الجزء الأول
1 - وصيفة الإمبراطورة
2 - بيير
3 - مقتل الدوق دانجيان1
4 - الأميرة دروبتسكوي
5 - نقاش حول بونابرت
6 - الصديقان
7 - زوجة الأمير
8 - نجوى
9 - رهان
10 - حفلة آل روستوف
11 - ناتاشا وبوريس
12 - ثرثرة وحديث
13 - غرام الصغار
14 - الصديقتان
15 - آنا ميخائيلوفنا
16 - بيير وبوريس
17 - الصديقة المخلصة
18 - ماري دميترييفنا
19 - حول المائدة
20 - آلام العشاق
21 - المؤامرة
22 - آنا ميخائيلوفنا
23 - اللقاء الأخير
24 - فشل المؤامرة
25 - الأمير بولكونسكي
26 - الأب والابن
27 - على المائدة
28 - الذهاب إلى الحرب
الجزء الثاني
1 - الاستعداد للعرض
2 - كوتوزوف
3 - هزيمة ماك
4 - فرسان بافلوجراد
5 - الحرب
6 - بدء زحف كوتوزوف
7 - عبور جسر الإينس
8 - إحراق الجسر
9 - مهمة بولكونسكي
10 - بيليبين
11 - الملك فرانسوا
12 - جسر تابور
13 - ذهب إنجلترا
14 - جسر فيينا
15 - تقدم بولكونسكي
16 - مدفعية توشين
17 - الأمير باجراسيون
18 - الهجوم
19 - جرح روستوف
20 - بسالة توشين
21 - هدوء مؤقت
الجزء الثالث
1 - الكونت بيزوخوف
2 - خطوبة مدبرة
3 - زيارة غير منتظرة
4 - أحلام بوريين
5 - جواب ماري
6 - رسالة نيكولا
7 - نقولا في الحرس الإمبراطوري
8 - الاستعراض الحماسي
9 - طموح بوريس
10 - أفراح النصر
11 - مفاوضات فاشلة
12 - اجتماع القادة
13 - أحلام روستوف
14 - نابليون
15 - الإمبراطوران
16 - تولون بولكونسكي
17 - مهمة روستوف
18 - هزيمة منكرة
19 - بعد المعركة
الجزء الأول
1 - وصيفة الإمبراطورة
2 - بيير
3 - مقتل الدوق دانجيان1
4 - الأميرة دروبتسكوي
5 - نقاش حول بونابرت
6 - الصديقان
7 - زوجة الأمير
8 - نجوى
9 - رهان
10 - حفلة آل روستوف
11 - ناتاشا وبوريس
12 - ثرثرة وحديث
13 - غرام الصغار
14 - الصديقتان
15 - آنا ميخائيلوفنا
16 - بيير وبوريس
17 - الصديقة المخلصة
18 - ماري دميترييفنا
19 - حول المائدة
20 - آلام العشاق
21 - المؤامرة
22 - آنا ميخائيلوفنا
23 - اللقاء الأخير
24 - فشل المؤامرة
25 - الأمير بولكونسكي
26 - الأب والابن
27 - على المائدة
28 - الذهاب إلى الحرب
الجزء الثاني
1 - الاستعداد للعرض
2 - كوتوزوف
3 - هزيمة ماك
4 - فرسان بافلوجراد
5 - الحرب
6 - بدء زحف كوتوزوف
7 - عبور جسر الإينس
8 - إحراق الجسر
9 - مهمة بولكونسكي
10 - بيليبين
11 - الملك فرانسوا
12 - جسر تابور
13 - ذهب إنجلترا
14 - جسر فيينا
15 - تقدم بولكونسكي
16 - مدفعية توشين
17 - الأمير باجراسيون
18 - الهجوم
19 - جرح روستوف
20 - بسالة توشين
21 - هدوء مؤقت
الجزء الثالث
1 - الكونت بيزوخوف
2 - خطوبة مدبرة
3 - زيارة غير منتظرة
4 - أحلام بوريين
5 - جواب ماري
6 - رسالة نيكولا
7 - نقولا في الحرس الإمبراطوري
8 - الاستعراض الحماسي
9 - طموح بوريس
10 - أفراح النصر
11 - مفاوضات فاشلة
12 - اجتماع القادة
13 - أحلام روستوف
14 - نابليون
15 - الإمبراطوران
16 - تولون بولكونسكي
17 - مهمة روستوف
18 - هزيمة منكرة
19 - بعد المعركة
الحرب والسلم (الكتاب الأول)
الحرب والسلم (الكتاب الأول)
إلياذة العصور الحديثة
تأليف
ليو تولستوي
نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية نخبة من أسرة «دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر بسورية»، استنادا إلى الترجمتين الفرنسية والإنجليزية، وروجع النص الأخير على الأصل الروسي.
الجزء الأول
نابليون «هذا المسيح الدجال».
الفصل الأول
وصيفة الإمبراطورة
صباح يوم من حزيران 1805، أرسلت آنا بافلوفنا شيرر
Anna Pavlovna Scherer ، وصيفة شرف الإمبراطورة ماري فيودوروفنا
Marie Fiodorovna
المفضلة، خادما يرتدي بزة حمراء رسمية يحمل بطاقات إلى كل أصدقائها دون استثناء جاء فيها ما يلي:
إذا كانت الرغبة في قضاء السهرة عند مريضة مسكينة لا ترعبك، ولم يكن لديك ما تفعله خيرا من ذلك، فإنه سيفتنني يا سيدي الكونت - أو يا أميري - أن أستقبلك بين الساعة السابعة والساعة العاشرة.
آنيت شيرر
أصيبت آنا بافلوفنا منذ بضعة أيام بعارض سعال كانت تسميه «كريب»
Grippe ؛ رغبة منها في إيراد كلمة جديدة لم يذع استعمالها ويشع بعد؛ فكان هذا العارض سبب تنويهها بالمرض في رقاع الدعوة.
كان الأمير بازيل
Basile - الشخصية السامية المرموقة - أول من حضر حفلتها من المدعوين، كان يرتدي حلة البلاط الموشاة، المزينة بالأوسمة، وجوارب حريرية تبرز ساقيه من خفين رشيقين، وكان وجهه ذو القسمات الخداعة مشرقا.
استقبلته آنا بافلوفنا بالعبارات التالية: «إذن يا أميري، إن جنيس
1
ولوك
2
Gênes, Lucques
أصبحتا الآن إقطاعيتين من أملاك أسرة بونابرت. أخطرك بأنك إذا لم تبلغني أننا أعلنا الحرب، أو سمحت لنفسك بالاستمرار في تخفيف حدة فواحش هذا الدجال وقساواته - ولعمري إنني أومن بما أقول - فإنني سأتنكر لك، لن تكون صديقي بعد ذلك ولا خادمي المطيع كما تقول. اه، مرحبا، مرحبا! أرى أنني أخيفك، اجلس وحدثني عن الأخبار.»
أجابها الأمير غير آبه باستقبالها: رباه، يا للحدة اللاذعة!
كان يعبر عن خواطره، ويفكر بتلك الفرنسية التي درج كبار رجالات البلاط الروسي على التحدث بها، مدخلا عليها تلك النبرة المترفعة، والمخارج الرخوة التي يمتاز بها أولئك الذين أفنوا العمر في المجتمعات الراقية، وكانوا ذوي حظوة في البلاط.
أحنى رأسه المضمخ بالعطور والأدهان على يد آنا بافلوفنا وقبلها، ثم تهالك بخفة على الأريكة.
استطرد يقول بلهجته تلك وبصوت يخفي لامبالاة أقرب إلى التهكم وراء ستار من التأدب واللطف : طمئني صديقك قبل كل شيء، أخبريني كيف حالك يا صديقتي العزيزة.
فأجابت آنا بافلوفنا: كيف يحسن حال المرء ... إذا كان يتألم معنويا؟ هل يمكن للمرء أن يحتفظ بهدوئه في أيامنا هذه إذا كان طيب القلب؟ أعتقد أنك ستمكث عندي طوال السهرة؟ - وحفلة المفوضية الإنجليزية؟ إننا في يوم الأربعاء، ينبغي أن أظهر هناك كذلك، ستأتي ابنتي لتصطحبني. - كنت أعتقد أن حفلة اليوم قد أجلت، أعترف لك بأن كل هذه الحفلات والمظاهر المصطنعة أخذت تصبح تافهة باردة.
أكد الأمير، الذي كان كالساعة الدقاقة، يبدي آراء بحكم العادة، كان كثيرا ما يزعجه شخصيا أن يراها تحمل على محمل الجد: لو علموا أن هذه هي رغبتك، لأجلوها بلا شك. - لا تعذبني! والآن، ماذا قرروا بشأن برقية نوفوسيلتسوف
Novossiltsov ؟ إنك تعرف كل شيء.
أجاب الأمير بلهجة باردة متبرمة: ماذا أقول لك؟! لقد قرروا أن بونابرت قد أحرق سفنه، وأعتقد أننا في سبيل إحراق سفننا كذلك.
كان الأمير بازيل يتكلم دائما بتثاقل الممثل الذي يؤدي دورا دققه ومحصه مائة مرة من قبل، أما آنا بافلوفنا فكانت على العكس؛ شديدة الاندفاع والتحمس رغم أعوامها الأربعين.
أصبحت حالة التحمس عندها ميزة اجتماعية تعرف بها، حتى إنها أحيانا كانت تبدي ذلك الحماس مرغمة؛ إرضاء لرغبة معارفها، فكانت الابتسامة الصغيرة التي تشرق أبدا على محياها - رغم ما بينها وبين تقاطيع وجهها المكدود من بعض التنافر - توحي، شأن الأطفال المدللين، باعتراف صريح بخطئها اللطيف؛ ذلك الخطأ الذي كانت لا تريد ولا تستطيع الرجوع عنه، ولا تؤمن بضرورة تقويمه.
ثارت آنا بافلوفنا في سياق هذا الحديث على السياسة، وهتفت مسخطة: آه! لا تحدثني عن النمسا؛ قد لا أكون مطلعة على الحقائق، لكن النمسا لا تريد الحرب ولم ترده قط. إنها تخوننا. إن على روسيا وحدها مهمة إنقاذ أوروبا. إن محسننا
3
يعرف المهمة السامية التي هو مدعو إلى إنجازها، وسيكون مخلصا لمهمته. هذا هو الأمر الوحيد الذي أومن به. إن عظيمنا،
4
إمبراطورنا الباهر، مدعو للقيام بأجمل دور في العالم. إنه شديد الصلاح، غاية في الشهامة، حتى إن الله لن يتخلى عنه أبدا، سوف يحقق مهمته ويبخرها، فيسحق آفة الثورة التي أصبحت الآن أشد خطرا وأكثر رعبا، بعد أن تجسدت في شخص هذا السفاح الأثيم. إن علينا نحن - ونحن وحدنا - أن نشتري حياة العدل. من الذي نستطيع الاعتماد عليه؟ إن إنجلترا - بتلك العقلية التجارية التي تهيمن عليها - لا تفهم ولن تفهم عظمة نفس الإمبراطور ألكسندر
Alexandre
5
ونفسيته النبيلة؛ لقد رفضت إخلاء مالطة، إنها تحتج وتتهمنا بإضمار بعض النوايا. ماذا قالوا لنوفوسيلتسوف؟ لا شيء! إنهم لم يفهموا، ولا يمكنهم أن يفهموا نزاهة إمبراطورنا وتجرده، وأنه لا يهدف إلى أي غنم شخصي، بل يريد خير العالم. وبماذا وعدوا؟ بلا شيء! إنهم لن يتقيدوا بوعد حتى ولو قطعوه على أنفسهم! لقد أعلنت بروسيا أن بونابرت لا يقهر، فإذا آمنا بما أعلنت، كان معناه أن أوروبا كلها لن تستطيع الصمود في وجهه. إنني لا أصدق كلمة واحدة من تخريف هاردنبرغ
Hardenberg
6
أو هوغويتز
Haugwitz .
7
إن حياد بروسيا العتيد ليس إلا شركا. إنني أومن بالله وحده وبمهمة إمبراطورنا الرحيم السامية، إنه سينقذ أوروبا!
توقفت فجأة، وكانت أول من ابتسم لتحمسها، فقال الأمير وهو يبتسم بدوره: لعمري، لو أنك أرسلت بدلا من عزيزنا وينتز نجيرود
Wintzingerode
8
لأمكنك انتزاع موافقة ملك بروسيا انتزاعا. إن لك بلاغة! هل ستقدمين لي قدحا من الشاي؟ - على الفور.
ثم استطردت وقد عاد إليها هدوءها: وبهذه المناسبة، عندي شخصيتان هامتان جدا ستحضران اليوم: الفيكونت مورتمارت
Mortemart
9 - وهو حليف جماعة مونتمورانسي
Montmorency
10
بواسطة جماعة روهان
Rohan ،
11
ومن ألمع الأسماء في فرنسا وخيرة المهاجرين الحقيقيين - ثم الرئيس الروحي موريو
Abbé Morio . هل تعرف هذا الدماغ الألمعي؟ لقد استقبله الإمبراطور، هل تعرفه؟ - آه، ستسعدني معرفته!
واستطرد بلهجة رشيقة، وكأنه تذكر فجأة أمرا جوهريا كان الواقع الأقوى لزيارته: وبهذه المناسبة، هل صحيح أن الإمبراطورة الأم تدعم ترشيح البارون فونك للسكرتارية الأولى في فيينا؟ إن هذا البارون سيد مفلس كما يبدو.
كان الأمير بازيل يتطلع إلى هذا المركز لتنصيب ابنه فيه، بينما كان بعضهم يستغل وساطة الإمبراطورة ماري فيو دو روفنا لتعيين البارون فيه.
أجابت بلهجة مكتئبة باردة: إن سيدي البارون دو فونك
de Funke
قد أوصي به إلى الإمبراطورة الأم من قبل أختها.
لما نطقت آنا بافلوفنا باسم الإمبراطورة، أعرب وجهها فجأة عن احترام وتبجيل عميقين مخلصين، لا تخالطهما سحابة من الشك، وكانت دائما تتخذ مثل ذلك الطابع التمجيدي كلما تحدثت عن تلك الشخصية السامية التي تحيطها برعايتها وحمايتها.
سهرة آنا شيرر.
استطردت وقد أظلمت نظرتها من جديد: لقد تفضلت جلالتها وأحاطت البارون بتقديرها البالغ.
لزم الأمير صمتا خليا، فأرادت آنا بافلوفنا - بما طبعت عليه من إحساس مرهف، وما جبلت عليه من طباع السيدة العريقة في شئون البلاط - أن تشعر الأمير بأنه تجاوز حدود اللباقة في التحدث عن شخص تحميه الإمبراطورة، باللهجة والعبارة التي تحدث بهما، وتوخت في الوقت ذاته أن تغريه بالفشل الذي مني به، فقالت: ولكن على ذكر أسرتك، هل تعرف أن ابنتك منذ أن بلغت سن الرشد وانطلقت في المجتمع، أصبحت مطمع الأنظار وقبلتها؟ إنهم يجدونها كالنهار المشرق.
انحنى الأمير للتدليل على امتثاله وامتنانه.
وبعد فترة صمت، اقتربت آنا بافلوفنا من الأمير وعلى شفتيها ابتسامة أنيسة، وكأنها تلفت انتباهه إلى أن المواضيع السياسية والاجتماعية أتاحت السبيل للمناجيات الودية الخاصة.
أردفت تقول: إنني أحدث نفسي غالبا، بأن الحياة تبدو أحيانا باغية في تقسيم السعادة.
وأضافت عرضيا - بلهجة لا تدع مجالا للرد - وهي تقطب حاجبيها: لم حباك القدر بولدين فاتنين جميلين - باستثناء آناتول، ولدك الأصغر الذي لا يعجبني مطلقا - ولدين على هذا القسط من اللطف والجمال؟ إنك أقل الناس اهتماما بهما، حتى إنك لا تستحقهما.
فأجاب الأمير: ماذا أستطيع؟ قد يقول لافاتر
Lafater
12
إنني محروم من الحدب الأبوي. - كف عن الهزل، إنني أرغب في التحدث إليك جديا، هل تعرف أنني غير راضية عن صغيرك؟
وعلت وجهها سحابة من الغم، وأردفت: لقد تحدثوا عنه في حضرة صاحبة الجلالة الإمبراطورة - والحديث بيننا - وقد أشفقوا عليك ورثوا لحالك.
ولما لم يحر الأمير جوابا، حضته على الجواب بنظرة من عينيها، فعبس الأمير وقال أخيرا: ماذا تريدينني أن أفعل ؟ لقد بذلت كل ما في وسعي كأب لتثقيفهما، إنهما ليسا إلا سخيفين أحمقين؛ إن هيبوليت سخيف هادئ على الأقل، أما آناتول، فإنه سخيف طائش عربيد.
وابتسم ابتسامة أكثر تبرما من العادة، بينما ارتسمت على أطراف شفتيه خطوط عميقة، تنبئ بغضبة مرة، وأضاف: هذا هو الفارق الوحيد بينهما.
قالت آنا بافلوفنا وهي ترفع إليه عينين حالمتين: لم ينجب الأشخاص الذين من نوعك أولادا؟ لو لم تكن أبا، لما وجدت شيئا آخذه عليك. - إنني خادمك المخلص، أستطيع أن أصرح لك وحدك بأن أولادي هم قيود وجودي وحياتي، إنهم مصدر عذابي، إني أرى الأمور على هذه الصورة، ماذا تريدين؟
صمت، وأشار بيديه متمما حديثه، معلنا استسلامه لمصيره القاسي. فاستغرقت آنا بافلوفنا في التفكير: ألم تخطر ببالك فكرة تزويج «أناتولك»، هذا الولد الضال؟ يشاع أن العانسات مهووسات بالزواج. إنني لم أشعر بعد بمثل هذا الضعف، لكنني أعرف فتاة ما، جعل أبوها حياتها جحيما، إنها قريبة لنا؛ إحدى أميرات بولكونسكي.
كان جواب الأمير بازيل إشارة من رأسه، أعرب بها ببداهة الرجل الراقي الخبير عن استيعابه الغاية والعرض، واستتلى مسترسلا في سياق آرائه الكئيبة قائلا: أتعرفين أن هذا ال «آناتول» يكلفني أربعين ألف روبل كل عام؟
وصمت فترة ثم عاد يقول: ماذا يحدث إذا استمر الحال خمس سنين على هذا المنوال؟ هذا ما يجنيه المرء عندما يكون أبا! هل أميرتك شابة غنية؟ - إن أباها غني بقدر ما هو بخيل، إنه يقطن في الريف، إنه ذلك الأمير بولكونسكي العتيد، الذي ترك الخدمة منذ عهد الإمبراطور المرحوم، والذي كانوا يلقبونه بملك بروسيا. إنه شديد الذكاء، لكنه شاذ سيئ العشرة، والصغيرة المسكينة تعيسة تعاسة الحجارة، إن لها أخا تزوج مؤخرا بليزمينن وهو مرافق كوتوزوف، إنني أنتظره هذا المساء.
أمسك الأمير فجأة بيد مخاطبته، وأدناها - والله أعلم بالسبب - حتى لامست الأرض وقال: أصغي إلي يا عزيزتي آنيت، رتبي لي هذه المسألة، فأكون خادمك المطيع إلى الأبد: (أ ... ب ... د)، كما يكتب إلي وكيلي في تقاريره. إنها غنية ومن أسرة جيدة ، وهذا كل ما أبغيه.
وانحنى بحركاته الرفيعة الكيسة التي يمتاز بها وحده، على يد وصيفة الشرف ليقبلها، وراح يهزها فترة طويلة، وهو جالس على أريكته يتأملها عن البعد.
قالت آنا بافلوفنا ساهمة: انتظر، سأتحدث هذا المساء إلى ليز، زوجة بولكونسكي الشاب، ولعلني أستطيع تسوية هذه القضية. إنني سأقوم بتدريبي الأول كفتاة عانس في إقامة أول زواج لواحد من أعضاء أسرتك.
الفصل الثاني
بيير
أخذ بهو آنا بافلوفنا يعج بالمدعوين، اجتمعت فيه صفوة الطبقة الأرستقراطية في بيترسبورج، من مختلف الأعمار والمشارب؛ أشخاص تربط بينهم رفعة الحسب، رغم فوارق الأعمار وتباين الآراء. جاءت هيلين الجميلة - ابنة الأمير بازيل - لتصحب أباها إلى حفلة السفارة الإنجليزية، ترفل في ثوب خاص بالحفلات، ينم عن الترف والثراء العريضين اللذين تنعم بهما صاحبته، ووصلت الأميرة الصغيرة الشابة بولكونسكي، التي اشتهرت بأنها أجمل نساء بيترسبورج، وأكثرهن فتنة، والتي تزوجت في الشتاء الماضي وباتت تنتظر مولودا؛ مما اضطرها إلى اعتكاف الحفلات العامة، والاقتصار على الظهور في الحفلات العائلية الودية، التي تجمع طائفة من المقربين. وجاء الأمير هيبوليت - ابن الأمير بازيل - بصحبة مورتمارت وقدمه للموجودين. ثم تلاهما الأب موريو وفي أعقابه عدد من علية القوم وخيرة أهل الثراء والنسب.
كانت آنا بافلوفنا تسأل كل وافد جديد: «ألم تر بعد عمتي؟» أو: «ألا تعرف عمتي؟» ثم تمضي به بعد ذلك وعلى وجهها طابع جدي رزين، إلى عجوز قصيرة القامة، مزملة بشرائط ضخمة، خرجت من غرفة مجاورة عند وصول طلائع المدعوين؛ فتقدم الزائر إليها، وهي تنقل بصرها ببطء بينه وبين ال «ماتانت»
1
ثم تنسحب من فورها.
وكان كل مدعو يتقدم إليها بتهانيه التقليدية، وبالعبارات اللائقة بالمقام، بصدد تلك العمة المجهولة، التي لم يكن أحد يشعر بحاجة إلى معرفتها، أو يبدي رغبته بتلك المعرفة، فتعلن آنا بافلوفنا - بهيئتها المتطيرة الخطيرة - موافقتها على تلك الإطراءات التي يغدقها المادحون. وكانت «الماتانت» تبدأ حديثها، مع كل من المقدمين إليها، بعبارة تقليدية متعلقة بصحتهم، وصحتها الشخصية، وصحة جلالتها الإمبراطورية التي كانت - ولله الحمد - أحسن في ذلك اليوم ، فكان كل واحد منهم ينسحب مستأذنا - دون أن يبدي عجلة وتلهفا على الانسحاب من باب المجاملة والأدب - وهو يتنفس الصعداء كمن تخلص من واجب مقيت عسير، فلا يعود إلى حضرتها طيلة السهرة.
كانت الأميرة بولكونسكي تحمل معها أشغالها في كيس صغير من القطيفة المدبجة بالذهب، وكان طيف من الزغب يظلل شفتها العليا اللطيفة، التي كانت قصيرة بعض الشيء، ولكنها تنفرج بشيء كثير من العذوبة، وتبرز بانضمامها إلى الشفة السفلى تشذرا أكثر فتنة وإغراء، فكانت تلك العيوب الطفيفة - تلك الشفة القصيرة وذلك الفم المنفرج - تضفي عليها، كما هو الحال لدى النساء الفاتنات الجميلات، جاذبية خاصة وجمالا لا يصلح بغيرها، وكان كل من ينظر إلى تلك الأم المنتظرة، المملوءة حيوية وصحة، وهي تحتمل أعباءها برضى ونشاط؛ يشعر بالغبطة والسرور يملآن قلبه، فكانت دقائق قليلة بصحبتها تكفي ليشعر الكهول والشباب الجامدون المتضجرون، بأنهم أضحوا في مثل حالها من النشاط والغبطة. وكان كل من لاحظ، وهو يتحدث إليها، تفتح ابتسامتها المشرقة إثر كل كلمة، وعاين لمكان أسنانها البيضاء المستمر؛ يعتقد أنه في تلك الأمسية أكثر عذوبة ورقة من أي يوم مضى. كذلك كان اعتقاد كل المدعوين.
دارت الأميرة الصغيرة حول المائدة بخطوات نشيطة متهادية وكيس أشغالها في يدها، ثم جلست على مقعد قرب «السماور» الفضي، وهي ترتب ثوبها بهدوء، وكأن الأمر يتعلق بحفلة سمر ستتذوقها كما سيتذوقها كل من حولها ويحيط بها؛ ثم فتحت حقيبة يدها وقالت، وكأنها توجه حديثها إلى كل واحد بالذات: لقد جئت معي بأشغالي.
ثم أعقبت موجة حديثها إلى ربة البيت هذه المرة: حاذري يا آنيت أن تعدي لي حيلة ماكرة، لقد كتبت لي تقولين إنها سهرة صغيرة لطيفة، انظري إلى زينتي المتواضعة.
ومدت ذراعيها لتريها ثوبها الرشيق الأشهب الموشى بالخرز، والذي كان يحدق به شريط عريض يمتد حتى أسفل الصدر.
فأجابت آنا بافلوفنا: لا تراعي يا ليز، ستكونين أبدا أجمل الموجودات.
استطردت ليز موجهة حديثها إلى أحد الجنرالات بلهجتها العذبة الرقيقة: أتدري أن زوجي قد هجرني مفضلا التعرض للقتل ؟!
ثم خاطبت الأمير بازيل بقولها: قل لي، لم هذه الحرب الملعونة؟
ودون أن تنتظر جوابا، استدارت نحو هيلين الجميلة، ابنة الأمير بازيل، فغمغم هذا في أذن آنا بافلوفنا قائلا: يا لها من شخصية فتانة، هذه الأميرة الصغيرة!
وبعد فترة من دخول الأميرة، وصل شاب متين البنيان ضخم الجثة، ذو شعر حليق ونظارتين، وسراويل فاتحة من أحدث طراز، وصدارة عالية، و«فراكا» بلون القرفة؛ كان ذلك الفتى الضخم ابنا غير شرعي للكونت بيزوخوف؛ وهو تلك الشخصية المشهورة على عهد كاتيرين، الذي كان يقضي آخر أيامه في موسكو. كان الفتى قد أنشئ خارج البلاد وعاد منذ حين إلى روسيا، فلم ينخرط في خدمة الجيش، وكانت تلك الليلة أول عهده بالظهور في المجتمعات الراقية، استقبلته ربة الدار بالتحية التي توجهها إلى أحط زوارها شأنا، ولم يمنع ذلك الاستقبال الفاتر من أن تشفعه آنا بافلوفنا بإظهار ذلك التبرم الذي يبدو على وجه المرء أحيانا، عندما يصادف أمرا مزعجا يتنافى مع كل ما يحيط به. كان الفتى يجمع بين السذاجة والفطنة، والذكاء والارتباك، فكانت هذه الميزة التي ينفرد بها سبب ذلك النفور الذي قوبل به، أضف إلى ذلك شكله العام الذي أحدث أثرا كبيرا في نفوس الرجال الحاضرين.
قالت آنا بافلوفنا - وهي تتبادل نظرة قلقة مع «الماتانت» بعد أن قدمت إليها الزائر الجديد: إنه لجميل منك يا سيد بيير أن تحضر لزيارة مريضة مسكينة.
غمغم بيير ببضع كلمات غير مفهومة، بينما كانت نظراته تدحج وجوه المجتمعين بقحة. حيا الأميرة الصغيرة بابتسامة مرحة، كما يحيي المرء أحد معارفه المقربين، ثم اقترب من العمة، ولم يكن قلق آنا بافلوفنا دون مبرر؛ إذ إن السيد بيير ترك العجوز الطيبة قبل أن تنتهي من نثرها الموفق عن صحة صاحبة الجلالة الإمبراطورة.
فاستوقفته آنا بافلوفنا مذعورة وقالت له: هل تعرف الأب موريو؟ إنه شخصية هامة. - نعم، لقد سمعت شيئا عن تصميمه حول السلم الدائم، إن المشروع مثير للفضول لكنه لا يبدو عمليا.
قالت آنا بافلوفنا؛ رغبة منها في التلفظ بأي شيء: هل تظن ذلك؟
وأرادت العودة إلى واجباتها كربة منزل، لكن بيير ارتكب خطأ جديدا مناقضا لخطئه الأول تماما؛ ففي المرة الأولى غادر محدثته دون أن ينتظر نهاية حديثها، وها هو الآن يستوقف محدثة ثانية رغم إرادتها! وقف أمام آنا بافلوفنا، مطرق الرأس مباعدا بين ساقيه الضخمتين، يعرض عليها الأسباب التي من أجلها يبدو تصميم الأب موريو خياليا تماما.
قالت آنا بافلوفنا باسمة: سوف نتحدث عن ذلك فيما بعد.
وبعد أن تركت الفتى الذي لا يعرف كيف يتصرف، عادت إلى واجباتها كمضيفة، وكلها عيون وآذان، مستعدة للتدخل أينما وجدت أن الحديث قد خمدت حدته أو خبت ناره، مثلها كمثل معلم النسيج، الذي يروح ويجيء بعد ترتيب عماله، مشرفا على أنواله وآلاته، حتى إذا توقف درار أو ند عن آخر صوت غير طبيعي، أو علا صرير أو بدا خلل، هرع إلى مكان العطب والخلل يصلحه، فيوقف هذا، ويسير ذاك. كذلك كانت آنا بافلوفنا تتجول في بهو منزلها، مقتربة من الحلقات الصامتة، تزكي الحديث بين أفرادها أو الجماعات الصاخبة، تهدئ من حدتها وثورتها؛ فتلقي كلمة هنا وتنقل شخصا إلى هناك، معطية آلة الكلام الظروف الدقيقة المواتية التي تتطلبها المناسبات لاستمرارها على العمل، غير أن تلك العناية الفائقة وذلك النشاط المختلف من جانبها، لم يفلحا في تبديد الكآبة التي أحدثها وجود بيير. تابعته بنظرة قلق، فرأته يتجه نحو الحلقة التي انتظمت حول مورتمارت، ثم ينتقل منها حيث كان موريو يسهب في الحديث. كانت حفلة آنا بافلوفنا أول حفلة يحضرها السيد بيير، الذي تلقى علومه خارج روسيا، وكان يعرف أن كل «أضواء» بيترسبورج على موعد للتلاقي فيها، فكان أشبه بالغلام في دكان بائع الألعاب، يحدق فيما حوله بإعجاب وافتتان، كان يخشى دائما أن تفوته بعض البحوث الرصينة المتعقلة التي يمكنه أن يفيد منها، فلما رأى شخصيات مرموقة، شديدة الاعتداد، مجتمعة في ذلك المكان، توقع أن يصغي إلى روائع فكرية وعلمية، وبدت له المناقشة المستعرة بين الأب موريو والمحيطين به مهمة، فانضم إلى المجتمعين، متحينا الفرصة التي يتوق إليها كل شاب للإدلاء بوجهة نظره.
الفصل الثالث
مقتل الدوق دانجيان1
سارت الأمور في حفلة آنا بافلوفنا على أحسن حال؛ كانت الدرارات تسير في كل أرجاء المصنع، دون توقف ولا تصادم، في منتهى النظام والترتيب، باستثناء «ماتانت» التي لم يبق لها من تتحدث معه، إلا سيدة متقدمة في السن، ذات وجه ناحل جرحته الدموع، كانت تبدو مضطربة غير مستريحة إلى الوسط اللامع التي كانت فيه. انقسم المدعوون إلى ثلاث جماعات: الأولى وجل أفرادها من الرجال، يتزعمها الأب موريو؛ والثانية وقد ضمت معظم الشباب، سطعت فيها الأميرة الجميلة هيلين، وقد جلست على عرش الجمال إلى جانب الأميرة الفاتنة بولكونسكي، فبدت متوردة المحيا، شديدة اللطف، أشد نعومة مما يسمح به سنها؛ وكان محور الالتفاف في الجماعة الثالثة مورتمارت وآنا بافلوفنا.
ومما لا شك فيه أن الفيكونت الشاب، ذا المظهر الأنيق، والقسمات الدقيقة، والأساليب اللطيفة، كان يعتقد أنه شخصية شهيرة لامعة؛ لذلك فإنه لم يترفع عن إرضاء فضول جماعة النبلاء الملتفين حوله، أدب وحسن تصرف. وكذلك لم يفت آنا بافلوفنا بدورها أن تقدمه إلى مدعويها بما يليق به من اعتبار، وكما أن الطاهي البارع، يقدم لزبائنه طبقا يعتبره خارق اللذة، لو قدم في مطعم قذر لما أثار غير الاشمئزاز والتقزز، كذلك قدمت آنا بافلوفنا لمدعويها الفيكونت الشاب أولا، ثم الأب موريو، كما تقدم ألوانا مفضلة من الأطعمة انتقيت بعناية وتدقيق خارقين.
دار الحديث أولا في دائرة مورتمارت عن مقتل الدوق دانجيان.
فأكد الفيكونت أن الدوق قضى ضحية طيبة قلبه ونبله، وأن في مقتله موجبات خاصة، تتعلق بغل بونابرت. - آه! حدثنا بذلك يا فيكونت.
كانت آنا بافلوفنا هي التي هتفت بتلك الجملة، وقد أطربها أن لاحظت أن في جملتها تلك: «حدثنا بذلك يا فيكونت» على بساطتها، وقعا يحمل بين طياته صدى أسلوب التحدث على طريقة لويس الخامس عشر.
انحنى الفيكونت دلالة الاحترام للمتكلمة، وقد انطبعت على ثغره ابتسامة مهذبة، فبادرت آنا بافلوفنا على الفور إلى تشكيل حلقة حول الفيكونت الشاب، ودعت الموجودين إلى إعارة حديثه آذانا صاغية.
قالت لأحدهم: لقد كان الفيكونت معروفا بصورة خاصة من قبل سمو الدوق.
وإلى آخر: إن الفيكونت محدث لبق بارع.
وإلى ثالث تحضه بقولها: ما أسرع ما يعرف المرء الرجل الممتع الصحبة!
وهكذا قدمت الفيكونت سلوانا لمجتمعها الراقي، على أليق مظهر وأفضله، كما يقدم طبق من اللحم المشوي الحار، وقد ذر عليه البهار وأنواع المشهيات.
وابتسم الفيكونت ابتسامته العذبة الرقيقة، واستعد للشروع في حديثه.
هتفت آنا بافلوفنا بالأميرة الجميلة التي كانت على مقربة منها، وسط فريق من المعجبين: تعالي هنا يا عزيزتي هيلين.
نهضت الأميرة هيلين، وعلى ثغرها تلك الابتسامة المشعة، ابتسامة المرأة الجميلة المكتملة الأنوثة، التي كانت تشرق على وجهها منذ أن دخلت إلى البهو. مرت وسط الرجال الذين راحوا يفسحون لها الطريق وهي تجر وراءها ثوبها الأنيق الموشى بالزهور، فيحدث حفيفا خافقا، واختالت مزهوة بكتفيها البضتين الجميلتين، وشعرها المتموج، وجواهرها المتلألئة، شامخة الرأس، لا أحدا بنظرتها، بينما كانت ابتسامتها تغمر الموجودين، وبدت كأنها تراعي أن يتأمل كل منهم قامتها الفارعة، وكتفيها المنسجمتين، وعنقها وظهرها العاريين، البارزين بسخاء خلال فتحة الثوب، وفق مبتكرات ذلك العصر. اقتربت من آنا بافلوفنا وكأنها تجر في أعقابها كل روعة الحفل وبهائه. كانت هيلين على قسط كبير من الجمال، بعيدة عن أسباب التجمل والتبرج، تبدو مشفقة من سلطان جمالها المفرط الخارق، وكأنها تبحث عبثا عن وسيلة تخفف من بغيه وطغيانه.
كان كل من يلقاها لا يتمالك نفسه عن القول: يا للبهاء والجمال!
فلما جلست أمام مورتمارت، وطلعت عليه بابتسامتها الخالدة، أجفل الفيكونت وكأن الدهشة قد عقلت لسانه، وأطرق مبتسما.
قال وهو ينحني: سيدتي، إنني مشفق على وسائلي في حضرة الجمال الطاغي
d’Enghien .
أغفلت الأميرة الرد على إطرائه، وأسندت ذراعها المتناسقة على نضد صغير، وانتظرت باسمة. لبثت طيلة المدة التي استغرقتها وقائع القصة منتصبة الجسد، ترتب ثنيات ثوبها، أو تتأمل تارة ذراعها المستديرة البديعة، التي كان ثقلها على النضد يخفق في تشويه شكلها الخميل الشهي، وطورا عنقها الأثيل الفتان ، الذي كانت تعانقه قلاداتها الماسية. وفي المواقع المثيرة من القصة، كانت عيناها تشخصان إلى وجه آنا بافلوفنا مستفسرتين، فتنقل هذه انطباعاتها بإخلاص، لكن تقاطيعها سرعان ما تنبسط بابتسامة ملائكية.
تركت الأميرة الصغيرة مائدة الشاي على أعقاب هيلين، وهي تهتف بها: انتظريني ريثما آخذ أشغالي.
ثم توجهت إلى الأمير هيبوليت قائلة: ففيم تفكر؟ جئني بحقيبتي اليدوية!
أحدث تأهب الأميرة للانتقال من مكانها، وما أشفعته بحديث وأعقبته بضحكات وزعتها على من حولها؛ لغطا في حلقة مورتمارت، فلما جلست بين أفراد الجماعة الجديدة، وأصلحت من زينتها، قالت وهي تستعيد أشغالها: هكذا، لقد أخذت مكاني، يمكنك أن تبدأ قصتك.
وتبعها الأمير هيبوليت - حامل الحقيبة - في حلها الجديد، وجاء يجلس على مقعد دفع به إلى مقربة منها.
كان بين «هيبوليت الجذاب» وأخته هيلين الفاتنة شبه بين واضح، لم يمنع أن يكون الأخ شديد البشاعة، رغم وحدة التقاطيع؛ لقد كانت قسمات هيلين مضاءة أبدا بتلك الابتسامة الرصينة الفتية الخالدة، التي تشع حبورا، وتعرب عن استمتاع ببهجة الحياة، على عكس أخيها الذي كانت قسماته مكفهرة مظلمة، وقد انسدل عليها حجاب من الغباء، فأصبحت تنم عن زهو متجهم ثابت. وكان تكوين هيلين الكامل الذي أبدع الفنان في صوغه وتركيبه، يتناقض مع جسد هيبوليت الأعجف النحيل، فكان وجهه أبدا متقلصا، تحيط بأنفه وفمه وعينه خطوط تدل على شراسة طبعه، أما ذراعاه وساقاه فكانت تتخذ أبدا وضعيات مقتبسة منفرة.
لم يكن يجلس في مقعده، حتى بادر يثبت عوينته، وهي الحركة الملازمة التي بدونها ما كان يستطيع البدء في الحديث.
قال مستفسرا: أهي قصة أشباح؟
فأجاب المحاضر وهو يهز كتفيه بحيرة: كلا يا عزيزي.
قال الأمير معللا سؤاله: ذلك أنني أمقت قصص الأشباح.
كانت لهجة الأمير تدل على أنه لا يتحرى الدقة في عباراته، وأنه يفهم مرامي أقواله بعد أن يصرفها، وكان يتحدث بتأكيد حاسم، حتى إن المستمع ليحار في أخذ عباراته على محمل الرشد أو الدعابة. كان يلبس جوارب حريرية، وينتعل خفين، ويرتدي «فراكا» أخضر قاتما، وتحته سراويل اصطلح على تسميتها: فخذ جنية مروعة.
استطاع الفيكونت أخيرا أن يروي الحكاية بحماس يتناسب مع خطورتها، ولم تكن الأحدوثة جديدة أو غريبة. كانت خلاصتها أن الدوق دانجيان الذي جاء سرا إلى باريس لزيارة المدموازيل جورج، وجد عندها بونابرت الذي كان حائزا على عطف الممثلة الشهيرة، والتفاتتها كذلك، فانتاب بونابرت إغماء جعله تحت رحمة خصمه، الذي عزف عن الإفادة من الفرصة وانتهازها، وقد سبب نبله ذاك مقتله بعدئذ؛ لأنه بإغضائه عن قتل بونابرت في نوبة من النوبات التي كان فريسة لها، ترك لبونابرت إمكانية رسم الخطة للانتقام من الدوق بقتله.
كانت الأحدوثة على شيء من الإثارة، خصوصا في الجزء الذي يصف لقاء الخصمين الفجائي، وقد أحدثت هذه الناحية تأثيرا في السيدات، فهتفت آنا بافلوفنا وهي تستفسر الأميرة الشابة بنظرة من عينيها: بديع، أليس كذلك؟
فغرزت هذه إبرتها في أشغالها؛ دلالة على أن تلك القصة الممتعة لا تسمح لها بالاستمرار في عملها، وقالت مؤيدة: رائع!
شكر الفيكونت الأميرة بابتسامة على إطرائها الصامت، الذي أحسن تقديره، وهم بمعاودة الحديث عندما لاحظت آنا بافلوفنا أن الشاب، الذي كانت تخشى سوء تصرفه وصدور حماقة عنه، مشتبك في نقاش صاخب حامي الوطيس مع الأب موريو، فهرعت من فورها نحو الجبهة المهددة.
والحقيقة أن السيد بيير كان في تلك الأثناء، يتباحث مع موريو حول التوازن الأوروبي، فراح هذا يعرض على الفتى مشروعه العتيد عن السلم الدائم، وقد أخذ بحماس الشاب الساذج وحميته المتوقدة. وشد ما راع آنا بافلوفنا أن وجدت أن كان في ذلك النقاش راضيا، يصرف فيه حماسا وتقبلا.
كان موريو يقول: إن العلاج الوحيد هو التوازن الأوروبي وحقوق الأفراد، فإذا قامت دولة كبرى قوية كروسيا المتهمة ببربريتها، وتزعمت حلفا غرضه إيجاد التوازن في أوروبا، فإن تلك الدولة تستطيع إنقاذ العالم؛ إذ كانت لا تغذي نوايا مضمرة. - وكيف تجد ذلك التوازن؟
هم بيير بمتابعة حديثه، لكن نظرة قاسية من آنا بافلوفنا التي تدخلت في تلك اللحظة، أرغمته على الكف عن الاسترسال.
قالت تسأل الأب موريو: كيف تجد الجو هنا؟ هل تحتمله ؟
فانطبع وجه الإيطالي المتحول، بطابع اللطف والإيناس الذي ينفرد به في حضرة السيدات، وأجاب: إن جمال المجتمع الذي أسعدني الحظ أن أستقبل فيه، ورفعته وميزاته ورقيه، شدهتني وأذهلتني، حتى إنني لا أجد بعد متسعا للتفكير في المناخ.
وحاذرت آنا بافلوفنا أن تترك موريو وبيير معا، ولم تجد بدا من اجتذابهما إلى حلقتها؛ ليتسنى لها وضعهما تحت رقابتها الصارمة.
الفصل الرابع
الأميرة دروبتسكوي
في تلك اللحظة دخل إلى البهو زائر جديد، هو الأمير الشاب آندريه بولكونسكي، زوج الأميرة الشابة، وهو فتى جميل الطلعة، متوسط القامة، ذو قسمات واضحة جامدة. كان كل ما فيه، اعتبارا من نظرته المنهكة المظلمة وحتى تثاقل مشيته واتزانها، يوحي بنقيض عنيف لحيوية زوجته اللطيفة، ولا شك أن زبائن آنا بافلوفنا وعباراتهم كانوا معروفين منه، حتى إنه كان يشعر بضجر وسأم قاتلين من الكلام معهم أو الاستماع إلى أقوالهم. كان واضحا أنه ما كان يميل إلى أحد من أولئك الأشخاص المملين أو يهتم به، بما في ذلك زوجته، التي ما إن وقع نظره عليها حتى عجا وجهه واستدار على الفور، وبعد أن قبل يد آنا بافلوفنا، راح يتفحص وجوه المدعوين بعينين نصف مغمضتين.
سألته آنا بافلوفنا: هل تنضم إلى صفوف المقاتلين يا أميري؟
فأجاب بولكونسكي بالفرنسية وهو يحاول تقليد أبناء السين: إن الجنرال كوتوزوف انتقاني مرافقا له. - وليز زوجتك؟ - ستعتزل في الريف. - ألا تخجل لحرماننا من زوجتك الفاتنة؟
هتفت الأميرة تنادي زوجها، بتلك اللهجة اللعوب التي تخاطب بها الغرباء: آندريه، لو علمت بالقصة الرائعة التي رواها الفيكونت لنا منذ حين عن بونابرت والمدموازيل جورج! ليتك سمعتها.
قطب الأمير حاجبيه وأشاح عنها، وفي تلك اللحظة اقترب منه بيير، الذي كان يتابعه منذ دخوله بنظرة ودية مغتبطة، وأمسك بذراعه، فلم يستدر بولكونسكي، ولكن وجهه اتخذ طابع الاشمئزاز حيال ذلك المتطفل، غير أنه ما كاد يشاهد وجه بيير المبتهج، حتى ابتسم بدوره ابتسامة مرحبة، لم يكن ينتظرها أحد.
قال له: كيف؟! هل بدأت تندمج في الأوساط الراقية أنت أيضا؟!
فأجابه بيير : كنت أنتظر أن أراك. هل أستطيع دعوة نفسي إلى تناول طعام العشاء عندك؟
فاه بهذه الجملة الأخيرة بصوت منخفض بغية عدم التشويش على الفيكونت يجتر قصته العتيدة.
فأجابه الأمير آندريه ضاحكا: كلا، مستحيل!
بينما كانت يده التي ظلت تضغط على يد بيير تشعره بأن الدعوة للعشاء طبيعية لا تتطلب توكيدا.
هم أن يضيف بضع كلمات جديدة، غير أن الأمير بازيل وابنته نهضا في تلك اللحظة، فاضطر الشابان إلى إخلاء الطريق لهما.
قال الأمير بازيل يخاطب مورتمارت، وهو يمسك بذراعه بحركة ودية ليمنعه من النهوض لتشييعه: اعذرني يا حبيبي الفيكونت؛ إن حفلة السفارة الإنجليزية المزعجة أفسدت علي سروري، وأرغمتني على مقاطعتك.
ثم التفت إلى آنا بافلوفنا وأردف: إنني شديد الأسف إذ أضطر إلى مغادرة حفلك البهيج.
شقت هيلين طريقها بين صفي المقاعد، وهي على أحسن حال من الإشراق والبهجة، فلما وصلت إلى حيث كان بيير واقفا، راح هذا يتأمل جمالها بعينين ارتسم فيهما إعجاب قريب من الهلع.
قال بولكونسكي: إنها رائعة الجمال.
فغمغم بيير مؤيدا: نعم إنها جميلة جدا.
قبض الأمير بازيل على ذراع بيير واستدار إلى آنا بافلوفنا وقال: أرجو أن تروضي لي هذا الدب، إنه يقطن عندي منذ شهر، مع ذلك فإنني أراه للمرة الأولى في المجتمع. إن صحبة النساء الذكيات لا يضاهيها مثيل في تهذيب نفوس الشباب وصقلها.
وعدت آنا بافلوفنا باسمه بأن تهتم ببيير، الذي كانت تعرف صلة القربى التي تربط أباه بالأمير بازيل.
هرعت السيدة المسنة التي كانت في صحبة «الماتانت» لتلحق الأمير بازيل، عند الردهة اختفى من وجهها الهضيم الذي قعرته الدموع، كالوقار الذي يتطلبه ذلك الوسط، وحل محله القلق والذعر.
قالت وهي تجري وراء الأمير: أليس لديك ما تقوله لي بشأن بوريس يا أميري؟ إنني لا أستطيع البقاء في بيترسبورج أكثر مما مكثت. لو خبر سار تحملينه إلى ولدي المسكين؟
وعلى الرغم من أن الأمير كان يصغي إليها ببرود خال من التهذيب، يتضح عن نفاد صبر وتذمر، فإن السيدة المسنة كانت تبسم له بلطف عميق مسكن؛ لتحمله على الإصغاء إلى قولها حتى مضت في إلحاحها إلى الإمساك بذراعه.
أردفت ضارعة: لن يكلفك التحدث عن ابني إلى الإمبراطور كثيرا، إن حكمة واحدة منك، يدخل ابني بعدها في عداد الحرس.
أجابها الأمير بازيل: سأعمل ما في وسعي يا أميرة، صدقيني، غير أنه من العسير بالنسبة لي أن أتحدث إلى الإمبراطور، إنني أوصيك أن تعمدي إلى روميانتسيف
Roumiantsev ، عن طريق الأمير جوليتسين
Golitsyne . إن ذلك سيكون أدعى إلى النجاح.
كانت تلك السيدة المسنة - وهي إحدى أميرات دروبتسكوي
Droubetskoi - تحمل واحدا من أكبر الأسماء في روسيا، لكن الفقر اضطرها إلى اعتزال المجتمعات، ففقدت باعتزالها علاقاتها السالفة، وقد جاءت إلى بيترسبورج على أمل الوصول إلى وعد جازم بنقل ابنها الوحيد إلى ملاك الحرس، وقد حضرت تلك الحفلة دون أن تدعى إليها؛ بغية لقاء الأمير بازيل فيها، وكانت هذه الغاية وحدها هي التي حملتها على الإصغاء بصبر نافد إلى قصة الفيكونت، وقد أخافها جواب الأميرة في بادئ الأمر؛ إذ أفصح وجهها الذي ظل محتفظا ببقايا جمالها الغابر، عن انفعال يشوبه الذعر، لكنها سرعان ما استعادت ابتسامتها وازداد ضغطها على ذراع محدثها بعصبية مكتومة.
قالت: أصغ إلي يا أميري، إنني لم أسألك قط معروفا، ولن أسألك كذلك منة، إنني لم أذكرك قط بالصداقة التي كان أبي يكنها لك، غير أنني أستحلفك الله أن تتوسط الآن من أجل ابني.
ثم أردفت بكلمات متتابعة متلاحقة تقول: سأعتبرك المحسن المنان الذي غمرني بمعروفه. لا تغضب، عدني فقط. لقد قابلت جوليتسين فرفض.
واستطردت ضارعة مبتهلة وهي تحاول الابتسام رغم حجاب الدمع الذي كان يغمر مآقيها: كن ذلك الغلام الطيب الذي كنته من قبل.
هتفت الأميرة هيلين التي كانت تنتظر أمام الباب، وقد أدارت رأسها الجميل فوق كتفيها المتناسقين الرشيقين: أبتاه سوف ... سوف نتأخر عن الموعد.
كان النفوذ في «العالم» الراقي ذخيرة طيبة يجدر الاحتفاظ بها، وإلا فإنها سرعان ما تتبخر فيفقر صاحبها؛ لذلك كان الأمير بازيل شديد الشح على ذخيرته تلك، قلما يمد يده إليها ، وهو على تمام الثقة من أنه لو حاول صرفها في التوسط لمصلحة كل من يلتمسون منه وساطة ما، وجد نفسه صبيحة ذات يوم عاجزا عن سؤال أي شيء لمصلحته الشخصية. مع ذلك، فإن نداء الأميرة دروبتسكوي الملح، خلق في نفسه شيئا من التبكيت والتعنيف الخفي، لقد نطقت الأميرة العجوز بالصواب: إن أباها كان صاحب الفضل؛ إذ قاد خطوات بازيل الأولى في طريق الرفعة والسمو الذي بلغ إليهما. أضف إلى ذلك أنه لاحظ من مظاهر تلك السيدة وتصرفاتها، أنها من تلك النسوة أو الأمهات اللاتي يتابعن السير وراء غايتهن، ويعملن المستحيل في سبيل تحقيقها، حتى إذا تعثرن بقصبة أو تصدى لهن كائن، أشبعنه تقريعا ولوما في كل لحظة، وأوسعنه تعنيفا، فكان هذا الاستنتاج الواضح الصحيح سببا في حسم الموضوع.
استطرد بلهجة مرحة كان معروفا بها، تخللتها سحابة من الإرهاق: عزيزتي آنا ميخائيلوفنا، يستحيل علي تقريبا إرضاء رغبتك، مع ذلك فإنني سأبذل المستحيل لأثبت لك ودي المخلص، وتمجيدي لذكرى المرحوم والدك واحترامي له. أعدك بأن ينقل ابنك إلى الحرس، فهل يرضيك ذلك؟ - يا صديقي الطيب، إنك محسن ذو الفضل العميم علينا! ما كنت أنتظر منك غير ذلك، كنت أعرف أنك طيب.
انحنى الأمير يحاول الانسحاب؛ فقالت الأميرة العجوز: ثمة كلمة أخرى، أرجوك.
وترددت برهة ثم أردفت: عندما ينتظم في سلك الحرس، أرجو أن تتفضل بالسؤال من ميخائيل إيلاريونوفوتيسن كوتوزوف - هو صديق لك - أن يدخله في عداد مساعديه، وعندئذ سأقر عينا ولن أسألك ...
ابتسم الأمير بازيل لهذا المشروع الجديد. - لا أستطيع أن أقطع لك وعدا. لو أنك تدركين مدى المضايقات التي يتعرض لها كوتوزوف منذ أن عين «جنرالا أعلى» لعذرتني. لقد قال لي بنفسه إن كل نسائنا الفاضلات في موسكو، تآمرن عليه ليدخل أبناءهن في عداد مساعديه. - كلا، كلا يا صديقي الطيب، يا صاحب الفضل علي، لن أدعك قبل أن تمنحني وعدا.
كررت هيلين الجميلة نافدة الصبر: أبتاه، سوف نصل متأخرين.
فقال الأمير: إلى اللقاء، أترين أنني على عجلة من أمري! - اتفقنا إذن ، ستتحدث إلى الإمبراطور . - بلا شك، أما كوتوزوف، فإنني لا أعد شيئا بصدده.
فألحت الأميرة بابتسامة فتاة لعوب فاتنة، ابتسامة متنافية متنافرة مع تقاطيع وجهها التالف، بقدر ما كانت أليفة مع ذلك الوجه من قبل: بلى، بلى يا بازيل.
كان واضحا أنها تناست تماما سنها المتقدمة، وأنها لجأت بحكم العادة إلى كل مواردها الأنثوية السابقة، لكن ما إن خرج الأمير، حتى استعاد وجهها طابع البرود الذي كان موسوما به من قبل، عادت تلتحق بالمدعوين الملتفين حول الفيكونت الذي كان لا يزال يتابع خطابته، وتصنعت الإصغاء إلى أقواله، متحينة لحظة الانصراف، وقد باتت تتوق لها، بعد أن أنجزت مهمتها.
الفصل الخامس
نقاش حول بونابرت
استقصت آنا بافلوفنا تقول: إذن، ما قولك في أضحوكة التنصيب الأخيرة في ميلان، ومهزلة شعبي جينس ولوك الجديدة، اللذين جاءا يرفعان ولاءهما إلى السيد بونابرت الجالس على عرش، معلنين عن عواطف الأمم وتمنياتها؟! مدهش! أليس كذلك؟ بل إنه يكاد يثير الجنون! حتى ليظن أن العالم أجمع قد فقد عقله.
طافت ابتسامة على وجه الأمير آندريه وحدق في وجه آنا بافلوفنا بنظرة ثابتة، قال وهو يردد كلمات بونابرت: نعم، «لقد أعطانيها الله والويل لمن يمسها»
Dieu me la donne; gare à qui la touche . يقال إنه كان رائع الجمال وهو يردد هذه الكلمات.
وعاد يكرر هذه الجملة بالإيطالية:
Dio miLa do: na, guai a chi la tocca ، واستطردت آنا بافلوفنا قائلة: آمل أن تكون هذه العملية بمنزلة النقطة التي يطفح بها الوعاء، إن الأمراء أصبحوا لا يطيقون احتمال هذا الرجل الذي يهدد كل شيء.
فقال الفيكونت بلهجة أنيسة ولكن هادئة: الأمراء؟ إنني لا أتحدث عن روسيا بالطبع. الأمراء يا سيدتي! ماذا فعل الأمراء للويس السادس عشر، للملكة، أو لمدام إليزابيث؟
ثم استطرد بثورة وحماس وانفعال: لا شيء! صدقيني إنهم الآن يلاقون عقابهم على خيانتهم لقضية آل بوربون الأمراء؟ إنهم يوفدون رسلا يحملون تمنياتهم وتهانيهم للمغتصب.
ندت عن صدره زفرة حقد عميقة، واعتدل في مجلسه من جديد، التفت الأمير هيبوليت - وكان حتى تلك اللحظة محتميا وراء عوينته ليتاح له تأمل الفيكونت على هواه - إلى الأميرة الصغيرة فجأة، وطلب إليها إبرة راح يرسم بها على المائدة شعار أسرة كوندة، وراح يفسر لها رموزها بجد واندفاع وكأنها سألته ذلك، بينما كانت الأميرة تصغي إليه والابتسامة مشرقة على وجهها.
أردف الفيكونت بحماس متزايد، شأن الرجل الذي لا يأبه الإصغاء إلى الآخرين ويتبع ما عدا ذلك سياق آرائه وحده في المسألة التي يلم بها كل الإلمام، ويتفهمها أكثر من أي سواه.
إذا لبث بونابرت على العرش عاما آخر، فإن الأمور لن تتوقف عند هذا الحد. إن الدسائس والقسوة والنفي والتنكيل، ستدمر المجتمع الفرنسي - وأقصد المجتمع الراقي - تدميرا لا رجعة بعده وعندئذ ...
وهز كتفيه دلالة على اليأس، وأنهى حديثه تلك النهاية الصامتة. وهم بيير، الذي أثار ذلك الحديث اهتمامه، أن يدلي بدلوه فيه، غير أن آنا بافلوفنا التي كانت تراقبه بشدة لم تترك له مجالا للحديث.
شرعت تقول بذلك الطابع الخطير، الذي كانت تضفيه على وجهها كلما تحدثت عن الأسرة الإمبراطورية: لقد أعلن الإمبراطور ألكسندر أنه سيترك للفرنسيين حرية انتقاء نوع الحكم، إنني واثقة من أنه إن يطح بالمغتصب الجائر، وينقذ الأمة منه، فسيلقي الشعب بنفسه بين ذراعي حاكمه الشرعي.
فاهت آنا بافلوفنا بالجملة الأخيرة إرضاء لشعور المهاجر النبيل.
قال الأمير آندره: لا أظهر ذلك، لقد سارت الأمور شوطا بعيدا، كما يؤيدني في قولي سيدي الفيكونت، حتى بات يتعذر إحياء الماضي وبعثه من طيات النسيان.
فتدخل بيير قائلا - وقد قفزت الدماء إلى وجنتيه: أريد أن أقول إن الطبقة النبيلة كلها قد انضمت إلى بونابرت.
فأجاب الفيكونت دون أن يرفع أبصاره إلى بيير: إن هذه آراء بونابرتية. من العسير على المراقب الآن استنباط عقلية البلاد الحقيقية، وهي على حالة البلبال الحاضرة.
قال الأمير آندره، بابتسامة هازئة: لقد قال الأمير بونابرت: «لقد دللتهم على طريق المجد فلم يسلكوه، فلما فتحت لهم ردهاتي، هرعوا إليها زرافات زرافات.» ولست أدري إلى أي مدى حق له أن يقول مثل هذا القول.
كان الأمير آندره لا يشعر بميل إلى الفيكونت الشاب؛ لذلك فقد كان يهدف إلى إيلامه بإيراد أقوال بونابرت وتأييدها، ولو كان يتظاهر بعدم التحدث إليه.
أجاب الفيكونت معقبا على أقوال الأمير: ليس له أي حق في التلفظ بتلك الأقوال؛ منذ مقتل الدوق كف المعجبون به - أتفهم - عن التطلع إليه بتلك النظرة التي يمجد الإنسان بها أحد أبطاله.
وأردف موجها حديثه إلى آنا بافلوفنا بصورة خاصة: حتى ولو أنه كان بطلا في نظر بعضهم، فإنه منذ مقتل الدوق ازداد عدد الشهداء في السماء واحدا كما نقص عدد الأبطال، فخسرت كذلك بطلا.
قابلت آنا بافلوفنا وصحبها تلك الكلمات بابتسامة مؤيدة، استطاع بيير على أثرها أن يحشر نفسه في الحديث، دون أن تستطيع آنا بافلوفنا التصدي له لمنعه من إثارة المواضيع غير اللائقة التي كانت تخافها.
قال السيد بيير: إن إعدام الدوق دانجيان كان ضرورة حكومية، وفي رأيي أن «نابليون» يتحمل وحده مسئولية هذا العمل. قد أوردت دليلا واضحا على سمو نفسه وعظمتها.
غمغمت آنا بافلوفنا مروعة: رحماك يا رب، اللهم رحماك!
وقالت الأميرة الصغيرة وهي دائمة الابتسام، وقد ازدادت تعلقا بأشغالها: كيف ترى يا سيد بيير أن القتل دلالة على عظمة النفس ونبلها؟!
وانطلقت الآهات وآيات الدهشة من مختلف الحناجر والأفواه.
بينما هتف الأمير هيبوليت وهو يضرب على فخذه متحدثا بالإنجليزية: إنها نظرية قاضية!
أما الفيكونت، فقد اكتفى بهز كتفيه مستعيضا بتلك الحركة عن كل جواب تنازل بالرد به على أقوال بيير.
سرح بيير نظره بين السامعين خلال نظارتيه ومن فوقهما، فكانت نظرة متباهية منتصرة.
أردف يقول مغامرا بكل شيء، مندفعا بلامبالاة وراء فكرته: سأشرح الأمر، لقد فر آل بوربون أمام الثورة وسلموا البلاد للفوضى، أما نابليون، فإنه على العكس، استطاع أن يفهم الثورة وأن يسيطر عليها؛ فما كان يستطيع، والحالة هذه، أن يضع حياة فرد واحد في الكفة المقابلة لكفة المصلحة العامة.
قالت آنا بافلوفنا محاولة تسوية الأمر: لو أنك انتقلت يا سيد بيير إلى المائدة الثانية ...
غير أن بيير كان كالعاصفة التي نشطت من عقالها، لا يسمع ولا يصغي. استطرد معقبا: نعم، إن «نابليون» عظيم؛ لأنه استطاع السيطرة على الثورة . لقد خنق سيئات الثورة وأبقى جوهرها الطيب؛ مساواة المواطنين، وحرية القول والصحافة. ولهذه الأسباب وحدها، استولى على السلطة العليا.
فقال الفيكونت مناقشا: لا شك أنه لو أعاد السلطة - بعد أن حصل عليها - إلى أيدي أصحابها الشرعيين بدلا من أن ينتهز فرصة وصولها إلى يديه لارتكاب جريمة قتل؛ لأسميته رجلا عظيما ولا شك. - إن ذلك مستحيل أصلا، إن الأمة لم تعهد إليه بمقاليدها إلا لينقذها من آل بوربون، ولأنها رأت فيه رجلا عظيما يستحق ثقتها. لقد كانت الثورة خطوة جبارة.
كان بيير بإصراره على إبداء رأيه على هذا الشكل، يعبر عن رغبته العميقة في إبداء الرأي النزيه بعيدا عن الموجبات والاعتبارات الأخرى، مدفوعا بحمية الشباب.
كررت آنا بافلوفنا مغضبة: الثورة خطوة جبارة؟! قتل الملك والتجاوز على سلطته؟! هلا انتقلت إلى المائدة الأخرى بعد كل هذا!
ألمح الفيكونت، وهو يفضح ابتسامة وديعة: العقد الاجتماعي!
بينما انطلق بيير يدافع عن نفسه: إنني لم أخص مقتل الملك بالقول. إنني أتحدث عن الأفكار ...
فقاطعه الفيكونت بابتسامة هازئة وصوت ساخر: نعم، أفكار السلب والقتل وقتل الملوك ... - إن هذه الحوادث - ولا أفكر أبدا في إنكار وقوعها - لا تشكل كل الثورة وأهدافها. إن روح تلك الثورة وجوهرها هي حقوق الإنسان، وإلغاء التقاليد البالية، والمساواة بين المواطنين. لقد أقام نابليون هذه المبادئ بكل معانيها وقوتها.
فقال الفيكونت بمقت، وقد قرر أخيرا أن يشعر ذلك الغر بكل السخف الذي في تلك الآراء والأفكار التي يتشدق بها: إن الحرية والمساواة كلمات طنانة ضخمة استغلت استغلالا بشعا. من ذا الذي لا يحب الحرية والمساواة؟! لقد كانت منذ الأزل من تعاليم سيدنا المخلص، ولكن هل جعلت الثورة الرجال أكثر سعادة؟! على العكس، إننا نحن أولاء الذين أردنا الحرية، ونابليون هو الذي دمرها وحطمها.
كان الأمير آندره يسرح نظره باسما بين بيير والفيكونت، ومنهما إلى وجه ربة الدار، كانت هذه - رغم ممارستها تقاليد المجتمعات وإتقانها ضبط أعصابها - قد فقدت بادئ الأمر كل سيطرتها على أعصابها، وكادت أن تعلن عن سخطها وتنكبها سبيل المضيفة اللبقة ، لكنها عندما وجدت أن الفيكونت مورتمارت ظل محتفظا بهدوئه ولامبالاته، إزاء آراء الشاب الدنسة - تلك الآراء التي فات أوان كبتها وخنقها - استعادت شجاعتها ولجأت إلى الهجوم.
قالت تنفيذا لخطتها الجديدة: ولكن يا سيدي بيير العزيز، كيف تفسر لجوء رجلك العظيم إلى إعدام دوق، بل - لنقل - رجل عادي، مخلوق إنساني بسيط، دون أن يحاكم الرجل التعس، أو أن يكون مذنبا؟
فأعقب الفيكونت قائلا: وإنني بالمثل أتوق إلى معرفة التفسير الذي سيقدمه السيد عن حادثة 18 برومير،
1
أليس في ذلك الحادث ما يشبه دور المشعوذ؟! إنها سرقة وشعوذة لا تشبه مطلقا تصرف الرجال العظام.
أضافت الأميرة الصغيرة التي سرت رعشة ظاهرة في كتفيها: والسجناء الذين قتلهم تقتيلا في أفريقيا؟ إنه لأمر مريع!
فأيد الأمير هيبوليت قائلا: لقد أحسنت القول، إنه دنيء، إنها دناءة.
حار السيد بيير فيمن يصغي إليه؛ لذلك فقد اكتفى بأن راح يتأمل معارضيه مبتسما. أبدلت ابتسامة بيير سحنته تبديلا كاملا؛ إذ تحول وجهه، الذي كان يحتفظ أبدا بتقاطيعه الخطيرة الكئيبة، إلى وجه طفل يفيض بالبراءة والطيبة، على عكس ما جرت العادة عليه عند ذوي القسمات الجدية الوقورة، الذين لا تختلف تقاطيع وجوههم عادة إذا ما ابتسموا. كان بيير في ابتسامته تلك، أشبه بالطفل الذي يطلب الصفح.
استنتج الفيكونت - الذي يرى بيير للمرة الأولى - أن ذلك الثوري المتعصب، تنحصر خطورته في كلماته فحسب، فران صمت عام.
وعندئذ قال الأمير آندره مثيرا الموضوع من جديد: كيف تريدون منه أن يجيب على كل السائلين معا؟! إنني أعتقد - على العموم - أنه يجب أن تحوي أعمال رئيس دولة ما، طابع الإنسان العادي وطابع رئيس الجيش إلى جانب صفات الإمبراطور.
هتف بيير مؤيدا، وقد سره ذلك الدعم الذي هبط عليه على غير انتظار: طبعا، طبعا.
استطرد الأمير آندره محاولا التخفيف من عدم خرق بيير: ينبغي أن تعترف بأن نابليون - بوصفه إنسانا - رجل عظيم في موقعة جسر آركول ومستشفى يافا؛ حيث مد يده إلى الموبوئين، ولكن ... ولكن تصرفات أخرى صدرت عنه، يصعب - ولا شك - تبريرها.
أشار الأمير آندره بعد ذلك إلى زوجته ونهض مستأذنا، ولكن الأمير هيبوليت نهض فجأة، وانتصب بقامته الفارعة، داعيا بحركات من يده، أن يجلسوا جميعا للإصغاء إلى ما يقول.
شرع يقول: آه! لقد قص علي بعضهم اليوم حكاية موسكوفية رائعة، أرى ألا أحرمكم من الاستمتاع بها. أرجو أن تعذرني يا فيكونت؛ إذ يجب أن أقص الحكاية باللغة الروسية، وإلا فقدت روح النكتة التي تزكيها.
وراح الأمير يتكلم الروسية بلغة سقيمة، حتى ليخيل إلى من يستمع إليه أنه فرنسي لما يمض عامه الأول في روسيا بعد. مع ذلك، فقد أصغى إليه استجابة إلى الرغبة التي أعرب عنها بكل شخصيته. - توجد سيدة في موسكو، وهي شديدة الخجل، شاءت أن تستخدم خادمين ليقفا على الحاجز الخلفي من عربتها، وألحت في أن يكونا طويلي القامة؛ لأن تلك كانت رغبتها، والمسألة تتعلق بالذوق، وكانت لديها وصيفة طويلة القامة أيضا، قالت ...
وهنا توقف الأمير هيبوليت، وراح يبحث عن الجمل التي ستساعده على التعبير وإتمام القصة. استطرد: قالت ... نعم قالت للوصيفة: «يابنتي، البسي ثوب الخادم الأحمر الرسمي، وتعالي معي وراء العربة، لنقوم بالزيارات.»
وانفجر الأمير هيبوليت ضاحكا قبل أن يشعر المستمعون برغبة في الضحك؛ فكانت ضحكته المسبقة ذات أثر سيئ، على عكس ما كان ينتظر. بينما تنازل بعض الأشخاص، ومن بينهم آنا بافلوفنا والسيدة العجوز، بإبداء شبح ابتسامة.
استطرد: فمضت، وهبت ريح عاتية، فأطارت قبعة الوصيفة، فتهدل شعرها الطويل على كتفيها.
وانتابته موجة ضحك عنيف، استطاع خلالها أن يتمتم: «فعرف كل الناس أن ...» دون أن يستطيع إتمام أقصوصته.
وهكذا انتهت الحكاية الرائعة. وعلى الرغم من أن أحدا لم يفهم لم روى تلك «النكتة»، ولا سبب إصراره على روايتها باللغة الروسية، فإن آنا بافلوفنا والآخرين قدروا للأمير هيبوليت حسن تصرفه، لتبديد الوجوم والامتعاض اللذين أحدثهما حديث السيد بيير الشائك. وتبعثر النقاش والحديث بعد ذلك، واقتصر على شئون الحفلات الراقصة التي أقيمت والتي ستقام، والمراقص والمناسبات التي يمكن للمجتمعين أن يلتقوا خلالها في الأيام المقبلة.
الفصل السادس
الصديقان
بدأ المدعوون يغادرون الدار بعد أن قدموا - كل بدوره - احترامهم وتهانيهم لآنا بافلوفنا على حفلتها الممتعة، غير أن بيير أخفق في مجاراة الآخرين في هذا التصرف. كان بجسده الضخم، وقامته الطويلة، وتكوينه المتين، ويديه الحمراوين؛ لا يعرف كيف يدخل أحد «الصالونات» بقدر ما كان يجهل كيف ينسحب منه؛ أي إنه ما كان يعرف توجيه بعض العبارات اللطيفة قبل مغادرته الحفل البهيج الذي كان فيه، وكان إلى جانب ذلك ساهما بعض الشيء، حتى إنه لما نهض يغادر البهو، تناول بدلا من قبعته قبعة مثلثة لأحد الجنرالات، راح يعبث بزينتها حتى رجاه صاحبها أن يعيدها إليه، لكن سذاجته وتواضعه وطيبة نفسه كانت ضمانا كافيا لتغطية جهله وشروده وشذوذه في الأوساط الراقية، وهكذا منحته آنا بافلوفنا الغفران عن أخطائه وقذفته بإشارة من رأسها.
قالت تودعه: آمل أن أراك قريبا، لكنني آمل كذلك أن تكون قد أبدلت آراءك يا سيد بيير بانتظار اللقاء التالي.
فاكتفى بالانحناء ومعاودة الابتسام جوابا على قولها، وكأنه كان يقول: «إن آرائي هي بانتظار، ولكن انظري أي شاب شجاع أكون.» وبدا على الموجودين، اعتبارا من آنا بافلوفنا نفسها، أنهم فسروا ابتسامته على هذا النحو.
وفي الردهة، راح الأمير آندره - وهو مستدير الظهر للخادم ليضع له معطفه على كتفيه - يلقي أذنا صاغية لثرثرة زوجته مع الأمير هيبوليت، الذي كان ينظر إليها بقحة خلال نظارته، ويتفرس في تقاطيعها.
قالت الأميرة الصغيرة موجهة حديثها إلى آنا بافلوفنا: عودي إلى البهو يا آنيت، ستصابين بالبرد.
ثم أضافت بصوت منخفض وهي تودعها: لقد اتفقنا.
كانت آنا بافلوفنا قد وفقت خلال السهرة - في الإسرار إلى ليز - بأنها تفكر في منح أخت زوجها خطيبا يضاهيها في المركز، ممثلا في شخص الأمير آناتول، فأعقبت آنا على قول الأميرة بلهجة مماثلة: إنني أعتمد عليك يا عزيزتي، اكتبي له وأخبريني كيف ينظر الأب إلى هذا الموضوع. إلى اللقاء.
وعادت إلى الغرف الداخلية.
انحنى الأمير هيبوليت ليهمس إلى الأميرة بكلمات في أذنها، وكان هناك خادمان ينتظمان؛ أحدهما خادم الأميرة وبين يديه «شال »، والآخر تابع للأمير يحمل «رودنجوتا»، وكانا يرقبانهما، وهما يتحدثان بالفرنسية، ويتظاهران بفهم تلك الكلمات رغم جهلهما التام باللغة الفرنسية، وكان من عادة الأميرة أن تتكلم وهي تبتسم، وتصغي وهي فاغرة الفم، تتصنع الدهشة.
كان الأمير هيبوليت يقول: إنني سعيد لعدم ذهابي إلى حفلة المفوضية، إن المرء يتضجر هناك، إن سهرتنا هنا كانت ممتعة للغاية، أليس كذلك؟
فأجابت الأميرة وهي تطوف ابتسامة على شفتيها: يقولون إن الحفلة الراقصة ستكون فيها أجمل نساء المجتمع.
فقال الأمير هيبوليت معقبا وهو يضحك: لن يحضرنها كلهن؛ لأنك لن تكوني موجودة.
وانتزع الدثار من يد خادمها بشيء من العنف، وراح يساعد الأميرة على وضعه، فلما انتهى من مهمته، أبقى يديه برهة وكأنه يطوق الأميرة بهما، ولم يكن من السهل التنبؤ بحقيقة الدوافع لتلك الحركة؛ أكانت مبيتة أم من باب الخطأ، لكن الأميرة أفلتت من يديه برشاقة ورقة وهي تبتسم، والتفتت إلى زوجها. كان الأمير آندره يبدو تعبا نعسا وعيناه نصف مغمضتين.
سأل زوجته وهو يشملها بنظرة: أأنت متأهبة؟
ارتدى الأمير هيبوليت «رودنجوته» بعجلة - وكان من أحدث طراز ينسدل حتى كعبيه - وهرع يتبع الأميرة وهو متضايق من طول المعطف وانسداله، فلحق بها أمام الباب الخارجي، يساعدها خادمها على الصعود إلى عربتها.
هتف بصوت أجش كالح لتصرفه في ذلك المساء: إلى اللقاء أيتها الأميرة.
انزوت الأميرة في ركن العربة المظلم وهي تسوي ثوبها، بينما راح الأمير آندره يحسن وضع سيفه ليجلس إلى جانبها. كان الأمير هيبوليت يزعجه ببشاشته وتصرفه.
قال له الأمير آندره بلهجة جافة ليفسح له الطريق: اسمح لي يا سيدي.
وأردف الأمير بولكونسكي بلهجة وديعة لطيفة مغايرة للهجته الأولى: إنني أنتظرك يا بيير.
وضرب الحوذي الخيول بسوطه، فقفزت تجر العربة بضجة وصخب، بينما لبث الأمير هيبوليت أمام الباب، يضحك تلك الضحكة المتقطعة، بانتظار الفيكونت الذي كان قد وعده بإعادته إلى مسكنه.
ولما جلس الفيكونت إلى جانب الأمير هيبوليت قال: إذن يا عزيزي، إن أميرتك الصغيرة رائعة رائعة! رائعة جدا!
ثم قبل أطراف أصابعه وأردف: وفرنسية تماما .
فانفجر هيبوليت ضاحكا ، بينما تابع الفيكونت قائلا: إنك - لو علمت - مرعب بطابعك البريء الذي تتصنعه. إنني أشفق على زوجها، ذلك الضابط الصغير، الذي يتظاهر وكأنه ولي عهد!
فقال الأمير هيبوليت وهو يغرق في الضحك من جديد: لقد كنت تزعم أن النساء الروسيات لا يساوين النساء الفرنسيات، وفاتك أن الأمر منوط بحسن التصرف والتعقل في معاشرتهن.
دخل بيير - شأن الخبير بمسالك البيت المطلع على عادات أهله - مكتب الأمير آندره قبل أن يدخله ذاك، وارتمى على أريكة بحكم عادته، ومد يده إلى أول كتاب وقعت عليه، وكان «تآويل» قيصر، وراح يتصفحه كيفما اتفق، معتمدا بمرفقيه على الأريكة، وعندئذ دخل آندره.
ابتدره هذا وهو يفرك راحتيه البيضاوين الصغيرتين: لقد أثرت الآنسة شيرر في هذه الليلة، حتى إنها ستقع فريسة للمرض ولا شك.
فاستدار بيير بكل جسمه ليبتسم للأمير بوجهه المنبسط المنتعش، فند عن الأريكة صرير تحت ثقل وزنه الجبار. قال وهو يلوح بيده بلامبالاة: أتدري بأن مشروع هذا ال «موريو» جدير بالإلفات لولا أنه يخطئ فقط في الوسائل التي ستؤمن تنفيذه. إن السلم الدائم ممكن التحقيق، ولكن ... لست أدري كيف أعبر عن رأيي ... على كل حال، ليس التوازن السياسي هو الوسيلة المنشودة.
كانت تلك البحوث السلبية لا تستلب اهتمام الأمير آندره، قال مستفسرا: اعلم يا عزيزي أنه لا يمكن للمرء دائما أن يفصح عن سريرته وحقيقة آرائه. هل قررت أخيرا الانخراط في عداد فرسان الحرس، أم في السلك السياسي؟
تربع بيير على الأريكة وأجاب: لست أدري حقيقة ماذا سيكون من أمري، إنني أرى أن كلا من هاتين الناحيتين تعبس لي ولا تشجعني. - مع ذلك، ينبغي أن تسلك اتجاها معينا؛ فإن أباك ينتظر.
كان بيير قد أرسل إلى خارج البلاد منذ أن بلغ العاشرة تحت رعاية مدربه ومرشده، وكان من الآباء الروحيين، فلما بلغ العشرين من عمره استدعاه أبوه إلى موسكو، وأعفى المرشد من مهمته وقال لابنه: «امض الآن إلى بيترسبورج، وانتق لنفسك المركز الذي يحلو لك، وستراني موافقا سلفا على انتقائك، ها هي ذي النقود اللازمة ، وإليك رسالة توصية للأمير بازيل. اتصل بي دائما، وأطلعني على كل جديد، وسأساعدك في كل ما يقتضي التدخل والمساعدة.» وقد قضى بيير نيفا وثلاثة أشهر وهو يفكر في انتقاء المركز الذي يتعشقه؛ لذلك راح آندره يسأله رأيه.
قال بيير وهو يمر بيده على جبينه فجأة، وأفكاره عالقة بالأب موريو: لا شك أنه ينتمي إلى محفل ماسوني.
فاستوقفه الأمير بإشارة من يده وأعقب: دعك من هذه الترهات ولنتحدث جديا، هل بحثت مسألة الحرس الراكب؟ - كلا، لكنني أهدهد فكرة واتتني في هذه البرهة، أود أن أعرضها عليك؛ إننا الآن في حرب مع نابليون، ولو أن الحرب كانت حرب تحرير، لكنت أول من انخرط في عداد المحاربين، أما وأننا سنكون سائرين على أعقاب بريطانيا والنمسا ضد أقوى رجل وأعظم رجل في العالم، فإن هذا لا يروق لي.
اكتفى الأمير بهز كتفيه جوابا على تلك الآراء الصبيانية. كان يشعره بتلك الحركة بأن أقواله لا تستحق جوابا أحسن من ذلك الجواب؛ إذ ماذا كان يستطيع أن يقول جوابا على مثل تلك الاستنتاجات الساذجة؟ وأخيرا قال: لو أن كل محارب كان يسير مدفوعا بمبادئ يؤمن بها، لما وقعت حرب قط.
فأجاب بيير معقبا: ولكان الأمر خيرا وأفضل.
ابتسم الأمير موافقا وقال: لا شك، لكن ذلك لن يقع أبدا. - إذن، لم تذهب إلى الحرب؟ - لماذا؟ الحقيقة لست أدري؛ لأنه يجب أن أذهب، ثم لأنه ...
وتردد الأمير برهة، ثم أردف: لأن الحياة التي أعيشها هنا لا تروق لي.
الفصل السابع
زوجة الأمير
تناهى إلى سمعه حفيف ثوب في الغرفة المجاورة، فانتفض الأمير شأن النائم الذي أوقظ في غير رفق، وعادت تقاطيع وجهه تتخذ ذلك الطابع الذي بدت عليه في حفلة آنا بافلوفنا، بينما أصلح بيير من جلسته، دخلت الأميرة. كانت قد أبدلت ثوبها الرسمي بآخر منزلي، لكنه لم ينقص شيئا من بهائها ورشاقتها، فنهض الأمير وقدم لها مقعدا وهو يهش لها، فتهالكت جالسة عليه.
قالت باللغة الفرنسية - كعادتها: إنني أتساءل دائما كيف لم تتزوج آنيت حتى اليوم. إنكم جميعا حمقى أيها السادة؛ لأنكم لم تظفروا بها. اعذروا حديثي، ولكنكم لا تفقهون شيئا في شئون النساء. يا لك من مشاكس منازل يا سيد بيير!
أجاب بيير دون أن يفضح ذلك الارتباك الذي يعرو عادة كل شاب عندما يتحدث إلى سيدة شابة: إنني كنت منذ حين أخاصم زوجك لأنني لا أفهم سببا لرغبته في الذهاب إلى الحرب.
انتفضت الأميرة، وقد أصيبت في أدق عواطفها. أجابت: إن هذا ما دأبت أقوله له بدوري! إنني لا أستطيع أن أفهم السبب الذي يجعل الرجال عاجزين عن الاستغناء عن الحرب. ما هو السبب الذي يجعلنا - نحن النساء - لا نشعر بأية رغبة في ذلك أو حاجة به؟ هيا، كن محكما، إنني لا أني أكرر على مسامعه بأنه هنا مساعد لعمه، وأن مركزه لامع ممتاز، وأن كل الناس يعرفونه ويقدرونه. لقد سمعت منذ أيام عند آل آبراكسين سيدة تسأل: «أهذا هو الأمير آندره الشهير؟»
وأعقبت تقول ضاحكة: أقسم لك بشرفي على ذلك، أنه يستقبل أحسن استقبال أينما ذهب. إن في مقدوره أن يصبح تابعا للإمبراطور، إنك تعرف أن جلالته وجه إليه الحديث بكل انشراح وبشاشة. لقد كنا نقول - آنيت وآنا - إن من السهل تدبير الأمر ليصبح تابعا للإمبراطور، فما رأيك؟
سأل بيير دون أن يجيب على السؤال؛ لأنه ألقى نظرة على وجه الأمير فاستنتج أن الحديث لا يروق له: متى ستذهب؟
هتفت الأميرة بلهجة الطفل الذي أفسده الدلال، تلك اللهجة التي كانت تستعملها في حفلة آنا بافلوفنا وهي تتحدث مع هيبوليت، والتي كانت لا تتفق مع ذلك الجو العائلي الذي كان بيير يبدو جزءا منه: آه! لا تحدثني عن ذلك الرحيل، لا تحدثني عنه! لا أريد أن أسمع كلمة عنه! عندما فكرت منذ حين في أنني سأضطر إلى قطع كل علاقاتي العزيزة الثمينة. ثم هل تعرف يا آندره ...؟
وغمزت لزوجها بعينها ونظرت إليه خلال أهدابها نظرة حافلة بالمعاني، وأردفت تغمغم وهي ترتعد: إنني خائفة، خائفة!
