هذه الأخلاقيات الجديدة تتطلب - كما ذكرنا من قبل - تنمية الوعي البيئي الكوني، الذي يرتكز على تضافر العنصر البيئي والعنصر الإنساني، على أن يكون الاحترام هو العلاقة القائمة بينهما؛ احترام الأرض وكل الكائنات الحية بشرية أو غير بشرية، أي أننا نحتاج إلى الوعي بأننا أفراد مشاركون في دراما كونية هائلة، أو كما يقول هوايتهد: «نحن في العالم والعالم فينا»، فليس هناك ما يدعو إلى ابتلاع الكائنات الأخرى أو السيطرة عليها؛ لأن هذا الوعي البيئي الكوني الجديد يولد لدينا الإحساس بجماعية المصير، ويفرض علينا شكلا جديدا من المسئولية ناحية البيئة، بحيث نتخذ إزاءها موقف الاحترام، هذه القيمة الأخلاقية التي تلاشت أو كادت أن تتلاشى في القرن العشرين، وهكذا تتطلب «الجوهرية المشتركة» للإنسان والبيئة الطبيعية فهما جديدا للعالم، وعلما آخر وتقنية أخرى يعتمدان على طريقة الإنسان في النظر إلى البيئة الطبيعية والإحساس بها.
نعم ... نريد علما آخر وتقنية أخرى، علما يبتعد عن فلسفات الذات وتقنية تبتعد عما يمكن أن نسميه بتقنية السيطرة والعنف وهما - أي العلم والتقنية - اللذان أفرزهما العلم الحديث كمحصلة نهائية لنظرته إلى البيئة الطبيعية من الناحية الكمية فحسب، وإغفال جوانبها الكيفية. وكثيرا ما ينظر إلى الكوارث البيئية كالفيضانات والجفاف والأوبئة ... إلخ، على أنها نوع من الكوارث الطبيعية «كما لو لم يكن هناك أناس يمكن أن يكون لهم دخل أو دور في صنعها. والحقيقة أن الطبيعة تعتبر بصفة عامة هي المانع أو المسكن لهذه الكوارث، وأن زيادة أعداد الفيضانات وحدتها وانحباس الأمطار وغيرها من المآسي المشابهة تحدث أو تتفاقم عادة نتيجة أسلوب العنف والقسوة الذي يتبعه الإنسان في حق بيئته الطبيعية.»
47
لذلك أدرك الأيكولوجيون خطورة تدهور المحيط الحيوي، وسيادة تقنية العنف في العقود الأخيرة من القرن العشرين هي التي يمكن أن تفسر لنا أصالة المشروع الأيكولوجي الذي ينظر إلى البيئة الطبيعية نظرة مختلفة، ويضعها في موضع مساو لوضع الإنسان، بحيث يستعيد التعاطف معها في محاولة للتخلص من التطورات الشاذة للمشروع التقني.
إن النظر إلى البيئة الطبيعية باعتبارها ذاتا أو آخر يمكن اعتباره من جهة محاولة لإعادة السحر إلى العالم، كما يمكن اعتباره من جهة أخرى محاولة لاستعادة النظرة الحيوية إلى الأرض (أو جايا
Gaia
بالمعنى الديني القديم عند الإغريق)، بوصفها الأم التي تحتضن كل الكائنات الحية أكثر منها مصدر موارد تستغل فحسب. وهي نظرة تفضي إلى الاحترام والتبجيل، والاستعاضة عن النزعة الذرية
Atomism
بالنزعة الكلية
Holism ... وقد يبدو من كل هذا أن تلك رؤية رومانسية إلى البيئة الطبيعية مما يطرح السؤال عن مشروعية الخطاب الأيكولوجي، وهل هو صورة يوتوبية خيالية أم مشروع جاد للمستقبل؟ إن الخطاب الأيكولوجي يمكن أن يتصوره البعض «مجرد تعبير عن رغبات أو أماني لا يمكن تحقيقها أو عن خيالات (فانتازيا)، ولكنه من ناحية أخرى يمكن أن يكون برنامجا معبرا عن التصميم على اكتشاف طبيعة جديدة تضفي عليها الروح والمعنى»،
صفحة غير معروفة