الحرب والسلم (الكتاب الأول): إلياذة العصور الحديثة

ليو تولستوي ت. 1450 هجري
111

الحرب والسلم (الكتاب الأول): إلياذة العصور الحديثة

تصانيف

فانحنت الأميرة على الدفتر، بينما قال العجوز فجأة: انتظري، لدي رسالة لك.

وراح يبحث في جيب محدث في الطاولة عن الغلاف المنشود الذي كان يحمل كتابة نسائية.

ألقى الرسالة على الطاولة، فالتقطتها الأميرة بانفعال وضمتها إلى صدرها، وقد تضرج وجهها فجأة.

قال الأمير، وقد افتر ثغره عن ابتسامة باهتة كشفت عن أسنان صفراء متينة: أهي من «هيلوئيزتك»؟

فأجابت الفتاة بابتسامة ونظرة وجلة: نعم، إنها من جولي.

قال الأمير في غير أنس: سأدع رسالتين أخريين تمران، لكنني سأقرأ الثالثة، إنكن تكتبن لبعضكن سخافات، أتوجس منها خيفة، لذلك سأقرأ الثالثة.

أجابت الأميرة، ووجهها يزداد حمرة، وهي تمد له يدها بالرسالة: يمكنك قراءة هذه يا أبي.

فأجاب الأمير بلهجة حاسمة، وهو يبعد الرسالة عنه: الثالثة، لقد قلت الثالثة.

ثم اتكأ على الطاولة، وجذب إليه دفتر الهندسة، وشرع يشرح وهو ينحني فوقه، مستندا بإحدى يديه على مسند المقعد الذي جلست عليه ابنته: انتبهي يا آنسة، انظري إلى هذه المثلثات، إنها متساوية، لذلك اعتبري أن زاوية أ ب ج ...

كانت الأميرة، في جلستها تلك، تحس برائحة التبغ تنفذ إلى صدرها، وتشعر بالعفن الحاد الذي ينبعث من أجسام الكهول يختلط بأنفاسها، كانت ماري تختلس بين الحين والحين نظرات فزعة إلى عينيه الملتمعتين القريبتين من وجهها، لكنها ما كانت تفقه شيئا؛ لأن الخوف كان يمنعها من فهم شرح أبيها مهما بلغ من وضوح وإسهاب، وسواء أكان الخطأ مصدره الأستاذ أم التلميذ، فإن ذلك المشهد كان يتكرر كل يوم؛ تضطرب عينا الفتاة وتعجز عن رؤية الأحرف والخطوط وسماع البيانات، فلا ترى إلا ذلك الوجه الأعجف الصارم القريب من وجهها، ولا تحس إلا بأنفاسه، وبتلك الرائحة التي تنبعث منه، ولا تفكر إلا في الفرار بأسرع ما يمكن، واللجوء إلى غرفتها؛ لتدرس أمثولتها بهدوء، وتحل النظرية الهندسية باطمئنان. وكان العجوز يبرم بها وينفد صبره فيبعد المقعد ويقربه بصخب ويكبت غضبه، لكنه في كل مرة كان ينتهي به الأمر إلى الثورة والانفعال والتأنيب، فيلقي بالدفتر إلى كل الشياطين!

صفحة غير معروفة