فنظر إليها الأمير بدوره وكأنه أذهل لوجود شخص ثالث في الغرفة معه ومع بيير، وسألها بلباقة يشع منها البرود: مم تخافين يا ليز؟ لست أفهم. - كذلك هم الرجال؛ أنانيون! نعم، نعم، إنكم أنانيون. إنه يهجرني لمجرد هوى، والله يعلم السبب، وينفيني وحيدة في الريف.
فقاطعها الأمير آندره بوداعة: مع أبي وأختي! أرجو ألا تنسي ذلك. - سأظل مع ذلك وحيدة بدون أصدقائي. ورغم هذا فإنه يريدني على ألا أكون خائفة!
ارتفع صوتها وبدت شفتها القصيرة التي كانت تسبغ عليها طابعا من الوداعة، تحمل الآن شبها قويا بالحيوانات القاضمة. صمتت وقد قدرت أنه من غير المستحسن أن تلمع أمام بيير إلى أن حالة الأمومة التي تنتظرها هي السبب الوحيد في انفعالها.
قال الأمير ببطء دون أن يشيح ببصره عنها: لست أفهم حتى الآن ماذا يخيفك.
احمر وجه ليز وهتفت وهي تلوح بيدها؛ دلالة على نفاد صبرها: آه يا آندره، لشد ما تبدلت! لقد تبدلت تبدلا جسيما! - لقد منعك طبيبك من السهر، فيحسن بك أن تستريحي.
لم تجب ليز، غير أن شفتها القصيرة المظللة ارتعشت فجأة، بينما وقف الأمير وراح يذرع الغرفة بلامبالاة.
كان بيير يلقي عليهما خلال عدسات نظارتيه نظرات كلها دهشة. تظاهر أنه ينهض لمغادرة المكان، غير أنه أبدل رأيه وعاد إلى مقعد.
قالت الأميرة الصغيرة فجأة وقد شوه وجهها الجميل تقلص باك: لا يهمني حضور بيير وإصغاؤه، لقد مر علي وقت طويل أردت خلاله أن أسألك: لم تبدلت كل هذا التبدل حيالي يا آندره؟ ماذا جنيت؟ إنك انخرطت في الجيش، وفقدت كل شفقة علي، فلماذا؟
هتف الأمير: ليز!
كانت تلك الكلمة تحمل رجاء وتهديدا، وعلى الأخص، كانت تبرز تأكيدا بأنها ستندم على أقوالها، غير أنها استرسلت تتدفق الكلمات من فمها متلاحقة: إنك تعاملني كمريضة، أو كما تعامل طفلا، إنني أرى ذلك بوضوح، فهل أنت أنت، لم تتبدل عما كنت عليه منذ ستة شهور؟
صرخ الأمير بلهجة حاسمة واضحة: ليز، كفي أرجوك.
نهض بيير الذي كان انفعاله وتأثره يزدادان باطراد، واقترب من الأميرة.
كان يبدو على استعداد للبكاء، لشد ما كان منظر الدموع يؤلمه: هدئي روعك يا أميرة، إنك تتخيلين أشياء وهمية، إنني أنا الآخر تعرضت لمثل هذا ... لأني ... كما ترين ... آه! اعذراني. إن وجودي غير مرغوب فيه بينكما، اهدئي أرجوك ... إلى اللقاء.
أمسك بولكونسكي بذراعه مستوقفا وقال: لحظة واحدة يا بيير، أظن أن الأميرة من الطيبة بحيث إنها لن تحرمني من سروري برفقتك.
غمغمت الأميرة خلال دموع الغضب التي عجزت عن قهرها وتبديدها: بلا شك، لن تحرمك. إنه لا يفكر إلا في نفسه.
كرر الأمير بصوت يشعر بنفاد صبر صاحبه: ليز!
بدت الأميرة منقلبة السحنة؛ تبدد شكل السنجاب الغضوب وحلت محله أمارات ذعر محزن يستدر الرثاء، وألقت عيناها الجميلتان نظرة مختلسة إلى الأمير، فيها عبارات الخضوع، بينما انطبع وجهها بطابع الكلب المذعور، الذي جاء يبصبص قرب سيده، محني الرأس.
زفرت وقالت: رباه! رباه!
وأمسكت أطراف ثوبها بيدها، واقتربت من زوجها، فقبلت جبهته، فنهض هذا وانحنى على يدها، فقبلها بوقار كما يفعل المرء مع السيدات الغريبات، وقال: عمي مساء يا ليز.
الفصل الثامن
نجوى
صمت الصديقان، فلم يجرؤ أحدهما على البدء بالحديث. كان بيير يرقب الأمير آندره الذي كان يخفي عينيه بيده.
قال هذا أخيرا وهو يتأوه: هيا بنا نتناول العشاء.
ونهض متجها نحو الباب.
دخل الصديقان إلى غرفة طعام أنيقة تنبئ بذوق رفيع، كان كل ما فيها من مفروشات وفضيات وآنية وخزف يحمل طابع الجدة الذي يدل على حداثة إنشاء المسكن، وبينما كانا يتناولان الطعام، توقف آندره فجأة، وأخذ رأسه بين يديه وهو فريسة انفعال لم يشهد بيير صديقه في مثله من قبل، وقال بلهجة الرجل الذي قرر أخيرا أن ينفث عما في صدره: لا تتزوج أبدا يا صديقي، تلك هي النصيحة التي أسديكها، لا تتزوج قبل أن تتأكد من أنك لن تستطيع أن تعمل غير ذلك، وقبل أن تنقشع عن عينيك سحابة تعلقك الغريزي بالمرأة التي أولعت بها، التي تكون قد أعمت بصيرتك وجعلتك لا تراها على حقيقتها. إنك بغير ذلك في خطأ مروع لا يمكنك تلافيه ، تزوج متأخرا بقدر ما تستطيع، وليكن عندما تصبح غير صالح لأي شيء، وإلا فإن كل ما في نفسك من نبل وعظمة وطموح سيتبدد، سترى نفسك كذلك غائصا في ترهات وسخافات. نعم، سترى نفسك كذلك! لا تنظر إلي بمثل هذا الذهول. إذا كانت في نفسك آمال للمستقبل، وتزوجت قبل تحقيقها، يحسن بك عندئذ أن تستعد للحداد على طموحك؛ لأنك ستشعر في كل خطوة بأن الأبواب كلها مغلقة في وجهك، باستثناء أبواب الأبهاء و«الصالونات»؛ حيث ستكون معدودا كأول سخيف، أو كأول خادم في البلاط. نعم، إن الأمر كذلك.
وأشفع جملته هذه بإشارة أبلغ من الحديث.
نزع بيير نظارتيه، واتخذت سحنته طابعا جديدا مضيئا بالذكاء، وراح يتأمل صديقه بذهول.
أردف الأمير آندره: إن زوجتي مخلوقة ممتازة، نادرة بين النساء اللاتي لا يخشى المرء معهن على سعادته زوالا؛ مع ذلك، رباه! كم أعطي وبكم أضحي لأكون غير متزوج بها! إنك أول من أبثه هذه النجوى، والوحيد الذي سيسمعها؛ لأنني أحبك.
وكلما استغرق الأمير في الحديث، ازداد بعدا عما كان عليه في بهو آنا بافلوفنا؛ حيث كان متهاويا على مقعده يغمغم ببعض العبارات باللغة الفرنسية، وأمارات الإجهاد واضحة في عينيه نصف المغمضتين، كانت عضلات وجهه العابس كلها تنتفض بانفعال، وعيناه اللتان كانتا منذ حين خابيتين، تشعان في تلك اللحظة ببريق متقد مشتعل، كانت بلادته في الحالات الطبيعية تتحول في تلك اللحظات من الانفعال المرضي إلى لون من جنون التيقظ.
أردف يقول: هل يدهشك أن تراني أتحدث بهذا الشكل؟ إنها - كما ترى - مأساة حياتي، إنك تحدثني عن بونابرت ومركزه، ولكن بونابرت كان حرا عندما تابع هدفه حتى بلغه، إنه لم يكن يفكر إلا في غايته، وبذلك وصل إليها. إنك إذا ارتبطت بامرأة، كنت أشبه بالمحكوم عليه، المغلول إلى سلسلة، فقل الوداع أيتها الحرية والكفاءات والآمال؛ واقبع في ظل تبكيت الضمير؛ لأنك ستفقد هذه المزايا إلى الأبد. إن المنتديات والهذر والحفلات والغرور، والبؤر الاجتماعية، هي الدائرة الكريهة الفاسدة، التي لا أعرف كيف أخرج منها؛ وهذا هو السبب الذي من أجله أمضي إلى الحرب، إلى أعظم حرب، إلى أعظم الحروب، وأنا لا أعرف شيئا لأنني لا أصلح لشيء. إنني لطيف جدا، ولاذع جدا! وهكذا يصغون إلي راضين عند آنا بافلوفنا. آه! من ذلك المجتمع الأحمق الذي لا تستطيع زوجتي عنه ابتعادا! أولئك النسوة اللاتي ... ليتك تعرف من من أولئك النسوة الراقيات المرموقات ... وكل النساء! إن أبي على حق، إن المرأة عندما ترى على حقيقتها، لا تزيد عن كونها أنانية مغرورة، محدودة خرقاء تماما، لكنها في المنتديات تضفي على نفسها لونا آخر، غير أنك إذا أمعنت النظر فيها، وجدتها لا شيء، لا شيء، لا شيء!
ثم أعقب يقول ناصحا: لا تتزوج يا عزيزي، كلا، لا تتزوج.
قال بيير: كيف؟! أهو أنت الذي تحكم على نفسك بالعجز، وتزعم أن حياتك محطته! لكن هذا لعمري عجيب! يمكنك أن تتطلع إلى كل شيء، وأنت ...
لكنه لم يعقب، كان صوته يدل دلالة واضحة على التقدير العميق الذي يكنه لصديقه، وعلى أي مستقبل زاهر يعتقد أنه بالغه.
كان بيير يتساءل: «كيف يستطيع آندره أن يخفض من قيمة نفسه!» كان الأمير آندره بالنسبة لبيير مثالا للكمال والنضوج؛ ألم يكن يرى فيه الصفات الممتازة التي كان بيير لا يملك منها شيئا، والتي كان يعتقد أنها كلها مدينة لفضيلة هامة رئيسية؛ وهي سمو النفس؟!
كان بيير معجبا بالهدوء الذي يبديه الأمير في علاقاته مع الأشخاص من مختلف الطبقات، وببداهة عقله، وتنوع معلوماته، وغزارة علمه، وهو الذي قرأ كل شيء، وعرف كل شيء، وألم بكل شيء، أضف إلى ذلك قدرته على العمل والإبداع. وإذا كان بيير قد شعر من قبل بدهشة لميل صديقه إلى كل ذلك قدرته على العمل والإبداع، وإذا كان بيير قد شعر من قبل بدهشة لميل صديقه إلى التحليق الفلسفي، الذي كان عنده يبلغ ذروته، فإنه كان يرى في ذلك الشرود لونا من السمو، أكثر مما كان يعتبره نقيصة مرذولة.
ولكي تسير العربة سيرا حسنا، ينبغي أن يعنى بتشحيم عجلاتها، وكذلك فإن أشد العلاقات صراحة وأعمقها، بحاجة إلى رعايتها بالمديح أو التقريظ.
قال الأمير آندره: إنني رجل مقضي علي. ولكن ماذا يجدي الحديث عني؟ وصمت برهة ثم أردف وهو يبتسم لفكرة ما أشعرته ببعض العزاء: لنتحدث عنك أنت.
انبسطت أسارير بيير، عندما طافت تلك الابتسامة على وجه صاحبه، وقال مشرق الوجه، خلي الفكر: وبماذا أتحدث عن نفسي؟ من أنا؟ ابن سفاح!
واحمر وجهه إثر تلفظه بتلك الكلمة، حتى شحمة أذنيه، وأردف: رجل لا اسم لي، ولا ثروة. ثم مع ذلك ...
لم يتم جملته، بل غير سياق أفكاره وأعقب: إنني حر راض عن نفسي. وبهذه المناسبة، عندي ما أسألك رأيك فيه جديا.
نظر الأمير إلى صديقه بعينين حانيتين، غير أن تلك النظرة الودية الملاطفة كانت دليلا واضحا على رفعة شأنه وسموه، قال: إنك عزيز علي قبل كل شيء؛ لأنك - بين كل أفراد عالمنا - مخلوق حي، فانتق أي مركز تشاء، إنه سيان، ولكن كف عن الاختلاط بآل كوراجين. فهل هنا بغيتك، تلك الحياة التي تشبه حياة الصور المتحركة.
قال بيير وهو يهز كتفيه: ماذا تريد يا عزيزي؟ إن النساء يا عزيزي هن النساء! - النساء الراقيات لا بأس بهن، أما نساء كوراجين، فهن نساء وخمر! في الحقيقة إنني لا أفهمك.
كان بيير - وهو الذي يقطن عند الأمير بازيل - قد راح يرود البؤر التي قاده إليها آناتول هذا، هو الذي يعمل أبوه على تحسين سلوكه، بتزويجه من أخت الأمير آندره.
قال بيير وكأن فكرة سعيدة طارئة قد راودت رأسه: أتدري بأنني أناقش نفسي منذ أمد بعيد، وأخرج بمثل هذه النتيجة؟ إن هذا اللون من الحياة يمنعني من التفكير ومن اتخاذ أي قرار. إنني أشعر بآلام في رأسي، وبجفاف في كيس نقودي. لقد دعاني الليلة آناتول، لكنني لن أذهب. - أتقسم بشرفك؟ - أقسم بشرفي.
الفصل التاسع
رهان
لم يخرج بيير من دار صديقه إلا بعد أن تجاوزت الساعة الواحدة صباحا، كانت ليلة جميلة بيضاء كما لا يرى مثلها إلا في بيترسبورج في شهر حزيران، استقل بيير عربة، وأراد الذهاب إلى مسكنه، لكنه كلما ازداد اقترابا منه، ازداد شعوره بالعجز عن قضاء ساعات جميلة، تشبه الغسق أو الفجر أكثر مما تشبه الليل، النوم والراحة. كان البصر يمتد بعيدا في تلك الشوارع المقفرة. تذكر بيير وهو في طريقه أن جماعة المقامرين الذين كانوا سيجتمعون تلك الليلة عند آناتول كوراجين، ينهون سهرتهم عادة بأكؤس من الشراب، سيتبعها لون من التسليات التي كان يقدرها.
راح يحدث نفسه: «ماذا لو مررت على منزل كوراجين؟» لكنه تذكر فجأة الوعد الذي أعطاه للأمير آندره، وشعر كذلك فجأة - كما يحدث للأشخاص المحرومين من الاتزان - برغبة ملحة في تذوق لذائذ هذا النوع من الحياة الفاسدة، فأعد عدته واتخذ قراره. بدا له أنه مرتبط بموعد مسبق مع آناتول، وأن العهد الذي قطعه للأمير آندره يفقد قيمته إزاء الوعد المسبق. راح يفكر: إن كل وعود الشرف تلك لا قيمة لها ولا وزن؛ لأنها أشياء شرطية، تفقد اعتبارها عندما يفكر المرء أنه قد يموت غدا، أو أنه سيجد نفسه في موقف يفقد فيه حتى الشعور بالشرف وبقلة الشرف. كان ذلك النوع من المناقشة والحكم مألوفا عند بيير، وبسببه كانت مشاريعه وقراراته تتبدد، وهكذا مضى إلى منزل كوراجين.
وصل أمام البناء الفسيح الملاصق لثكنة فرسان الحرس، حيث كان يقطن آناتول، فتخطى بيير المدخل المضاء وصعد السلم، فوجد الباب مفتوحا. لم يصادف أحدا في الردهة التي كانت الزجاجات الفارغة مبعثرة في أرجائها، والمعاطف تتدلى على المشاجب، والأحذية الواقية للأخفاف ملقاة بغير انتظام. كانت رائحة الخمر تفوح في المكان، وأصوات صخب بعيدة تبلغ المسامع. لا شك أن اللعب والعشاء كانا قد انتهيا، غير أن المدعوين ما كانوا قد تفرقوا بعد.
خلع بيير معطفه ودخل الحجرة الأولى، حيث كانت بقايا الطعام لا زالت على المائدة، وكان هناك خادم يفرغ في جوفه بقايا الأقداح في منجاة العيون، وكان ضجيج ضحك وصيحات، وصوت أقدام وهمهمة دب، ترتفع بوضوح من الغرفة الثالثة، حيث كان حوالي عشرة شباب، واقفين أمام نافذة مفتوحة، يصخبون ويهذرون، بينما راح ثلاثة آخرون يعبثون مع دب صغير، فيحمله أحدهم من سلسلته ويوهم الباقين بإلقائه عليهم.
صاح صوت: إنني أراهن بمائة روبل على ستيفنس. - دون أن يتمسك بشيء، أليس كذلك؟ - وأنا أراهن على دولوخوف، كن شاهدا يا كوراجين. - هيا دعوا الدب جانبا، إن في الموضوع رهانا. - دفعة واحدة، أليس كذلك؟ وبدون ذلك تحدث الخسارة.
صاح صاحب الدعوة، وهو شاب جميل يرتدي قميصا رقيقا، مفتوح الياقة: هولا، إلي بزجاجة! أياكوف، إلي بزجاجة!
ولما وقع بصره على بيير، هتف: لحظة واحدة أيها السادة، هو ذا صديق قلبي، ها هو ذا بيتروشا العزيز!
صاح صوت يتناقض باتزانه مع كل الأصوات المخمورة: تعال إلى هنا، واحكم في الرهان.
كان المتكلم ضابطا في فيلق سنميونوفسكي، قصير القامة، ذا عينين بلون أزرق فاتح، وكان يشاطر آناتول في مسكنه.
قال بيير وهو يسرح نظرة لاهية فيما حوله: ما هو الموضوع الذي تبحثون؟ إنني لا أفقه شيئا. - انتظروا، إنه ليس ثملا. هولا، إلي بزجاجة! اشرب قبل كل شيء.
وبينما راح بيير يعب قدحا إثر قدح، كانت عيناه ترقبان من زاويتهما وجوه المدعوين السكارى؛ الذين تجمهروا قرب النافذة، وأذناه تصغيان إلى أقوالهم. كان آناتول يتابع صب الخمرة في القدح، وهو يشرح له أن دولوخوف تراهن مع أحد المدعوين؛ الإنجليزي ستيفنس - وهو ضابط في البحرية - على أن يشرب زجاجة من الروم دفعة واحدة، وهو جالس على حافة هذه النافذة من الدور الثاني، وساقاه مدلاتان إلى الخارج.
قال آناتول وهو يقدم لبيير القدح الأخير: هيا، انزع الزجاجة! لن أدعك قبل أن تنتهي من شربها!
فأجاب بيير وهو يدفعه جانبا: كلا، إن فيما شربته الكفاية!
واتجه نحو النافذة.
دولوخوف يراهن.
أمسك دولوخوف بذراع الإنجليزي وراح يخاطب المدعوين مخصصا بينهم آناتول وبيير، شارحا بدقة مفرطة شروط الرهان.
كان دولوخوف ذاك شابا في الرابعة والعشرين، أميل إلى القصر، ذا شعر أجعد وعينين تمتازان بزرقة فاتحة، كان ككل ضباط المدفعية، حليق الشارب، فكان فمه - وهو الجزء الأكثر تعبيرا في وجهه - يبدو مكشوفا، يظهر خط الانحناء فيه بدقة رائعة مليحة، كانت الشفة العليا تسقط على الشفة السفلى الغليظة مشكلة زاوية حادة كلها، بينما لبثت الزاويتان تظهران ضحكة مزدوجة ثانية، فكان تكوين ذلك الوجه، المتفق مع تلك النظرة التي لا تخلو من قحة معنوية، يستوقف الانتباه. وكان ذلك الشاب محروما من الثراء والعلاقات الرفيعة. مع ذلك، فقد كان يشارك آناتول في مسكنه، ويلقي بالمال من النوافذ! كان يحسن فرض احترامه على آناتول وكل الآخرين، يشرب وكأنه قربة هائلة، فلا يفقد اتزانه أبدا، وكان كوراجين ودولوخوف أمراء الشبيبة اللامعة في بيترسبورج.
بعد أن أتيا بالزجاجة، راح الخادمان المروعان بثورة الهرج والصخب والنصائح التي كانت تلقى إليهما من كل مكان، يحاولان جاهدين إنزال إطار النافذة؛ ليستطيع دولوخوف الجلوس على حافتها الخارجية، فاقترب آناتول بخطورة الغازي الفاتح؛ كان في مظهره ما يدل على رغبته في تحطيم شيء ما.
أزاح الخادمين جانبا، وراح يجذب الإطار بقوة، لكن هذا لم يلن تحت الضغط، ولو أن جانبا من زجاج النافذة قد تحطم.
قال بيير: هيا، جرب أنت أيها الرجل القوي.
أمسك بيير بمراقي الإطار وجذبها، فكاد أن يخلع النافذة كلها.
صاح دولوخوف آمرا: اخلعها، وإلا فإنهم سيدعون أنني استندت إلى درفة أو إلى جزء منها.
قال آناتول: إن الإنجليزي ينفخ أوداجه، أليس كذلك؟ هل انتهيت من النافذة؟
فأجاب بيير: لقد انتهيت.
راح يرقب دولوخوف وهو يتقدم من النافذة والزجاجة في يده، فكان يرى منها السماء الصافية الأديم؛ حيث يختلط ضياء المساء مع طلائع النهار.
قفز دولوخوف إلى النافذة والزجاجة في يده وصاح آمرا: اصمتوا!
كان واقفا على حافة النافذة ووجهه إلى المتفرجين، فصمت الجميع استجابة لرغبته. أردف قائلا بلغة فرنسية سقيمة ليفهم الإنجليزي: إنني أراهن بخمسين روبلا أو بمائة إذا شئت!
فقال الإنجليزي: بل بخمسين. - ليكن. أراهن بخمسين روبلا، على أنني سأتجرع زجاجة روم دفعة واحدة، وأنا جالس في هذا المكان (وانحنى ليدل على المكان الذي سيجلس فيه) دون أن أستند إلى شيء. هل اتفقنا؟
فقال الإنجليزي: اتفقنا.
التفت آناتول إلى ستيفنس، وأمسك بزر «فراكه»، ثم هبط بنظرته نحوه - لأن الإنجليزي كان قصيرا - وراح يكرر عليه بالإنجليزية شروط الرهان، غير أن دولوخوف استنفر مجددا انتباه الموجودين، وهو يقرع بزجاجته على طرف النافذة وهتف: أصغوا إلي! دقيقة واحدة! أصغ يا كوراجين، إذا قام بعضكم بمثل هذا العمل، فإنني سأدفع له مائة روبل، هل فهمتم؟
أشار الإنجليزي برأسه أن نعم، دون أن يفهم من إشارته أنه يوافق على ذلك الرهان الجديد أم لا. راح يشير بالحركات والإشارات إلى أنه فهم المراد، غير أن آناتول لم يدعه قبل أن أنهى إليه الترجمة الحرفية للشروط؛ كافة أقوال دولوخوف. هرع شاب في مقتبل العمر - نحيل الجسم، جندي بسيط في الحرس، كان قد خسر تلك الليلة في المقامرة - إلى النافذة وأطل إلى الخارج، صرخ وهو يتأمل بلاط الشارع من عل: هو! هو! هو! ...
زمجر دولوخوف وهو يدفع الجندي نحو الغرفة: استعد!
فقفز الجندي، وقد أربكه المهمازان، فكاد أن يسقط على الأرض.
وضع دولوخوف الزجاجة على حافة النافذة لتكون في متناول يده، ثم تسلق النافذة بحذر. اعتمد بيديه على الإطار، ودلى ساقيه إلى الخارج، ثم انتقى مكانا مناسبا، فجلس وأفلتت يداه الإطار. التفت يمينا ويسارا وأمسك بالزجاجة. وعلى الرغم من أن خطوط النهار كانت قد وضحت، فإن آناتول جاء بشمعتين أوقدهما ووضعهما إلى يمين دولوخوف وشماله؛ حتى يستطيع المراقبون رؤية أية حركة تصدر عن يديه، فأضاء بذلك قميص المراهن الأبيض وشعره الأجعد، وجعله هدفا ميسور المراقبة. واحتشد المتفرجون، والإنجليزي في المقدمة، يتطلعون بلهفة. وكان بيير يضحك دون أن ينطق بكلمة. وفجأة اندفع أكبر الموجودين سنا، وعلى وجهه أمارات الغضب والذعر، وهتف وهو أكثر الحاضرين اتزانا: إنه جنون أيها السادة، سوف تدق عنقه!
وهم بإمساك قميص دولوخوف ليمنعه عن القيام بما هو في سبيله، لولا أن أمسك به آناتول وقال: لا، لا تمسه؛ لأنك ستخيفه ... فيسقط من حالق، وعندئذ ... هن؟ ...
أدار دولوخوف رأسه ليصحح من وضعيته اعتمادا على يديه، وقال وهو يدفع بالكلمات خلال شفتيه المطبقتين: إذا شاء أحد أن يتدخل في شئوني، فسأجعله يقفز من هذا الفراغ. لنبدأ الآن !
استدار نهائيا نحو الشارع بعد أن تخلى عن كل سند، ولبث في جلسة على حافة النافذة المنحرفة إلى الخارج، والزجاجة مرفوعة إلى فمه، وذراعاه إلى أعلى؛ ليحافظ بهما على توازنه. كان أحد الخدم منحنيا يجمع حطام الزجاج المتناثر، فلبث في وضعيته المنحنية، وعيناه شاخصتان إلى النافذة تلتهمان ظهر دولوخوف، وانتصب آناتول على مدى قامته وراح يحملق بعينيه. أما الإنجليزي فقد راح ينظر حوله وهو يعفر وجهه، وراح الشاب الجندي يحتمي في ركن وقد تهالك على أريكة وأدار وجهه إلى الجدار، بينما حجب بيير وجهه بيده وقد علت شفتيه ابتسامة منسية تعبر عن الذعر والخوف. وجمد المتفرجون ووجموا، فرفع بيير يده عن عينيه؛ كان دولوخوف محتفظا بوضعيته تلك، لكنه كان شديد الانحناء إلى الوراء، حتى إن خصلات شعره كانت تلامس ياقة قميصه. كانت الزجاجة تفرغ من محتوياتها، مرغمة رأس المراهن على الانحناء أكثر فأكثر، رافعة معها اليد التي تقبض عليها، وهي تهتز بحكم المجهود الذي يبذله صاحبها. أخذ بيير يحدث نفسه قائلا: «ما أطول هذه الفترة!» خيل إليه أن نصف ساعة قد انقضت منذ أن بدأ دولوخوف في عملية شرب الروم. وفجأة، قام دولوخوف بحركة عنيفة إلى الوراء؛ كانت رعدة عصبية تحرك ذراعه بما يكفي ليفقد الجسد المتمركز على الحافة المنحدرة اتزانه. راح يتأرجح بمجموع جسده؛ الرأس والذراع المتزايدة الاهتزاز بتأثير المجهود المبذول، وكادت اليد الأخرى أن تمسك بإطار النافذة، لكنها انكمشت في آخر لحظة، فأغمض بيير عينيه من جديد، وقرر ألا يفتحهما بعد ذلك، لكنه شعر فجأة بحركة غير اعتيادية حوله، ففتح عينيه متسائلا، شاهد دولوخوف وقد سحب وجهه وبان السرور عليه، واقفا على حافة النافذة.
هتف معلنا نجاحه، وهو يلقي بالزجاجة إلى الإنجليزي الذي تلقفها قبل أن تسقط على الأرض: إنها فارغة!
وقفز دولوخوف إلى أرض الغرفة، تنبعث من فمه رائحة قوية، طغى فيها الروم على كل الخمور الأخرى التي تناولها من قبل. هتفوا به من كل صوب: مرحى! يا للرجل المتين! إنه لرهان رائع!
بينما أخرج الإنجليزي كيس نقوده، وراح يعد المبلغ، ولبث دولوخوف يرمش بعينيه دون أن ينبس بكلمة.
وفجأة اندفع بيير نحو النافذة وصاح: أيها السادة، من يعقد رهانا معي؟ سأعمل مثل ما عمل دولوخوف، بل إنني لا ألح في صدد الرهان! أعطوني زجاجة روم وسأشربها على حافة النافذة. هيا، إلي بزجاجة! زجاجة!
ابتسم دولوخوف وصاح مشجعا: هيا، امض في عزمك!
غير أن الاعتراضات انبعثت من جانب؛ هتف قائل: ماذا دهاك؟ هل جننت؟ هل تظن أننا سندعك تنفذ عزمك؟ أنت الذي تصاب بدوار لمجرد صعودك سلما!
صرخ بيير وهو يضرب المائدة بقبضة يده: كلا، كلا! إلي بزجاجة، زجاجة! سأفرغها!
وتسلق النافذة، فقبضا على ذراعيه، لكن ذلك الجبار سرعان ما تخلص من معارضيه وأبعدهم عنه، فانكمشوا أمام قوته.
قال آناتول: كلا، لن تستطيعوا حمله على العدول هكذا. انتظروا؛ سوف أجعله يتراجع. اسمع، إنني أقبل المراهنة معك ولكن غدا. أما الآن، فلنذهب إلى لرس.
فهتف بيير: حسنا، هيا بنا! ولنأخذ معنا الدب ميشكا.
وحمل الدب حملا، وراح يدور به في فراغ الغرفة.
الفصل العاشر
حفلة آل روستوف
بر الأمير بازيل بوعده الذي قطعه للأميرة دروبتسكوي في حفلة آنا بافلوفنا بشأن ابنها الأوحد بوريس؛ إذ وافق الإمبراطور الذي تحدثوا إليه عن الفتى أن ينقل استثنائيا إلى ملاك الحرس مكان حامل العلم في فيلق سيميونوفسكي. غير أن آنا ميخائيلوفنا لم تستطع - رغم كل الجهود والمحاولات - أن تجعل ابنها يقبل في دائرة أركان حرب كوتوزوف، لا بصفة مساعد ولا كملحق بسيط، فانتقلت إلى موسكو، بعد انقضاء فترة قصيرة على الحفلة العتيدة، التي أنفذت الشطر الأول من خطتها فيها؛ ونزلت عند أقاربها الأغنياء؛ آل روستوف، الذين درجت عادتها على الحلول بينهم، والذين نشأ عزيزها بوريس في بيتهم منذ طفولته، وظل يقطن عندهم حتى أصبح مؤخرا حامل العلم في فيلق الحرس، بعد أن كان في الجيش. وكانت فرقة بوريس قد بقيت في موسكو بانتظار أن تلحق بالفيلق الذي غادر بيترسبورج في العاشر من شهر آب في طريقه إلى رادزيويلو
Radziwilow .
وكان آل روستوف يحتفلون ذلك اليوم بعيد القديسة ناتالي، التي كانت ربة البيت وابنتها الصغرى تحملان اسمها، فكان رتل متواصل من العربات الأنيقة متوقفا منذ الصباح أمام مسكنهم في شارع بوفارسكايا
العتيد، الشهير في كل موسكو. وفي البهو كانت الكونتيس روستوف بصحبة ابنتها البكر - وهي مخلوقة رائعة الجمال - تستقبل السيل المتدفق من الزوار. كانت الكونتيس سيدة في الخامسة والأربعين من عمرها، ذات وجه نحيل يضفي عليها مسحة شرقية، أرهقتها اثنتا عشرة ولادة متتابعة، وترك طابع الكد والتعب على تقاسيمها. وكانت حركاتها التعبة وأسلوبها البطيء في الحديث - نتيجة لذلك الإرهاق - تعطيها لونا من الوقار يفرض الاحترام على الآخرين. كانت الأميرة دروبتسكوي - نظرا للألفة التي بينها وبين أصحاب الدار - تستقبل كذلك المدعوين كما لو كانت في بيتها، وتزكي الحديث. أما الشبان من آل الدار، فكانوا منصرفين عن الجو الرسمي، وكان الكونت يستقبل المدعوين ويشيعهم، داعيا إياهم إلى تناول العشاء تلك الليلة.
كان يقول: تشرفت جدا يا عزيزتي أو يا عزيزي (وقد درجت عادة الكونت على أن يخاطب الجميع ب «يا عزيزتي» أو «يا عزيزي» دون استثناء أو تقدير لمركز الشخص الاجتماعي) إنني أشكرك باسمي الشخصي، وأشكرك باسم اللتين نقيم الحفل من أجلهما، لا تتخلف عن العشاء؛ لأنني سأعتبر ذلك إهانة لي يا عزيزي، إنني أرجوك بإخلاص، وأدعوك باسم كل الأسرة.
كان يوجه هذا القول إلى الجميع، بصرف النظر عن كل الاعتبارات الأخرى، دون أن تتبدل تعابير وجهه المنتفخ البشوش الحليق بتأنق، ويصافح الجميع بتلك اليد القوية، وهو يكرر انحناءة إثر أخرى. وكان كلما شيع زائرة، عاد قرب التي أو الذي بقي في البهو، فيدني مقعدا بيسر الرجل الذي يحب أن يحيا حياة جميلة ويستمسك بهذا الشرط، ويجلس بنشاط متباعد الساقين، ممدا يديه على ركبتيه، ولان وهو ينتقل ببشاشة ومرح، يبدي تنبؤات عن الطقس، ويسدي النصائح حول الصحة، تارة بالروسية وأخرى بالفرنسية؛ فرنسيته البغيضة القبيحة المطبوعة بالجرأة والطلاقة. ثم يعود ثانية - رغم تعبه - فيرافق الأشخاص، بحرص رب الدار الذي يضحي بالكثير في سبيل إتمام واجباته؛ فيشيع الزائر وهو يكرر دعوته للعشاء، ويسوي بيده شعيراته الشهباء القليلة المبعثرة على رأسه الأصلع. وكان أحيانا - عند عودته من الردهة - يقوم بجولة بين بيت النباتات وجناح الخدم؛ ليدخل إلى قاعة الطعام الكبرى، التي تغطي قطع الرخام جدرانها وأرضها، فيعاين المائدة المهيأة لثمانين مدعوا، ويلقي نظرة على أعمال الخدم، الذين كانوا يحملون الأطباق والأواني الخزفية والفضية، ويرتبونها على المائدة، أو يبسطون عليها الأغطية الموشاة؛ فينادي دميتري فاسيلييفيتش
Dimitri Vassilvitch ؛ وهو نبيل أخنى عليه الزمن، فأصبح يشرف على المؤنة وشئون مالية الكونت، فيقول له: انتبه يا ميتا، وافتح عينيك، اسهر على أن يكون كل شيء على أكمل وجه. ويضيف، عندما يتأمل المائدة الجبارة ذات الأطراف التي تسمح بتبديل طولها وفق رغبة صاحبها وعدد الآكلين، بنظرة ابتهاج: ممتاز! عال! إن المائدة المنسقة تنسيقا جميلا، هي الأساس الأهم في حفلات الطعام. هيا، هذا حسن! ويعود إلى البهو وهو يزفر بارتياح.
أعلن تابع الكونتيس بصوت مدو راعد: ماري لفوفنا كاراجين وابنتها!
فقالت الكونتيس بعد لحظة تردد، وبعد أن غمست إصبعها في علبة صعوطها المذهبة، التي تحمل صورة زوجها: إن هذه الزيارات ستسقمني وتقتلني! هيا، لنستقبل هذه المتظرفة المتصنعة، أدخلها.
كانت بتلك اللهجة الآمرة، التي خاطبت بها التابع، كأنها تقول: «خلصني من ذلك، طالما أنت موجود!»
دخلت سيدة بدينة ضخمة، مترفعة الحركات، تتبعها ابنتها، بوجهها السمين الممتلئ المشرق، ترفلان في أثوابهما.
قالت أصوات نسائية بحماس تقاطع بعضها بعضا، وتمتزج بحفيف من الأثواب وضجيج القواعد: عزيزتي الكونتيس، لقد مضى زمن طويل ... لقد كانت ملازمة فراشها، طفلتي المسكينة ... في حفلة آل رازوموفسكي ... والكونتيس آبراكسين ... لقد كنت سعيدة جدا ...
وهكذا بدأت الثرثرة الطبيعية الاعتيادية، التي تطوف بالموجودين للوهلة الأولى ريثما تنهض المضيفة محدثة لجبا وتقول: «إنني مفتتنة بزيارتك ... صحة الماما ... والكونتيس آبراكسين ...» ثم يمر الصخب وحفيف الأثواب حتى يبلغ الردهة، وهناك ترتدي السيدة المشيعة دثارها وترتحل. يبدأ الحديث يدور حول الحدث الأول في العالم الراقي، وهو مرض العجوز الثري الكونت بيزوخوف، الذي كان من أجمل رجال عهد كاتيرين، والذي تصرف ابنه غير الشرعي بيير بتلك الطريقة الزرية المخجلة، في حفلة آنا بافلوفنا شيرر.
قالت الزائرة الجديدة: إنني أرثي للكونت المسكين، إنه في حالة المرض التي هو فيها يتعرض لخطر الموت متأثرا بفعال ابنه الطائشة.
سألت الكونتيس متظاهرة بأنها تجهل تلك القصة التي سمعتها أكثر من خمس عشرة مرة: أية تصرفات طائشة؟
فاستطردت الزائرة تقول: تلك هي قطوف التثقيف في هذا العصر، لقد ترك هذا الفتى لنفسه عندما كان في الخارج، وها هو الآن في بيترسبورج يرتكب - كما يقال - حماقات مروعة، حتى إن الشرطة اضطرت إلى إبعاده.
هتفت الكونتيس بدهشة: صحيح؟!
فتدخلت الأميرة دروبتسكوي قائلة: لقد أساء انتقاء أصدقائه، فلم يجد خيرا من ابن الأمير بازيل، وآخر يدعى دولوخوف، لقد ارتكب ثلاثتهم - كما يقال - شتى أنواع الموبقات، ونجم عن ذلك أن عوقب دولوخوف بإنزال رتبته من ضابط إلى جندي، وأن أبعد بيزوخوف الشاب إلى موسكو، أما آناتول كوراجين، فقد اضطر هو الآخر إلى مغادرة بيترسبورج، ولولا تدخل أبيه ومركزه، لانتهت قضيته إلى ذيول خطيرة.
سألت الكونتيس مستفسرة: ولكن ماذا عملوا حتى استحقوا هذا؟
فأجابت الزائرة بلهجة التأكيد تقول: إنهم أشقياء حقا، وعلى الأخص دولوخوف، رغم أنه ابن ماري إيفاثوفنا دولوخوف، وهي شخصية محترمة. تصوري أن ثلاثتهم قد حصلوا - والله أعلم بالمكان - على دب، أرادوا حمله معهم في عربة إلى حيث يقطن بعض الممثلين، فلما تدخل رجال الشرطة بغية إعادتهم إلى صوابهم، اصطدموا بضابط القسم، فألقوه أرضا، وربطوه ظهرا لظهر مع الدب في نهر «الموييكا»، فراح الدب يسبح حاملا ضابط الشرطة على ظهره.
هتف الكونت وهو يغرق في الضحك: تصوري موقفه يا عزيزتي! - يا له من أمر مريع! ما الذي تراه مضحكا في الأمر يا كونت؟
غير أن النساء أيضا لم يستطعن - رغم تلك الملاحظة - الإبقاء على سيماء الجد في وجوههن.
استتلت مدام كاراجين: لقد لاقوا مشقة كبيرة في إنقاذ المسكين. تصوروا أن صانع تلك الفضيحة هو ابن الكونت سيريل فلاديمير وفيتش بيزوخوف، إنهم يزعمون أنه جم التهذيب والذكاء، هذه هي الحدود التي تقود إليها الثقافات في الخارج، آمل ألا يستقبله أحد هنا رغم ثرائه، لقد أرادوا أن يقدموه إلي فقلت: كلا، شكرا، إن عندي بنات.
سألتها الكونتيس وهي تنحني عليها: ثروته! ولكن أين تلك الثروة؟
وتظاهرت الفتيات الشابات بعدم الإصغاء، بينما استطردت الكونتيس: ليس للكونت سيريل إلا أولاد غير شرعيين على ما أعتقد، ولن يستثنى بيير هذا من ذلك.
هتفت مدام كاراجين بلهجة مستهزئة: أولاد غير شرعيين! أعتقد أن للكونت عشرين واحدا على الأقل!
واعتقدت الأميرة دروبتسكوي أن الفرصة مواتية لإظهار علاقاتها ومعلوماتها، فقالت بصوت منخفض، وعلى وجهها أمارات توحي بأنها تعرف الأصول والفروع: إليكم المسألة؛ إن سمعة الكونت سيريل معروفة، ولا شك أنه لا يعرف عدد أبنائه، غير أن بيير هذا مفضل مصطفى بينهم. - أتعرفون أن هذا العجوز الأنيق كان في العام الماضي على أحسن حال، وأنني لم أر قط أجمل منه رجلا؟
فأجابت الأميرة دروبتسكوي وهي تعود إلى موضوعها: أوه! لقد تغير كثيرا، كنت أقول إذن إن بيير مفضل ومقرب إليه، ولقد عني بتثقيفه، وكتب بشأنه إلى الإمبراطور، فإذا وقعت فاجعة - وهو في أرذل العمر وأسوأ النهايات، حتى إنهم استدعوا لوران من بيترسبورج - فإن ثروته، وتعدادها أربعون ألف نفس وعدد من الملايين، ستئول حتما إلى بيير، ويسبب ذلك خسارة الأمير بازيل الذي يعتبر وريثا مباشرا عن طريق زوجته، كما حدثني بنفسه. إن معلوماتي إذن مستقاة من مصدر ثقة. أضف إلى ذلك أنني، عن طريق أمي، أعتبر - حسب العرف المتبع في بريطانيا - حفيدة الكونت سيريل، ويعتبر بوريس ابنه بالمعمودية.
تفوهت بجملتها الأخيرة دون أن يبدو عليها أنها تتعمد أمرا من وراء ذلك.
قالت مدام كاراجين: إن الأمير بازيل هنا منذ البارحة في جولة تفتيشية كما يشاع.
فأجابت الأميرة: نعم، ولكن التفتيش - والحديث بيننا - ليس إلا ذريعة، أما سبب سفره الحقيقي، فهو مرض الكونت سيريل الخطير.
هتف الكونت روستوف فجأة: لقد تحدثت بالصدق يا عزيزتي، إن الحكاية مضحكة مسلية.
لكنه لما رأى الزائرة لا تصغي إليه، مال إلى الفتيات الشابات ، وأردف: لا شك أن موقف الضابط المسكين كان مضحكا.
وأشفع قوله بإشارات من يديه، للدلالة على مدى سخط الضابط وغيظه المكتوم، وانفجر ضاحكا ضحكة مجلجلة مدوية؛ ضحكة رجل أمضى كل عمره بين الطعام الجيد والشراب الأجود، فتجاوب لها جسده السمين المنتفخ.
ثم اختتم حديثه قائلا: لقد اتفقنا إذن، سوف ننتظرك لتناول العشاء معنا.
الفصل الحادي عشر
ناتاشا وبوريس
ران السكوت لحظة، فلم تستطع الكونتيس إخفاء دلائل الارتياح الذي ستشعر به، إذا ما غادرتها الزائرة منصرفة، رغم الابتسامة المشجعة التي كانت توقفها عليها.
أخذت الآنسة كاراجين تستفسر أمها بالنظر، وتتأهب لمغادرة المكان، حينما ارتفع فجأة صوت خطوات متهافتة، آتية من الغرفة المجاورة، ثم ارتطام مقعد منقلب، وفجأة فتح الباب، وظهرت على عتبته فتاة في الثالثة عشرة من عمرها، تخفي وراءها شيئا في طيات ثوبها القصير، المصنوع من قماش «الموصلين» الفاخر. توقفت الفتاة في مكانها، وقد أدهشها أن تكون اندفعت في جريها إلى ذلك المكان. وفي ذات اللحظة، بدا وراءها طالب ذو ياقة خمرية اللون، وضابط من الحرس، ثم فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، وغلام يرتدي سراويل قصيرة، ذو وجنتين مضرجتين ممتلئتين.
قفز الكونت فورا، وراح يتأرجح في مشيته، ويلف ساقا على ساق، ويباعد بين ذراعيه؛ ليقطع الطريق على الفتاة، صرخ وهو يضحك: آه! ها هي ذي بطلة حفلتنا! يا فتاتي الصغيرة العزيزة!
وتصنعت الكونتيس الغضب وقالت: هناك وقت لكل شيء يا عزيزتي.
وأعقبت تخاطب زوجها: إنك تفسدها كثيرا يا إيلي.
هتفت مدام كاراجين: مرحبا يا عزيزتي، أهنئك.
ثم أعقبت تخاطب الأم: يا لها من فتاة لطيفة!
لم تكن الفتاة الصغيرة، ذات العينين السوداوين والفم الكبير، على شيء من الجمال، ولكنها كانت تتفجر بالحياة. كان انطلاقها في الجري قد بعثر خصلات شعرها الأسود، المنسدل إلى الوراء، وأبرز كتفيها الناحلتين تحت ثوبها. كانت ذراعاها الدقيقتان عاريتين، وساقاها الصغيرتان تبرزان خلال سراويل من «الدانتيلا» تصل حتى حذاءيها المكشوفين. كانت في ذلك السن الباسم الذي لا تكون الفتاة فيه طفلة، ولا تكون الطفلة فيه في مصاف الفتيات الشابات. أفلتت من الكونت، وهرعت تخفي وجهها البسام المتورد في ثوب أمها، التي لم تفلح ملاحظتها القاسية في ترويعها. كانت - ولا شك - تفكر في أمر مضحك مثير؛ إذ إنها أخرجت من بين طيات ثوبها لعبة وغمغمت تقول: ألا ترين؟ لعبتي ... ميمي. ألا ترين؟
وعجزت الصبية ناتاشا عن متابعة حديثها؛ إذ اجتاحتها موجة الضحك التي سرت منها إلى الآخرين، عندما أطلقت ضحكة رنانة، تجاوبت أصداؤها في القاعة، واستجاب لها الموجودون بما فيهم الزائرة ذات المظاهر المتعالية.
قالت الأم وهي تتصنع الغضب: اذهبي، اذهبي واحملي معك هذه السماجة.
ثم خاطبت مدام كاراجين قائلة: إنها صغرى بناتي.
سألتها هذه متقربة: قولي لي يا صغيرتي ناتاشا، ما هي قرابتك مع هذه الميمي؟ إنها - بلا ريب - ابنتك؟
كانت تعتقد أنها بذلك السؤال تتقرب من الفتاة، لكن دعابتها السمجة لم ترق لناتاشا التي ألقت عليها نظرة قاتمة دون أن تجيب.
وفي تلك الأثناء، احتلت الشبيبة: بوريس (وهو الضابط ابن الأمير دروبتسكوي)، ونيكولا (وهو الطالب ذو الياقة الخمرية وابن الكونت البكر)، وسونيا ابنة أخت الكونت، وبيتروشا الصغير (وهو أصغر أبنائه)؛ مكانها في البهو. كانت وجوههم تطفح بالابتسام والإشراق، رغم أنهم بذلوا جهودا جبارة لكبت ضحكاتهم؛ احتراما للرسميات التي يقتضيها الموقف. كان يبدو على وجوههم بوضوح أنهم كانوا في تلك الحجرات البعيدة غارقين في مشاريع أكثر تسلية وقبولا ألف مرة مما عليه الحال في البهو الكبير، من ثرثرات ولغط، وحديث عن الطقس وعن الكونتيس آبراكسين وآخر الفضائح. كانوا يتبادلون نظرات متآمرة وهم يكتمون ضحكاتهم.
كان الشابان، الضابط والطالب، صديقين منذ الطفولة، وكان كلاهما يتمتع بجمال بديع، لكنهما كانا يختلفان عن بعضهما اختلافا مرموقا؛ كان بوريس طويل القامة، أشقر، ذا تقاطيع دقيقة متناسقة ومنبسطة. أما نيكولا، فكان على العكس، قصير القامة، أجعد الشعر، ذا سحنة مشرقة مطبوعة بحمية شديدة فوارة، كانت شفته العليا مظللة بشارب خفيف أسود، تضرج وجهه عندما دخل إلى البهو، وراح يحاول عبثا تبرير سلوكه. أما بوريس، فكان على العكس، لقد استعاد هدوءه بسرعة، وعاد إليه بشره، فراح يروي القصة بصوت ملؤه المجون والسكون. قال إنه عرف تلك «الميمي» صبية جميلة سليمة الأنف، لكنه - ولدهشة - وجدها بعد خمس سنوات قد شاخت بسرعة، حتى إنها حطمت جمجمة نفسها. وبعدئذ ألقى على ناتاشا نظرة لم تستطع هذه احتمالها، فاختلست نظرة إلى وجه أخيها الذي كانت ضحكته مكتومة تهز جسده بعنف، وهو مغمض العينين، وفجأة قفزت هاربة من القاعة، وقد فقدت السيطرة على نفسها نهائيا، غير أن بوريس لم يتحرك. قال يخاطب أمه: كنت تريدين الخروج للنزهة يا أماه، فهل أجهز لك العربة؟
وابتسم لأمه ابتسامة محببة ردتها له من فورها بأجمل منها، وقالت: هو ذاك، اذهب واقطر الخيول إليها.
ومضى بوريس بخطوات هادئة يبحث عن ناتاشا. أما الشاب القصير، فإنه جرى على أعقابهما وعلى وجهه آيات التبرم، شأن من أغضبه بعضهم بإزعاجه في غمرة أعماله الهامة، بتفاهات!
الفصل الثاني عشر
ثرثرة وحديث
باستثناء الآنسة كاراجين، وابنة الكونتيس البكر، التي كانت تزيد على أختها بأربع سنين، وتقلد حركات الكبار المسنين؛ لم يبق في البهو ممثلا عن الشبيبة إلا نيكولا وابنة عمه سونيا، تلك السمراء النحيلة، رقيقة العود، التي كانت تحيط رأسها بضفيرة ثقيلة من شعرها دارت حوله دورتين، وجاءت تنعقد أخيرا عند منبت الشعر. كان جلدها زيتوني اللون، فاتحا عند وجهها، على عكس ظهوره الصارخ عند عنقها وذراعيها العاريين، اللذين أهزلتهما «العصبية»، لكنها لم تكن خالية من الجاذبية والبهاء. كانت خفيفة الظل، لدنة الأعضاء مرنتها، تعطيها بعض الحركات التي لا تخلو من مكر مظهر القطة الصغيرة الجميلة التي لا زالت خشنة بعض الخشونة، ولكنها بالمقابل تبشر بمستقبل ينبئ بأنها ستصبح هرة بديعة فتانة. تظاهرت بأنها تشعر باهتمام للحديث العام الدائر بالبهو، لكنها لم تستطع التمويه على أحد، بأن تجعل ابتسامتها - التي كانت منطبقة على شفتيها - تشعر بذلك الاهتمام، خصوصا وأن تبادل النظرات بينها وبين ابن عمها - تلك النظرات التي كانت ترمقه بها خلال أهدابها الطويلة - أظهر بوضوح أن القطة الصغيرة لم تمكث هناك إلا لتمرح مع ابن عمها الذي يتعشق حياة الجيش، حالما يحذوان حذو بوريس وناتاشا، فيخرجان بدورهما من البهو ليختليا ببعضهما، مضللين الكبار الذين يتحدثون في البهو.
كان الكونت العجوز يحدث السيدة كاراجين مشيرا إلى ابنه: نعم يا عزيزتي، ها هو ذا صديق بوريس، لقد رقي صديقه إلى رتبة ضابط، فلم يرغب «نيكولاي» في البقاء متخلفا؛ لذلك فقد أهمل دراسته وأباه الهرم، والتحق بالخدمة يا عزيزتي. كان ينتظره مركز ممتاز في الإدارة، يبشر بمستقبل بسام، يا لها من صداقة جميلة! أليس كذلك؟
قالت مدام كاراجين: يزعمون أن الحرب قد أعلنت.
فأجاب الكونت: إنهم منذ زمن يتشدقون بهذا القول، حتى باتت أعصابنا مرهقة من كثرة التكرار.
وكرر ملمحا إلى جملته الأولى: يا للصداقة الجميلة! أليس كذلك؟ لقد دخل في فيلق الخيالة.
لم تستطع مدام كوراجين التخلص من ورطتها إلا بهز رأسها، فبان نيكولا يجيب بدلا عنها في شيء من الاحتداد؛ إذ بدا تفسير أبيه لسلوكه على شيء من القسوة. قال: ولكن، لا علاقة للصداقة بالأمر، إن الجيش يجتذبني، وهذا هو السبب.
وألقى على ابنة عمه وعلى الآنسة كاراجين نظرة، فأيدتاه كلتاهما بابتسامة.
قال الكونت وهو يهز كتفيه: إن الكولونيل شويبرت مدعو لتناول العشاء عندنا، إنه قائد فرسان بافلوغراد، إنه عندما ينهي عطلته سيأخذ ابني الشقي معه، ماذا أقدر أن أعمل؟
كان يتكلم بلهجة مازحة، لكنه كان واضح الانشراح للحادث الوشيك.
قال الابن: أكرر عليك القول يا أبي، إنك إذا كنت لا ترغب في ذهابي، بقيت في جانبك، غير أن الحظيرة العسكرية هي وحدها التي تروق لي. إن السياسة والإدارة لا تصلحان لي؛ لأنني لا أستطيع إخفاء عواطفي وشعوري.
لم يكف لحظة - خلال هذا القول - عن النظر إلى الفتيات بتظرف الشباب الجريء، وكانت القطة الصغيرة تلتهمه بنظراتها، تكاد أن ترتمي عليه، وأن تكشف عن طبيعتها المكبوتة.
قال الكونت العجوز: لا بأس، ذلك حسن! ينبغي على كل حال أن يتبع طموحه، إن بونابرت هو الذي يدير رءوسهم جميعا؛ ملازم أول يصبح إمبراطورا! إن هذا هو حلمهم، أليس كذلك؟ ليكن، على مشيئة الله.
أنهى الكونت كلماته دون أن يلاحظ الابتسامة الساخرة التي رفرفت على فم مدام كاراجين.
وتحول موضوع حديث الكبار إلى بونابرت وقضاياه الشائعة، فانتهزت جولي - ابنة مدام كاراجين - هذه الفرصة، والتفتت إلى روستوف الشاب تقول بحنان: كم كان مؤسفا أنك لم تحضر الخميس المنصرم إلى حفلة آل آرخاروف! لقد سئمت جدا بدونك!
جلس نيكولا بجانب جولي التي لم تكن تقل عنه ابتساما، كان حديثها قد أرضى غروره، فجلس إلى جانبها وعلى شفتيه تلك الابتسامة؛ ابتسامة الشباب الماجن، وراح يتحدث معها حديثا خاصا، لم يلحظ خلاله أن تظرفه المبتذل كان وقع الحسام في قلب سونيا التي كانت تتحرق من الغيرة، وتحاول عبثا إخفاء ما بها بإظهار الوداعة والانشراح. وفجأة، رفع أبصاره إلى وجهها؛ وعندئذ صعقته سونيا بنظرة تتصارع العاطفة فيها مع الغضب والغيظ، ثم أمسكت دموعها بجهد بالغ، واستبقت على شفتيها طيف ابتسامة وغادرت البهو، فخبا حماس نيكولا دفعة واحدة. قطع حديثه مع جولي حالما أتيح له ذلك دون أن يخدش شعورها، ومضى وعلى وجهه أمارات القلق، يبحث عن سونيا.
قالت آنا ميخائيلوفنا مشيرة إلى نيكولا الذي كان يغادر القاعة: كما تبدو أسرار الشبيبة مفضوحة ظاهرة! إن قرابة العمومة جوار خطر!
فقالت الكونتيس، عندما خبا الإشعاع الذي تسلل إلى القاعة مع الشبان الذين غادروه: نعم.
ثم أجابت على سؤال لم يكن أحد قد طرحه عليها، بل كانت تشعر بإلحاحه يؤرقها: كم من مزعجات وقلق احتملنا حتى باتوا اليوم يشيعون في نفوسنا بعض البهجة! ثم إن هذه البهجة يفسدها الخوف؛ أي إننا لنقضي حياتنا كلها في العذاب؛ لأنه في مثل هذه السن يتعرض الشبان والفتيات لأشد الأخطار.
قالت الزائرة: إن الأمر متوقف على تربيتهم.
أجابت الكونتيس، وهي تتصور أن أولادها لا يخفون عنها سرا - شأن كثير من الأمهات: لا شك! لقد كنت دائما صديقة أولادي، وهم يثقون بي ثقة عمياء، سأكون أبدا موضع سر فتياتي. أما نيكولا، فإنه بطبيعته الثائرة مرغم على أن يرفه عن نفسه على شكل ما، ككل الشبان ، لكنه لا يمكن أن يتجاوز الحدود كأولئك السادة في بيترسبورج. إنني واثقة من ذلك.
وأيدها الكونت بقوله: نعم، إنهم ذوو طبيعة ممتازة (وكلمة «ممتازة» هذه، كانت تعطي للكونت حلا لكثير من المسائل الشائكة) صدقي، إنه يريد الالتحاق بقطعات الخيالة! ماذا تريدين مني أن أعمل يا عزيزتي؟
قالت مدام كاراجين: يا لها من مخلوقة رائعة؛ ابنتك الصغرى! إنها جياشة كالبارود.
فقال الكونت: نعم كالبارود، إنها تشبهني، ويا لجمال صوتها يا عزيزتي؟ صحيح أنها ابنتي، ولكن الحقيقة هي الحقيقة، ستصبح مغنية حقيقية، سالوموني الثانية، إننا نعطيها دروسا على يد إيطالي. - أليست في سن مبكرة بعد؟! يقال إن دروس الغناء في مثل هذه السن تتلف الصوت.
هتف الكونت: كيف مبكرة؟ ألم تتزوج أمهاتنا في سن الثاني عشر أو الثالث عشر؟!
وقالت الكونتيس، وهي تعلن عن ابتسامة مشرقة لأم بوريس: وها هي ذي ببوريس! افتحي عينيك قليلا!
وعادت إلى شاغلها الرئيسي في الموضوع وأردفت: لو أنني شددت المراقبة عليها وضعتها من ... لكان الله وحده يعرف ماذا يمكن أن تعمل في الخفاء معه (كانت تريد أن تقول أنهما كانا سيتعانقان ويقبلان بعضهما)، أما على هذه الحرية التي أطلقها لها، فإنني أعرف كل مشاريعها وأفكارها، إنها تأتيني كل مساء لتقص علي كل ما يقع لها في بحر النهار، قد أكون مخطئة في تصرفي الذي قد يفسدها، لكنني لا أبالي، إن هذا خير من النتائج الأخرى على ما يبدو لي، لقد راقبت البكر مراقبة شديدة من قبل.
فقالت البكر، الكونتيس فيرا الجميلة، باسمة: نعم، لقد أنشئت على نمط مختلف تماما.
كانت الابتسامة التي من عادتها أن تجمل الوجوه، تضفي على فيرا لونا عكسيا غير طبيعي، منفرا تقريبا. كانت فيرا جميلة ذكية مثقفة وحسنة التربية، وكان لصوتها وقع جميل؛ مع ذلك، فإن ملاحظتها - رغم ملاءمتها وصحتها - ألقت على السامعين وشاحا من الفتور، فنظروا إليها جميعا، ابتداء من الكونتيس ومدام كاراجين، نظرة مستنكرة مستغربة.
قالت مدام كاراجين: إن الأمهات يسعين دوما إلى إنشاء أبكارهن بكل تدقيق وعناية وحرص.
قال الكونت: آه، نعم يا عزيزتي؛ إذ ما فائدة الإنكار؟ لقد تصرفت كونتيستي الصغيرة حيال فيرا بحرص زائد وعناية دقيقة.
ثم تمالك نفسه وأردف، وهو يغمز لابنته بنظرة ودية لطيفة: ثم إن التجربة نجحت نجاحا باهرا.
نهضت الزائرات، ووعدن بالعودة لتناول العشاء.
قالت الكونتيس، بعد أن شيعتهن حتى الباب: يا لها من أساليب وتصرفات سخيفة! هل يسمح للمرء البقاء كل هذا الوقت؟! لو لبثن وقتا آخر لنبتت لهن جذور هنا!
الفصل الثالث عشر
غرام الصغار
لم تذهب ناتاشا بفرارها الأهوج بعيدا، اختبأت في بيت النباتات تنتظر بوريس، وراحت تصيخ السمع إلى الضجيج الذي كان يتعالى من البهو. أدركها الملل، فراحت تريح ساقا وتعتمد على الأخرى، وقد نفد صبرها، وكادت أن تبكي. وفجأة، تناهى إلى سمعها صوت خطوات متزنة، لا بطيئة ولا سريعة، عرفت ناتاشا منها أن فتاها يقترب من مكانها، فاختبأت وراء أصص الزهور.
وقف بوريس في منتصف الحديقة الشتوية، وراح يتفحص أركانها بأبصاره، وينفض الغبار عن كمه بطرف سبابته، ثم اقترب من المرآة الكبيرة، وراح يتأمل طلعته البهية فيها. لبث برهة أمام المرآة، ثم ابتسم ومضى إلى الباب الآخر. كادت ناتاشا أن تناديه، لكنها فكرت في نفسها برهة، وقالت في سرها: «كلا، ليبحث عني!» ولم يكد بوريس يغادر بيت النباتات حتى دخلت سونيا فجأة، مضرجة الوجه، تتمتم خلال دموعها وتلعن. همت ناتاشا للوهلة الأولى أن تلقي بنفسها على عنق ابنة عمها، لكنها تمالكت أعصابها من جديد، وراحت من مخبئها تراقب سير الحوادث بسكون المتآمرين. شعرت بسرور لم تعهد مثله من قبل، وهي تتأمل تتابع الأحداث دون أن يراها أحد. رأت أن سونيا - التي لم تكف عن اللعن والبكاء - ترقب بلهفة باب البهو، الذي لم يلبث نيكولا أن بدا على عتبته.
جرى نحوها وهو يقول: سونيا! ماذا بك؟ هل يجوز لك أن ...
فأجابته، وهي تنشج بالبكاء: ليس بي شيء، دعني. ليس بي شيء، دعني. - بلى، إنني أعرف ما بك. - أتعرفه؟! حسنا، هذا أفضل! امض إلى صديقتك الأخرى!
أمسك نيكولا بيدها، فلم تمانع سونيا، وكفت عن البكاء، فقال: سونيا! كلمة واحدة فقط. إنك تتخيلين أشياء سخيفة، هل يجوز لنا أن نتعذب من أجل هذه التفاهة؟!
لبثت ناتاشا جامدة في زاويتها، ملتمعة العينين، مبهورة الأنفاس، تراقب ذلك المشهد بلهفة وتلذذ.
راحت تتساءل: ترى، ماذا سيحدث؟!
استطرد نيكولا يقول: سونيا، ماذا يهمنا؟ العالم؟! ألست كل شيء بالنسبة لي؟! سوف أثبت لك ذلك. - إنني لا أحب أن تتحدث هكذا. - صفحا وعذرا، لن أعود إلى مثله.
ثم جذبها إلى صدره وقبلها.
فقالت ناتاشا في مخبئها تحدث نفسها: «آه! كم هذا لذيذ!» فلما غادرت سونيا غرفة النباتات بصحبة نيكولا، غادرت مكانها تبحث عن بوريس.
قالت له بلهجة فيها طابع الجد والمكر: بوريس، تعال، لدي ما أقوله لك. تعال من هنا، من هنا.
وعادت معه إلى الحديقة الشتوية، وجذبته إلى حيث كانت مختبئة وراء أصص الزهور، فتبعها بوريس باسما، قال: حسنا، ماذا هناك؟
كانت شديدة الانفعال، متحفزة العواطف، فراحت تفحص ما حولها بعينيها، ولما وقع بصرها على دميتها التي كانت ملقاة على أحد الصناديق، التقطتها وقالت له: قبل ميمي.
لم يجب بوريس، لكنه كان يدقق في وجهها المتيقظ بنظرة ودية. قالت وهي تلقي بدميتها بعيدا: ألا تريد؟ إذن، تعال من هنا.
وتغلغلت بين النباتات، وهمست: اقترب، ازدد قربا!
أطبقت بيديها الاثنتين على أشرطة ثوبه، وراح وجهها المحموم يزداد خطورة وقلقا.
تمتمت وهي تكاد أن تبكي من الانفعال: وأنا! ألا تريد أن تقبلني؟
وأشفعت قولها بغمزة مغرية.
فاحمر وجه بوريس وقال: كم أنت مضحكة!
انحنى على ناتاشا، فازداد وجهه احمرارا، لكنه لم يجرؤ على تقبيلها.
وفجأة، قفزت فوق أحد الصناديق، وبذلك استطاعت أن تنوف عليه؛ وعندئذ، ألقت بذراعيها العاريتين حول عنقه أسفل رأسه، وأرسلت شعرها إلى الوراء بحركة عنيفة من رأسها، ثم أكبت بوجهها عليه، وقبلته في شفتيه.
ونفرت إثر ذلك بين أصص الزهور، وانتظرت عند الطرف الآخر من الغرفة، مطرقة الرأس.
قال بوريس: ناتاشا، إنك تعرفين أنني أحبك ولكن ...
فقاطعته قائلة: هل تهواني؟ - نعم، إنني أحبك، لكنني أرجوك ألا نعود إلى مثل ذلك. لننتظر أربع سنين أخرى، وعندئذ سأطلب يدك.
فكرت ناتاشا برهة، وقالت وهي تعد على أصابعها: ثلاثة عشر، أربعة عشر، خمسة عشر، ستة ... ليكن! اتفقنا!
كان السرور يشرق على وجهها الذي عاد إلى بهائه وصفائه.
قال بوريس: لقد اتفقنا.
فقالت الفتاة: إلى الأبد! حتى الموت!
وأمسكت بذراعه وهي شديدة الاغتباط والبهجة، وراحت ترافقه في طريقها إلى مخدعها.
الفصل الرابع عشر
الصديقتان
أعيت تلك الزيارات المملة الكونتيس روستوف، فأمرت الحاجب بألا يدخل عليها أحدا، على أن يدعو كل الزوار الذين سيتقدمون بتهانيهم - دون تفضيل - إلى تناول العشاء على مائدتهم ذلك المساء. كانت تتلهف للبقاء وحيدة مع صديقة طفولتها، الأميرة دروبتسكوي، التي لم تكن قد تحدثت إليها بحرية منذ أن عادت من بيترسبورج، ولبثت آنا ميخائيلوفنا تحتفظ بعذوبة تقاطيعها، التي لم تخل من طابع اليأس والشكوى، وقربت مقعدها من زميلتها. قالت: سوف أتحدث إليك بكل إخلاص، إننا لا زلنا صديقتين حميمتين كما كنا من قبل، أليس كذلك؟ إنني أقدر صداقتك حق التقدير من أجل ذلك.
واسترقت نظرة إلى حيث كانت فيرا وتوقفت، فضغطت الكونتيس على يد صديقتها، وقالت تحدث ابنتها الكبرى التي لم تكن - ولا شك - شديدة العطف عليها: فيرا، ألا تستطيعين الفهم؟! ألا تشعرين بأن وجودك بات فائضا؟! اذهبي إلى حيث شقيقاتك أو ...
لم تستعذب فيرا الملاحظة، لكنها مع ذلك لم تعترض إلا بابتسامة فيها لامبالاة وترفع، قالت وهي تنهض: لو نوهت لي بذلك من قبل، لكنت الآن بعيدة عن هنا يا أماه.
وبينما كانت تجتاز غرفة الجلوس قاصدة غرفتها، توقفت عندما رأت أمام كل نافذة اثنين يتناجيان، فابتسمت بمرارة. كان نيكولا جالسا إلى جانب سونيا، يقرأ عليها باكورة نظمه الذي استلهمه منها وينسخه. أما بوريس وناتاشا فكانا يتجاذبان أطراف الحديث. صمتوا جميعا عند ظهور فيرا، وراحت الفتاتان العاشقتان تنظران إليها بضيق وتبرم، دون أن تذهب البشاشة عن وجهيهما، وبدا ذلك المشهد المؤثر المضحك متنافيا مع ذوق فيرا التي قالت موبخة: كم مرة رجوتكما ألا تمسا أشيائي ! إن لكما غرفتكما الخاصة.
فأجاب نيكولا متوسلا، وهو يغمس الريشة في الدواة التي حاولت رفعها من أمامه: لحظة واحدة فقط.
قالت فيرا: لا شك أن الذوق يعوزكم! إن دخولكم إلى البهو مثلا لم يخجلكم، لقد شعر الجميع بالخجل لتصرفكم.
كانت الملاحظة محقة. رغم ذلك - أو لعله بسبب ذلك - لم يجب الأربعة إلا بتبادل النظرات.
أردفت فيرا: ثم في مثل سنكم! أية أسرار يمكن أن تكون بينكما، أو بين ناتاشا وبوريس؟ إن هذه إلا سخافات وترهات!
تدخلت ناتاشا في الموضوع، وسألتها بلطف وهي مستعدة لمقابلتها باللطف واللين: ماذا يعنيك كل هذا يا فيرا؟ - إن كل هذا سخيف، وإنني لأخجل منكم، ما معنى هذه الأسرار؟
أجابت ناتاشا في شيء من الانفعال: لكل أسراره، إننا لا نتدخل في شئونك مع بيرج وما تفعلينه معه!
أجابت فيرا: لا ينبغي إلا هذا! وكأن في سلوكي ما يؤخذ عليه! انتظري قليلا، سوف أقول ل «ماما» كيف تتصرفين مع بوريس.
قال بوريس: إن ناتالي إيلينيتشا تتصرف تصرفا ممتازا معي، إنني لا أستاء من تصرفها.
هتفت ناتاشا بصوت متهدج من الانفعال: اصمت أنت يا بوريس، إنك شديد «الدبلوماسية»، وقد بدأ هذا يزعجني!
وكانت كلمة «الدبلوماسية» شائعة، ومن أحدث طراز بين الأولاد الذين كانوا يعطونها معنى خاصا.
أردفت تهاجم فيرا بشدة قائلة: ماذا تريد مني هذه؟ إنك لا تفقهين شيئا، إنك لم تحبي أحدا قط، إنك محرومة من القلب، إنك لست إلا مدام دوجانليس
1 - وهذا كان اللقب الذي اصطلح نيكولا على إطلاقه على أخته لتجريحها - إن غاية سرورك هي تسبيب الإزعاجات والإساءات للآخرين. هيا اذهبي إلى بيرج، وتظرفي ما شئت معه. - إنني، على كل حال، لا أجري راكضة وراء شاب أمام المدعوين.
قال نيكولا: ها قد بلغت غايتك من الكلام، إنك أسففت بحقنا جميعا، ولقد أفسدت مرحنا. هيا بنا إلى غرفة الأطفال.
ونفر الأربعة وكأنهم رف طير مذعور، فلاحقتهم فيرا بقولها: بل إنكم أنتم الذين وجهتم إلي إسفافا وحماقات، إنني لم أخاطب أحدا بمثلها.
وتعالت من وراء باب الحجرة المغلق أصوات هازئة تقول: مدام دوجانليس! مدام دوجانليس!
غير أن فيرا الجميلة لم تبال بذلك، لقد أرضاها أنها أحفظتهم وأحنقتهم، فابتسمت وتوقفت أمام المرآة تصلح من غطاء رأسها (إيشارب) وزينتها. ولما انعكس بهاء وجهها على صفحة المرآة، ازداد إشراق وجهها، وتزايدت برودتها.
خلال ذلك، كانت الصديقتان تتناجيان في البهو. كانت الكونتيس تقول جوابا على حديث الأميرة: آه يا عزيزتي! إن في حياتي أيضا كثيرا من الأشواك، إننا إذا لبثنا على ما نحن عليه من إنفاق، فلن تلبث ثروتنا حتى تنضب بعد قليل، والخطأ في هذا خطأ النادي وطيبة قلبه. إننا لا نعرف الراحة والهدوء حتى في الريف؛ حفلات وصيد وقنص، والله يعرف ماذا أيضا! ولكن ما فائدة التحدث عني؟ أنبئيني كيف تتدبرين شأنك؟ أتدرين يا آنيت أنني أعجب بك غالبا؟ امرأة وحيدة وفي مثل سنك، تجري من مكان إلى آخر، من موسكو إلى بيترسبورج، فتحدث الوزراء وكل أفراد الطبقة الراقية، وتجد دائما اللهجة المناسبة للحديث. حقا إنني معجبة بك. إنني لأرتبك أشد الارتباك لو وجب علي فعل ذلك.
أجابت الأميرة: آه يا عزيزتي! اشكري الله على أنه أراد لك أن تبقي جاهلة، ألم الترمل وبؤسه، وشقاء الوحدة وفقد السند، وعلى ذراعيك ابن تحبينه لدرجة العبادة. إن التعاسة مدرسة ممتازة.
وأردفت في شيء من الفخار: إن دعواي قد هذبتني وعلمتني. إنني عندما أضطر إلى مخاطبة شخصية رفيعة، أرسل إليه كلمة على بطاقة: «إن الأميرة فلانة، ترغب في رؤية سيدي فلان أو فلان.» ثم أستقل عربة، وأذهب إلى حيث أراه، وأعيد الكرة مثنى وثلاث، حتى أظفر بما أريد. إن ما يقوله الناس وما يتخرصون به عني لا يهمني في شيء. - ومن التمست من أجل بوريس؟ ها هو ذا ضابط في الحرس، بينما صغيري نيكولا قد انخرط صف ضابط فقط في فيلق الخيالة. إن ابني لا يجد من يدعمه ويزكيه. مع من تحدثت بشأن ابنك؟
قالت آنا ميخائيلوفنا بلهجة متباهية: مع الأمير بازيل، يا له من رجل ظريف! لقد قبل طلبي من فوره ، وتحدث إلى الإمبراطور.
نسيت الأميرة، وهي تتحدث عن انتصارها، مبلغ الضراعة والتوسل والإهانة التي لحقت بها، والتي يرجع إليها الفضل في نجاحها.
سألت الكونتيس: الأمير بازيل؟ ألم يهرم بعد؟ إنني لم أره منذ أن كنا نتقابل في حفلاتنا لدى آل روميانتسيف، قد يكون نسيني.
وأردفت بابتسامة من يحيي ذكرياته العذبة: لقد كان يغازلني!
أجابت آنا ميخائيلوفنا: إنه لا زال كعهدك به؛ لطيفا، صدوقا. إن العظمة والمراكز الجليلة لم تفعل فعلها في نفسه. لقد قال لي: «إنني آسف إذا كنت لا أستطيع من أجلك شيئا كثيرا، ولكن مريني يا أميرتي العزيزة، أمتثل.» نعم، إنه رجل ودود وقريب ممتاز. إنك تعرفين يا ناتالي حبي لولدي، وتعرفين أنني لا أتراجع عن شيء في سبيله.
وصمتت برهة، ثم أضافت بلهجة حزينة كئيبة وبصوت منخفض: ولكن للأسف، أراني في وضعية مريعة سيئة، إن دعواي لا زالت حيث هي، لم تتقدم، وهي تستنفد كل ثروتي، وإنني الآن لا أملك شروى نقير لأدفع لابني بوريس تجهيزاته.
وأخرجت منديلها لتجفف دموعها واستطردت: إنني في حاجة إلى خمسمائة روبل لهذه الغاية، بينما لا أملك إلا خمسة وعشرين روبلا، تلك هي وضعيتي. إن أملي الوحيد هو عند الكونت سيريل بيزوخوف، فإذا ما شاء أن يساعد ابنه في المعمودية - إنه شبين بوريس إذا كنت لا تعلمين - وإجراء مرتب معين له، فإن كل جهودي تكون قد ذهبت هباء؛ لأنني لن أستطيع تجهيزه.
راحت الكونتيس بدورها تشاطرها البكاء، لم تتلفظ بكلمة، ولكنها كانت تفكر.
تابعت آنا ميخائيلوفنا تقول: إنني أحدث نفسي غالبا، ولعله حديث سيئ، فأقول: إن الكونت سيريل يعيش وحيدا في زاويته، وهو جم الثراء واسع الغنى. فلم يعيش إذن؟! إن الحياة ليست إلا عبئا بالنسبة إليه، أما في سن بوريس ...
قالت الكونتيس: سوف يترك له - ولا شك - شيئا. - علم ذلك عند الله يا صديقتي الحميمة! إن الرجال الأغنياء والسادة العظام أنانيون بفطرتهم. على كل حال، سأذهب مع بوريس لأراه وأتحدث إليه بصراحة. ليتحدثوا عن تصرفي بما يشاءون، لست مبالية؛ لأن مستقبل ولدي يتوقف على ذلك.
ونهضت واقفة، وتابعت: إن الساعة الآن الثانية، وحفلتك تبدأ في الرابعة؛ وإذن، فإن لدي ما يكفي من الوقت.
واستدعت ابنها على الفور، شأن السيدة التي عادت لتوها من العاصمة وهي عارفة بقيمة الوقت، وانصرفت تشيعها الكونتيس حتى الردهة.
وهمست في أذن الكونتيس محاذرة أن يسمع ابنها: وداعا يا صديقتي الطيبة، تمني لي حظا سعيدا.
وظهر الكونت في تلك اللحظة، فقال وهو على باب غرفة الطعام: أتذهبين لزيارة الكونت سيريل يا عزيزتي؟ إذا كانت صحته أحسن، أرجو أن تدعي السيد بيير باسمي. لقد جاء قبل هذه المرة إلى دارنا، ورقص مع الأولاد. لا تنسي دعوته يا عزيزتي، لقد وعد «تاراس» أن يتجاوز حدود ما عرفناه عن براعته حتى الآن. سوف نرى، إنه يزعم أنه سيقدم لنا الليلة عشاء يفوق ما كان يمكن أن يقدمه الكونت أورلوف بالذات، وأنت تعرفين حفلات الكونت أورلوف، صديق كاتيرين المفضل الذي ينهي الآن أيامه في أملاكه الشاسعة الغنية في «سان سوسي» قرب موسكو.
الفصل الخامس عشر
آنا ميخائيلوفنا
درجت عربة الكونتيس روستوف - التي استقلتها الأميرة دروبتسكوي وابنها - في طريق نثر عليه التبن، قبل أن تدخل إلى حديقة فندق بيزوخوف الذي كان الكونت يقيم فيه.
قالت الأميرة، وهي تسحب يدها من ثنية كمها وتضعها على يد ابنها بحركة لطيفة مفعمة بالحنان: يا عزيزي بوريس، كن رفيقا يا ولدي وامتثل للواقع، إن الكونت سيريل شبينك يا عزيزي، ومستقبلك كله يتوقف عليه، تذكر ذلك يا ولدي، وكن رفيقا كما تحسن أن تكون.
فأجابها بوريس بلهجة باردة: ليت هذا الخنوع يعود بشيء من الفائدة! لكنني مع ذلك أعدك أنني أمتثل نزولا عند رغبتك فقط.
وعلى الرغم من أن خادم الباب رآهما يهبطان من عربة تدل على أن أصحابها من السادة المبجلين، فإنه راح يحدق بقحة في وجه الأم وابنها، اللذين دخلا مباشرة إلى الشرفة دون أن يبلغا عن قدومهما، ووقفا بين ذينك الصفين من التماثيل الجميلة البديعة التي تحف بها، وبعد أن نظر إلى ثوب السيدة بإشفاق، سألها عما تريد، وهل ترغب في رؤية الأميرات أو الكونت، فلما عرف أنها تريد مقابلة الكونت، أبلغها أن سعادته سيئ الصحة لا يستقبل أحدا.
فقال الابن وهو يقطب حاجبيه: حسنا، هيا بنا إذن!
فضرعت إليه الأم تقول: يا صديقي!
وأشفعت قولها بلمس ذراعيه، ولعلها بتلك اللمسة كانت تستوحي الهدوء، أو شحذ القوى.
صمت بوريس، وراح يستفسر أمه بنظره دون أن يخلع معطفه، فقالت هذه تخاطب خادم الباب بلهجة لبقة: يا صديقي الطيب، إنني أعرف أن الكونت سيريل فلاديميروفيتش مريض جدا، ومن أجل هذا جئت. إنني لن أزعجه، يا صديقي. أود فقط أن أرى الأمير بازيل سيرجيئفيتش، وأعرف أنه هنا، فتفضل بإبلاغ وصولنا إليه.
فجذب خادم الباب حبل الجرس بشراسة، واستدار يقول لخادم آخر ظهر على الباب، يرتدي سراويل قصيرة وأخفافا: إن الأميرة دروبتسكوي ترغب في مقابلة الأمير بازيل سيرجيئفيتش.
كان الخادم الثاني يطل من فوق الحاجز استجابة لنداء الجرس، فلما أنهى إليه خادم الباب الأمر، عاد إلى الداخل، أما الأميرة فإنها راحت تسوي ثوبها وترتبه، وهي واقفة أمام إحدى مرايا البندقية الشهيرة، كانت معلقة على الجدار، ثم راحت ترتقي السلم - المغطى بقطع السجاد النفيسة - ببسالة رغم حذاءيها الباليين.
قالت لابنها، وهي تضغط من جديد على يده: لقد وعدتني يا عزيزي، فلا تنس.
فتبعها الابن بهدوء مطرق الرأس.
دخلا إلى بهو يؤدي إلى جناح الأمير بازيل، فلما وصلا إلى منتصف القاعة، هما بالسؤال من خادم عجوز بادر لاستقبالهما، غير أن أكرة أحد الأبواب أديرت، وظهر على عتبة الباب الأمير بازيل بثياب المنزل، لا يزين صدره إلا وسام واحد، معلق على سترته المخملية القصيرة. كان يودع رجلا أسمر جميل الطلعة، هو الطبيب لوران الشهير الذي استقدم من بيترسبورج.
سأله الأمير: أهو إيجابي؟
فأجاب الطبيب، وهو يلفظ الكلمات اللاتينية على الطريقة الفرنسية: يا سيدي الأمير، إن الحال خطير ولكن ... - حسنا، حسنا.
ولما وقعت أبصاره على آنا ميخائيلوفنا وابنها، استأذن من الطبيب، وتقدم منهما بوجه طافح بأمارات الاستفهام، وفجأة امتلأت نظرة الأميرة بكآبة الحزن العميق، فلم يخف ذلك التحول المفاجئ على بوريس، الذي وجد صعوبة كبرى في إخفاء ابتسامته.
قالت الأميرة دون أن تبالي بالنظرة الباردة الجارحة التي كان الأمير بازيل يصعقها بها: أية مناسبات سيئة شاءت أن تجمعنا من جديد! يا أميري، كيف حال مريضنا العزيز؟
انتقلت تلك النظرة الفاحصة إلى بوريس، الذي انحنى بأدب، غير أن الأمير لم يلق بالا إلى تحيته، واستدار إلى آنا ميخائيلوفنا، فأجاب على سؤالها بغمغمة وهزة رأس لا تبشران بخير عن صحة المريض.
هتفت الأميرة: يا ألله! إن هذا مريع، إنه مخيف.
ثم استتلت وهي تشير إلى بوريس: أقدم إليك ولدي بوريس، لقد ألح في أن يحضر بنفسه لشكرك.
فعاد بوريس إلى الانحناء من جديد بتأدب واحترام.
استطردت الأميرة تقول: ثق تماما يا أميري من أن قلبي كأم لن ينسى لك أبدا ما فعلته من أجلنا.
وأخيرا نطق الأمير فقال، وهو يصلح من وضع ياقة سترته: إنني سعيد يا آنا ميخائيلوفنا الطيبة؛ لأنني استطعت أن أحسن إليك.
قدر أن عليه - هنا في موسكو - أن يعامل محميته بشيء من الترفع؛ لأنه وحيد معها، وقدر أيضا أن تكون وسائله الآن أكثر شدة وجلاء مما كانت عليه في بيترسبورج عندما كان في حفلة آنيت شيرر، فقال لبوريس بلهجة صارمة: كن ضابطا ممتازا، ينبغي أن تكون جديرا ب... إنني سعيد جدا من ناحيتي. هل أنت في عطلة هنا؟
حشا الأمير بازيل جملته الأخيرة بأقصى ما في طاقته من مظاهر العظمة، فأجابه بوريس دون أن يبدي ترددا إزاء لهجة الأمير المرتفعة المهينة أو الرغبة في متابعة الحديث: إنني يا صاحب السعادة أنتظر الأمر لألتحق بمركزي الجديد.
كانت لهجته متزنة مهذبة، حتى إن الأمير راح ينظر إليه باهتمام ملحوظ. - هل تقطن عند أمك؟
فأجاب بوريس، دون أن ينسى إضافة كلمة «صاحب السعادة»: إنني أقطن عند الكونتيس روستوف.
فتدخلت آنا ميخائيلوفنا قائلة: أتذكر أنه إيليا روستوف الذي تزوج ناثالي شينشين.
