفساد الذي أصاب الذات بداية تاريخية، بل نما من داخلها بشكل متزايد. إنه نزوع أو ميل طبيعي في العقل، وبالتالي من الصعب الاعتقاد بأن الذات تستطيع بما لها من قدرة تنويرية أن تلغي الظروف المغتربة التي خضعت لها. لقد وعد العقل أن يحرر الإنسان (بوصفه ذاتا) من سيطرة الطبيعة، إلا أنه استعبده بوصفه موضوعا لسيطرته، وهذا الانقلاب من الذات إلى الموضوع يصعب إدراكه بالعقل.
ويواصل أدورنو هجومه على المعرفة التصورية، فيؤكد أن التصور يعزل الشيء عن ذاته، أي يلغي فرديته، وأن ارتباط التصور بالشيء هو من قبيل ارتباط القوي بالضعيف. وواقع الأمر أن اعتراض أدورنو على العقل التصوري ليس بالفكرة الجديدة، وإنما يرجع له الفضل في أنه أوضح أن النزعة التعميمية هي نزعة تؤدي إلى الشمولية والهيمنة، ولكن هل يصدق زعمه هذا في كل الأحوال؟ إننا إذا أمعنا النظر وجدنا أن المعرفة التصورية لم تنظر دائما للموضوع العيني (المدرج تحت تصور ما)، وكأنه قد عرف معرفة تامة، يدل على هذا أن الفكر في نهاية القرن الثامن عشر تمرد على استبداد المعرفة التصورية، أي على النزعة التصورية الكلية؛ لأنه وجد «أن الشيء المدرج تحت التصور الكلي ليس مجرد عينة مساوية لكل العينات الأخرى تحت سقف التصور، بل أن هذا الشيء العيني له خصوصيته الفردية التي تميزه عن غيره. ولم يكن هذا بديلا عن الفكر التصوري»؛
40
لأن الرجوع للحسي أو العيني المباشر ليس عدولا عن المعرفة العقلية المنهجية، كما أن المعرفة التصورية ليست كلها هيمنة وسيطرة على الأشياء، بل هي على العكس من ذلك تتيح لنا أن ننفذ إلى الخصائص النوعية للشيء، وتمهد الطريق المؤدي إلى إدراك فرديته وخصوصيته.
صفحة غير معروفة