فقال الأمير بصوته وحيد النغمة: أعرف، أعرف، إنني ما استطعت أبدا أن أفهم كيف أن ناثالي وافقت على الزواج بهذا الدب القذر! إنه شخص سخيف ومضحك تماما، ومقامر على ما يقال.
فأعقبت آنا ميخائيلوفنا بلهجة وابتسامة دمثتين، وكأنها توافق على حكمه على الرجل، ولكنها تلتمس منه الصفح والعفو عن عجوز مسكين: لكنه رجل باسل جدا يا أميري.
وعادت تسأل بعد لحظة صمت ساعدتها على أن تطبع وجهها بطابع ذعر عميق: ما رأي كلية الطب؟ وتقصد الطبيب.
فقال الأمير: هناك أمل ضئيل. - وأنا التي كنت مزمعة على شكر «عمي» على كل ما أحاطني وأحاط بوريس به من عطف وحسن التفات.
وأضافت بعد حين، وكأن الخبر سيسر الأمير بازيل معرفته: إن بوريس ابنه في المعمودية!
فقطب الأمير حاجبيه، وراح يفكر ولا شك في أنه سيرى في هذين الدخيلين دعيين آخرين في ميراث الكونت بيزوخوف، وأدركت آنا ميخائيلوفنا ما يجول في خاطره، فبادرت تطمئنه بقولها: إنني إذا كنت هنا، فما ذلك إلا لمحبتي ل «عمي» وإخلاصي له (وعادت تضغط على كلمة عمي بتأكيد لبق) إنني أعرف عقليته النبيلة الصريحة، غير أنني أعرف أن الأميرات وحدهن بجانبه، وهن شابات صغيرات في السن.
واقتربت منه لتهمس في أذنه بصوت خافت: هل قام بآخر واجباته يا أميري؟ كم هي ثمينة هذه اللحظات الأخيرة! فإذا كانت صحته منحدرة إلى هذا الدرك السيئ، فيجب حتما إعداده، ولا شيء أخطر من هذا.
وأعقبت تقول بعد فترة صمت، وهي تشفع قولها بابتسامة عذبة: إنك تدرك يا أميري أننا، معشر النساء، نعرف كيف نتصرف في ظروف عصيبة كهذه. يجب أن أراه، إنه واجب مؤلم لكنني تعودت الألم.
وفهم الأمير - كما حدث من قبل في حفلة آنيت شيرر - أن من العسير التخلص من آنا ميخائيلوفنا، فقال: إن مقابلتك له، يا آنا ميخائيلوفنا العزيزة، قد تثقل عليه. لننتظر حتى المساء، لقد أكد الأطباء أنه ينتظر نوبة ... - أن ننتظر يا أميري؟ لكن مستحيل! فكر، إن هذا الأمر متعلق بخلاص روحه. آه كم هي مؤلمة واجبات المسيحي!
فتح باب الجناح الخاص، وخرجت منه واحدة من الأميرات، وهي ابنة أخت الكونت، ذات وجه بارد جامد عابس، تعطي ساقاها القصيرتان اللتان تحملان قامتها الطويلة لونا من الغرابة والشذوذ للناظر المتفحص. التفت الأمير بازيل إليها، وقال: حسنا، كيف حاله؟
فقالت ابنة الأخت، وهي تتفرس في وجه آنا ميخائيلوفنا، وكأنها تنظر إلى سيدة مجهولة: لا زال كما هو، إن هذا الضجيج، كما تعلم ...
ورمقت الزائرة بنظرها ولم تعقب.
اقتربت هذه منها منبسطة الأسارير خفيفة الخطى، وقالت بتودد: آه، عزيزتي! لم أكن أعرفك، لقد وصلت للتو، وإنني في خدمتك لمساعدتك في العناية ب «عمي».
ثم رفعت عينيها إلى السماء بإشفاق وأردفت: إنني أتخيل مدى ألمك.
لم تتعطف الأميرة بالجواب ولا بمجرد الابتسام، وانسحبت لفورها، فنزعت آنا ميخائيلوفنا قفازيها، وراحت تجلس على مقعد وثير وكأنها في «أرض محتلة»، ودعت الأمير بازيل إلى الجلوس بقربها، ثم قالت تخاطب بوريس وهي تبسم: سأرى الكونت عمي يا بوريس، فامض إلى لقاء بيير خلال هذا الوقت يا صديقي، ولا تنس أن تبلغه الدعوة التي وجهها إليه آل روستوف.
ثم أردفت تحادث الأمير: إن آل روستوف يدعونه لتناول العشاء لديهم، أعتقد أنه لن يذهب، أليس كذلك؟
فأجاب هذا بلهجة حادة منفعلة: لم لا يذهب؟ سأكون سعيدا إذا خلصتني من هذا الفتى. إنه لا يتحرك من هنا رغم أن الكونت لم يطلبه حتى الآن مرة واحدة، ولم يسأل عنه، أو يعرب عن رغبته في رؤيته.
وهز كتفيه، وجاء خادم يقود بوريس من باب آخر يؤدي إلى سلم جديد؛ ليقوده إلى حيث كان بيير كميرييوفيتش.
الفصل السادس عشر
بيير وبوريس
كان تصرف بيير ونوع الحياة التي اندمج فيها في بيترسبورج قد منعاه حتما عن انتقاء السبيل الذي يرتضيه للبلوغ إلى مستقبله المنشود؛ فقد كانت القصة، التي رووها لدى آل روستوف عن تصرفه، حقيقة لا زيف فيها. كان الشاب قد عاد من بيترسبورج، بعد أن أبعد من هناك لاشتراكه في شد وثاق ضابط القسم إلى ظهر الدب، وقبع في منزل أبيه. كان واثقا من أن القصة ستثار في موسكو ، فتعطي للأوساط النسائية ، التي كان على أسوأ العلاقات معها، مادة غنية للحديث، تساعد على النيل منه وإفساد علاقته مع أبيه. مع ذلك، فإنه لم يتردد عن المثول من فوره في حضرة أبيه، فوجد الأوانس الثلاثة في البهو، وهو مركز اجتماعهن المفضل. كانت كبرى الأميرات - وهي التي شهدناها منذ حين تتقابل مع آنا ميخائيلوفنا فتعاملها تلك المعاملة المهينة - فتاة صارمة، طويلة القامة، تعنى عناية خاصة بملابسها، وكان دأبها القراءة بصوت مرتفع.
أما الأميرتان الأصغر سنا، فكانتا تشتغلان في أعمال الإبرة على مناسج صغيرة. كانتا وديعتين لطيفتين، تشبه إحداهما الأخرى، حتى إن كثيرا من الناس كانوا يخلطون بينهما، لولا «حسنة» كانت على وجنة إحداهما. حياهن بيير تحية مهذبة رقيقة، لكنهن استقبلنه وكأنه شبح أو مصاب بالطاعون. توقفت الكبرى عن القراءة، وحملقت بعينيها في وجهه بذعر دون أن تتلفظ بكلمة، واتخذت الثانية موقف أختها الكبرى، فنقلت التعابير التي كانت مرتسمة على وجهها بكل أمانة، وأبرزتها على وجهها. أما الثالثة، تلك التي كانت «الحسنة» التي على وجهها تميزها عن أختها، فقد انحنت على منسجها لتخفي ابتسامتها، وقد تأكد لها أنها ستشهد موقفا ممتعا يتفق مع مزاجها المرح. سحبت خيطها الصوفي، وراحت تتظاهر بالاهتمام بنقوشها وترتيبها، وهي تجهد في كبت القهقهة التي تكاد تفلت من حنجرتها.
قال بيير: عمي صباحا يابنة العم، ألا تعرفينني؟ - بل إنني أعرفك أكثر مما تظن، نعم أكثر ...
سأل بيير، دون أن يرتبك رغم أسلوبه الخائب الفاشل الطبيعي: كيف حال الكونت؟ هل أستطيع أن أراه؟ - إن الكونت يتألم جسديا وعقليا، وإنني أرى أنك عملت كل ما ينبغي لمضاعفة آلامه المعنوية وزيادتها خطورة.
كرر بيير سؤاله: هل أستطيع أن أرى الكونت؟ - إحم! إذا أردت أن تقتله أو أن تعجل بنهايته، فإنك - ولا شك - تستطيع أن تراه.
ثم أردفت تخاطب أختها لتنوه لبيير بأنهن كن يعملن للتخفيف من الآلام التي كان هو يثيرها، وكأنه يتلذذ بزيادة حدتها: أولجا، انظري إذا كانوا قد هيئوا شراب عمنا.
فخرجت أولجا، ولبث بيير ينتظر برهة، ثم انحنى للشقيقتين وهو ينظر إليهما، وقال: سأمكث في غرفتي، ولكما أن تبلغاني عندما يتيسر لي أن أراه.
وانسحب من البهو تشيعه ضحكة ذات «الحسنة» المجلجلة التي كانت - رغم قوتها - تعتبر مكتومة مراعاة للظرف الدقيق المحيط بصاحبتها، تلك الشيطانة التي لا تعرف غير المرح.
وفي اليوم التالي وصل الأمير بازيل، وأقام لدى الكونت، فاستقدم بيير وقال له: يا عزيزي بيير، إذا تصرفت هنا تصرفك في بيترسبورج، فإن نهايتك ستكون سيئة، هذا كل ما أقوله لك. إن الكونت مريض، بل مريض جدا، فلا تحاول أن تراه أو أن تتصل به.
ومنذ تلك اللحظة، لم يعد أحد يهتم ببيير الذي لازم جناحه في الدور الثاني من الفندق.
ولما دخل بوريس عليه، كان بيير يذرع غرفته بعصبية وانفعال، فيتوقف حينا في إحدى الزوايا، ويحدق من فوق نظارتيه في الجدار، أو يقاتل بذراعه عدوا غير منظور، وكأنه يشطره بسيف إلى شطرين، ثم يعود إلى مشيته التي تتخللها حركات عنيفة من الذراعين، وهزات من الكتفين، وكلمات متفككة لا ارتباط بينها.
كان يقول مشيرا بإصبعه إلى لا شيء، وكأنه يهدد عالما خفيا، وهو مقطب الحاجبين: لقد عاشت بريطانيا، ولقد حكم على بيت
1
بوصفه خائنا للأمة ولحقوق الأشخاص ب...
كان يتخيل نفسه في تلك اللحظة نابليونا حقيقيا، «نابليون» بالذات، سيد لندن، بعد اجتياز البادوكاليه إلى بريطانيا في تلك المحاولة الخطيرة، والحكم على بيت بعقوبة لم يجد وقتا لتحديدها؛ لأنه توقف عندما رأى ضابطا شابا، مهيب الطلعة، يدخل إلى غرفته فجأة. لم يعرف بوريس للوهلة الأولى؛ لأنه تركه غلاما في الرابعة عشرة من عمره، فنسيه تماما. مع ذلك، فقد استقبله مصافحا ببشاشة، وهو يبسم له ابتسامة ودية، مدفوعا بطيبة نفسه البديهية، التي تجعله ينظر إلى كل الناس من زاوية بريئة مرحة.
قال بوريس بلهجته المتزنة، وهو يقابل ابتسامته بمثلها: هل تذكرني؟ لقد جئنا - أمي وأنا - لنقدم تمنياتنا للكونت، لكن صحته ليست على ما يرام كما يقولون.
فأجاب بيير، وهو يتساءل عبثا أين ومتى رأى هذا الشاب من قبل: نعم، إن صحته - كما يبدو - ليست على ما يرام، إنهم يزعجونه غالبا.
أدرك بوريس أن بيير لم يعرفه، مع ذلك فقد ظل ينظر في عينيه دون ارتباك، ودون أن يقدم نفسه إليه، قال - بعد فترة صمت طويلة أزعجت بيير: إن الكونت روستوف يرجوك أن تتناول طعام العشاء عنده بعد قليل.
فهتف بيير مسرورا: آه، الكونت روستوف! إنك إذن إيلي، ابنه! تصور أنني لم أعرفك للوهلة الأولى، هل تذكر نزهاتنا على جبل العصافير مع مدام جاكو؟ إن ذلك ليس قديم العهد.
فأجابه بوريس بهدوء، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مواسية لا تخلو من طابع السخرية: إنك تخطئ، إنني بوريس بن بوريس ابن الأميرة آنا ميخائيلوفنا دروبتسكوي، أما روستوف الشاب فاسمه نيكولا، وأما إيلي فهو أبوه، وأنا لم أعرف مدام جاكو من قبل ...
انتفض بيير وراح يلوح بيديه باضطراب، وكأنه يطرد ثول نحل أو ذباب تجمع حوله، وأرتج عليه لحظة، ثم قال: آه، ويحي! إنني أخلط بين الأشياء! إن لي عددا كبيرا من الأقارب والمعارف في موسكو! إنك إذن بوريس. حسنا، لقد اتفقنا. حدثني عن رأيك في غزوة بولونيا، إن الإنجليز لن يصمدوا طويلا إذا تخطى نابليون بحر المانش، أليس كذلك؟ إنني أعتقد أن المسألة ممكنة التنفيذ شريطة ألا يرتكب فيلنوف
2
حماقات وأخطاء.
كان بوريس لا يقرأ الصحف؛ لذلك فقد كان لا يعرف شيئا عن غزوة بولونيا، ويجهل حتى مؤدى اسم فيلنوف. قال بلهجته الهازئة الهادئة: إن الحفلات والولائم تشغلنا هنا أكثر مما تشغلنا السياسة؛ لذلك فإنني لا أستطيع أن أكون رأيا بصدد قضية أجهلها. إن موسكو مدينة المهذارين قبل كل شيء، إنهم لا يتحدثون الآن إلا عن الكونت وعنك. إن النميمة طبع متأصل في النفوس.
ابتسم بيير ابتسامته البريئة الصريحة، كان ينتظر أن يحدثه بوريس بكلمات قاسية يندم على قولها، غير أن بوريس نطق بكلماته بصوت واضح جاف وهو لا يني يحدق في عيني بيير بجرأة. أردف يقول: نعم، إن الثرثرة عمل الموسكوفيين الوحيد، إنهم يتساءلون الآن لمن سيترك الكونت ثروته، رغم أنه قد يعيش حتى بعد أن نموت نحن، وهو الأمر الذي أتمناه من صميم نفسي.
قال بيير، وهو يزداد خوفا من أن ينزلق بوريس في منحدر خطر عسير، لا يجد منه خلاصا: نعم، إن كل هذا مزعج وأليم.
أضاف بوريس معقبا، وقد احمر وجهه قليلا دون أن تتبدل لهجته، أو أن يتغير أسلوبه: يمكنك أن تصدق أن كل الناس يأملون في أن يبلغوا نصيبا من ثروته، بل إن عددا منهم قد أصبحت الفكرة في رأسهم ثابتة متركزة.
فقال بيير في سره: «ها قد وقع المحذور!» بينما أردف بوريس: أود بهذه المناسبة أن أبلغك - تفاديا لأي سوء تفاهم يقع - أنك تخطئ خطأ فاحشا إذا وضعتنا، أمي وأنا، في عداد هؤلاء الناس الذين حدثتك عنهم. إننا فقراء جدا، لكنني أستطيع أن أؤكد لك - باسمي على الأقل - أنني لا أعتبر نفسي قريبا لأبيك لمجرد كونه من ذوي الغنى واليسار، وإننا، أمي وأنا، لا نتسول ولا نتقبل أبدا شيئا منه.
لبث بيير برهة قبل أن يستوعب غاية الفتى من حديثه، فلما فهمها، اندفع من مجلسه على الأريكة، وأمسك برسغ بوريس بحماسته الخرقاء المعروفة عنه، وقد احمر وجهه حتى فاق تضرجه اللون الذي اصطبغ به وجه محدثه، وغمغم بخجل وغضب: ولكن ماذا ... هل حقيقة أنني ...؟ من الذي يفكر في هذا؟ إنني أعرف تماما ...
كان بيير يهدف إلى طمأنة بوريس وتهدئة خاطره، غير أن هذا قاطعه ليهدئ من ثائرته بقوله: إنني مسرور لأنني قلت لك ما قلت، فاعذرني إذا بدا لك قولي مزعجا، آمل ألا أكون قد جرحتك أو أهنتك، إن مبدئي هو التحدث أبدا بكل صراحة. حسنا، أي جواب أحمله إلى آل روستوف؟ هل تقبل دعوتهم؟
استعاد بوريس هدوءه وبشاشته بعد أن تخلص من واجب شاق أداه، وأحسن تصرفا في إيضاح اللبس الذي قد يحيط به في بال الآخرين.
قال بيير، وقد استعاد بدوره اتزانه بعد لأي: أصغ إلي، إنك مدهش، إن ما قلته لي منذ حين حسن ومقبول، إنك لا تعرفني ولا شك، لقد انقضى زمن طويل لم نر بعضنا خلاله، زمن يعود إلى الطفولة؛ لذلك فقد كان بمقدورك أن تعتقد أنني ... إنني أفهمك، إنني أفهمك تماما. صحيح أنني ما كنت لأتصرف على هذا النحو؛ لأن الشجاعة الكافية تعوزني، لكنني مع ذلك راض عما قلت وسعيد بمعرفتك، إن ما خمنته بصددي غريب!
صمت برهة، ثم أردف ضاحكا: إن هذا لا يهم، سوف نتعرف على نفسيتنا مستقبلا بشكل أوضح.
وضغط على يده بشدة وأعقب: أتدري أنني لم أر الكونت بعد؟ إنه لم يستدعني، رغم أن حالته الصحية تقلقني وتزعجني كثيرا. لكن ما العمل؟
سأل بوريس وهو يضحك: إنك تعتقد إذن أن اجتياز بحر المانش من قبل نابليون أمر ممكن؟
أدرك بيير أن بوريس يغير الحديث، ويوجهه وجهة أخرى، ولما كان الموضوع الذي تطرق له يستأثر بكل اهتمامه وميله، فقد راح بيير يشرح مثالب المحاولة ومحاسنها، شرح الخبير المتعمق.
وجاء خادم من طرف الأميرة يستدعي بوريس، فوعده بيير قبل ذهابه أن يحضر مأدبة روستوف؛ ليتاح له الاختلاط به، وشد على يده مصافحا وهو ينظر إليه خلال نظارتيه بتودد وألفة، فلما ارتحل بوريس، عاد بيير يذرع الغرفة جيئة وذهابا، لكنه بدلا من أن يحارب خصوما مجهولين وأن يقاتلهم، كان يبسم مبتهجا لذكرى الشاب البهي، الذي تتساوى بداهته بطلاقة لسانه واتزانه، وراح بيير يكرر في نفسه - شأن كل الشباب عندما يناقشون في خلواتهم آراء عرضت لهم - رغبته في أن يصبح صديق بوريس، استجابة للشعور الذي أحس به نحوه، والذي كان يلح عليه بالتقرب من الضابط الشاب.
وبينما كان بيير يناقش نفسه على ذلك الشكل، كان الأمير بازيل يشيع الأميرة، وهي تجفف عيونها بمنديلها وتقول: إنه أمر مريع مفزع! لكنني سأقوم بواجبي مهما كلفني القيام به من ثمن، سأسهر عليه عندما يقتضي الأمر السهر؛ إذ لا يمكن أن ندعه يقضي دون أن يعترف، إن اللحظات ثمينة جدا. ما تنتظر الأميرات؟! لعل الله يلهمني سبيل إعداده لملاقاته. وداعا يا أميري، وليساعدك الله! - الوداع يا سيدتي الطيبة.
وغادرها الأمير، وكر عائدا إلى مخدعه.
وبينما كانت تصعد إلى العربة مع ابنها، راحت تحدثه قائلة: إنه في حال مؤلم محزن، إنه لا يستطيع التعرف على أحد تقريبا.
سأل بوريس: أود أن أعرف بدقة النوايا المبيتة نحو بيير؛ لأنني لا أفقه من الأمر شيئا، ما هي الترتيبات المنوي اتخاذها بشأنه؟ - إن الوصية ستطلعنا على كل شيء، يا صديقي. إن مصيرنا كذلك متوقف عليها. - لكن ما الذي يدعوك إلى الاعتقاد بأنه سيترك لنا شيئا؟ - آه يا صديقي! إننا في فقر مدقع وهو في غنى وثراء واسعين. - لكن هذا لا يفسر الأمر، إنه ليس سببا كافيا يا أمي العزيزة.
فزمجرت الأميرة: آه يا رب، كم هو في حالة سيئة! رباه!
الفصل السابع عشر
الصديقة المخلصة
بعد ذهاب آنا ميخائيلوفنا وولدها، لبثت الكونتيس روستوف فترة طويلة وحيدة في البهو، غارقة في تفكير عميق، ولم تلبث أن حزمت أمرها على شيء فقرعت الجرس، غير أن الوصيفة أبطأت في المثول في حضرتها؛ مما أسخطها وأثار حفيظتها، فلما كررت القرع ودخلت الوصيفة، صاحت بها غاضبة: ما معنى هذا يا عزيزتي؟ إذا «شئتم» ألا «تقوموا بواجبكم»، فسأعرف كيف أجد «لكم» مكانا آخر!
كانت الكونتيس ثائرة الأعصاب متألمة لحزن صديقتها الأميرة وفقرها المخجل، وكانت دلائل سخطها وثورتها تتجلى في أسلوب كلامها مع خادمتها - لغة الجمع - وفي إضفاء لقب «عزيزتي» عليها.
قالت الوصيفة معتذرة: أرجو أن تغفر لي سيدتي. - اطلبي إلى الكونت أن يتفضل برؤيتي.
جاء الكونت بعد قليل يتأرجح في مشيته كعادته، وعلى وجهه أمارات الجد والاهتمام، ابتدرها قائلا: آه يا عزيزتي الكونتيس الصغيرة! يا للطعام الفاخر الذي سنقدمه! لقد تذوقته بنفسي، إنني أحسنت صنعا بإعطائي ألف روبل لتاراس، إنه يستحقها!
جلس قرب زوجته وشعره الأبيض متمرد على رأسه، واعتمد مرفقيه على ركبتيه وقال: ماذا ترغبين يا عزيزتي الكونتيس الصغيرة؟ - حسنا، إليك ما أريد ...
وابتسمت وهي تشير بسبابتها إلى صدارة زوجها، وقالت: ما هذه اللطخة التي على صدارتك؟ أتعشم أن تكون من مرق الطعام!
وعاد الحزن يسدل أستاره على وجهها فأعقبت: إليك ما أريد؛ إنني في حاجة إلى المال.
فأخرج الكونت حافظة نقوده، وهو يقول: حالا، حالا. آه أيتها الكونتيس الصغيرة!
غير أن الكونتيس الصغيرة قاطعته قائلة: ذلك أنني في حاجة إلى أكثر من المعتاد، إلى خمسمائة روبل.
وراحت تدلك بمنديلها المصنوع من قماش «الباتيست» اللطخة التي على صدارة زوجها، فهتف هذا: فورا يا عزيزتي، فورا.
وصاح شأن من تعود أن يهرع الناس تلبية لأول نداء يصدر عنه: هولا، ليأت أحد! ابعثوا في طلب ميتيا.
ودخل ميتيا بخطواته الخفيفة المكتومة، وكان فتى فقيرا تعهده الكونت وأقامه أمينا على بيته فقال له الكونت: اسمع يا عزيزي، ائتني ب... - وراح يفكر برهة - بكم؟ آه، بسبعمائة روبل، نعم سبعمائة روبل، واحذر أن تكون أوراقا قذرة أو ممزقة كما حدث في المرة الأولى، أريدها جديدة كل الجدة؛ لأنها للكونتيس.
فأعقبت الكونتيس، وهي تزفر زفرة حرى: نعم، أرجو ذلك يا ميتيا، اعمل على أن تكون جديدة ونظيفة.
سأل ميتيا: متى تريدها يا صاحب السعادة؟
ولما رأى أن الكونت بدأ يتنفس بصعوبة، وهو نذير غضبه، أردف يقول مستدركا: لا تنزعج، لقد أسأت الفهم، إنك تريدها فورا، أليس كذلك؟ - نعم، نعم، أحضرها وأعطها للكونتيس.
فمضى ميتيا بخطواته المتلصصة المكتومة، فقال الكونت بعد خروجه: يا له من كنز ثمين! إنه يعرف دائما كيف يتدبر الأمر، إنني أمقت أن يعترضني معترض؛ لأنني أعتقد أن كل شيء ممكن تنفيذه لما تتوفر الرغبة الصادقة.
قالت الكونتيس: آه من المال يا كونت! كم يسبب المال آلاما في هذا العالم! ليتك تدري مبلغ حاجتي إلى هذا المبلغ التعس.
فقال الكونت، وهو يقبل يد زوجته قبل أن يعود إلى مكتبه: نعم يا عزيزتي الكونتيس الصغيرة، إننا نعرف سخاءك وكرمك.
ولما عادت آنا ميخائيلوفنا من زيارتها للكونت بيزوخوف، كان المبلغ قد أصبح في حوزة الكونتيس، وقد وضعته على نضد قريب، وغطته بمنديلها، غير أن انفعال الكونتيس واضطرابها لم يخفيا على عيني آنا ميخائيلوفنا الحاذقة.
سألت الكونتيس: ما أخبارك يا عزيزتي؟ - آه من الحال السيئة التي بلغ إليها! إن حالته شديدة السوء ، حتى إنني لم أستطع البقاء إلا دقيقتين ولم أحدثه إلا بكلمتين!
مدت الكونتيس يدها إلى النضد فجأة، وقالت: آنيت، بحق السماء لا ترفضي.
تضرج وجهها بلون أرجواني يناقض خطورة تقاسيمها المهزولة التي عملت بها يد السنين تخريبا وترميما واضحين.
فهمت آنا ميخائيلوفنا غاية صديقتها، فانحنت تتحين الوقت المناسب لترتمي على عنقها تقبله، قالت الكونتيس: قدمي المال إلى بوريس من جانبي ليعد تجهيزاته.
بكت آنا ميخائيلوفنا وهي تعانق الكونتيس، فشاركتها هذه في البكاء، بكتا تحنانا لطبيعة قلبيهما وللتفاهم الوثيق الذي يربط بينهما، وبكتا لأن المال، ذلك الشيء الحقير، قد تدخل شخصا ثالثا في صداقتهما التي ترجع إلى أيام الطفولة؛ وكذلك بكتا أسفا وهما تفكران في شبابهما الضائع الزائل، غير أن الدموع كانت حبيبة إلى نفسيهما، كانت تفرج عن كربتهما وتواسيهما.
الفصل الثامن عشر
ماري دميترييفنا
كان عدد من المدعوين في البهو الكبير يحيط بالكونتيس روستوف وبناتها، وكان الكونت قد رافق الرجال إلى مكتبه، ووضع رهن تصرفهم مجموعته الثمينة من الغلايين، وكان يخرج من حين إلى آخر ليستعلم عما إذا كانت «هي» قد وصلت. كان آل روستوف ينتظرون مقدم ماري دميترييفنا آخروسيموف الملقبة بالتنين الرهيب، وهي امرأة محرومة من الثراء والألقاب، لكنها استطاعت أن تشق لنفسها طريق الشهرة بفضل صراحتها المخيفة وبدانتها. كانت ماري دميترييفنا معروفة من الأسرة المالكة، وفي موسكو كلها وبيترسبورج، وكانت تروى عنها أقاصيص في المدينتين، تجعل الناس يعجبون بها ويسخرون سرا، ويقدرونها ويهابونها دون أن يجدوا جرأة على بهتها بسخريتهم.
كان الرجال يتحدثون عن الحرب في مكتب الكونت العابق بدخان اللفافات، كانوا يعرفون أن الحرب قد أعلنت رسميا، غير أن أحدا لم يقرأ بعد الصيغة الرسمية لإعلانها، وكان الكونت جالسا على أريكة شرقية بين اثنين من المدخنين، لا يدخن ولا يتحدث، بل يلتفت تارة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، ويراقب مدعويه بسرور واضح، ويصغي إلى مناقشاتهم بانتباه واهتمام؛ ليرى مآل الأمر بينهم، استعدادا لإثارة نقاش جديد، عند صدور أول بادرة تهدد بخفوت احتدام النقاش.
كان أحد الاثنين الجالسين إلى جانبيه مدنيا ذا وجه صفراوي، أجرد، مجعد الوجه، ذا مظهر أنيق رغم تقدمه في السن، وتخليفه الشباب وراءه، وكان يجلس على الطريقة الشرقية، وكأنه في بيته، وفي زاوية فمه مبسم من الكهرمان، يجذب خلاله أنفاسا متلاحقة وهو يغمز بعينيه، وكان هذا الرجل الناضج واحدا من أبناء عم الكونتيس، اسمه شينشين، وهو عزب عجوز، يعتبر في أندية موسكو لسانا سليطا مسلطا، وكان الكونت ينظر إليه نظرة توحي بتفوقه على محدثه الآخر، الذي كان ضابطا في الحرس، نضر الوجه، مورد الوجنتين، شديد التأنق والترفع، معنيا كل العناية بهندامه ومظهره، يمسك بغليونه في منتصف فمه، محاذرا بتبديل مكانه، وتمتص شفتاه القرمزيتان خلال القصبة نفحات خفيفة من الدخان، يرسلها من فمه على حلقات متلاحقة رقيقة، كان هذا الزائر هو الملازم بيرج، من فيلق سيميونوفسكي؛ الذي كان عليه أن يلتحق بالجيش مع بوريس، والتي كانت ناتاشا تسميه: «خطيب فيرا» إمعانا منها في إثارة أختها الكبرى.
كان الكونت كله آذان صاغية وعيون متطلعة، وكان أجمل ما يستأثر بانتباهه بعد لعب
1
الورق، هو الإصغاء إلى حديث المتناقشين، خصوصا عندما يكون سبب إثارة اثنين من أبلغ المحدثين.
قال شينشين بلهجته الساخرة: إذن يا فتاي الطيب، يا ألفونس كارليتش شديد الإقدام، إنك تتوقع أن تقتطع إيرادات على حساب الدولة، وأقصد أنك تود الاستئثار بربح على حساب غيرك؟
كان شينشين يجمع بين الكلمات القروية والعامية في الروسية، وبين العبارات المنتقاة باللغة الفرنسية، وكان أسلوبه في الحديث يمتاز بطابع السخرية، أجابه الملازم: كلا يا بيوتر نيكولائيتش، إنني أزعم فقط أن سلاح المدفعية يعطي فوائد جمة تفوق على ما يعطيه سلاح الفرسان، خذ حالتي مثلا ...
كان بيرج يتحدث أبدا بلهجة دقيقة متزنة شديدة التهذيب، لكنه لا يتحدث إلا عن نفسه، فإذا دار الحديث حول مواضيع أخرى لا علاقة له بها، صمت هادئا لا يريم، ولا يبدي أو يحدث حوله أي امتعاض، ولو استمر على سكوته ساعات طويلة، أما إذا كانت شخصيته موضوع الكلام والبحث، فعندئذ يستفيض ببلاغة واسترسال وطلاقة، والسرور باد على محياه. - إنني في حالتي، يا بيوتر نيكولائيتش ... لو كنت مثلا في سلاح الفرسان وفي رتبتي الحالية كملازم، فإنني ما كنت لأتقاضى أكثر من مائتي روبل كل ثلاثة أشهر، بينما يزيد مرتبي حاليا في سلاح المدفعية على المائتين والثلاثين روبلا.
وأشفع عبارته بابتسامة وديعة، وجهها إلى شينشين والكونت، شأن الرجل الذي لا يشك أبدا في أن خصوصياته لا تشكل أقصى رغبات أنداده من بني البشر.
عاد بعد فترة صمت يتابع حديثه قائلا: أضف إلى كل ما قلت أنني، بانضمامي إلى سلاح الحرس، أكون مرموقا، وتكون المراكز الشاغرة أكثر حدوثا مما هي عليه في سلاح المدفعية، ثم ألا ترى، يا بيوتر نيكولائيتش، أنني ما كنت لأستطيع شيئا بمائتين وثلاثين روبلا لو كنت في سلاح الفرسان؟ أما في وضعي الحاضر، فإنني أدخر مرتبي، بل وأرسل منه إلى أبي.
ومن جديد انبعثت من فمه حلقات من الدخان، راحت تتصاعد متلوية، غمغم شينشين، وهو ينقل مبسمه إلى زاوية فمه أخرى: وهكذا يتم التوازن. إن المثل يقول: إن الألماني ينسج الخز من سوق القمح.
وغمز بعينيه للكونت، فانفجر هذا ضاحكا، وهرع عدد آخر من المدعوين، اجتذبهم مرح شينشين وحماسه، أما بيرج فإنه لم يعبأ بالسخرية، ولا بفتور المستمعين، بل ازداد انطلاقا في حديثه، وراح يؤكد أن انتقاله إلى سلاح الحرس أكسبه مرتبة تفوق بها على أقرانه، وأنه في أوقات الحرب يكون قائد السرية شديد التعرض للخطر، وبذلك تتاح له - هو بيرج - إمكانية الارتقاء إلى رتبة رئيس، بوصفه أقدم ملازم في الفرقة، هذا إلى جانب الحب الذي يتمتع به من كافة أفراد الفيلق، ورضاء أبيه عن وضعه الحاضر. وكان بيرج، وهو يصرح بكل هذه الأمور، يشعر بمرح حقيقي وسرور شديد، كانا يجعلانه مرتابا في أن يكون للآخرين من بني الإنسان أية مصالح غير مصالحه الخاصة. مع ذلك، فقد كانت لهجته الرقيقة المتزنة، بالإضافة إلى أنانيته الساذجة، تخفف من غلواء المستمعين.
أنزل شينشين قدميه على الأرض، وتناهض وهو يقول لبيرج مربتا على كتفه: حسنا يا فتاي الطيب ، هناك شيء واحد أثق به، وأتأكد منه، وهو أنه بمقدورك أن تفتح لنفسك الطريق سواء كنت في المشاة أو الخيالة.
فطفح وجه بيرج بالسعادة، بينما راح الكونت ومدعووه يغادرون المكتب للانتقال إلى البهو.
بلغ المدعوون تلك الفترة التي تسبق اقتراب موعد الطعام، والتي جرت العادة على ألا يثيروا خلالها مناقشات طويلة، بينما يحاولون التظاهر بأن سكوتهم وجمودهم، لا يرجعان إلى لهفتهم على الانتظام حول المائدة، كان المضيفون ينظرون إلى باب البهو، ويتبادلون النظرات بين الحين والحين، بينما يحاول المدعوون جاهدين معرفة سبب التأخير، وهل مرده انتظار أصحاب الوليمة وصول قريب رفيع المقام، أو تمهلهم ريثما ينضج لون معين من الطعام، تأخر الطهاة في تحضيره.
دخل بيير في تلك اللحظة بالذات، ومضى يجلس - بتصرفه الأخرق - على مقعد في منتصف البهو، معرقلا بجلوسه عليه سير المدعوين وانتقالهم، حاولت الكونتيس أن تدخل معه في حديث، لكنه أجاب على كل أسئلتها بكلمات صغيرة مقتضبة، وهو يسرح حوله الطرف من وراء نظارتيه، باحثا بنظرة ساذجة عن شخص معين، فسبب تصرفه تشويشا عاما شعر به كل الحاضرين باستثنائه هو، كان جل المدعوين يتأملون بفضول ذلك الفتى الوديع، ويتساءلون كيف استطاع متثاقل مثله أن يعتدي بالضرب على ضابط بوليس.
سألته الكونتيس: هل وصلت لتوك؟
فأجابها، وهو ينقب بأبصاره في زوايا البهو: آه، نعم يا سيدتي. - ألم تر زوجي بعد؟
أجابها بابتسامة في غير موضعها: كلا يا سيدتي. - لقد عدت من باريز على ما أعتقد؟ إنه لأمر مثير! أليس كذلك؟ - كل الإثارة.
فهمت آنا ميخائيلوفنا من النظرة التي خصتها بها صديقتها، أنها تستنجد بها لتحل عقدة لسان هذا الشاب، فاقتربت من بيير وراحت تسأله عن أبيه، لكنها - كما كان حال الكونتيس - لم تظفر منه إلا بأجوبة قصيرة مغمغمة، وكان المدعوون يثرثرون بينهم، فيعلو لغطهم تارة، وينخفض أخرى، ويصغي المرء إلى «آل رازوموفسكي ... لقد كان ذلك رائعا ... إنك ذات فضل ... الكونتيس آبراكسين»، تتردد على ألسنة المتحدثين، وفجأة نهضت الكونتيس، وانتقلت إلى صالة الرقص.
سمع صوتها وهي تسأل: ماري دميترييفنا ؟
وصوت آخر قوي يجيب: هي بذاتها.
ودخلت ماري دميترييفنا إلى البهو.
نهضت كل الشابات والسيدات - ماعدا المسنات منهن - لاستقبال القادمة، وقفت ماري دميترييفنا على عتبة الباب، وراحت تشمل الحشد بنظرة مترفعة، وهي تسوي أكمامها بتؤدة، وكأنها تريد حسرها عن ذراعيها. كانت ضخمة الجثة، متينة التكوين، يشمخ رأسها باعتداد واعتزاز بخصلات الشعر الأصهب التي تكلله.
قالت القادمة بصوت جهير خطير ساد على الضجيج المنبعث: عيدا سعيدا لسيدة الدار وأولادها.
وأردفت بالروسية التي لا تعرف لغة سواها، تخاطب الكونت الذي كان يقبل يدها: وأنت أيها الفاسق العجوز، إنك متبرم بالحياة في موسكو، أليس كذلك؟ إنك لا تجد كلابا تضنيها بالصيد والقنص، لكنك يا صديقي لن تستطيع إلا تقبل الواقع؛ لأن عصافيرك تنمو (وأشارت بيدها إلى الفتيات الصغيرات) فإذا شئت أم أبيت، فإنه يجب عليك أن تجد لهن أزواجا.
والتفتت إلى ناتاشا التي كانت تقترب منها بجرأة لتقبل يدها، وقالت: باه! أهذه أنت، أيتها القوقازية؟
وراحت تجري بيدها على شعرها ملاطفة وهي تناديها بكلمة «قوقازية»، التي درجت على إطلاقها عليها، وأعقبت: إنك ماجنة يا فتاة، لكن ذلك يرضيني.
وأخرجت من حقيبة يد ضخمة قرطين ذهبيين مصنوعين على شكل إجاصة، فأعطتهما لناتاشا التي طغى البشر على وجهها، فأشرق واصطبغ بحمرة السرور والفرح، ثم استدارت تخاطب بيير مضفية على صوتها نبرة مرحة لا تتفق مع لهجته: آه! تعال هنا أيها الباسل، تعال إلي أيها العزيز.
وشمرت عن كميها بحماسة وحمية، وعادت تخاطب بيير، الذي خطا نحوها بضع خطوات، وهو ينظر إليها ببراءة خلال نظارتيه: اقترب، اقترب أيها الباسل القوي! لقد كنت الوحيدة التي قالت لأبيك كل حقائقه عندما كان في أوج جبروته وسلطته، فلا تنتظر مني أن أرتبك في حضرتك.
وصمتت صمتا لم يجرؤ أحد على قطعه؛ لأن الموجودين أدركوا من سياق حديثها أن ما فاهت به حتى الآن ليس إلا استهلالا لما بعده.
أردفت بسلاطتها تقول: يا للفتى الوديع! لعمري إنه أمر مخجل. إن أباه على فراش الموت، والسيد يلهو ويعبث ، ويتسلى بشد وثاق ضباط البوليس إلى ظهور الدببة! إنه مخجل، يا فتاي! مخجل. يستحسن أن تنخرط في الجندية.
وأدارت له ظهرها، وقدمت ذراعها إلى الكونت الذي كان يجد صعوبة في كتم ضحكته.
قالت مستطردة: حسنا، لقد أزفت ساعة الطعام، ألا تعتقد؟
سارت مع الكونت في الطليعة، تتبعها الكونتيس متأبطة ذراع زعيم في الجيش، وهو شخصية لها خطورتها؛ لأن نيكولا كان سيلتحق بفيلقه تحت إمرته. وجاءت آنا ميخائيلوفنا برفقة شينشين، وبيرج مع فيرا، بينما كان نيكولا يرافق جولي كاراجين، التي كانت مشرقة الوجه بالابتسام، وتبعتهما أزواج أخرى على طول قاعة الرقص. أما الأولاد ومعلموهم والمربيات، فقد جاءوا في نهاية الرتل دون ترتيب ولا انسجام، وهرع الخدم وصدحت الموسيقى، بينما أخذ المدعوون أمكنتهم وسط ضجيج المقاعد الذي أعقبه السكون، ولم تلبث أصوات الملاعق والسكاكين ولغط الحديث أن غطى أصوات الموسيقى، وطغى على صوت خطوات الخدم الخفيفة، وهم يهرعون في غدوهم ورواحهم، وفي الطرف الأقصى من المائدة جلست الكونتيس، وإلى يمينها ماري دميترييفنا، بينما جلست آنا ميخائيلوفنا وبقية السيدات إلى يسارها. أما في الجانب الآخر، فقد كان الكونت قابعا إلى يسار الزعيم ويمين شينشين والرجال الآخرين، وكان الشبان والفتيان الصغار يشغلون وسط المائدة - فيرا إلى جانب بيرج وبيير إلى جانب بوريس - بينما في الجانب الآخر، احتشد الأطفال مع معلميهم ومربياتهم، وكان الكونت لا يفتأ يملأ أقداح جيرانه بالأنبذة، دون أن ينسى نصيبه منها، وهو ينقل طرفه بين حين وآخر إلى زوجته وقلنسوتها المرتفعة ذات الأشرطة الزرقاء السماوية، التي تنعكس خلال زجاج الأواني البلورية المرتبة على المائدة، وكانت الكونتيس بدورها تلقي نظرات حافلة بشتى المعاني إلى وجه زوجها عبر المائدة، متخطية ثمار الأناناس، دون أن تنسى واجباتها كمضيفة لبقة.
كانت جمجمة زوجها ووجهه المتضرجين يبدوان لها متنافرين مع لون شعره الأشهب، وكانت الأصوات في ركن السيدات خافتة رتيبة، على عكس ركن الرجال، الذي كان النقاش فيه يحتدم أكثر فأكثر، يعلو فيه بصورة خاصة صوت الزعيم الذي كان يشرب الأقداح دون مزج، ويأكل بنهم وشهية اتخذهما الكونت أمثولة طلب إلى مدعويه الاحتذاء بها. وكان بيرج - وعلى فمه ابتسامة حانية - يفسر لفيرا طبيعة الحب؛ تلك العاطفة السماوية التي لا علاقة لها بالأرض، بينما كان بوريس يطلع صديقه الجديد بيير على أسماء المدعوين، وهو يتبادل النظرات المختلسة مع ناتاشا الجالسة قبالته، وكان بيير يتفحص كل هذه الوجوه الجديدة، ويتحدث قليلا ويأكل كثيرا، حتى إنه لم يستبعد من قائمة الطعام الحافلة إلا لونا واحدا فقط، ولم يرفض لونا من الخمر، مما كان رئيس الخدم يقدمه من زجاجته الملفوفة بالمنشفة، فكان يصغي بغموض إلى أسماء الأنبذة المقدمة: «دري مادير، توكاي، نبيذ الرين ... إلخ.» وكان أمام كل مدعو أربعة أقداح من البلور النقي، تحمل شعار الكونت، وقد أعدت لأربعة أنواع مختلفة من الخمور، فكان بيير يقدم لرئيس الخدم أول كأس تقع عليه يده، فيملؤها هذا له ليفرغها في جوفه بحبور واضح، ويعود إلى تصفح وجوه المدعوين بنظرة تزداد التماعا. وكانت ناتاشا - وهي تجلس قبالته - تنظر إلى بوريس كما تنظر الفتيات في سن الثالثة عشرة إلى الشاب الذي يعتقدن أنهن يعشقنه، والذي تبادلن معه قبلتهن الأولى، فكانت إحدى تلك النظرات تهيم ضائعة؛ لتتوقف على بيير، الذي كان يحس برغبة في الضحك، دون أن يدري له سببا، كلما وقع عليه نظر تلك الفتاة المنتعشة اليقظى بوجهها الناطق الضاحك.
وتشاء الظروف أن يكون نيكولا بعيدا عن سونيا، يتحدث مع جولي كاراجين، وعلى وجهه تلك الابتسامة المغتصبة. وعلى الرغم من أن سونيا كانت تتظاهر بالابتسام هي الأخرى، فإن الغيرة كانت تنهشها، فكانت تشحب وتحمر طورا فطورا، وتحاول التقاط نتف من حديثهما. أما المربية فكانت تحضن الأطفال بنظرة قلقة، وهي على استعداد للانقضاض على أي منهم، إذا جرؤ على مقاومة رغبتها. وكان المعلم الألماني يحاول - بمشقة كبيرة - أن ينقش على لوح ذاكرته أسماء الأطعمة والخمور التي تقدم على المائدة؛ ليتسنى له وصف كل ذلك بأدق تفاصيله في رسالته المقبلة التي سيرسلها إلى ذويه في ألمانيا. فلما مر رئيس الخدم وراءه، حاملا زجاجته الملفوفة بالمنشفة، دون أن يصب في قدحه منها، شعر بجرح في كرامته؛ لأنه أسيء فهمه، فهو ما كان يريد الخمر لإرواء عطشه أو لإشباع جشعه، بل إنه كان يود تذوق كل الأنواع؛ إرضاء لرغبة الاطلاع في نفسه وزيادة معلوماته!
الفصل التاسع عشر
حول المائدة
كان الحديث يزداد اضطراما في زاوية الرجال على المائدة، وكان الزعيم يؤكد أن الحرب قد أعلنت رسميا في بيترسبورج، وأن نسخة من مرسوم إعلان الحرب قد أرسلت بالبريد إلى حاكم موسكو العسكري، وأنه اطلع على تلك النسخة بنفسه.
هتف شينشين: هل تستطيع أن تحدثني بالسبب الذي من أجله نعلن الحرب على بونابرت؟ أي شيطان أثيم يدفعنا إلى إعلانها؟ لقد أخمد من قبل ثورة النمسا، وأخشى أن يكون دورنا قد حل.
استاء الزعيم - وهو ألماني طويل القامة، متين البنيان، مضرج الوجه، عسكري غيور ووطني - لمزاعم شينشين، فأجابه قائلا - بلكنة أجنبية ظاهرة على مخارج كلامه: لأي سبب يا سيدي العزيز؟ إن الإمبراطور يعرف السبب، إنه يقول في بيانه إنه لا يستطيع البقاء متفرجا على الأخطار التي تهدد روسيا وتحيق بها، وإن سلامة الإمبراطورية وكرامتها وصحة التعاقد والارتباطات ...
وضغط على هذه الكلمة، وكأنه يشير إلى أنها تحوي على مفتاح السر، ثم راح - بذاكرة الرجل الرسمي التي لا تخون - يتلو المقطع الأول من البيان: ... ورغبة الإمبراطور المقررة في تحقيق السلم في أوروبا على قواعد متينة، دفعته إلى إرسال جزء من الجيش خارج الحدود الروسية، والارتباط بتعاقد جديد لينفذ رغباته وأهدافه.
وأضاف قائلا: هذا هو السبب يا سيدي العزيز.
ونظر إلى الكونت منتظرا موافقته على قوله، وأفرغ قدحه في جوفه بأسى.
أجاب شينشين، وهو يعجو وجهه: هل تعرف المثل القائل: «من الخير أن يعنى المرء «بملفوفه»، على أن يصاب بالنوائب والمحن»؟ إن هذا المثل ينطبق علينا انطباقا كليا، لقد كان سوفوروف
1
جبارا قويا، مع ذلك فقد هزم هزيمة نكراء، فأين نحن الآن من سوفوروف؟ وأين مثله بيننا؟ إنني أتساءل وأسألك الجواب.
كان شينشين - كعادته - يقفز من الفرنسية إلى الروسية وبالعكس. أجابه الزعيم - وهو يضرب المائدة بيده: ينبغي أن نحارب حتى آخر نقطة من دمائنا، وأن نموت في سبيل إمبراطورنا إذا اقتضى الأمر، وأن نناقش الأمور على أضيق مدى ممكن.
وضغط كذلك على المقطع الأخير، وأردف مكررا: نعم على أضيق مدى ممكن؛ وعندئذ سيسير كل شيء على ما يرام، أليس كذلك؟
وراحت عيناه تبحثان من جديد عن موافقة الكونت وتأييده، ثم استرسل قائلا: إننا معشر الجنود القدامى نفكر بمثل هذه العقلية فقط! فما رأيك أيها الجندي الشاب والفتى الغض؟
كان السؤال الأخير موجها إلى نيكولا الذي ما إن شعر بأنهم يتحدثون عن الحرب حتى أغفل صديقته واندفع، بكل حواسه، مصغيا إلى ما يدور من حديث حول هذا الموضوع، قال مجيبا على السؤال بحماس بين: إنني من رأيك تماما.
ثم أزاح الصحاف والأقداح من أمامه بجرأة الرجل الذي يتهدده خطر ماحق، وأضاف: نعم، إنني مقتنع بأن على الروس، إما أن ينتصروا وإما أن يموتوا كراما.
كانت العبارة الطنانة شديدة الوقع في ذلك الجو، لكنه شعر بعد فوات الأوان أنها لا تنسجم مع الجو، كما لا حظ المدعوون؛ لذلك فقد بان عليه الارتباك، فقالت جارته جولي تؤيده: إن ما قلته لرائع جميل!
أما سونيا، فإنها عندما سمعته يتكلم على ذلك النحو، اقشعر جسمها، وتضرج وجهها، حتى إن عنقها لم ينج من تأثير القشعريرة، وغدا أرجوانيا.
وكان بيير يصغي إلى آراء الزعيم، فأيده بإشارة من رأسه، وقال: إنه لعمري رأي سديد ناضج.
بينما هتف الزعيم - وهو يضرب المائدة بقوة وشدة فاقتا ما بدر منه في المرة السالفة: إنك جندي حقيقي، أيها الشاب!
غير أن صوت ماري دميترييفنا الخفيض ارتفع فجأة من الطرف الآخر للمائدة مجلجلا، قالت تسأل العسكري الكبير: ما هذا الصخب؟ لم تضرب على المائدة؟ مع من تظن نفسك الآن؟ هل تعتقد أنك أمام الفرنسيين في هذه اللحظة؟
فأجاب الزعيم باسما: إنني لا أقول غير الصدق.
وهتف بها الكونت من مكانه مفسرا: إننا كنا منهمكين في التحدث عن الحرب يا ماري دميترييفنا، ذلك لأن ابني سيشترك فيها ، هل تفهمين؟ ابني ، نعم، نيكولا.
فأجابت ماري دميترييفنا بصوت بلغ طرف القاعة الأقصى دون أن ترفعه: وماذا في ذلك؟ إن لي أربعة أولاد في الجيش، مع ذلك لست أبكي من أجلهم؛ لأننا جميعا بين يدي الله، فهنا يموت حي وهو على فراشه، وهناك يحارب بعضهم دون أن يصاب بأي أذى، وهكذا ... - لا شك، لا شك.
وبعد هذا الفاصل، عاد كل من الفريقين إلى حديثه الخاص، دون أن يعير ما يقوله الآخر التفاتا. وفي تلك اللحظة، كانت ناتاشا تنظر إلى أخيها متحدية وهو يقول لها: لن تجرئي على ذلك السؤال، كلا لن تجرئي ...
وكانت تجيبه مصرة معتدة بنفسها: بل أجرؤ!
وأشرق وجهها بتصميم جريء عات، فنهضت وألقت نظرة على بيير تدعوه للإصغاء إلى ما ستقول، ثم التفتت إلى أمها، وقالت بصوتها الصبياني، محاولة اجتذاب انتباه أمها والسامعين: أماه!
فسألتها الكونتيس مذعورة: ماذا هناك؟
لكنها لما قرأت على وجه ابنتها بوادر محاولة ماكرة خبيثة، نظرت إليها بصرامة، ودعتها إلى الصمت بحركة من يدها، وأعقب ذلك صمت. لكن الصغيرة لم تلبث أن انطلقت تسألها بلهجة حازمة وكلمات متلاحقة: أماه، ماذا سيقدم لنا قبل انتهاء الطعام؟
لم تجد الكونتيس مبررا للغضب، بينما رفعت ماري دميترييفنا إصبعها مهددة، وقالت مغمغمة: حاذري يا «قوقازية»، اهدئي!
وراح المدعوون ينظرون إلى الوالدين، وموقفهما من سؤال ابنتهما؛ ليتصرفوا بما يتناسب والمقام، فإن غضبا أظهروا استياءهم، وإلا ابتسموا مبتهجين.
فقالت الكونتيس: انتظري برهة.
ازداد صوت ناتاشا ارتفاعا، وقد تأكدت من أن رعونتها هذه لن تسبب لها أي عقاب: أماه، ماذا سيقدم لنا قبل انتهاء الطعام؟
كان بيتيا الضخم وسونيا لا يكادان يكبتان ضحكتهما، أما ناتاشا فقد قالت لأخيها مباهية - وهي تطيل التحديق في وجه بيير: ها قد سألتها!
قالت ماري دميترييفنا مجيبة: ستقدم «البوظة»، لكنك لن تطعمي منها.
ولما كانت ناتاشا متأكدة من أنها لن تعاقب، تجرأت على الصمود أمام «التنين» بالذات، قالت: أية «بوظة» يا ماري دميترييفنا؟ إنني لا أحبها مع الفانيليا. - بل ستكون بالجزر!
فصاحت العابثة - بصوت أقرب إلى الصراخ: غير صحيح! أي نوع من «البوظة» يا ماري دميترييفنا؟ أي نوع؟ أريد أن أعرف.
فانفجر السامعون بالضحك اعتبارا من ماري دميترييفنا نفسها، وحتى الكونتيس التي كبتت ما في نفسها، ولم يكن جواب «التنين المرعب» هو الذي أثار تلك العاصفة الهوجاء من الضحك، بل كانت جرأة الفتاة الخبيثة، التي عرفت كيف تصمد أمام «التنين» في غير وجل، هي السبب.
ولما أبلغت أن «البوظة» ستكون بالأناناس، تظاهرت ناتاشا بالرضى. وطاف الخدم بالشمبانيا قبل تقديم «البوظة»، وعزفت الموسيقى «بشرفا» آخر، فمضى الكونت إلى زوجته يعانقها، فجدد المدعوون تمنياتهم بمناسبة ذلك العيد، وقرعت الأكؤس، وشربت الأنخاب؛ أنخاب الكونتيس والكونت وأولادهما، ثم عاد الخدم إلى النشاط، وعلا صخب المقاعد، وارتفعت جلبتها، وغادر المدعوون قاعة المائدة بالترتيب الذي نهجوا عليه عند دخولهم، مع فارق واحد؛ وهو أن وجوههم كانت متضرجة من أثر الخمر الجيدة المعتقة، وانتقلوا إلى البهو الكبير، حيث مكث فيه الذين كانوا فيه من قبل، بينما قصد الرجال إلى مكتب الكونت ليعودوا إلى أحاديث ما قبل الطعام.
الفصل العشرون
آلام العشاق
نصبت موائد لعب الورق، ونظمت الجماعات، وانقسم الموجودون بين البهو والمخادع والمكتبة.
كان الكونت يمسك بالأوراق في يده على شكل مروحة، ويغالب النعاس الذي تسلط عليه، بحكم اعتياده على النوم بعد الطعام، واجتذبت الكونتيس الشباب والشابات إلى الأرغن «والبيانو»، فمضت جولي، استجابة للرغبة العامة، تعزف على الأرغن قطعة متنوعات، ثم اتحدت مع الشابات، ووجهن جميعا دعوتهن إلى ناتاشا ونيكولا ليشتركا في غناء قطعة ما؛ نظرا لما عرف عنهما من ميلهما للموسيقى، وموهبتهما الطبيعية في هذا المضمار.
شعرت ناتاشا بالاعتداد والفخار؛ لأنها عوملت معاملة الأشخاص الكبار، ودعيت للغناء بالإجماع، لكنها - مع ذلك - أحست بشيء من الارتباك.
سألت: ماذا سنغني؟
فأجابها نيكولا: أغنية «النبع». - حسنا، لنشرع، تعال يا بوريس إلى هنا. لكن أين سونيا؟
ولما رأت ناتاشا أن صديقتها اختفت، هرعت تبحث عنها، فلما لم تعثر عليها في غرفتها ولا في غرفة الأولاد، اعتقدت ناتاشا أنها - ولا شك - مختفية فوق الصندوق في الممشى ، لقد جرت عادة فتيات آل روستوف الصغيرات على الانزواء فوق ذلك الصندوق، كلما أردن أن ينفثن عن صدورهن. وقد صدق حدسها؛ إذ إن سونيا - دون اعتبار ما قد يصيب ثوبها الجميل الرقيق الوردي من أذى - كانت مستلقية على صدرها على فراش من الزغب، مخطط قذر، عائد للمربية، وموضوع فوق ذلك الصندوق، وقد دفنت وجهها بين يديها، وراحت تبكي بكاء مرا، اهتزت له كتفاها الدقيقتان العاريتان. تخلت ناتاشا عن بهجة العيد التي كانت فائضة على وجهها، والتي لم تبارحها طيلة ذلك النهار، وشخصت أبصارها، وسرت رعشة في جسدها، وهبطت زاويتا فمها، هتفت: سونيا، ماذا بك؟ ماذا حدث بالله؟ هئ، هئ، هئ!
وانقلبت سحنتها، وتشوه فمها الكبير، تبعا للتقلص الذي اعترى وجهها، فبدت شديدة البشاعة، وراحت تنتحب بدورها كطفل صغير، دون أي سبب، إلا لأن صديقتها تبكي. ودت سونيا أن ترفع رأسها لتجيب على سؤال صديقتها، لكنها لم تجد القوة الكافية على ذلك، فراحت تزيد في البكاء ممعنة في إخفاء وجهها، جلست ناتاشا وهي باكية أيضا على الفراش الأزرق، وأخذت صديقتها بين ذراعيها، وأخيرا، استعادت سونيا بعض شجاعتها، فتناهضت، وراحت تمسح دموعها في غير عناية، استعدادا لشرح ما يحزنها، قالت: إن نيكولا سيذهب بعد ثمانية أيام ... لقد تلقى أمر المسير العائد إليه ... لقد حدثني بذلك ... لكنني لست أبكي من أجل هذا، ولكن ...
وأبرزت لها ورقة كانت تخفيها في يدها، عرفت ناتاشا من النظرة الأولى أنها تحوي على الأبيات التي كتبها نيكولا بعد أن نظمها متغزلا بسونيا - لكنك لا تستطيعين أبدا ... بل لا يستطيع أحد أن يدرك مبلغ نبل نفسه!
ولما تذكرت تلك النفس النبيلة، عادت إلى البكاء من جديد، أردفت بعد لأي: إنك سعيد أنت ... ولست أشعر بالغيرة منك ... إنني أحبك وبوريس حبا جما، وهو لطيف، ولا شيء يعترض زواجكما ... أما نيكولا، فهو ابن عمي ... وينبغي لنا الحصول على إذن خاص من الأسقف إذا أردنا الزواج ... وهو يستطيع أن يرفض إعطاءنا الإذن الخاص ... ثم إذا تحدث بعضهم إلى أمي (وكانت سونيا تعتبر الكونتيس أما لها ، وتدعوها كذلك) فإنها ستقول إنني أحطم مستقبل نيكولا، وإنني عديمة الشعور، ناكرة الجميل ... مع ذلك، يشهد الله (ورسمت إشارة الصليب على صدرها) على أنني أحب ماما وأحبكم جميعا ... غير أن فيرا ... ولكن لماذا؟ ماذا عملت لها؟ إنني شديدة الاعتراف بجميلكم جميعا، حتى إنني على استعداد للتضحية بكل شيء من أجلكم، لكن ليس لدي شيء ...
وأرتج عليها، فأخفت وجهها من جديد بين راحتيها، وعادت إلى الفراش تلتجئ إليه، فراحت ناتاشا تعزيها أجمل عزاء، غير أن وجهها كان ساهما، ينبئ بأنها تفهم أحزان صديقتها على الوجه الصحيح.
هتفت فجأة، وكأنها اكتشفت سبب حزن ابنة عمها: سونيا! لقد تحدثت فيرا معك بعد الطعام، أليس كذلك؟ - نعم، إن هذه الأبيات كتبها نيكولا بيده، وقد نسخت بنفسي أبياتا أخرى، وقد وجدتها على طاولتي، فقالت إنها ستعطيها ل «ماما»، ثم قالت لي: إنني عاقة، وإن ماما لن توافق أبدا على زواجنا، وإنه سيتزوج جولي، ألم تري أنه كان يغازلها طيلة النهار؟ ناتاشا، لم تعذبني على هذا الشكل؟
وعاد إليها البكاء على أشده، فأنهضتها ناتاشا، وأحاطتها بذراعها، وهي تبتسم خلال دموعها، وراحت تعمل على تهدئة خاطرها: لا تصدقيها يا عزيزتي سونيا، لا تصدقيها، تذكري حديثنا مع نيكولا في المخدع. هل تذكرين، ذات مساء بعد العشاء؟ لقد قررنا آنذاك كيف ينبغي أن نتصرف في الأمر ليتحقق لنا المستقبل المنشود، لقد نسيت التفاصيل، لكن كل شيء سيسير وفق ما اتفقنا عليه، أتذكرين؟ إن أخا العم شينشين قد تزوج ابنة عمه لأبيه. ونحن، إننا جميعا تابعون لهذا التسلسل العائلي. إن بوريس يقول إن كل شيء سهل ميسور. لقد حدثته بكل شيء كما تعلمين. إنه لطيف جدا وذكي جدا. هيا يا سونيا، لا تبكي يا عزيزتي، يا حبيبتي (وعانقتها وهي تضحك) إن فيرا خبيثة، فلا تصغي إليها، لن تقول: شيئا ل «ماما»، وسوف نسوي كل شيء، إن نيكولا هو الذي سيتحدث إلى ماما، تأكدي من ذلك، ولا تفكري قط في جولي.
وقبلت جبينها، فنهضت سونيا، وعادت الحياة إلى القطة الصغيرة، فالتمعت عيناها، وبدت على أهبة للقفز على أرجلها المرنة، وللعب بكرة الصوف، والبصبصة بذيلها، وبكلمة موجزة، بدت القطة الصغيرة مستعدة للعودة إلى طبيعتها المرحة.
قالت سونيا، وهي تسوي ما فسد من زينتها وشعرها بسرعة: أتعتقدين ذلك؟ حقا؟ كلام شرف؟
فأكدت ناتاشا قائلة، وهي تسوي خصلة من الشعر أفلتت من ضفيرة ابنة عمها: كلام شرف!
وراحتا تضحكان بمرح. - والآن، هيا بنا نغني «النبع». - هيا بنا.
لكن ناتاشا توقفت فجأة، وقالت: أتعرفين، إن هذا الضخم بيير، الذي كان جالسا قبالتي على المائدة، يبدو غريبا مضحكا، إنني أتسلى بالنظر إليه!
وراحت تجري في الممشى، واندفعت سونيا على آثارها بعد أن نزعت الزغب العالق بثوبها، وأودعت في صدرها الضامر الهزيل الورقة الحاوية على الأبيات الشعرية، تبعت ناتاشا نشيطة، خفيفة الحركة، فلحقت بها قبل أن تغادر الممشى.
غنى الشبان والشابات الأربعة أغنية «النبع»، بناء على طلب المدعوين، فصفقوا لهم طويلا، ثم غنى نيكولا وحده قصيدة كان قد تعلمها حديثا:
عندما يلمع القمر في السماء الصافية،
يفكر العاشق الحزين بقلق،
لا بد من وجود مخلوقة على الأرض،
يستجيب قلبها لنداء أشواقي،
وعلى أرغنها المرتعش
تمرر أصابعها المرتعدة،
وتدعوني بحب مدنف
وهي مستعدة لاستجابة رغباتي الملتهبة،
وبعد انتظار يوم أو اثنين
سيفتح النعيم أبوابه ...
أسفا! إن أملك خائب،
وصديقك المسكين لن يكون بعد في الوجود!
لم يكن قد انتهى من أغنيته بعد، حتى كان الشبان في القاعة الكبرى يتأهبون للرقص، وكان أعضاء الفرقة الموسيقية يضبطون الإيقاع بأقدامهم؛ استعدادا للشروع في العزف.
خلال ذلك، كان شينشين في البهو داخلا مع بيير في بحث سياسي عميق، أضحى بعد ذلك بحثا عاما، كان شينشين يرغب في استطلاع رأي شاب ناشئ تثقف خارج البلاد وعاد إليها بمعلومات جديدة، وكان بيير متضايقا في مجلسه، يتوق إلى التخلص من ذلك الجو المقبض، وما إن عزفت الموسيقى المقاطع الأولى، حتى دخلت ناتاشا واتجهت نحوه مباشرة.
قالت الفتاة ضاحكة: لقد أوعزت إلي أمي أن أستبقيك للرقص.
فنهض بيير، وقد تضرج وجهه حتى حاكى حمرة وجهها، وأجاب : إنني أخشى أن أفسد الحركات الراقصة، لكنني أقبل إذا وافقت على أن تكوني أستاذتي.
واضطر إلى الانحناء؛ ليستطيع إعطاء ذراعه القوية إلى الفتاة النحيلة الصغيرة.
استمر بيير يرافق فارسته طيلة الوقت الذي لبثت الفرقة الموسيقية تعزف خلاله، وكانت ناتاشا تكاد أن تطير فرحا؛ لأنها كانت تراقص «شابا حقيقيا» عاد منذ قليل وقت من «الخارج»، فكانت تحاكيه في حركاته، وترافقه على مرأى من الموجودين، وكأنها سيدة كبيرة! ولما أعطتها إحدى الآنسات مروحتها على سبيل الإعارة راحت تستعملها وفق أحدث الأساليب الاجتماعية الراقية - دون أن يعرف أين ومتى تعلمت تلك الأساليب - وهي تبسم لبيير من ورائها، وتتحدث معه على أحسن ما يكون الحديث من الجد.
وصدف أن كانت الكونتيس روستوف تجتاز القاعة في تلك اللحظة، فقالت تشير إلى ابنتها: ولكن ما هذا؟ انظروا إلى هذه!
فأجابت الفتاة، وقد تصعد الدم إلى وجهها: ثم ماذا يا أماه؟ لم تسخرين مني؟ أية غرابة تجدينها في مظهري؟
وعندما عزفت الموسيقى رقصة الأيقوسية الثالثة، ارتفع من المكتب - حيث كان الكونت يلعب الورق مع ماري دميترييفنا - ضجيج مقاعد وجلبة خطوات؛ إذ نهض الأشخاص المسنون ومعظم المدعوين من ذوي الحيثيات الذين شعروا بحاجتهم إلى الحركة وترويض أطرافهم، فأودعوا في جيوبهم نقودهم وحافظاتهم واتجهوا نحو قاعة الرقص على شكل رتل؛ كل فارس يرافق مراقصته، فجاء الكونت مع ماري دميترييفنا في الطليعة، وهما على أحسن مزاج، ثنى الكونت ذراعه وقدمها بأدب جم إلى مراقصته، ونصب قامته واتخذ طابع المرح متصابيا، ولما انتهت الحركة التصويرية الأخيرة من تلك الرقصة، صفق بيده وهتف مشيرا إلى السدة، محدثا عازف الكمان الأول: هل تعرف «دانيللو كوبر» يا سيميون؟
والدانيللو كوبر هي إحدى الحركات التصويرية لرقصة إنجليزية، كان الكونت في شبابه يتعشقها ويميل إلى رقصها دائما، وقد امتازت هذه الرقصة بسرعة الحركة، ووجوب استعمال الخفة في التنقل، هتفت ناتاشا وهي تطلق ضحكة مدوية امتلأت القاعة بصداها، وتنحني فيلامس رأسها المتوج بالشعر الجميل ركبتيها: انظر إلى بابا!
نسيت تماما وهي في سياق مرحها أنها تراقص «شابا حقيقيا».
والحقيقة أن كل الحاضرين، راحوا ينظرون إلى ذلك العجوز المرح، الذي كان إلى جانب مراقصته الضخمة، التي تفوقه طولا، ويبرز رأسها اعتبارا من العنق فوق هامته، يكور ذراعيه، ويضبط الإيقاع، فيهز كتفيه، ويقرع الأرض بقدمه، وعلى شفتيه ابتسامة مرحة تضفي على وجهه بهجة ومرحا، ملفتا انتباه الحشد المتفرج إلى المشهد الممتاز الذي هو في سبيل عرضه عليهم، فلما صدحت الموسيقى بمطلع الرقصة الرشيقة، فتحت الأبواب كلها، وأطلت منها وجوه مشرقة باسمة تتطلع بانتباه ولذة إلى ذينك الراقصين، فكان الخدم والرجال من جهة، والنساء من جهة أخرى، يراقبون جميعهم الكونت وهو يعود إلى أيام الصبا.
هتفت المربية الواقفة قرب أحد الأبواب: آه، إن سيدنا نسر حقيقي!
كان الكونت يرقص برشاقة تثير الإعجاب، وكان يعرف ذلك عن نفسه، أما الفارسة فكانت على عكس ذلك، سيئة الحركة، تفسد الرقصة دون أن تبالي بأخطائها، فكانت جثتها الضخمة الهائلة منتصبة ثابتة في مكانها، وذراعاها الهائلتان منسدلتين بلا حراك إلى جانبيها بعد أن تخلصت إحداهما من الحقيبة الضخمة، التي ما فتئت تلازمها، بإعطائها إلى الكونتيس، ولم يكن إلا وجهها القاسي، الذي يمتاز بجماله، يتابع الرقصة بالبشر المنتشر على قسماته، فكانت ابتسامتها متسعة تكاد تشمل الوجه كله، ورأسها مرتفع إلى الوراء باعتداد متشامخ، أما الكونت، فكان على العكس، يرقص بكل جسده الممتلئ، لكنه على الرغم من أن كل حركة من حركاته الرشيقة وخطواته المتزنة البديعة كانت تثير إعجاب المتفرجين، فإن أقل حركة أو اهتزاز من كتفي ماري دميترييفنا أو قدميها، كانت تحدث تأثيرا مماثلا في نفوس المتفرجين، الذين كانوا سعداء لرؤيتها في ذلك الوضع؛ تسخر جثتها الضخمة، وتتساهل رغم صلابتها المعروفة، وكانت الرقصة تزداد حيوية ونشاطا، حتى إن الراقصين الآخرين ما كانوا يستطيعون اجتذاب انتباه أحد، وعلى الرغم من أن الكونت وماري دميترييفنا كانا محط أنظار الجميع، فإن ناتاشا كانت تتهافت على المدعوين واحدا تلو الآخر، فتجذب هذا من كمه وتلك من ثوبها، لتنبههم إلى «البابا» وهو على حاله تلك، وكان الكونت خلال فترات من الراحة يتنفس بصعوبة، ويوحي للعازفين سواء بالإشارة أم بالقول أن يضاعفوا سرعة العزف؛ الأمر الذي كان يزيده نشاطا ومرونة واندفاعا، فيدور تارة على رأسي قدميه، وطورا على كعبيه حول الراقصة البدينة. وأخيرا، وبعد أن قادها إلى مجلسها، قام بالحركة الأخيرة؛ بأن رفع ساقه المرنة إلى الوراء، معتمدا على ساقه الأخرى، وانحنى حتى أصبح جسمه زاوية قائمة على ساقه، ورسم بيده اليمنى دائرة متسعة انتزعت عاصفة من التصفيق والضحكات التي كان صوت ناتاشا واندفاعها يبرزان خلالها. وكان الراقصان المجدان على آخر رمق، فتوقفا وراحا يجففان أيديهما ووجهيهما بمناديلهما الفاخرة.
قال الكونت: كذلك كنا نرقص من قبل يا عزيزتي.
فأجابت ماري دميترييفنا، بعد أن استجمعت أنفاسها بصعوبة وراحت تحسر الكمين عن ذراعيها: ذلك هو ما يسمونه «دانيللو كوبر».
الفصل الحادي والعشرون
المؤامرة
وبينما كان المدعوون يرقصون «الإنجليزية» السادسة في منزل آل روستوف، وقد راح الموسيقيون يخطئون في الإيقاع لشدة التعب، والخدم والطهاة يهيئون العشاء، أصيب الكونت بيزوخوف بنوبته السادسة، أعلن الأطباء أن الأمل الأخير قد ضاع، لذلك فقد لجئوا إلى أخذ اعتراف المريض «ومناولته» وهو فاقد الوعي، وراحت الاستعدادات للمرحلة الأخيرة تتخذ، وسط الطقوس الدينية المرعية، وسادت الفوضى الطبيعية في مثل هذه الظروف الفندق كله، وهرع متعهدو الدفن إلى الأبواب لاصطياد ذلك الصيد الثمين، فراحوا يحاصرون مداخل الفندق، ويختفون كلما وصلت عربة بعض السادة أمام الباب، وجاء حاكم موسكو العسكري بنفسه يودع صفي كاترين الثانية العتيد الوداع الأخير، بعد أن أقام مساعديه وحجابه في الفندق؛ ليطلعوه أولا فأول على أخبار المريض وتطوراته.
كانت قاعة الاستقبال الفخمة تعج بالناس، فلما خرج الحاكم العسكري من غرفة المريض، بعد أن مكث مختليا به نصف ساعة، نهض الموجودون في قاعة الاستقبال منطلقين، لكن الحاكم مر بين المحتشدين متحاشيا الرد على تحياتهم، وعلى أسئلة الأقارب والأطباء ورجال الدين، وكان الأمير بازيل، الذي نحل وشحب خلال الأيام الأخيرة، يرافق الحاكم ويهمس في أذنه من حين إلى آخر بكلمات معينة، ولما ودع الحاكم بعد أن شيعه إلى الباب، عاد الأمير يجلس وحيدا في البهو، وقد وضع ساقا فوق ساق، وأسند مرفقيه إلى ركبتيه، وأخذ رأسه بين يديه، ولم تمض برهة حتى نهض، وسار بخطوات عصبية لم يسبق أن ظهرت في مشيته من قبل، وهو يلقي حوله نظرات قلقة، فقطع الممشى الذي يفصل بين أجنحة المسكن وغرفه الداخلية، ومضى إلى مخدع كبرى الأميرات.
خلال ذلك كان الزوار يتحدثون بأصوات خافتة في القاعة الكبرى، التي كان يضيئها نور خفيف، ومن حين إلى آخر، كان الباب المؤدي إلى غرفة المحتضر يحدث صريرا خافتا، كلما فتح ليخرج منه بعضهم، فتعود الآراء إلى الاحتدام، وترتفع الأبصار إلى وجه الخارج بقلق واكتئاب.
قال عجوز يرتدي ثياب رجال الدين، يخاطب سيدة بجانبه جلست تصغي إليه ببراءة وسذاجة: إن لكل مخلوق أجلا، لا يستطيع تجاوزه.
فسألت السيدة، وهي تضفي على أقوالها صبغة كنائسية: ألم يفت الوقت بعد لتلقينه الصلوات الأخيرة؟
ولما كان يبدو على وجهها جهلها التام بما تقول، أجاب رجل الكنيسة مغتما وهو يمر بيده على رأسه الأصلع، الذي ما زالت خصلات من الشعر مبعثرة في أطرافه: يا سيدتي العزيزة، إنه طقس ديني كبير.
وفي الطرف الأقصى من الغرفة، ارتفعت أصوات تقول: من هو هذا؟ الحاكم العسكري؟ إنه يبدو شابا! - بل إنه تخطى الستين. يقال إن الكونت فقد القدرة على التعرف على الأشخاص، سوف يلقنونه الصلوات الأخيرة. - إنني أعرف واحدا لقن سبع مرات وعاش بعدها.
خرجت ثانية الأميرات من غرفة المحتضر، وراحت تجلس قرب الطبيب لوران، الذي كان متكئا على نضد في جلسة مريحة، تحت صورة كاترين الثانية.
أجاب على سؤال يدور حول الطقس طرحته الأميرة عليه: جميل جدا يا أميرة، جميل جدا، إن القاطن في موسكو يعتقد أنه يعيش في الأرياف. - أليس كذلك؟ هل نستطيع أن نعطيه ما يشرب؟
علت وجه لوران أمارات التفكير، سألها: هل أخذ جرعة الدواء؟ - نعم.
نظر لوران إلى ساعته وقال: خذي قدحا من الماء المغلي، وأضيفي إليه قليلا من المسحوق الذي أعطيته لك.
وأشفع قوله بحركة من إبهامه وسبابته، ليشير إلى الكمية الضئيلة التي يجب أن تضعها في قدح الماء.
قال طبيب ألماني لأحد المساعدين العسكريين: لم يسبق مثيل لهذه البادرة؛ إذ لم ينجح أحد بعد النوبة الثالثة قط.
فقال الضابط المساعد: لقد كان معنيا به عناية شديدة!
ثم أضاف هامسا: لمن ستئول ثرواته؟
فأجاب الألماني بلغته المحطمة الركيكة وهو يبتسم: لن ينقص الأدعياء والراغبون فيها.
شخصت عيون الاثنين إلى الباب الذي كان يصر من جديد، وتابعت الأبصار الأميرة، وهي تحمل للمريض الوصفة التي أشار بها لوران، فاقترب الألماني من زميله الشهير، وسأله بفرنسية تظهر فيها رطانة أجنبية مضحكة: هل يطول به الأمر حتى الغد؟
فزم لوران شفتيه، وراح يحرك سبابته أمام أنفه حركات سلبية، وقال بتؤدة: كلا، لن يتأخر أكثر من هذا المساء.
وأشفع رأيه الحاسم بابتسامة مهذبة مقنعة وابتعد.
كان الأمير بازيل يفتح الباب المؤدي إلى غرفة الأميرة، وكانت هناك شمعتان تحترقان أمام الصور المقدسة، فتعطيان ضوءا شاحبا خافتا، والمباخر والزهور تملأ الغرفة التي تتزاحم فيها الدواليب والمناضد والخزائن، وكان يرى من وراء ستر من القماش، أطراف سرير مرتفع ذي فراش من الريش، فلما فتح الباب نبح كلب صغير: آه، أهذا أنت يابن عمي؟
نهضت الأميرة وصقلت شعرها الذي جرت عادتها على ترجيله دون عقص ولا حزم، حتى وكأنه ملتصق بفروة رأسها التصاقا، سألته: ماذا هناك؟ لقد أخفتني.
فأجاب الأمير وهو يتهاوى على المقعد الذي بارحته الأميرة: لا شيء، لقد جئت لأتحدث معك بأمور مهمة يا كاتيش. رباه! إن الحرارة عندك خانقة! تعالي نجلس ونتحدث.
وكلمة كاتيش، هي التحريف لتصغير كاترين على الطريقة الفرنسية، وكاترين هو اسم الأميرة الكبرى.
قالت الأميرة وهي تجلس قبالة الأمير وعلى وجهها البارد برودة الصخر طابع من الجمود: لقد ظننت أن أمرا قد وقع. كنت أريد النوم قليلا يابن عمي، لكنني لن أستطيع. - حسنا، وماذا بعد يا عزيزتي؟
طرح الأمير ذلك السؤال بعد أن استجاب لحركته الغريزية، التي درج عليها كلما استغرق في التفكير العميق، فأخذ يد الأميرة، وأنزلها نحو الأرض ، وكانت عبارته «وماذا بعد يا عزيزتي؟» تحمل معاني كثيرة، كان كلاهما يفهمها دون حاجة إلى إعلانها وإظهارها.
راحت الأميرة تحدج الأمير بعينيها الكئيبتين، بنظرة خالية من المعاني والتعابير، وقد انتصب جذعها الأعجف، الذي يعوزه التناسق مع ساقيها القصيرتين، هزت برأسها، وألقت نظرة إلى الصور المقدسة، وزفرت.
وكانت تلك الحركة تعني: إما شدة الحزن، وإما الرغبة في راحة تستحقها، غير أن الأمير اعتبرها دلالة على التعب، فقال مواسيا: أتعتقدين بأن الحال ليست أليمة بالنسبة لي أيضا؟ إنني منهوك كحصان البريد، رغم ذلك، يجب أن أتحدث معك حديثا غاية في الخطورة والأهمية.
صمت الأمير بازيل، بينما أخذت وجنتاه تتشنجان دوريا تشنجات عصبية، تضفي على وجهه بشاعة ونفورا، لم يسبق للمجتمعات الراقية أن شهدت مثلها عليه. كانت في عينيه تعبيرات غير معهودة فيهما؛ إذ كان الخوف يتنازع فيهما مع الوقاحة والعتو، وكانت الأميرة تنظر بانتباه إلى الأمير بازيل، وهي تربت على رأس كلبها الصغير، الذي حملته على ركبتيها بيدين جافتين ناحلتين، بدا أنها لن تقطع الصمت ولو دام يوما كاملا؛ لذلك اضطر الأمير بازيل - بعد صراع داخلي مرير - إلى الشروع في الحديث والبدء به، قال: أصغي إلي يا أميرتي، وابنة عمي العزيزة كاترين سيميونوفنا، ينبغي للمرء أن يفكر في كل شيء في ظروف كهذه، ينبغي التفكير في المستقبل وفيكن. إنني أحبكن جميعا، كما أحب أبنائي، وأنت لا تجهلين ذلك.
لبثت الأميرة جامدة الوجه، تتأمله بنظرتها القاتمة، بينما أردف الأمير دون أن ينظر إلى وجهها، بعد أن دفع نضدا صغيرا بحركة عصبية: وأخيرا ينبغي أن أفكر في أسرتي، إنك تعرفين يا كاتيش أنك أنت وأختيك وزوجتي الوريثات الوحيدات المباشرات لثروة الكونت، إنني أعرف أنه يصعب عليك البحث في كل هذا، ويؤلمك مجرد التفكير فيه، إن ذلك هو شعوري كذلك، غير أنني يا صديقتي أقترب من الستين، ويجب أن أكون مستعدا لكل شيء، هل تعرفين أنني أرسلت في طلب بيير؟ لقد أصر الكونت على إحضاره وهو يشير إلى صورته.
راح الكونت يستفسرها بعينيه دون أن يستطيع التأكد من أنها تفكر فعلا فيما قاله لها، أم أنها تنظر إليه نظرة مجردة.
قالت تجيبه: إنني لا أطلب إلى الله يابن عمي إلا أمرا واحدا؛ وهو أن يشفق عليه، ويمنح روحه الطاهرة سلامة التحرر من ...
فقال الأمير فاقد الصبر - وهو يمر بيده على رأسه الأصلع، ويعيد النضد بانفعال إلى مكانه الأول: نعم بلا شك، ولكن ... ولكن، إنك لا تجهلين أن الكونت حرر وصية في الشتاء الأخير، جعل بيير بموجبها الوريث الوحيد لكل ثرواته وأملاكه، حارما كل الورثة المباشرين الآخرين.
فقالت الأميرة ببرود: وصايا، لقد حرر أكثر من وصية! لكنه ما استطاع إقامة بيير وريثا شرعيا، إن بيير ولد طبيعي!
جذب الأمير بازيل النضد إليه، وضغطه على صدره بشدة، وراح يتحدث باندفاع وسرعة، قال: ما رأيك يا عزيزتي، إذا كان قد حرر ملتمسا إلى الإمبراطور؟ إن إقامة شرعية بنوة بيير ستمنح له - ولا شك - نظرا لخدماته الجليلة السابقة للعرش!
ابتسمت الأميرة ابتسامة الذي يعرف أكثر مما يظن المتحدثون، بينما استطرد الأمير وهو يمسك بيدها قائلا: إنني محدثك بأكثر من ذلك؛ لقد حصل على تأييد جهات مسئولة متعددة على ملتمسه، لكنه لم يرسله بعد إلى الإمبراطور، غير أن جلالته أعلم بسير الأمور وبرغبة الكونت، والأمر الآن متوقف على معرفة مصير ذلك الملتمس، وهل أبلغ إلى الإمبراطور أم أتلف؟ فإذا لم يكن قد أتلف بعد، وقضي الأمر (وزفر زفرة ليصبغ على عبارة «قضي الأمر» المعنى الذي يهدف إليه) واطلعوا على وصية الكونت وملتمسه بين أوراقه، فإن رسالته سترفع إلى الإمبراطور حتما، وسينظر جلالته في طلب الكونت بعين الاعتبار، ويؤيد شرعية انتساب بيير إلى الكونت، فيصبح - عندئذ - الوريث الأوحد.
سألت الأميرة التي كانت ضحكتها تنبئ بأنها تصدق كل شيء إلا هذا: والقسم الذي يعود إلينا؟ - ولكن يا «كاتيشتي» المسكينة، إن ذلك واضح وضح النهار، إنه سيصبح الوريث الشرعي، فلا يمكن أن تنالي شيئا، فابحثي إذن عما إذا كانت الوصية والرسالة قد كتبتا، وإذا كانتا قد أتلفتا أم لا. فإذا كانتا منسيتين في مكان ما، لسبب من الأسباب، فيجب اكتشاف مكانهما مهما كلف الأمر؛ لأن ...
فقاطعته الأميرة بابتسامة ساخرة، دون أن تتبدل نظرتها الجامدة، وصاحت: هراء! إنني امرأة وأنت تعتقد أن كل النساء سخيفات، مع ذلك، فإن لي من العقل ما يكفي لإقناعي بأن الابن غير الشرعي لا يمكن أن يرث. إنه ابن سفاح.
أرادت بهذه الكلمة أن تبين للأمير حقيقة بيير، لتثبت له فساد نظريته، غير أن الأمير لم يقتنع، قال يناقشها: ولكن يا كاتيش، كيف لا تفهمين - رغم ذكائك المتقد - أن الكونت إذا منح إذنا يسمح له باعتبار بيير ابنا شرعيا له، فإن هذا يصبح على الفور كونت بيزوخوف، والوريث الأوحد؟! فإذا كانت الوصية والرسالة سليمتين لم تتلفا، فلن يبقى لك إلا أن تعزي نفسك بأنك قمت بواجبك حيال الكونت قبل وفاته، إلى آخر ما هنالك، إن ذلك واضح.
قالت الأميرة بتلك اللهجة التي تعمد إليها النساء عندما يتعمدن إبراز شيء يعتقدن أن فيه ما يشير إلى الذكاء المفرط أو يتعمدن تجريح الشخص المخاطب به: إنني أعرف أنه حرر وصية، لكني أعرف كذلك أن تلك الوصية لا قيمة لها، فهل تعتقد أنني حمقاء يابن عمي؟
استطرد الأمير بلهجة منكدة: يا عزيزتي كاترين سيميونوفنا المحبوبة، إذا كنت قد جئت للقائك، فإنني لم أهدف إلى مبارزتك بالفكر والدهاء والخدع، بل لأتحدث إليك عن مصالحك كما يتحدث المرء مع إحدى قريباته، مع قريبة حقيقية طيبة ممتازة، إنني أكرر لك للمرة العاشرة يا عزيزتي، أنه إذا كان الملتمس الموجه للإمبراطور، ووصية الكونت لصالح بيير، موجودين بين أوراقه، فإنك لا أنت ولا شقيقاتك يمكنكن أن تعتمدن على الإرث، وإذا كنت لا تصدقينني، يمكنك السؤال من الأشخاص المختصين المسئولين، لقد تحدثت منذ حين إلى ديمتري أونوويئيتش - وهو محامي الكونت - وقد أيد رأيي بكليته.
ولعل أفكار الأميرة اتجهت فجأة وجهة جديدة؛ إذ امتقعت شفتاها الرقيقتان، رغم تلك النظرة الثابتة التي لم تبارح عينيها الشاخصتين، فلما تحدثت، كان لصوتها وقع أدهشها - قبل غيرها - ما اعتراه من تأثر.
قالت: سيكون الأمر على خير ما يرام، إنني لم أحلم بشيء، ولا أحلم قط بشيء.
ثم أبعدت الكلب الصغير من حجرها، وراحت تسوي ثنيات ثوبها. أردفت: هذه هي إذن مكافأته لأولئك الذي ضحوا بكل شيء من أجله، لا بأس، إن هذا رائع، لست في حاجة إلى شيء يا أمير.
فاعترض الأمير بازيل على قولها، دون أن تتنازل بالإصغاء إليه: لكنك لست وحيدة؛ هناك أخواتك. - كان ينبغي أن أعرف من قبل أنني لن أحصد في هذا البيت إلا الدناءة والحسد والرياء والشغب والعقوق، نعم، أسوأ أنواع العقوق.
سألها الأمير وقد عادت التشنجات العصبية إلى وجنتيه، أقوى من المرة السابقة: هل تعرفين مكان الوصية؟ - آه، كم كنت حمقاء! يا لها من حماقة أن يستسلم المرء للناس، ويحبهم ويضحي بنفسه من أجلهم! إن النفوس الدنيئة وحدها هي التي تنجح في هذه الحياة، إنني أعرف مصدر هذه المزعجات.
أرادت أن تنهض، غير أن الأمير استبقاها، فألقت عليه نظرة غضبى، وبدا على وجهها أنها تخلت عن كل حسن ظنها في الجنس البشري. - لم نخسر شيئا بعد، يا صديقتي، إنك تذكرين يا كاتيش، أن كل ذلك وقع على حين غرة، في لحظة من لحظات الغضب، وتحت تأثير المرض، ثم أهمل كل شيء ونسي، وواجبنا يا عزيزتي هو تصحيح هذه الخطيئة، وتخفيف عذاب ساعته الأخيرة، بأن نسمح له بإبطال هذه الظلامة، وألا ندعه يموت وهو يفكر في أنه تسبب في آلام الناس وتعاستهم ...
فأعقبت كاتيش متممة حديثه: الناس الذين ضحوا بكل شيء من أجله.
وحاولت النهوض من جديد، فعاد الأمير يستوقفها مرة أخرى، أردفت وهي تزفر متلوعة: وهذا هو الأمر الذي لم يقدره حق قدره قط.
ثم أضافت: حسنا يابن عمي، إن هذا يعلمني بأنه ليس في هذا العالم مجال لانتظار المكافآت، بعد أن حرم العالم من الشرف والعدل، إن هذا العالم الدنيء ملك للأوباش والخبثاء. - هيا هدئي روعك، إنني أعرف قلبك الطيب. - آه، كلا، إنني لست طيبة!
كرر الأمير: إنني أعرف قلبك الطيب، وأقدر صداقتك، وأرجو أن تبادليني هذا الشعور الطيب ، اهدئي ولنتحدث بتعقل، طالما أن الوقت لم يدركنا بعد؛ إذ لعل أمامنا يوما كاملا وقد تكون ساعة واحدة، حدثيني بكل ما تعرفينه عن الوصية، اذكري لي أين هي؛ إذ ينبغي أن تكوني على علم بذلك، سوف نطلع الكونت عليها، لعله يكون قد نسيها، فيبدي رغبة في إتلافها، اعلمي جيدا أن رغبتي الصحيحة هي تنفيذ إرادته بكل أمانة وإخلاص، ومن أجل ذلك جئت إلى هنا؛ لقد أتيت لأساعدك وأساعده معا. - إنني أفهم كل شيء الآن، إنني أرى الجهة التي تسببت بكل هذه المضايقات، نعم إنني أرى بوضوح. - لكن الأمر لا يتعلق بذلك يا عزيزتي. - إنها محميتك، عزيزتك الأميرة دروبتسكوي، تلك المخلوقة اللعينة، تلك المرأة الذرية التي لا أرتضي بمثلها وصيفة لي. - إننا نضيع الوقت عبثا. - آه، دعك من هذا، لقد تسللت إلى هنا في الشتاء المنصرم، وروت للكونت عنا جميعنا أكاذيب مروعة - وبصورة خاصة عن صوفي، حتى إنني أخجل من إعادة أقوالها - فنجم عن ذلك أنه رفض رؤيتنا خلال مرضه، ولبث يبعدنا عنه خمسة عشر يوما، إنني واثقة من أنه كتب تلك الوصية البغيضة الجائرة في تلك اللحظة، ولقد ظننت بكل سخف أنها لا قيمة لها! - ها قد وصلنا إلى النقطة الهامة، لم لم تحدثيني بهذا الأمر من قبل؟ - إن الوصية في حافظة أوراق جلدية، مع تعليمات أخرى، والحافظة موضوعة تحت وسادته.
وأعقبت الأميرة متغاضية عن الرد على سؤال الأمير: إنني الآن أرى الأمر بوضوح.
ثم صرخت محنقة، وقد خرجت عن طورها: إنني إذا كنت أعترف بخطيئة أحمل وزرها، فإن خطيئتي الوحيدة ستكون الحقد الذي أحمله لتلك الحقيرة، ماذا تفعل هنا؟ لم تدخل إلى هذا المكان؟ إنني أسألك! ولكن صبرا، سوف أقول لها رأيي فيها، ولن أتحدث بصوت خفيض!
الفصل الثاني والعشرون
آنا ميخائيلوفنا
بينما كانت تلك الأحاديث تدور، والمؤامرات تحاك في قاعة الاستقبال وغرفة الأميرة في فندق الكونت بيزوخوف، كانت عربة بيير التي أرسلت لنقله تقله وبصحبته آنا ميخائيلوفنا، التي قررت مرافقته، واعتبرت ذهابها معه ذا منفعة لها، دخلت العربة فناء الفندق، ومرت على الطريق المفروش بالتبن، فخفت ضجيج عجلاتها، ولاحظت آنا ميخائيلوفنا أن رفيقها الذي كانت تتوجه إليه بعبارات التعزية نائم في زاويته، فأيقظته وترجلت من العربة بصحبته، ولما صحا بيير واستعاد حواسه، راح يفكر للمرة الأولى في المقابلة التي ستتم بينه وبين المحتضر.
لاحظ أن العربة وقفت أمام سلم الخدم بدلا من وقوفها أمام المدخل العام، ولما ترجل منها بدوره، لاحظ أن رجلين في ثياب مدنية اختفيا مسرعين في ظلال الجدار، فتوقف لحظة، أتاحت له أن يرى عددا آخر من الرجال، مختبئين في فراغات الأبواب وخلف الأعمدة، غير أنه لم يعرهم التفاتا أو انتباها، أسوة برفيقته آنا ميخائيلوفنا وبالخادم المرافق، وشعر الرجال المختفون كذلك بلامبالاة القادمين، فسهل ذلك مهمتهم إلى حد كبير، تبع بيير رفيقته التي كانت ترتقي بمرونة السلم الحجري الضيق، الذي ينيره نور خافت، وهي تحثه على الإسراع باللحاق بها، وعلى الرغم من أن بيير لم يفهم السبب الذي من أجله كان يذهب لمقابلة المحتضر، ولا الداعي لدخوله عن طريق سلم الخدم، فإنه قدر أن لهفة آنا ميخائيلوفنا وثباتها كانا كافيين لكي «يكون الأمر ضروريا»، ولما بلغ منتصف السلم، كاد أن يسقط متدحرجا إلى الأسفل، لاصطدامه بأشخاص يحملون دلاء، كانوا ينزلون السلالم بضجيج وصخب، تحدثهما أحذيتهم العالية، التصق هؤلاء بالجدار ليسمحوا له ولرفيقته بالمرور، دون أن تعبر وجوههم عن أية دهشة، لالتقائهم بالسادة على سلم الخدم.
سألت آنا ميخائيلوفنا أحدهم: هل يقود هذا السلم إلى شقة الأميرات؟
فأجاب الخادم بصوت مرتفع ولهجة قوية، وكأن المحاذير التي كانت تضطره إلى خفض صوته قد انعدمت: نعم. إن الباب الأيسر يقود إلى جناح الأميرات يا سيدتي الطيبة.
ولما وصلا إلى البسطة، قال بيير متسائلا: لعل الكونت لم يستدعني، ماذا لو قصدت إلى غرفتي توا؟
توقفت آنا ميخائيلوفنا لتسمح لبيير باللحاق بها، وقالت وهي تلمس ذراعه كما فعلت منذ ساعات مع ابنها: أواه، يا صديقي! ثق أنني أتألم مثلك، ولكن كن رجلا.
فقال بيير وهو ينظر إليها بوداعة خلال نظارتيه : الحقيقة أنني أحسن صنعا بالذهاب إلى غرفتي والانسحاب فورا. - آه يا صديقي! انس الإساءات التي وقعت لك حتى الآن، واذكر أنه أبوك. ولعله في النزع (وأطلقت زفرة) لقد أحببتك لفوري كما أحب ابني، فثق بي يا بيير، ولن أنسى مصالحك.
لم يفقه بيير شيئا من مرميات حديثها، غير أنه ازداد قناعة بأن الأمر «ينبغي أن يكون كذلك»، تبعها بدعة، وكانت قد شرعت تفتح الباب.
كان الباب يؤدي إلى ردهة، وقف في إحدى زواياها خادم الأميرات العجوز، ينسج جوربا من الصوف، لم يكن بيير قد دخل من قبل هذا الجزء من الفندق، أو فكر في وجوده، وظهرت وصيفة تحمل زجاجة ماء على طبق، فتقدمت آنا ميخائيلوفنا منها، وسألتها عن غايتها، وهي تكرر عبارات «أيتها الطيبة» و«عزيزتي»، استفسرت عن صحة سيداتها، ثم قادت بيير عبر ممشى مرصوف بالبلاط، كان الباب الأيسر فيه يؤدي إلى غرف الأميرات، وكانت الوصيفة في عجلتها - والعجلة كانت على أشدها ذلك اليوم في الفندق - قد نسيت إغلاق ذلك الباب عندما خرجت منه؛ مما أتاح لبيير ولآنا ميخائيلوفنا أن يلقيا نظرة عادية لا إرادية إلى الغرفة ومحتوياتها، شاهدا الأمير بازيل يتحدث بصوت خافت وباهتمام بالغ مع كبرى الأميرات، فلما وقع بصرهما على القادمين، ألقى الأمير نفسه إلى الوراء بحركة تدل على نفاذ الصبر، بينما نهضت الأميرة فجأة، وصفقت الباب بقوة وشراسة وغضب.
كانت تلك الحركة تنافي الهدوء الطبيعي، الذي كانت كاتيش تظهر عليه عادة، وكذلك كان رعب الأمير لا يتفق مع هدوئه وخطورة حركاته، حتى إن بيير شعر بالفارق الشاسع، فوقف يسائل رفيقته بنظره، أما آنا ميخائيلوفنا، فإنها لم تعرب عن أية دهشة، بل اجتاحت وجهها ابتسامة غامضة، كانت إلى جانب الزفرة الثائرة التي ندت عن صدرها، كل ما يشهد بأنها كانت تتوقع كل هذه الأمور.
قالت وهي تحث الخطى مسرعة: كن رجلا يا صديقي، سوف أسهر بنفسي على مصالحك.
لبث بيير لا يفقه من تلك المعضلة شيئا، كان يتساءل في سره: ماذا تريد أن تقول بعبارة «سأسهر على مصالحك»؟ ولما لم يجد جوابا اكتفى بالقول: «إن الأمر ينبغي أن يكون كذلك.»
قادهما الممشى إلى قاعة كبرى نصف مضاءة، تتصل بقاعة استقبال الكونت، كانت من تلك القاعات الفخمة الأنيقة الباردة التي يعرفها بيير حق المعرفة، والتي لم يكن قد دخل إليها إلا عن طريق السلم الكبير، وكان في وسط تلك القاعة مغطس فارغ، وكان الماء مسفوحا على قطع السجاد حوله، مرا، وهما في طريقهما يمشيان على رءوس أقدامهما، بخادم وشماس يحمل مبخرة، لكن هذين لم ينتبها إليهما، وأخيرا دخلا إلى قاعة الاستقبال التي يعرفها بيير تماما، والتي تمتاز بنافذتين على النمط الإيطالي، ومخرج يؤدي إلى الحديقة الشتوية، وكان تمثال نصفي لكاتيرين الثانية يجثم فوق قاعدة من الرخام، وصورة الكونت مسندة إلى قدمي الإمبراطورة الكبيرتين، وكان في القاعة جمع غفير من الناس يتحدثون بأصوات منخفضة، فلما دخلا توقف المتحدثون عن متابعة أحاديثهم، وصوبوا إليهما نظراتهم التي راحت تتصفح وجه تلك السيدة الشاحب المهدم بالدموع، وإلى جانبها ذلك الفتى الضخم الفارع الطول، الذي كان يتبعها بسكون وهو مطرق الرأس.
أزفت اللحظة الحاسمة، فشاعت قسمات آنا ميخائيلوفنا انعكاسات تنبئ بحلولها، دخلت دون أن تترك بيير، متظاهرة بمظهر السيدة رفيعة الشأن القادمة من بيترسبورج التي عركتها الأعمال، وتسلحت بنشاط جم لم تشعر بمثله من قبل، كانت في تلك اللحظة لا تخاف من لقاء أحد، خصوصا وأنها كانت تصطحب الشخص الذي طلب المحتضر رؤيته، ألقت نظرة عجلى على الحاضرين، فلما وقع بصرها على رجل الدين الذي درج الكونت على الاعتراف أمامه، اقتربت منه بخطى قصيرة متلاحقة دون أن تبالغ في الانحناء أو بالتظاهر بشديد التضاؤل أمام مركزه الروحي، فتقبلت بركاته على تلك الصورة المحترمة وبركة مرافقيه من رجال الدين، وقالت لهم: حمدا لله لأنكم جئتم في الوقت المناسب، إن كل الأسرة كانت تخاف أن يكون الوقت قد أصبح متأخرا.
ثم أضافت بصوت منخفض تقول: إن هذا الشاب ابن الكونت، يا لها من لحظات مروعة!
واقتربت بعد حين من لوران، وقالت له: عزيزي الطبيب ، إن هذا الشاب ابن الكونت. فهل هناك أمل؟
رفع النطاسي عينيه إلى السماء، وهز كتفيه، فكانت تلك الحركات أبلغ من كل جواب، حذت آنا ميخائيلوفنا حذوه فهزت كتفيها، ورفعت إلى السماء عينيها المغمضتين تقريبا، وبعد أن أطلقت زفرة، عادت تلحق ببيير لتقول له بحنان ممتزج بالحزن والامتثال: لتكن لك ثقة في رحمة الله.
وأشارت إلى أريكة رجته أن ينتظرها عليها، ومضت بسكون إلى الباب الذي كانت الأبصار كلها شاخصة إليه، ففتحته بحذر، وأغلقته وراءها.
قرر بيير أن يطيع زميلته في كل ما تريد؛ لذلك مضى إلى الأريكة التي أشارت إليها، واطمأن عليها، وما كادت آنا ميخائيلوفنا تخرج من غرفة المحتضر، حتى تعلقت الأبصار بها؛ أبصار متطفلة ومشفقة، ورأى بيير أن كل الموجودين يتهامسون بينهم، ويشيرون إليه بطرف العين في شيء من الفزع واللوم، شعر بهم يظهرون نحوه عناية لم يعهدها من قبل؛ فالسيدة المجهولة منه، التي كانت مع رجال الدين، نهضت لتقدم له مكانها، والضابط المساعد التقط قفازه الذي سقط من يده وقدمه إليه، والأطباء صمتوا عند اقترابه، وأفسحوا له الطريق باحترام. ود بيير بادئ الأمر أن يجلس في مكان آخر كي لا يزعج السيدة، وأراد أن يلتقط بنفسه قفازه، وتمنى لو تحاشى لقاء الأطباء الذين ما كانوا يعترضون سبيله، غير أنه شعر فجأة بشعور غامض يوحي بأن من اللباقة أن تمر تلك الليلة بسلام، وأن يقوم خلالها بالأدوار التي تفرضها الظروف عليه، والتي ينتظرها الجميع منه، ومن ثم أن يتقبل من جميع الموجودين هذرهم وتمنياتهم وتعزياتهم، وإذن فقد سمح للضابط أن يعيد إليه قفازه، وجلس في المكان الذي أخلته السيدة مباعدا بين يديه في جلسة بريئة تشبه وضع التماثيل المصرية، قرر في نفسه أن كل هذه الأمور ينبغي أن تمر على هذا الشكل، وأنه - تحاشيا لأي تصرف أخرق من ناحيته - ينبغي أن يتحاشى ذلك المساء كل ابتكار أو رغبة شخصية، وأن يقنع بإطاعة من يوجهونه إطاعة عمياء.
لم تمض دقيقتان حتى دخل الأمير بازيل مرفوع الرأس وعلى صدره ثلاثة أوسمة ذهبية، كان يبدو كأنه قد ازداد هزالا منذ حين، وكانت عيناه أكثر اتساعا من جري العادة، عندما راح يديرهما في القاعة ليعثر على بيير، فلما وقعت أبصاره عليه، اتجه نحوه مباشرة وأمسك بيده - وهو الأمر الذي لم يتعطف أبدا بعمله من قبل - وهزها بعنف، وكأنه يختبر درجة مقاومته، وقال له: تشجع يا صديقي، لقد طلب رؤيتك، وهذا أمر جيد.
ود الأمير بازيل أن يبتعد، غير أن بيير قدر أن من المناسب أن يطرح عليه سؤالا، فقال: كيف حال صحة ...؟
تردد قليلا وهو لا يدري هل يجدر به أن يقول «الكونت» أو يقول «أبي». - لقد أصيب بنوبة جديدة منذ نصف ساعة، نعم لقد أصيب بنوبة جديدة، فتشجع يا صديقي.
واستعمل الكونت كلمة «ضربة» للدلالة على النوبة، لذلك فقد ظل بيير فترة طويلة وهو يعتقد أن الأمير بازيل أراد بكلمته معناها الحقيقي، كان عقله شديد التشوش والاضطراب قاصرا في تلك اللحظة عن إدراك مرمى تلك الكلمة؛ لذلك فقد راح ينظر إلى الأمير بهلع حتى تبينت له أخيرا الغاية الحقيقية من تلك الكلمة، ومضى الأمير بازيل على أطراف قدميه - بعد أن تبادل كلمة مع الطبيب لوران - إلى غرفة المحتضر، وكانت تلك الطريقة الجديدة في المشي جديدة عليه، حتى إن كل جسمه راح يهتز تبعا لخطاه، وجاءت كبرى الأميرات فتبعته وفي أعقابها عدد من القساوسة والشمامسة ورجال الكونت، وتعالت ضجة وراء الباب، وفجأة خرجت آنا ميخائيلوفنا، وهي دائمة شحوب الوجه، تحمل تقاسيمها طابع الشعور بالواجب، فهرعت إلى بيير ولمست ذراعيه وهي تقول: إن الرحمة الإلهية لا تنفد ولا تنضب، ستقام الآن طقوس المسحة الأخيرة، فتعال.
خطا بيير بضع خطوات على السجادة السميكة المرنة، وبينما كان يجتاز الباب رأى الضابط المساعد، والسيدة المجهولة، وعددا من الخدم يتبعونه، وكأن الأمر أضحى في تلك اللحظة في غير حاجة للاستئذان.
الفصل الثالث والعشرون
اللقاء الأخير
كان بيير يعرف تماما تلك الغرفة الفسيحة التي تغطي أرضها قطع السجاد العجمي الفاخر، والتي قسمت إلى قسمين بقوس مرتكز على أعمدة ، كان نور أحمر قوي، نور كنسي، كذلك الذي ينبعث خلال صلاة المساء، يضيء أقصى الغرفة المؤثثة بسرير كبير من خشب «الأكاجو» «شجرة كابلي» ذي ستائر حريرية، وبخزانة كبيرة محاطة بالصور، وتحت «الأيقونات» التي كانت زينتها الثمينة تلتمع تحت الأنوار كانت هناك أريكة كبيرة من نمط «فولتير»، وقد غطي مسندها بالوسائد التي كانت أغلفتها النظيفة قد أبدلت منذ حين بأخرى جديدة، وعلى تلك الوسائد البيضاء كالثلج أسجي جثمان الكونت بيزوخوف، وقد لف حتى وسطه في غطاء أخضر نضير اللون، نظر بيير إلى ذلك الوجه النبيل، ذي الجبين العريض الذي تحيط به هالة متناسقة من الشعر الأبيض، وإلى تلك القسمات التي يعلوها الاصفرار المشوب بحمرة خفيفة، والتي حفرت فيها التجاعيد أخاديد عميقة واضحة.
كانت يدا الكونت القويتان مسدلتين على الغطاء، وراحتاهما إلى الأسفل، فركز بعضهم بين سبابته وإبهامه اليمنيين شمعة أسندها خادم عجوز انحنى فوق المقعد، بينما أحاط الكهنة بالمقعد، وهم يرتدون الألبسة المزينة، وكانت شعورهم تنسدل تحت تيجانهم المرصعة التي كانت على رءوسهم، راحوا يرتلون والشموع في أيديهم، ويطوفون ببطء ووقار، ووراء هذا الحفل، جلست الأميرتان، وفي يد كل منهما منديل تخفي به عينيها، بينما انتصبت أمامهما أختهما الكبرى كاتيش، وعلى وجهها أمارات العزم والخبث، وراحت تنظر بإمعان إلى الأيقونات، وكأنها تريد القول بأنها إذا أشاحت ببصرها عما تنظر إليه فإنها لا تستطيع أن تسأل عما يصدر عنها. لبثت آنا ميخائيلوفنا شديدة الوقار والرحمة والشفقة واقفة أمام الباب وإلى جانبها السيدة المجهولة.
ومن الجانب الآخر من ذلك الباب، وقف الأمير بازيل على مقربة من الأريكة وراء مقعد مزين بالنقوش المحفورة ومغطى بالقطيفة، وقد أدار مسنده إلى ناحيته وأسند يده اليسرى على المسند حاملة شمعة مضاءة، بينما كانت يمناه ترسم إشارة الصليب على صدره كلما رفع أبصاره إلى السماء، أو لمس جبينه بيده. كان وجهه ينبئ بخشوع هادئ، واستسلام لمشيئة الله، وكأنه كان يقول: «إذا كنتم لا تفقهون شيئا من هذه المشاعر فذلك شأنكم.» ووقف وراءه الضابط المساعد والأطباء والذكور من الخدم يتزاحمون. لقد انتحى الرجال والنساء جانبا آخر كما هو الحال في الكنيسة.
كان الحاضرون جميعا يرسمون شارات الصليب على صدورهم، فلا يسمع المرء إلا صلوات وطقوسا وترتيلا خافتا عميقا متناسقا، تعقبه بين فترة وفترة زفرات وحركات أقدام، أعربت آنا ميخائيلوفنا عن أنها تفهم وتعي ما تفعل، اجتازت الغرفة الفسيحة حتى بلغت موقف بيير فأعطته شمعة أشعلتها له وراح - مأخوذا بالملاحظات التي كان يلتقطها على وجوه الموجودين - يرسم بدوره على صدره إشارة الصليب مقتديا بالآخرين.
كانت الأميرة الشابة «صوفي» ذات الحسنة والخدين الورديين واللهجة الساخرة، تتأمل بيير وهي تبتسم وتخفي وجهها وراء منديلها، عادت بعد فترة طويلة ترفع بصرها إليه ثم تضحك من جديد، كان يبدو عليها أنها لا تستطيع الامتناع عن النظر إليه، ولا أن تنظر إليه دون أن تفقد وقارها؛ لذلك فقد تسللت من مكانها، واختبأت وراء أحد الأعمدة؛ لتحمي نفسها من الإغراء ومعاودة الكرة.
وبينما كان الطقس الديني في أوجه، توقف المرتلون فجأة، وراحوا يتهامسون، بينما التفت الخادم العجوز - الذي كان يسند يد الكونت - نحو السيدات ونهض واقفا، اقتربت آنا ميخائيلوفنا وانحنت فوق المحتضر، وأشارت بإصبعها من وراء ظهرها إلى لوران أن يقترب، كان الطبيب الفرنسي مستندا إلى أحد الأعمدة، يرقب الحفل الديني دون أن يحمل في يده شمعة شأن ذوي الأديان المختلفة الذين يقدرون - رغم اختلاف دينهم - قيمة ما يدور أمامهم من شعائر يؤيدونها بشعورهم الديني دون أن يؤمنوا بها. اقترب الطبيب بخطوات ثابتة ساكنة؛ خطوات الرجل الذي في مقتبل العمر، وانحنى على المريض فأخذ يده بين أصابعه البيضاء المعقدة، وراح يتحسس النبض بصمت وانتباه، أسقى المريض شرابا، ثم عاد كل إلى مكانه، وعاد القساوسة إلى إحياء طقسهم الديني، لاحظ بيير أن الأمير بازيل ترك مكانه خلال تلك الفترة، وبدلا من أن يتجه نحو المريض، مر من أمامه، واقترب من كبرى الأميرات، وبعدئذ توجه كلاهما إلى السرير الكبير الضخم ذي الستائر الحريرية الذي كان منتصبا في صدر القاعة، واختفى كلاهما وراء باب المضجع، ثم عاد كلاهما الواحد وراء الآخر حوالي نهاية الحفلة، ومضيا، كل إلى مكانه، وكان بيير مقتنعا بأن كل ما يدور أمامه ذلك المساء لا يمكن إلا أن يكون كذلك، ولهذا السبب لم يعلق على تلك الحركة وذلك التصرف أية أهمية تذكر.
توقف الترتيل الديني، واقترب أحد القساوسة من الكونت، وهو في استلقائه لا يفضح بادرة واحدة من بوادر الحياة، فهنأه بالقداس الذي أجري له، وتكأكأ الموجودون كلهم حول الكونت، وسمع بيير ضجيج الأقدام، وهمسات يطغى عليها صوت آنا ميخائيلوفنا وهي تقول: ينبغي نقله إلى سريره؛ إذ لا يمكن إجراء شيء وهو في مكانه هذا!
وأحاط الأطباء والأميرات والخدم بالمريض إحاطة كلية، حتى إن بيير لم يعد يرى رأسه الشاحب المضرج بحمرة خفيفة، المكلل بشعر أبيض؛ ذلك الرأس الذي ظل ينظر إليه طيلة الاحتفال الكنائسي، رغم أن نظرته كانت في كثير من الأحيان شاردة ساهمة، خمن من حركات الأشخاص حول الأريكة أنهم يحملون المحتضر؛ لنقله إلى سريره، وسمع صوت أحد الخدم يغمغم: امسك بذراعي، سوف تدعه يسقط ...
وأصواتا أخرى تقول: من الأسفل ... واحد آخر ...
وارتفعت أصوات الخطى واللهثات، وكأن الحمل كان أثقل من طاقة الحمالين.
مر حاملو الجسد ومن بينهم آنا ميخائيلوفنا أمام بيير الذي استطاع أن يلقي نظرة خاطفة من فوق الأعناق، فرأى هالة الشعر الأبيض المجعد الذي يحيط برأس الكونت، وكتفيه القويتين العريضتين، وصدره المتسع الممتلئ وهم يحملونه من تحت إبطيه، كأن دنو الموت لم يبدل شيئا من ذلك الرأس المتناسق الجميل الأجبه ذي الخدين الممتلئين، والفم الحساس الجميل، والنظرة الباردة المتعالية، كان ذلك الرأس لا يختلف أبدا عن الذي رآه بيير منذ نيف وثلاثة أشهر، عندما غادر موسكو إلى بيترسبورج مع فارق واحد، وهو أنه كان في تلك اللحظة يهتز وفق خطوات حامليه، وكانت نظرته الحائرة الشاردة لا تعرف أين تتوقف.
تعالى ضجيج خلال دقائق حول السرير، ثم ابتعد الناس، بينما جاءت آنا ميخائيلوفنا تلمس ذراع بيير، وتقول له: «تعال»، فتبعها حتى السرير، حيث أجلس المريض عليه بشكل أدعى للاحترام والوقار، شكل يتناسب والطقس الديني الذي أجري له منذ حين، وكان عدد من الوسائد قد رصت وراءه لتجعل جذعه منتصبا، بينما بسطت يداه على طول راحتيهما فوق الغطاء الحريري الأخضر على مسافة إحداهما من الأخرى، فلما اقترب بيير، حدجه الكونت بنظرة من تلك النظرات التي لا يمكن لكائن حي في الدنيا أن يحدد قيمتها ومرماها، فهي إما أن تكون لا تعني شيئا مطلقا، أكثر من حاجة الإنسان الذي يضطر إلى فتح عينيه أن يلقي ببصره إلى جهة ما، أو على العكس، أن تكون محملة بالمعاني مفعمة بها.
توقف بيير مترددا لا يدري ماذا يفعل في ذلك الموقف، والتفت إلى رفيقته مستفسرا، فأشارت إليه بنظرها إلى يد المحتضر وزمت شفتيها على شكل قبلة، فتبع بيير النصيحة، ومد عنقه بتؤدة متجنبا المساس بالغطاء، وألصق شفتيه على يد المريض المكتنزة، لم تتحرك اليد ولم تتقلص عضلة واحدة في وجه المريض، فعاد بيير يستشير آنا ميخائيلوفنا، التي أومأت له أن يجلس على المقعد قرب السرير، فجلس عليه متأثرا، وعاد إلى الاستفسار بالنظر من آنا ميخائيلوفنا عما إذا كان أحسن صنعا بما فعل وفهم مرادها؟ فلما هزت له رأسها موافقة عاد إلى جلسته الكهنوتية الساذجة الشبيهة بالتماثيل المصرية، وهو آسف جدا لرؤية جسده الضخم يشغل كل هذا الفراغ، يحاول الظهور في أصغر حجم ممكن، ولما رفع عينيه إلى وجه الكونت، رأى أن هذا يحدق بعناد في المكان الذي غادره منذ حين محمولا، وأما آنا ميخائيلوفنا فكان مظهرها يدل على الأهمية البالغة التي تقلقها على تلك المقابلة النهائية بين الأب والابن، وبعد دقيقتين خالهما ببيير ساعتين طويلتين، انتفض وجه الكونت المجعد فجأة، وازداد تقلصا، والتوى فمه الجميل محدثا صوتا أجش غير واضح، وعندئذ فقط فهم بيير أن أباه على وشك الموت، راحت آنا ميخائيلوفنا تتفحص حدقة المحتضر، محاولة معرفة رغبته من نظرته، أشارت بيدها إلى بيير ثم إلى الشراب فالغطاء، وغمغمت بصوت منخفض تلفظ اسم الأمير بازيل، غير أن قسمات وجه المريض وعينيه كانت توحي بنفاد الصبر، قام بمجهود جبار لينبه الخادم الذي كان لا يفارق سريره من ناحية القدمين.
غمغم الخادم: إن سعادته يرغب في أن نقلبه على جنبه الآخر.
وراح يحاول القيام بتلك المهمة الشاقة التي تقتضيه تحريك جسد ضخم كبير فاقد الإحساس، فنهض بيير ليساعده في مهمته.
وبينما كان بيير والخادم يبدلان وضعية الكونت، راح هذا يحاول عبثا جذب ذراعه التي ظلت منسدلة لا حياة فيها وراء ظهره، ولعل المريض شاهد نظرة الذعر التي ألقاها بيير على ذراعه المشلولة، أو أن فكرة أخرى خطرت في رأسه؛ لأنه راح يتأمل ذراعه الجامدة، ثم وجه لبيير المذعور ليعود بنظره إلى ذراعه، وأخيرا افتر ثغره عن ابتسامة غامضة أليمة، ما كانت تتفق مع طالعه النشيط، بل تبدو سخرية مرة من عجزه التام، شعر بيير فجأة بانقباض في صدره، ودغدغة في أنفه، وما لبثت الدموع أن طفرت من عينيه.
كان الكونت في تلك اللحظة مستديرا بوجهه إلى الجدار يتأوه.
وجاءت إحدى الأميرات تحل محل آنا ميخائيلوفنا، فقالت هذه لبيير: لعله أغفى قليلا، هيا بنا.
فتبعها بيير صامتا.
الفصل الرابع والعشرون
فشل المؤامرة
لم يكن في البهو الكبير إلا الأمير بازيل وكبرى الأميرات، كانا جالسين قرب لوحة كاترين الثانية، يتحادثان بحمية، لكنهما توقفا عندما شاهدا بيير ورفيقته.
غمغمت الأميرة: إنني لا أستطيع رؤية هذه المرأة.
وخيل لبيير أن الأميرة أخفت شيئا ما.
قال الأمير مخاطبا آنا ميخائيلوفنا: إن كاتيش تقدم الشاي في البهو الصغير، فاذهبي إلى هناك يا آنا ميخائيلوفنا وتناولي شيئا، وإلا فإنك لن تصمدي يا صديقتي المسكينة.
ولم يوجه كلمة واحدة إلى بيير، لكنه ضغط على ذراعه بحنان أسفل الكتف، واقتادت آنا ميخائيلوفنا بيير إلى البهو الصغير.
كان الطبيب لوران واقفا أمام مائدة محملة بأدوات الشاي وألوان الطعام البارد، وقد انتظم حولها كل الأشخاص الذين قضوا الليل في الفندق. قال الطبيب وهو يفرغ قدحه الرقيق المصنوع من الخزف الصيني بجرعات صغيرة: ليس هناك ما يشحذ الهمة بعد ليلة بيضاء أكثر من قدح من هذا الشاي الروسي الممتاز.
كان يتحدث بحيوية متزنة دون أن يبدو عليه شيء مما يعتلج في صدره، تذكر بيير تلك القاعة الصغيرة المستديرة ذات المرايا والنضد، تذكر أنه كان في السنوات القديمة الماضية، عندما كان الكونت يحيي حفلات راقصة، يفضل الجلوس في هذا المكان ليراقب السيدات وهن في أبهى زينتهن، عندما يخطون بتيه أمام تلك المرايا التي تحيط بها أضواء مشعة، فيتأملن هندامهن وأكتافهن العارية، وأعناقهن التي تحيط بها المجوهرات والماسات الفاخرة الثمينة، فتنعكس الأضواء عليها وتشع إشعاعات تخطف الأبصار، ورأى أن شمعتين بسيطتين كانتا تضيئان تلك القاعة الصغيرة بالذات بدلا من أنوار أمس الساطعة، وأن أقداحا وصحافا مبعثرة على تلك النضد التي يحيط بها أشخاص من كل نوع، مرتدين الألبسة العادية، يهمسون في الظلام وهم يبرهنون بأقوالهم وإشاراتهم على أنهم لم ينسوا بعد الحدث الجسيم الذي وقع منذ حين في غرفة النوم المجاورة. لم يأكل بيير شيئا رغم شهيته القوية، وبينما كان يلتفت إلى آنا ميخائيلوفنا ليسألها بنظرة كعادته، رآها تسير على أطراف قدميها نحو البهو الكبير، فقدر من جديد أن الأمر «ينبغي أن يكون كذلك»، وقرر بعد لحظة تردد أن يتبعها، ولما تخطى الباب، رآها منتصبة أمام كاتيش وهي محتدمة معها بنقاش عنيف بصوت منخفض، كانت السيدتان تتكلمان معا في وقت واحد.
قالت كاتيش، وهي مضطربة متطورة كما كانت منذ حين عندما صفقت الباب في وجه آنا ميخائيلوفنا: اسمعي يا أميرة ... أظنني أعرف ما هو محتشم وما هو غير محتشم.
غير أن آنا ميخائيلوفنا أجابت ملمحة، وهي تقف بين مخاصمتها والطريق إلى غرفة النوم: ولكن يا عزيزتي فكري في أن تصرفك سيزعج عمنا المسكين الذي هو في مسيس الحاجة إلى الراحة، إن التحدث معه في مثل هذا الوقت عن أشياء تخص هذا العالم بينما هيئت روحه للصعود إلى العالم العلوي.
كان الأمير بازيل جالسا على مقعده لافا ساقا على ساق كعادته، وكان حذاءاه المترهلان ينتفضان بحركات تشنجية، وقد اتخذا شكلا غريبا، فكانا يبدوان عند أسفلهما أكثر عرضا من حالتهما الطبيعية ، وفيما عدا ذلك ، كان يبدو عليه عدم الاهتمام بحديث السيدتين، قال: هيا يا آنا ميخائيلوفنا الطيبة، دعي كاتيش وشأنها، إنك لا تجهلين مدى حب الكونت لها.
فقالت كاتيش تخاطب الأمير بازيل، وهي تشير إلى حافظة جلدية مرصعة كانت ممسكة بها في يدها: إنني لا أعرف شيئا عما جاء في هذه الورقة. على كل حال، إن الوصية الحقيقية موجودة في مكتب الكونت، أما في هذه الحافظة، فإن كل ما فيها عبارة عن ورقة عديمة القيمة.
وأرادت أن تتخطى آنا ميخائيلوفنا، لكن هذه قفزت قفزة كبيرة ولحقت بها، وعادت من جديد تمنعها من متابعة السير.
قالت وهي تستحوذ على الحافظة الجلدية بيد ثابتة حازمة، تفصح بأنها لن تتخلى عنها بسهولة: إنني أعرف ذلك يا عزيزتي، يا أميرتي الطيبة، ولكني أرجوك بل أتوسل إليك ألا تزعجي الكونت، وأن توفري عناء ذلك عليه، أستحلفك الله.
فضلت كاتيش ألا تجيب؛ لأنها لو فتحت فمها لما نطقت - ولا شك - بكلمات ترضي آنا ميخائيلوفنا؛ لذلك فقد قام بين المرأتين نضال صامت حول ملكية الحافظة، كانت آنا ميخائيلوفنا خلاله تقاوم بضراوة، بينما ظل صوتها محتفظا بلهجته المهذبة الفاتنة، هتفت تقول: بيير يا صديقي، تعال. أعتقد أنه ليس غريبا عن هذا الأمر العائلي، ما رأيك يا أميري؟
هتفت كاتيش فجأة بصوت مرعد، بلغت أصداؤه مسامع كل من كان في البهو الصغير، فأفزعت السامعين: ماذا يابن عمي؟ إنك لا تقول شيئا! إنك تحتفظ بالصمت، بينما يعلم الله بأمر من يتدخل في شئوننا، ويسمح لنفسه بإثارة فضائح على عتبة المحتضر!
وأردفت بصوت غاضب محنق: أيتها الدساسة!
وجذبت بكل قواها حتى أن آنا ميخائيلوفنا اضطرت أن تخطو إلى الأمام بضع خطوات، وتقبض على ذراع الأميرة؛ خشية أن تفلت الحافظة من يدها.
هتف الأمير بازيل باستغراب واستنكار: أوه! إن هذا شاذ! دعي الحافظة أقول لك!
فأطاعت كاتيش ذلك الأمر الحاسم، وهتفت: أنت أيضا؟!
غير أن آنا ميخائيلوفنا لم تخضع للأمر، فقال الأمير: دعي ذلك أقول لك، إنني أتكفل بكل شيء، سأذهب بنفسي لرؤيته ، وسأسأله. نعم، أنا ! فينبغي ألا تقني بذلك.
فاعترضت آنا ميخائيلوفنا: ولكن يا أميري، لقد أقيم له منذ حين أكبر طقس ديني، فدعه في راحة، ما رأيك يا بيير؟
كان الفتى قد اقترب منهما، وراح ينظر بذهول إلى وجه الأميرة المنقلب السحنة، وخدي الأمير المتقلصين.
صرخ الأمير بازيل بحزم وقسوة: ستكونين مسئولة عن كل ما يحدث، فكري في ذلك، إنك لا تعرفين ما تعملين.
وصرخت كاتيش: أيتها المرأة الملعونة!
ثم ارتمت فجأة على آنا ميخائيلوفنا، وانتزعت الحقيبة من يدها، فأطرق الأمير بازيل برأسه، وسقطت ذراعاه إلى جانبيه.
وفي تلك اللحظة فتح الباب؛ ذلك الباب الرهيب الذي استأثر طويلا بنظرة بيير، والذي كثيرا ما كان يوارب بهدوء، فتح في تلك اللحظة بعنف حتى اصطفق بالجدار، وظهرت ثاني الأميرات التي هرعت إليهم وهي تضرب كفا بكف، وتصيح: ماذا تعملون؟! إن الكونت يموت، ومع ذلك تتركونني وحيدة.
سقطت الحافظة من يدي كاتيش، فانحنت آنا ميخائيلوفنا مندفعة والتقطتها بقوة وركضت إلى غرفة النوم؛ فتبعها الأمير وكاتيش بعد أن سيطرا على اضطرابها، ولم تمض لحظات، حتى غادرت كاتيش غرفة النوم شاحبة الوجه، ممتقعته، تعض شفتها السفلى، فلما وقع بصرها على بيير، لم تستطع السيطرة على غضبتها، فصرخت في وجهه قائلة: لينشرح صدرك، هذا الذي كنت تريده.
واختنق صوتها بالعبرات، فأخفت وجهها بمنديلها، وجرت مبتعدة.
وظهر الأمير بازيل بدوره مترنحا في مشيته، وارتمى على الأريكة التي كان بيير جالسا عليها، وهو يحجب عينيه بيده، ولاحظ بيير أن وجهه شديد الارتعاش، وأن ذقنه كانت ترتعد وكأنه واقع تحت تأثير حمى خبيثة.
قال الأمير، وهو يمسك بمرفق بيير: آه يا صديقي!
كان صوته ينبئ بنبرة إخلاص وصراحة واسترسال لم يعهد بيير مثلها فيه من قبل، أردف الأمير يقول: آه يا صديقي، كم من خطيئة ترتكب وخدعة ودسيسة! وكل ذلك من أجل ماذا؟ إنني تجاوزت الستين يا صديقي، وإنني ... إن كل شيء ينتهي بالموت، كل شيء. والموت يا صديقي أمر رهيب.
اختنق صوته بموجة من البكاء والدموع.
خرجت آنا ميخائيلوفنا من الغرفة بدورها ، واقتربت من بيير بخطوات مكتومة خافتة، وقالت تناديه: بيير!
فنظر إليها بيير مستفسرا، وإذا بها تنحني على جبينه تقبله وتبلله بدموعها، قالت بعد لحظة صمت: لقد قضى ...
راح بيير يحدق في وجهها خلال نظارتيه، بينما أردفت تقول: ها، سأصحبك. حاول أن تبكي؛ إذ ليس مثل الدموع ما ينفث الكرب.
قادت بيير إلى بهو مظلم، فسر هذا عندما رأى أن أحدا لن يرى وجهه، وتركته لحظة هناك ثم عادت لتجده معتمدا رأسه على ذراعه غارقا في نوم عميق.
وفي صباح اليوم التالي قالت له: نعم يا عزيزي، إنها خسارة جسيمة حلت بنا جميعا، إنني لا أتحدث عنك، لكن الله سيساعدك لأنك شاب، وقد أضحت بين يديك الآن ثروة هائلة، إن الوصية لم تفتح بعد، إنني أعرفك معرفة كافية تجعلني متأكدة من أن الثروة المنتظرة لن تدير رأسك، لكن ذلك يفرض عليك واجبات جديدة فينبغي أن تكون إنسانا.
لبث بيير صامتا، فأردفت الأميرة تقول: لعلني أقول لك في المستقبل، إنني لو لم أكن موجودة مساء أمس لكان الله وحده يعلم بما كان سيحدث، لقد كان عمي أول أمس يعدني بألا ينسى بوريس، لكنه لم يجد متسعا من الوقت، فآمل يا صديقي العزيز أن تنفذ رغبة أبيك.
لبث بيير مشدوها لا يفقه شيئا، واكتفى بالنظر إلى آنا ميخائيلوفنا وقد تضرج وجهه وبان الارتباك على قسماته.
بعد ذلك اللقاء والحديث، عادت الأميرة دروبتسكوي إلى منزل آل روستوف وأوت إلى سريرها، وبعد أن نالت قسطا من الراحة، راحت تسرد على مدعويها ومعارفها تفاصيل دقيقة عن آخر لحظات الكونت بيزوخوف، كان المرء، إذا أصغى إليها، يفهم من كلامها أن الكونت مات الميتة التي كانت هي نفسها تتمناها لنفسها؛ إذ إن نهايته كانت مثيرة للشعور، بل وعبرة وقدوة للناس، أعربت في حديثها عن تأثرها البالغ باللقاء الأخير الذي تم بين الابن وأبيه، حتى إنها لم تتمالك عندما فكرت في ذلك اللقاء من ذرف الدموع، ما كانت ترى أو تستطيع أن تميز من الذي تصرف خيرا من الآخر في تلك المناسبة الأليمة؛ أكان الأب الذي تذكر كل الناس في تلك اللحظة الحاسمة وكل الأشياء المحيطة به، فوجه إلى ابنه كلمات آية في الحنان والعطف، أم بيير الذي صهره الألم والحزن رغم محاولته إخفاءهما بعناية كي يوفر على أبيه مضاعفة آلامه.
كانت آنا ميخائيلوفنا تقول: لقد كان المشهد أليما لكنه لم يخل من الفائدة، إنه يرفع الروح ويسمو بها، إن رؤية رجال مثل الكونت العجوز وابنه البار تهز المشاعر.
وتحدثت كذلك عن تصرفات كاتيش والأمير بازيل بلهجة فيها هجاء وتوبيخ وتبكيت، غير أنها في تلك المرة كانت تتحدث بصوت منخفض وسرية مطلقة.
الفصل الخامس والعشرون
الأمير بولكونسكي
كان الأمير نيكولا آندريئيتش بولكونسكي ينتظر في مقاطعته ليسيا جوري - أي الجبل الأقرع - وصول الأمير الشاب آندره وزوجته من يوم إلى آخر، دون أن يغفل - مع ذلك - النظام الدقيق الذي يتبعه في بيته الكبير الذي يقطن فيه، كان منذ عهد بول الأول، حيث أبعد إلى أراضيه، يعيش بصورة مستمرة في الريف مع ابنته ماري والآنسة بوريين، وهي الوصيفة المرافقة للأميرة الشابة، وقد ظل الجنرال الأعلى، الأمير بولكونسكي، ملك بروسيا كما كان يسميه الأشخاص العارفون في الأرياف معتكفا منذ ذلك الحين، فلما فتح له العهد الجديد طريق العاصمتين، ظل مثابرا على انزوائه في أملاكه، زاعما أن الأشخاص الذين يريدون لقاءه يستطيعون قطع أربعين ميلا للوصول إليه حيث هو في مقاطعة الجبل الأقرع، أما هو، فلم يكن في حاجة إلى شيء أو إلى أي شخص، كان يصرح أبدا بأن البطالة والاعتقادات الخرافية كانت المصدر الأوحد لكل الشرور والآثام، وأن الفضيلتين الوحيدتين في العالم هما: الذكاء والعمل، فكان يشرف بنفسه على تثقيف ابنته، وإنماء تينك الفضيلتين الأساسيتين في نفسها، لبث يعطيها دروسا في الجبر والهندسة حتى بلغت سن العشرين، وجهد دائما على ألا يدعها تمضي فترة واحدة من أوقاتها دون عمل تعمله، وكان بدوره لا يهدأ أبدا، فكان يكتب مذكراته، ويناقش ويحل مسائل رياضية عالية، ويصنع الأواني الفخارية، ويعمل في بستانه، ويراقب أبنيته الكثيرة لأنه كان بناء كبيرا.
ولما كان النظام هو الشرط الجوهري الأول في نشاطه وعمله، فإن وجوده كان منظما بدقة، حتى في أدق المراحل واللحظات، فكان بذلك يجلس إلى المائدة في مواعيد ثابتة يراعي فيها ليس الساعة فحسب بل الدقيقة أيضا، ولم يكن قط قاسيا، غير أن صلابته الملازمة التي لم تكن تفارقه مطلقا، كانت توحي إلى من حوله - ابتداء من ابنته وحتى أتفه الخدم - احتراما مفزعا، ما كان يستطيع فرضه أشد الناس قسوة ووحشية، وعلى الرغم من أنه كان محروما من كل نفوذ جديد، فإن كل حاكم جديد للمقاطعة كان يعتقد عند وصوله أو قبل مغادرته المقاطعة ليحل خلف محله، بضرورة الشخوص إلى منزل الأمير وتقديم تمنياته وواجبات الاحترام إليه، فكان ذلك الموظف الكبير يضطر إلى الانتظار في قاعة الاستقبال الفسيحة؛ أسوة بالمهندس والبستاني والأميرة ماري نفسها، ريثما تحين الساعة الثابتة لنهوض الأمير من فراشه، وعندئذ كان المنتظرون يشعرون، دون استثناء، شعورا بالاحترام ممزوجا بإحساس بالرهبة، عندما تفتح درفتا الباب الضخم المؤدي إلى مكتب الأمير، ليبدو هذا على عتبته بشعره المستعار وقامته الصغيرة، قامة عجوز ذي يدين معروقتين وحاجبين أبيضين كثين يحجبان كلما قطبهما نظرته المشعة ببريق الذكاء والنشاط والشباب.
ذهبت الأميرة ماري، صباح اليوم الذي كان ينتظر فيه وصول الزوجين الشابين، إلى قاعة الانتظار كالعادة، في الساعة المعينة لتمنيات الصباح، ورسمت كالعادة إشارة الصليب على صدرها، وقرأت دعاء صامتا وابتهالا سريا، كانت كل صباح تدخل تلك القاعة، وتبتهل إلى الله أن يؤازرها خلال المقابلة الرهيبة المنتظرة، فكان خادم عجوز ينهض دون ضجة فيستقبلها ويهمس لها قائلا: تفضلي بالدخول.
ومن وراء الباب، كان دوي عجلة دائرة دورة رتيبة يسمع بوضوح، جذبت الأميرة بخوف مصراع الباب الذي كان ينفتح دون عناء، وتوقفت على العتبة، فالتفت الأمير إليها، لكنه لم يتوقف عن عمله.
كانت غرفة الأمير الشاسعة تزدحم بعدد من الأشياء التي تحمل طابع الاستعمال الدائم، فالطاولة الكبيرة كانت تنوء بالكتب والمخططات، وخزائن الكتب العالية تعج بمحتوياتها، وفي قفل كل منها مفتاحه الملائم . وعلى نضد مرتفع يصلح للكتابة إذا كان الشخص واقفا، كان دفتر كبير مفتوحا، وبجانبه أدوات الكتابة، أما جهاز صنع الأواني الفخارية، فقد كانت الأدوات المختلفة المبعثرة فوق النشارة التي تغطي مساحة حوله، تشهد بنشاطه المستمر المتنوع المضبوط، كانت حركات ساقه على الدولاب، وضغط يده الناحلة الثابتة تشهد بالقوة العظيمة التي يمتاز بها الأمير في كهولته الناعمة، أدار العجلة بقدمه عدة دورات أخرى، ورفع ساقه عن المحرك، ومسح «إزميله» وألقاه في جيب جلدي معلق إلى الجهاز، ثم اتجه نحو الطاولة، واستدعى ابنته، فقدم لها وجنته المتغضنة لتقبلها، وعلا صوته الصارم الذي تلطفه نظرة مفعمة بالحنان والعناية، قائلا أن يباركها؛ لأن عادته جرت على استنكار مثل هذه الطقوس: هل أنت على خير حال؟ اجلسي إذن.
دفع بقدمه مقعده الوثير وأخذ دفترا من دفاتر الهندسة، وكتب بخط يده فيه، ثم تصفحه وهو يشير بظفره المتين إلى المقطع الذي يريد منها دراسته وحفظه: هذا واجبك ليوم الغد.
فانحنت الأميرة على الدفتر، بينما قال العجوز فجأة: انتظري، لدي رسالة لك.
وراح يبحث في جيب محدث في الطاولة عن الغلاف المنشود الذي كان يحمل كتابة نسائية.
ألقى الرسالة على الطاولة، فالتقطتها الأميرة بانفعال وضمتها إلى صدرها، وقد تضرج وجهها فجأة.
قال الأمير، وقد افتر ثغره عن ابتسامة باهتة كشفت عن أسنان صفراء متينة: أهي من «هيلوئيزتك»؟
فأجابت الفتاة بابتسامة ونظرة وجلة: نعم، إنها من جولي.
قال الأمير في غير أنس: سأدع رسالتين أخريين تمران، لكنني سأقرأ الثالثة، إنكن تكتبن لبعضكن سخافات، أتوجس منها خيفة، لذلك سأقرأ الثالثة.
أجابت الأميرة، ووجهها يزداد حمرة، وهي تمد له يدها بالرسالة: يمكنك قراءة هذه يا أبي.
فأجاب الأمير بلهجة حاسمة، وهو يبعد الرسالة عنه: الثالثة، لقد قلت الثالثة.
ثم اتكأ على الطاولة، وجذب إليه دفتر الهندسة، وشرع يشرح وهو ينحني فوقه، مستندا بإحدى يديه على مسند المقعد الذي جلست عليه ابنته: انتبهي يا آنسة، انظري إلى هذه المثلثات، إنها متساوية، لذلك اعتبري أن زاوية أ ب ج ...
كانت الأميرة، في جلستها تلك، تحس برائحة التبغ تنفذ إلى صدرها، وتشعر بالعفن الحاد الذي ينبعث من أجسام الكهول يختلط بأنفاسها، كانت ماري تختلس بين الحين والحين نظرات فزعة إلى عينيه الملتمعتين القريبتين من وجهها، لكنها ما كانت تفقه شيئا؛ لأن الخوف كان يمنعها من فهم شرح أبيها مهما بلغ من وضوح وإسهاب، وسواء أكان الخطأ مصدره الأستاذ أم التلميذ، فإن ذلك المشهد كان يتكرر كل يوم؛ تضطرب عينا الفتاة وتعجز عن رؤية الأحرف والخطوط وسماع البيانات، فلا ترى إلا ذلك الوجه الأعجف الصارم القريب من وجهها، ولا تحس إلا بأنفاسه، وبتلك الرائحة التي تنبعث منه، ولا تفكر إلا في الفرار بأسرع ما يمكن، واللجوء إلى غرفتها؛ لتدرس أمثولتها بهدوء، وتحل النظرية الهندسية باطمئنان. وكان العجوز يبرم بها وينفد صبره فيبعد المقعد ويقربه بصخب ويكبت غضبه، لكنه في كل مرة كان ينتهي به الأمر إلى الثورة والانفعال والتأنيب، فيلقي بالدفتر إلى كل الشياطين!
أخطأت ماري في جوابها، فصاح الأمير العجوز وهو يلقي بالدفتر بعيدا ويستدير بغضب: هل يمكن أن تكون فتاة أشد غباء منك!
لكنه نهض بعد ذلك وراح يذرع الغرفة جيئة وذهابا، ثم اقترب من ابنته وراح يداعب شعرها ملاطفا، وأخيرا عاد إلى مقعده وباشر بشرح نظريته مجددا.
وبعد أن أخذت التلميذة ملاحظات على النظرية سجلها على الدفتر، تأهبت للخروج، فقال الأمير: ينبغي أن تكوني دءوبة يا أميرة، إن الرياضيات أهم شيء في الوجود، إنني لن أسمح لك أن تكوني سخيفة كسيداتنا النبيلات في هذا العصر، سوف تشعرين بميل إلى العلوم الرياضية بعد قليل من الصبر.
ثم أردف، وهو يربت على وجنتها: وبذلك فقط تخرج الترهات والخرافات من رأسك إلى الأبد.
همت الأميرة بالخروج، لكنه استوقفها بإشارة، ووضع على النضد المرتفع كتابا جديدا لم تقطع أوراقه بعد، وقال: وهذا أيضا واحد من «مفتاح السر» ترسله لك صديقتك هيلوئيز، إنه كتاب يؤيد العقيدة الدينية، إنني لا أتدخل في معتقدات أحد، وقد تصفحته فيمكنك أخذه، اذهبي الآن، اذهبي.
وربت على كتفها ، وأغلق بنفسه الباب وراءها.
عادت الأميرة ماري إلى غرفتها وعلى وجهها أمارات حزن وشرود ما كانت تفارقه، بل كانت تضفي على ذلك الوجه المريض محدود الجاذبية والفتنة سترا من البشاعة، جلست إلى مكتبها الذي تراكم فوقه خليط من الكتب والدفاتر والمخطوطات يشهد بأنها على نقيض أبيها؛ لا تحب النظام الذي كان مهووسا به. وألقت دفتر الهندسة جانبا، وراحت تفض الرسالة التي بعثت بها صديقة طفولتها المفضلة بصبر نافد؛ لتطلع على ما أوردت فيها؛ ولا يفوتنا هنا أن ننوه بأن صديقتها جولي، هي بعينها جولي كاراجين التي مر بنا الدور الذي لعبته في حفلة آل روستوف.
كتبت جولي ما يلي:
عزيزتي الصديقة الممتازة، إن الغياب أمر مخيف مرعب! لقد قلت دوما إن نصف وجودي وسعادتي كامن في شخصك، وإنه على الرغم من المسافة التي تفرق بيننا، فإن قلبينا متصلان برباط لا يفصم عراه، إن قلبي يتمرد على القدر فلا أستطيع - رغم المسرات التي تحيط بي والتي تساعدني على الترويح عن نفسي - أن أهزم وأبدد لونا من الحزن الدفين الذي أحس به قابعا في أعماق قلبي منذ فراقنا، لم يا ترى لم نجتمع هذه المرة كما وقع لنا ذلك الصيف في غرفتك الكبرى على الأريكة الزرقاء؛ أريكة الاعترافات؟ لم لا أستطيع منذ ثلاثة شهور أن أحصل على قوى معنوية جديدة أستمدها من نظرتك شديدة الوداعة شديدة الهدوء وشديدة التعمق، تلك النظرة التي أحببتها حبا جما، والتي يخيل إلي أنها ماثلة أمامي ساعة أكتب إليك هذه الرسالة!
لما بلغت الأميرة هذا المقطع، رفعت نظرها إلى مرآة مقامة إلى يمينها في فراغ بين نافذتين، فعكست المرآة صورة هزيلة محزنة راحت عيناها المكتئبتان تتأملانها بكثير من الأسى والحزن، قالت في سرها: «إنها تمتدحني»، وأشاحت بوجهها عن المرآة لتتابع القراءة، غير أن جولي ما كانت تغدق المديح الكاذب على أحد وخصوصا على صديقتها؛ إذ إن عيني الأميرة الكبيرتين العميقتين كانتا أحيانا تشعان بإشعاعات دافئة حامية، تسبغ على وجهها المهزول جاذبية يعجز الجمال عن مثلها، ولما كانت الأميرة ماري تعرف أن تلك النظرة الدافئة الفتانة لا تشع من عينيها إلا في أوقات تكون فيها أبعد الناس عن التفكير في نفسها؛ لذلك فقد كانت لا ترى تلك البادرة أبدا ولا تعتقد بوجودها، كانت ككل الناس تقريبا، إذا وقفت أمام المرآة، اتخذت طابع الترقب اللاإرادي الذي يرتسم عادة على كل وجه أمام المرآة، فكان ذلك الطابع يشوه حسنها. تابعت قراءة الرسالة:
إن موسكو كلها لا تتحدث إلا عن الحرب، وإن واحدا من أخوي أصبح الآن خارج البلاد، أما الثاني فإنه مع فرقة الحرس التي تتجه نحو الحدود. إن إمبراطورنا العزيز قد ترك بيترسبورج وهو يرمي - على ما نمى إلي - إلى تعريض ذاته السنية لخطر الحرب، فعسى أن يقدر الله أن يسحق الوحش الكورسيكي الذي أقلق سلام أوروبا ودمره، من قبل الملك الذي أرسله الله لنا برحمته ملكا وإمبراطورا! إن هذه الحرب قد حرمتني علاقات حبيبة إلى قلبي، بصرف النظر عن أخوي اللذين يخوضان غمارها، ذلك أن نيكولا روستوف، الشاب الذي دفعته حماسته إلى الانخراط في الجيش وترك الجامعة، قد ذهب في عداد الذاهبين، ثقي يا عزيزتي ماري أنه على الرغم من سنه الفتي الريان، فإنني أستطيع أن أصرح لك بأن ذهابه سبب لي حزنا كبيرا، إن ذلك الشاب - وقد حدثتك عنه في الصيف الماضي - شديد النبل؛ نبل يندر أن يلاقي المرء مثله في هذا العصر؛ حيث نعيش بين شيوخ في العشرين من أعمارهم. إنه طيب القلب جدا، صريح إلى أبعد حدود الصراحة، وهو نقي السريرة، شاعري الإحساس، حتى إن علاقاتي معه مهما بلغت من تفاهتها - وكانت علاقات عابرة - كانت أجمل المباهج التي مرت على قلبي المسكين المفعم بالألم.
سأحدثك ذات يوم عن كل ما تحدثنا به عند الوداع، وما دار بيننا خلاله، إنه لا زال حتى الآن عالقا في ذاكرتي؛ لأنه حدث بالأمس القريب. آه يا صديقتي الحميمة! إنني أغبطك لجهلك المباهج والآلام الممضة التي أتحدث عنها في هذه الرسالة، إنك سعيدة لأن المتأخرات في هذا المضمار هن دائما الأكثر سعادة والأشد ساعدا وقوة! إنني أعرف تماما أن الكونت نيكولا صغير جدا لا أمل لي في بناء آمالي عليه في شيء أكثر من الصداقة العادية، غير أن تلك الصداقة الهادئة الوادعة، وتلك العلاقات شديدة الطهر والشاعرية، كانت كلها من متطلبات قلبي، ولكن لنترك هذا الأمر جانبا، ولنتحدث في غيره، إن الخبر الأخير الذي يشغل بال أهل موسكو جميعا وهو موت الكونت بيزوخوف الهرم وإرثه. تصوري أن الأميرات الثلاث لم يرثن إلا نزرا تافها، وأن الأمير بازيل حرم من كل شيء، وأن السيد بيير قد ورث كل شيء وأصبح - علاوة على ذلك - ابن الكونت الشرعي، ومن ثم الكونت بيزوخوف، مالك أكبر ثروة في كل روسيا، إنهم يزعمون أن الأمير بازيل لعب دورا مرذولا في هذه القضية، وأنه انسحب عائدا إلى بيترسبورج وهو حائر شديد الخجل.
أصرح لك بأنني لا أفهم من هذه الأمور شيئا يذكر، لكنني أرى وأعرف أنه منذ أن أضحى الشاب الذي كنا نعرفه تحت اسم السيد بيير فقط، كونت بيزوخوف مالك أكبر الثروات الروسية، فإنني أتسلى بالنظر إلى السيدات والأوانس ومراقبة التبديلات والتغيرات في اللهجات وأساليب التحدث التي طرأت على الأمهات اللاتي ينؤن بأعناد بناتهن، البالغات سن الزواج، حيال هذه الشخصية الجديدة الذي ظل يبدو لي رغم ذلك، كما كان من قبل، سيدا مسكينا.
ولما كانوا منذ عامين يزعمون دائما أنني سأزوج لفلان أو فلان من المجهولين مني، فإن آخر إشاعة راجت في موسكو جعلتني الكونتيس بيزوخوف المنتظرة، لكنك تشعرين - ولا شك - بشعوري، وتعرفين أنني لا أفكر قط في مثل هذا المركز. ولما كنا نتحدث عن الزواج فإنني أعلمك «أن العمة الجماعية» آنا ميخائيلوفنا أسرت إلي أخيرا تقول إن هناك مشروع زواج يتعلق بك يحاك في الخفاء، فهل تعرفين الزوج المنتظر؟ خمني، إنه ليس إلا ابن الأمير بازيل، الشاب آناتول الذي يفكر أبوه في إيجاد مركز رفيع له، وإقحامه في صلب المجتمع، بتزويجه من فتاة غنية راقية ومرموقة، وقد وقع اختيارهم واختيار ذويه عليك، ولست أدري كيف تنظرين إلى الأمر ، لكنني أظن أن من واجبي - رغم السرية التامة التي أحيط المشروع بها - أن أبلغك وأنذرك بما يقال وما يشاع عن زوجك المنتظر؛ إنهم يقولون إنه جميل جدا وشاب رديء جدا، هذا كل ما أستطيع قوله وما أعرفه عنه.
ولكن كفانا ثرثرة حتى الآن، لقد ملأت الورقة الثانية من رسالتي، وها إن أمي أرسلت في طلبي لأذهب معها عند آل آبراكسين، اقرئي الكتاب الديني الذي يبحث في شئون العبادة والذي أرسلته لك مع كتابي هذا؛ لأنه شديد الرواج عندنا، وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يحفل ببعض الأمور التي يصعب علينا فهمها بإمكانيتنا الإنسانية المحدودة الضعيفة، فإنه كتاب رائع تسمو النفس عند قراءته. وداعا. احتراماتي للسيد أبيك وتمنياتي للآنسة بوريين. أقبلك كما أحبك.
ملاحظة: أطلعيني على أخبار أخيك وزوجته الصغيرة الفتانة.
جولي
راحت الأميرة ماري تفكر، وأخيرا ابتسمت وهي شاردة الذهن، وانبسطت أسارير وجهها الذي أضاءه ذلك الإشعاع المنبعث من عينيها، نهضت فجأة ومضت إلى مكتبها بخطوات ثقيلة، فأخذت ورقة، وراحت يدها تجري بالقلم عليها جريا؛ كان الجواب الذي حررته ما يلي:
عزيزتي وصديقتي الممتازة، لقد أحدثت رسالتك المؤرخة في 13 الجاري سرورا بالغا في نفسي، إنك إذن لا زلت تحبينني يا جوليتي الشاعرية، والفراق الذي تتحدثين عن كل مساوئه لم يؤثر في نفسك أثره المباشر الطبيعي؛ لأنك لم تنسيني. إنك تشتكين من الفراق، فماذا أقول أنا إذا «جاز لي» أن أشكو، وأنا المحرومة من كل من هم أعزاء على نفسي؟! آه! لو لم يكن لدينا الدين عزاء، لكانت الحياة شاقة لا تطاق، حزينة كئيبة. لم توقعت مني نظرة صارمة عندما حدثتني عن إعجابك بفتاك الشاب؟ إنني على هذا الأساس، لست قوية ولا قاسية إلا على نفسي، إنني أفهم هذه الإحساسات التي تعتلج في نفوس الآخرين، ولما كنت لا أستطيع تأييدها، خصوصا وأنني أشعر بها بنفسي، فإنني لا أحكم عليكم على ضوئها. يبدو لي أن الحب المسيحي فقط، حب المستقبل والآخرة، حب أعدائنا؛ هو الحب الوحيد الأكثر فائدة وجدارة ، وهو أجمل حب وأنبل إحساس لا تستطيع العيون الجميلة وأثرها في نفس فتاة شاعرية عاشقة مثلك، أن تحدث مثلها.
إن موت الكونت بيزوخوف قد بلغنا قبل وصول رسالتك، ولقد حزن أبي حزنا عميقا لموته، وقال إنه كان قبل الأخير بين ممثلي القرن المشرق الباهر، وإنه الآن بات يتحين دوره، لكنه سيعمل ما في طاقته لتأخير حلول ذلك الدور ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ليحفظنا الله من ذلك البلاء المريع! إنني لا أشاطرك رأيك حول بيير الذي عرفته طفلا، لقد كان يبدو لي دائما ذا قلب ودود ممتاز، وهذه الصفة هي التي أقدرها أكثر من غيرها في نفوس البشر، أما فيما يتعلق بإرثه وبالدور الذي لعبه الأمير بازيل، فإن الأمر ذو عناء ونصب للاثنين معا. آه يا صديقتي الحبيبة! إن كلمة مخلصنا الإلهي التي تقول «إن دخول جمل في سم الخياط أسهل من دخول غني في ملكوت السماوات»؛ لرهيبة في حقيقتها وصدقها، وإنني أشفق على الأمير بازيل وآسف من أجل بيير أسفا أكثر عمقا. إنه يافع بعد، تبهره مثل هذه الثروة، فكم من مغريات سيتعرض لها بسببها! لو أنهم سألوني عما أفضله في هذا العالم على سواه من الأمور، لقلت إنني أرغب أن أكون أشد فقرا من أفقر المتسولين.
ألف شكر يا صديقتي العزيزة على الكتاب الذي أرسلته لي، والذي هو في أوج رواجه عندكم. ولما كنت تنوهين بأنه يحوي، بين العديد من الأمور الطيبة التي فيه، على شئون لا يستطيع إدراكنا البشري بلوغ مداها، فإنه يبدو لي عبث الاستغراق وضياع الوقت في قراءة يصعب فهمها، يمكن أن تكون نتيجتها عديمة الجدوى. إنني لم أفهم قط سبب الولع الذي يبديه بعض الناس في تشويش مداركهم بالتعلق ببعض الكتب اللاهوتية التي لا تخلع على نفوسهم إلا أطيافا من الشكوك والارتياب، فيسمو خيالهم ويعطيهم نفسية متعنتة متطرفة، تتناقض مع البساطة المسيحية، لنقرأ الأسفار والإنجيل وأقوال الرسل، ولنترك البحث في محاولة التعمق فيما وراء ذلك من أسرار؛ لأننا لا يجوز لنا - ونحن الخاطئون الحقيرون - أن ندخل أو أن نزعم أننا نستطيع الدخول في الأسرار الرهيبة المقدسة التي اختصت بها القدرة الإلهية، طالما أننا نرفل في ثوبنا الجسدي الذي يرفع بيننا وبين الواحد الأزلي ستارا لا يخرق، فلنكرس جهودنا إذن لدراسة المبادئ السامية التي خلفها مخلصنا الرباني وراءه لتكون سنتنا على هذه الأرض، ولنسع في إجادة القدوة وتأثر خطاه الشريفة، ولنضع نصب أعيننا أننا كلما اعتدلنا في إرهاق فكرنا البشري الضعيف، كان ذلك أكثر تقبلا من الله ورضوانا منه؛ لأن الله يستبعد كل علم لا يبلغ بالمرء إليه، وإننا كلما حاولنا التعمق في الأمور التي طاب له أن يبعدها عن نطاق معرفتنا، أسرع في تقريبها وكشفها بروحه السامية.
لقد حدثني أبي عن الزوج المنتظر، لكنه لم يسهب، بل اكتفى بالقول إنه تلقى رسالته وإنه ينتظر الأمير بازيل. أما رأيي في مشروع الزواج الذي يتعلق بي، فإنني أعتقد بأن الزواج سنة ربانية ينبغي على المرء أن يخضع لها، وإنني واثقة من أن الله القدير، إذا فرض علي واجب الزواج والأمومة، فإنه سيعطيني القوة الكافية لأداء تلك الواجبات بكل ما في طاقتي من إخلاص، دون أن أبالي بالاختبار الذي ستجتازه عواطفي حيال الشخص الذي سيصبح زوجي.
لقد تلقيت رسالة من أخي يعلمني فيها بأنه سيحضر إلى الجبل الأقرع مع زوجته، لكنها ستكون بهجة قصيرة الأمد؛ لأنه سيغادرنا بعدها ليشترك في الحرب التعسة التي اندفعنا فيها، والتي لا يعلم إلا الله كيف ولماذا اشتركنا فيها، والحديث عن الحرب لا يقتصر على وسطكم الحافل بالأعمال والمنتديات، بل إنه تعداه إلينا وسط أعمال الحقول وهدوء الطبيعة، كما يتصور أهل المدن حياة الأرياف. إن الحديث عن الحرب قد بلغ إلينا وأحدث أثره السيئ الأليم، وأبي لا يتحدث إلا عن هجوم وهجوم مضاد، وما إلى ذلك من أمور لا أفقه منها شيئا! وأمس الأول، بينما كنت أتنزه في شارع القرية كعادتي، وقعت أبصاري على مشهد أليم مروع؛ لقد شهدت بأم عيني قافلة من المجندين الذين أدخلوا في أسلحة الجيش يغادرون القرية إلى مراكزهم التي تنتظرهم ، ولو أنك شهدت مثلي حالة أمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم؛ أولئك النساء الملتاعات اللواتي شهدن ذهاب رجالهن إلى الحرب، وهن ينتحبن ويبكين، لاعتقدت معي أن الإنسانية نسيت قوانين مخلصها الرباني الذي بشر بالمحبة والعفو عن الإساءات؛ تلك الإنسانية التي باتت تتنافس بينها وتتسابق في التقتيل والتدمير.
وداعا يا صديقتي الطيبة العزيزة، وليحرسك مخلصنا الرباني وأمه الشديدة القدسية برعايتهما القوية المقدسة.
ماري
قالت الآنسة بوريين الضاحكة بصوتها الرخيم الألثغ: آه! هل ترسلين رسالة يا أميرة؟ لقد أرسلت بريدي، لقد كتبت إلى أمي المسكينة.
كانت المرافقة، الآنسة بوريين، فتاة لعوبا تجر في أعقابها عالما من المرح والبهجة يبدد الجو الثقيل المشحون بالأسى الذي تعيش الأميرة فيه.
أردفت الآنسة بوريين، وهي تخفض صوتها: ينبغي أن أخطرك يا أميرة أن الأمير تعرض اليوم لنقاش حاد مع ميشيل إيفانوف، وهو الآن متعكر المزاج شديد التضجر والتبرم، وقد رأيت أن من واجبي أن أخطرك بالأمر.
كانت الآنسة بوريين تجد لذة فائقة في التحدث عن مزاج الأمير، حتى إنها عندما كانت تروي للأميرة ماري موضوع النقاش، كان صوتها الرخيم العذب ينطق بالسرور الفائق، غير أن الأميرة لم تكن من رأيها؛ إذ قالت تجيبها: آه يا صديقتي العزيزة! لقد رجوتك من قبل ألا تحدثيني أبدا عن مزاج أبي والحالة النفسية التي يكون عليها، إنني لا أسمح لنفسي أن أنتقده ولا أريد أن يفعل غيري ذلك.
وألقت الأميرة نظرة إلى المنبه، أنبأتها بأنها قد تأخرت خمس دقائق في تطبيق برنامجها العملي، فانطلقت إلى البهو بوجه فزع؛ فقد درجت عادة الأمير على نشدان الراحة من الظهر وحتى الساعة الثانية، وكان على الأميرة ماري أن تمضي ذلك الوقت في دراسة الموسيقى الوترية وتطبيق دروسها على «البيان» الذي في البهو.
الفصل السادس والعشرون
الأب والابن
كان الخادم العجوز غافيا في مقعده على صوت الشخير الذي اعتاد على سماعه كلما كان الأمير نائما في غرفته الرحبة. ومن الجناح الأقصى من البيت، كانت إيقاعات لحن خاص ب «دوسك» - وهو مؤلف موسيقي تشيكي كان ذائع الصيت في ذلك الوقت - تتكرر باستمرار وترديد ممل، لشدة الصعوبة التي كانت تواجه العازفة في إجادة عزف ذلك اللحن الصعب، وتصل إلى أسماع الخادم العجوز خافتة، خلال العديد من الأبواب الضخمة المغلقة التي تفصل بين الجناحين.
وفي تلك اللحظة، توقفت عربتان أمام باب الفناء، إحداهما مغلقة من طراز بيرنين، والأخرى خفيفة مكشوفة من طراز بريتشكا، ترجل الأمير آندره من الأولى وساعد زوجته الصغيرة على الهبوط، ودعاها لتتقدمه في الممشى، فأخرج الخادم العجوز تيخون رأسه المغطى بشعر مستعار، خلال فرجة قاعة الانتظار، وأبلغ الأمير الشاب بصوت منخفض أن أباه في قيلولته، ثم أغلق الباب، كان يعرف أن أي حدث مهما بلغت أهميته، حتى ولا وصول الأمير الشاب، ما كان يعكر سير برامج الأمير وسياق ترتيب أوقاته، وكان آندره يعرف ذلك كما يعرفه تيخون تماما، وقد أقنعته نظرة ألقاها على ساعته بأن الأمير العجوز لم يتبدل قط منذ أن بارحه آخر مرة، فقال لزوجته: سينهض أبي بعد عشرين دقيقة، فلنمض الآن إلى جناح ماري.
كانت الأميرة الصغيرة قد ترهلت بعض الشيء، لكن عينيها وشفتها القصيرة الباسمة المظللة بطيف من الزغب كانت تتخذ دائما، عندما تشرع في الحديث، ذلك الطابع الوديع الظريف، أخذت تسرح الطرف حولها ثم قالت لزوجها بمثل اللهجة التي كانت تخاطبه بها لو أنه كان قد رتب حفلا راقصا أو أقام عرضا مغريا: لكنه قصر منيف، لنسرع، هيا، لنسرع!
كانت تبتسم لكل من كان حولها؛ لزوجها، لتيخون، وللخادم الذي كان يقودهما. أردفت: إن ماري تتمرن على العزف، أليس كذلك؟ حسنا، ينبغي أن نفاجئها، فلا تثيروا صخبا.
كان الأمير آندره يتبعها وعلى وجهه طابع أنس يشوبه الغم، قال يحدث تيخون الذي تقدم منه وقبل يده: لقد هرمت يا تيخون!
وبينما كانا على وشك الوصول إلى البهو، حيث راح صوت المعزف يزداد وضوحا، شاهدا فتاة شقراء صغيرة الحجم جميلة الوجه، تكاد تطير من الفرح، تخرج من باب جانبي، هتفت الشقراء في مرح: آه، يا لسعادة الأميرة! أخيرا، لقد وصلتما، ينبغي أن أخطرها.
فقالت الأميرة الصغيرة، وهي تعانق الفرنسية الشقراء: كلا، كلا، وحق السماء. إنك الآنسة بوريين. لقد عرفتك فورا لكثرة ما حدثتني عنك الأميرة ماري في رسائلها، إنها تكن لك حبا عنيفا، هل تنتظر قدومنا؟
توقف الأمير آندره على باب قاعة الموسيقى، حيث كان ذلك المقطع الشائك لا يني يتكرر ويتردد بإصرار وعناد، وكأنه تطير أمام مشهد محزن يكاد أن يقع.
دخلت ليز، فانقطع اللحن في أدق مقاطعه، وانبعثت صرخة، وصوت خطى ماري البطيئة، ورنين القبل، ولما حزم آندره أمره على الدخول، كانت أخته وزوجته - وقد انقطعتا عن رؤية بعضهما البعض بعد أن أمضتا فترة قصيرة عقب زواج آندره بليز - تضمان بعضهما بعضا بعنف وشغف، وترشقان القبل كيفما اتفق، بينما كانت الآنسة بوريين تضغط على قلبها بيدها، وهي تبتسم بغبطة، وتكاد أن تنخرط في البكاء أو تنفجر بقهقهة. قطب آندره حاجبيه وهز كتفيه، كما يفعل الهواة عندما تصك أسماعهم نغمة نشاز، وأخيرا أفلتت الأميرتان بعضهما، ولكن سرعان ما هوت كل منهما على يد الأخرى فأطبقت عليها وكأنها تريد تقبيلها، رغم ممانعة كل منهما لحركة الأخرى، ثم عادتا إلى العناق من جديد، ولشديد دهشة الأمير آندره انخرطتا في بكاء مرير، وهما تتبادلان القبل، وحزمت الآنسة بوريين أمرها على البكاء، ونفذت عزمها، وما كان الأمير آندره يخفي انزعاجه، غير أن الأميرتين كانتا تجدان تلك المكاشفة القلبية أمرا طبيعيا، بل إنهما ما كانتا تظنان أن لقاءهما يمكن أن يتم على أبسط من ذلك الشكل.
لم تلبث الأميرتان أن انتقلتا من النحيب إلى الضحك، فقالتا معا: آه يا عزيزتي! ... آه ماري! لقد حلمت الليلة الفائتة ... ما كنت تتوقعين إذن ... آه ماري! لقد هزلت ... وقد استعدت أنت ...
قالت الآنسة بوريين، وقد قدرت تدخلها ضرورة لازمة: لقد تعرفت فورا على سيدتي الأميرة.
هتفت ماري: وأنا التي ما كنت أتوقع أبدا! آه! آندره! لم أرك من قبل.
وتعانق الأخ والأخت، فقال لها آندره إنها لا زالت تلك المنتحبة «إياها»، بينما ألقت «هي» نظرة طافحة بحرارة العطف خلال دموعها ، نظرة كانت تشع من عينيها الدامعتين فتكسب وجهها جمالا وروعة.
كانت ليز خلال ذلك مسهبة في الحديث، وكانت ابتسامتها الرائعة لا تفارق فمها بسبب استمرار هبوط الشفة العليا القصيرة على الشفة السفلى، وكشفها خلال هذه الحركة الرتيبة عن أسنانها البيضاء اللامعة، راحت تروي حادثا وقع لهما على منحدر سباسكوائي كان يمكن أن يكون ذا نتائج خطيرة بالنسبة لها وهي في حالتها الحاضرة، ثم انتقلت إلى التحدث عن شئونها، فقالت إنها تركت كل مستلزمات زينتها في بيترسبورج، وإنها لن تجد هنا ما تظهر فيه، وإن آندره قد تبدل كثيرا، وإن كيتي أودنيتسوف قد تزوجت رجلا هرما، وإنهم وجدوا جديا خطيبا لماري، ولكنها ستتحدث عن هذا الأمر فيما بعد. وكانت الأميرة ماري لا تنبس ببنت شفة خلال ذلك الحديث المختلف المطول، بل كانت عيناها المفعمتان بالحب والحزن شاخصتين إلى آندره، بينما كانت أفكارها تتبع اتجاها يختلف كل الاختلاف عن الوجهة التي كانت تسير فيها أحاديث ليز، وبينما كانت هذه تصف آخر الأعياد التي أحييت في بيترسبورج، سألت ماري أخاها: هل تذهب إلى الحرب حتما يا آندره؟
وزفرت زفرة حرى، فانتفضت ليز وأجابت: نعم، بل ومنذ الغد.
ثم أردفت تقول: سوف يهجرني هنا، والله أعلم بالسبب، رغم أنه كان يستطيع أن يحصل على ترقية.
لم تنه جملتها حينما عادت الأميرة ماري، وقد كانت منسجمة مع أفكارها الخاصة، تقول لأخيها وهي تلقي نظرة ودودا على قامته المتناسقة: إذن، هل ذلك محقق؟
فأبدلت ليزا طابع وجهها وزفرت مرة أخرى، وقالت: نعم، آه، إنه لأمر مفزع!
انسدلت شفتها العليا فجأة، فأطبقت على السفلى، وأدنت وجهها من وجه الأميرة، وشرعت تنتحب.
قال الأمير آندره، وهو يقطب حاجبيه: إنها في حاجة إلى الراحة، أليس كذلك يا ليز؟ خذيها إلى جناحك بينما أمضي للقاء أبي، كيف حاله؟ هل لا زال كعهدنا به؟
فأجابت ماري برقة: نعم، كعهدنا به، بل يبدو لي أنه ساء قليلا عن ذي قبل، سوف تراه بنفسك.
سأل الأمير الشاب، وقد انفرجت شفتاه عن نصف ابتسامة تدل على أنه - رغم كل الاحترام الذي يكنه لأبيه - يعرف نقاط الضعف فيه: ألا زال مولعا بالأوقات الثابتة إياها، وجهاز صنع الأواني الفخارية، والنزهات في المماشي المشجرة؟
فأجابت ماري: بلى، لا زال يصر على دقة أوقاته، ويغرم بجهازه وبالرياضيات، ودروس الهندسة التي يلقنها لي كل يوم.
كان صوتها الفكه، وهي تتحدث عن دروسها، يوهم السامع أن تلك الدروس كانت إحدى مباهجها الرئيسية المستظرفة!
ولما انقضت الدقائق العشرون، وأزفت ساعة نهوض أبيه النظامية، جاء تيخون يستدعي الأمير الشاب للقاء أبيه الذي خرق نظام عاداته ابتهاجا بمقدم ابنه، وتفضل باستقباله بعد فترة راحة الظهيرة، فلما دخل آندره إلى غرفة الزينة، كان الأمير الشيخ جالسا على مقعد ضخم من الجلد، مرتديا قميصا، مسلما رأسه لعناية تيخون؛ لأنه كان أمينا على العادة القديمة، فكان يرتدي أبدا ثوبا موشى وينثر على شعره الذرور، لم يدخل الأمير على أبيه كما كان شأنه في المجتمعات الراقية؛ شرسا متطيرا بوجه مكتئب، بل كان هاشا شديد الحيوية، كما كانت عليه حاله عندما التقى لأول مرة بصديقه بيير.
هتف الأمير عند رؤية ابنه الشاب: آه، هو ذا رجل الحرب! لقد صورت إذن لنفسك أنك ستهزم بونابرت؟
وهز برأسه بقدر ما كان تيخون، الذي كان يضفر الشريط الذي يثبت شعره، يسمح له به، وأردف: حسنا، مثلك كمثل الآخرين، فاعمل ما في طاقتك؛ لأننا إذا لبثنا على ما نحن عليه من تصرف، فسوف يجعلنا بعد حين في عداد أتباعه!
ثم أضاف، وهو يقرب له وجنته: مرحبا!
كان الأمير الشيخ يزعم أن النوم بعد الغداء من فضة، بينما النوم قبل الغداء من ذهب، وفي الحقيقة أنه كان على أحسن مزاج، ألقى نظرة جانبية نحو آندره، يظللها حاجباه الكثيفان المنسقان بعناية، فقبله هذا في المكان الذي عينه أبوه، لكنه لم يعقب على رأي أبيه، الذي درج على الاستهانة بعسكريي المدرسة الحديثة، وبصورة خاصة ببونابرت.
قال الأمير الشاب - وهو يتابع ببصره بامتثال شديد كل حركة من عضلات وجه أبيه العجوز: هأنذا يا أبي، لقد أتيتك بزوجتي، وهي في حالة خاصة، كيف حالك يا أبي؟ - إن المرض يا عزيزي لا يداهم إلا الحمقى والفجار، ولما كنت - كما تعرف - عفيفا زاهدا جم المشاغل، أعمل منذ الصباح وحتى المساء، فإن ذلك يجعلني في صحة جيدة.
فقال آندره باسما: حمدا لله وشكرا. - لا دخل لله في هذا الموضوع.
ثم أعقب وقد عاد إلى سخريته المعتادة: هيا حدثني كيف علمكم الألمان التغلب على بونابرت، بحسب الجديد المسمى «استراتيجية»؟
فأجاب آندره بابتسامة ودية، تنبئ بأن ميول العجوز لا تمنعه من الإمعان في احترامه، وقال: دعني أتنفس يا أبي، لست أدري بعد أين سنستقر.
فهتف الأمير وقد أمسك بذراعه، وهو يجذب شريط شعره ليختبر متانته: بل على العكس، على العكس، إن مخدع زوجتك جاهز، سوف تأخذها ماري إليه، سوف تثرثران بكل سرور؛ لأن النساء لا هم لهن إلا الثرثرة، إنني سعيد باستقبالها، هيا اجلس ولنتحدث، إنني أفهم ماذا يعمل جيش ميخلسن، وكذلك جيش تولستوي. نزول متوافق، ولكن ماذا يفعل جيش الجنوب؟ سوف تبقى بروسيا حيادية ولا شك، ولكن ماذا عن النمسا والسويد؟ كيف يمكن اجتياز بوميرانيا
؟
نهض الأمير وراح يذرع غرفته، يتبعه تيخون الذي كان يقدم له قطع الثياب المختلفة ليرتديها، فلم يستطع الأمير آندره أمام ذلك الإلحاح إلا أن يخوض في الحديث، بدأه في شيء من الضجر، لكنه ما لبث أن ثارت حميته وازداد اندفاعه، فراح كعادته، يخلط الكلمات الروسية بالكلمات الفرنسية، وأخذ يعرض على مسامع أبيه خطة المعركة المقبلة؛ سيهدد بروسيا جيش قوامه تسعون ألف رجل ليخرجها عن حيادها، وسوف يجتمع جانب من ذلك الجيش في سترالسوند بجيش السويد، وسوف ينشط للعمل في إيطاليا وعلى الرين مائتا ألف نمساوي، ومعهم مائة ألف روسي، وسينزل في نابولي خمسون ألف روسي، وخمسون ألف إنجليزي، وسيكون مجموع الجيوش التي ستهاجم الفرنسيين، خمسمائة ألف رجل، وستعمل هذه الجيوش في نقاط مختلفة متنوعة.
كان الأمير الشيخ، مستمرا في ارتداء ملابسه خلال الحديث، وهو يتمشى في الغرفة، ما كان يبدي أي اهتمام بما يشرحه ابنه من نظريات، بل كان يبدو وكأنه لا يصغي إلى قوله، فلم يقاطعه إلا ثلاث مرات، وبصورة غير منتظرة أبدا؛ الأولى عندما صاح قائلا: الأبيض! الأبيض!
وكان معنى ذلك أن تيخون أخطأ في تقديم الصدرة المطلوبة، والمرة الثانية عندما توقف ليسأله: إذن، هل الولادة قريبة؟
ثم هز رأسه بعدئذ بلهجة المؤنب وهتف: في! في! ... استمر، استمر.
وأخيرا، بعد أن انتهى آندره من حديثه، أرعد بصوت نشاز محطم يغني: مالبورغ يمضي إلى الحرب.
الله يعرف متى يعود.
أعقب آندره مبتسما: إنني لا أزعم أن ما عرضته على مسامعك هو المخطط المثالي الذي أحلم به، لكنني أروي لك ما سيكون، ولا شك أن لنابليون خطته التي تساوي هذه.
فقال الأمير الشيخ مؤيدا: هيا، إنك لم تطلعني على شيء جديد، هيا إلى مائدة الطعام.
وراح يدندن من جديد: الله يعلم متى يعود ...
الفصل السابع والعشرون
على المائدة
في الساعة المحددة لتناول الطعام، دخل الأمير العجوز قاعة الطعام وهو على أحسن زينة، فالتقى بابنته وزوجة ابنه والآنسة بوريين ومهندسه الخاص الذين كانوا ينتظرون قدومه حول المائدة، وكان الأمير - انسياقا مع هوى في نفسه - يتصل على مائدته ذلك المهندس عديم الشأن، مضفيا عليه شرفا واعتبارا، كان الأمير قليل الميل نحو اتحاد الطبقات، وكان يدعو إلى مائدته كبار موظفي المقاطعة في فترات بعيدة، مع ذلك فقط حلا له أن يظهر في شخص المهندس ميخائيل إيفانوفيتش، الذي كان يمسح أنفه بين الحين والحين بمنديل ذي مربعات، أن كل الرجال متساوون على الأرض، وكان قد ألمح أكثر لابنه أن ميخائيل إيفانوفيتش لم يكن أدنى منهم منزلة في شيء، فكان خلال أوقات الطعام يوجه جل حديثه إلى المهندس الصامت.
كان أفراد الأسرة ينتظرون قدوم الأمير في قاعة الطعام الكبيرة ذات الجدران المرتفعة أسوة بكل غرف البيت، وكان خادم يقف وراء كل مقعد، ورئيس الخدم واضعا منشفته على ذراعه، يرقب المائدة، فيعطي بين حين وآخر أوامره بعينيه للخدم، بينما كانت عيناه القلقتان، تتبعان مشية عقارب ساعة الجدار البطيئة، وتنتقلان منها إلى الباب الذي سيدخل الأمير منه، كان آندره يدقق في إطار كبير مذهب، لم يره من قبل، يحوي شجرة بولكونسكي السلالية، يرتبط بإطار آخر لا يقل عنه ضخامة، يحيط بصورة أمير مالك، جالس على عرش وعلى رأسه تاج، وهو - ولا شك - سليل روريك، وأصل أسرة بولكونسكي، كانت اللوحة سيئة التصوير، تدل على أنها من صنع رسام مبتدئ.
كان آندره متعصبا أمام الشجرة السلالية، يهز رأسه ضاحكا، وكأنه يعاين رسما هزليا «كاريكاتوريا».
قال لأخته التي كانت تقترب منه: إنني أتعرف عليه هنا!
فنظرت إليه ماري مأخوذة، لم تكن تفهم ما يدفعه إلى الضحك.
فقد كان كل ما يعمله أبوها يوحي إليها باحترام عميق.
استطرد آندره يقول: لكل إنسان نقطة ضعفه، كذلك فإن ذكاء متوقدا كذكائه قد أهرق في هذا العمل المضحك الغريب!
ما كانت ماري تتقبل حكما هداما مناقضا كهذا الحكم، فهمت تريد لومه والتعرض لأسلوبه، لولا أن ترددت الخطوات المنتظرة وعلا وقعها، ودخل الأمير العجوز بمشيته النشيطة الرشيقة، وحركاته الطليقة، وكأنها تعترض على النظام الدقيق الذي يسير الأمور في البيت، وفي تلك اللحظة دقت الساعة دقتين، وردد البهو صدى دقتين أخريين من الساعة المعلقة على جداره، توقف الأمير، وراحت نظرته العميقة القاسية تنتقل بين الموجودين، حتى توقفت على زوجة ابنه، فشعرت هذه بذلك الشعور الذي يندمج القلق فيه بالاحترام، والذي يفرضه وجود الأمير على كل من حوله، وأحست إحساس الرعية المخلصة عند اقتراب الملك، لاطف الأمير العجوز ليز بأسلوب ينقصه التوفيق، يدل على قصر باعه في مثل هذه المجاملات، فربت على مؤخرة رأسها ومس شعرها بيده، ثم قال بصوت أجش: إنني سعيد مفتون.
وبعد أن حدق في وجهها مرة أخرى متفحصا، أشاح بوجهه عنها فجأة، ومضى إلى مكانه على المائدة، وهو يقول: خذوا أماكنكم، خذوا أماكنكم، اجلس يا ميخائيل إيفانوفيتش.
وأشار إلى زوجة ابنه أن تجلس بقربه، فهرع خادم يحمل لها مقعدا إلى المكان المعين.
قال العجوز وهو يشير إلى ضخامة وسط زوجة ابنه: هه، هه! هذا يدل على الإسراع في الواجب . في! في!
وانفجر ضاحكا ضحكته الجافة الباردة المكروهة، ضحكة تصدر عن فمه، فلا تشاطره العينان فيها، أردف بإلحاح: ينبغي السير بأسرع ما يمكن، أسرع ما يمكن.
لم تسمع الأميرة الصغيرة كلامه، أم لعلها تظاهرت بأنها لم تسمعه، كانت محتفظة بصمت قلق، قطعته مرة لتجيب بابتسامة على سؤال وجهه الأمير إليها حول صحة والدها، ثم سألها عن معارفها، وعندئذ عادت ليز إلى انطلاقها المعهود، فنقلت إليه تمنيات مختلفة وأفرغت ما في جعبتها من هذر العاصمة.
تمتمت: إن الكونتيس آيراكيش، المسكينة، فقدت زوجها، فبكته بكل ما في عينيها من دموع.
وبينما كانت ليز تزداد حماسة واندفاعا، كانت نظرة الأمير إليها تزداد صرامة وقسوة، وفجأة أشاح بوجهه عنها، وأدار لها ظهره، وكأنه درسها كفاية، وراح يحدث المهندس: حسنا يا ميخائيل إيفانوفيتش، إن «بونابرتنا» أضحى الآن في حال سيئ! وذلك بالإصغاء إلى ما يقوله الأمير آندره.
كانت عادته عندما يتحدث عن ابنه، أن يشير إليه بالضمير المفرد الغائب، أردف يقول: ستنقض عليه زوبعة ثلجية هائلة، ونحن الذين كنا نعتبره مخلوقا خاليا من الكفاءة والإمكانيات!
راح ميخائيل إيفانوفيتش يتساءل في سره: عن الوقت الذي استطاع «كلاهما» خلاله التحدث عن هذه الآراء حول بونابرت، لكنه كان يعرف أن الأمير يستخدمه دائما وسيلة وتكأة لإثارة موضوعه المفضل، لذلك فقد راح ينظر إلى الأمير الشاب بدهشة دون أن يعرف نتائج ذلك الموقف على الضبط.
قال الأمير العجوز لابنه وهو يشير إلى المهندس: إه، نعم، إنه ماهر جدا في أمور الحرب والخطط الحربية!
وعادت الأحاديث تدور من جديد حول الحرب، وبونابرت، والقواد العظام ورجال الدولة المعاصرين، كان يبدو على الأمير العجوز أن كل زعماء العهد الجديد ليسوا فقط غلمانا صغارا يجهلون حتى مبادئ الحرب والسياسة، بل إن بونابرت أيضا لم يكن إلا فرنسيا حقيرا، ما كانت انتصاراته لتدوم لو كان خصومه من طراز بوتيمكين
1
وسوفوروف، وكان كذلك مقتنعا بأنه لم يكن في أوروبا في الوقت الحاضر عدوان ولا حرب جديرة بالاسم الذي يطلق عليها، بل إن الأمر كان مقتصرا على مشهد من مشاهد «كاراكوز»، حيث الرجال يتظاهرون أنهم يقومون بدور جدي، وكان آندريه يستقبل تلك السخرية اللاذعة بابتسامة مغتبطة، ويحاول بمكر أن يستزيد أباه منها، وقال يثيره: نعم، إننا نحب دائما تمجيد الوقت الماضي، مع أن «سوفوروفك» سقط في الشرك الذي نصبه له «مورو»
2
ولم يستطع الخلاص منه كما أعلم.
صرخ الأمير العجوز وهو يزيح صحفته من أمامه، فيتلقفها تيخون برشاقة: من قال لك ذلك؟ من قال لك ذلك؟ سوفوروف! فكر قليلا يا أمير آندريه؛ إنهما اثنان فقط: فريدريك وسوفوروف. مورو! لكن مورو كاد أن يقع سجينا لو أن سوفوروف كان مطلق الحرية، غير أن يديه كانتا مغلولتين من قبل ضباط القيادة الألمان، سوف ترى هؤلاء الضباط الآن، إنهم يخدعون الشيطان نفسه، حتى يجعلوه حمارا بليدا، إذا كان سوفوروف لم يستطع أن يتخلص، فهل تعتقد أن ميخائيل كوتوزوف
3
قادر على ذلك؟! كلا يا صديقي، إنكم بكبار ضباطكم الحاليين وحدهم لن تستطيعوا شيئا ضد نابليون، إنكم إذا شئتم هزيمته، ينبغي لكم إيجاد فرنسيين «تنكروا نهائيا لأبناء قومهم، فينقضون على أبناء قومهم»، ولهذا السبب أرسلنا الألماني باهلين
4
إلى أمريكا، إلى يورك الجديدة «نيويورك حاليا»؛ للبحث عن الفرنسي مورو.
كان بهذا القول يلمح إلى العرض الذي تقدم الروس به إلى ذلك القائد الفرنسي للدخول في خدمة روسيا، أردف يقول: يا له من ضلال! هل كان بوتيمكين وسوفوروف وأورلوف
5
وأمثالهم من الأجانب؟ كلا يا عزيزي، لقد فقدتم عقولكم جميعا، أو أنني عدت إلى عقلية الطفولة. ليساعدكم الله. وسنرى ... بونابرت عسكري كبير! هم!
قال الأمير آندريه: إنني لا أزعم أن كل الخطوات التي اتخذت كانت مجدية وممتازة، لكن رأيك عن بونابرت يدهشني، اضحك ما شئت أن تضحك، ولكنه عسكري كبير حقا.
صرخ الأمير العجوز يستشهد بالمهندس الذي كان يهاجم قطعة الشواء، معتقدا أنه نسي تماما، وأهمل في ذلك الحديث: يا ميخائيل إيفانوفيتش، ألم أقل لك إن بونابرت عسكري كبير؟ إنه هو الآخر يقول ذلك.
فأجاب المهندس: تماما يا صاحب السعادة.
عاد الأمير يضحك ضحكته الجافة، وقال: لقد ولد بونابرت محظوظا، إنه أولا يملك جنودا ممتازين، وهو لم يقابل حتى الآن إلا الألمان، فمن الذي لم يهزم الألمان؟ لم يهزمهم إلا أولئك الذين ما أرادوا أن يحتملوا عناء ذلك؛ لأن الألمان كانوا منذ أن أصبح العالم عالما يهزمون ويغلبون. إنهم لا يجيدون إلا التناحر بينهم، وعلى مثل هؤلاء الحمقى أقام بونابرت مجده.
وراح الأمير العجوز يشرح بإسهاب الأخطاء الفنية الاستراتيجية التي يعزوها إلى بونابرت، وراح كذلك ينتقد تصرفاته كرجل دولة، أما الابن فقد كان ممتنعا عن إبداء أي اعتراض، لكنه كان يبدو على وجهه أنه رغم شرح أبيه وأقواله، فإنه لم يكن على استعداد لتبديل رأيه حول ذلك الموضوع، وكذلك كان الأب، لكن الأمير الصغير كان يتأمل بإعجاب سعة اطلاع العجوز على مجرى الأمور من الوجهتين السياسية والعسكرية في كل أوروبا، والطريقة الدقيقة التي كان يعالج تلك الأمور بها رغم انزوائه منذ سنين طويلة في الريف.
قال العجوز معقبا: لعلك تتصور أن عجوزا مثلي لا يمكن أن يفقه شيئا في الأمور الحاضرة؟ إنك مخطئ، إن هذه الأمور لا تني تقلقني حتى إنني لا أنام الليل بسببها، إذن أين ظهرت بوادر عسكريك الكبير في الآونة الأخيرة؟
فأجاب الابن: إن شرح ذلك يطول.
فهتف العجوز: حسنا، امض إذن إلى لقاء بونابرتك!
واستدار نحو الآنسة بوريين، وقال: يا آنسة بوريين، هو ذا معجب جديد بإمبراطورك القذر. - إنك تعرف تماما يا أميري أنني لست من أنصار بونابرت.
فعاد العجوز يدندن بصوته النشاز: الله يعلم متى يعود.
وأعقبها بضحكة أكثر نشازا وهو ينهض عن المائدة.
لم تفتح ليزا فمها خلال هذه المناقشة، بل كانت تلقي نظرات مذعورة تارة على ماري وأخرى على أبيها، فلما انتهى الطعام، أمسكت بذراع ماري وأخذتها إلى غرفة مجاورة وقالت لها: إن أباك شديد الذكاء، ولعله بسبب ذلك يشعرني بالخوف.
فأجابت ماري: نعم، إنه شديد الطيبة!
الفصل الثامن والعشرون
الذهاب إلى الحرب
كان الأمير آندره عازما على السفر مساء اليوم التالي. مع ذلك، فإن الأب - حرصا منه على نظام حياته - انسحب بعد الغداء مباشرة، بينما ذهبت ليز إلى جناح ماري، أما آندره فإنه بعد أن عاين عربته الخفيفة وموضع حقائبه وترتيبها، وأعطى الأمر بأن يقطر الجواد إلى العربة، راح وهو مرتد ثوب السفر، وقد نزع الزينة التي تحلى بها أكتافه، يهيئ حاجاته الأخيرة بمساعدة خادم غرفته في المخدع الذي خصص له، لم يترك في الغرفة إلا الأشياء التي لا يتخلى عنها أبدا؛ صندوقا صغيرا يحوي على أدوات للزينة مصنوعة من الفضة، وغدارتين تركيتين، وحساما. وكان أبوه قد قدم له هذه الأشياء هدية بعد أن أتى بها من أوتشاكوف، فكان يحتفظ بتلك الهدية بعناية فائقة محزومة في قطع من القماش السميك.
لقد جرت العادة على أن يفكر كل رجل قادر على التخيل، عندما يطرأ على حياته رحيل مفاجئ أو انتقال أو تبدل في أسلوب الحياة، وأن تراود عقله أفكار شتى؛ لأن مثل تلك الساعة تكون صالحة جدا للبحث في الماضي وإقامة خطط للمستقبل، كذلك كان الأمير آندريه في تلك اللحظة، كان عاقدا يديه وراء ظهره، يذرع الغرفة من زاوية إلى أخرى وهو شاخص البصر، يهز رأسه بشرود وتحنان، ترى هل كان يرهقه الذهاب إلى الحرب ويخيفه؟ أم كان يقلقه هجرانه لزوجته؟ لعله كان يفكر في كلا الأمرين معا. وبينما كان على تلك الحال، تناهى إلى سمعه وقع خطوات في الردهة، فلم يزعجه أن يفاجئه أحد وهو على تلك الحالة من الشرود والتفكير، توقف قرب المنضدة، وراح يتشاغل في عقد غلاف صندوقه، واستعاد هدوءه وأمارات السكينة المعهودة، وأسدل على وجهه ذلك الحجاب الكثيف الذي لا يمكن للعين أن تستشف خلاله أفكار صاحبه، كانت الخطوات الثقيلة تشير إلى مقدم أخته ماري.
قالت لاهثة وكأنها قطعت شوطا وهي تجري: لقد قيل لي إنك أمرت بتجهيز العربة، وأنا التي كنت أتحين الفرص للقائك وحيدا، إن الله يعرف متى سنلتقي من جديد، هل أزعجك قدومي؟
وأضافت وكأنها تبرر سبب إلقائها ذلك السؤال: ذلك أنك تبدلت كثيرا يا آندريوشا.
وابتسمت وهي تنطق باسم التدليل الظريف الذي درجت على إطلاقه عليه، ولعلها وجدت أن من الغرابة أن يكون هذا الشاب الجميل، ذو الوجه القاسي الصارم، هو نفسه آندريوشا، ذلك الغلام الماكر الهزيل الذي كان رفيق طفولتها.
سألها بعد أن أجاب على سؤالها الأول بابتسامة يسيرة: أين ليز الآن؟
قالت الأخت وهي تجلس على أريكة قبالة أخيها: إنها شديدة التعب، حتى إنها نامت من فورها على أريكة في مخدعي، آه يا آندره! إنها امرأة أثمن من كنز! إنها طفل حقيقي شديد اللطف والدعة، لقد شعرت بميل عنيف نحوها للوهلة الأولى.
لم يجب آندريه لكن قسماته فضحت سخرية وازدراء ارتسما على تقاطيعه، فلم يخف ذلك على الأخت، قالت: لنكن متسامحين حيال هفوات الآخرين الصغيرة يا آندره، من ذا الذي يخلو من هفوات؟ لا تنس أنها نشأت في بيئة صاخبة راقية، ثم إن حالتها ليست على ما يرام، ينبغي أن نضع أنفسنا مكان الآخرين، فإذا فهمنا كل شيء صفحنا عن كل شيء، فكر فيما ينتظر المسكينة عقب لون الحياة الذي ألفته، ستجد أن وضعها الحاضر مؤلم، خصوصا وهي التي ستفترق عن زوجها لتمكث وحدها في الريف.
راح آندريه يبتسم وهو ينظر إلى أخته، كما يبتسم المرء للشخص الذي يعتقد أنه يدرك أفكاره، وقال: لكنك أنت أيضا تعيشين في الريف يا أختاه، فلا تجدين الحياة رهيبة بهذا القدر. - إن أمري يختلف، فدع عنك الحديث عني أرجوك. إنني لا أستطيع التطلع إلى لون مختلف من الحياة؛ لأنني لا أعرف غير حياتي الحاضرة، فكر قليلا يا آندريه في الحزن الذي تتعرض له امرأة شابة عصرية تدفن نفسها في الريف، خصوصا وأن «بابا» مشغول أبدا وأنا ... أنت أدرى بمبلغ عجزي عن توفير ما تتطلبه سيدة عاشت في أرقى الأوساط، بذلك لن يبقى إلا الآنسة بوريين ... - إنني لم أستملح هذه الآنسة بوريين قط. - لا تقل هذا! إنها فتاة فتانة شديدة الطيبة، تستوجب الرثاء والإشفاق، إنها محرومة من كل سند في الحياة، كل سند، وإذا شئنا أن نتكلم بصراحة، قلت لك إنني في غير حاجة إليها ، بل إنها تزعجني أحيانا؛ لأن طبيعتي المتطيرة لا تتفق مع مزاجها اللطيف المرح، ثم إنك لا تجهل - ولا شك - أنني أزداد إغراقا في تطيري، إنني أحب الوحدة. ثم إن أبي يحبها كثيرا، وهو دائما معها لطيف حيالها، كما هو إزاء ميخائيل إيفانوفيتش؛ ذلك لأنهما مدينان لفضله، وكما قال ستيرن:
1 «إننا نحب الأشخاص بسبب ما عملناه في سبيلهم من خير، أكثر مما نحبهم بسبب عملهم الخير لنا»، لقد التقطها أبي يتيمة في الطريق، لكنها ذات قلب طيب، وأبي يحب طريقتها في القراءة، وهي تقرأ له في كل مساء، وتقرأ بصورة ممتازة.
سألها آندريه فجأة: ألا تعترفين يا ماري بأنك تتألمين أحيانا بسبب عقلية أبينا؟
ألقى ذلك السؤال على الأميرة ماري في حالة من الذهول أقرب إلى الرعب والفزع. قالت: ماذا تقول؟! أتألم؟ أنا؟ - لقد كان صارما قاسيا أبدا، وقد أصبح كما أعتقد مؤلما شديد الإيلام.
لعله كان يريد بتعبيره عن آرائه بهذا الشكل المتحرر وبالتحدث عن أبيه بتلك اللهجة، أن يربك أخته أو يروعها.
قالت ماري وهي تتبع سياق أفكارها أكثر مما تصغي إلى سير المحادثة: إنك فتى ممتاز يا آندريه، لكن في أحكامك لونا من التيه والإغراق، وإنها خطيئة كبرى، هل يجوز للمرء أن ينتقد أباه؟ ولو أن ذلك كان مباحا، فكيف يمكن أن يوحي رجل مثل أبي بغير شعور الاحترام والتبجيل؟ ثق أنني مرتاحة تماما وسعيدة تماما بقربه، إن غايتي الوحيدة هي أن تكونوا جميعكم سعداء كما أنا سعيدة.
فهز آندريه رأسه بتشكك وارتياب، بينما استطردت ماري: إذا شئت معرفة الحقيقة يا آندريه، فثق أن ما يعذبني ويزعجني في أبي هو لامبالاته حيال الشئون الدينية، لست أفهم كيف يمكن لعقلية نيرة كهذه أن تتيه إلى هذا الحد، فتمتنع عن رؤية ما هو واضح كنور النهار، إن هذه الناحية هي كل ما يؤلمني، بل إنني في الآونة الأخيرة، اكتشفت بعض التقدم عنده، فقد أضحت سخرياته أقل شدة، بل إنه وافق على استقبال أحد الرهبان والاستغراق معه في حديث طويل.
فأجاب آندريه بلهجة جمعت بين السخرية والمودة على صعيد واحد: إه يا عزيزتي! إنني أخشى أن تحرقي أنت والراهب كل جهدكما عبثا! - آه يا صديقي! إنني لا أنفك أبتهل إلى الله، وآمل أن يتقبل ابتهالاتي.
ثم أردفت بعد صمت يسير في شيء من الارتباك والخوف: آندريه، عندي رجاء حار أتقدم به إليك. - ما هو رجاؤك يا صديقتي؟ - عدني أولا أنك لن ترفضه، إنه لن يسبب لك أي عناء ولن تخجل منه، ثم إنك تسبغ علي بتقبله عزاء وسلوانا.
ثم أردفت وهي تلمس في حقيبة يدها شيئا كان موضوع رجائها ولا شك، ولكنها ما كانت تريد إظهاره إلا بعد أن تحصل على كلمة أخيها وميثاقه. - عدني يا آندريوشا.
وراحت تنظر إليه بعينين ضارعتين.
فأجاب آندريه وقد ضمن موضوع رجائها: بل إنني أعدك، ولو كان فيه كبير عناء. - لك أن تفكر كما تشاء؛ لأنني أعرف أنك وأبي سواء حول هذا الموضوع، لكنني أتوسل إليك أن تفعل ذلك من أجلي، لقد حمله جدنا الأكبر طيلة غزواته وحروبه.
واستبقت يدها في الحقيبة لا تخرجها وأعقبت: إذن هل تعدني؟ - طبعا أعدك، ما هو الأمر الذي تريدين؟ - آندريه، إنني أباركك بهذه الصورة المقدسة، فعدني بأنها لن تفارقك أبدا، هل تعد؟
فقال آندريه مجيبا: إذا كانت لا تزن أرطالا ثقيلة، وكانت لا تجتذب عنقي بشدة إلى الأسفل، فإنني أود من صميم نفسي أن أدخل السرور على نفسك.
ولما شاهد ما ارتسم على وجه شقيقته من ألم، أدرك أن دعابته قد جرحت إحساسها المرهف، فاستطرد مستدركا بلهجة أخرى: بكل سرور، بل بسرور عظيم يا صديقتي.
قالت بصوت متهدج من الانفعال وهي ترفع راحتيها أمام أنظار أخيها، بحركة وقورة محترمة، وعليها صورة مقدسة قديمة مسودة، يحميها إطار بيضوي جميل، معلقة بسلسلة فضية دقيقة الصياغة: سواء شئت أم لم تشأ فإنه سينقذك ويعيدك إليه؛ لأن الحقيقة الوحيدة والغراء الأوحد كامنان فيه.
ثم رسمت إشارة الصليب على صدرها، وقبلت «الأيقونة»، وقدمتها لآندريه، وهي تقول: أرجوك يا آندريه، اعمل ذلك من أجلي.
كانت عيناها الكبيرتان تشعان بذلك الوميض الدافئ الهادئ الذي يجمل وجهها الهزيل الناحل المريض، ولما هم آندريه بأخذ «الأيقونة» استوقفته؛ فهم مرادها، فرسم إشارة الصليب بدوره، وقبل الصورة المقدسة وهو بين ساخر ومنفعل، وقال وقد رقت عواطفه: شكرا.
فقبلته أخته في جبينه وعادت تجلس على الأريكة وران صمت عليهما.
قالت تقطع الصمت المخيم: كن طيبا ورحيما، كما أسلفت وطلبت منك؛ لأنني أعرف أنك كنت كذلك أبدا، لا تقس في حكمك على ليز، إنها لطيفة جدا وطيبة جدا، إن مصيرها الحاضر غاية في الحزن. - لم تكررين علي هذا القول يا ماري؟ هل قلت لك إنني آخذ على زوجتي مأخذا ما، أم إنها تسبب في إحفاظي وإزعاجي؟
ظهرت على وجه ماري لطخات حمراء، فصمتت وكأنها أخذت بخطئها، أردف آندريه: كلا، إنني لم أحدثك قط بشيء من هذا، لكنه نمى إليك من بعضهم، أليس كذلك؟ إن ذلك يزعجني ويؤلمني.
اجتاحت اللطخات الحمراء جبين ماري هذه المرة بعد أن صبغت وجنتيها وعنقها، كانت تريد أن تجيبه، ولكن أرتج عليها، وظلت الكلمات محتبسة في حنجرتها، لقد خمن أخوها حقيقة ما وقع؛ إذ إن ليز كانت قد حدثت ماري بعد الطعام وسط نوبة من الدموع الهاطلة بأنها تنتظر ولادة عسيرة تخشى ألا تنجو منها، ثم شكت سوء مصيرها وشكت من زوجها وأبيه، وأخيرا أنهكتها الدموع فاستسلمت للنوم، وقد أشفق آندريه على أخته، فقال: اعلمي جيدا يا ماري، أنني لا ألوم زوجتي على شيء، ولم ألمها من قبل ولن ألومها في المستقبل، ولا أستطيع من ناحيتي أن أوجه لنفسي لوما على سلوكي حيالها؛ لأن تصرفي منطقي ومعقول، ونحن في مثل هذه الظروف الحرجة، مع ذلك إذا شئت أن تعرفي إذا كنت سعيدا وكانت هي الأخرى سعيدة أجبتك بصراحة أن كلا وكلا وكلا، أما ما هو السبب، فلست أدري!
ونهض بعد ذلك، فاقترب من أخته وقبلها في جبينها، كانت عيناه الجميلتان تلتمعان ببريق غير معهود، بريق مفعم بالتعقل وطيبة النفس، ولكنه ما كان يوجه أنظاره إلى أخته، بل كان شاخصا بها إلى الظلمات العميقة البادية خلال الباب المفتوح وراءها.
نهضت ماري فوقفت على العتبة وقالت: آندريه، ليتك آمنت، لكنت توجهت إلى الله طالبا إليه أن يمنحكما الحب الذي لا تشعران به، ولكانت ابتهالتك قد قبلت. - نعم، لعل ذلك صحيح! اذهبي يا ماري سأتبعك بعد حين.
وبينما كان الأمير آندريه يجتاز الممشى الذي يجمع بين الجناحين، ليدخل إلى مخدع أخته، وجد نفسه فجأة وجها إلى وجه مع الآنسة بوريين الضاحكة، فكانت تلك المقابلة الثالثة من نوعها لذلك اليوم في أمكنة منعزلة، كانت الفتاة تبتسم أبدا ابتسامتها الحية البريئة.
قالت - وقد تخضب وجهها بالحمرة وأطرقت بعينيها دون سبب ظاهر: آه! لقد ظننتك في مخدعك.
اتخذ آندريه فجأة طابع الغضبان، واكتفى بأن حدج الفرنسية بنظرة ثائرة ملؤها الاحتقار، جعلت الدماء تصعد إلى وجهها، فتحيد عن طريقه دون أن تهمس بكلمة، فلما بلغ غرفة أخته، بلغ مسمعه صوت ليز العاتي، التي كادت تستيقظ حتى راحت تسرد سلسلة من الحوادث الجديدة، وكأنها كانت تريد استدراك الزمن الذي فاتها، والذي قضته في صمت مطبق، كانت تقول: تصوري يا ماري الكونتيس سوبوف العجوز بأقراطها المزيفة وفمها المنضد بأسنان صناعية وكأنها تتحدى السنين. ها ها ها!
كان آندريه قد سمع زوجته تردد هذه العبارة بالذات، وتعقبها بتلك الضحكة بالذات أمام غرباء للمرة الخامسة، فدخل دون ضجة، رأى ليزا جالسة على مقعد، وأشغالها في يدها، مستديرة متوردة الوجه، تثرثر دون توقف وتستوحي ذكريات بيترسبورج وحتى نتفا من أحاديثها، سألها وهو يداعب شعرها عما إذا كانت قد استراحت من وعثاء السفر، فأجابته إجابة مقتضبة وعادت إلى ثرثرتها.
كانت عربة مكشوفة تقطرها ستة خيول واقفة أمام الباب، وكان ليل الخريف شديد الحلكة، حتى إن الحوذي ما كان يستطيع رؤية عريش العربة، وعلى الممشى المؤدي إلى المدخل، كان عدد من الناس يحملون المصابيح ويعملون، وكانت الأضواء تلتمع خلال كل نوافذ المسكن العليا، وقد تهافت الخدم في الممشى، وكلهم يرغب في تقديم تمنياته للسيد الشاب قبل سفره. أما أهل الدار وميخائيل إيفانوفيتش والآنسة بوريين وماري وليز، فقد كانوا ينتظرون في البهو الكبير عودة الأمير آندريه من لدن أبيه الذي أعرب عن رغبته في لقائه على انفراد لوداعه.
لما دخل آندريه مكتب الأمير العجوز، كان هذا مرتديا معطفا منزليا أبيض، احتفظ به خلال فترة وداع ابنه، وكان يكتب على ورقة، وقد أثبت نظارتيه على أرنبة أنفه، استدار نحوه وقال: هل تذهب الآن؟
وعاد إلى كتابته، فقال الابن: لقد جئت أودعك يا أبي. - حسنا قبلني هنا (وأشار إلى وجنته) شكرا شكرا. - لأي شيء تشكرني؟ - لأنك تلتحق في الجيش في الوقت المناسب، يا للسعادة! إنك لا تتعلق بثياب امرأتك، إن الواجب قبل كل شيء، فشكرا شكرا.
وظل القلم يجري على الورقة بسرعة، حتى إنه كان يغرز فيها أحيانا أو يلطخها بالحبر، قال الأمير العجوز: إذا أردت أن تقول شيئا، فقله لأنه لن يزعجني. - إن الموضوع متعلق بزوجتي. في الحقيقة إنني خجل إذ أتركها لك وأحملك مسئولياتها. - ما هذه الفلسفة؟ قل ما تريد أن تقوله. - حسنا. عندما يحين وقت ولادتها، أرجو أن تستدعي مولدا من موسكو. إنني أصر على أن يكون بجانبها مولد عند ولادتها.
توقف الأمير العجوز وتظاهر بأنه لم يفهم، ثم حدج ابنه بنظرة قاسية، فبدا آندريه مرتبكا، قال الأمير الشاب: إنني أعرف أن الطبيعة إذا لم تساعد نفسها بنفسها فإن الإنسان لا يستطيع شيئا حيالها، وإنني أعترف أن هناك حالة سيئة بين كل مليون حالة، ولكن ماذا تريد؟ تلك هي فكرتها، وكذلك هو رأيي؟ لقد أداروا رأسها، وحلمت أحلاما مزعجة، وبالاختصار إنها خائفة.
فغمغم العجوز وهو ينهي رسالته ويوقع عليها توقيعا ضخما: هم، هم! ليكن! ثم التفت فجأة إلى ابنه، وقال له وهو ينفجر ضاحكا: إنها مسألة مزعجة، أليس كذلك؟ - أية مسألة يا أبي؟
فأجاب الأب بلهجة مفعمة بالمعاني: زوجتك! - لست أفهمك. - والأسوأ يا صديقي الطيب هو أنه لا يمكن قط تبديل شيء، انهض جميعا سواء، فلا تبتئس، لن أتحدث بالموضوع إلى أحد، وأنت تعرف كيف تتصرف.
ثم أمسك بذراعه بيده الصغيرة النحيلة ، وهزه وهو يحدجه بنظرة قاطعة تكاد أن تخترقه من جانب إلى آخر، ودوت ضحكته الباردة الجامدة من جديد، فأفلت الابن زفرة أثبتت للأب أنه أصاب الهدف في تخمينه، بينما عاد الأمير العجوز يطوي الرسالة، ويختمها بخاتمه حسب طريقته المألوفة، وقال: ماذا تريد؟ إنها جميلة! فكن مطمئنا سوف أعمل اللازم.
لم يجب آندريه، لقد كان مسرورا كما كان حزينا؛ لأن أباه استطاع أن يخترق سريرته ويحدس ما فيها، فنهض العجوز ومد الرسالة إلى ابنه وقال: أصغ، لا تقلق مطلقا على زوجتك؛ لأننا سنعمل المستحيل من أجلها، والآن هذه رسالة إلى ميخائيل لاريونوفيتش، لقد كتبت له طالبا إليه أن يستخدمك في أحسن المراكز، وألا يستبقيك طويلا في الأركان العامة؛ لأن هذه المراكز سيئة مكروهة، طمئنه بأنني لا زلت أذكره، وأحتفظ له بمودتي القديمة، واكتب لي عندما يستقبلك، لا تمكث معه إلا إذا استقبلك استقبالا يليق بك، إن ابن نيكولا آندريئيفيتش بولكونسكي ليس بحاجة إلى أن يطلب من أحد، مهما سما مركزه، والآن تعال من هنا.
كان الأمير العجوز يتكلم بطلاقة عظيمة، حتى إنه ما كان يخرج نصف الكلمات، لكن آندريه كان معتادا على أسلوبه، قاده أبوه إلى خزانة، فتحها وجذب درجا فيها، أخرج منه دفترا مكتوبا بخطه الكبير ذي الأحرف الطويلة المشبكة، وقال: لا شك أنني سأموت قبلك، فاعلم أنني سجلت مذكراتي في هذا الدفتر، فينبغي إعطاؤه إلى الإمبراطور بعد موتي، وإليك رسالة ووثيقة ملكية جبل الشفقة
Mont de pitié ، إنها جائزة ثمينة لذلك الذي سيكتب تاريخ معارك سوفوروف، فينبغي أن تنقل هاتين الوثيقتين إلى المجمع العلمي، وهذه أخيرا ملاحظاتي الشخصية، فاقرأها من بعدي؛ لأنك ستفيد من قراءتها.
حاذر آندريه أن يقول لأبيه إنه ينتظر أن يعيش سنوات طويلة أخرى؛ لأنه كان يعتقد أن ذلك القول خطيئة لا يجب الوقوع فيها، فاكتفى بأن قال ببساطة: ستنفذ كل رغباتك يا أبي. - حسنا، والآن وداعا!
وقدم له يده ليقبلها، ثم ضمه بين ذراعيه، وأردف: تذكر شيئا واحدا يا أمير آندريه؛ إذا قتلت فإن ذلك سيكون شديد الوقع والألم على قلبي العجوز.
ثم أبدل مكانه وقال بعد صمت: لكنني إذا علمت أنك لم تتصرف جديرا بابن نيكولا بولكونسكي، فإن ذلك سيكون عارا عليك!
فأجاب الابن باسما: كان يمكنك يا أبي ألا تقول لي ذلك، وأن تثق بأنني سأكون عند حسن ظنك.
فصمت العجوز، بينما استرسل آندريه يقول: لي رجاء أتقدم به إليك يا أبي؛ إذا قدر لي أن أقتل، وولدت زوجتي غلاما، فأرجو ألا تبعده من هنا، إنني أريد - كما أسلفت لك أمس - أن يترعرع ويشب في ظلالك، إنني أرجوك بإلحاح ألا تغفل ذلك.
فقال العجوز مقهقها: آه، آه! لا ينبغي أن أدعه لأمه، أليس كذلك؟
لبث الرجلان لحظة يتبادلان النظر صامتين، كان الأب يحدق في عيني ابنه، وكان ذقنه ترتعد ارتعادة خفيفة، قال فجأة: حسنا، لقد ودعنا بعضنا بعضا، فامض الآن.
ثم كرر بصوت آمر وهو يفتح الباب: امض.
تساءلت الأميرتان وهما تشاهدان آندريه خارجا ووراءه شبح العجوز الغاضب المنفعل، وهو في معطفه المنزلي ونظارتيه، وقد غفل عن وضع الشعر المستعار على رأسه: ماذا هناك؟ ماذا هناك؟
فلم يجب آندريه إلا بزفرة، وقال لزوجته بلهجة فيها سخرية باردة: هيا!
كان يبدو أنه يدعوها بتلك الكلمة إلى إلقاء مرثياتها التي يتوقع أن تلقيها!
هتفت ليز وقد شحب وجهها، وراحت تنظر إليه بارتياع: آندريه، أتذهب؟!
فأخذها بين ذراعيه، غير أن ليز أطلقت صرخة، وهوت على كتفه مغشيا عليها، فخلص نفسه منها، وأسجاها بهدوء على أريكة، وقال لأخته بصوت منخفض: وداعا يا ماري.
ثم عانقها وقبلها قبلات أخوية قلبية، وابتعد بخطوات سريعة.
لبثت ليز مسجاة على الأريكة، تغسل الآنسة بوريين صدغيها بالماء، أما ماري فكانت تنظر - بعينين مفعمتين بالدموع - الباب الذي خرج منه أخوها، فرسمت إشارة الصليب باتجاهه، وعادت تهتم بزوجة أخيها، وارتفع صوت من مكتب العجوز الغاضب، يشبه طلقة الغدارة، ينبئ بأن الأمير العجوز المنفعل يتنخم في منديله، وما كاد آندريه يغادر باب المكتب ويبتعد عنه، حتى وورب الباب، وظهر الأمير العجوز بقامته الصارمة وهو في معطفه المنزلي الأبيض ، وقال: هل ذهبت؟ هيا، ذلك أفضل!
وبعد أن ألقى نظرة غضبى على زوجة ابنه المغمى عليها، هز رأسه بلوم وتثريب، وصفق الباب وراءه.
الجزء الثاني
فرنسيس الثاني.
الفصل الأول
الاستعداد للعرض
في تشرين الأول عام 1805 كانت القطعات الروسية تشغل عددا من قرى ومدن الأرشيدوقية النمساوية، وكانت قوات روسية أخرى تصل باستمرار، وتتمركز قرب حصن برونو
Bronnau
محدثة أضرارا كثيرة للسكان، وكان ذلك الحصن مركز القائد الأعلى كوتوزوف.
كانت إحدى سرايا الجيش مستقرة على بعد ربع ميل من المدينة، تنتظر قدوم الجنرال القائد الأعلى في اليوم الحادي عشر من تشرين الأول، وكانت تلك السرية - رغم المشهد الطبيعي الغريب الذي يحيط بها من البساتين والأسوار الحجرية وسقوف القرميد، والجبال الرابضة على البعد، ورغم طبيعة السكان التي لا تقل غرابة عن المشهد الطبيعي، الذين كانوا ينظرون بفضول إلى هؤلاء الجنود - تحمل الطابع التي تتسم به كل فرقة روسية على أرض الوطن عندما تنتظر تفتيش قائدها الأعلى.
أبلغ ضباط السرية مساء اليوم الأسبق، أن الجنرال القائد الأعلى سيحضر لتفتيش الفرقة المحاربة عندما تصل إلى آخر مرحلة من برنامج سيرها المحدد، وعلى الرغم من أن منطوق الأمر اليومي الذي صدر إلى قيادة الفرقة كان قليل الوضوح، حتى إن قائد الفرقة تساءل عما إذا كان ينبغي للجنود أن يكونوا في ثياب الميدان، أم في ثياب الاحتفالات، فإن مجلس ضباط الكتائب قرر أن يكون الجنود في ثياب الحفلات على اعتبار أن هذا التصرف لا غبار عليه، وأن استعمال تلك الثياب في الغالب في مثل هذه المناسبات خير من إغفاله.
وعلى هذا، فقد مضت الليلة دون أن يغمض جفن في المعسكر، رغم أن الجنود كانوا قد أنهوا رحلة طولها ثمانية أميال، كان الجنود يلمعون تجهيزاتهم، ويعنون بزيهم العسكري، والرؤساء ومساعدو القيادة يحصون الرجال، ويوزعونهم على مراكزهم، حتى إنهم كانوا في الصباح الباكر، قد جهزوا تلك الفرقة التي كان قوامها ألفي رجل، على شكل دقيق منظم، فكان كل جندي يعرف المكان الذي سيحتله والعمل الذي سيقوم به ، وكانت كل التجهيزات نظيفة لامعة، وكل الأزرار في أماكنها على الكسوات العسكرية، ولم يعن الضباط بمظهر رجالهم الخارجي فحسب، فلو أن القائد الأعلى فكر في النظر إلى الألبسة الداخلية، لوجد أن كل جندي كان يرتدي قميصا داخليا نظيفا، ولتأكد أن في كيس كل منهم الأشياء النظامية بعددها النظامي، غير أن هناك أمرا واحدا كان يشغل بال الضباط والجنود معا؛ ذلك أن أحذية الجنود كانت ممزقة بالية، وكان النصف الأكبر منهم لا يملك أحذية إلا «البقايا» التي ظلت في أقدامهم، ولم تكن الخطيئة في ذلك ترجع إلى آمر السرية، بل كان الخطأ يقع على كاهل مصلحة الإعاشة النمساوية «مهمات الجيش»، التي رغم المطالبات المتكررة والملحة، لم تقدم شيئا إلى الجنود الذين كانوا قد قطعوا أكثر من مائة وخمسين فرسخا قبل أن يصلوا إلى ختام المطاف.
كان قائد الفرقة جنرالا
1
ذا حاجبين وسالفين تطرق إليهما المشيب، وكان عريض الصدر، ضيق الكتفين، منكمش الجسد، كان لباسه الرسمي جديدا يحمل ثنيات ضخمة «وكتافتين» مذهبتين، كانتا تساهمان في إظهار كتفيه منتصبتين مرتفعتين، وكان ظهره على شيء من الانحناء، وفي خطوته بعض التراخي، كان يتنزه أمام جبهة الفرق، وكأنه سيد أتم لتوه أجل عمل قام به في حياته، كان يبدو فخورا مظفرا لقيادته فرقة تفانى من أجلها قلبا وروحا، غير أن مشيته المترددة، كانت تعطي أيضا فكرة أخرى تدل على تمسكه بنعيم الحياة وإغراء الجنس اللطيف.
قال يخاطب أحد قواد الكتائب، وهو يبتسم ابتسامة كلها رضى: حسنا يا عزيزي ميخائيل دميتريش، أيها الباسل! لقد احتمل كل منا نصيب رتبته من أعباء الليلة الفائتة، أليس كذلك؟ غير أن السرية كلها تبدو لي في أوجها كذلك، ألست من رأيي؟
كان ضابط الكتيبة قد أجاب على قائده الأعلى بابتسامة لا تقل انشراحا وانبساطا عن ابتسامته، فلما شعر أن الرئيس قد تطرق إلى المزاح الجميل أجابه ضاحكا: إنني أعتقد أننا ما كنا لنقطب وجوهنا ونعبس، ولو كنا في ساحة القتال!
فقال الجنرال مستفهما: هم؟
وفي تلك اللحظة ظهر فارسان على طلايق برونو، حيث كان قد أقيم عليها مراقبون بانتظار مقدم القائد الأعلى، كان أحدهما ضابطا مساعدا والآخر فارسا قوقازيا، كانت القيادة العليا قد أرسلتهما لقائد السرية؛ ليوضحا له ما غمت من أمر البارحة، أوضح الضابط المساعد للجنرال أن القائد الأعلى يرغب في رؤية السرية على ما كانت عليه حالها عندما وصلت إلى مكانها الحالي، دون أي تعديل أو تبديل؛ أي إنه كان يريد تفتيش الفرقة بألبسة الميدان.
تلقى كوتوزوف صباح أمس، أحد أعضاء القيادة المتحالفة «هوف كريجران»؛ جاء من فيينا يرجوه، ويستدعيه للقيام بعملية الالتحاق مع جين ماك
2
وجين الأرشيدوق فرديناند،
3
ورأى كوتوزوف أن الالتحاق بذينك الجيشين غير مجد؛ لذلك فقد أراد أن يظهر للجنرال النمساوي، بين العديد من الآراء المؤيدة لوجهة نظره، الحالة السيئة التي بلغت إليها الجيوش الروسية القادمة من روسيا، ولهذا السبب وحده، كان يريد استعراض الوحدات القادمة التي كانت ستزيد اغتباطه كلما كانت حالته أكثر سوءا، ولما كان الضابط المساعد يجهل هدف قائد السرية، فقد نقل إليه رغبة القائد الأعلى في لقاء السرية على حالها التي كانت عليها عند بلوغها مرحلتها الأخيرة، وأنه في حالة عدم تنفيذ تلك الرغبة، فإن القائد الأعلى سيكون شديد الاستياء، فهز الجنرال قائد السرية كتفيه، وأطرق برأسه، وباعد بين ذراعيه، وقال بلهجة غاضبة يحدث قائد الكتيبة: ها نحن في موقف سيئ! لقد قلت لك يا ميخائيل دميتريش أن المعاطف واجبة في الميدان، رباه، رباه!
وسار بخطى حثيثة وصاح بصوته الآمر: يا حضرات قواد الفصائل، أيها النقباء!
ثم استدار إلى الرسول وقال بلهجة امتثالية: هل سيصل سريعا؟
فأجاب الضابط المساعد: خلال ساعة على ما أظن. - هل نجد وقتا كافيا لتبديل ألبسة الجنود؟ - لست أدري يا سيدي الجنرال.
تقدم الجنرال من الصفوف الأولى، وأعطى أمرا بارتداء المعاطف، فجرى ضباط الفصائل بين الصفوف يبلغون الأمر، واهتم الرقباء واكتأبوا بسبب سوء حالة معاطفهم، ولم يلبث المربع المنظم الذي كان يضم جنودا صامتين نظاميين، أن تعاوج مدويا، فالحركة بين الجنود عادت على أشدها؛ رفعوا أكياسهم عن ظهورهم بضجيج مسموع ، وأخذوا يعدون معاطفهم، وارتفعت الأذرع تدخل في أكمام المعاطف.
ولم تمض نصف ساعة، حتى عاد المربع إلى الالتئام والصمت بعد أن انقلب لونه من أسود إلى أشهب، وعاد الجنرال بخطواته المتثاقلة، يقف على مقدمة الفرقة ليعاين جنوده عن بعد، صاح بانفعال: ما هذا أيضا؟ ما معنى ذلك؟
وتقدم بضع خطوات إلى الأمام وهتف: ليحضر رئيس الفرقة الثالثة.
ورددت الصفوف عبارة: قائد السرية الثالثة مطلوب للمثول أمام الجنرال!
بينما راح ضابط تابع يجري باحثا عن الضابط المتأخر.
فلما بلغت الأصوات المرددة «ضابط الفرقة الثالثة، إلى الجنرال!» مشوهة حتى أصبح النداء: «الفرقة الثالثة للرئيس!» أو «الجنرال للفرقة الثالثة!» الصفوف الخلفية، خرج الضابط المعني بالأمر من الصفوف، وعلى الرغم من أنه لم يكن في شرخ الشباب، ولم تكن من عادته الجري، فقد راح يسير جريا نحو موقف الجنرال، لكن طريقته في الجري كانت متعثرة حتى إن طرفي حذائيه كانا يصطدمان ببعضهما بين آونة وأخرى، وكانت قسمات وجهه تحمل طابع القلق الذي يتجلى عادة على وجه التلميذ الذي طرح عليه سؤال في مادة لم يكن قد قرأها، وكانت لطخات بيضاء تحلي أنفه الأحمر من شدة الدلك، وفمه المرتعد لا يستقر على حال، فلما كاد أن يبلغ موقف الجنرال، أصبحت أنفاسه مبهورة، وخطواته تزداد بطأ.
حدجه الجنرال بنظرة من رأسه إلى قدميه، وصاح وهو يقدم فكه الأسفل دلالة على امتعاضه: ما معنى ذلك؟ لعلك تلبس جنودك عباءات بيضاء بعد قليل!
وأشار بإصبعه إلى جندي كان يرتدي معطفا، يختلف لونه عن كل ما حوله من معاطف، وأردف: وأنت؟ أين كنت؟ نحن ننتظر القائد الأعلى، بينما أنت تترك مركزك؟ هم؟! سوف أعلمك كيف تجعل رجالك يبدون بمظهر حسن في أيام العرض!
كانت نظرات رئيس الفرقة شاخصة إلى قائده، وهو يحييه بإصبعين لبثتا ممسكتين بحافة خوذته، وكأنه لا يعرف من السلام إلا تلك الحركة.
عاد الجنرال يقول بصوت يجمع بين الشدة واللين: تكلم أخيرا! من هو ذا المتنكر؟ أهو هنغاري؟
استعراض قرب برونو. - يا صاحب السعادة ... - ماذا «يا صاحب السعادة»؟ يا صاحب السعادة، يا صاحب السعادة! فسر موقفك. - إنه يا صاحب السعادة دولوخوف، الضابط الذي أنزلت رتبته إلى جندي، كان رئيس الفرقة يتحدث بوجل، فهتف الجنرال: دولوخوف! لقد جعلوا منه جنديا وليس ماريشالا على ما أعتقد. فلم إذن لا يرتدي ألبسة كل الجنود؟ - إن سعادتكم أجزتم له ذلك أثناء المسير.
فقال الجنرال وقد هدأت حدته بعض الشيء: أجزت؟! أجزت؟! إنكم جميعا هكذا أيها الشبان: تقال لكم كلمة ف...
ثم عاد إلى الاحتداد من جديد وأردف: تقال لكم كلمة فتجعلون منها ... ماذا؟ هم؟ ألبس جنودك الكسوة المناسبة.
وعاد الجنرال يقترب من الفرق المحتشدة، وهو يجر ساقه كعادته، دون أن يعقب على قوله إلا بنظرة ألقاها على الضابط المساعد، كان من الواضح أن حالة الغضب التي كان عليها، تدخل السلوان على نفسه، كان يبدو عليه أنه يعتمد البحث بين أفراد السرية عن سبب آخر يفتيء غضبه. وبعد أن تقدم بملاحظة إلى أحد الضباط بسبب ياقته المستعارة التي لم تكن شديدة النظافة، وآخذ آخر لسوء انتظامه في الصف، وصل إلى الفرقة الثالثة.
كان يفصله خمسة رجال عن دولوخوف الذي كان مرتديا معطفا يميل لونه إلى الزرقة. فصاح بصوت مكتئب: ما هذا الهندام؟ ساقك، أين ساقك؟
فعدل دولوخوف وقفته ببطء وحدج الجنرال بنظرة جريئة. أردف الجنرال: ما معنى هذا المعطف الأزرق؟ انزع هذا ... أيها الرقيب، ليبدل ثيابه هذا ال...
فقاطعه دولوخوف بخشونة قائلا: سيدي الجنرال، إنني ملزم بتنفيذ الأوامر وليس باحتمال ... - اصمت! لا يجب الكلام بين الصفوف! اصمت!
فأتم دولوخوف جملته بصوت مرتفع واضح: وليس احتمال الإهانات.
تقابلت نظرات الجنرال بنظرات الجندي. فراح الأول يشد على حزامه بغضب دون أن يجرؤ على التفوه بجواب، وأخيرا قال: تفضل بتبديل هندامك أرجوك.
ومضى مبتعدا.
الفصل الثاني
كوتوزوف
صاح أحد المراقبين على الطريق: لقد جاء!
تضرج وجه الجنرال فجأة، فجرى إلى حصانه، فأمسك بالسيور بيد مرتعدة، واعتلى صهوته، فلما استوى في مكانه، استل حسامه، وأشرقت أساريره، وقد علا الحزم عليها، وفتح فمه على زاوية استعدادا لإصدار الأوامر، وانتفضت السرية كالعصفور الذي ينفض ريشه، وتجمدت ساكنة كقطعة من الصخر.
صرخ الجنرال بصوت مرعد، تتجلى فيه أصداء الرضى الممزوج بالحزم حيال السرية والامتثال للقائد الأعلى: اس...ت...عد!
وعلى الطريق العريض المغروس بالأشجار، كانت عربة عالية من عربات فيينا، مطلية بلون أزرق فاتح، تقطرها ستة خيول، تتقدم مسرعة بصرير خافت وصخب مكتوم، وكان يرافقها حرس كرواتي، توقفت العربة أمام السرية، كان كوتوزوف يتحدث بهدوء مع جنرال نمساوي جالس إلى جانبه بثيابه البيضاء التي كانت أشبه بلطخة وسط الستار الأسود الذي تشكله ألبسة الروسيين، ولما ترجل من العربة بخطاه الثقيلة، كان يبتسم إلى محدثه دون أن يبدو على وجهه أنه يهتم بالألفين من الرجال الذين كتموا أنفاسهم، وشخصوا بأبصارهم إليه وإلى قائدهم المباشر.
دوى أمر جديد، فتماوجت السرية، وارتفع بين الصفوف صليل الأسلحة بالتحية النظامية، وأعقب ذلك سكون ثقيل قطعه صوت القائد الأعلى الخافت وهو يحيي الجنود، وصوت الجنود يدوي مجيبا: «نتمنى لسعادتكم صحة طيبة.» وعاد السكون والهدوء من جديد، وبعد أن شهد القائد الأعلى العرض العسكري وهو في مكانه، راح يجوس خلال الصفوف مع تابعيه، وهو يمشي جنبا إلى جنب مع الجنرال الأبيض.
كان قائد السرية، الذي كان منذ حين واقفا وقفة دقيقة جامدة يحيي بسيفه القائد الأعلى وهو يلتهمه بنظراته، يجري وراءه في تلك اللحظة منحني الجذع، جاهدا في امتثال لأية إشارة تصدر عن القائد الأعلى، مبرزا الدليل الواضح على أنه يقوم بكل واجبات المرءوس حيال الرئيس بسرور يفوق سروره بالقيام بأعبائه كرئيس، وكانت السرية تبدو على أحسن حال بفضل جهوده وصرامته، حتى إنها كانت أحسن السرايا التي وصلت إلى برونو، لم يكن بينها أكثر من مائتين وسبعة عشر مريضا أو متخلفا، ولم يكن فيها ما يستحق النقد أو القلق إلا مسألة الأحذية.
كان كوتوزوف يتوقف بين الحين والآخر؛ ليوجه بضع كلمات رقيقة إلى الضباط الذين عرفوه خلال حرب تركيا، وكان أحيانا يتحدث إلى بعض الجنود، كان يهز رأسه بحرارة مرات عديدة خلال استعراضه القوات كلما وقع بصره على أحذية الجنود الخلقة، فكان يشير إلى الجنرال الأبيض النمساوي بلهجة من يقول: «إنه لا يوجه اللوم إلى أحد، ولكنه لا يستطيع مشاهدة حال رجاله السيئ دون أن يشعر بالمضض.» وفي كل مرة، كان قائد السرية يندفع إلى الأمام محاذرا أن تفوته أتفه ملاحظات القائد الأعلى وكلماته، وكان مرافقو القائد الأعلى يسيرون وراءه على مسافة تسمح لهم بالإصغاء إلى كل كلمة يفوه بها بصوت خفيض، وكان تعداد المرافقين يقرب من عشرين رجلا، كانوا يتحادثون بينهم، ويسمحون لأنفسهم أحيانا بالضحك. وكان ضابط مساعد جميل يسير في أعقاب القائد الأعلى في الصفوف الأمامية من المرافقين، ذلك الضابط كان بولكونسكي، وكان إلى جانبه صديقه نيسفيتسكي، وهو ضابط مديد القامة قوي البنيان متينه، بسام ضاحك الوجه، بعينين دائمتي الاغريراق والجذل، كان يضحكه ما يصدر عن ضابط مساعد آخر أسمر الوجه مرح لطيف، ذلك الضابط الأسمر، يحدج ظهر قائد السرية بنظرة ثابتة، ويقلد بكل جد ووقار كل انتفاضة وانحناءة تصدر عنه، فكان نيسفيتسكي يضحك لذلك المشهد الطريف، ويلكز رفاقه بمرفقه ينبههم إلى حركات ذلك الضحوك المسلي.
أخذ كوتوزوف يقابل بلامبالاة ألوف العيون التي كانت تتابعه، وكأنه لا ينفصل عن حدقاتها، فلما وصل قرب الفرقة الثالثة، توقف فجأة حتى إن تابعيه كادوا أن يصطدموا به بسبب توقفه الفجائي الذي ما كانوا يتوقعونه.
هتف القائد الأعلى محدثا ضابط الفرقة الذي عرفه، والذي كاد المعطف الأزرق أن يسبب له عناء وتشويشا: آه، آه تيموخين!
وبدا مستحيلا أن يستطيع المرء الانتصاب أكثر مما انتصب تيموخين خلال فترة الاستعراض كلها، مع ذلك، فإنه وجد وسيلة مكنته من أن يضاعف انتصابه عندما سمع القائد الأعلى يوجه الحديث إليه، وكان باديا عليه استحالة بقائه على ذلك الوضع المستعد زمنا طويلا، وفهم كوتوزوف الموقف تماما، ولما كان لا يريد إلا خير قائد تلك الفرقة، فقد سارع بمغادرته ليسمح له باتخاذ وضعية تريحه، وشاعت ابتسامة على وجهه المكتنز الذي يشوهه جرح قديم.
قال لقائد السرية: هو ذا زميل جديد «لإسماعيل»، إنه ضابط باسل! هل أنت مسرور منه؟
فقفز الجنرال قائد السرية إثر انتفاضة، وخطا إلى الأمام خطوة وقال: شديد السرور يا صاحب السعادة العلية!
بينما نقل الضابط الأسمر المرافق للقائد الأعلى حركات قائد السرية كالمرآة الأمينة التي تعكس الصور الحقيقية للأشياء.
قال كوتوزوف باسما: لكل منا نقاط ضعف في نفسه، أما هو فقد كان يمالق باخوص
1
أكثر من اللازم.
واستمر في تفتيشه.
لم يجرؤ قائد السرية على الإجابة، وهو الذي راح يسأل نفسه عما إذا لم يكن مسئولا فعلا عن ذلك الضعف، وفي تلك اللحظة، أخذ الضابط المرافق الأسمر، لدى مشاهدته رأس قائد الكتيبة ذي الأنف الأحمر القرمزي والبطن المنتفخ المتصلب، يقلد تلك الشخصية تقليدا بلغ من إتقانه، أن نيسفيتسكي لم يستطع كبت ضحكة مجلجلة، فالتفت كوتوزوف، غير أن الضابط الذي كان يتحكم بسحنته على هواه، اتخذ في تلك اللحظة طابعا جديا خطيرا بريئا ومحترما، قل أن يشاهد مثله على وجه من الوجوه.
كانت الكتيبة الثالثة هي الأخيرة في الاستعراض والتفتيش فراح كوتوزوف يجهد فكره لتذكر أمر ما سها عن باله. وعندئذ تقدم الأمير آندريه من صفوف المرافقين وقال للقائد الأعلى بصوت منخفض باللغة الفرنسية: لقد أوعزتم إلي أن أذكركم بأمر «دولوخوف» الضابط الذي أنزلت رتبته في هذه السرية.
سأل كوتوزوف: أين دولوخوف هذا؟
فلم ينتظر دولوخوف أن يستدعى عن طريق التسلسل حتى يمثل بين يدي القائد الأعلى، بل برز من الصفوف فورا، وجاء ينتصب بوضعية الاستعداد أمام القائد الأعلى، كان شابا جميل المحيا، أزرق العينين، أشقر الشعر، وكان قبل ذلك قد استطاع استبدال معطفه الأزرق بمعطف الجنود الرصاصي.
سأله القائد الأعلى في شيء من الرقة: هل لك سؤال؟
وقال الأمير آندريه: هذا هو دولوخوف! - آه! حسنا، آمل أن يردعك الدرس الذي تلقيته، فكن جنديا طيبا والإمبراطور رحيم شفوق، فإذا تصرفت تصرفا حسنا، فإنني أنا الآخر لن أنساك.
فشخص دولوخوف ببصره المشع إلى وجه الجنرال القائد الأعلى في كثير من الجرأة والحزم، كما فعل منذ حين إزاء قائد السرية ، حتى وكانت تلك النظرة، قد مزقت حجاب التقاليد التي تجعل البون شاسعا بين الجندي البسيط والقائد الأعلى الرفيع.
قال بصوت ثابت حازم مسموع: إنني لا أطلب من سعادتكم العلية إلا أمرا واحدا، وهو أن تعطي لي الفرصة لإصلاح خطيئتي، وإثبات تفاني لصاحب الجلالة ولروسيا.
عبس كوتوزوف فجأة وأشاح بوجهه، بينما أطلت من عينيه تلك الضحكة الهازئة، التي برزت منهما عندما التقتا برئيسه تيموخين منذ حين، ولعله أراد بذلك أن يقول إن كل ما قاله دولوخوف، وكل ما كان يمكن أن يقوله، ليس إلا أشياء معروفة منذ زمن بعيد ومكررة ومملة بل وفي غير محلها. ثم مضى متجها نحو عربته.
تفرقت السرية إلى فرق صغيرة، واتجهت نحو المعسكرات التي أقيمت لها على مقربة من برونو، حيث كان أفرادها يأملون الحصول على أحذية جديدة وألبسة مناسبة، وخصوصا على الراحة المنشودة بعد تلك المراحل الطويلة من السير الشاق، ولما راحت الفرقة الثالثة - وعلى رأسها تيموخين - تنظم صفوفها استعدادا للمشي، اقترب الجنرال - الذي جعلته سلامة عواقب التفتيش ميالا إلى المرح - من الرئيس مشرق الوجه وقال: آمل ألا أكون قد أزعجتك يا بروخور إينياتيتش؟ إنك تفهم ... إن خدمة القيصر ... إن المرء عندما يكون على رأس الفرق يفقد صوابه، فلا يستطيع تنميق كلامه أو انتقاءه. لكنك تعرفني، وتعرف أنني على استعداد لتقديم اعتذاراتي عند الاقتضاء. هيا، أقدم لك خالص شكري.
ومد له يده، فأجاب الرئيس - الذي ازداد أنفه احمرارا - بابتسامة كشفت عن فكه، وفضحت نقص نابين تحطما بضربة من عقب بندقية في معركة إسماعيل: وكيف لا أفهم يا سيدي الجنرال! - وبهذه المناسبة، قل للسيد دولوخوف إنني لن أنساه وإنه يستطيع أن يطمئن إلى هذا الأمر، أخبرني ما وددت منذ زمن طويل أن أسألك عنه: كيف يتصرف؟ وما رأيك في سلوكه؟ - إنه دقيق جدا في الخدمة يا صاحب السعادة، أما عقليته ...
فقاطعه الجنرال قائلا: حسنا، أما عقليته! - إن ذلك يتوقف على الوقت يا صاحب السعادة، فهو شاب ذكي ومهذب أحيانا، وهو على عكس ذلك وحش ضار أحيانا أخرى، لقد كاد أن يقتل يهوديا في بولونيا. - إنك على حق، ولكن ينبغي أن تشفق على الشاب في محنته، إن له علامات عالية هامة. كذلك يمكنك ...
فأجاب تيموخين وهو يبرز ابتسامة تعني أنه فهم غاية رئيسه ورغبته: أمرك يا سيدي الجنرال. - عال، عال!
سار الجنرال بحذاء الفرقة، وأوقف حصانه إلى جانب دولوخوف، وصاح بصوت تعمد أن يسمعه الجنود: حسنا! إن الأمر على ما يرام. ليوزع على كل جندي قدح من العرق من جانبي، شكرا للجميع وحمدا لله.
ثم تجاوز الفرقة ليقترب من أخرى، بينما راح تيموخين يقول إلى ضابط مساعد له كان إلى جانبه: إنه رجل باسل يمكن التفاهم معه رغم كل شيء.
فأجاب الضابط الصغير: إنه الملك الكبا
Roi de cour (ويقصد أنه طيب القلب).
كان ذلك اللقب قد أطلق على الجنرال من قبل أفراد سريته، وكان إلى جانب ما يحمله من معنى آخر لترجمة العبارة حرفيا، والذي يمكن القول بمقتضاها أنه ملك القلب، يحمل تورية يتفكه بها الجنود.
انتشر المزاح بين الجنود بعد أن عم الضباط جميعا، فراحت السرية تسير بخطى نشيطة، والرجال يتبادلون الفكاهات على غرار: كانوا يقولون مع ذلك أن كوتوزوف معور العين. - لعلك تريد أن تقول إنه أعور العينين معا! - أنت مخطئ يا فتى، إن عينيه أحدق من عينيك، لقد دقق في الأحذية والجوارب وتفحصها! - آه! إنني يا فتاي، عندما عاين ساقي حدثت نفسي بمثل هذا. - هل رأيت النمساوي الذي كان معه؟ يبدو كأنه طلي بالحبر، إنه أبيض كالدقيق، يا لشدة ما قضى من وقت في تلميع نفسه ذلك الفتى! - هه يا فيديا، ألم تسمعهم يتحدثون عن الوقت الذي سنقاتل فيه بونابرت؟ لقد كنت قريبا منهم، يبدو أن بونابرت في برونوف حاليا (يعني برونو). - بونابرت في برونوف! من أين جئت بهذا أيها الغريد! إنك لا تعرف أن بروسكو
(ويقصد بروسيا) وحده هو المتعند في الوقت الحاضر، وأن النمساوي يؤدبه ويخرسه، ومتى انتهى منه فسيأتي دور بونابرت، مع ذلك تقول أنه في برونوف! إنك لست ذكيا يا فتى، ماذا لو أنك فتحت أذنيك أكثر من ذلك؟ - آه من المشرفين على الإعاشة! انظر إليهم كيف يستقرون في القرية هناك، إنهم لن يهيئوا لنا الطعام قبل وصولنا. - لن تحصل حتى على «بسكويتة» أيها اللعين العجوز. - ومن الذي أعطاك التبغ البارحة؟ هل تذكر ذلك أم لا؟ خذ، خذ مع ذلك، وليباركك الله. - ليتنا نتوقف فقط، ولسوف نسير هكذا مرحلة طويلة قبل أن نضع لقمة في فمنا. - هل تريد أن يعطينا الألمان عربات؟ إن ذلك سيكون حتما أمرا جميلا. - إننا هنا يا فتاي لسنا إلا حفاة الأقدام، لقد كنا حتى الآن فتيان التاج الروسي، أما الآن فليس في إلا الألمان.
هتف الضابط الرئيس: ليتقدم المغنون إلى الصفوف الأمامية.
فخرج من الفرقة حوالي عشرين رجلا، واجتمعوا في الطليعة، والتفت إليهم رئيس الفرقة الموسيقية، وهز ذراعه، وردد بصوت مدو أغنية الجنود التي تبدأ:
أليس الفجر هذا
الفجر الذي ينبلج؟
وتنتهي كما يلي:
نعم حتما سوف نحصل،
سوف نحصل على المجد،
مع الأب كامانسكي ...
كانت هذه القصيدة قد نظمت في تركيا، لكنها كانت تردد الآن في النمسا بتبديل بسيط في البيت الأخير؛ إذ استعيض بعبارة «الأب كوتوزوف» عن عبارة «الأب كامانسكي»، التي كانت تنتهي بها في معركة تركيا.
وبعد أن انتهى الجنود من هذا المقطع الأخير، حركوا أيديهم بعنف، وكأنهم يلقون بشيء إلى الأرض، ونظر قارع الطبل إلى المغنين نظرة قاسية شملتهم جميعا، فلما تأكد من أن عيونهم شخصت إليه، بدا كأنه يرفع شيئا وهميا فوق رأسه؛ شيئا ثمينا غير مرئي، استبقاه لحظة مرفوعا إلى الأعلى، ثم ألقاه فجأة بحركة يائسة إلى الأفق البعيد وهتف:
آه، آه، يا كوخي!
يا كوخي الجميل!
ورد عشرون صوتا بعده:
يا كوخي الجديد!
بينما تقدم الضارب على الصنج إلى الأمام مهرولا، وراح - رغم ثقل تجهيزاته - يسير القهقرى، وهو يحرك كتفيه بحركة دائرية، ويقرع صنوجه بحركة تهديدية. أما الجنود فقد راحوا يضبطون الإيقاع بحركات أذرعهم، ويتقدمون بهمة عالية ونشاط، وهم يقرعون أقدامهم على الأرض. وارتفع بعد قليل صوت عجلات العربة وصريرها ، وصوت خيول تخب . كان كوتوزوف وتابعوه عائدين إلى المدينة. أشار الجنرال القائد الأعلى إشارة طلب فيها أن يمشي الجنود بخطوات حرة، وكان وجهه ووجوه تابعيه مشرقة لسماعهم تلك الأغنية، ولرؤيتهم تلك القطعة المرحة الصاخبة، يقودها الراقص الذي يسير في المقدمة. وفي الصف الثاني من ركبه، على الجانب الأيمن، كان جندي ذو عينين زرقاوين، يلفت النظر بتصرفه الكيس الحماسي المتفق مع إيقاع الأغنية، وبنظرة الإشفاق التي كان يلقيها على كل من الفرسان المتعجرفين المواكبين لركب القائد الأعلى، كان يبدو مشفقا عليهم؛ لأنهم لا يسيرون في صفوف الفرقة، جاء أحد أولئك الضباط الفرسان متخليا عن مكانه في الركب، واقترب من ذلك الجندي الذي لم يكن سوى دولوخوف.
كان ذلك المتخلف - واسمه جركوف - تابعا من قبل للعصبة التي كان يقودها ويرأسها دولوخوف، وكان قد لاقاه خلال الطريق وتجاهل وجوده، فلما رأى عطف كوتوزوف ولمس ميله إلى ذلك «الضابط المحروم من رتبته»، اقترب منه، وعلى وجهه آيات من السرور.
سأله بصوت أراده أن يعلو على أصوات المغنين، وقد نظم خطوات جواده مع مشية دولوخوف: كيف الحال يا صديقي العجوز؟
أجابه دولوخوف ببرود: كما ترى.
كانت الأغنية الحماسية التي يسير على خطاها الجنود تضفي معنى خاصا على لهجة جركوف المتواضعة وبرود دولوخوف المتعمد.
قال جركوف: إذن، هل تسير الحال مع الرؤساء على ما يرام؟ - لست أشكو من شيء، إنهم جميعا أشخاص باسلون. كيف - بحق السماء - تسللت إلى الأركان العامة؟ - لقد نقلوني بصفة ضابط ارتباط.
وصمتا فترة مصغيين إلى الأغنية التي كان لحنها يثير الحماس في النفوس:
لقد أطلق الصقر،
وطار من اليد اليمنى.
ولولا تلك الأغنية، لكان حديث الصديقين على نمط آخر.
سأل دولوخوف: هل صحيح أن النمساويين قد هزموا؟ - الله أعلم، ولكن يبدو لي ذلك حقيقة.
قال دولوخوف بصوت يتفق مع إيقاع الأغنية: ذلك أفضل. - تعال لرؤيتنا ذات مساء، سوف نلهو على هوانا. - إنكم إذن تتمرغون على الذهب! - تعال مع ذلك. - مستحيل! لقد أقسمت ألا ألمس الورق ولا الخمر قبل أن تعاد إلي رتبتي . - ستعاد إليك في العملية المقبلة. - عندئذ سنرى.
وعاد الصمت بينهما من جديد. - إذا احتجت إلى شيء فتعال إلى الأركان، وسنحاول أن نخدمك.
أجاب دولوخوف بابتسامة هازئة: لا تعذبني! إنني إذا احتجت إلى شيء ما طلبته ولكن أخذته. - آوه! إنك تعلم أن ما أقوله لك ... - وأنا كذلك. - حسنا إلى اللقاء. - راقب صحتك.
وظلت الأغنية ترتفع مقاطعها:
بعيدا، بعيدا جدا، نحو الوطن ...
لكز جركوف حصانه فثار هذا، وبعد أن دار حول نفسه دورتين أو ثلاث دورات دون أن يهتدي إلى القائمة التي يجب أن يبدأ بها السير، اندفع خببا على طول الفرقة على إيقاع الأغنية.
الفصل الثالث
هزيمة ماك
عندما عاد كوتوزوف من الاستعراض، دخل إلى مكتبه يرافقه الجنرال النمساوي، بعد أن أعطى الأمر إلى أحد تابعيه، بأن يعرض عليه الأوراق المتعلقة بحالة الجنود القادمين من روسيا، والمخابرة الواردة من الأرشيدوق فرديناند الذي كان على رأس الطليعة، فلما جاء الأمير آندريه بالوثائق المطلوبة، رأى الجنرال القائد الأعلى وعضو القيادة العليا جالسين وراء طاولة يدرسان مخططا، قال كوتوزوف وهو ينظر إلى بولكونسكي وكأنه يوحي إليه بالانتظار: «حسنا.» بينما استمر يتابع الحديث الذي كان دائرا بالفرنسية، كانت لغته المهذبة ونبراته الواضحة، والعناية التي يبديها لتلفظ كل كلمة بوضوح، تأسر انتباه سامعه، وتبرهن على أنه يتلذذ بسماع أقواله. - دعني أقول لك يا جنرال إن الأمر لو كان منوطا بي وحدي، لكنت منذ زمن بعيد أجريت الاتصال مع الأرشيدوق وفقا لرغبات جلالة الإمبراطور فرانسوا، ثق بشرفي أنني سأشعر براحة عميقة إذا أسلمت القيادة العليا لقائد أكثر دراية مني واستعدادا ومهارة، ومثل هؤلاء القواد كثير في النمسا، إنني بذلك أتخلص من مسئولية جسيمة، غير أن ما يحدث يجعل الظروف تقهرنا يا جنرال.
وكانت الابتسامة التي أشفع بها جملته الأخيرة توحي بالقول: «لك ألا تصدقني إذا شئت، ولا يهمني إذا صدقتني أم لا، ولكن ليس بين يديك حجة تتذرع بها وهنا جوهر المسألة.»
وعلى الرغم من أن الجنرال النمساوي لم يكن شديد السرور، فقد اضطر أن يدفع إلى كوتوزوف من نوع النقد الذي صرفه له، غير أن لهجته الشرسة المتذمرة، كانت تتنافى مع عروضه المعسولة: كلا، كلا! إن جلالته يقدر تقديرا عاليا مساهمة سعادتكم في العمل العام، وأرجو أن تثق بذلك، لكننا نعتقد فقط أن الإمهالات الحالية تحرم الجيوش الروسية المظفرة ورؤساءهم المشاهير أكاليل الغار، التي درجوا على اكتسابها والتحلي بها في ساحات الوغى.
كانت تلك الجملة - ولا شك - جملة مهيأة سلفا، فانحنى كوتوزوف وهو يبتسم وقال: إنني أقدر شخصيا - والرسالة التي شرفني بها صاحب السمو الأرشيدوق فرديناند منذ حين تؤيد رأيي - أقدر أن الجيوش النمساوية التي يقودها رئيس على جانب كبير من المهارة كالجنرال ماك، قد حصلت حتى الآن على نصر حاسم يجعلها - ولا شك - في غير حاجة إلى عوننا.
عبس الجنرال؛ إذ على الرغم من أن هزيمة النمساويين لم تكن قد أعلنت رسميا بعد، فإن الإشاعات الكثيرة المزعجة كانت تؤيدها، حتى إن جواب كوتوزوف بدا لهذا السبب لونا من السخرية، مع ذلك فقد كان وجه القائد الروسي الأعلى يشع بابتسامة بريئة تؤكد براءة قصده، فقد كانت الرسالة التي أرسلها إليه الأرشيدوق فرديناند تصف الحالة الاستراتيجية بأنها ممتازة جدا.
قال للأمير آندريه: أعطني الرسالة.
ثم التفت إلى الجنرال النمساوي، فقرأ له المقطع التالي، وقد تقلصت شفته بابتسامة تحمل شيئا من السخرية:
إن تركز قواتنا التي يبلغ عددها سبعين ألف رجل، قد أعد وأنهي على خير ما يرام، بشكل يجعل العدو يتعرض لهجماتنا إذا حاول اجتياز «ليخ»
1
ويمنى بهزيمة محتومة، إننا باحتلال «الأولم»
2
نحتفظ بأرجحية السيطرة على ضفتي الدانوب، ونستطيع بذلك في كل لحظة أن نجتاز الدانوب إذا لم يحاول العدو اجتياز نهر «ليخ» لنقطع عليه خط مواصلاته، وأن نعود إلى عبور الدانوب مرة أخرى؛ لنحول دون نجاح أية محاولة يقوم بها ضد حلفائنا المخلصين، سوف ننتظر بجلد وبطولة أن ينتهي الجيش الروسي من استعداداته، وأن يتخذ أهبته، وبعدئذ سوف نجد سهولة كبيرة بتهيؤ المصير الذي يستحقه العدو باتحادنا معا.
وأعقب: تفضل بالاقتناع بصدق قولي.
وأطلق زفرة ارتياح ونظر إلى الجنرال النمساوي، فأجاب هذا وقد رأى أن المزاح قد دام أكثر مما ينبغي، وأن من الأصوب بلوغ الغاية مباشرة: لا شك، ولكن ينبغي أن نتوقع دائما أسوأ العواقب، إن سعادتكم تعرفون - ولا شك - هذه الحكمة القديمة.
وألقى نظرة بديهية إلى مساعد الجنرال، فقاطعه كوتوزوف بقوله: اعذرني يا جنرال.
واستدار نحو الأمير آندريه وأردف يحدثه: اسمع يا عزيزي، اذهب إلى كوزلوفسكي، واطلب إليه التقارير الواردة من جواسيسنا، هذه رسالة الأرشيدوق فرديناند، وهاتان رسالتان من الكونت نوستيتز، خذها معك وكذلك هذه الأوراق لخصها جميعها باللغة الفرنسية، واحمل لي مذكرة واضحة تحمل كل معلوماتنا عن عمليات الجيش النمساوي. إنك تفهمني، أليس كذلك؟ وعندما تنتهي من ذلك، أعط المذكرة إلى سعادته.
أشار الأمير آندريه برأسه إشارة يفهم منها أنه فهم الغاية من الكلمة الأولى ليس ما قاله رئيسه بلسانه فحسب، بل كذلك ما كان يضمره في نفسه، وجمع الأوراق وحيا، ثم انسحب بخطوات خفيفة.
على الرغم من أن الأمير آندريه لم يكن قد مضى على مغادرته روسيا زمن طويل، فإن سحنته وحركاته وتصرفاته خلت كلها من أثر الإنهاك والتفاعل الذي كان مألوفا عليها، كانت مهماته الجديدة تستأثر بكل انتباهه، وتفتنه بشدة، حتى إنه ما كان يفكر في الانشغال بما يقوله زملاؤه عنه، وكانت نظرته وابتسامته تمتازان بدعة وود لم يعرفا فيهما من قبل.
كان كوتوزوف قد تلقى رسالة الأمير بولكونسكي العجوز وهو في بولونيا، فاستقبل الأمير الشاب استقبالا طيبا، ووعده بألا ينساه. وقد بر بوعده؛ إذ اختصه بين كل الضباط المساعدين، فأخذه برفقته إلى فينا، وسلمه هناك أكثر المهمات خطورة، وكتب القائد الأعلى كوتوزوف إلى الأمير العجوز بولكونسكي ردا على رسالته يقول:
إن ابنك يبشر أن يكون ضابطا ممتازا بفضل كفاءاته ودأبه ودقته، وإنني أعتبر نفسي سعيدا جدا إذ أرى مرءوسا مثله تحت تصرفي.
كان زملاء الأمير آندريه في الأركان والجيش - لما كان الحال في بيترسبورج - يشعرون حياله شعورين مختلفين، وينقسمون تبعا لذلك إلى معسكرين؛ الأول وهو معسكر الأقلية، يعتبره شخصا بارزا خلق لمستقبل ومصير عاليين رفيعين، وكان أعضاء هذا المعسكر يصغون إليه، ويعجبون به، ويسيرون على هداه، فيتظاهر أمامهم بدوره بمظهر البساطة واللطف. والثاني وهو معسكر الأكثرية، يعتبره باردا جامدا مكروها، وكان أعضاؤه يمقتونه، لكنه كان يتصرف حيالهم بشكل ما كانوا يستطيعون معه إلا أن يقدروه، بل وأن يرهبوا جانبه.
خرج الأمير آندريه من مكتب كوتوزوف، فمر بطريقه على غرفة الانتظار حيث كان زميله - المرافق المنوب كوزلوفسكي - يقرأ كتابا قرب النافذة.
سأله هذا: حسنا يا أمير؟ - صدر الأمر بتحرير مذكرة تفسر سبب بقائنا دون نشاط.
فقال كوزلوفسكي: ولماذا؟
هز الأمير آندريه كتفيه دلالة على أنه لا يعرف السبب، بينما استطرد زميله: هل من أخبار عن ماك؟ - كلا. - إذا كان هزم حقيقة فسترد علينا أخباره.
قال الأمير آندريه موافقا: بلا شك.
واتجه نحو الباب، غير أن هذا فتح فجأة بعنف وبرز على العتبة جنرال نمساوي مديد القامة في ثوب رسمي يعصب رأسه بوشاح أسود، ويحمل حول عنقه صليب ماري تيرنير، فتوقف الأمير منتظرا.
قال الجنرال القادم بلهجة تبرز أصله الألماني: الجنرال الأعلى كوتوزوف؟
ونظر حوله ثم اتجه فورا نحو باب المكتب.
فأجابه كوزلوفسكي وهو يقف في سبيله بحركة عنيفة: إن القائد الأعلى مشغول، فمن يجب أن أبلغه عنه؟
حدج المجهول ذلك الضابط الصغير من عل وكأنه يقول: «هل يعقل ألا تعرف من أنا؟!» فكرر كوزلوفسكي بهدوء: إن القائد الأعلى مشغول.
عقد النمساوي بين حاجبيه وارتعدت شفتاه قليلا، فأخرج دفيترا من جيبه كتب على ورقة منه بضع كلمات بقلم الرصاص، ثم قطعها وأعطاها لكوزلوفسكي، ومضى بخطوات سريعة نحو النافذة، وتهاوى على مقعد هناك وهو يسرح طرفه فيما حوله، وكأنه يقول لهم: «لم تنظرون إلي على هذا الشكل؟» وبعد برهة مد عنقه وكأنه يهم بالنطق، لكنه استدرك نفسه، فلم يصدر عن حنجرته إلا صوت غريب يشبه الدمدمة، ما لبث أن خنقه أيضا، وفتح باب المكتب، وبدا على عتبته كوتوزوف. وعندئذ نهض الجنرال المعصوب الرأس محنيا ظهره، وكأنه يفر من خطر ماحق، وهرع بخطوات واسعة ، وقال بصوت أجش : إنك ترى ماك التعس!
لبث كوتوزوف للوهلة الأولى جامدا أمام الباب، ثم اجتاح وجهه غضن مر كموجة على تقاطيع وجهه، فانبسطت جبهته، وانحنى بامتثال مغمض العينين دون أن يتفوه بكلمة، وتنحى عن طريق ماك ليدخل، ثم أغلق الباب بنفسه وراءه.
كانت الشائعات حقيقة؛ فالجيش النمساوي الذي كان مجتمعا قرب «الأولم» استسلم كله، لم تمض نصف ساعة، حتى كان الضباط المساعدون يحملون إلى رؤساء الوحدات تعليمات خاصة، تشير إلى أن الجيش الروسي سيخرج عن جموده، ويلاقي العدو قريبا.
وفي الأركان العامة، لم يكن سير العمليات العامة يشغل إلا عددا محدودا من الضباط، كان الأمير آندريه في عدادهم، منهم هذا بعد أن رأى ماك، واطلع على تفاصيل الهزيمة، أن الحملة قد فشلت تقريبا، وأن النصر بات أبعد مما كان ينتظر، تخيل المصير المزعج الذي ينتظر الجيش الروسي في ذلك الموقف الدقيق الحرج، والدور الذي سيلعبه شخصيا في ذلك المصير، فشعر بسرور للإهانة التي منيت بها النمسا، تلك الدولة المتباهية، كان ذلك الشعور أقوى منه، وكان يمجد الفكرة التي خطرت بباله، والتي قدر على أساسها أنه سيشهد لأول مرة أول لقاء بين الفرنسيين والروس منذ عهد سوفوروف، بعد ثمانية أيام على الأكثر. لم تكن غبطته لتخلو من شعور بالجزع والخوف من أن تتفوق عبقرية بونابرت وتتغلب على الجيوش الروسية الباسلة؛ لأنه ما كان يتوقع أن يرى بطله في خذلان.
أثارت تلك الأفكار عواطفه وقلبت كيانه وحفزته، فود أن ينسحب إلى غرفة ليكتب إلى أبيه رسالته اليومية، لكنه بينما كان يجتاز الممشى، اصطدم بزميله في غرفة نيسفيتسكي وبالمداعب جركوف اللذين كانا على حال من البهجة والانشراح على جري عادتهما، استغرب زميله شحوب وجهه والتماع عينيه فسأله قائلا: لم أنت مكتئب؟ - ليس هناك ما يبهج على ما أعلم!
ومن الجانب الآخر من الممشى، ظهر الجنرال النمساوي عضو القيادة العليا يرافقه الجنرال «ستروخ»، الملحق بأركان حرب كوتوزوف للإشراف على شئون تموين الوحدات الروسية، وكان عرض الممشى كافيا لمرور الجنرالين دون عوائق، غير أن جركوف أبعد نيسفيتسكي بذراعه، وهتف بلهجة تشف عن المبادرة المصطنعة وهتف: ها هما! ها هما! تنحوا، أخلوا المكان، تنحوا!
أحنقت تلك البادرة من التلطف، الجنرالين القادمين، غير أن جركوف تقدم خطوة إلى الأمام، وخاطب أحدهما بابتسامة بلهاء وبمظهر الرجل الذي لا يستطيع كتمان بهجته: لي الشرف بأن أقدم لسعادتكم تمنياتي المخلصة.
وانحنى أمامه انحناءة مضحكة، وهو ينزلق على قدم ثم على الأخرى شأن الأطفال الذين يتدرجون على الرقص، فحدجه عضو الأركان العامة النمساوي بنظرة قاسية، لكن ابتسامته البلهاء طمأنته، فلم يستطع إلا أن يمنحه لحظة من انتباهه، فأشار بطرف عينه إلى أنه يصغي إلى ما يريد قوله.
كرر جركوف بوجهه المستبشر: تهانئي الخالصة. لقد وصل الجنرال ماك في صحة طيبة باستثناء جرح خفيف هنا.
وأشار بإصبعه إلى جبهته.
فعبس وجه الجنرال وأدار له ظهره ومضى، ولم يكد يبتعد بضع خطوات حتى قال بالألمانية بصوت محنق: رباه! يا للحماقة والسذاجة!
كان نيسفيتسكي يتلوى من الضحك، فأمسك بذراع الأمير آندريه، غير أن هذا الذي غدا وجهه ممتقعا بعد شحوبه، دفعه عنه بغضب، واستدار نحو جركوف.
كانت دعابته السمجة بمنزلة ضربة قاضية لأعصاب الأمير آندريه، الذي ضعضعت رؤية الجنرال ماك والهزيمة التي مني بها كيانه وروعة الفكرة التي تمثلها حول مصير الجيش الروسي، قال لجركوف بصوت حازم حاسم، وقد ارتعدت ذقنه لفرط انفعاله: يا سيدي العزيز، إذا كانت مهنة المهرج تروق لك، فإنني لا أستطيع منعك من مزاولتها، لكنك إذا سمحت لنفسك مرة أخرى إظهار مثل هذا التهريج في حضرتي، فسأجد نفسي مضطرا لتعليمك وتلقينك مبادئ السلوك.
ذهل جركوف ونيسفيتسكي لأقوال الأمير آندريه، وراحا يتأملانه، فاغري الفم متسعي العينين، قال جركوف: ماذا حدث؟ لقد قدمت له تمنياتي ليس إلا!
فصاح بولكونسكي: إنني لا أناقشك فتفضل بالصمت.
وأخذ نيسفيتسكي بذراعه وهو تارك جركوف جامدا في مكانه لا يدري ماذا يقول.
قال له نيسفيتسكي: هدئ روعك يا عزيزي.
قال الأمير آندريه، الذي توقف لفرط انفعاله عن السير: أهدئ نفسي؟! ولكن من نحن إذن؟ أنحن ضباط نخدم قيصرنا ووطنا ونبتهج للنجاح المشترك، ونأسف للخسارة المشتركة؟ أم نحن خدم لا تهمنا قضايا أسيادنا إلا قليلا؟
وأضاف باللغة الفرنسية وكأنه يؤيد وجهة نظره: أيقتل أربعون ألف رجل ويحطم جيش حليفتنا، ونجد مع ذلك مادة للضحك؟! إن مثل ذلك يليق بفتى تافه كهذا الذي اتخذته صديقا لك، ولكنه لا يليق بك، نعم لا يليق بك.
واستطرد بالروسية متمما: إن مثل هذه التسليات لا تليق إلا بالأغرار الحمقى.
وانتظر فترة معتقدا أن جركوف سيجيب على أقواله، غير أن هذا انسحب دون أن ينتظر المزيد.
الفصل الرابع
فرسان بافلوجراد
كان فرسان بافلوجراد معسكرين على بعد ميلين من برونو، وكانت الكوكبة التي انخرط في عدادها نيكولا روستوف تشغل قرية سالزنك التي خصص خير منزل فيها لرئيسها «الكابتين دينيسوف» المعروف بين كل كتيبة الخيالة باسم «فاسكا دينيسوف»، كان نيكولا قد التحق بتلك السرية في بولونيا، ومنذ ذلك الحين ظل يشاطر الرئيس مسكنه.
وفي الحادي عشر من تشرين الأول، في اليوم الذي قلب نبأ انهزام ماك القيادة العامة قلبا، كانت كوكبة الخيالة لا زالت تقضي أيامها بهدوء، وكأن أفرادها سادة أطربتهم حياة الريف، وعندما وصل روستوف وهو في كامل ثيابه ممتطيا حصانه إلى مسكن الرئيس بعد أن عاد من مهمة توزيع العلف، وجد أن دينيسوف لم يعد بعد من سهرته التي قضاها مقامرا لدى أحد زملائه، ولما وصل إلى مرقاة البيت، أوقف حصانه وطوح بساقه بحركة رشيقة مرنة، ولبث فترة معتمدا بجسده على الركاب، وكأنه يبارح السرج آسفا، وأخيرا ترجل واستدعى الحاجب قائلا: آه بوندارانكو! هذا أنت أيها الباسل!
وهرع الجندي عدوا استجابة لنداء روستوف الذي قال معقبا: خذ الحصان في نزهة يا صديقي الطيب.
كانت لهجته تدل على البهجة اللطيفة التي يستطيع الشبان الراقون المنحدرون من أرومات نبيلة إظهارها في ساعات سرورهم.
قال الجندي الصغير وهو يرفع شعره المتهدل بسبب العدو: كما تأمر يا صاحب السعادة. - انتبه، ولتكن النزهة لطيفة.
وهرع جندي آخر في تلك اللحظة استجابة للنداء، غير أن بوندارانكو كان قد أطبق عنان الحصان ، وكان ذلك التبادر والتهافت يدل على أن ذلك الضابط النبيل يعرف كيف يمنح المكافآت السخية، وأن خدمته تعود بالفائدة على من يتولاها. داعب روستوف حارك جواده، ثم انتقل بيده إلى ردفه يربت عليه، وظل يتأمله لحظة، ثم قال في سره وهو يبتسم: «رائع! سيصبح حصانا رائعا!» ورفع حسامه، وراح يصعد السلالم ورنين مهمازيه يرافق كل خطوة من خطواته، وبرز صاحب المسكن على باب الإصطبل وهو يحمل مذراة للدمن، كان ألمانيا يرتدي صدارة من الصوف وقلنسوة من القطن، فلما رأى روستوف، طفح وجهه بالحبور، وغمزه بعينه بمودة، وكرر محييا الشاب بسرور واضح: عم صباحا، عم صباحا.
فأجاب روستوف بصوت ودود مهذب لطيف: هل بدأت تشتغل؟ ليحي النمساويون! ليحي الروس! ليحي الإمبراطور ألكسندر!
كانت تلك العبارات هي ما سمعه بتكرار يردد على ألسنة الناس هناك، وكان يجد متعة في ترديدها على مسامع صاحب المسكن.
ضحك الألماني وخرج من إصطبله، فرفع قلنسوته وراح يلوح بها فوق رأسه ويهتف: وليحي العالم أجمع!
فلوح روستوف بخوذته ضاحكا وصاح بدوره: وليحي العالم أجمع!
وعلى الرغم من أن هذين الرجلين اللذين كان ينظف أحدهما إصطبله والآخر يعود من مهمة توزيع العلف، لم يكن لسرورهما أي مبرر خاص، إلا أنهما كانا مع ذلك يتبادلان النظر ببهجة وانشراح، ويتبادلان إشارات قلبية من الرأس واليد ثم ينسحبان: الألماني إلى إصطبله، وروستوف إلى البيت الذي يقطنه مع دينيسوف.
سأل روستوف خادم دينيسوف، وهو ماكر خبيث معروف في كل السرية: أين سيدك؟ - مختف منذ مساء أمس، لا شك أنهم نتفوا ريشه. إنني أعرفه تماما؛ فهو عندما يربح يعود مبكرا منشرح الصدر. أما إذا لم يعد تلك الليلة، فمعنى ذلك أنه أفرغ آخر درهم في جيبه وأنه سيعود محنقا غاضبا. هل أقدم لك القهوة؟ - لا مانع.
ولما عاد الخادم لافروشكا بعد عشر دقائق بالقهوة هتف قائلا: ها هو ذا، حذار من غضبته.
نظر روستوف من النافذة، فرأى دينيسوف عائدا.
كان هذا رجلا قصير القامة أحمر الوجه أسود العينين ملتمعهما، ذا شاربين كثين وشعر غزير أجعد، وكانت سترته مفكوكة الأزرار، وسراويله هابطة بثنيات منسدلة، وقبعته مشوهة منحدرة فوق مؤخرة رأسه، كان مكتئب الوجه مطرق الرأس، يتجه نحو مرقاة المنزل.
صاح بصوت غاضب: لافروشكا، ارفع لي هذا يا شديد البلادة!
فأجاب صوت لافروشكا: إنني أدأب على رفع ذلك.
ولما دخل دينيسوف قال: كيف! هل نهضت؟
فأجاب روستوف: لقد عدت من مهمة توزيع العلف، ومررت على فراولين ماتيل.
هتف دينيسوف وهو يلثغ بشكل ظاهر: حقا! حسنا يا عزيزي، لقد تعرضت لخسارة فادحة! إن المرء لا يخطر بباله شؤم كهذا! لقد بدأ الأمر فور ذهابك. هولا، أعطني شايا!
كان وجهه عابسا، وفمه منفرجا قليلا تظهر خلال فتحته أسنانه القصيرة المتينة، راح دينيسوف يخلل شعره الكثيف الأسود، الشبيه بالغابة الملتفة، بإصبعه القصيرة الغليظة.
عاد يقول بعد أن مسح على جبينه ووجهه بيديه: يا لها من فكرة سيئة تلك التي حملتني على الذهاب إلى منزل ذلك الجرذ! (والجرذ لقب أحد زملائهما من الضباط)، تصور أنني لم أحصل على ورقة رابحة واحدة، ولا ورقة!
وأخذ الغليون المشتعل الذي كان الخادم يقدمه إليه، فعض عليه بأسنانه، ثم ضرب به الأرض وهو يتابع شكواه: إنه ما كان يترك لي إلا أتفه الربح، أما الصفقات التي كانت تبشر بربح مضاعف، فقد كان يلتهمها وحده باستمرار.
كان التبغ المشتعل قد تبعثر في الغرفة دخانا، فحطم الغليون وألقاه بعيدا وصمت فترة ثم قال مخاطبا روستوف، بعد أن خصه بنظرة نشيطة: ليتنا كان لدينا عدد من النساء! ما العمل في هذا الجحر غير الشراب؟ آه! ليتنا دخلنا المعارك وحاربنا بشدة!
وبلغت مسامعه أصوات خطى ورنين مهاميز تقترب من الغرفة، أعقبها سعال مستكين، فهتف: من هناك؟
فأجاب لافروشكا: إنه وكيل الضابط.
فازداد وجه دينيسوف اكفهرارا وقال وهو يلقي بكيس نقوده على المائدة وفيه بضع قطع ذهبية: روستوف يا صغيري، اعدد ما في الكيس وأخبئه تحت الوسادة.
وخرج للقاء القادم، فأخذ روستوف يعد المال الموجود في كيس النقود ويفصل القطع الذهبية القديمة عن القطع الحديثة بحركة آلية، بينما ارتفع صوت دينيسوف من الغرفة المجاورة يقول: آه، آه تيليانين! مرحبا! لقد أصبت بإحدى هذه الخسارات. - أين؟ عند بيكوف؟ عند الجرذ، أليس كذلك؟ لقد كنت واثقا من ذلك.
ولم يلبث أن دخل الملازم تيليانين صاحب ذلك الصوت الرقيق، وهو ضابط من كوكبة روستوف.
ألقى روستوف بكيس النقود تحت الوسادة وضغط على اليد الصغيرة الرطيبة التي مدها الملازم إليه، كان تيليانين هذا قد نقل من سلاح الحرس إلى سلاح الخيالة لغيرما سبب ظاهر، وكان أصدقاؤه لا يحبونه رغم أنهم لم يكونوا واجدين عليه أي مأخذ، وكان روستوف بصورة خاصة يعجز عن إخفاء كراهيته الغريزية التي كان يثيرها في نفسه ذلك الضابط، ولا يستطيع السيطرة على أعصابه.
سأل تيليانين: حسنا، أيها الفارس الشاب، هل أنت راض عن المهر الذي بعته لك؟
كان تيليانين قد باع إلى روستوف حصانا صغيرا هو الذي شهدنا روستوف ينزل عن صهوته ذلك الصباح.
لم يكن ذلك الملازم ينظر إلى الأشخاص نظرة صريحة، بل كانت عيونه تائهة أبدا من شيء إلى آخر مما يكون حوله.
أجابه روستوف: نعم، يبدو لي أنه حيوان جيد.
وعلى الرغم من أنه اشترى ذلك الحصان بسبعمائة روبل - رغم أنه لا يساوي نصف ذلك المبلغ - فإنه لم يبد اعتراضا.
أردف يقول: لكنه يعرج الآن من خلفيته اليسرى. - لعل حافره قد أصيب، إن الأمر تافه، سأريك كيف تعالج مثل هذه الحالات.
فقال روستوف متلهفا على التخلص منه: إذن، سأستحضر الحصان. - كما تريد، إنه ليس سرا، ولسوف تشكرني من أجل الحصان. - حسنا، بين لي كيف تعالج هذه الحالات.
وخرج إلى الممشى ليعطي أوامره، أما دينيسوف فقد كان واقفا على عتبة الباب يصغي، والغليون في فمه، إلى تقرير وكيل الضابط. فلما رأى روستوف، أشار بإبهامه من فوق كتفه إلى الغرفة التي بقي تيليانين وحيدا فيها وقال دون أن يعبأ بوجود وكيل الضابط: هو ذا فتى لا يروق لي!
فهز روستوف كتفيه وكأنه يقول: «ولا لي، ولكن ما العمل؟»
ولما عاد روستوف بعد برهة إلى حيث كان تيليانين ، كان هذا لا يزال جالسا في مكانه جلسة اللامبالاة، يفرك يديه البضتين الصغيرتين ببعضهما، فلما رآه عائدا نهض.
فكر روستوف في نفسه: «حقيقة إن في العالم رءوسا لا تروق للناظر إليها بل تنفره.»
سأل الملازم وهو يسرح طرفه الشارد حوله: حسنا، هل أمرت بإحضار الحصان؟ - نعم. - لنذهب إلى حيث هو، لقد جئت أستفسر من دينيسوف عن أوامر الأمس، هل هي معك يا دينيسوف؟ - ليست جاهزة بعد. أين تذهبان؟ - سأطلع هذا الشاب على طريقة معالجة حافر حصان.
مضيا إلى الإصطبل، فأشار الملازم باتخاذ الترتيبات اللازمة لمعالجة حافر الحصان، ومضى إلى غرفته.
لما عاد روستوف، وجد دينيسوف جالسا والقلم في يده وزجاجة من العرق أمامه، وإلى جانبها قطع من المصير المحشو، فنظر إلى روستوف نظرة عابسة وقال: إنني أكتب «له».
وبان المرح على وجهه؛ لأنه سيستطيع التعبير بالقول عما كان يود كتابته. واتكأ بمرفقيه على الطاولة وراح يعرض على روستوف محتويات الرسالة. قال: ألا ترى يا عزيزي أننا عندما نمقت إنسانا تخبو قريحتنا؟ إن الإنسان ليس إلا حقارة، لكنه عندما يحب يصبح آلهة ويشعر بنفسه أنه نقي نقاء أيام الخليقة الأولى. من هناك أيضا؟
ولما رأى لافروشكا مقتربا هتف به: ليذهب القادم إلى الشيطان! ليس لدي الوقت لاستقباله.
فأجابه الخادم دون أن يتأثر بلهجته: من تريده أن يكون؟ إنه - ولا شك - وكيل الضابط الذي جاء يسترجع نقوده، لقد استدعيته بنفسك.
عبس دينيسوف وبدا كأنه يهم بالصراخ، لكنه صمت أخيرا دون أن يتفوه بكلمة، ولم يلبث أن غمغم بين أسنانه: آه! زوت! كم بقي من مال في كيس نقودي يا روستوف؟ - سبع قطع جديدة وثلاث قديمة. - يا لها من حالة قذرة!
ثم صرخ في وجه لافروشكا قائلا: ماذا تفعل جامدا في مكانك هكذا كجذع الشجرة؟ ابعث إلي بوكيل الضابط.
قال روستوف وهو مخضب الوجه بالحمرة: اسمع يا دينيسوف، إذا كنت في حاجة إلى المال فإنني أستطيع إقراضك ما تريد.
فغمغم دينيسوف: إنني لا أحب الاقتراض من أصدقائي، كلا، إنني لا أحب ذلك.
فكرر روستوف: لكنني أقول لك إن المال متوفر معي، ونحن أصدقاء، إنني أعتبر رفضك تجريحا لي. - كلا شكرا.
واقترب دينيسوف من السرير ليأخذ كيس نقوده. - أين وضعت كيس النقود يا روستوف؟ - تحت الوسادة السفلى. - ولكن ليس تحتها شيء.
وألقى دينيسوف بالوسادتين إلى الأرض دون أن يظهر كيس النقود بينهما. - ما معنى هذا؟
قال روستوف: انتظر، لعلك تركته يسقط عندما نفضت الوسائد.
ورفع الغطاء وهزه ونقب في كل مكان، لكن الكيس كان قد اختفى. - هل تراني نسيت؟ لكن كلا، بل إنني فكرت في أنك تضع نقودك تحت وسادتك وكأنها كنز. نعم، لقد وضعت كيس النقود هنا.
والتفت إلى لافروشكا وقال: أين الكيس؟ - حيث وضعته صدقني. إنني لا أعرف عنه شيئا ولم أدخل قط وحدي إلى هنا. - ولكن ... - إنك دائما هكذا. إنك تلقي بأشيائك ذات اليمين وذات الشمال ثم تنسى أين وضعتها. - نعم، لكنني هذه المرة أذكر مكانها على الضبط؛ لأنني فكرت في قضية الكنز. لا شك أنني وضعتها هنا.
رفع لافروشكا كل ما على السرير ونظر أسفله وتحت المائدة وقلب الغرفة رأسا على عقب وسيده يتابع حركاته صامتا، فلما انتهى الخادم من التفتيش وباعد بين ذراعيه وقال إنه لم يجد شيئا في أي مكان، التفت دينيسوف إلى روستوف وقال له: هيا يا عزيزي، لا تلعب علينا لعب التلاميذ.
شعر روستوف أن أنظار دينيسوف شاخصة إليه، فرفع عينيه فترة ثم عاد فأطرق وقد تخضب وجهه بما تصاعد إليه من دمه، وبدا صدره يعلو وينخفض انفعالا وكأنه عدا شوطا بعيدا، وشعر بغصة في حلقه.
أردف لافروشكا قائلا: ينبغي أن يكون كيس النقود هنا؛ لأن أحدا لم يدخل هذه الغرفة إلاكما والملازم تيليانين.
فزمجر دينيسوف وقد عبق وجهه بالدم ورفع يده استعدادا لصفع خادمه: وإذن، تدبر أمرك أيها الخبيث، أوجد الكيس! الكيس فورا وإلا فاحذر العواقب! سوف أنهال عليكم جميعا بالضرب!
تحاشى روستوف نظرة دينيسوف، فزرر سترته وعلق حسامه إلى منطقته وأخذ قبعته. بينما استمر دينيسوف يصرخ بانفعال متزايد وقد أطبق على كتفي لافروشكا واعتصره بشدة وهو يدفعه نحو الجدار: الكيس، أتسمع، الكيس فورا!
فقال روستوف: دعه بسلام، إنني أعرف من أخذه.
واتجه نحو الباب دون أن يرفع أبصاره. فترك دينيسوف الخادم وفكر فترة، فلما أدرك غاية روستوف، استوقفه بذراعه وصرخ بشدة أبرزت عروق عنقه وجبهته كالجبال المشدودة: مستحيل! لن أدعك تقول ذلك، إنك تثير فضيحة يا عزيزي! إن الكيس هنا، سأسلخ جلد هذا الحيوان، لكنه سيجده.
كرر روستوف بصوت متهدج وهو يخطو نحو الباب: إنني أعرف من أخذ الكيس.
فاندفع دينيسوف نحو زميله محاولا إيقافه وهو يصيح: لا تحاول شيئا من هذا القبيل، قلت لك لا تحاول!
غير أن روستوف أفلت منه وكأن دينيسوف كان ألد أعدائه، وحدجه بنظرة عميقة في عينيه، مفعمة بالحقد، وقال بصعوبة وألم: زن كلماتك جيدا، لا يوجد في الغرفة سواي، فإذا لم يكن الكيس مع الآخر فمعنى ذلك ...
ولم يستطع إكمال عبارته، فانصرف مهرولا. صاح دينيسوف مشيعا: ليركبك الشيطان أنت والآخرين معك!
مضى روستوف إلى حيث يقيم تيليانين، فقال له خادمه: إن الملازم في الأركان.
ولما رأى وجهه المنقلب المتقلص قال يسأله: ماذا حدث؟ - لا شيء.
فأضاف الخادم قائلا: لو أنك جئت قبل قليل لوجدته هنا.
امتطى روستوف أول حصان صادفه، ومضى إلى الأركان العامة في قرية مجاورة تبعد ميلا أو أقل من سالزنك، وكان في تلك القرية حان يؤمه الضباط، فرأى روستوف أمام الحان حصان تيليانين. ولما دخل، رأى الملازم جالسا إلى مائدة حافلة بالطعام والخمر، هتف تيليانين وهو يبسم ويرفع حاجبيه: آه، ها أنت ذا أيها الشاب!
فتمتم روستوف بجهد واضح: ن...ع...م.
وجلس إلى مائدة مجاورة.
لم يتوجه إليه بأية كلمة؛ لأن الحان كان يضم اثنين من الألمان وضابطا روسيا آخر غيرهما، وكان السكون مخيما فلا تسمع إلا قرع السكاكين على الأطباق وحركة فكي تيليانين وهو يمضغ الطعام، فلما انتهى هذا من طعامه، أخرج من جيبه كيس نقود مزدوج، ومد أصابعه المرفوعة بتأنق، فأخرج قطعة ذهبية وقال للنادل: أعد إلي الباقي وأسرع .
كانت القطعة الذهبية جديدة، فنهض روستوف واقترب من تيليانين وقال بصوت جامد: دعني أرى كيس نقودك.
فمد تيليانين الكيس إلى روستوف وهو حائر البصر مرفوع الحاجبين، وقال وقد شحب وجهه فجأة: إنه كيس جميل أليس كذلك؟ نعم، نعم. انظر إليه أيها الشاب.
فحص روستوف الكيس والمال الذي فيه ثم راح يحدق في وجه تيليانين، الذي راح في تلك اللحظة يتظاهر بالدعة وهو لا يفتأ يسرح طرفه حوله. قال: عندما ندخل فينا، فإن كل ما في كيسي سيتبخر فيها، أما في هذه الأحجار الصغيرة القذرة، فإن المال لا يفيد في شيء. هيا، أعد إلي كيسي أيها الشاب لأنني سأمضي.
لم يتفوه روستوف بكلمة، فاستطرد تيليانين: هل تناولت طعامك؟ إن المرء يجد طعاما جيدا هنا. حسنا، أعطني الكيس.
ومد يده إلى روستوف واستعاد الكيس فأعاده إلى جيب سراويله بهدوء وهو يرفع حاجبيه بلا مبالاة، وكانت شفتاه المنفرجتان تبدوان كأنهما تقولان: «إنني أضع كيسي في جيبي وهو أمر بسيط لكنه لا يخص سواي.»
وأطلق زفرة ورفع إلى روستوف نظرة مختلسة من تحت حاجبيه المرفوعين وقال: حسنا، ماذا تريد أيها الشاب؟
فاتصل الرجلان بتيار غير مرئي ربط بين نظريهما كالشرارة الكهربائية وانتقل من تيليانين إلى روستوف ثم من روستوف إلى تيليانين وبالعكس، ودام ذلك الاتصال حوالي ثانية، وهتف روستوف وهو يمسك الملازم من ذراعه ويسحبه في شيء من القوة نحو النافذة: تعال إلى هنا.
ولما بلغاها، همس في أذنه: إن هذا المال يخص دينيسوف، ولقد أخذته ...
فاحتج تيليانين: كيف ... كيف ... كيف تجرؤ؟!
غير أن ذلك الاحتجاج كان يشبه في لهجته صرخة اليأس، وطلب الصفح والغفران. فلما سمع روستوف لهجة الملازم، أحس كأن عبئا قد أزيح عن كاهله: لم يعد للشك مكان، شعر بالسرور الغامر وبإشفاق على ذلك التاعس الواقف أمامه، غير أنه كان مرغما على الاستمرار في القضية حتى النهاية.
غمغم تيليانين وهو يأخذ قبعته ويتجه نحو غرفة خالية: إن الله وحده يعلم ما سيظن الناس فينا، ينبغي أن نتفاهم.
فقال روستوف: إنني أعرف ما أقول، وأنا على استعداد للبرهان عليه.
فتمتم الملازم: ولكن ... ولكنني ...
كان وجهه ممتقعا من الخوف، وعضلات وجهه كلها ترتعد، وكانت نظرته تائهة على سطح الأرض لا يجرؤ على رفعها إلى وجه روستوف، أخذ يحاول حبس النشيج في حلقه.
قال وهو يرتمي على مائدة هناك: كونت! لا تضيع شابا. ها هو ذا المال الملعون خذه.
وألقى على المائدة بالمال ثم أردف: إن لي أبا عجوزا وأما مسكينة ...
أخذ روستوف المال وهو يتحاشى النظر إلى وجه تيليانين وهم بالانسحاب دون أن يتلفظ بكلمة. لكنه لما بلغ الباب، أبدل عزمه فعاد إليه وقال: رباه! كيف أمكنك أن ترتكب مثل هذه الفعلة؟!
كانت عيناه مغرورقتين بالدموع، فاقترب منه تيليانين وقال: كونت ...
فهتف روستوف وهو يتراجع إلى الوراء: لا تلمسني! إذا كنت في عسر فخذ هذا المال، احتفظ به.
وألقى كيس النقود على المائدة وغادر الحان جريا.
الفصل الخامس
الحرب
مساء ذلك اليوم، اجتمع ضباط الكوكبة عند دنييسوف وراحوا يناقشون بحماس.
كان أحد الضباط يقول لروستوف الذي كانت الدماء المتصاعدة إلى وجهه قد أحالته قرمزي اللون: صدقني يا روستوف إنك مخطئ، ينبغي أن تقدم اعتذاراتك إلى الكولونيل.
كان المتحدث طويل القامة أشهب الشعر ضخم الشاربين عميق تجاعيد الوجه، وكان قد حرم من رتبته بسبب أعمال تتعلق بالشرف وعاد فاسترجع رتبته بعد ذلك.
صرخ روستوف: إنني لا أسمح لأحد أن يتهمني بالكذب! لقد قال لي إنني أكذب وإنني شوهت قوله، وإن الأمور ينبغي أن تتوقف عند ذلك الحد، إنه يستطيع أن يجعلني على رأس الخدمة كل يوم، وأن يفرض علي عقوبات عسكرية إذا حلا له ذلك، لكن أحدا لن يستطيع إرغامي على تقديم اعتذاراتي، فهو إذا كان بوصفه زعيما يجد من غير اللائق أن يرضي كرامتي، فإنني ...
فقاطعه الرئيس كيرستن بصوته العريض المنخفض، وهو يفتل شاربيه الكبيرين: اهدأ يا عزيزي وأصغ إلي، إنك تقول للزعيم إن واحدا من زملائك قد ارتكب سرقة، وتقول ذلك بحضور ضباط آخرين. - وهل هو خطئي إذا كان هناك ضباط آخرون ؟ يجوز أن التحدث في حضرتهم ما كان ضروريا، لكنني لست مداورا سياسيا، لقد دخلت في سلاح الفرسان لأنني كنت أظن أن الرقة وانتقاء العبارات الملقة ليست في شيء من الحسبان. لقد اتهمني بالكذب فليسحب كلمته! - إن كل ما تقول حسن وصحيح ولا يوجد من يشك في شجاعتك، ولكن المسألة ليست هنا. سل دينيسوف: هل شوهد ضابط صغير يطلب اعتذارا من زعيم؟
كان دينيسوف يقضم شاربه ويصغي إلى النقاش مكفهر الوجه، عازفا عن التدخل فيه، فلما سمع سؤال الرئيس أجاب بإشارة نفي من رأسه، فاستطرد ذاك بإلحاح: هيا يا عزيزي. لقد كنت تتحدث إلى الزعيم عن تلك المسألة اللعينة بحضور ضباط آخرين، فأشار عليك بوجدانيتش (وهو الاسم الذي كان يطلق على الزعيم بين صفوف الضباط، واسمه الكامل كما سنرى هو: كارل بوجدانيتش شوبرت) بالصمت ليقطع سياق حديثك. - أي إنه اعتبرني كاذبا. - ليكن، لكنك تفوهت أمامه بحماقات وينبغي أن تعتذر عنها.
فصرخ روستوف: أبدا!
فأجاب الرئيس بصوت صارم: ما كنت أنتظر ذلك منك، إنك ترفض الاعتذار مع أنك يا عزيزي مذنب ذنبا كبيرا حيال الزعيم بقدر ما أنت مذنب حيالنا وحيال السرية كلها، كان يجب أن تفكر في الأمر، وأن تطلب المشورة منا فيما يجب أن تتبعه من تصرف، وبدلا من ذلك، أفرغت ما في جعبتك دون حذر أمام ضباط آخرين، فماذا كان يستطيعه الزعيم إزاء ذلك؟ هل كان يستطيع أن يقدم ضابطا للعدالة، فيشوه سمعة السرية كلها؟ هذا هو رأيك أليس كذلك؟ حسنا، إنه ليس رأينا، وقد أحسن بوجدانيتش التصرف عندما زعم أنك لا تقول الصدق، إن قوله مزعج ولا شك، ولكن الخطأ ليس خطأه يا عزيزي، والآن عندما نرغب في خنق القضية، نراك على العكس تصيح فوق الأسطح، وترفض الاعتذار لمجرد الزهو، كيف تجد أن إبقاءك في الخدمة كل يوم يشكل مهانة، ولا تستطيع أن تقدم اعتذارات إلى ضابط عجوز نبيل! إن بوجدانيتش لا يخلو من عيوب، لكنه ليس أقل من زعيم عجوز باسل، ومع ذلك فإنك تتكدر من قوله ، ولكن ألا تجد أن تشويه سمعة السرية أمر خطير؟
وراح صوت الرئيس يتهدج وهو يقول: إنك - ولا شك - يا فتاي لست هنا إلا لفترة من الزمن؛ لأنك ستنقل يوما لتكون ضابطا مساعدا في الأركان، فلا يهمك - والحالة هذه - ما سيحدث بعدك، ولا يزعجك على ما يبدو أن يقال: «إن بين ضباط بافلوجراد لصا!» أما نحن، فإن ذلك الأمر على جانب عظيم من الأهمية بالنسبة إلينا، أليس كذلك يا دينيسوف؟
ظل دينيسوف صامتا جامدا، يلقي على روستوف نظرات من عينيه السوداوين اللامعتين بين الحين والآخر، فاستطرد الرئيس: إنك لا تعرف غير الزهو، ولا تريد أن تعتذر، لكننا نحن، معشر الجنود القدماء، لقد شببنا وهرمنا في السرية، ونطلب إلى الله أن يمنحنا شرف الموت فيها، لذلك فإن شرف السلاح ثمين عندنا، وبوجدانيتش لا يجهل ذلك، آه! ليتك تعلم كم نستمسك بشرف السرية! كلا يا صاحبي، إنك لا تتصرف تصرفا لائقا، إنك لا تتصرف تصرفا طيبا، إنني لن أتفوه بغير الصدق ولو أزعجك ذلك، إنك لا تتصرف تصرف الرجل اللبق!
ونهض الرئيس، وأدار ظهره إلى روستوف، فهتف دينيسوف وهو ينهض عن مقعده: لعمري إنه صواب، هيا يا روستوف، هيا.
كان وجه روستوف خلال ذلك يمتقع ويحمر، ثم يمتقع ثم يحمر من جديد، وكان ينقل الطرف دوريا بين الضابطين، فقال: ولكن لا أيها السادة، ماذا ستظنون؟ لقد كونتم عني فكرة سيئة. إنني أفهم ذلك. إن شرف السرية متأصل في أعماق قلبي أنا الآخر، ولسوف أبرهن على ذلك بالأعمال. وهو عندي بمنزلة شرف العلم. ليكن، إنني أعترف بأنني مخطئ (واغرورقت عيناه بالدموع) نعم إنني مخطئ، مخطئ تماما. فماذا تريدون غير ذلك؟
استدار الرئيس نحوه وقال وهو يربت بيده العريضة على كتفه: مرحى يا كونت، إن هذا هو خير الكلام.
وهتف دينيسوف قائلا: أرأيت، إنه فتى باسل، لقد قلت ذلك لك من قبل.
فاستطرد الرئيس: نعم يا كونت إنني أفضل ذلك، فاذهب يا صاحب السعادة وقدم اعتذاراتك.
كان الرئيس يعطي روستوف كل ألقابه، وكأنه يكافئه على حسن نيته، فقال روستوف ضارعا: سأعمل كل ما تريدونه أيها السادة، إنني لن أتفوه عن هذا الأمر بكلمة، ولكن لا تطالبوني - بالله - أن أقدم اعتذاراتي، إنني لست طفلا أيها السادة لأسأل العفو.
فانفجر دينيسوف ضاحكا، بينما قال كيرستن: أنت وشأنك، إن بوجدانيتش حقود، ولسوف تدفع ثمن عنادك غاليا. - أقسم لكم أنني لست عنيدا. لا أستطيع أن أصف لكم شعوري. لكن الأمر، بكل صراحة، يفوق حدود طاقتي.
فأعقب الرئيس: هيا، ليكن كما تشاء. أين اختفى ذلك الحقير؟
فأجابه دينيسوف: لقد ادعى بأنه مريض، لسوف يسرح غدا بعد تبادل التقارير. - إن المرض وحده يفسر اعتكافه.
فزمجر دينيسوف بصوت ضار: سواء أكان مريضا أم لا، فإنني سأقتله إذا وقع بصري عليه! - كيف؟ أنت!
وفي تلك اللحظة دخل جركوف فهتف الضباط: لقد صدر أمر السير أيها السادة، لقد استسلم ماك وأبيد جيشه. - إلى الحرب، إلى الحرب! قدموا إليه زجاجة لقاء هذه البشرى، ولكن كيف جئت إلى هنا؟ - بسبب ماك اللعين، إنني لما رأيته عائدا، قدمت تهانئي إلى الجنرال النمساوي، فشكاني هذا، وكانت نتيجة الشكوى أن أعدت إلى السرية. ولكن ماذا بك يا روستوف؟ إنني أراك على غير حالك. - آه يا عزيزي! ليتك تعلم في أي بؤرة تردينا منذ أمس!
وفي تلك اللحظة جاء الضابط المرافق للزعيم يؤيد الخبر الذي حمله جركوف؛ لقد كان أمر الحركة معطى ومحددا بصباح الغد، هتف الضابط: إلى الحرب أيها السادة! - شكرا لله، كفانا تعفنا حتى الآن!
الفصل السادس
بدء زحف كوتوزوف
انثنى كوتوزوف على فيينا وهو يهدم الجسور وراءه، جسور الإيين
Inn
1
في برونو وال ترون
Traun
2
في لينز.
وفي الثالث والعشرين من تشرين الأول، كان الجيش الروسي يعبر نهر إينس،
3
وكانت قطع المدفعية والقطعات العسكرية والأمتعة تنقل تباعا على طول مدينة «إينس» وعلى جانبي الجسر.
عبور نهر إين تحت النيران.
كان الوقت خريفا والجو معتدلا وممطرا، وكانت «بطاريات» المدفعية التي تحمي الجسر، وتشغل مرتفعا مستديرا، وكان المشهد الذي يتيحه ذلك المرتفع يضيق حينا تحت ستار المطر الغزير الهاطل، ويتسع حينا آخر تحت أشعة الشمس، فكانت الأشياء البعيدة تبدو عندئذ واضحة براقة، وكأنها طليت بطبقة من الدهان اللامع. وكانت المدينة الصغيرة ببيوتها البيضاء وقرميدها الأحمر وكنيستها وجسرها الذي كان الجيش الروسي قابعا على جانبيه، وموزعا على قطعات كبيرة؛ ترى بوضوح أسفل ذلك المرتفع. وعند المنعطف الذي يشكله نهر الدانوب في اندفاعه، كان المشاهد يرى بعض الزوارق وجزيرة وقصرا منيفا وحديقة يحيط بها الماء؛ ماء نهر «الإينس» و«الدانوب» معا. وعلى شاطئ النهر العظيم الأيسر، كانت مرتفعات خضراء وممرات زرقاء قائمة في الأبعاد الشاسعة المجهولة. وكانت هناك أحراش تشبه الغابات العذراء، تبرز وراءها أبراج دير كبير، بينما كان جنود الأعداء يظهرون وراء تلك المرتفعات بوضوح.
وعلى ذلك المرتفع، أمام «بطارية المدفعية»، كان الجنرال قائد المؤخرة وضابط من بلاط جلالته، يرقبان الأرض حولهما بواسطة منظار مقرب، وإلى الوراء، كان نيسفيتسكي قابعا في كمين أقيم هناك، لقد أقامه القائد الأعلى في عداد ضباط المؤخرة، وكان القوقازي الذي يرافقه، يقدم له قصعة مملوءة بقطع البسكويت وإناء فيه شراب، وكان نيسفيتسكي يطعم ضباط البطارية الذين يحيطون به مرحين، وبعضهم على ركبتيه، والبعض الآخر جالس على الطريقة التركية فوق الأعشاب الندية.
قال نيسفيتسكي: إن الأمير النمساوي الذي شيد قصره هنا ذكي بعيد النظر، يا للمركز الرائع! ماذا أيها السادة؟ ألا تأكلون؟
فأجاب أحد الضباط وهو سعيد؛ إذ يتحدث إلى عضو هام في أركان حرب الجيش: شكرا جزيلا يا أمير، في الحقيقة إن الموقع رائع، إننا عندما مررنا بالحديقة شاهدنا خادمين، يا له من قصر منيف!
وقال ضابط آخر يتوق إلى تناول قطعة أخرى من الحلوى، لكنه لا يجرؤ على ذلك، فاضطر إلى التظاهر بتأمل المشهد: انظر أيها الأمير، انظر إلى مشاتنا كيف بلغوا القصر! ها ثلاثة منهم هناك في ذلك الحقل، وراء القرية، يجرون بينهم شيئا ما. إنهم يحاولون تطويق ذلك القصر، فليوفقهم الله.
فقال نيسفيتسكي وفمه الجميل الندي مملوء بالحلوى: هكذا يبدو لي، أما أنا شخصيا، فإنني أفضل أن أقوم بجولة إلى هناك.
وأشار بإصبعه إلى الدير ذي الأبراج الذي يبدو مرتسما على الرابية، ثم ابتسم، فضاقت عيناه والتمعتا وأردف: إن ذلك سيكون رائعا، أليس كذلك أيها السادة؟
فانفجر الضباط ضاحكين وقال أحدهم: إن القضية قضية تخويف أولئك الراهبات المتدينات، يقال إن بينهن إيطاليات ناعمات رائعات، إنني أعطي خمس سنين من حياتي عن طيب خاطر لقاء زيارة واحدة أقوم بها إليهن!
فقال أحد المدفعيين معقبا وهو يمتاز ببسالته وإقدامه: ثم إنهن ينزعجن في وحدتهن.
وفي تلك الأثناء كان ضابط من الحاشية يشير إلى الجنرال بالنظر إلى نقطة ما، فسدد هذا منظاره إلى حيث أشار الضابط.
غمغم الجنرال وهو ينزل المنظار: لقد انتهى الأمر.
ثم هز كتفيه وأردف: نعم، لقد استعدوا، سوف يطلقون قذائفهم علينا خلال عبورنا، ماذا ينتظر جنودنا؟
ومن الجانب الآخر للنهر، كانت العين المجردة تكتشف «بطارية» عدوة، ارتفع فوقها دخان كثيف أبيض، وارتفع بعد ذلك دوي بعيد مكتوم، أعقبته حركة بين الوحدات الروسية، وقف نيسفيتسكي يتنفس ملء رئتيه، واقترب من الجنرال والابتسامة على شفتيه وقال يسأله: هل ترغب سعادتكم في تناول قطعة؟
فتجاهل الجنرال السؤال وقال: يا للمسألة اللعينة! إن رجالنا متأخرون. - هل ينبغي أن نهبط يا صاحب السعادة؟
فأجاب الجنرال: هو ذلك، اذهب أرجوك.
وراح يكرر عليه الأوامر التي كان قد أصدرها من قبل بالتفصيل: قل للخيالة أن يعبروا آخر كل الفرق، وأن يحرقوا الجسر كما أمرت من قبل، ولتفتش مرة أخرى المواد المشتعلة التي حددت أمكنتها.
فأجاب نيسفيتسكي: مفهوم.
ونادى تابعه القوقازي الذي كان يمسك بعنان جواده، فأمره بحزم الذخيرة والزاد، واعتلى بخفة ظهر جواده رغم ثقل جسمه.
قال للضباط الذين راحوا ينظرون إليه باسمين: إنني ذاهب لزيارة المتعبدات كما ترون.
وسلك الطريق الملتوي الذي كان يصعد الرابية المرتفعة.
قال الجنرال لرئيس البطارية: حسنا يا كابتين، أرنا مدى قذائفك، هيا! لمجرد خداع العدو.
صاح الضابط آمرا: أيها المدفعيون، إلى قطعكم!
فهرع المدفعيون والرماة على الفور إلى مراكزهم، وراحوا يعبئون المدافع، ودوى صوت آمر يقول: القطعة الأولى، أطلق النار!
فتراجع المدفع الأول بعنف ، وأرعد بصوت معدني يصم الآذان، ومرت القذيفة فوق رءوس القطعات الروسية المحتشدة عند سفح التل، وهي تصفر صفيرا قويا، لكنها انفجرت على مبعدة من العدو، بعد أن أعلنت عن مكان سقوطها بسحابة خفيفة من الدخان.
ابتهجت القطعات الروسية لسماع الدوي، ونهض الضباط والجند ليشاهدوا بأنفسهم حركات الجنود الآخرين التي كانت واضحة ظاهرة، تقابلها من الجانب الآخر الوحدات العدوة، وفي تلك اللحظة خرجت الشمس من وراء السحب الأخيرة، فكانت تلك الطلقة الوحيدة من المدفع، مختلطة مع بريق الشمس المشع، توحي للنفس ببهجة حماسية رائعة.
الفصل السابع
عبور جسر الإينس
مرت قذيفتان عبر الجسر؛ حيث كانت الحركة على أشدها، وكان الأمير نيسفيتسكي وسط ذلك الازدحام - بشخصه الفخم - مستندا إلى حاجز الجسر، يضحك وهو ينظر إلى تابعه القوقازي، الذي كان واقفا على مقربة منه إلى ورائه، ممسكا بأعنة جوادين، وكلما راح يحاول التقدم، كان الجنود والعربات والحركة الدائمة الصاخبة تعيده إلى مكانه قرب الحاجز، فلم يجد خيرا من الابتسام يعالج به مشكلته.
صاح القوقازي بجندي كان يدفع بعربته الجنود المشاة، ويهددهم بسحقهم تحت عجلاتها وسنابك الخيل: قل يا هذا، ألا تستطيع الانتظار قليلا؟ ينبغي أن تترك المجال لمرور الجنرال، هل فهمت؟
بيد أن كلمة «جنرال» لم تحدث أي أثر في نفس الرجل، الذي راح يصيح بالجنود الذين يعترضون سبيله قائلا: احذروا يا هؤلاء! خذوا يساركم!
غير أن «هؤلاء» كانوا يسيرون كتفا إلى كتف، تتشابك حرابهم، ويتقدمون كتلة لا سبيل إلى تفريق أفرادها.
كانت أنظار نيسفيتسكي تنتقل من النهر إلى الجسر، فتكتشف هنا وهناك مشاهد متماثلة، وإلى الأسفل، كان الإينس يدفع أمواهه الصاخبة المتموجة متتابعة متلاحقة، لتتحطم وتشتبك مع الأوتاد المغروسة في مجراه لإقامة أبنية عليها، وإلى الأعلى، كانت أمواج هائلة تصطخب، أمواج بشرية، ولكنها متشابهة مع أمواج المياه من حيث النتائج والاتجاه. كانت تلك الأمواج سلسلة لا تنتهي من الأكياس والبنادق الطويلة والحراب والخوذات العسكرية بشعاراتها وأربطتها الحلقية، التي تظهر تحتها وجوه ذات خدود ضامرة وأخرى منتفخة، ثم غابة من السيقان المتخبطة في الأوحال اللزجة، ومن حين إلى آخر كانت سحنة أحد الضباط بمعطفه المميز تظهر بين تلك الأمواج البشرية، تدفع أمامها فارسا أو تابعا، أو واحدا من سكان المقاطعة، كما تدفع أمواه النهر قذاة سقطت في تيارها.
ومن حين إلى آخر، كانت العين تقع على عربة من عربات الضباط، أو من تلك التي تخصص لنقل الأمتعة، وهي محملة ومغطاة بقماش سميك، يحمي ما فيها ومن فيها فتبدو طافية، أشبه بجذع شجرة عائم في مجرى تيار جارف يتقاذفها على هواه.
قال القوقازي وقد يئس من التقدم: يخيل للمرء أن الحاجز قد دمر فتدفقت المياه، هل يستمر هذا التدفق طويلا؟
فأجابه مزاح كان يمر في تلك اللحظة مرتديا معطفه الممزق وهو يغمز بعينيه: إن العدد الذي سيمر قوامه مليون إلا واحدا!
وكان جندي عجوز، يسير متعقبا خطى المزاح وهو يقول لزميل له بلهجة مفجعة: إذا راح يطلق نيرانه علينا في هذه الساعة، فإننا سننسى حتما أن نعنى بقملنا.
والضمير الغائب في هذه الدعابة يرجع إلى العدو.
مضى العجوز، وجاء في أعقابه جندي يعتلي عربة ووراءه جندي يعدو على قدر طاقته؛ ليلحق بالعربة السائرة، ويبحث في محتوياتها، كان يصخب قائلا: أين أخفيت جواربي بحق الشيطان أيها الحيوان السمج؟
وابتعد هذا كما ابتعدت العربة، وتبعه جمع من الجنود يبدو عليهم الثمل، وهم يضحكون مبتهجين، كان أحدهم يقول وهو يلوح بذراعيه، وياقة معطفه مرفوعة تصل إلى شحمتي أذنيه: وفي تلك اللحظة يا فتاي الصغير كان بودي لو رأيته كيف أهوى بعقب بندقيته على أنفه فحطمها.
فأجابه آخر، وهو ينفجر ضاحكا: لا شك أن وجهه الآخر أصبح كفخذ الخنزير الشهي!
ومرت هذه الجماعة دون أن يستطيع نيسفيتسكي أن يعرف من الذي أصبح «فخذا» شهيا.
ومر نقيب وهو يزمجر قائلا: ليقال إن النار في أعقابهم! ألأنه أرسل قذيفة لم تنفجر، باتوا يعتقدون أنهم سيموتون عن آخرهم؟
و«ألأنه» هذه تعني ألأن العدو طبعا.
فأجابه جندي شاب ذو فم كبير، في كتمان ضحكته: لعمري يا صديقي، إنني عندما رأيت القذيفة تمر أمامي كدت أن أشيح ببصري.
وأردف فخورا بأنه شعر بالخوف: نعم، ولا شك أنني شعرت برعب مريع!
ومر هذان المتحدثان كذلك. وجاءت عربة تختلف عن سابقاتها، كانت عربة محلية يقودها ألماني من أهل المنطقة، يجرها حصانان، وقد قطرت إليها بقرة جميلة ملونة ضخمة، كانت العربة تبدو متسعة كمنزل صغير تحمل أفراده؛ لأن ثلاثة نساء كن جالسات على فرش فيها؛ عجوز وامرأة على يدها طفل وفتاة متوردة الوجنتين في صحة جيدة. كانت تلك الأسرة واحدة من عدد كبير، أرغم أفرادها على إخلاء مساكنهم، ومنحت لهم تصاريح خاصة بالانتقال.
استدارت الأعين كلها تنظر إلى تلك الأسرة، وكانت البسمات توجه للمرأتين كلما تقدمت عربتهما ببطء شديد بين تلك الجحافل، حتى إن الامرأتين الشابتين كانتا تبتسمان ابتسامة متشابهة، تنم عن أفكار مثيرة بطرة.
صاح أحدهم بسائق العربة: ماذا أيها الأب المنتفخ، أتجلو عن المكان؟
وقال آخر يسأل الألماني الذي كان مطرق الرأس مكفهر الوجه، يحاول حث الخيول على الإسراع في السير: هل تبيع رفيقتك حقا؟
وانبرى صوت آخر يقول: رباه! كم هي مزينة! - إنها خير رفيقة سكن، أليس كذلك يا فيدوتوف؟ - بل إننا رأينا أجمل منها يا فتاي.
وسأل ضابط ميدان وهو يقضم تفاحته، ويبتسم ابتسامة جميلة لفتاة العربة: إلى أين تمضون هكذا؟
فأغمض الألماني عينيه، وتظاهر أنه لا يفقه شيئا، فقال الضابط وهو يقدم تفاحته للفتاة: خذيها، أتريدين؟
فتقبلتها الفتاة بلطف.
ظل نيسفيتسكي - كالآخرين - يحدج النسوة بعينيه طيلة الوقت الذي استغرقه مرور العربة، فرأى أولئك الجنود، وسمع أقوالهم، ثم توقف الرتل كله، كانت الخيول التي تجر العربة الأولى قد توقفت عند نهاية الجسر، ورفضت كما يحدث غالبا للحصان الحرون، وسبب ذلك التوقف المفاجئ تجمد السيل العرم الذي كان يترى.
توقف الجنود وهم يحدقون في وجوه بعضهم ويتدافعون، وكل منهم يحاول أن يتجاوز الآخر، واختلطت الأصوات: ماذا ينتظرون؟ أليس هناك نظام؟ ألم تنته من الدفع أيها الأحمق؟ أأنت على عجلة من أمرك إلى هذا الحد؟ عندما تشتعل النار في الجسر سيكون الأمر أكثر تسلية. ألا ترى أننا نكاد نسحق ضابطا؟ ... إلخ.
وبينما كان نيسفيتسكي مستديرا ينظر إلى أمواه النهر، سمع فجأة صوتا جديدا، يختلف عن الأصوات التي ألفها سمعه حتى تلك اللحظة، رأى كتلة هائلة تقترب مسرعة وتنقض، فتسقط في النهر.
غمغم جندي قريب من هناك، وقد استلفتت الضجة انتباهه: إنه الآن يهتم بنا (العدو).
فأجاب آخر مازحا: «إنه» يريد أن يجعلنا نسرع في عبور الجسر.
تأكد نيسفيتسكي أن تلك الضجة الهائلة كانت نتيجة لقذيفة أطلقها العدو، ولما عاد الركب يسير، استوقف تابعه القوقازي وصاح به: إلي بحصاني! هيا ابتعدوا من الطريق، دعوني أمر!
واعتلى صهوة الجواد بمجهود كبير، وهو يكثر التوبيخ والتأنيب ليشق لنفسه طريقا، وراح يدفع حصانه غمار الجنود الذين راحوا يفسحون له الطريق مختارين، غير أن تلك الموجة البشرية ارتدت إليه فجأة، حتى إن أقرب الجنود إليه، كاد أن يسحق ساقيه مرغما بفعل الازدحام.
وصاح صوت أجش من وراء نيسفيتسكي: هه نيسفيتسكي، هه أيها المنتفخ!
فاستدار هذا مستجيبا، وإذا به يرى على بعد خمس عشرة خطوة وراءه، فارسا أحمر أسود أجعد الشعر، استرسلت قبعته حتى استقرت في مؤخرة رأسه، وعلى كتفيه فروة مربوطة عند العنق، كانت الكتلة البشرية تفصل بينه وبين الفارس، لكنه لم يجد صعوبة في معرفته، كان هذا هو فاسكا دينيسوف. زمجر هذا وهو فريسة الغضب: قل لهؤلاء الأوغاد أن يفسحوا لنا الطريق!
كانت حدقتاه الملتهبتان تدوران في محجريهما، وتلتمعان كالشعلة المستوهجة، وكانت يده تهز حسامه في غمده وتلوح به، وكانت اليد حمراء كالوجه.
هتف نيسفيتسكي مرحا: آه فاسكا! ماذا بك؟
فزمجر دينيسوف بصوت مرعد، وهو يكشف في غضبته عن أسنانه البيضاء: يستحيل إمرار الخيالة!
وهمز حصانه الأصيل الأسود بقسوة؛ ذلك الحصان العربي الذي يفخر به، والذي كان ينصب أذنيه كلما اندفع في غمار الحراب المشهرة، مذعورا يغمره الزبد، وكأنه لا ينتظر إلا إشارة من فارسه ليقفز فوق الحاجز إلى النهر: يا لقطيع الخراف! أفسحوا الطريق أيتها الحيوانات! أنت يا سائق العربة، قف وإلا مزقتك إربا!
واستل سيفه من غمده، وراح يهدد المشاة تهديدا جديا، فذعروا وراحوا يتدافعون ليفسحوا المجال للضابط الفارس الغضوب حتى بلغ مكان زميله.
سأله نيسفيتسكي: كيف حدث؟ إنك لست ثملا! - آه يا عزيزي! إنهم لا يعطوننا الوقت الكافي لغسل المرافق! إنهم ينقلون طيلة النهار بين جانب وآخر، لنحارب إذا كان ينبغي أن نحارب، وإلا فالله وحده يعلم معنى هذا التصرف!
رأى نيسفيتسكي الفروة الجديدة التي يتدثر بها الفارس ولبادة حصانه فهتف: يا للشيطان! ما هذه الأناقة!
ابتسم دينيسوف، وأخرج من جيب منطقته الجلدية منديلا مضمخا برائحة عطرية، دفعه تحت أنف نيسفيتسكي وقال: إنك على حق لأننا في يوم المعركة، لقد حلقت لحيتي وتضمخت بالعطور، بل وأكثر من ذلك، لقد غسلت أسناني.
واستطاع هيكل نيسفيتسكي الضخم والقوقازي المرافق يؤزهما تصميم دينيسوف وصيحاته وتوبيخاته، أن يحدث أثره في النفوس؛ مما سهل عليهم أخيرا أن يشقوا لأنفسهم طريقا، ويبلغوا الجانب الآخر من الشاطئ؛ حيث لحقوا بموجة المدفعيين والقناصة الصاعدين، وهناك التقى نيسفيتسكي بالزعيم الذي جاء ينقل إليه الأوامر، فأتم مهمته، وعاد على أعقابه.
بعد أن شق دينيسوف طريقا لخيالته بمجهود جبار، انتحى جانبا ليراقبهم وهم يغادرون الجسر، وكان يضبط حصانه بيد متراخية، ويمنعه من الاندفاع وراء الخيول الأخرى، ولم يلبث أن ارتفع وقع حوافر جياد على أخشاب الجسر، وإذا بالكوكبة منتظمة على صفوف رباعية وضباطها في المقدمة، تجتاز الجسر، وتصعد الجانب الآخر.
خلال ذلك، كان المشاة يناضلون بين الأوحال، ويرمقون الفرسان الرسميين الأنيقين بنظرة فيها عداء معروف عند أسلحة الجيش المختلفة.
هتف أحد المشاة: إن هؤلاء على أحسن حال، وكأنهم ذاهبون إلى عرض عسكري!
فأجاب آخر: ماذا تريد منهم أن يفعلوا غير ذلك؟ إنهم لا يحسنون إلا هذا.
صاح أحد الفرسان مازحا، وقد رأى كيف تعثر بأحد المشاة فألقاه أرضا: أنت يا دافع الحصى بقدميك، اجهد في ألا تثير غبارا.
فأجاب الآخر، وهو يمسح بكمه وجهه الملطخ بالوحل: نعم، هو كذلك، تظاهر بأنك تنقض وأنت على ظهر جوادك، لكنك لو سرت مرحلتين أو ثلاث مراحل والكيس على ظهرك لما كنت متبجحا هكذا.
وهتف عريف يمازح جنديا نحيلا منحنيا تحت ثقل كيسه: قل لي يا زيكين، أهو أنت الذي تليق بامتطاء صهوة جواد؟ وددت لو رأيتك!
فرد عليه أحد الفرسان قائلا: إن خير ما تعمله هو أن تضع له عصاة بين ساقيه، وبذلك يصبح فارسا جميلا!
الفصل الثامن
إحراق الجسر
راحت فصائل المشاة والمدفعية، التي كانت محبوسة عند مدخل الجسر، تدفق منه الآن في عجلة كالسائل الذي يندفع خلال القمع. مرت العربات كلها وخف الزحام، وبلغ الضفة الأخرى آخر جحفل، ولم يبق إلا فرسان دينيسوف لمقابلة العدو، كان هذا ظاهرا من أعلى المرتفع المقابل، أما من الأسفل عند الجسر، فلم يكن مكشوفا بعد؛ لأن النهر كان يسير ملتويا في مضيق كانت جنباته تقطع الأفق على مسافة لا تقل عن خمسمائة متر، كانت من الأمام مساحة غير مأهولة يجوس القوقازيون خلالها، وفجأة ظهرت معاطف زرقاء ومدافع فوق تلك المرتفعات التي راح القوقازيون ينحدرون عنها خببا، كان ضباط دينيسوف وجنوده لا يفكرون إلا فيما هو كامن فوق الهضبة، وينظرون باستمرار إلى تلك النقاط البادية على الأفق، والتي كانت في حقيقتها كتائب عدوة منتشرة هناك، غير أنهم كانوا يحاولون جاهدين أن يشيحوا بأبصارهم عنها إلى ناحية أخرى، وأن يتحدثوا حول موضوعات ثانية، وبعد الظهر، تحسنت الحالة الجوية، وسطعت الشمس، وراحت تسدل إشعاعاتها الوهاجة على الدانوب العظيم والهضبات القاتمة التي تضمه بينها، وكان السكون شاملا، ومن حين إلى آخر، كان بعض الخيالة يقطعون المسافة الفراغ الممتدة بين الكوكبة والعدو الذي كان قابعا في أمكنته، لا يند عنه صوت، إلا صيحات تتردد من حين إلى آخر، ونغير يؤكد وجوده، وكان ذلك السكون يزيد في خطورة الخط المخيف الذي يفصل بين الجيشين العدوين، ذلك الخط الوهمي الذي لم يقطعه أحد من الجانبين.
كان كل رجل يفكر: «إن على خطوة وراء ذلك الخط - تشبه الخطوة التي تفصل بين الأحياء والأموات - يقبع المجهول الذي يحدث الألم والموت، ولكن ماذا يجد الإنسان هناك؟ ومن يجد؟ ماذا هناك وراء ذلك الحقل وتلك الشجرة، وذلك السقف الذي تسطع الشمس فوقها؟ إن ما هناك مجهول يرغب كل إنسان في معرفته، كان كل إنسان يخشى اجتياز ذلك الخط، ويحس مع ذلك برغبة في اجتيازه، كان كل واحد يعرف أنه سيضطر إلى اجتياز ذلك الخط آجلا أم عاجلا، وأنه سيعرف ما هناك، كما يجب ذات يوم أن يعرف ماذا وراء الموت معرفة لا بد منها، مع ذلك فقد كان كل إنسان يشعر أنه صحيح الجسد متقدا حماسا ومرحا، وأن من حوله كذلك ممتلئون صحة وقوة واندفاعا»، تلك هي إحساسات كل رجل في حضرة العدو، وتلك الإحساسات تعطي صورة خاصة عقب كل حادث، فتجعل المرء يستقبل ذلك الحادث بنشاط وتعطش.
بدت في تلك اللحظة على قمة المرتفع الذي يعسكر العدو فوقه، سحابة خلفتها قذيفة، انطلقت من فوهة المدفع، وراحت تصفر فوق الكوكبة، فتفرق الضباط الذين كانوا مجتمعين في بقعة واحدة، وأخذ كل منهم مكانه على رأس فصيلته، وكان الرجال يحاولون جهدهم استبقاء خيولهم منتظمة الصفوف، وخيم السكون من جديد. كانت عيون الفرسان شاخصة إلى العدو البعيد، وإلى الرئيس تنتظر الأمر منه، ومرت قذيفة ثانية وثالثة، كانت تلك القذائف تستهدف الفرسان ولا شك، غير أنها طاشت بصفيرها الرتيب مادة فوق الرءوس، وسقطت في مكان ما وراء الكوكبة، كان يبدو على الوجوه عدم الاهتمام بتلك القذائف، ولكن كلما تردد صوت المقذوف ودوى، كان الرجال ذوو الوجوه المختلفة المتباينة في ألبستهم الموحدة، يمسكون عن التنفس، وكأنهم ينفذون أمرا صدر إليهم، ويرفعون أجسادهم معتمدين على الركب، كان كل واحد يفحص زميله بزاوية عينه دون أن يدير إليه رأسه، محاولا معرفة الشعور الذي أحدثه مرور القذيفة في نفسية زميله، وكان كل وجه - اعتبارا من وجه دينيسوف وحتى وجه قارع البوق - يعبر عن الانفعال والعصبية، والصراع العنيف ضد النفس، فينظر ذلك التعبير في الخطوط الواضحة المرتسمة حول الذقون وعلى أطراف الشفاه، وكان الرقيب الأول ينظر إلى رجاله بوجه عابس طافح بالتهديد، أما التلميذ الفارس ميرونوف، فكان يحني ظهره إثر وصول القذيفة، بينما كان روستوف الواقف في الجناح الأيسر على حصانه الضعيف ذي المظهر الجميل مستبشر الوجه، وكأنه طالب استدعي أمام حشد غفير ليجوز فحصا، كان متأكدا من أنه سيؤديه بتفوق، وكانت نظرته المشعة المبتهجة تبدو كأنها تشهد الناس على سكونه وهدوئه أمام قصف المدفعية، مع ذلك فإن الخط المعلن عن شعور جديد خطير ظهر رغما عنه عند نهايتي قوص فمه.
صرخ دينيسوف الذي كان يطير من جناح الكوكبة الأيمن إلى جناحها الأيسر متقدا: أيها التلميذ الفارس ميروتوف، لم تدير رأسك إلى هناك؟ ينبغي أن تنظر إلي أنا.
كان فاسكا دينيسوف بوجهه الممتلئ، ورأسه المتوج بشعر أسود، وقامته القصيرة الملفوفة، ويده المعقدة القصيرة المغطاة بالشعر، المتقلصة على مقبض سيفه المشهر، لا يختلف عما كان يبدو عليه عادة، وخصوصا في الأمسيات، بعد أن يكون قد أفرغ زجاجتين في جوفه، غير أنه كان أكثر احمرارا من عادته. وكان رأسه منتصبا أشبه بالطيور التي تهم بابتلاع الماء الذي شربته، وجسمه ملقى إلى الوراء، تعصف ساقاه القصيرتان في جنبي حصانه الأصيل لكزا دون إشفاق، فيهدب من جناح إلى آخر، ويلقي بصوت أجش الأمر بإعداد الغدارات، فجاء الرئيس الثاني «كيرتين» للقائه فوق فرسه الضخم، كان كيرستين ذو الشاربين الكبيرين وقورا كعادته، غير أن عينيه كانتا تلتمعان أكثر من المعتاد.
قال يخاطب دينيسوف: ما فائدة إعداد الغدارات؟! إننا لن نشتبك مع العدو، وسوف ترى.
فغمغم دينيسوف مزمجرا: يا للشيطان! لست أدري ماذا يعملون؟
ثم صاح يخاطب روستوف بعد أن لاحظ الحبور الذي على وجهه: هه يا روستوف! ها إن اليوم المنشود قد أزف!
وأشفع قوله بابتسامة مشجعة، وهو بادي السرور لشجاعة الفتى، بينما امتلأ قلب روستوف غبطة، وفي تلك اللحظة ظهر ضابط المؤخرة على الجسر، فهدب دينيسوف للقائه وقال له: اسمح لي يا صاحب السعادة أن أهاجم، سوف أقذف بهم وأبددهم!
فغمغم الجنرال وقد قطب حاجبه، وكأنه يطرد ذبابة وقحة: إن الأمر كذلك! ماذا تعمل هنا حتى الآن؟ ألا ترى أن المستكشفين ينسحبون، أرجع رجالك.
تراجعت الكوكبة، وخرجت سليمة من مدى القذف، وجاءت كوكبة أخرى كانت تستكشف حركات العدو، فمرت على الجسر يتبعها لفيف من القوقازيين هم آخر من تبقى من الفرسان.
كانت الكوكبتان تنسحبان - بناء على الأوامر - نحو المرتفعات، وكان الكولونيل كارل بوجدانيتش شوبرت، الذي لحق بكوكبة دينيسوف، يسير الهوينا على حصانه غير بعيد عن روستوف، وكان لا يلقي بالا إلى الفتى، رغم أن ذلك اللقاء كان الأول بينهما، منذ جدالهما بصدد الملازم تيليانين، كان روستوف يشعر أنه - بصفته في الخدمة - تحت مطلق تصرف هذا الرجل الذي أهانه، والذي كان يعترف في تلك اللحظة بأخطائه التي ارتكبها حياله، فكان نظره لا يفارق كتفي الزعيم العريضتين ورأسه الأشقر وعنقه الأحمر، كان يتصور أحيانا أن بوجدانيتش يتظاهر باللامبالاة ليختبر شجاعته «هو» روستوف، فعندئذ يشد قامته، ويسرح حوله طرفا متحمسا متأججا، وأحيانا يظن أن الزعيم بسيره بالقرب منه، يريد أن يبرهن له على شجاعته، لكنه كان يتصور في بعض الأحيان أن الزعيم الراغب في معاقبته، سيلقي بالكوكبة في هجوم جنوبي، ليمد بعدئذ إلى روستوف الجريح يدا مسترضية، ويعلن أنه نسي ما بينهما من خصومة.
هرع أحد الضباط المساعدين على حصانه متجها نحو الزعيم، كان ذلك الضابط المقبل هو جركوف الذي أصبح قوامه الممشوق معروفا لفرسان بافلوغراد، رغم أنه منذ إقصائه عن الأركان العامة، لم يندمج بهم زمنا طويلا، كان يقول إنه ليس شديد الحماقة لينخرط في صفوف الفرسان، بينما يستطيع تأمين ترقيته وهو في الأركان دون عمل يذكر؛ لذلك فقد سعى لنفسه حتى أصبح ضابطا تابعا للأمير باجراسيون الذي كان يقود مؤخرة الجيش، وكان في تلك اللحظة قادما من لدنه؛ لينقل أمرا إلى رئيسه السابق.
قال بوجه محزون وهو يتبادل النظر مع زملائه القدماء: أيها الزعيم، لقد صدر الأمر بالتوقف وإحراق الجسر.
فسأل الكولونيل بشراسة مستعملا اللغة الروسية الركيكة: من الذي أعطى الأمر؟
فأجاب الضابط الرسول بلهجة كلها رزانة وجد: رباه يا كولونيل! لست أدري من الذي أعطى الأمر، كل ما أعرفه أن الأمير كلفني بأن أقول لك أن على الفرسان أن يتراجعوا على الفور، وأن يضرموا النار في الجسر.
وجاء ضابط آخر من الحاشية بعد جركوف يحمل ذلك الأمر بالذات، وجاء كذلك نيسفيتسكي الضخم الذي كان ثقل جسده الضخم يبهظ الجواد القوقازي الصغير، صاح وهو على مسافة من الزعيم: رباه يا كولونيل! قلت لك أن تحرق الجسر، ثم أراك لا تأتي أمرا، إنهم على أشد الضيق في الأركان العامة، ينزعون شعر رءوسهم من الغيظ، ولا يفهمون شيئا من تصرفك.
أصدر الزعيم أمره إلى السرية بالتوقف، دون أن تبدو العجلة على تصرفاته، وأجاب قائلا: لقد حدثتني عن المواد المشتعلة، أما عن حرق الجسر فإنك لم تحدثني به.
كان نيسفيتسكي خلال ذلك الوقت قد أوقف مطيته، ورفع خوذته، وراح يمس شعره السابح في العرق بيده السمينة الضخمة، قال دهشا: كيف لم أحدثك عن إحراق الجسر يا سيدي العزيز! لم إذن وضعت عليه المواد المشتعلة؟! - عفوا يا سيدي ضابط الأركان، إنني أولا لست «سيدك العزيز»، وأخيرا إنك لم تحدثني بوجوب إحراق الجسر، إنني أعرف واجبي، ومن عادتي تنفيذ الأوامر حرفيا، لقد قلت إن الجسر سوف يحرق، أما من سيحرقه، فإنني ما كنت لأعرف ذلك بواسطة روح القدس!
قال نيسفيتسكي وهو يشير بيده دلالة على الخضوع والامتثال: هيا إن المسألة سيان!
ووقعت أبصاره على جركوف فهتف: هه جركوف، ماذا تفعل هنا؟ - مثل ما تعمل أنت، والفرق أنك مبتل - كما ترى - فهل تريد أن أعصرك؟
أما شوبرت فقد كان يشعر بجرح في كرامته نتيجة لأقوال ضابط الأركان؛ لذلك فقد استمر يناقشه محتجا: لقد قلت لي يا سيد ضابط الأركان ...
فقاطعه ضابط الحاشية قائلا: لنجعل يا كولونيل وإلا فإن العدو سيقرب قطعاته، ونصبح تحت رحمته.
وصمت شوبرت مرغما، وراح ينقل طرفه بين ضابط الحاشية وجركوف وضابط الأركان الضخم، فيزداد وجهه اكفهرارا.
قال بلهجته الوقور التي تشعر بأنه يقوم بواجبه مهما تعرض لمخاصمات وتحرش: ليكن، سأحرق الجسر.
وفثأ غضبه في جنبي جواده؛ إذ راح يضغط عليهما بساقيه القويتين دون رحمة، فطار الجواد به إلى المقدمة، وهناك ألقى الأمر إلى الكوكبة الثانية، التي كان روستوف فردا منها تحت إمرة دينيسوف، بالتراجع نحو الجسر.
فقال روستوف في سره، وهو يشعر أن قلبه قد أطبقت عليه يد خفية راحت تعتصره: «هو ذاك، إنه يريد اختباري، حسنا، سأراهن له على أنني لست جبانا!» وراحت الدماء تضرج وجهه.
ومن جديد عاد الخط الكئيب على وجوه الخيالة المستبشرين؛ ذلك الخط الذي طبع وجوههم بالتجهم عندما دوت طلقات المدافع، وكان روستوف يحدج وجه خصمه وهو يتوق إلى اكتشاف أية بادرة تدعم ظنونه، غير أن نظرة الكولونيل الصارمة الوقور لم تلتق مرة بنظرته، ارتفع صوت الزعيم آمرا، ورددت أصوات حول روستوف تقول: أسرعوا، أسرعوا!
وبعجلة فائقة، وبين رنين المهاميز وصليل السيوف وصلصلة اللجم، ترجل الفرسان عن ظهور جيادهم وهم حيارى لا يدرون ماذا يعملون، راحوا يرسمون إشارة الصليب على أنفسهم، وقد أخذ منهم الخوف لبقائهم في المؤخرة، ونسي روستوف الكولونيل، وسلم حصانه الصغير إلى الجندي الذي يحرس الخيول، وشعر أن قلبه يدق بعنف جنبات صدره، ومر دينيسوف وجسده ملقى إلى الوراء على عادته هادبا جواده صائحا مشجعا، غير أن روستوف لم يعد يرى إلا الفرسان الذين كانوا يركضون حوله مرتبكين بمهاميزهم قارعين سيوفهم.
صاح صوت من ورائه: نقالة!
لم يفكر روستوف في معرفة السبب الذي من أجله تطلب النقالة، بل راح يعدو بكل قواه محاولا الوصول قبل سواه، غير أن قدمه زلت في الطين اللزج عند مدخل الجسر، فسقط على يديه، ومر الآخرون وسبقوه.
سمع صوت الزعيم الذي كان يسير في المقدمة على صهوة جواده قرب الجسر ووجهه الوقور الطافح بالبشر: من الجانبين أيها الرئيس.
التفت روستوف لينظر إلى خصمه، وراح يمسح يديه الملطختين بالوحول بسراويله، أراد أن يتابع الجري مقدرا أنه كلما تقدم كان ذلك أفضل، غير أن بوجدانيتش صاح بصوت غاضب دون أن يعرفه، أو أن ينظر إلى وجهه: من ذا الذي يجري في منتصف الجسر؟ إلى اليمين، إلى الوراء أيها الفارس التلميذ! ما فائدة التعريض للخطر أيها الرئيس؟
وأردف يخاطب دينيسوف الذي راح يتقدم ممتطيا جواده فوق الجسر متباهيا: ترجل يا دينيسوف.
فأجاب فاسكا دينيسوف وهو يستدير في مقعده على صهوة الجواد: إه! إن القذائف تجد دائما من تصطدم به!
خلال ذلك وقف نيسفيتسكي وجركوف وضابط الحاشية بعيدا عن مرمى قذائف العدو، يراقبون تلك القبضة من الرجال بخوذاتهم الصفراء، وستراتهم الخضراء ذات الأشرطة، وسراويلهم الزرقاء، وهم ينشطون قرب الجسر، وينقلون طرفهم عبر النهر؛ ليراقبوا المعاطف الزرقاء التي كانت تظهر على البعد والبطاريات المنصوبة التي كان يسهل تمييزها.
كان كل من الجنود الواقفين على الهضبة المطلة على النهر يتساءل بقلق وهو يرقب عن بعد اقتراب المعاطف الزرقاء والحراب وقطع المدفعية: «هل يجد الفرسان الوقت الكافي لإضرام النار في الجسر؟ هل سيهاجم الفرنسيون بسرعة، ويسحقونهم تحت وابل رصاصهم؟»
قال نيسفيتسكي: سيتعرض الفرسان لضرب عنيف! ها إنهم باتوا تحت رحمة قذائف العدو.
فقال ضابط الحاشية ملاحظا: لقد أخطأ إذا استصحب كل هذا العدد! - حقا، إن اثنين من الفتيان كانا كافيين.
فاعترض جركوف بلهجته التي تستثير الضحك دون أن يبدو على وجهه أنه راغب فيه: ما هذا القول يا أمير؟ رجلان! أتريد إذن أن يمر صليب القديس فلاديمير تحت أنوفنا؟ سوف يحصل ضحايا بنتيجة هذه العملية، غير أن السرية كلها ستمنح ذلك الوسام، وسيحمل بوجدانيتش شريطه، إنه يدري ماذا يعمل.
صرخ ضابط الحاشية قائلا: هه! سيفتكون بهم الآن بطلقات الرصاص!
وراح يشير إلى الأسلحة الفرنسية التي شوهدت تسحب من المقدمة وتقطر بسرعة لتوجه نحو فرسان الجسر.
وظهرت فوق الوحدات العدوة التي تضم المدفعية، ثلاث سحب متتابعة، ولما ردد الصدى دوي الانفجار الأول، ارتفعت فوق القطعات العدوة سحابة رابعة، ودوى انفجاران متتاليان أعقبهما ثالث.
زمجر نيسفيتسكي وكأنه يحس بألم محرق: أوه، أوه!
وأمسك بذراع ضابط الحاشية وأردف: انظر، انظر! هو ذا واحد قد سقط. - اثنان على ما يبدو لي، أليس كذلك؟
فقال نيسفيتسكي وهو يشيح ببصره عن المشهد: لو كنت القيصر لما خضت حربا.
حشيت المدافع الفرنسية بسرعة، وكذلك البنادق، وتهافتت المعاطف الزرقاء بخطوات سريعة نحو النهر ، وارتفعت سحب أخرى، ولكن على فترات غير منتظمة، وفرقعت طلقات البنادق، غير أن نيسفيتسكي لم يستطع تمييز ما يحدث على الجسر في تلك اللحظة؛ إذ ارتفع فوقه غمام كثيف يشعر بأن الفرسان الروسيين هناك قد نجحوا في إضرام النار، لم يعد رماة الأعداء يطلقون النار ليمنعوا إنجاز العملية، بل لمجرد أن أسلحتهم كانت محشوة، وأن أمامهم هدفا يطلقونها عليه، وقد أفرغوا أسلحتهم ثلاث مرات قبل أن يستطيع الفرسان الروس اللحاق بخيولهم وامتطائها، وطاشت الدفعتان الأوليان، أما الدفعة الثالثة فقد أصابت فصيلة من الصميم، فقتلت ثلاثة من رجالها.
توقف روستوف في وسط الجسر، لا يدري ماذا يعمل؛ لأن عقله كان مشغولا بعلاقاته مع بوجدانيتش، ولم يجد حوله أحدا يلقاه بسيفه، وهو الذي ما كان يظن أن المعركة يمكن أن تكون خلاف ذلك، وما كان يستطيع المساهمة في إشعال النار؛ لأنه لم يكن يحمل المادة الملتهبة كالجنود الآخرين؛ لذلك فقد وقف في مكانه مترددا حائرا، وفجأة سمع فرقعة تشبه سقوط جوز ناضج، ورأى الفارس القريب منه يسقط إلى الأرض مزمجرا قرب السياج، فهرع إليه مع بعض الجنود، وعلا صياح أحدهم من جديد: نقالة!
أمسك أربعة رجال بالجريح وأنهضوه، فصاح هذا: أوه، أوه! دعوني بحق السماء.
غير أنهم حملوه، ووضعوه على النقالة.
التفت نيكولا روستوف، وراح يحدق في النهر الكبير الذي كان يضيع في الأبعاد الشاسعة، وتأمل السماء التي كانت الشمس تبدو فيها كالكتلة المتوهجة، بدت السماء لناظريه شديدة البهاء في إشراقها البهيج، وأعجب بجلال الإشعاع الذي تعكسه الشمس، وبدا له ماء الدانوب الملتمع كالمرآة الصقيلة؛ بهيا رائعا. وبدت له التلال التي تصبح قاتمة اللون، كلما ازدادت إغراقا في البعد وراء الدير، جذابة بهيجة، والوديان غامضة، وغابات الصنوبر تائهة وسط الضباب الخفيف بمحاذاة الأفق البعيد. هناك كان السلام والسعادة. أخذ روستوف يحدث نفسه: «لو أنني كنت هناك فقط، إذن لما طلبت شيئا، ولما رغبت في شيء مطلقا قط. كم من سعادة أجدها في نفسي وفي هذه الشمس! بينما أصغي إلى التأوهات الأليمة المروعة تتردد بقربي. وهذه العجلة وهذا الارتباك. رباه! ها إن أمرا جديدا قد صدر، وكل الفرسان ينفرون إلى حيث لا يعلم إلا الله، فلأركض معهم إذن. ها هو ذا الموت فوق رأسي وحولي. لحظة واحدة، ولن أرى بعدها هذه الشمس، وهذه المياه، وهذا الوادي ...»
مرت سحابة غطت الشمس، فرأى روستوف نقالات أخرى أمامه. وعندئذ اتحد الرعب، الذي أحدثه في نفسه تخوفه من الموت، بحبه للشمس والحياة، وبدت كلها على وجهه في طابع القلق والغم، فغمغم: «آه يا رب! أنت يا من علوت في سمائك، أنقذني وصني واغفر لي!»
هرع الفرسان إلى خيولهم، فاكتسبت أصواتهم ثقة أقوى، واختفت النقالات من أمامهم، وصاح فاسكا دينيسوف في أذن روستوف: حسنا يا صغيري، هل استنشقت رائحة البارود؟
فقال روستوف في نفسه: «هيا، لقد انتهى كل شيء، لكنني لست إلا جبانا، نعم إنني جبان.» وزفر زفرة عميقة، وأخذ عنان جواده من الجندي الذي كان يحرس الخيل، ووضع قدمه في الركاب.
سأل دينيسوف قائلا: ماذا كان نوع السلاح؟ أهو الرصاص أم القذائف؟
فأجاب دينيسوف: لقد كان يجمع بين كليهما، لقد قمنا بعمل باهر، ولكن يا للمهمة القذرة! حدثني عن هجوم يطربني؛ لأن في الهجوم على الأقل ما يستطيع الإنسان أن يصب عليه نقمة سيفه، أما عمل كهذا، فإنني لست أدري كيف أصفه، يقذفنا العدو برصاصه، فندعه يتم قذفه جاعلين من أنفسنا هدفا لمقذوفاته!
ومضى دينيسوف نحو جماعة غير بعيدة عن روستوف تضم الكولونيل ونيسفيتسكي وجركوف وضابط الحاشية.
فكر روستوف في نفسه: «إن أحدا لم يلاحظ شيئا؛ لأن كلا مما اعتراني!» والحقيقة أن أحدا لم يلاحظ شيئا؛ لأن كل واحد كان يعرف بمحض التجربة الشعور الذي يخلعه اللقاء الأول مع النار.
قال جركوف: سوف نرفع تقديرا بديعا رائعا، لن أدهش إذا رقيت إلى رتبة ملازم.
وقال الكولونيل بلهجة المنتصر: بلغ الأمير أنني أحرقت الجسر. - وإذا سئلت عن الخسائر فماذا أقول؟
فأجاب الزعيم بصوت خافت: خسارة لا تذكر، لقد أصيب فارسان بجراح، وقتل ثالث على الفور .
كان يعجز عن ضبط أعصابه وكتمان سروره، وبدت له الكلمة الأخيرة شديدة الجمال، حتى إنه فاه بها بلهجة مرعدة والابتسامة تشع على شفتيه: قتل فورا.
الفصل التاسع
مهمة بولكونسكي
انثنى جيش كوتوزوف عبر وادي الدانوب يطارده بونابرت على رأس مائة ألف رجل، بينما كان تعداد الجيش الروسي لا يزيد على خمسة وثلاثين ألفا، وكان السكان يستقبلون المتراجعين المتقهقرين بنظرات عدائية تدل على أنهم لا يثقون بحلفائهم، شعر الجيش المتراجع بنقص في مئونته، فاضطرت القيادة إلى استعمال الأساليب المنظورة في مثل هذه الحالات أثناء الحرب، ولم يكن يجيب على ضغط العدو إلا بمعارك من مؤخرة الجيوش، الغاية منها تغطية انسحاب الجيش ومحاولة إنقاذ الأمتعة والمؤن، واشتبك الجيشان في «لامباخ» وفي «آمستيتش» و«ميلك»، وبرهن الروس في هذه المعارك عن شجاعة ومقاومة اعترف خصمهم بهما. مع ذلك فإن تلك المعارك الجريئة اليائسة ما كانت إلا لتزيد في سرعة التقهقر، وكانت الجيوش النمساوية التي نجت من هزيمة «أولم»، واستسلام جيوش ماك، والتي انضمت إلى الجيوش الروسية في برونو، قد انفصلت عنها، فوجد كوتوزوف نفسه على رأس وحداته الشخصية المنهوكة المتعبة، فلم يجد سببا للتفكير في الدفاع عن فيينا. وبدلا من الهجوم المرتقب بحسب قواعد الفن الحربي الجديد المسمى «استراتيجية»، والذي كانت خطته قد عرضت عليه خلال إقامته في فيينا من قبل قيادة الأركان العليا الحليفة، فإن كوتوزوف لم يجد لزوما لإضاعة جيشه كما أضاع ماك جيشه في «أولم»، بل رأى أن خير ما يعمله لسلامة وحداته، إنما هو الاتصال بالوحدات الروسية التي وصلت من روسيا، رغم أن تلك الغاية لم تكن سهلة ميسورة وممكنة.
وفي الثامن والعشرين من تشرين الأول، توقف كوتوزوف على ضفة الدانوب اليسرى، بعد أن جعل النهر فاصلا بينه وبين القطعات الفرنسية الرئيسية، وكانت الضفة اليسرى محتلة من قبل الجيش الذي يقوده مورتير،
1
وفي 30 تشرين الأول، انقض كوتوزوف على جيش مورتييه وهزمه، وكسب الجيش الروسي للمرة الأولى أسلابا؛ علما ومدفعين، وأسر جنرالين، وللمرة الأولى منذ خمسة عشر يوما، ظل الجيش الروسي خلالها يقاتل ليغطي انسحابه، تمكن أخيرا أن يحتفظ بساحة المعركة، وأن يجابه العدو، وينزل به هزيمة منكرة، كانت وحدات الجيش متعبة، وقد غدت ثياب الأفراد أطمارا مهلهلة، وخسرت ثلث عددها بين قتيل وجريح ومتخلف ومريض، ولما كانت المستشفيات وأبنية مدينة كريمس
Krems
الكبيرة المحولة إلى مشاف تضيق بالمرضى، ترك كوتوزوف مرضاه الآخرين والجرحى على الضفة الثانية، بعد أن سطر رسالة ناشد فيها إنسانية العدو في معاملة الجرحى والمرضى. مع ذلك، فقد جاء التوقف في تلك المدينة، والانتصار على مورتييه داعما لمعنويات الرجال. وراحت الشائعات المشجعة تسري في الجيش حتى بلغت الأركان العامة؛ فمن قائل أن وحدات النجدة تقترب، إلى آخر يؤكد أن النمساويين قد انتصروا بدورهم، وثالث يروج أن بونابرت قد استولى عليه الذعر فولى الأدبار.
ظل الأمير آندريه قرب الجنرال النمساوي شميدت طيلة المعركة التي قتل فيها هذا الأخير، وأصيب الأمير برصاصة خدشت ذراعه بعد أن قتلت مطيته، وقد أكرمه الجنرال القائد الأعلى، فخصه بالذهاب إلى البلاط النمساوي لينقل خبر الانتصار إلى الملك، الذي انتقل مع حاشيته من فيينا التي كان الفرنسيون يهددونها، إلى برونو. لم يكن الأمير بولكونسكي تعبا، لكنه كان قلقا مضطربا مثار العواطف ليلة المعركة، كان رغم بنيته الناعمة، يحتمل التعب أكثر من أي أمتن بنيانا منه، وقد وصل ليلتئذ إلى «كريمس» على صهوة جواده يحمل تقريرا من دوختوروف للقائد الأعلى كوتوزوف الذي أرسله لساعته إلى برون، فكان الاختيار الذي يقع عليه بانتقائه رسولا يحمل الأخبار المهمة، يبشر بالإضافة إلى الميزات الأخرى التي يمتاز بها ذلك الاختيار، بترقية ومستقبل لامعين للأمير الشاب.
كانت الليلة حالكة، والنجوم تلتمع على صفحة السماء، والطريق يرسم خطا أسود على أديم البراري الزاهية اللون، التي تغطيها طبقة من الثلج الذي ظل ينهمر طيلة يوم أمس خلال المعركة، وبينما كان يقطع الطريق في عربة البريد الصغيرة، كانت أفكاره مشغولة في حوادث أمس الرهيبة، كان يستعرض أحيانا أخطار المعركة، وعبارات الوداع التي خصه بها القائد الأعلى وزملاؤه، وأحيانا يتمثل الأثر المفرح الذي ستحدثه أخطار المعركة والنصر الذي أحرز. كان الأمير آندريه أمام تلك الأفكار، يشعر شعور الرجل الذي شاهد انبثاق الفجر؛ فجر سعادة ظل زمنا طويلا يمضه الشوق إليها حتى تحققت بعد موجة انتظار مضنية، كان إذا أغمض عينيه، خيل إليه أنه يسمع صوت الطلقات النارية ودوي المدافع الذي اختلط بقعقعة العجلات وشعور النصر، وكان أحيانا يتصور أن الروسيين يدبرون فرارا، وأنه أصيب إصابة قاتلة فمات، لكنه كان يستيقظ منتفضا، ويتضح له بسعادة تداني سعادته في تخيلاته الأولى البهيجة، أن خيالاته ليست حقيقة، وأنها على العكس تمثل صورة معكوسة؛ لأن الفرنسيين هم الذين لاذوا بالفرار، ومن جديد كان يتمثل ظروف المعركة والجرأة الغريبة التي أظهرها خلالها، وأخيرا أغفى وهو يهدهد تلك الأفكار الجميلة في مخيلته.
أعقب ذلك الليل الحالك ساطع النجوم، صبح بهيج مشع، ذابت الثلوج تحت حرارة الشمس، وراحت الخيول تخب مسرعة، بينما كانت الغابات والحقول والقرى المحيطة بالطريق، تمر أمام ناظريه بتشابه يربط بين مختلف تلك المشاهد، ولحق الأمير في إحدى مراحل تبديل الخيول بقافلة تضم عددا من الجرحى الروسيين، كان رئيس القافلة متهالكا في العربة الأولى، يسب ويصخب ويشتم جنديا شتائم قبيحة. كان أولئك الجرحى التعساء، شاحبي الوجوه قذرين، تحيط بأعضائهم المصابة الأربطة والضمادات، وكانوا محشورين في العربات الطويلة بمعدل ستة أو أكثر في كل عربة، تهتز دارجة على الطريق الحجري، كان بعضهم يتحدثون إذ بلغت مسامع الأمير بعض عبارات باللغة الروسية، والبعض الآخر يأكلون الخبز، أما أولئك الذي كانت إصاباتهم خطيرة، فقد كانوا يتأملون - بصمت وبفضول المرضى المتواضع الصبياني - عربة البريد التي كانت تمر بهم مسرعة وتتجاوزهم.
أوقف الأمير العربة، وسأل أحد الجرحى عن المعركة التي أصيب خلالها مع رفاقه، فأجاب الجندي: لقد جرحنا أول أمس في الدانوب.
فأخرج الأمير حافظة نقوده، وأعطى الجندي ثلاث قطع ذهبية، وقال للضابط الذي اقترب منه في تلك اللحظة: إن هذا المال للجميع، تمالكوا قواكم يا أولادي، فإن أمامنا كثيرا مما نعمل.
سأل رئيس القافلة متلهفا على الدخول في محادثة: حسنا يا سيدي الضابط، ما هي آخر الأخبار؟
فهتف يجيب بعد أن أصدر أمره لسائق عربته بالمسير: جيدة.
وراحت العربة تبتعد بالأمير متجاوزة قافلة الجرحى.
كان الظلام مخيما عندما دخل الأمير برون، وكانت فوانيس الشوارع مضاءة والأنوار تشع من واجهات الدكاكين ومن وراء النوافذ المرتفعة على جانبي الطريق، وكانت العربات الأنيقة تدرج على أرض الشارع المبلطة محدثة قعقعة ودويا، شعر الأمير فجأة أنه مندمج في ذلك الوسط الجذاب الذي يأخذ بمجامع قلوب العسكريين الوافدين من ساحات القتال، كانت تلك المرحلة الطويلة التي قطعها، وليلة الأرق التي مرت به، عديمة الأثر في أعصابه، فلما اقترب من القصر شعر بنشاط يفوق نشاطه بالأمس، كانت عيناه وحدهما تشعان ببريق محموم، وأفكاره تترى وتتلاحق بوضوح وسرعة خارقين، استعاد في ذاكرته أدق تفاصيل المعركة، فلم تكن تلك التفاصيل غامضة مشوشة، بل كانت واضحة دقيقة وضوح تقرير جدير بأن يرفع إلى مقام الإمبراطور فرانسوا، أخذ يشعر شعورا مسبقا بالأسئلة العريضة التي ستطرح عليه، والأجوبة التي سيقدمها، راح يفكر في أنه سيدخل إلى حيث الإمبراطور فور إعلان اسمه، لكنه عند مدخل القصر، التقى بموظف هرع للقائه فلما عرف أنه رسول يحمل نبأ، قاده إلى باب آخر غير مدخل الشرف الذي ولجه من قبل.
قال له الموظف: اتبع الممشى، واستدر إلى اليمين، فستجد هناك الضابط المساعد المنوط به أمر الخدمة في هذه الساعة، وهو الذي سيدخلك إلى مكتب وزير الحربية.
امتثل الأمير، ورجاه الضابط المنوب أن ينتظر لحظة ريثما يحمل النبأ إلى وزير الحربية، وعاد بعد خمس دقائق ينحني أمام الأمير انحناءة عامرة بالاحترام، ويقوده خلال ممشى إلى مكتب الوزير، والظاهر أن الضابط المنوب أراد بإبدائه مثل ذلك التأدب حيال الرسول الروسي، أن يحبط كل محاولة لنبذ الرسميات جانبا، وكلما اقترب الأمير من مكتب الوزير، حل شعور الغضب محل التفاؤل والاستبشار، تحول ذلك الشعور بالغضب إلى كراهية واشمئزاز ليس لهما ما يبررهما، غير أن شعور الأمير المبتكر، استطاع أن يقدم له أسبابا وجيهة، تبرر كراهيته للضابط والوزير، كان يحدث نفسه مبررا شعوره: «لا شك أن الذين لم يستنشقوا رائحة البارود يجدون أن الظفر سهل المنازل!» وعلى هذا، فإنه لما دخل إلى مكتب الوزير، كانت في عينيه نظرة محتقرة، وكانت خطواته قد أصبحت بطيئة متثاقلة، وازدادت كراهيته عندما وجد أن الوزير لبث دقيقتين كاملتين منشغلا عنه مغفلا وجوده، كان هذا جالسا وراء منضدة كبيرة بين مشعلين ضخمين من الشمع، ورأسه الأصلع بصدغيه الرماديين يلتمع تحت الضوء، كان يقرأ أوراقا يسطر عليها ملاحظاته بقلم الرصاص، ظل منكبا على القراءة عندما فتح الباب، وعلت خطوات الداخلين وباتت مسموعة.
قال الوزير لضابطه المساعد: خذ هذا وانقله إلى من يلزم.
ولم يبد عليه أنه شاعر بوجود الرسول.
شعر الأمير آندريه أن عمليات كوتوزوف لم تكن موضع عناية الوزير الرئيسية، وأن هذا كان يتعمد استصغار شأنه، فقال الأمير في سره: «مع ذلك، إنني لا أبالي.» أزاح الوزير الأوراق الأخرى وسوى منها رزمة بعناية، ثم رفع رأسه، كانت سحنته الساطعة بالذكاء تنبئ بشيء من العبقرية، لكنه عندما استدار نحو بولكونسكي، اختفت تلك المعالم العبقرية الصارمة بحكم عادة مصطنعة، شاعت ابتسامة بلهاء على وجهه؛ ابتسامة طافحة بالخبث، عاجزة عن إخفاء ذلك المكر رغم مهمة صاحبها التي تجعله يستقبل يوميا عديدا من الملتمسين.
سأل الوزير: أأنت قادم من قبل الجنرال فيلد ماريشال كوتوزوف؟ هل وراءك أخبار طيبة؟ هل تقابلتم مع مورتييه؟ وانتصرتم؟ لقد كان الانتصار في حينه!
وفض الرسالة التي كان كوتوزوف قد أرسلها إليه شخصيا. وبدا فجأة فريسة لكرب شديد، فهتف بالألمانية: آه يا رب، رباه! «شميدت»! يا للتعاسة، يا للتعاسة!
وبعد أن قرأ الرسالة وضعها على المنضدة، وراح يتأمل الأمير آندريه بنظرة ساهمة، قال: آه، يا للتعاسة! أتقول إن المسألة حاسمة؟ مع ذلك فقد استطاع مورتييه الإفلات.
وصمت فترة مستغرقا في تفكيره ثم أردف: سرني أن حملت أخبارا طيبة، غير أن موت شميدت يجعلنا نعتبر أننا دفعنا ثمن الانتصار غاليا. إن جلالته سيرغب في لقائك حقا ولكن ليس اليوم، إنني أشكرك، اذهب واسترح، ودعني أراك بعد الاحتفال عند المخرج، على كل حال سوف أخطرك.
واستعاد ضحكته البلهاء التي أفلتت منه خلال الحديث، وقال وهو ينحني انحناءة خفيفة: إلى اللقاء وألف شكر، إن جلالته سيرغب في رؤيتك ولا شك.
ولما خرج الأمير آندريه من القصر، شعر أن كل اهتمامه وابتهاجه بالنصر الذي أحرزته القوات الروسية قد تبخر، لقد أعطى ذلك الكنز إلى وزير الحربية ومساعده المتكلف، نعم لقد ائتمن على الكنز أيديا لا تستحقه، اتجهت أفكاره وجهة أخرى، وأصبحت المعركة في خياله ذكريات شاحبة قديمة.
الفصل العاشر
بيليبين
حل الأمير آندريه في برونو عند صديقه الدبلوماسي الروسي بيليبين، قال هذا وهو يستقبله: آه عزيزي الأمير، لا شيء أمتع عندي من لقائك!
وأمر خادمه فرانز أن يحمل أمتعة الأمير إلى غرفة نوم السياسي، استطرد يخاطب الأمير: إذن يا عزيزي، لقد جئت تحمل نبأ النصر؟ رائع! أما أنا فإنني مريض كما ترى.
وبعد أن اغتسل الأمير آندره وأبدل ثيابه، دخل إلى مكتب الدبلوماسي الفخم؛ حيث كانت تنتظره أكلة خفيفة، جلس إلى المائدة بينما انتحى بيليبين مكانا قرب الموقد.
كان بولكونسكي يشعر بانطلاق بهيج عندما عاد إلى الجو الناعم الرائع الذي اعتاد على مثله منذ نعومة أظفاره، خصوصا وأنه كان محروما من كل وسائل الرفاه والراحة طيلة سفره وخلال مختلف مراحل الغزوة، ثم إن ذلك أثر في نفسه أبلغ الأثر، خصوصا بعد اللقاء الذي وقع بينه وبين الوزير، فكان التحدث باللغة الروسية، أو على الأقل التحدث مع روسي ولو كان باللغة الفرنسية، روسي يشاطر مواطنيه، ولا شك الكراهية العامة التي يحسون بها نحو النمساويين، يخفف بعضا مما في نفسه.
كان بيليبين في الخامسة والثلاثين من عمره تقريبا، عزبا، ومن بيئة الأمير آندريه ووسطه، وكانت علاقاته في المجتمع الراقي في فيينا تماثل العلاقات التي كانت له في بيترسبورج، وقد شعر بولكونسكي بذلك إبان زيارته لفيينا بصحبة القائد الأعلى كوتوزوف، فإذا كان الأمير آندريه يتوقع لنفسه مستقبلا باهرا في الجيش، فإن بيليبين كان ينتظره مستقبل رائع كذلك في مضمار السياسة، كان شابا حقيقة، لكنه لم يكن فنيا في أجواء السياسة؛ إذ إنه مارس هذا العمل، وهو في السادسة عشرة من عمره، وبدأ في باريز ثم «كوبنهاج»، وهو الآن يشغل مركزا لامعا في فيينا، مركزا حساسا مهما، وكان السفير الروسي والوزير المفوض للإمبراطورية الروسية يقدرانه حق قدره، ذلك أن بيليبين لم يكن من أولئك السياسيين الكثيرين الذين يعتقدون أن النجاح في الحياة السياسية رهين بالصفات السلبية التي يجب أن يتمتع بها الدبلوماسي، وبالامتناع عن بعض الأمور، والتحدث باللغة الفرنسية بطلاقة، بل كان من أولئك الذين يحبون العمل ويجيدونه، وكان رغم كسله يمضي ليالي عديدة وراء طاولة العمل، كان ينجز عمله ويتمه بنجاح مهما كان لون ذلك العمل ونوعه، وكان ما يهمه في الأمور ما يجيب منها على «كيف» وليس على «لماذا»، وكان الفن الدبلوماسي يشغل حيزا ضيقا في نفسه، لكنه كان دءوبا على إعداد مذكرة بدقة، وبعبارات منتقاة وفن، حريصا على إبراز هذه الصفات في كل المخابرات والعلاقات الخطية، فكان إلى جانب براعته في الإنشاء، يشعر من حوله بتفوقه في تصرفاته وعلاقاته مع الأوساط الراقية المرموقة.
كان بيليبين ولوعا بالحديث ولعه بالعمل، شريطة أن يكون ذلك الحديث فكريا عاليا، فكان في المجتمعات لا يتحدث إلا إذا أتيحت له الفرص لإبراز ملاحظاته العبقرية على موضوع ما، فلا يتحدث إلا إذا سار الحديث وفق هواه، وكان يرصع حديثه بعبارات بديعية متقنة الصياغة سهلة الفهم، كان يهيئها عامدا في مكتبه كما يبدو؛ لتصبح سهلة النقل، فيتاح للأشخاص البارزين في المجتمع وللمزهوين منهم، نقلها من بهو إلى آخر، والحقيقة أن كلمات بيليبين كانت تؤخذ في كل أبهاء فينا؛ حيث كان تأثيرها شديد الوضوح في «الأمور الهامة».
كان وجهه هزيلا أصفر وهنا، تقطعه غضون عميقة، وكان شديد العناية بنظافة وجهه وجسده، وكانت حركات تلك الغضون هي أبرز صفات ذلك الوجه؛ فكانت تارة تقطع جبينه أفقيا، بينما يكون حاجباه في أقصى ما يستطيعان بلوغه من ارتفاع، وأحيانا أخرى تظهر على خديه بينما يكون حاجباه هابطين، وكانت عيناه الصغيرتان الغائرتان في محجريهما ، تنظران إلى المتحدث نظرة صريحة وديعة.
قال يحدث الأمير: حسنا، قص علي الآن مشاريعك.
فقص بولكونسكي بتواضع تام، ودون أن يشير إلى دوره مطلقا، تفاصيل المسألة التي ساهم فيها، واللقاء الذي خصه به وزير الحربية، وقال معقبا: لقد تلقوني مع الخبر الهام الذي أحمله كما يستقبل الكلب العائد من لعبة المطاردة.
فابتسم بيليبين، وانبسطت أسارير وجهه، وقال وهو يتأمل أظفاره عن بعد، ويغمز بعينه اليسرى: مع ذلك يا عزيزي، فإنني رغم الحب الذي أكنه للجيش الروسي الأورثوذوكسي، أعترف بأن انتصاركم لم يكن من أروع الانتصارات.
واستمر يتحدث بالفرنسية مستعملا أحيانا بضع كلمات من لغته الأصلية، كلما أراد أن يضفي على جملة ما طابعا خاصا من الاحتقار، أردف يقول: قل لي، لقد انقضضتم بكل جيشكم على فيلق مورتييه التعس، مع ذلك فقد استطاع مورتييه ذاك أن يتسلل من بين أصابعكم، ثم إنكم تسمون هذا نصرا!
فأجاب الأمير آندريه: إنه على كل حال أحسن من موقعة «أولم»، إذا جاز لنا أن نقول ذلك دون تبجح. - لم لم تأسروا ماريشالا واحدا، واحدا فقط؟ - لأن كل شيء لا يحدث في الحرب كما يتوقعه الإنسان، والحرب والاستعراضات لا يمكن أن يتساويا، لقد كنا نفكر أن نهاجم مؤخرته حوالي الساعة السابعة صباحا، مع أننا لم نبلغ مكانه في الخامسة مساء.
سأل بيليبين بابتسامة: ولماذا لم تصلوا في الساعة السابعة؟ كان ينبغي أن تصلوا في الوقت المقرر، نعم في الوقت المقرر.
فأجاب الأمير آندريه بمثل لهجته: ولماذا إذن لم تقنع بونابرت عن طريق الدبلوماسيات بإخلاء جينس؟
فقاطعه بيليبين قائلا: نعم، إنني أعترف بأن أسر الماريشالات من أسهل الأمور في نظر من لا يبارح زاويته قرب النار، أليس هذا ما تفكر فيه؟ إنك على حق في تفكيرك، مع ذلك لم لم تأسروا ماريشالا؟ لا تدهش إذا قلت لك إن وزير الحربية وصاحب الجلالة الإمبراطور والملك فرانسوا لا يبدون سرورهم بغير ذلك، أما أنا - وأنا الموظف البسيط في السفارة الروسية - فإنني لا أسر، بل ولا أجد حاجة لإظهار سروري ، إذا أعطيت خادمي فرانز ثلاثة ماركات، وأرسلته للقاء صديقته في حديقة الألعاب؛ ذلك أن المبلغ لا يمكن أن يكون كافيا لتأمين حاجات فرانز.
وبينما كان جبينه يبدد الأخاديد التي ارتسمت عليه، كانت عيناه تتغللان في أعماق الأمير آندريه، فقال هذا: دعني يا عزيزي ألقي عليك بدوري سؤالا واحدا، إن دقائق الدبلوماسية تفوق فهمي الضعيف واستيعابي للأمور، فكيف يخسر ماك جيشا كاملا، ولا يعطي الأرشيدوقان فرديناند وشارل أية دلالة على حسن تصرفهما، بل يجمعان الخطأ إلى الخطأ، في حين أن كوتوزوف وحده يتفوق، فيعكر صفو الفرنسيين، ومع ذلك لا يجد وزير الحربية سببا يدفعه للتعرف على تفاصيل المعركة؟! - إن هذا صحيح، ولكن يا عزيزي: اهتف ما شئت للقيصر ولروسيا وللدين! إن كل هذا جميل وبديع، لكن أية مصلحة لنا نحن في انتصاراتكم؟ وأقصد أية مصلحة وفائدة يجنيها البلاط النمساوي؟ أحمل إليهم خبر انتصار واحد من الأرشيدوقين شارل أو فرديناند - وكل أرشيدوق يساوي الآخر - حتى ولو كان انتصارهم على فريق من رجال الإطفاء الذين يرافقون بونابرت، وعندئذ تراهم يحتفلون بالخبر بقصف المدافع، بينما يبدو أنكم في انتصاركم هذا لم تنتزعوا الغار إلا لتزعجوهم به، إن الأرشيدوق شارل لا يتحرك والأرشيدوق فرديناند تغمره المهانة، وأنتم تتركون فيينا لمصيرها المحزن وكأنكم تقولون: «إن الله الرحيم يحميكم وذلك يكفي. فليبارككم وليبارك عاصمتكم!» وكان لديهم جنرال واحد عزيز عليهم وهو شميدت، فعرضتموه للرصاص الذي قتله، وجئتم بعد ذلك تزعمون أنكم انتصرتم! فكر في الأمر، فكر وأيدني في القول: إن رسالتك كانت شديدة الأسى، أليمة الوقع، أليس كذلك؟ إنها تشبه العمل المقصود، نعم العمل المقصود، ثم لو أنكم ربحتم معركة، أو ربحها الأرشيدوق شارل بنفسه، فإن ذلك لن يغير سير الأمور العام؛ إذ ما فائدة هذا النصر؟ لقد قضي الأمر، وأصبحت فيينا الآن محتلة من قبل الفرنسيين. - كيف محتلة؟ هل دخل الفرنسيون فيينا؟ - بلا شك، وبونابرت يقطن الآن في قصر شونبرون، بينما سيأخذ عزيزنا الكونت «واربنا» أوامره قريبا.
شعر بولكونسكي بعجزه عن إدراك حقيقة الأمور التي تعرض على مسامعه؛ إذ كانت وعثاء السفر وبرودة اللقاء الذي استقبل بها، والطعام الفاخر الذي التهمه، كافية لإخماد شعوره، استرسل بيليبين قائلا: لقد قابلت هذا الصباح الكونت ليشتنفلس، فأعطاني رسالة جاء فيها وصف مسهب لدخول الفرنسيين إلى فيينا دخول الظافرين، لقد دخلها الأمير مورا
1
وكل الحاشية؛ لذلك فإن انتصاركم - كما ترى - فقد طابعه، فلا يمكن والحالة هذه أن تستقبل استقبال المنقذين.
فقال الأمير آندريه، الذي فهم أخيرا ضآلة أهمية معركة كريمس إزاء احتلال العاصمة: إن ذلك سيان عندي شخصيا، ولكن كيف أخذت فيينا؟! أين الجسر، وأقصد رأس الجسر العتيد، والأمير دويرسبيرج العظيم؟ أعتقد أنه كان يدافع عن المدينة إذا آمنا بالشائعات التي راجت عندنا. - إن الأمير دويرسبيرج من هذا الجانب من النهر وهو يدافع عنا نحن. صحيح أنه أسوأ دفاع، ولكنه مع ذلك يحمينا، أما فيينا، فإنها من الجانب الآخر، صحيح أن الجسر لم يسلم بعد، لكني لا أميل إلى الظن بأنه سيظل في أيدينا، مع العلم أن الألغام مبثوثة فيه، وأن الأمر بنفسه قد صدر، ولو أن الأمور سارت على غير ذلك، لكنا نحن في جبال بوهيميا منذ زمن طويل، ولأخذ جيشكم بين نارين، ولقضي عليه أسوأ قضاء.
فقال الأمير آندريه: إن ذلك لا يعني على أية حال انتهاء الغزوة. - بل إنها انتهت إذا شئت أن تصدق رأيي المتواضع، وهذا هو رأي ذوي الرءوس الضخمة هنا، وإن كانوا لا يجرءون على الإفصاح عنه، سوف يقع ما تنبأت بوقوعه من قبل؛ إن مذبحتكم في دورنستين لن تبدل من الأمر شيئا، وبصورة عامة لن يكون البارود والنار صاحبي الكلمة الأخيرة، بل إن الكلمة ستكون للذين اخترعوا البارود والنار.
وبسط بيليبين جبينه بعد أن نجح في تحرير واحدة من عباراته المنتقاة، وصمت برهة ثم أردف: إن كل شيء متوقف على مفاوضات برلين بين ملك بروسيا والإمبراطور ألكسندر، فإذا دخلت بروسيا في حلفنا، شددنا أزر النمسا، وعادت الحرب من جديد، أما إذا رفضت، فلا يبقى إلا الاتفاق على انتقاء المدينة التي ستسلم للعدو المكتسح .
هتف الأمير آندريه فجأة، وهو يقبض أصابع يده الرقيقة، ويضرب بها المائدة: يا للعبقرية المدهشة! ويا للرجل السعيد!
قال بيليبين وقد عاد جبينه يتجعد دلالة على أن كلمة أخرى من كلماته ستجد مكانها المفضل في سياق الحديث: بونابرت؟
ثم كرر القول وهو يضغط على المقطع الأول: بونابرت؟ إنه الآن يشرع في قصر شوبنرون قوانين جديدة لتطبق في النمسا، وأرى أن يحذف من اسمه حرف «الياء» الذي كان في المقطع الأول ليصبح اسمه بونابرت فقط بعد أن كان يدعى بيونابارت.
فقال بولكونسكي: دعك من المزاح، هل تعتقد حقيقة أن هذه الحرب ستنتهي؟ - إليك رأيي، إن النمسا التي لم تعتد مثل هذه الحال، ستحاول الانتقام لكرامتها؛ إذ يقال إن المقاطعات قد دمرت؛ لأن الجيش الأورثوذوكسي مخيف في أعمال السلب، ثم إن الجيش قد هزم، والعاصمة سلمت، كل ذلك إكراما لجمال عيني جلالة ملك سردينيا؛ لذلك يا عزيزي - وأرجو أن يكون الحديث بيننا - أعتقد أنهم يخدعوننا؛ لأنني أشم رائحة مفاوضات بين النمساويين والفرنسيين، ومشاريع سرية للسلم وللصلح المنفرد.
فقال الأمير آندريه: إن ذلك شديد البشاعة! لا يمكن أن يكون ذلك!
فقال بيليبين: من يعش ير.
وبسط نهائيا تجاعيد جبينه معربا بذلك عن رغبته في إنهاء الحديث.
ولما اعتكف الأمير آندريه في غرفته التي وضعت تحت تصرفه، واستلقى على الأغطية النظيفة وفراش الريش والوسائد المعطرة، شعر أن المعركة التي حمل أخبارها قديمة العهد عريقة في القدم، كان ما يشغل ذهنه هو التحالف مع بروسيا وخيانة النمسا وانتصار نابليون الجديد، واستعراض الغد الذي سيمثل بعده بين يدي الإمبراطور فرانسوا.
لم يكد يطبق عينيه حتى عاد إلى أذنيه قصف المدافع وقعقعة البنادق ودوي العجلات، ومن جديد عاد يرى القناصة ينحدرون من أعلى التل وهم يطلقون بنادقهم، وشعر بقلبه يدق عنيفا، وأنه تقدم إلى الأمام مع «شميدت» والرصاص يصفر حول رأسه صفيرا جميلا، فاستسلم للنوم بسرور عنيف متأجج مضاعف لم يشعر به منذ طفولته.
واستيقظ بعد ذلك، فقال لنفسه بابتهاج والابتسامة البريئة مرتسمة على شفتيه: «إه نعم ، لقد حصل كل هذا!» وعاد يستغرق في نوم عميق.
الفصل الحادي عشر
الملك فرانسوا
استيقظ متأخرا، وراح يرتب ذكرياته، تذكر بادئ الأمر أن عليه أن يتقدم ليمثل بين يدي الإمبراطور فرانسوا، ثم تذكر وزير الحربية وتابعه البشوش الأنيس، وبيليبين وحديثهما أمس. ارتدى ثوبه الأنيق الذي لم يستطع منذ زمن طويل أن يرفل فيه لافتقاره للمناسبة الملائمة، فبدا جميلا أنيقا نشيطا رغم ذراعه المعصوب إلى عنقه، ودخل على بيليبين، فرأى هناك أربعة رجال من السلك السياسي، عرف منهم الأمير هيبوليت كوراجين؛ وهو أحد أمناء السر في السفارة، فقدمه بيليبين إلى الآخرين.
كان أولئك السادة الشبان الأرستقراطيون الأغنياء الأنيقون، يشكلون في برون، كما كانوا في مشينيا، حلقة خاصة كان بيليبين يتزعمها ويسميها «جماعتنا»، كانت تلك الجماعة تضم السياسيين وحدهم، مع ذلك فقد كان أفرادها لا يأبهون بالسياسة ولا بالحرب، كانوا يكرسون جهودهم للحياة العامة الراقية، ولبعض العلاقات النسائية ومشاكل المستقبل، استقبلوا الأمير آندريه كواحد منهم في الظاهر، وهو الشرف الذي قل أن يضفوه على أحد، وجهوا إليه عددا من الأسئلة المهذبة عن حالة الجيش وعن المعركة الأخيرة؛ مما مهد الحديث بينهم وبين الأمير، ثم تشعب الحديث وتطرق إلى نواح عديدة، حتى أصبح ثرثرة ولغطا كالذي يدور عادة في الأبهاء والأندية.
قال أحدهم يتحدث عن خطب نزل بأحد زملائه: إن أجمل ما في الموضوع هو أن الوزير المفوض قال له بالذات: إن نقله إلى لندن يعتبر ترقية، وإن عليه أن ينظر إلى الموضوع من تلك الزاوية، ولكم أن تتصوروا ما اعترى قسمات وجهه من تغييرات، وهو يرى السخرية تقذف في وجهه على هذا الشكل!
فقال آخر: كلا، إن أخطر ما في الأمر هو تصرف كوراجين بالمقابل، إنني أسلمكم أيها السادة هذا «الدون جوان»، إنه يرى صديقا في البؤس، فينتهز تلك الفرصة ليجر إلى نفسه نفعا! يا له من رجل مخيف!
إن الأمير هيبوليت كان قابعا خلال ذلك على أريكة من طراز فولتير، وقد رفع ساقيه، فوضعهما على مسندي الأريكة، قال وهو ينفجر ضاحكا : حدثني عن هذا ...
فهتفت أصوات متعددة تقول: أوه يا دون جوان! أوه أيها المغوي!
قال بيليبين: إنك تجهل ولا شك يا بولكونسكي، أن كل الفظاعات التي ارتكبها الجيش الفرنسي - كدت أقول الجيش الروسي - لا تعتبر أمرا مذكورا إذا قيست بالتدمير الذي يحدثه هذا الرجل بين الجنس اللطيف.
فقاطعه الأمير هيبوليت قائلا، وهو يحدق في ساقيه المرفوعتين على جانبي الأريكة خلال نظارته: إن المرأة هي رفيقة الرجل.
فانفجر بيليبين و«جماعتنا» ضاحكين، وأدرك الأمير آندره أن هيبوليت هذا - الذي كانت تصرفاته حيال زوجته عند انتهاء حفلة آنيت شيرر قد أثارت، ولشدة خجله، دوافع الغيرة في نفسه - ليس إلا مهرجا يسخر منه أصدقاؤه المجتمعون.
قال بيليبين يهمس في أذن الأمير آندره: ينبغي أن أسليك على حساب كوراجين، إنه لا يقدر بثمن عندما يتحدث عن السياسة، سوف ترى بنفسك مسحة الوقار التي ستعلو وجهه.
وجلس قرب هيبوليت، واستجمع غضون جبهته، ودفع الشاب بلباقة نحو حديث السياسة، بينما تجمهر بولكونسكي والآخرون حولهما.
شرع هيبوليت يقول وهو يلقي نظرة دائرية شملت من حوله كلهم: إن مجلس وزراء برلين لا يمكن أن يعبر عن رغبة في التحالف، دون أن يعبر ... كما جاء في تعليماته الأخيرة. إنكم تفهمون، إنكم تفهمون. ثم إذا كان صاحب الجلالة الإمبراطور لا يناقض مبدأ تحالفنا ... - انتظر، إنني أفرغ بعد ... إنني أميل إلى الاعتقاد أن التدخل أقوى من عدم التدخل ... و... (وصمت برهة) لا يمكن أن يعزى الأمر إلى عدم تلقي برقيتنا المؤرخة في 28 تشرين الأول، إن الأمر سينتهي هكذا.
وترك ذراع بولكونسكي؛ دلالة على أنه قال كل ما كان يريد قوله.
هتف بيليبين وقد انتصبت ذؤابة شعره دلالة على الرضى وانبساط أساريره: آه يا ديموستين،
1
إنني أعرفك من الحصاة التي خبأتها في فمك الذهبي!
أغرق السامعون في الضحك، وقد سبقهم هيبوليت نفسه، وطغت قهقهته على ضحكاتهم، كان يضحك بانشراح غريب، يكاد يكتم أنفاسه رغم محاولاته الفاشلة في كتم تلك الموجة المحمومة الهوجاء من الضحك، التي أبدلت أساريره الجامدة في أغلب الأحيان.
قال بيليبين بعد أن خفت حدة الضحك: والآن أيها السادة، أصغوا إلى بولكونسكي ضيفي، وإنني عازم على إشراكه معنا في مباهج مدينتنا الطيبة، ولو أننا كنا في فيينا، لاختلف الأمر وكان ميسورا، أما هنا، في هذا الحجر الملعون الكئيب، فإن الأمر أكثر صعوبة مما يحملني على طلب العون منكم، ينبغي أن نطلعه على أجمل ما في حياة برونو من جمال ومتع؛ تعهدوا تطويفه على المسارح، وأتعهد أنا بتعريفه على الطبقات الراقية، وأنت يا هيبوليت، فإنك - بديهيا - ستقوم بواجبك حياله من الناحية النسائية.
قال واحد من «جماعتنا» وهو يطلق قبلة على أطراف أصابعه: ينبغي أن تقدمه إلى أميلي، إنها درة نادرة!
فأردف بيليبين: والخلاصة، ينبغي أن نعيد هذا الجندي الدموي إلى حظيرة العواطف الإنسانية.
فقال آندره وهو يلقي نظرة على ساعته: اعذروني أيها السادة، إنني لن أستطيع - ولا شك - أن أفيد من حسن التفاتتكم؛ إذ ينبغي أن أغادركم الآن. - وإلى أين تذهب؟ - إلى الإمبراطور. - أوه! أوه! أوه! - حسنا، الوداع يا بولكونسكي! الوداع أيها الأمير! عد مبكرا لتناول الطعام، إننا سننتظرك.
ورافقه بيليبين إلى الردهة وقال له: حاول أثناء مقابلتك مع الإمبراطور أن تضفي أكبر قسط ممكن من المديح على مصلحة التموين وإدارة المراحل.
فأجاب الأمير باسما: إنني أود ذلك من صميم نفسي، لكنني عاجز عن ذلك؛ لأن ضميري والحقيقة يأبيانه. - على كل حال، ابذل ما بوسعك، وتحدث أطول مدة ممكنة، إنه مغرم بالمقابلات، لكنه لا يحب أن يتحدث بنفسه؛ لأنه لا يتقن الحديث، سوف تتأكد من ذلك بنفسك.
الفصل الثاني عشر
جسر تابور
اكتفى الإمبراطور فرانسوا خلال العرض العسكري بإلقاء نظرة مترددة مختلسة على الأمير آندريه الذي كان يشغل مكانا، احتجز له في عداد مقاعد الضباط النمساويين، أعقبها بإيماءة من رأسه الطويل، غير أن الضابط المساعد الذي استقبل الأمير بالأمس بتلك الحفاوة والبشاشة، جاءه بعد تلك الحفلة، وحمل إليه بمزيد من التأدب نبأ رغبة جلالته في مقابلته، واستقبله الإمبراطور وهو واقف في منتصف مكتبه، وقبل أن ينطق بكلمة، تبين الأمير آندريه مدى صدق أقوال صديقه بيليبين، وأذهله مظهر الإمبراطور المرتبك الذي كان لا يعرف ما يقول، ولا يستطيع منع الدماء من التصاعد إلى وجنتيه.
سأله الإمبراطور أخيرا بشيء من التلهف: قل لي، متى بدأت المعركة؟
فأجابه الأمير آندريه على سؤاله، وأعقب الجواب عدد من الأسئلة التي لا تقل تفاهة عن السؤال الأول: «كيف حال كوتوزوف؟ هل ترك «كريمس» منذ زمن طويل؟» ... إلخ. وكانت لهجة الإمبراطور تنبئ بأن همه الأول هو طرح عدد كبير من الأسئلة، أما الأجوبة، فقد كان واضحا أنه لا يأبه لها ولا يهتم بها.
سأل من جديد: في أية ساعة بدأت المعركة؟
فأجاب بولكونسكي بحماس: لا أستطيع أن أحدد لجلالتكم بالدقة الساعة التي بدأت فيها المعركة على طول جبهة القطعات، لكنني متأكد من أن القتال في «دورنستن»، حيث كنت، بدأ في السادسة مساء.
وأمل بولكونسكي في أن يستطيع سرد وصف حقيقي للمعارك التي حضرها، وأن يعيد على مسامع الإمبراطور ما هيأه من قبل من جمل لهذه المناسبة، غير أن الإمبراطور قاطعه باسما وقال: كم من الأميال؟ - من أين يا صاحب الجلالة وإلى أين؟ - من درونستن إلى كريمس؟ - ثلاثة أميال ونصف يا صاحب الجلالة. - هل ترك الفرنسيون الشاطئ الأيسر؟ - إن تقارير رقبائنا تفيد بأن آخر الفرنسيين اجتاز النهر ليلا على نقالات. - هل هناك علف كاف في كريمس؟ - لم يقدموا لنا الكمية التي ...
فقاطعه الإمبراطور مرة ثانية ليطرح سؤالا جديدا: في أية ساعة قتل الجنرال شميدت؟ - في السابعة على ما أظن. - في السابعة؟ إنه لأمر محزن، شديد الحزن!
ثم شكره الإمبراطور، وانحنى إشارة بانتهاء المقابلة، ولم يكد الأمير آندريه يغادر مكتب الإمبراطور حتى هاجمه الأتباع ورجال البلاط، فأحاطوا به وأمطروه وابلا من الأسئلة. كانت نظرات أنيسة تحدق به من كل مكان، والكلمات المعسولة المتوددة تقرع أذنيه؛ فالضابط المساعد أخذ عليه عزوفه عن الحلول في القصر، وقدم له مسكنه الشخصي لينزل فيه، ووزير الحربية أبلغه بشيء كثير من التأدب، وفي فيض من عبارات التهنئة، أن الإمبراطور أنعم عليه بوسام ماري تيريز من الدرجة الثالثة، ودعاه حاجب من حجاب جناح الإمبراطورة للمثول بين يدي جلالتها، وأنهى إليه كذلك أن الأرشيدوقة ترغب كذلك في رؤيته، فما كان يدري لمن يعير أذنه، ومن يجيب، أخذه سفير روسيا، وانتحى به جانبا ليتاح له التحدث إليه بحرية أكثر.
أحدث نبأ انتصار الروس - على عكس تنبؤات بيليبين - صدى قويا في نفوس أفراد الحاشية ورجال البلاط الذين استقبلوه بكثير من السرور، فأقيمت الصلوات ابتهاجا بالنصر، وأنعم على كوتوزوف بصليب ماري تيريز الأكبر، ومنح جيشه عددا من الهبات، وكيلت له الإطراءات، وتوالت الدعوات على الأمير آندريه، فاضطر هذا إلى قضاء نهاره كله متنقلا من مكان إلى آخر؛ استجابة لدعوات كبار الشخصيات المرموقة، وأخيرا، ذهب إلى إحدى المكتبات ليشتري منها ذخيرة نافعة يفيد منها في حياة الريف التي سيعود إليها عند عودته إلى مركزه في الجيش، فلما عاد إلى مسكن بيليبين، وهو يعد في مخيلته الرسالة التي سيخطها لأبيه، متضمنة الوصف الدقيق للمعركة والشرح الكافي عن رحلته إلى برون، وجد أمام الباب عربة نقل كبيرة محملة إلى نصفها بالأمتعة.
سأل فرانز، خادم بيليبين، الذي ظهر في تلك اللحظة أمام الباب يجر وراءه حقيبة ضخمة: ماذا هناك؟
فأجاب الخادم بالألمانية، وهو يرفع الحقيبة إلى العربة بمجهود كبير: آه يا صاحب السعادة! إننا نرحل من جديد، إن اللعين على أعقابنا من جديد.
فهتف الأمير مستغربا: ماذا! كيف! ماذا جرى؟
جاء بيليبين في تلك اللحظة يستقبله، فقرأ الأمير على وجهه - والذي كان منبسطا في أكثر الأحيان - شيئا من الارتباك.
قال بيليبين: هيا، اعترف معي أن ذلك روائع! وأعني قصة جسر تابور (أحد جسور فيينا) لقد مروا فوقه دون أي عناء!
فلم يفقه الأمير شيئا من هذا القول، فسأله بيليبين: ولكن، من أين قدمت إذن حتى تجهل مثل هذا الأمر الذي بات يعرفه كل حوذي في المدينة؟ - لقد خرجت لتوي من لدى الأرشيدوقة، لم يحدثني أحد عن شيء من هذا هناك. - ألم تلاحظ أن كل الناس كانوا يعدون حقائبهم؟
أجاب الأمير مستغربا: كلا، أبدا. ولكن ما الخبر؟ ماذا هناك؟ - ماذا هناك؟! هناك أن الإفرنسيين اجتازوا الجسر الذي كان «أوبرسبرج» يدافع عنه، فلم ينسفه، بل ترك مورا يمر فوقه بسلام، فجاء هذا يسعى على طريق برون، سوف يصل الفرنسيون إلى هنا اليوم أو غدا. - إلى هنا؟! ولكن، لم لم ينسفوا الجسر خصوصا وأن الألغام مبثوثة فيه من قبل لهذه الغاية؟ - إنني أسألك ذلك بنفسي، على كل حال، ليس هناك من يعرف السبب، حتى ولا بونابرت بالذات.
فهز بولكونسكي كتفيه وقال معقبا: إذا كان الجسر قد اجتيز من قبل الفرنسيين فقد ضاع الجيش، إن جيشنا إذن يوشك أن يشطر إلى قسمين.
فأجابه بيليبين قائلا: تماما، أصغ إلي، لقد دخل الفرنسيون إلى فيينا كما حدثتك بذلك، حسنا، وفي اليوم التالي - أعني البارحة - اجتمع السادة الماريشالات: مورا ولان، وبيليار، وامتطوا صهوات جيادهم، واتجهوا صوب الجسر، لاحظ أن الثلاثة غاسكونيين (من غاسكونيا في فرانسا)، واذكر ذلك، قال أحدهم: «أيها السادة، إنكم تعرفون أن جسر تابور مليء بالألغام، وأن رأس جسر متين جدا يتقدمه، وأن خمسة عشر ألف رجل يدافعون عن رأس الجسر ذاك، وقد تلقى هؤلاء المدافعون أمرا بنسف الجسر، ومنعنا المرور فوقه، غير أن احتلالنا هذا الجسر سيسر صاحب الجلالة الإمبراطور نابليون سرورا عظيما، فهيا بنا نحن الثلاثة إذن، ولنحتل الجسر.» فأجابه الآخران: «هيا بنا.» ثم جاءوا فاحتلوا الجسر، وها هم الآن يجتازونه مع كل جيشهم فيتجهون نحونا، ونحوكم أنتم ليقطعوا خطوط مواصلاتكم.
فقال الأمير آندريه بلهجة شديدة الخطورة: يا للدعابة الفظة!
غير أن بيليبين أعقب يقول: أبدا، إنني لا أمزح، إنني أروي لك أصدق الأنباء وأشدها وقعا على النفس، لقد وصل أولئك السادة إذن وحدهم إلى الجسر، يلوحون بمناديل بيضاء، فأيدوا أن هدنة قد وقعت وأنهم - هم الماريشالات - جاءوا يتباحثون بدورهم مع الأمير أوبرسبرج، تركهم ضابط الحرس يمرون ويدخلون رأس الجسر، أنهوا إليه آلافا من الأخبار المثيرة: انتهت الحرب، حدد الإمبراطور فرانسوا موعدا لمقابلة بونابرت، إنهم يرغبون في رؤية الأمير أوبرسبرج. والخلاصة أنهم لم يتركوا مما اشتهر عن الغاسكونيين من مكر وحيلة إلا واستعملوه في تلك المناسبة، فأرسل ضابط الحرس يستشير أوبرسبرج، ويطلعه على ما سمعه، بينما راح أولئك السادة يعانقون الضباط ويداعبونهم ويجلسون على المدافع، وخلال ذلك الوقت، جاءت فرقة الفرنسية، فاحتلت الجسر متسللة، فألقت بأكياس المواد المحرقة إلى النهر، واقتربت نحو رأس الجسر، وأخيرا وصل الجنرال الثاني بشخصه، وأعني عزيزك الأمير أوبرسبرج فون ماتيرن، فراح أولئك السادة يحدثونه: «أيها الخصم العزيز! يا زهرة الجيش النمساوي! يا بطل الحروب التركية! لقد انتهت المعارك، ونستطيع الآن أن نمد لبعضنا أيدينا التي امتشقت السيوف حتى الآن. إن الإمبراطور نابليون يتحرق شوقا للتعرف بالأمير أوبرسبرج.» والخلاصة أن أولئك السادة ليسوا من أهالي غاسكونيا عبثا؛ إذ أغدقوا على أوبرسبرج معول كلامهم وعباراتهم، حتى إن الرجل العزيز أخذ بالغرور والمديح، وذلك الرد المفاجئ مع الماريشالات الفرنسيين، وبهرته ألبسة مورا وريش النعام الذي يزين خوذته، حتى إنه نسي واجبه والنار التي كان يجب أن يصبها على العدو.
وقطع بيليبين حديثه عند هذه الجملة رغم الحماس الذي كان يلهب لسانه ويزيد في بلاغته، كان معجبا بتلك «الكلمة» التي استطاع أن يقحمها في حديثه، ولما تأكد من أن الأمير آندره قد استوعب قوله أردف متمما: زحفت الفرقة الفرنسية حتى بلغت رأس الجسر، فعطلت المدافع، واستولت على الجسر.
صمت بيليبين برهة، ثم أعقب وهو فريسة انفعال ظاهر: غير أن أجمل ما في الموضوع هو أن أحد صف الضباط الذي كان منوطا به إعطاء إشارة نسف الجسر وإحراقه من مدفعه، اقترب من أوبرسبرج وقال له: «إنهم يخدعونك يا أمير، ها هم أولاء الفرنسيون!» ولما رأى مورا - وهو الغاسكوني القح - أنه إذا ترك ذلك الضابط الصغير يسترسل في حديثه، فإن الخطة كلها ستحبط، قال موجها حديثه إلى أوبرسبرج متصنعا الدهشة البالغة: «كيف هذا! أتسمح لمرءوس أن يحدثك بهذه اللهجة؟ إنني لا أرى في هذا التصرف ما اشتهر عن النظام والطاعة في الجيش النمساوي العتيد!» ألا ترى أن هذا القول يدل على عبقرية رائعة؟ لقد أثير الأمير أوبرسبرج، فأمر بتوقيف الضابط الصغير وسجنه! اعترف معي أن قصة جسر تابور قصة ممتعة رائعة! إن ما عمله أولئك السادة ليس نذالة ولا سخفا ...
قال الأمير آندره الذي تاه خياله في تلك اللحظة؛ ليستعرض المعاطف الرمادية والجرحى، ودخان البارود، وقعقعة البنادق، وأزيز الرصاص، والمجد الذي ينتظره: لعلها خيانة. - كلا ليست خيانة، إن ذلك سيجعل البلاط في موقف سيئ للغاية.
وتوقف بيليبين وكأنه يبحث عن الكلمة المناسبة وأعقب: إنها «ماكية»؛ أي على طريق ماك؛ وبذلك نستطيع القول إننا قد «تمكوكنا» ...
وشاعت على وجهه أمارات السرور؛ لأنه توفق في إيجاد الكلمة الفنية المناسبة: «تمكوك»، إنها كلمة جديدة كل الجدة، ولسوف يعيدها الناس من بعده ويكررونها.
اختفت التجعدات والغضون التي استنفرها على جبهته دلالة على قناعته ورضاه، فابتسم ابتسامة خفيفة، واستغرق في تأمل أظفاره المصقولة.
وفجأة نهض الأمير آندره، فسأله بيليبين بلهفة: إلى أين تمضي؟ - إنني عائد. - إلى أين؟ - إلى الجيش. - لكنك كنت تريد البقاء هنا يومين آخرين؟ - صحيح، لكنني الآن ذاهب إلى الفور.
وبعد أن أعطى الأمير التعليمات المتعلقة برحيله، انسحب إلى غرفته، ولم يلبث بيليبين أن دخل عليه، قال له: أتدري ما الأمر يا عزيزي؟ لقد فكرت في أمرك، لم بحق الشيطان ترحل؟
وأخفى كل تجاعيد جبهته؛ ليقنعه بأن قوله ذاك لا يقبل الجدل، غير أن الأمير اكتفى بنظرة استفهامية طافت بوجهه جوابا على كلماته.
أردف بيليبين: نعم، ما هي حاجتك إلى الذهاب؟ إنك تقدر ولا شك أن واجبك يدعوك إلى مكانك في صفوف الجيش، خصوصا وأنه الآن في خطر، إنني أفهم ذلك يا عزيزي، إنه من صميم البطولة.
فأجاب الأمير آندريه: أبدا. لا شأن للبطولة في الموضوع. - بلى، غير أنك فيلسوف كذلك، فكن إذن فيلسوفا كما يجب، تصور الأمور وعاينها من زاوية أخرى، وسترى أن واجبك يقضي عليك بالبقاء وبعدم تعريض نفسك للخطر على عكس ما ترى الآن، دع التعرض للخطر لأولئك الذين لا يصلحون لشيء. لم تؤمر بالعودة، ولم يسمح لك هنا بالانسحاب، فيمكنك إذن البقاء معنا ومرافقتنا إلى حيث يقودنا مصيرنا السعيد، يبدو أننا سننسحب إلى أولموتز، إنها مدينة جميلة جدا، سنسافر إليها معا وبراحة تامة في عربتي. - كف عن المزاح يا بيليبين. - بل إنني أحدثك كصديق شديد الإخلاص، فكر في الأمر، لم يا ترى تفضل الذهاب في حين أن باستطاعتك البقاء هنا؟
واسترسل بعد أن استجمع غضونه على جبهته: هناك أمران سيستحق أحدهما؛ إما أن يوقع صلح عاجل قبل أن تلحق بقطعتك، وإما أنك ستشهد انسحاق الجيش كله.
واقتنع على ما يبدو بأن نظريته لا تقبل الرد، فانبسطت أساريره، وزال الغضون عن جبينه.
أجاب الأمير آندره بتردد: ليس لي أن أحكم على هذا الموضوع.
بينما كان يحدث نفسه قائلا: إنني إذا كنت أذهب، فإن غايتي هي إنقاذ الجيش.
قال بيليبين مجيبا: إنك بطل يا عزيزي.
الفصل الثالث عشر
ذهب إنجلترا
في تلك الليلة بالذات، استأذن بولكونسكي وزير الحربية للالتحاق بجيشه، وعاد في طريق الأوبة دون أن يعرف على الضبط المكان الذي سيجد الجيش فيه، وكان أكثر ما يخشاه أن يقع - دون أن يدري - بين يدي الفرنسيين على طريق كريمس، أما في برون، فقد كان رجال البلاط جميعهم يعدون الحقائب الصغيرة بعد أن أرسلت الأمتعة الثقيلة الضخمة في طريقها إلى أولموتز، ولما اجتاز أتزلسدورف، سلك الطريق التي كانت الوحدات الروسية تسلكه في انسحابها السريع وهي على حال من الفوضى والبلبال، كانت العربات الضخمة تسد الطريق على رحبه، وتمنع مرور أية فصيلة منظمة، فاضطر الأمير المنهوك الجائع إلى طلب حصان من أحد الضباط القوقازيين، فلبى هذا طلبه وأرفقه بتابع، ومضى الأمير متجاوزا خط العربات، يبحث عن الجنرال القائد الأعلى وعن عربته، وكان الضجيج والصخب يصمان الآذان خلال الطريق، تؤيدهما تلك الوحدات المتفككة المشتتة المنسحبة.
تذكر في تلك اللحظة مقطعا عن خطاب بونابرت الذي وجهه إلى جنوده في بداية تلك الحرب، وراحت الكلمات تتراقص أمام عينيه: «إن هذا الجيش الروسي الذي نقله ذهب إنجلترا من أقاصي المعمورة، يجب أن نمنيه بمثل ما منيت به جيوش أولم»، وكانت تلك الجملة - رغم ما فيها من تجريح لكرامته وإهانة لكبريائه - توقظ في نفسه شعورا بالإعجاب بذلك الرجل العبقري الذي قالها، فراح يفكر: ولو لم يبق إلا الموت؟ حسنا، سأعرف كيف أموت كالآخرين إذا دعت الضرورة ذلك!
راح الأمير ينظر باشمئزاز إلى تلك القطعات مختلة النظام متداخلة الأفراد والوحدات، وإلى العربات المبعثرة هنا وهناك، وقطع المدفعية التي تسد منافذ الطريق الزراعية، ويتأمل ذلك الرتل الطويل عن عربات النقل التي كانت تسير في اتجاه واحد وبصفوف متراصة، انتظمت في كل ثلاثة منها أو أربعة، فكانت تشتبك وتتسابق، وتصطدم بعضها ببعض، وتغوص عجلاتها في الأوحال. كانت الأذن لا تلتقط في غمار تلك الفوضى إلا صرخات وصخب، ينبعثان من كل مكان؛ من الأمام ومن الخلف، يمتزج بهما صرير العجلات، وارتجاج الأعتدة المحملة، ووقع حوافر الجياد المضطرب، وفرقعة السياط في الهواء، وكان هذا المزيج العجيب من الضجيج يختلط بسباب الجنود والضباط وصيحاتهم وتذمرهم وصراخهم، بين مستنهض للهمم وناقم على سير الأمور، وعلى جانبي الطريق، كانت العين لا تنفك تقع على أفراس نافقة بعضها سلخت جلودها، وعلى عربات محطمة جلس بالقرب منها كل من كان من قبل راكبا متنها، ينتظرون بفارغ صبر أن يحصلوا على وسيلة نقل جديدة، وكان هؤلاء المتخلفون خليطا من جنود تأخروا عن اللحاق بصفوفهم، ومغامرين جاءوا يحومون بغية الإفادة من مخلفات الجيوش المنسحبة، فكانوا يداهمون القرى القريبة، فيسلبون منها الدجاج والخراف والعلف وكثيرا من المسلوبات والمؤن، وكان الازدحام يزداد اشتدادا في كل مرتفع من الطريق أو منحنى، حتى إن الناظر إلى ذلك الحشد الهائل يخال أن الأرض كلها قد أنبتت جندا أو أن يوم الحشر قد أزف، وكان الجنود غارقين في الوحول حتى ركبهم، يحاولون بشق الأنفس زحزحة عربة غائصة العجلات، أو نقل قطعة من المدفعية الثقيلة، وكلما تكرر هذا المشهد تكرر قرع السياط وصهيل الخيول المنهوكة، وتدفق سيل السباب والشتائم ممزوجا بالأوامر والإرشادات من جديد، وينجلي المشهد عن عدد آخر من العربات المحطمة المهشمة وعديد من الخيول النافقة، وكان الضباط المكلفون بحفظ النظام أثناء هذا الانسحاب الصاخب، يروحون ويغدون على خيولهم، فيخترقون صفوف العربات الصغيرة والكبيرة، يوزعون أوامرهم ويزعقون، فتضيع أصواتهم وسط هذا الهدير المخيف من أصوات الإنسان والحيوان، فتبدو على وجوههم المنقلبة المكفهرة خيبة الأمل المريرة في إيقاف هذه الفوضى أو الحد منها.
كان بولكونسكي ينظر إلى كل هذا الخليط، فتعاوده كلمة بيليبين حينما تحدث عن الجيش الروسي بقوله: الجيش الأورثوذوكسي العزيز، قال يخاطب نفسه: «هذا هو إذن الجيش الروسي العزيز!»
كان يأمل في تسقط بعض الأنباء التي تمكنه من تحديد مكان القيادة العامة؛ لذلك اقترب من إحدى القوافل معتزما الاستفسار من قائدها، وفي تلك اللحظة، لمح عربة غريبة الشكل يقطرها جواد واحد، تتقدم في الاتجاه العام، كان يبدو على العربة أنها صنعت محليا بأيدي الجنود، فكانت خليطا غريبا من عربة النقل وعربات الركوب الخاصة، رأى الأمير جنديا آخذا بمقاود الحصان يوجهه، وقد جلست في داخل العربة سيدة ملتفة بالشيلان، تحملها صدارة من الجلد، قابعة منطوية على نفسها، كاد الأمير أن يتوجه بالسؤال إلى الجندي سائق العربة، حينما لفت انتباهه الصراخ الحاد الذي كان ينبعث من صدر المرأة، كان ضابط القافلة المتقدمة ينهال بالسوط على الجندي الذي يقود العربة؛ لأنه كان يحاول تجاوز قافلته وتخطيها، فأصاب السوط الصدارة الجلدية التي تحمي ثياب المرأة من المطر، فراحت هذه تصيح وتزمجر، فلما وقع بصرها على الأمير، أزاحت الحاجز الجلدي وراحت تلوح بذراعيها الناحلين مستلفتة انتباهه وهي تصيح: هه، يا سيدي الضابط المساعد ... احملني بحق السماء ... ماذا سيحصل لي؟ ... إنني زوجة طبيب فيلق القناصة السابع ... لقد ظللنا في المؤخرة وهم الآن يمنعوننا من المرور.
بينما راح ضابط القافلة الثائر يزعق بالجندي قائلا: انتح جانبا أو أمزقك! اذهب إلى الشيطان أنت وهذه المتأخرة!
وكررت زوجة الطبيب القائد: احملني يا سيدي الضابط المساعد، ما معنى هذا؟
فاقترب الأمير من الضابط وقال: دع هذه العربة تمر، ألا ترى أن فيها امرأة؟
فألقى هذا نظرة على الأمير، لكنه لم يتنازل بالرد عليه، بل عاد إلى الجندي يصيح فيه: استدر وانصرف، وإلا فإنك ستشعر بما يخترق جسدك!
فأصر الأمير وهو يضغط على أسنانه: قلت لك دعها تمر.
وفجأة استدار الضابط نحوه، وصرخ يعميه الغضب: وأنت، من أنت حتى تصدر إلي الأوامر؟! هه من أنت؟ - إنني أنا القائد هنا وليس أنت، انصرف عن وجهي أو أمزقك!
كان يخاطبه بلهجة المفرد، ويضغط على مخارج كلماته مبالغة في الازدراء، وبدا أن العبارة الأخيرة التي تفوه بها راقت له، خصوصا بعد أن تعالى من ورائها صوت يقول: لقد لقي الضابط المساعد ما حطم كبرياءه.
وشعر الأمير أن الضابط قد فقد سيطرته على أعصابه، ومن ثم على كلماته بسبب الغيظ والغضب الشديدين المستوليين عليه. ولما كان في موقف المدافع عن امرأة، فقد بات يخشى أن يؤدي به الأمر إلى عاقبة تجعله أضحوكة للجنود والضباط؛ الأمر الذي كان يتحاشاه ويتجنبه، لكن غريزته تفوقت على عقله في الصراع الباطن الذي قام بينهما؛ فلم يكد الضابط يتم حديثه حتى كان بولكونسكي ينقض عليه مشرعا سوطه، وقد انقلبت سحنته من الغضب، هتف الأمير: دع...ها ت...مر، هل سمعت!
فندت عن الضابط حركة قنوط، وبادر إلى إخلاء المكان وهو يزمجر: إن كل الفساد وسوء التدبير مبعثه هؤلاء السادة، هؤلاء الغيد الحسان التابعون للأركان العامة!
سارع الأمير آندريه بمغادرة المكان دون أن يرفع عينيه إلى زوجة الطبيب التي أطلقت عليه اسم منقذها، وبينما كان يستحث جواده لبلوغ القرية التي أجمعت أقوال الجنود على أن الجنرال القائد العام وهيئة أركان حربه يقيمون فيها، راح يستعرض في ذاكرته بازدراء واحتقار تفاصيل الحادث المخجل الذي وقع له منذ حين.
ولما وصل إلى القرية، ترجل عن ظهر جواده، وقصد المنزل الأول سعيا وراء نيل قسط ضئيل من الراحة، يكون خلالها قد تناول طعاما، ونسق أفكاره المتزاحمة المضطربة؛ تلك الأفكار الأليمة التي كانت تحز في نفسه، كان يفكر في سره: «إن ما رأيته ليس جيشا بل عصابة من قطاع الطريق والسفاكين»، وقبل أن يبلغ باب المنزل الذي يقصد إليه، سمع صوتا مألوفا يناديه، التفت مستطلعا، فإذا بعينيه تقعان على نيسفيتسكي الجميل واقفا في فراغ نافذة صغيرة يمضغ شيئا في فمه الرطب، كان يهتف به ويداه لا تنفكان عن التلويح والتأشير: بولكونسكي، بولكونسكي، هل أنت أصم؟ تعال إلى هنا!
قصد الأمير إليه، فوجده مع زميل له من الضباط المساعدين يتناولان طعامهما، ابتدره كلاهما قبل كل شيء مستفسرين عما وراءه من أخبار، وكانت علائم القلق والترقب مرتسمة بوضوح فوق وجهيهما، بل إن وجه نيسفيتسكي الضاحك عادة، كان دليلا جازما في تلك اللحظة على مدى القلق الذي ينهش فؤاد صاحبه.
سأل بولكونسكي: أين الجنرال القائد الأعلى؟
فأجابه الضابط المساعد: هنا، في البيت.
وسأله نيسفيتسكي بلهفة: وأخيرا، هل حقيقة أننا الآن في سبيل الاستسلام وعقد الصلح؟ - إنني أسألك أنت إيضاح ذلك؛ لأنني لا أعرف عن الأمر شيئا باستثناء المشاق والمتاعب التي لا تحصى، والتي نالتني قبل أن أستطيع الوصول إلى مكانكم.
فقال نيسفيتسكي: ليتك تعرف ماذا يجري هنا يا عزيزي! إنني أحرق الأرم يا عزيزي! لقد كنا نهزأ من «ماك»، وها نحن في موقف أشد بشاعة من موقفه! هيا اجلس واشترك معنا في الأكل.
وقال الضابط المساعد الآخر: إنك الآن يا أمير لن تجد هنا شيئا حتى ولا مركبة أو أي شيء آخر، أما «بيوتر» فإن الله وحده يعرف أين مضى. - لكن أين مقر القيادة العامة؟ - إننا في زنائيم.
وأردف نيسفيتسكي: أما أنا، فقد حزمت كل أمتعتي على ظهر جوادين، لقد صنعوا من أجلي برادع ممتازة، ساعدت على تحميل تلك الأمتعة على ظهور الجياد، وبذلك أستطيع الفرار عند الاقتضاء عبر جبال بوهيميا، آه يا عزيزي، إن الموقف ليس مشجعا. لكن ما بك ترتعد وكأنك مريض؟
نطق نيسفيتسكي بملاحظته الأخيرة حينما رأى الأمير ينتفض فجأة، وكأن زجاجة من محلول «اليود» قد سكبت فجأة على جرح غائر عميق في جسده، فأجاب بولكونسكي: كلا، لست مريضا.
عادت إلى ذاكرته صور مزعجة تمثل زوجة القائد الطبيب ولقاءه معها واشتباكه مع ضابط القافلة.
وفجأة سأل: ماذا يعمل القائد العام هنا؟
فأجاب نيسفيتسكي: لا أدري عن أمره شيئا .
فانبرى الأمير آندريه يقول: أما أنا، فإنني أفهم فقط أن كل هذا يثير اشمئزازي واحتقاري.
ونهض من مكانه متجها نحو جناح الجنرال القائد الأعلى، وقعت أبصاره وهو في طريقه على عربة كوتوزوف، وخيول الضباط المساعدين التي أضناها التعب، ومر بجماعة من القوزاق المرافقين للجنرال وهم يثرثرون، كان كوتوزوف في تلك الأثناء يتشاور في مقره مع الأمير باجراسيون والجنرال النمساوي ويروذر الذي جاء يحل محل زميله القتيل شميدت. وفي الردهة شاهد الأمير آندريه، كوزلوفسكي الصغير وأمامه أحد ضباط الإعاشة جالسا على نصف برميل مقلوب رافعا أطراف ثوبه العسكري، يكتب بسرعة ما يمليه عليه، وكانت تقاسيم وجه كوزلوفسكي المتقلصة تدل بوضوح على أنه لم ينعم بالنوم منذ وقت طويل، ولما وقع بصره على الأمير، حياه بنظرة ساهمة دون أن يرفقها بحركة ما من رأسه، وعاد يملي من جديد: ماذا جاء في السطر الثاني؟ قطعة كييف المهاجمة وقطعة يودولي ... - عفوا يا صاحب السمو، لا أستطيع متابعتك إذا ظللت تملي بمثل هذه السرعة.
كان ضابط الإعاشة يغمغم بهذه الجملة بلهجة منقبضة، وهو يرفع عينيه إلى رئيسه.
وفي تلك اللحظة، ارتفع صوت كوتوزوف الغاضب من وراء الباب المغلق يقاطعه صوت مجهول، كانت لهجة تلك الأصوات التي ما كان كوزلوفسكي يعبأ بها وجواب ضابط الإعاشة الخائر الذي يدل على شدة تعبه وإنهاكه، ومظهر كوزلوفسكي الجالس على الأرض مع ضابط الإعاشة حول نصف برميل مقلوب على بعد خطوات معدودة من الجنرال القائد الأعلى، بالإضافة إلى أصوات القوقازيين الذين كانوا يضحكون صاخبين تحت النافذة التي كان كوزلوفسكي يجلس بالقرب منها؛ كل هذا أثار اشمئزاز بولكونسكي وامتعاضه، وجعله يترقب أحداثا مثيرة؛ لذلك فقد راح يمطر كوزلوفسكي بالأسئلة، فقاطعه هذا بقوله: لحظة واحدة يا أمير. (واسترسل في إملائه): موجودات الأمير باجراسيون ... - ولكن ماذا عن الاستسلام؟ - لا استسلام هناك، لقد أعطيت الأوامر باستئناف القتال.
تقدم بولكونسكي من الباب الذي تعالت الأصوات وراءه، غير أن هذه سكنت فجأة، وفتح الباب، وبدا على عتبته كوتوزوف بأنفه الأقنى الذي كان يشطر وجهه الممتلئ إلى شطرين، وجد الأمير نفسه وجها لوجه مع القائد العام، غير أن تعابير عين الجنرال القائد الأعلى الوحيدة التي لم تصب بأذى بعد، كانت تدل على أن خطورة الحالة وأهوالها والتطورات المزعجة التي كانت تتلاحق في تلك الساعة قد أظلمت نظرة القائد الأعلى، وخففت من قوة إبصاره، لقد نظر إلى مرافقه الخاص نظرة صريحة دون أن يبدو عليه أنه عرفه.
سأل كوزلوفسكي قائلا: حسنا، هل انتهى؟ - لحظة واحدة يا صاحب المقام الرفيع.
لم يلبث أن ظهر وراء الجنرال القائد الأعلى، رجل ذو وجه جامد قاس، قصير القامة، أعجف العود، لم يزل في سن الشباب، له شخصية تحمل طابعا شرقيا، ذلك هو الأمير باجراسيون.
ولم يشأ الأمير آندريه الوقوف جامدا إزاء نظرة القائد الأعلى المتجاهلة، فقال بصوت مرتفع وهو يمد يده إليه حاملة غلافا: لي الشرف بأن أقدم نفسي. - آه، هل عدت من فيينا؟ حسنا، سأراك فيما بعد، فيما بعد.
وخرج القائد الأعلى يصحبه باجراسيون، قال له يودعه: وداعا يا أمير، وداعا وليحفظك الله، سوف تقوم بمهمة شاقة فتقبل تباريكي.
وتمددت قسمات وجه كوتوزوف فجأة، وتلألأت عبرات في عينيه، فجذب بيسراه الأمير باجراسيون إليه، بينما راح يرسم بيمناه - التي يزينها خاتم ثمين - إشارة الصليب على جسد الأمير، كان يبدو أن تلك المهمة مألوفة لديه، ولما فرغ، قدم خده المنتفخ لباجراسيون ليقبله، لكن هذا قبله في عنقه.
كرر كوتوزوف قوله وهو يسعى إلى عربته: ليحفظك الله.
ثم استدار نحو بولكونسكي وقال له: اصعد معي. - يا صاحب السعادة، وددت لو استطعت القيام بعمل نافع هنا، اسمحوا لي بالبقاء في معسكر الأمير باجراسيون.
فكرر كوتوزوف القول: اصعد.
ولما رأى أن بولكونسكي لا زال مترددا، أردف يقول: إنني أنا الآخر في حاجة إلى ضباط ممتازين، نعم أنا أيضا في مثل حاجته.
واحتوتهما العربة التي راحت تدرج بهما فترة طويلة دون أن يتبادلا كلمة واحدة، وأخيرا قال كوتوزوف: إن أمامنا الكثير مما يجب إنجازه، نعم الكثير.
كانت لهجته تدل على أنه بثاقب نظره قد خمن ما يعتلج في نفس بولكونسكي ، وأردف بعد برهة، وكأنه يحدث نفسه: إذا أعاد غدا عشر فيلقه سالما، أكون لله من الشاكرين.
وبينما كان بولكونسكي يرفع عينيه إلى وجه رئيسه مستفهما، استلفت نظره محجر عين الجنرال الفارغ، وآثار الجرح الغائر العميق التي أحدثته الرصاصة التي اخترقت رأسه في معركة إسماعيل، والتي كان الجنرال يعنى بنظافتها ومداراتها، فلم يتمالك أن قال في سره: «لا شك أن من حقه أن يتحدث بمثل هذا الهدوء عن أولئك الذين قضي عليهم بالموت!»
وأعقب بصوت مرتفع: ومن أجل هذا بالذات يا صاحب السعادة أرجوكم أن ترسلوني إلى هناك.
لم يجب كوتوزوف، كان غارقا في خواطره وتفكيره، وكأنه نسي جملته الأخيرة، وآثارها في نفس مرافقه، فترك نفسه مسترخيا تؤرجحه اهتزازات العربة، وهي تدرج في الطريق المليء بالأخاديد، ولما استدار نحو بولكونسكي، وكان قد مضى على استغراقه خمس دقائق، لم يكن باديا على وجهه ظل من الاضطراب أو التحنان، وبدأ يستجوبه بلهجة ضمنها سخرية رقيقة، ويسأله عن تفاصيل مقابلته مع الإمبراطور، وما دار في البلاط حول مسألة كريمس، ولم يفته أن يستفسره عن عدد من السيدات ممن كانت تربطه بهن أواصر معرفة.
الفصل الرابع عشر
جسر فيينا
في اليوم الأول من تشرين الثاني، حمل أحد الرسل إلى كوتوزوف خبرا على جانب كبير من الخطورة، لقد أكد الرسول أن الجيش بات في حالة شديدة اليأس لا أمل في إنقاذه منها، والواقع أن الخبر كان صحيحا؛ إذ إن الفرنسيين كانوا قد اجتازوا جسر فيينا بقوات ضخمة، وباتوا يهددون بقطع خط اتصال كوتوزوف بالقطعات الآتية من روسيا، فإذا ظل في كريمس، فإن رجال نابليون المائة وخمسين ألفا قادرون على قطع كافة خطوط مواصلاته والإحاطة برجاله الأربعين ألفا إحاطة مطبقة، خصوصا وأن أولئك الرجال كانوا في حالة من الإنهاك والتعب، يتعذر عليهم معها القيام بمحاولات مجدية، وإذن، فإن المصير الذي ينتظر كوتوزوف لا يختلف عن مصير «ماك» في «أولم»، أما إذا ترك طريق أولموتز وابتعد عنه، فإن معنى ذلك أن يتخلى كذلك عن آخر أمل له في الاتصال بجيوش «بوكزويفدن»، وأن يتوغل في مسالك مجهولة غير معبدة عبر جبال بوهيميا الوعرة، ملاقيا مع ذلك عدوا يفوقه عددا وعددا واستعدادا ومعنوية. وكان هناك احتمال ثالث، وهو أن يتراجع بجيوشه المنهوكة المحطمة عن طريق كريمس قاصدا «أولموتز» للتلاقي مع قطعات نشيطة مستريحة قادرة على بعث النشاط في الصفوف، غير أن هذه المحاولة أيضا كانت تحتمل خطرا جسيما؛ إذ كان يخشى أن يسبقه الفرنسيون على تلك الطريق، وأن يضطروه على الدخول في معركة غير متكافئة؛ لأنهم سيكونون على تمام الأهبة لها، بينما تكون جيوشه في حالة الانسحاب والمسير، ينوء الرجال تحت أعباء ما يحملونه وينقلونه، ويكونون محاطين بأعداء من كل الجهات يفوقونهم عددا وعدة، ويبلغ عددهم ثلاثة أضعاف رجاله أو أكثر.
ولم يكن لكوتوزوف أن يختار؛ لذلك فقد قرر الأخذ بالمبدأ الأخير.
كان تقرير الرسول المخبر - إذا صدق في تقريره - ينص على أن الفرنسيين يحثون خطاهم في سير سريع لبلوغ «زنائيم»؛ وهي مدينة واقعة على خط انسحاب كوتوزوف، على بعد أكثر من خمسة وعشرين مرحلة إلى الأمام، فلو استطاع أن يبلغ هذه المدينة بجيوشه قبل أن يصلها الفرنسيون، أمكنه أن يهيئ لرجاله أملا كبيرا في الخلاص والنجاة، أما إذا سمح للفرنسيين أن يتقدموه، فإن معنى ذلك أن جيوشه سيحل بها إذلال وخسران، يعادلان ما حل بماك في أولم إن لم يكن فيهما معنى الانهيار التام. لقد كان في بلوغ الفرنسيين تلك المدينة قبل جيوش كوتوزوف، وصمة عار تلحق بشرف الجيش الروسي؛ وصمة لا يمكن غسلها، غير أن الموقف كله كان في جانب الفرنسيين، لقد كان من المستحيل على كوتوزوف أن يبلغ بكل جيشه مدينة «زنائيم» قبل الأعداء؛ إذ إن الطريق التي كان هؤلاء يسلكونها من فيينا إليها كانت أقصر من المرحلة التي عليه اجتيازها، وكانت إلى جانب ذلك أحسن تعبيدا وأيسر تمهيدا من طريق الجيش الروسي، الذي كان عليه السير في طريق كريمس لبلوغ تلك الغاية.
أصدر كوتوزوف خلال الليل أمرا إلى جيش باجراسيون - وهو مقدمة الجيش الروسي وتعداده أربعة آلاف جندي - أن يتقدم بخط مستقيم عن يمينه ميمما شطر طريق كريمس- زنائيم ليبلغ طريق فيينا-زنائيم عبر الجبل، وكان على الأمير باجراسيون أن يقطع تلك المسافة على مرحلة واحدة، وأن يتوقف باتجاه فيينا، وأن يحاول بقدر ما يستطيع إيقاف الفرنسيين إذا التقى بهم، أما كوتوزوف فقد اتجه مباشرة نحو زنائيم مع المعدات والذخائر والمؤن وبقية الوحدات.
وصل باجراسيون إلى «هولابرون» بعد أن قطع عشر مراحل عبر الجبل في ليلة ممطرة عاصفة، وفي معيته أربعة آلاف رجل أنهكهم التعب وأضناهم البؤس، حفاة عراة، ضاع ثلثهم في الطريق، وكان وصوله إلى ذلك المكان على طريق فيينا-زنائيم قبل وصول الفرنسيين إليها بساعات معدودة. أما كوتوزوف، فقد كانت مشيته البطيئة، لما ينوء به رجاله من أحمال وأثقال، تتطلب منه يوما كاملا ليبلغ زنائيم، ولم يكن ذلك خافيا على باجراسيون، لقد كان يعرف أن عليه أن يوقف الجيش العدو بكامله طيلة أربع وعشرين ساعة بتلك الشرذمة القليلة من الرجال المنهوكين المحطمين، وكان يعرف أن ذلك ضربا من المحال، غير أن القدر الساخر شاء أن يجعل المستحيل ممكنا؛ ذلك أن الخدعة الحربية التي مكنت القائد الفرنسي مورا من احتلال جسر فيينا دون أن يطلق رصاصة واحدة، شجعته على إجراء محاولة مماثلة مع كوتوزوف، فلما قابل قوات باجراسيون الضئيلة على طريق زنائيم، اعتقد أنه إزاء الجيش الروسي بأكمله، فأراد أن يسحقه بضربة واحدة، الأمر الذي كان متعذرا قبل وصول بقية الجيش الفرنسي الذي كان يصل تباعا من فيينا. ومن أجل ذلك، عرض على باجراسيون هدنة مدتها ثلاثة أيام شريطة أن تحتفظ قطعات كلا الجانبين بمراكزها الحالية، وادعى أن هناك محادثات حول عقد الصلح تدور في تلك الأثناء بين الحكومتين، وأن أي إهراق للدماء في تلك المرحلة يعتبر عملا غير حكيم، واقتنع الجنرال النمساوي الكونت نوستيتز الذي كان على رأس الخطوط الأمامية الروسية بادعاءات مورا، وانسحب من فوره كاشفا بذلك جناح باجراسيون، وجاء متحدث آخر يعرض على الجنرال الروسي ذات العرض الذي تقدم به مورا للقائد النمساوي، غير أن باجراسيون أكد أنه لا يملك صلاحيات البحث في هذا الأمر، وأن عليه الرجوع إلى رأي الجنرال القائد الأعلى، وأشفع قوله بالعمل؛ إذ بادر لفوره إلى إرسال أحد مساعديه من الضباط إلى مركز القيادة العليا حاملا معه العرض الفرنسي.
كانت الهدنة بالنسبة إلى كوتوزوف هي الوسيلة الوحيدة التي تمكنه من اكتساب الوقت الكافي وإعطاء فترة استراحة لوحدات باجراسيون المنهوكة القوى، وكانت كذلك تساعده على إجراء نقل المهمات وما إليها، وإبعادها مرحلة أخرى، خصوصا وأن الفرنسيين كانوا يجهلون كل شيء عن هذه التحركات. خلاصة القول: إن ذلك العرض الغريب جاء يحمل لكوتوزوف أملا ضخما في تحسين أوضاعه ومراكز رجاله وإنقاذ الجيش الروسي من الفناء؛ لذلك فقد أرسل كوتوزوف إلى معسكر الأعداء مساعده العام - وينتزنجيرود - وكلفه، إلى جانب تقبله عروض الهدنة المؤقتة، بمناقشة شروط الانسحاب الروسي والاستسلام، وفي نفس الوقت أرسل ضباطا مساعدين آخرين إلى الخطوط الخلفية؛ ليعملوا على حث الوحدات المكلفة بنقل المهمات على الإسراع بنقلها في اتجاه زنائيم بما أمكن من سرعة، وكان على جيش باجراسيون المحطم المنهوك أن يبقى في مكانه، رغم ما ناله من وصب وإنهاك، ليخفي عن أعين الأعداء الذين يفوقونه بالعدد والعدد تفوقا ساحقا حركة نقل مهمات جيش كوتوزوف وقطعاته الأخرى. وبعبارة أخرى، كان على باجراسيون أن يصمد بأربعة آلاف رجل أمام ثمانية أضعاف هذا العدد من الأعداء في سبيل إنقاذ الأجزاء الكبرى من جيش كوتوزوف.
وقع ما حدسه كوتوزوف؛ فقد أمكن للعرض الذي تقدم به للجانب الفرنسي ببحث شروط الاستسلام - ذلك العرض الذي لم يكن يربط كوتوزوف بأية التزامات - أن يشغل الأنظار فترة مكنته من نقل المهمات الحربية، أو على الأقل جانب منها، إلى حيث يجب أن تكون، غير أن خطيئة مورا تجلت لعيني نابليون بونابرت، كان بونابرت في تلك الأثناء معسكرا في شونبرن على مبعدة ست مراحل من هولابرون، فلما تلقى تقرير مرءوسه مرفقا بمشروع الهدنة، أدرك الخدعة الكامنة وراء ذلك، وكتب للقائد مورا الرسالة التالية:
إلى الأمير مورا
شويبزن، في 25 برومير عام 1805 الساعة الثامنة صباحا
يستحيل علي إيجاد العبارات الملائمة لأظهر لك شدة استيائي، إنك لا تأمر إلا قطعاتي الأمامية، وليس من صلاحياتك أن تعقد أية هدنة دون أمري، إنك بذلك تفوت علي ثمرة حرب بأكملها، فاخرق الهدنة على الفور وسر على العدو، أعلن لهم أن الجنرال الذي سيوقع على شروط الانسحاب لا يحق له اتخاذ هذه الخطوة، وأن إمبراطور روسيا هو وحده صاحب هذا الحق.
مع ذلك فإن إمبراطور روسيا إذا وافق على مثل هذا التصرف، فإنني بالمثل سأوافق عليه، غير أن المسألة لا تتعدى حدود الخدعة، فسر إلى الأمام، وحطم الجيش الروسي. إنك في موقف يمكنك من الاستيلاء على مهماته ومدفعيته.
إن المساعد العسكري للإمبراطور الروسي ليس إلا ... فالضباط لا وزن لهم عندما لا يملكون صلاحيات معترف بها، وليس مع هذا أية صلاحية. لقد انطلت الخدعة على النمساويين عندما سهلوا لك عبور جسر فيينا، وها إنك تخدع الآن من قبل أحد مساعدي الإمبراطور!
نابليون
وبينما كان أحد ضباط بونابرت المساعدين يحمل هذه الرسالة الرهيبة إلى مورا طائرا على جواده، كان بونابرت، الذي كان في طبعه عدم الركون إلى جنرالاته، يتقدم مع كامل فرقته إلى موقع العمليات العسكرية كي لا يتيح لضحيته فرصة الإفلات من الإفناء الكامل الذي يدخره لها. أما رجال باجراسيون الأربعة آلاف، فقد كانوا في تلك الأثناء يوقدون النيران، ويجففون ثيابهم بهدوء ودعة على لهيبها المتصاعد، لقد أتيح لهم للمرة الأولى منذ أيام ثلاث أن يصنعوا لأنفسهم حساء ساخنا، ولم يكن أحد من هؤلاء الرجال المساكين يشك مطلقا فيما يخبئه له القدر.
الفصل الخامس عشر
تقدم بولكونسكي
وصل الأمير آندريه إلى جرانت حوالي الساعة الرابعة من بعد الظهر، بعد أن وافق القائد الأعلى كوتوزوف على إرساله للحاق بجيش باجراسيون بعد إلحاح شديد، وقدم نفسه لهذا الأخير، وكان الضابط المساعد الذي أوفده بونابرت برسالته السالفة إلى مورا لم يصل بعد، والمعركة لم تدر رحاها بين الفريقين، أما الحالة العامة فلم يكن أحد يعرف عنها شيئا ؛ إذ بينما كان بعضهم يتكلم عن الصلح دون أن يؤمن به، كان البعض الآخر يتحدث عن المعركة دون أن يصدق أيضا بوقوعها أو جدواها. ولما كان باجراسيون يعرف مكانة بولكونسكي عند كوتوزوف، فقد استقبله بحفاوة بالغة وترحاب خاص لم يخل من بعض التحفظ، أعلمه بأن ساعة المعركة باتت قريبة وترك له ملء الحرية في أن يشهدها إلى جانبه، أو أن يشرف على انسحاب المؤخرة، وهي مهمة تعادل في خطورتها المهمة الأولى. وأردف قائلا وكأنه يطمئن الأمير آندره: وعلى كل حال، لا أعتقد أن قتالا ما سينشب اليوم.
بينما راح يحدث نفسه بقوله: «إذا كان هذا الضابط من أذناب القيادة العامة الذين يسعون إلى نيل وسام، فإنه - على أية حال - سينال ما يزيد في المؤخرة، أما إذا أراد على العكس أن يبقى معي، فله أن يبقى؛ لأن ضابطا شجاعا مثله لا بد وأن يفيد في شيء.»
لم يجب الأمير آندريه على تعليق باجراسيون، بل طلب الإذن منه في أن يتحرى وضع الجنود، وأن يقوم بجولة تفتيشية على جواده، لقد كان يريد معرفة كافة الأوضاع، وتفاصيل المواقع التي يحتلها الجنود الروسيون؛ ليكون على بينة من الاتجاه الذي يجب عليه سلوكه عندما يستدعيه الموقف القيام بواجبه في المستقبل. وتقدم ضابط مرافق ليسير في صحبته، كان هذا شابا جميل الطلعة، أنيق الهندام، يحلي سبابته بماسة كبيرة، يتحدث اللغة الفرنسية بركاكة وتقليد رديء.
رأى في كل مكان ضباطا ساهمين غارقين في تخيلاتهم بوجوه حزينة قلقة، يبدو عليهم أنهم يفتشون عن شيء ما، وجنودا عائدين من القرية حاملين أبوابا ومقاعد وحواجز.
قال الضابط المرافق وهو يشير إلى أولئك الجنود: انظر إلى ما يفعله هؤلاء الرجال أيها الأمير، من المستحيل أن نتخلص من مثل هذه التصرفات! إن الرؤساء يتركون لهم الحبل على الغارب.
ثم أردف مشيرا إلى خيمة أقامها أحد الخمارين: انظر إلى حيث يصرفون جل أوقاتهم، لقد عنيت دائما بطردهم من هذا المكان، غير أنني واثق الآن أن الخيمة تعج بهم، لنقترب أيها الأمير ولنعمل على إخافتهم، إن الأمر لن يستغرق أكثر من دقيقة صغيرة.
فقال بولكونسكي الذي لم يكن قد أتيح له من الوقت ما سمح له بشراء بعض المؤن وتناول الطعام: ليكن، وسأنتهز الفرصة لشراء بعض الخبز والجبن. - لم لم تقل لي ذلك أيها الأمير من قبل؟ لو أنني عرفت أنك لم تتناول طعامك بعد، لاصطحبتك إلى خيمتي قبل أن نقوم بهذه الجولة.
ترجل كلاهما ودخلا الخيمة فوجدا فيها عددا من الضباط جالسين إلى موائد مبعثرة في المكان ووجوههم محمرة ومهزولة.
قال الضابط المرافق بلهجة الرجل الذي تعب من كثرة تكرار أمر بعينه دون جدوى: ما هذا أيها السادة؟ كيف يحق لكم ترك مراكزكم وقد أصدر الأمير - ويقصد باجراسيون - أمرا يحظر وجودكم هنا؟ وأنت يا كابتين توشين، ألا تخجل من تصرفك؟
كان الكابتين توشين أحد ضباط المدفعية، وكان قصير القامة، هزيل العود، يرتدي ثوبا عسكريا وسخا، وكان في تلك اللحظة حافي القدمين إلا من جواربه؛ لأنه أعطى حذاءه قبل دخولهما إلى الخمار ليجففه له، لذلك فقد نهض مرتبكا دون أن يند عنه حرف واحد.
أردف الضابط المرافق: نعم، كيف لا تخجل من تصرفك؟! إنك ضابط مدفعية وكان عليك أن تعطي الباقين أمثولة طيبة، هذا عدا عن أنك حافي القدمين! (وهنا ابتسم ضابط المدفعية ابتسامة تائهة.)
وأضاف وقد اتخذ صوته مسمة الأمر: تفضلوا أيها السادة بالعودة إلى مراكزكم جميعا دون استثناء.
ظل الضابط توشين صامتا والابتسامة منطبقة على شفتيه، وراح يقفز تارة على ساقه اليمنى وأخرى على الساق اليسرى، وعيناه تتفحصان تارة الضابط المرافق، وطورا الأمير بولكونسكي، كانت عيناه كبيرتين طافحتين بإذكاء وتوقد الذهن، فلم يتمالك الأمير ورفيقه من الابتسام، وأخيرا غمغم الكابتين توشين: يقول الجنود إن حافي القدمين يستطيع أن يقفز أحسن من غيره!
كان الضابط المرتبك يعتقد أن مثل تلك الدعابة خير ما يلجأ إليه للتخلص من ذلك الموقف الحرج، غير أنه ما كاد ينتهي من جملته تلك حتى أدرك أنه لم يكن موفقا في مزاحه؛ لذلك فقد تضاعف ارتباكه.
كرر الضابط المرافق جاهدا أن يتخذ صوته لهجة جدية: تفضلوا بالعودة إلى مراكزكم.
ظل بولكونسكي يتابع الضابط توشين بنظرته، كان مظهره لا يدل على شيء من وقار الجندي، بل إنه يستطيع القول إن في تصرفاته وحركاته شيئا مضحكا، غير أنه كان بنفس الوقت ذا شخصية شديدة الجاذبية.
عاد الضابط المرافق والأمير آندريه إلى حصانيهما يمتطيان صهوتيهما ويتابعان طريقهما.
بلغا مخرج القرية وهناك راحا يلتقيان في كل لحظة بضباط وجنود من مختلف الأسلحة والقطعات ويتجاوزانهم، شاهدا إلى يسارهما أكواما من الطين الأحمر حديثة الصنع، ورأيا جنودا كثيرين يسترون أجسامهم بقمصانهم البيضاء فحسب رغم لفحات الريح القارصة، يقيمون بسرعة فائقة المتاريس الضرورية عسكريا، وكان الناظر إلى ذلك المشهد يخيل إليه أنه إزاء حشر من النمل الأبيض العامل، كان عدد كبير من الأيدي غير المنظورة تطرح من الخنادق المحفورة الأتربة اللزجة المتراكمة، أتربة حمراء لا تنفك تلك الأيدي الخفية، تقذف بها بانتظام رتيب وعلى دفعات متساوية، اقترب الضابطان من الجنود العاملين وعاينا تلك الخنادق ثم تابعا طريقهما، وفجأة التقيا بعدد من الجنود كانوا ينحدرون من أعلى مرتفع يتردد الجنود كلهم عليه لإزالة ضروراتهم، فاضطرا إلى حث جواديهما اللذين راحا يتسابقان هدبا؛ لينقذا نفسيهما من الرائحة الكريهة المنبعثة في الجو حول ذلك المرتفع.
قال الضابط المرافق وهو يسد أنفه بأصابعه كما فعل الأمير: إن أقذار المعسكرات والنفايات كلها تجمع هنا يا سيدي الأمير.
ولما بلغا المرتفعات التي كانت قبالتها، والتي كان يمكن رؤية الفرنسيين من فوقها، توقف الأمير آندريه وراح يعاين خطوط العدو.
قال مرافقه ودليله وهو يشير إلى نقطة مرتفعة تشمخ على التلال المجاورة لها: لدينا هنا «بطارية» من المدفعية، إنها تحت إمرة ذلك الضابط المضحك الحار حافي القدمين. من هنا، يمكن للمراقب رؤية كل شيء، هيا بنا أيها الأمير.
فقال بولكونسكي محاولا التخلص من تطفل المرافق: لك مزيد شكري، لكنني أستطيع الآن العودة منفردا إلى المعسكر، فلا تبتئس من أجلي.
فعاد الضابط المرافق أدراجه بينما مضى بولكونسكي قدما إلى الأمام.
كان كلما ازداد اقترابا من خطوط العدو، ازدادت ملاحظته للترتيب البديع والمعنويات الطيبة التي ينعم بها الجنود الروسيون في الخطوط الأمامية. كان صباح ذلك اليوم قد لاحظ على قوافل المهمات والعتاد التي توقفت قرب «زنائيم» على بعد حوالي ثلاث مراحل من الفرنسيين الشيء الكثير من الفوضى والازدحام، وكذلك كان الحال في جرانت؛ حيث كان المراقب لا يحس إلا بالقلق والكآبة، أما هنا، فإن الأمر كان على النقيض من ذلك، فقد كانت الثقة والاعتداد بالنفس يشعان من وجوه الرجال رغم أنهم كانوا على قيد خطوتين من العدو. كان أحد الضباط برتبة رئيس، يرافقه أحد الرتباء، يقوم بإحصاء جنوده الذين كانوا في ألبسة الميدان منتظمين صفا منسقا أمامه، فلما وصل إلى نهاية إحدى الفصائل، ضغط بإصبعه على صدر الرجل الأخير منها طالبا إليه أن يرفع ذراعه. وهنا وهناك، كان مئات من الجنود ينقلون الأخشاب والحشائش الطفيلية ليبنوا بها أكواخا لهم، وهم يضجون بالضحك والانشراح ويتبادلون الدعابات والطرف، ومئات أخرى ملتفون حول نار موقدة، بعضهم نازعا ثيابه يجففها والبعض الآخر في كامل هندامه العسكري إلا من جواربهم أو أحذيتهم التي كانوا يرتقونها أو يخصفونها، ويلتفون حول حلل الطعام والطهاة من حولها. وفي كتيبة أخرى كان الطعام جاهزا والجنود يمطرون القلل بنظرات نهمة، ويرمقون الصحفة التي كان «عريف» الطعام يحمل فيها عينة من الحساء ليتذوقها رئيس الكتيبة قبل توزيعها على الجنود، فكانت عيونهم تتابع الصحفة وحاملها حتى بلغ إلى حيث كان الرئيس جالسا على جذع شجرة أمام كوخه. وفي كتيبة أخرى أحسن حالا من غيرها - لأن كل الفرق لم تكن لتتساوى في توزيع الكحول عليها - كان الجنود يحاصرون أحد صف الضباط، وكان عريض الكتفين شوه الجدري أدمة وجهه، الذي كان ينحني في كل مرة ليملأ أباريق الجنود خمرا، فكانوا فور استلامهم حصتهم يرفعون الإناء إلى أفواههم ويفرغون محتوياته في أجوافهم دفعة واحدة، ثم يمضون في طريقهم إلى مراكزهم ووجوههم مشرقة منشرحة، وكان بعضهم يتمضمض بالجرعة الأخيرة ثم يمسح شفاهه بطرف كمه، كان يبدو عليه مزيد من اللامبالاة؛ حتى ليخيل للناظر إليهم أنهم جنود في إجازة، أو أنهم يعسكرون في أمكنة هادئة من بلادهم لا يتوجسون خيفة من شيء، وليسوا على مقربة من العدو وفي أمسية يوم ينتظر في صباح اليوم التالي أن يرقد أكثر من نصفهم على تلك الأرض بلا حراك.
كان معسكر رماة كييف مقاما إلى جانب معسكر القناصة، وكان جنود رماة كييف من الشبان الأقوياء النشيطين، وكانوا جميعهم منصرفين بالمثل إلى مهمات سلمية لا علاقة للحرب بها، رأى الأمير آندريه - قرب الكوخ الكبير الذي يأوي إليه الزعيم «كولونيل» قائد الفرقة، والذي كان يمتاز عن الأكواخ الأخرى بحجمه وارتفاع سقفه - فصيلة من الرماة وقد تمدد أمامهم رجل عار عن الثياب، كان اثنان من زملائه يمسكان به بينما راح الباقون ينهالون على ظهره العاري ضربا بعصي مرنة بإيقاع موزون، كان الجندي التعس يصرخ ملء حنجرته من الألم، بينما كان أحد القواد «ماجور» يذرع الأرض في مقدمة الفرقة وهو يردد دون أن يبالي بصرخات الجندي المعاقب: من العار على الجندي أن يسرق، على الجندي أن يكون نزيها نبيلا باسلا، فإذا سرق رفاقه، فإنه يكون عديم الشرف، وإذن فإنه يصبح حقيرا محتقرا، تابعوا، تابعوا، اضربوا!
وتتابع صفير العصي المرتفعة الهابطة، ممزوجة بتأوهات الضحية المصطنعة التي لم تكن لتخلو مع ذلك من شيء من الشراسة.
انفصل ضابط شاب عن موقع الجندي المعاقب وعلى وجهه آيات الإشفاق والارتباك، ورفع إلى الضابط المساعد نظرة متسائلة.
وهل الأمير آندريه إلى الخطوط الأمامية وراح يستعرض خط الجبهة كله، لاحظ أن ذلك الخط كان يتباعد تباعدا محسوسا عن العدو في الجناحين الأيمن والأيسر، أما في الوسط، في المكان الذي جرت فيه المفاوضات لعقد الهدنة ذلك الصباح، فقد كان ملامسا لخطوط العدو، لدرجة كان يمكن للجنود من الجانبين أن يروا بعضهم وأن يتبادلوا الحديث، وكان هناك - قلب الجبهة - إلى جانب الجنود المكلفين بحماية الخطوط، عدد كبير من الفضوليين الذين جاءوا من كلا الجانبين، يعاينون العدو الغريب الشكل، ويتأملون ملابسه وتجهيزاته التي لم يكونوا قد رأوا مثلها من قبل .
لم يفلح الضباط منذ ذلك الصباح في صد المتطفلين رغم الأوامر الصريحة التي تحظر عليهم الاقتراب من الخطوط الأمامية، وكان الحراس ينتظرون بفارغ صبر أن يحين موعد استبدالهم، لم يعودوا يأبهون بالفرنسيين، بل أصبحوا في مراكزهم أشبه شيء بمن يشرف على عرض منظر نادر، يبدون الملاحظات على أولئك الوافدين. توقف الأمير آندريه يتأمل الفرنسيين.
قال أحد الجنود وهو يشير إلى أحد الرماة الروس، الذي كان في صحبة أحد الضباط يناقش أحد الرماة الفرنسيين بحرارة: انظر إلى هذا، إن لسانه مديد جدا! وهذا الفتى، إن الفرنسي لا يستطيع متابعته أو التفوق عليه! دورك الآن يا سيدوروف.
فأجاب سيدوروف، الذي كان يمر قرب الجنود ليتكلم بالفرنسية الصحيحة: بل دعني أستمع، لعمري إنه يحسن التخلص مع هذا الفرنسي.
كان الجندي الذي راح الجنديان المازحان يشيران إليه هو دولوخوف، لقد جاء مع رئيسه من الجناح الأيسر للجبهة الروسية حيث كانت سريته معسكرة هناك؛ لينعم بالحديث مع الفرنسيين. عرفه الأمير آندريه، فأصاخ السمع محاولا التقاط ما يدور بينهما من حديث.
كان الكابتين - رئيس دولوخوف - يهيب به أن يستمر في الحديث، بينما كان ينحني على قدر طاقته كي لا تفوته كلمة واحدة من ذلك النقاش الذي لم يكن يفهم من اللغة الذي كان يدور بها حرفا واحدا. كان يهتف بدولوخوف: استمر، استمر، ولكن بسرعة! أسرع في النطق أكثر من هذا! ماذا يقول؟
غير أن دولوخوف كان منصرفا بكليته إلى نقاشه مع الجندي الفرنسي، فلم يكن عابئا برئيسه وملاحظاته، كان الحديث يدور في تلك اللحظة حول المعركة والحرب، وكان ذلك منتظرا. وكان الفرنسي المتحدث، وهو الذي كان يخلط بين النمساويين والروسيين، يزعم أن الجيش الروسي قد هزم في «أولم»، وأنه استسلم هناك ولا زال يفر ويتراجع. بينما كان دولوخوف يؤكد له عكس ذلك، ويجزم أن الروس هزموا الفرنسيين وأنهم لا يفكرون في الاستسلام مطلقا، وأردف يقول: إن لدينا أمرا بطردكم من هنا، ولسوف نطردكم!
فأجاب الفرنسي باستخفاف: ولكن حاذروا ألا نأسركم جميعا والقوقازيين معكم «على البيعة»!
وانفجر كل من كان في المعسكر الفرنسي ضاحكا.
رد عليه دولوخوف قائلا: بل إننا سنجعلكم ترقصون كما رقصتم من قبل أمام سوفوروف!
قال أحد الفرنسيين متسائلا: بماذا يخرف هذا الروسي؟!
فأجابه آخر وقد خمن أن الأمر متعلق بحادثة قديمة سابقة: بالتاريخ القديم ... (ثم التفت إلى دولوخوف وأردف) سوف يرى سوفارا «ك» هذا وكل الآخرين ما يخبئه له الإمبراطور.
هم دولوخوف بمتابعة الحديث فقال: بونابرت ...
غير أن الفرنسي لم يمهله، بل قطع عليه طريق الاستمرار مغضبا: ليس هناك بونابرت، بل الإمبراطور. - ليحل الشيطان إمبراطوركم!
وأعقب باللغة الروسية شتائم قبيحة شائعة على ألسنة الجنود، ثم تنكب بندقيته وابتعد.
قال يخاطب رئيسه: هيا يا إيفان لوكيتش.
وقال الجنود الروس: هكذا الحديث بالفرنسية وإلا فلا! والآن امض أنت يا سيدوروف.
غمز سيدوروف بعينيه ثم راح يتمتم بكلمات مبهمة وهو يخاطب الفرنسيين، متظاهرا بالإلمام بلغتهم: كاري، مالا، تافا، سافي، موتي، كاسكا ...
كان صوته ولهجته لا يدعان مجالا للسامع الجاهل للشك في أنه ملم باللغة الفرنسية وقواعدها، وأنه يتحدث عن أشياء دقيقة حساسة.
وانفجر الجنود الروس بضحكة بهيجة صريحة، بلغ من تأثيرها أن انتقلت إلى صفوف الفرنسيين المتجهمين، كان يخيل للناظر إلى ذلك المشهد أن الجانبين باتا على وشك إطلاق بنادقهم في الهواء، وتفجير ذخائرهم استعدادا للعودة إلى بلادهم، غير أن البنادق لبثت محشوة، ونوافذ إطلاق القذائف ظلت مهيأة معدة، والخنادق والمتاريس محافظة على مظهرها العدائي المهدد، والمدافع موجهة من الجانبين إلى المعسكرين المتحاربين بعد أن سحبت عن العربات التي تجرها.
الفصل السادس عشر
مدفعية توشين
بعد أن استعرض الأمير آندريه الجناحين الروسيين الأيمن والأيسر، صعد إلى حيث أقيمت المدفعية التي قال الضابط المرافق عنها منذ حين: إنها أقيمت في مكان يشرف على ساحة المعركة كلها. فلما بلغ المرتفع الذي نصبت المدافع فوقه، ترجل عن جواده بالقرب من المدفع الرابع والأخير في ذلك العش الذي كانت مدافعه مهيأة كلها للانطلاق، وكان أحد الجنود يقوم بالحراسة هناك، فهم بتحية الأمير بسلاحه، لكن هذا أشار إليه أن يتابع عمله ، فعاد الجندي إلى سيره الوتير الممل في مركز حراسته.
كانت العربات التي تحمل عليها تلك المدافع قريبة من المكان، يليها المزرب الذي تحفظ فيه الخيول، ثم مركز المدفعيين، وإلى اليسار قريبا من القطعة الأخيرة، أقيم كوخ صغير حديث البناء، كانت أصوات الضباط وأحاديثهم ترتفع منه.
كان الضابط المرافق على حق في قوله عندما أكد أن موقع المدفعية يشرف على الساحة كلها ويسيطر عليها، لقد لمس الأمير بولكونسكي هذه الحقيقة بنفسه، وتأكد من أن المدافع قد نصبت بشكل جعلها تهيمن على كل المواقع الروسية، وعلى جانب غير قليل من معسكر الأعداء. كان إلى الأمام، على خط أفقي ممتد من أحد التلال، يرى قرية شوينجرابن، وإلى اليمين وإلى اليسار منها كانت الأدخنة المنبعثة من ثلاثة أماكن، مراكز الضباط الفرنسيين، مبينة أن جزءا كبيرا من جيشهم يحتل القرية المذكورة وسفح التل الموازي لها. وإلى أقصى اليسار، كان هناك شيء يشبه عشا للمدفعية، لم يكن الدخان المتصاعد ليسمح للعين المجردة أن تتأكد من صحة الرؤية. وكان الجناح الروسي الأيمن يحتل مرتفعا صعب التسلق مسيطرا على المراكز الفرنسية، وكان فرسان الدراجون - وهم فصيلة من فرسان الخطوط الأولى مهمتها الحرب في حالتي الركوب والترجل - ووحدات المشاة تعسكر هناك. أما المنحدر ميسور التسلق، فقد كان يبدأ من الوسط، أو على أدق تحديد من حيث قامت وحدة توشين المدفعية، ويتصل بانحداره بالنهير الذي كان يفصل الروسيين عن قرية شوينجرابن. أما الجناح الروسي الأيسر، فكان يرتكز إلى غابة كان المشاة بالقرب منها قد أشعلوا النار ليصطلوها وهم في عملهم المنظم، يقطعون الأخشاب اللازمة لعمليات المعسكر، كان خط العدو أكثر اتساعا من الخط الروسي وأبعد امتدادا، وكان واضحا أنه قادر على تطويق الجنود الروس بسهولة عندما تحين الساعة. أما في مؤخرة الجيش الروسي، فقد كان واد عميق صعب المسالك يقف حائلا بينه وبين الانسحاب المنظم، وخصوصا بالنسبة لسلاحي المدفعية والفرسان.
أخرج الأمير آندريه دفيتره واتكأ على أحد المدافع وراح يرسم لنفسه مخططا عن الوضعية العامة، وأضاف بعض الملاحظات بالقلم الرصاص في موضعين من مخططه، كان يهدف منها إلى إنارة سبيل الأمير باجراسيون عند الحاجة، وكانت تلك الملاحظات تنص على أن تجمع كل المدفعية في الوسط، وأن ترسل وحدات الخيالة إلى ما وراء الوادي وراء الخطوط الخلفية. كان بولكونسكي مرافقا للجنراليسيم بصورة مستمرة، وكان مكلفا بتدوين النواحي التاريخية في المعارك؛ لذلك فقد كان اهتمامه منصبا على التدابير العامة بصورة خاصة، وعلى حركات الكتل الكبيرة من الجيوش؛ ولهذا السبب، وجد نفسه في مهمته الحالية مهتما بصورة خاصة بالخطوط الرئيسية للعملية المتعلقة بالمعركة المقبلة، مغفلا التفاصيل، مبينا طارئين أو ثلاثة مما يتوقع حدوثه خلال استعار نار المعركة. كان يحدث نفسه بقوله: «إذا هاجم العدو الجناح الأيمن، فإن على رماة كييف وقناصة يودولي أن يصمدوا في أماكنهم؛ حتى تصلهم الإمدادات التي ستؤخذ من الوسط، وفي هذه الحالة يستطيع فرسان الدراجون أن يهاجموا جناحه وأن يقذفوا به بعيدا، أما إذا بدأ الهجوم على الوسط، فإننا سنركز المدفعية الوسطى على هذا المرتفع، وبذلك نغطي انطواء الجناح الأيسر ثم ننسحب بتراجع منظم حتى نصل إلى الوادي».
كان خلال هذا الوقت كله، لا ينفك يصغي إلى نقاش الضباط في كوخهم دون أن يتفهم شيئا من أحاديثهم، كما يقع غالبا لكل من ينصرف بكليته إلى أمر ما دون أن تشاركه فيه كل حواسه العاملة الأخرى. وفجأة، ارتفع أحد الأصوات بشكل جعله ينصت مرغما إلى ما يقوله، ويرهف حاسة السمع لالتقاط المعاني وتجريدها عن الكلمات، كان ذلك الصوت ذو الإيقاع الجميل مألوفا على مسامع الأمير، وكان يقول: كلا يا صغيري، لو كان في حدود المستطاع معرفة ما يحدث بعد الموت، لما شعر أحد منا بالخوف، نعم، إنه كذلك يا صغيري.
فارتفع صوت آخر أكثر فتوة من الأول يقاطعه: سواء أخاف المرء أم لم يخف، فإن من الواجب أن يمر الإنسان بهذه التجربة.
فقال صوت ثالث متفجر بالرجولة أجش خش: إن ذلك لا يمنع المرء من الشعور بالخوف! هيه! أيها العلماء المتفذلكون! يبدو أن علمكم كله ناتج عن أنكم تستطيعون أبدا ابتلاع الطعام وشرب قطرات من الماء بعده!
وانفجر صاحب ذلك الصوت الضخم - وهو (ولا شك) من صفوف المشاة في الخطوط الأولى - بضحكة مدوية، بينما عاد الصوت الأول يقول: نعم، إن ذلك لا يمنع المرء من الشعور بالخوف، إن المرء يخاف من المجهول، نعم إنه لكذلك؛ لأنه مهما حدثونا عن صعود الروح إلى السماء، فإننا نعلم أن السماء ليست إلا ظاهرة خداعة، ليس فيها إلا الفضاء.
ومن جديد قاطع الصوت الأجش ذلك المتحدث ليقول: هيا يا توشين، ماذا أصابك؟ ذوقنا طعم العرق الذي عندك.
وتمتم الأمير آندريه محدثا نفسه: «آه! إنه الكابتين الذي كان حافي القدمين عند الخمار!» تأكد الآن أن الصوت الذي كان مألوفا على سمعه كان صوت توشين، فلذ له الإصغاء إلى ذلك الصوت اللطيف الذي يملكه ذلك الرئيس الفيلسوف.
قال توشين: سأقدم لكم عرقا ما شئتم الاغتراف والنهل؛ ولكن فيما يتعلق بمعرفة الحياة المقبلة ...
لم يتح له الوقت لإتمام جملته؛ ذلك أن صفيرا عاليا شق الفضاء وراح يقترب ويتضح ويزداد حدة، ولم تلبث القذيفة تخترق الأرض بشدة قرب كوخ الضباط، وكأنها آسفة على عدم إمكانها التحدث بكل ما كانت تعنيه بذلك الصفير المزعج، وارتفعت من أطراف المكان الذي سقطت فيه شظايا وأتربة ووحول، واهتزت الأرض لتلك الصدمة القاسية، فبدت وكأنها تطلق زمجرة ارتياع.
وكان توشين في تلك اللحظة بالذات، يضع غليونه القصير في زاوية فمه، فاندفع خارج الكوخ، كان وجهه المتقد الذكي شاحبا بعض الشيء. اندفع وراءه ذو الصوت الأجش الخش، وكان ضابط مشاة متين البنيان، هرع جاريا ليلحق بسريته وهو يزرر معطفه على عجل.
الفصل السابع عشر
الأمير باجراسيون
اعتلى الأمير آندريه صهوة جواده ووقف به قرب «بطارية» المدفعية، راحت عيونه تتفحص الرقعة الشاسعة المتاحة للنظر، محاولا اكتشاف مكان القطعة التي أطلقت تلك القذيفة استنادا إلى الدخان الذي تخلفه عادة بعد كل طلقة، رأى القطعات العسكرية الفرنسية التي كانت حتى تلك اللحظة في جمود تام تنشط بالحركة، ورأى كذلك أن هناك عشا للمدفعية العدوة إلى يسارهم، كانت سحابة رقيقة من الدخان لا تزال تحلق فوق ذلك المكان، ورأى فرنسيين على صهوة الجياد، ولا شك أنهما من الضباط المساعدين في الأركان يتسلقان التل، وفي أسفل التل - قرب السفح - شاهد فصيلة من الجنود تتحرك صاعدة، فقدر أنها - ولا شك - أوفدت لتعزيز الجناح القائم هناك، ولم تكد سحابة الدخان المنبعثة عن القذيفة الأولى تتبدد، حتى ارتفعت سحابة ثانية أعقبها دوي عنيف، كانت المعركة قد نشبت! حول بولكونسكي جواده ومضى مسرعا في طريق «جرانت» للقاء باجراسيون، بينما ازدادت المدفعية حدة من ورائه، كانت الأصوات الجبارة هي رد المدفعية الروسية على الأعداء، وفي الأسفل - في المكان الذي قامت فيه المباحثات الأولى - جن جنون البنادق من الجانبين.
كان لوماروا قد سلم منذ لحظات كتاب بونابرت الرهيب إلى مورا الذي أصيب في كبريائه، فأراد إصلاح الخطأ الذي تورط فيه، وهكذا أصدر الماريشال مورا أمره إلى جنوده بمهاجمة صدر القوات الروسية، والقيام بحركة التفاف حول الجناحين، كان يأمل أن يسحق الجيش الروسي الهزيل قبل أن يحل الظلام ويصل الإمبراطور إلى مكان المعركة.
راح الأمير آندريه يحدث نفسه قائلا: «ها هي ذي إذن المعركة المنتظرة! ولكن في أية لحظة يقدر لي أن أجد «طولوني»؟
1
وماذا سيكون نوعها على وجه الدقة؟»
شعر بالدم يتدفق بغزارة في قلبه، ولما مر أمام السرايا التي شاهد أفرادها قبل ربع ساعة يتناولون طعامهم هانئين ويشربون الفودكا مستبشرين، رأى الحركة الدائبة السريعة المحمومة عامة في كل مكان، والجنود يصطفون حسب نظام المعركة ويعاينون بنادقهم. تأكد من أن الاستفزاز الذي تعتلج به نفسه، يصطخب في كل القلوب من حوله ويبدو واضحا على الوجوه، كان يبدو على الجنود والضباط على السواء أنهم ينطقون بلسان حال موحد قائلين: «ها هي ذي المعركة أخيرا! إنها مخيفة لكنها مع ذلك مسلية!»
وقبل أن يصل إلى الأكواخ التي كانت قيد البناء، شاهد في غسق تلك الأمسية من أيام الخريف كوكبة من الفرسان تقترب من مكانه، كان في طليعة الفرسان فارس متدثر بفروة قوقازية وقلنسوة من جلد الخروف، يعتلي صهوة جواد أبيض ، كان ذلك الفارس الأمير باجراسيون، فتوقف بولكونسكي بانتظار قدومه، عرفه باجراسيون الذي توقف بدوره على مقربة وأشار له برأسه أن يقترب، وظل يراقب ساحة المعركة وهو يصغي إلى تقرير مساعده.
كانت فكرة: «تلك هي إذن المعركة!» مرتسمة بالمثل على وجه باجراسيون البرونزي القاسي، الذي كانت عيناه المذبذبتان نصف المغمضتين تبدوان وكأن صاحبهما مستغرق في سبات عميق، أو أنه لما يستيقظ من غفوته بعد، راح الأمير آندريه يتفحص بفضول قلق ذلك الوجه الجامد، أخذ يحدث نفسه: «ترى بماذا يفكر هذا الرجل الآن؟ وما هي مشاعره؟ هل هناك شيء وراء هذا الوجه المغلق الجامد؟ هذا إذا كان صاحب مثل هذا الوجه قادرا على التفكير والشعور!» كان باجراسيون يومئ برأسه بعد كل فقرة من تقرير بولكونسكي ويقول: «حسنا، حسنا!» وكأنه كان يعرف من قبل كل ما يفوه به مساعده، وكل ما يجري في ساحة المعركة، وكان بولكونسكي لاهثا من جريه على حصانه، فكانت الجمل تخرج من فمه متلاحقة متعاقبة، أما باجراسيون فعلى العكس، لقد كان يلقي كل كلمة من كلمات بتمهل وبطء شديدين، بتلك اللهجة الشرقية المعروفة لديه، وكأنه كان يقول أن لا حاجة إلى الإسراع والعجلة، مع ذلك فقد ترك جواده ينهب الأرض هدبا ليصل إلى حيث يقوم توشين بمدفعيته، فالتحق بولكونسكي بأعضاء معيته وبينهم ضابط من حاشية جلالة الإمبراطور الروسي، والمساعد الخاص لباجراسيون، وضابط تابع، وضابط ركن كان راكبا حصانا جميلا مولدا من أب إنجليزي العرق، وأخيرا موظف مدني، وهو أحد المنشئين طلب السماح له بمتابعة المعركة، يدفعه حب التطلع والفضول. كان ذلك المدني - رجل ضخم الجثة منتفخ الوجه - لا يعرف الاستقرار على سرج الجواد، يلقي حوله نظرات يشفعها بابتسامة ساذجة بريئة، ويشكل في مجموعه منظرا غريبا مضحكا وهو في معطفه الرث على السرج المخصص للضباط الفرسان، وسط تلك المجموعة من الفرسان والقوقازيين والضباط المساعدين.
قال جركوف لبولكونسكي: هذا هو السيد الذي يريد مشاهدة المعركة، إنه بدأ يشعر الآن بألم في فجوة معدته.
فأجاب المدني بابتسامة مشعة جمعت بين المكر والسذاجة : ولكن كلا، يا للدعابة!
كان يبدو عليه أنه شديد الابتهاج لاعتباره هدفا يسدد إليه جركوف دعاباته، وكان يتظاهر بالبلاهة أكثر من الجد الذي كان حريا به أن يكون بالغه.
قال الضابط الركن بفرنسيته الركيكة: مضحك جدا يا سيد الأمير!
كان يعرف كلمة أمير بالفرنسية تسبقها عادة كلمة أخرى، وكان على حق في هذا، لكنه ما كان يوفق قط في معرفة تلك الكلمة.
بلغ باجراسيون وأفراد حاشيته عش مدفعية توشين، في اللحظة التي سقطت قذيفة على مقربة منهم.
سأل المدني بلهجته الساذجة: ماذا الذي وقع؟
فأجابه جركوف: فطائر فرنسية! - آه! باه! أبهذه الفطائر يقتلون إذن؟ يا للفظاعة!
كان لسانه ينطق بهذه الأقوال، بينما كان جسمه الضخم على استعداد للاهتزاز تحت وطأة ضحكة مدوية، ولم يكد ينجز جملته حتى سقطت قذيفة ثانية يصحبها صفير مريع قطعته صدمة لينة مرنة، وإذا بالقوقازي الذي كان قرب الرجل الضخم إلى الوراء قليلا، يهوي مع حصانه محطمين، انحنى جركوف والضابط الركن على عنقي جواديهما وابتعدا بهما، أما المدني، فقد أوقف حصانه وراح يفحص القوقازي بنظرة متطفلة، كان الرجل قد فارق الحياة بينما كان الحصان لا زال يختبط في النزع الأخير.
ألقى باجراسيون إلى الوراء نظرة طارقة، ولما شاهد سبب الاضطراب الذي حدث، استدار بلا مبالاة وكأنه يقول: «هل تستحق مثل هذه التفاهات شيئا من الاهتمام؟!» أوقف حصانه برزانة الفارس المقتدر الخبير، وانحنى قليلا ليمتشق حسامه الذي كان بين طيات «فروته»، كان السيف من طراز قديم مختلف عما درجت العادة على حمله في تلك الأيام، تذكر بولكونسكي أن سوفوروف كان قد أهدى سيفه إلى باجراسيون خلال الحرب الإيطالية، فكان لتلك الذكرى في ذلك الموقف العصيب أثرا جميلا في النفوس، وفي تلك الأثناء، اقترب صحب الأمير من النقطة التي راح يتأمل منها المعركة الدائرة.
سأل باجراسيون جندي «الحراقة»، الذي كان يقوم بواجبه أمام صناديق البارود: من أية «بطارية»؟
كان سؤاله يهدف في حقيقته إلى القول: «آمل ألا تكون خائفا.» وقد أدرك جندي الحراقات - وهو شاب ممشوق القامة أحمر الشعر، خلف الجدري آثارا باقية على وجهه - مضى السؤال كما يريده الأمير، فأجابه وهو يأخذ وضعية الاستعداد بصوت منطلق نشيط: من بطارية الكابتين توشين يا صاحب السعادة.
فأجابه باجراسيون بلهجة متزنة: حسنا، حسنا.
ثم مر أمام عربات جر المدافع واقترب من المدفع الأخير.
وبينما كان في طريقه إليه، دوى انفجار هائل صم أذنيه وآذان أتباعه، إن المدفع الرابع كان في تلك اللحظة قد قذف ما في جوفه من حمم، ورأى الأمير وصحبه، خلال الدخان الذي ارتفع من حوله، جماعة من المدفعيين يمسكون بالمدفع المنطلق، محاولين إعادته إلى مكانه قبل الانطلاق، وكان المكلف رقم 1، وهو فتى عريض الكتفين، مباعد ما بين ساقيه، يمسك بيده الفرشاة المصنوعة من قطع اللباد، والمخصصة لتنظيف «سبطانة» المدفع، يقفز جانبا قرب عجلة المدفع، بينما وضع المكلف رقم 2 في فوهة القطعة القذيفة الثانية، وكان توشين - وهو قصير القامة كما أسلفنا مربوع الجسم - يندفع إلى الأمام مستندا إلى حاجز العش، يراقب العدو واضعا يده على جبهته؛ ليركز أنظاره في النقطة التي يحدق فيها؛ فلم يشعر بدنو الأمير باجراسيون.
هتف توشين بصوته الرقيق الذي كان يسعى لجعله خشنا ما استطاع: أضف خطين آخرين إلى مدى الرمي، وعندئذ سنصيب الهدف.
كان صوته لا ينسجم مع شخصه، مع ذلك فقد صاح بقوة: القطعة الثانية: نار! هيا يا ميدفيديبف!
استدعاه باجراسيون، فاقترب توشين ورفع إلى حاجز خوذته أصابعه الثلاثة بحركة مضطربة غير موفقة، تشبه حركة الراهب عندما يبارك المصلين المؤمنين أكثر مما تبدو تحية عسكرية.
وعلى الرغم من أن وظيفة «بطاريته» كانت محصورة في دك صفوف الجنود الزاحفين، فإنه كان يطلق نيران مدفعيته بضراوة على قرية شوينجرابن، التي كانت ظاهرة أمامه، والتي كانت أعداد كبيرة من الجنود الفرنسيين تتحرك حولها ناشطة، ولما لم يجد أحدا يمده بالتعليمات حول الهدف ونوع القذائف التي يجب أن يستعملها؛ لذلك فقد استشار صف الضابط المساعد له، واسمه زاخارتشنكو، الذي كان يقدره ويحترم رأيه، وقرر أخيرا أن من الأصوب قصف القرية وإشعال النار فيها ، فقال باجراسيون على عادته بعد سماعه تقرير ضابط المدفعية: «حسنا، حسنا!» واستغرق في تأمل ساحة المعركة التي كانت ممتدة بأكملها تحت أبصاره، وبدا كأنه يضع خطة ما.
كان الفرنسيون قد نشطوا في التقدم على الجناح الأيمن أكثر من أي خط آخر من خطوط القتال، وكانت نيران البنادق على أشدها في الوادي، حيث يجري النهر على مقربة من الربوة التي كانت سرية كييف معسكرة عليها، وكان صوت الرصاص الملعلع يقبض القلب، أشار الضابط الركن ملفتا انتباه باجراسيون إلى فصيلة من الفرنسيين كانت قد انتهت من التفاف حول الجناح الأيمن الأقصى، وراء فرسان الدراجون (التنين)، وإلى اليسار كانت غابة قريبة جدا تقطع الأفق البعيد، أصدر باجراسيون الأمر لسريتين من الوسط بالتوجه إلى الجناح الأيمن لتعزيز قواته، وتجرأ الضابط الركن وأبدى ملاحظته على هذا التصرف، مبينا أن سحب السريتين من الوسط سيجعل «البطارية» دون تغطية، غير أن باجراسيون التفت إليه وراح يحدق في وجهه بعينيه الكامدتين دون أن يتفوه بكلمة، وبدا للأمير آندريه أن ملاحظة الضابط الركن سديدة لا يمكن الجواب عليها أو نبذها، لكن في تلك اللحظة، جاء أحد الضباط التابعين يعلن أن: قائد السرية (الكولونيل) التي تحارب في منحدر النهر، يعلم القيادة أن الجيوش الفرنسية كثيرة العدد التي هاجمته أرغمته على الانطواء إلى حيث يعسكر رماة كييف، فأومأ باجراسيون برأسه وأرسل الضابط على جناح السرعة إلى فرسان الدراجون، يحمل إليهم الأمر بالقيام بالهجوم، بينما مضى سيرا على قدميه نحو الجناح الأيمن، ولم تمض نصف ساعة حتى عاد الضابط التابع يقول بأن الزعيم قائد السرية اضطر للانسحاب إلى الجانب الآخر من الوادي؛ بسبب النيران الحامية التي استقبله بها المهاجمون الفرنسيون في حركة انطوائه على مركز رماة كييف، وأنه وجد ذلك الانسحاب أكثر تعقلا؛ خشية أن يخسر عددا كبيرا من جنوده دون جدوى؛ لذلك فإنه أرسل قناصة إلى الغابة ينتشرون فيها ليفاجئوا العدو من مراكزهم الجديدة.
فقال باجراسيون: حسنا!
وفي اللحظة التي ابتعد فيها عن «البطارية» لعلع الرصاص بشدة إلى اليسار في الغابة ، ولما كان الجناح الأيسر بعيدا جدا يتعذر عليه الوصول إليه شخصيا، فقد أرسل جركوف يحمل أمرا للجنرال الذي يقود ذلك الجناح - وهو ذلك الجنرال الذي قدم جنوده إلى كوتوزوف في برونو كما يذكر القراء - يقضي بالتقهقر بأقصى سرعة إلى وراء الوادي؛ نظرا إلى أن الواقع يدل على أن الجناح الأيسر لن يستطيع الصمود طويلا أمام العدو. أما توشين ولواء التغطية فلم يعد يفكر فيهما أحد، لاحظ بولكونسكي - وكان يتابع بمزيد من الاهتمام المواضيع التي كان باجراسيون يتبادلها مع الضباط القادة، والتعليمات التي كان يصدرها إليهم - أن الأمير لم يكن في الحقيقة ليصدر أي أمر، بل إنه كان يتعمد إيهام مساعديه وضباطه بأن كل ما كان يحدث بفعل ضغط الظروف وتطوراتها، أو بمحض الصدفة، أو نتيجة للأوامر التي كان ضباطه يصدرونها لرجالهم، لم يكن خافيا عليه من قبل، بل إنه وقع وسيقع بناء على رغبته ومعرفته التامة به، مع ذلك، وعلى الرغم من أن الأحداث كانت متروكة للظروف دون أن يكون لمشيئته أي أثر فيها، فإن مجرد وجود باجراسيون كان يعطي نتائج مدهشة بفضل الأسلوب الذي كان يتبعه وشخصيته الكيسة.
كان القواد الذين يلاقونه بوجوه منقلبة متقلصة قلقة، يتركونه مشرقي الوجه متفائلين، وكان الضباط والجنود يحيونه بهتافات بهيجة عند مروره، وقد دب النشاط في أوصالهم فجأة بقدرة قادر، ويجدون متعة كبيرة في إظهار براعتهم وشجاعتهم في حضرته.
الفصل الثامن عشر
الهجوم
وصل الأمير باجراسيون وحاشيته إلى النقطة القصوى من الجناح الأيمن، وراحوا يهبطون الطريق المتعرج الذي كان الرصاص يلعلع بشدة عند سفحه وسط سحاب داكن من دخان البارود، وكلما توغلوا في تقدمهم، ساءت شروط الرؤية، لكنهم كانوا يشعرون جميعا شعورا عميقا باقترابهم السريع من مكان المعركة الحقيقية، ولم يلبثوا أن التقوا بطلائع الجرحى، كان أحدهم عاري الرأس تغمره الدماء، متكئا على ذراعي رفيقين له، كان يشهق ويبصق دما، ولعل الرصاصة أصابته في فمه أو في حنجرته، وآخر كان يمشي وحيدا بشجاعة فائقة، وهو أعزل من السلاح، يزمجر وهو يرفع ذراعه التي كان الدم ينزف منها على معطفه وكأنه يتدفق من إناء طافح، كان وجهه يدل على الذهول أكثر مما يحمل من معالم الألم، ولا شك أنه قد أصيب منذ هنيهة فلم يشعر بعد بالألم.
قطع الأمير وجماعته طريقا معترضا ثم أصبح المنحدر شديد الوعورة صعب المسلك، وكانت جثث القتلى مبعثرة فوق المنحدر الذي كانت جماعة من الجنود تتسلقه بصعوبة بالغة، لاهثة الأنفاس، دون أن يكونوا جميعهم مصابين بالجراح، ولم يمنعهم التقاؤهم بالجنرال عن إلقاء المواعظ وتحريك الأطراف تبعا للحديث، وإلى الأمام كان الأمير وجماعته في وضع يساعدهم على تمييز صفوف من ذوي المعاطف الرصاصية اللون. ولما أطل باجراسيون، هرع أحد الضباط يقطع الطريق على الهاربين يأمرهم بالعودة إلى صفوف المعركة، اقترب باجراسيون من الصفوف حيث أزيز الرصاص يطغى على أصوات الأوامر والصيحات، كان الهواء مشبعا بالدخان، والجنود منقلبي الوجوه وقد تراكم دخان البارود ورشاشه على وجوههم فسودها، وكان بعضهم يحشو بندقيته مستعينا بعصي خاصة، والبعض الآخر يضع «الكبسولات» في أماكنها ويخرج الرصاص من جيب الذخيرة الجلدي المتدلي إلى نطاقه، بينما كان الفريق الآخر يتولى مهمة إطلاق تلك البنادق، ولكن على من كانوا يطلقون؟ ذلك ما كان لا يمكن معرفته؛ لأن الدخان الكثيف كان يقف حائلا دون رؤية الأبعاد، خصوصا وأن الريح كانت هادئة ساكنة؛ مما ساعد الدخان الكثيف على البقاء على ارتفاعه الخفيض فوق الرءوس، ومن حين إلى آخر، كان نوع من الصفير أو الدندنة المكتومة تطرق الأسماع، راح الأمير آندريه يتساءل وهو يقترب من القطعة المحاربة: «ما هذا على وجه الضبط؟ إنه ليس هجوما؛ لأن الجنود كانوا جامدين في أماكنهم، وليس تشكيل مربعات منظمة، لقد كان الأمر خلافا لكل ذلك.»
كان رئيس السرية زعيما عجوزا هزيلا، كانت أجفانه نصف المغلقة تضفي على وجهه طابع الدماثة والحلم، اندفع بحصانه إلى حيث كان باجراسيون واستقبله بما يليق به من حفاوة، أشبه بصاحب بيت كريم عندما يحتفي بضيف رفيع الشأن. أطلع الأمير على أن سريته تعرضت لهجوم من قبل فرسان الفرنسيين، فصدت الهجوم لكن سريته خسرت نصف تعدادها من الرجال على أقل تقدير، ولجأ الزعيم في بيانه عن صد هجوم الفرسان إلى تعبير فني؛ ليبين ما وقع في سريته من الأضرار، والحقيقة أنه كان يجهل كليا مدى الأضرار التي لحقت برجاله خلال نصف ساعة، وما وقع أثناءها، وهل صمدت للمهاجمين أم تنحت لهم عن مراكزها، كل ما كان يعرفه هو أن القذائف والقنابل راحت تمطر بغزارة على سريته عند بدء المعركة، ففقد عشر رجاله، وأن بعضهم صاح بعد ذلك قائلا: «الخيالة!» فراح الروس يطلقون النار وما زالوا يطلقون نيرانهم باستمرار، وإن لم تكن في تلك اللحظة على الفرسان الذين تراجعوا قبل ذلك، بل على المشاة الذين اقتربوا من الوادي دون أن يقتصدوا هم الآخرون برصاصهم وبارودهم. أومأ باجراسيون برأسه إشارة يفهم منها أن كل شيء قد وقع طبقا لما كان يتوقعه وينتظره، ثم التفت إلى ضابطه المساعد وأمره أن يصعد إلى ذروة التل، فيأتي بالسريتين التابعتين لفرقة القناصة السادسة، اللتين مر بهما منذ قليل. بدا على وجه باجراسيون تحول مفاجئ دهش له الأمير آندريه أسمى دهشة، كانت قسماته في تلك اللحظة توحي بالعزم المتيقظ المركز؛ شأن الرجل الذي عزم أخيرا على القفز إلى الماء للخلاص من حرارة يوم قائظ محرق. اختفت نظرته الجامدة الخاملة، وتبدد ذلك المظهر الخداع الذي كان يسلكه في عداد المفكرين الهادئين المتعمقين، واتقدت عيناه ببريق حماسي مشبع بالازدراء، فحاكت عيناه المستديرتان القاسيتان عيون الجوارح، التي تهم بالانقضاض فتشخص ببصرها إلى الفريسة غير عابئة بكل ما حولها، وراح باجراسيون ينظر إلى الأمام محدقا غير حافل بما يدور حوله، كان هذا التحول المفاجئ متنافيا مع الهدوء المتزن الذي كان يرافق حركاته من قبل تنافيا غريبا.
راح الزعيم قائد السرية يتوسل إلى باجراسيون بالابتعاد؛ لأن المكان خطير جدا، وكان يكرر قوله: «رحماك يا صاحب السعادة، ناشدتك الله»، ويبحث عن عينيه بأنظاره محاولا التقاءهما عل الأمير يقرأ في عينيه ما يهيب به أن يبتعد عن المكان، لكن باجراسيون كان شاخص البصر إلى الأمام ، فلم يكن يسمع قول الزعيم ولا تأييد الضابط الركن له. أخذ الزعيم يلح على الأمير قائلا: «رباه، تبين ما حولك أرجوك!» ويحاول لفت اهتمامه إلى الرصاص الذي كان يئز فوق الرءوس ويصفر ويدندن، كانت لهجته مشبعة بإصرار البناء المتذمر الذي يريد أن يمنع «معلمه» من استعمال فأسه الخاصة، كان يقول: «إن هذا ليس من عملك يا صاحب السعادة، إننا بلونا هذا العمل فألفناه، أما سعادتك فإنك لن تربح من ذلك إلا إصابات وجراحا.» وكان من يصغي إلى حديثه يكاد يظن أن تلك الرصاصات المتطايرة المنتشرة في كل مكان حوله عاجزة عن الإضرار ومسه بسوء، وكانت عيناه نصف المغلقتين تضفيان على حديثه وتوكيداته لونا من القناعة الصارخة، وانضم مندوب الأركان العامة إلى الزعيم مؤيدا، فكان كل رد باجراسيون أن أصدر أمرا بالتوقف عن إطلاق الرصاص، وبانسحاب الأحياء من سرية الزعيم؛ لتحل محلهم السريتان الجديدتان. وفي تلك الأثناء هبت الريح فأزاحت ستار الدخان الكثيف إلى اليسار وكأن أيد خفية دفعت به بعنف في ذلك الاتجاه؛ وانكشفت لأبصار باجراسيون وصحبه الرابية المقابلة وقد غطاها الجنود الفرنسيون الزاحفون. اتجهت الأنظار كلها بصورة عضوية إلى ذلك الحشد الزاحف، كان العدو يسير في خطوط ملتوية على الطريق الدائرية، كان الناظرون يميزون القلانس ذات الريش، بل ويفرقون بالعين المجردة بين الضابط والجندي، ويرون بوضوح العلم الذي كان يخفق على الصارية.
قال واحد من الأتباع ملاحظا: إنهم يسيرون سيرا حسنا منظما.
بدأت مقدمة الزاحفين تنحدر إلى الوادي، فكان تقابل الفريقين متوقعا عند سفح المراكز التي يحتلها الروسيون.
عادت فلول السرية المشتتة إلى الاصطفاف بسرعة والانسحاب إلى اليمين باتجاه المؤخرة، دافعة أمامها المتسكعين والمتخلفين من الجنود، واقتربت سريتا فيلق القناصة السادس بنظام جميل، بدأ وقع أقدامهم الإجماعي الثقيل يتردد ويصك المسامع بإيقاع موزون رتيب، تشترك فيه أقدام القادمين دون استثناء. وصل الجنود الجدد إلى المستوى الذي كان يقف فيه باجراسيون، فكانت السرية اليسرى أقرب من الأخرى إلى حيث وقف الأمين، فأتيح لمرافقيه رؤية قائدها الشاب الجميل، الذي عرف فيه بولكونسكي ذلك الضابط الذي أفلت جاريا من كوخ توشين عند انفجار القذيفة الأولى، كان وجهه المستدير مطبوعا بطابع البلاهة والغبطة معا، ولعل سعادته في تلك اللحظة كانت راجعة إلى شرف استعراضه من قبل الأمير وهو على رأس فرقته، ولم يكن إحساس الجنود الآخرين ليختلف عن مشاعر ذلك الضابط الشاب، كان ذلك الضابط يراقب حركاته ووضعيته ولا شيء سواهما، فكان منصرفا بكليته إلى هذه الناحية، كان يرفع ساقيه القويتين دون أن يبذل أي عناء، شأن العسكري المحترف، ويضرب بقدميه الأرض؛ حتى ليخيل للناظر إليه أنه يسبح في بركة ماء ويطفو عليها جسده، فكانت مشيته الرشيقة الخفيفة غير منسجمة مع إيقاع أقدام الجنود الذين كانوا يسيرون على هدي مشيته، وكان يتدلى إلى منطقته سيف بدون غمد رقيق النصل ضيقه - وهو واحد من تلك السيوف المحدودبة التي لا تشبه الأسلحة في شيء - ويدير بصره نحو رؤسائه حينا وإلى الوراء صوب جنوده أحيانا، وهو يلوح بساعديه القويتين فيتأرجح جسمه المتين على إيقاعها، كان يبذل كل قواه ليبدو العرض الذي يرأسه في أوج الدقة والانسجام، ولا شك أنه كان سعيدا لنجاحه في مسعاه وفوزه في أداء واجبه على الوجه الأكمل، فكان مظهره يوحي بأنه يهتف بانتظام: «شمال ... شمال ... شمال ...» وهو يدق الأرض بيسراه فيتحرك الجدار الحي وفق ذلك الإيقاع الرتيب، وهكذا كانت تسير مئات من النفوس، رجال ذوو وجوه صارمة، متشابهة رغم اختلاف مشاربهم، أحنوا ظهورهم تحت ثقل أكياسهم العسكرية وبنادقهم، بدا كل منهم مستجيبا أثر كل خطوة إلى النداء الخفي المتردد بانتظام: «شمال ... شمال ... شمال ...»
بهرت أنفاس ضابط سمين برتبة ماجور وفقد الإيقاع المنظم، فاستدار حول دغل صغير ليصحح من خطوه، وجرى جندي متعب متخلف أجفل رعبا من تأخره، فالتحق بسريته راكضا منتظما في الصف الأخير، وسقطت قذيفة مرت فوق رأس باجراسيون قبل أن تنقض على السرية المتحركة، فأحدثت أضرارا جسيمة، غير أن الجدار المتحرك لم يتوقف ولم يضطرب في مشيته الإيقاعية: «شمال ... شمال ...» وكل ما في الأمر أن الضابط الجميل أصدر أمره قائلا : «تراصوا!» كان لصوته وقع بليغ؛ فراح الجنود يرسمون قوسا حول المكان الذي سقطت فيه القذيفة؛ ليعودوا إلى نظامهم البديع بعد تخطي ذلك العائق غير المنتظر، تخلف أحد رؤساء الأفصال، وكان صف ضابط مسن يزين صدره بالأوسمة، ليحصي عدد القتلى والجرحى، وما لبث أن هرع يلتحق بالسرية في مكانه المقرر على الجناح، فبدل خطوته لتنسجم مع الإيقاع، واندمج كليا مع السائرين وهو يلقي وراءه نظرات غاضبة حانقة، وعاد صوت الخطى: «شمال ... شمال ...» يتردد من جديد معكرا السكون الثقيل الكثيف، الذي كانت الخطى الإجماعية الرتيبة تقرع الأرض فتبدده.
قال الأمير باجراسيون للجنود: هيا يا أبنائي، تصرفوا تصرف الأبطال البواسل.
فأجاب الجنود بصوت واحد: سنعمل خير ما في وسعنا يا صاحب السعادة.
وبينما كانوا يهتفون جميعا، حدج أحدهم - وهو فتى عابس الوجه كان يسير إلى اليسار - الأمير باجراسيون بنظرة قاتمة، وكأنه يقول: «إننا نعرف ما يجب، يا للشيطان!» وكان آخر يصيح ملء حنجرته هاتفا دون أن يدير رأسه إلى حيث كان الأمير، وكأنه يخشى أن ينسيه ذلك انتظام خطواته مع المجموعة السائرة: صدرت الأوامر بالتوقف وبنزع الأكياس عن الظهور.
استعرض باجراسيون الصفوف ثم ترجل عن جواده وسلم أعنته إلى أحد القوقازيين، بينما ألقى «بفروته» إلى قوقازي آخر، وحرك ساقيه ليعيد إليهما النشاط وسوى من وضع قلنسوته، كانت الكتيبة الفرنسية الزاحفة، وعلى رأسها ضباطها، قد بلغت في تلك اللحظة حدود المنحدر.
دوى صوت باجراسيون الحازم آمرا: إلى الأمام وبعناية الله.
واستدار فترة نحو جنوده، ثم رفع ساقه اليسرى - وهي ساق فارس لم يحسن قط السير المنظم - وقرع بها الأرض متقدما، ملوحا بذراعيه، وراح يتقدم نحو العدو فوق أرض مليئة بالأخاديد، شعر الأمير آندريه بقوى خفية تدفعه إلى الأمام، فاندفع لاحقا بالأمير باجراسيون والسعادة ملء إهابه.
كانت تلك المعركة هي التي قال عنها تيير:
1 «لقد تصرف الروس ببسالة. وقد شوهدت في تلك المعركة - الأمر الذي يندر وقوعه في الحروب - كتلتان من المشاة تسير كل منها بحزم وعناد وتصميم نحو الأخرى، دون أن تتفكك وحدة صف إحداهما قبل التقائها بالأخرى.» وكتب نابليون عن هذه المعركة في القديسة هيلين - منفاه: «لقد أظهرت بعض القطعات الروسية شجاعة خارقة.»
أصبح الفرنسيون على مسافة قريبة جدا، واستطاع بولكونسكي - الذي كان يسير إلى جانب باجراسيون - أن يرى بوضوح حمالات أسلحة الجنود والأشرطة الحمراء التي تزين الأكتاف، بل والوجوه أيضا. ولاحظ كذلك أن ضابطا فرنسيا حسنا ذا ساقين ملتويتين يتسلق المرتفع بمشقة بالغة، لم يصدر باجراسيون أي أمر، بل ظل في تقدمه بخطاه المنتظمة على رأس الجنود، وفجأة انطلقت رصاصة من صفوف الفرنسيين أعقبتها ثانية فثالثة ... ولعلع الرصاص على طول صفوفهم المتفرقة بين سحب من الدخان الكثيف، سقط بعض الجنود الروس، وكان الضابط الجميل - الذي كان منذ حين يسير على رأس جنوده - يستخفه الفرح، فيضبط الإيقاع بنظام مكين في عداد الساقطين، وكان باجراسيون، إثر انطلاق الرصاصة الأولى، قد توقف والتفت إلى جنوده وهتف بصوت قوي: هورا!
فرددت الحناجر كلها مثل ترديد الصدى: هورا...ا...ا!
واندفع الجنود يتخطون الجنرال ويتدافعون، يتفرجون بالحيوية والحماس، فانحدروا إلى أسفل التل دون نظام، وارتموا على الفرنسيين الذين تفرقت صفوفهم بالمثل.
الفصل التاسع عشر
جرح روستوف
أتاح هجوم فيلق القناصة السادس انسحابا منظما للجناح الأيمن، بينما كانت مدفعية توشين المغفلة حتى تلك اللحظة، تعرقل تقدم الفرنسيين على الخطوط الوسطى؛ لأنهم اضطروا إلى الانشغال بإطفاء الحريق الذي أحدثته مدفعيته في القرية؛ مما أعطى الروسيين الفرصة المواتية للانطواء، وتم الانسحاب عبر الوادي بعجلة صاخبة ولكن دون أن يكتسح البلبال والفوضى صفوف الجنود. وبالمقابل، فقد شتت «لان»
1
الجناح الأيسر الذي كان يضم فيالق كييف وبودولي وفرسان الدراجون، فقد كانت القوة التي تحت إمرته، متفوقة بالعدد والعدد على الروسيين، فهاجمتهم وأحاطت بهم من كل جانب، فأرسل باجراسيون الضابط المساعد جركوف؛ ليحمل الأمر إلى قائد تلك الفيالق - وكان برتبة جنرال - بالانسحاب فورا دون تأخير.
اندفع جركوف دون تردد، ويده ملتصقة بحاجز قلنسوته بتحية محترمة، يحث جواده باتجاه الجناح الأيسر، لكنه لم يكد يغيب عن أنظار باجراسيون، حتى خانته قواه واستحوذ عليه رعب قاتل جارف، جعله يمضي للبحث عن الجنرال وزملائه القادة في الأمكنة التي لا يمكن أن يكونوا فيها، متنكبا المكان الذي كانت أصوات الرصاص والقذائف تشق فيه عنان السماء. وهكذا، لم يبلغ الأمر بالانسحاب!
كانت قيادة الجناح الأيسر مناطة بفعل القدم إلى الجنرال الذي قدم قواته لكوتوزوف قرب برونو؛ حيث كان دولوخوف في تلك الأثناء جنديا بسيطا بعد أن عوقب بنزع رتبة الضابط التي كان حاصلا عليها، وكان أقصى الجناح يأتمر بأمر كولونيل بافلوجراد، وهو الفيلق الذي يضم في عداده الكونت روستوف، فكان التناحر بين القائدين سببا في جر سوء تفاهم مدمر؛ لأن كلا منهما كان شديد الحقد على الآخر، وبينما كانت العمليات دائرة بنشاط على الجناح الأيمن، والفرنسيون على وشك التحول للهجوم على الجناح الأيسر وفق خطة آنية، كان القائدان المتنافسان منهمكين في جدال ونقاش لم يكن في جوهره إلا تبادل عبارات التقريع والتعنيف. أما قطعاتهما، فإنها لم تكن معدة إعدادا طيبا للقتال، خصوصا وأنهما ما كانا يتوقعان قتالا في ذلك اليوم بالذات، فكان الضباط والجنود منصرفين إلى أعمالهم العادية السلمية، بين فرسان يقدمون العلف لخيولهم، ومشاة يجمعون الحطب للوقود.
كان الزعيم قائد الفرسان يقول لضابط تابع للجنرال، ووجهه شديد الاحمرار من الغيظ: إنني أعترف بأنه أقدم مني بالرتبة فليعمل ما يشاء، لكنني لن أسمح له بالتضحية بفرساني، أيها البواق، اقرع نداء الانسحاب!
غير أن الموقف كان شديد الحرج، والسرعة الكلية متطلبة ولازمة؛ فالمدفعية العدوة وطلقات البنادق كانت تتدخل وتمتزج محدثة دويا مريعا إلى اليمين وفي الوسط، ومعاطف المشاة الفرنسيين التابعين للماريشال لان أصبحت واضحة، وقد بلغ لابسوها سد المطحنة القريبة ووجهتهم الجناح الأيسر، وبات العدو على صفف مرمى البندقية فقط، فمضى قائد المشاة بمشيته المترددة، إلى جواده فاعتلاه، واتجه مرفوع الجذع متصلبه، إلى زعيم بافلوجراد، وتقابل القائدان بعد أن تبادلا تحية مهذبة لم تخل من غضب عنيف، يحاول كل منهما حجبه، وقال الجنرال: اسمع يا كولونيل، إنني لن أستطيع إبقاء نصف رجالي في الغابة دائما، فأرجوك، هل تسمع؟ أرجوك أن تهاجم وأن تحتل المكان الملائم في المعركة.
فأجاب الزعيم محتدا: وأنا أرجوك ألا تتدخل فيما لا يعنيك، لو كنت فارسا ... - إنني أيها الكولونيل في رتبة جنرال دون أن أكون فارسا، وإذا كنت تجهل ذلك ...
فصاح الكولونيل وقد غدا وجهه بلون الدم: إنني أعرف ذلك تماما يا صاحب السعادة، تفضل وتنازل بمرافقتي إلى الخطوط الأولى وسترى أن المكان الملائم الذي تتحدث عنه لا يجدي فتيلا، إنني لن أضحي برجالي لأرضيك أنت. - إنك تنسى نفسك يا كولونيل، إنني هنا أفكر في كل شيء إلا رغبتي ورضائي؛ لذلك فإنني لا أسمح لك بالتكلم على هذا الشكل.
لكز الكولونيل حصانه، فتقبل الجنرال التحدي، وعطف جذعه، وزوى بين حاجبيه، وتقدم مع غريمه إلى الخطوط الأولى، وكأن خلافهما لا يمكن أن يحسم إلا هنا، تحت وابل المقذوفات النارية. وبينما هما في طريقهما إلى المراكز الأولية، مرت بعض رصاصات إلى جانب رأسيهما، فتوقفا دون أن يتفوها بكلمة، لم يجدهما فحص الساحة والأماكن التي تدور فيها المعركة فتيلا، لقد كان واضحا لهما في المكان الذي كانا فيه من قبل أن هجوم الفرسان متعذر بسبب الأدغال والوديان والمنحدرات، ولأن الفرنسيين كانوا يقومون بحركة التفاف حول اليسار، فراح الجنرال والكولونيل يتبادلان نظرة صارمة مفعمة بالخطورة، وكل منهما يترقب عبثا أن تبدر عن الآخر أية بادرة تدل على الخوف أو التخاذل، أشبه بديكين شرسين قبل المعركة، اجتاز كل منهما الفحص بنجاح، فلم يجد أحدهما ما يقوله للآخر، وكان كل منهما يتحاشى ما استطاع إليه سبيلا أن تبدر عنه بادرة أو حركة يستدل الآخر منها على رغبته في مبارحة خط النار قبله، وكانا على استعداد للبقاء وقتا طويلا في مكانهما يختبران شجاعتهما المشتركة، لولا أن انفجرت في الغابة وراءهما مئات من طلقات البنادق رافقها ضجيج وصياح مكتوم، كان الفرنسيون قد انقضوا في تلك الأثناء على جنود روسيين يجمعون الأحطاب للوقود، كانت فرصة الفرسان في الانطواء مع المشاة والانسحاب قد فاتت، وكان خط انسحابهم قد قطعه العدو من اليسار، فكان عليهم أن يشقوا لأنفسهم طريقا بالقوة بين صفوف العدو في أرض لا تصلح لجري الخيل.
لم تجد كوكبة روستوف إلا الوقت الكافي فقط لجمع الصف والوقوف في وجه العدو، وعادت ظروف جسر «الأنز» تمثل في تلك اللحظة؛ إذ لم يكن بين المتحاربين من المعسكرين شيء يفصلهما إلا ذلك الخط المجهول المخيف والرعب الكاسح؛ ذلك الخط الذي يشبه كل الشبه الخط الذي يفصل بين الأموات والأحياء، كان كل من جنود الفريقين يشعر بذلك الخط الخفي ويتساءل مترددا هل يجتازه أم يحجم عن اجتيازه، وكيف السبيل إلى الإقدام والإحجام.
هرع الكولونيل، فأجاب غاضبا على أسئلة ضباطه الذين أقبلوا عليه مستفسرين، وألقى بعدد من الأوامر الغامضة، شأن الرجل الذي يستمسك بيأس مريع بعقليته ورأيه، وعلى الرغم من أن أمر الهجوم لم يؤكده أحد قط، فإن الإشاعة راجت بين الصفوف مؤكدة أن الفرسان يقومون بالهجوم، صدر الأمر: اس...تعد!
وأعقب ذلك صليل السيوف وقد أشهرت من أغمادها، غير أن الأمر بالتقدم لم يصدر حتى تلك اللحظة، فلم يتحرك أحد قيد أنملة، كانت قطعات الجناح الأيسر كلها بين فرسان ومشاة تشعر أن الضباط أنفسهم عاجزون عن معرفة ما يجب عمله في ذلك الموقف، فسرت عدوى تردد الرؤساء إلى الأفراد أنفسهم.
راح روستوف يحدث نفسه وهو يرى أن اللحظة التي سيختبر فيها لذة الهجوم، التي طالما حدثه زملاؤه عنها، قد أزفت: «ليقع ذلك بسرعة! بسرعة!»
صاح دينيسوف فجأة: بعناية الله أيها الفتيان، خببا سر!
تماوجت أعناق خيول الصف الأول، وجذب الحصان «شوكا» الأعنة ومضى تلقائيا.
شاهد روستوف على مبعدة من صفوف الفرسان الأولى خطا داكنا قائما إلى اليمين، لم يتبين معالمه تماما، لكنه قدر أن يكون هو العدو، كانت أصوات البنادق تسمع بوضوح وإن كانت لا زالت بعيدة بعد، وعلا أمر جديد: خببا سريعا سر!
شعر روستوف أن شوكا قد مالت مؤخرته ومضى هدبا، فكان مغتبطا لتتبعه حركات حصانه ومعرفة مؤداها ونتائجها، وازداد انشراحه، شاهد شجرة ضخمة منتصبة بعناد على طريقه، وكانت تلك الشجرة تحتل منتصف ذلك الخط القائم الذي كان يعتقد أنه العدو، وها هو قد اجتاز ذلك الخط المخيف، فلم يحس بالرعب ولا بالخوف، بل على العكس لقد ازداد اطمئنانه وانشراحه، فراح يتمتم وهو يضغط على مقبض سيفه: «آه، سوف أعمل فيهم طعنا وتقتيلا!»
انبعث هتاف: «هورا» داو، فحدث روستوف نفسه: «هيا ليصدفوني الآن أيا كانوا!» ولكز جواده بمهازيه فاندفع شوكا يسابق الريح ويبتعد عن كل الفرسان، وفجأة ظهر العدو، وتساقط على الكوكبة وابل من الرصاص أشبه بلسعات سوط ذي شعب، رفع روستوف حسامه متأهبا للضرب، وفي تلك اللحظة انفصل عنه فارس آخر كان قد خرج عن الصفوف مثله وسار معه في المقدمة، اسمه نيكيتنكو، وشعر روستوف بأنه محمول باندفاع سرعة وهمية ومسمر في مكانه بآن واحد، وكأنه في حلم مخيف، واصطدم به الفارس بوندارتشوك الذي يتبعه، فألقى عليه نظرة غضبى، وجمع جواده ثم مضى مبتعدا.
تساءل روستوف: «ولكن ماذا بي لا أتحرك؟» وجاءه الجواب على الفور: «لقد سقطت، لقد مت.» أصبح وحيدا في ساحة المعركة، فلم يعد يرى غير الأرض الساكنة وعليها أكواخ مبعثرة، وغابت عن أبصاره الخيول الجارية وفرسانها المنحنون على ظهورها، شعر بدم حار يغسل جسده، فقال يحدث نفسه: «كلا، إنني لست جريحا، إن شوكا هو الذي قتل.» والواقع كان كذلك، فقد حاول شوكا النهوض على قائمتيه لكنه لم يفلح، وعاد يسقط من جديد ساحقا تحت ثقله ساق فارسه، كان رأس الجواد مخضبا بالدم، وكان الحيوان يتخبط دون أن يستطيع الوقوف على قوائمه، أراد روستوف أن ينهض ولكنه أخفق بالمثل؛ لأن جزءا من ثوبه كان مشبكا بالسرج، أما أين مضى الجنود الروس؟ وأين الأعداء في تلك اللحظة؟ ذلك ما كان يجهله؛ لأنه لم يكن يرى أحدا حوله.
وأخيرا استطاع تخليص ساقه والنهوض بعد عناء شديد، راح يتساءل: «في أية جهة يقوم ذلك الخط الذي كان يفصل بين الجيشين؟» لكنه أخفق في الإجابة على ذلك السؤال، عاد يناجي نفسه بقلق: «ألا يحتمل أن يكون قد وقع لي حادث مؤسف محزن؟ هل ينتظر أن يقع مثل ذلك الحادث ؟ وإذا وقع، فكيف أتصرف؟» كان سبب هذا التساؤل ما لاحظه على ذراعه اليسرى المشلولة من ثقل إضافي في وزنها، كانت يده تبدو غريبة، غريبة عنه، مع ذلك فقد راح يفتش عبثا عن آثار الدماء، شاهد فرقة من الرجال يقودها رجل يلبس معطفا أزرق، ويضع على رأسه قلنسوة غريبة، أسمر الوجه، غامق اللون، أقنى الأنف، فهتف مستبشرا: «آه! أخيرا لقد أقبل بعضهم! سوف يغيثونني!» كان ذلك الرجل متبوعا باثنين فقط ثم ما لبث أن انضم إليه عدد آخر كبير، كان أحد القادمين يغمغم أقوالا لم تكن في نبراتها ومخارجها تشبه اللغة الروسية، وكان أولئك الذين يتبعون الثلاثة المتقدمين، قابضين على فارس روسي كانوا يقودون حصانه من أعنته.
فكرر روستوف: «لا شك أنه واحد من جنودنا وقد أخذ أسيرا. نعم، إن الأمر كذلك. هل سيأخذونني أنا الآخر؟ ولكن من هم هؤلاء؟ أهم الفرنسيون؟ مستحيل!» كان يرى الفرنسيين يقتربون منه وكان يحس - وهو الذي كان يتحرق للقياهم منذ حين - برعب طاغ كلما ازدادوا دنوا، حتى إنه لم يعد يصدق عينيه: «ترى من هم هؤلاء؟ ولماذا يجرون؟ هل يتجهون نحوي؟ ترى هل سيقتلونني؟ يقتلونني أنا الذي يحبني كل الناس حبا جما؟!» راح يفكر في حب أمه له، وعطف أسرته عليه، وفي أصدقائه الخلص، فبدا له مستحيلا أن يعمد العدو إلى قتله، «ولكن، ما العمل إذا كانت تلك هي غايتهم؟» لبث جامدا أكثر من عشر ثوان دون أن يفقه عن الموقف شيئا، كان الفرنسي المتقدم - ذو الأنف الأقنى - شديد القرب من روستوف، حتى إن هذا كان يستطيع تمييز تقاطيع وجهه.
كانت سحنة هذا الرجل المتقلصة وهو ينقض عليه وحربته على فوهة بندقيته، قد أحدثت في نفس روستوف هلعا شديدا فأشهر مسدسه، ولكن بدلا من أن يطلقه على الفرنسي، رماه به ومضى يعدو هاربا نحو الأدغال، وكأنه أرنب بري وفي آثاره كلاب الصيد، لم يكن في تلك اللحظة متقدا حماسة للقتال كما كان شأنه في معركة جسر «أينز»، بل كان الرعب القاتل مستوليا على كيانه كله ، الرعب من فقد حياته؛ تلك الحياة الفتية الحافلة بالبهجة والمرح. راح يركض عبر الحقول، ويقفز فوق الحفر فيتخطاها، بمثل الاندفاع الذي يحرك اللاعب الذي يحاول الفوز في مسابقة الحواجز، كان يلتفت بين الحين والحين بوجهه البريء الفتي الذي كساه شحوب الموت، فتجتاح فقرات ظهره قشعريرة باردة ويخاطب نفسه بقوله: «كلا، من الخير لي ألا ألتفت.» لكنه قبل أن يبلغ الدغل، التفت مرة أخرى، كان قد أضحى بعيدا عن الفرنسيين، ورأى في تلك اللحظة الرجل الذي كان في المقدمة يسرع الخطى وينادي زميلا له بصوت جهير، توقف روستوف وقال لنفسه: «كلا، لا شك أنني مخطئ، يستحيل أن يكونوا راغبين في قتلي!» شعر أنه عاجز عن السير إلى أبعد مما سار إليه؛ لأن ذراعه اليسرى أصبحت شديدة الثقل، وكأن ثلاثين رطلا قد أضيفت إلى زنتها الطبيعية، كان الفرنسي قد توقف بالمثل وصوب بندقيته إليه، فأغمض روستوف عينيه وانحنى على الأرض، وانطلقت رصاصة ثم أخرى مرتا فوق رأسه تصفران، فاستجمع آخر قواه، وحمل ذراعه اليسرى بيده اليمنى، ومضى راكضا متوغلا في الدغل؛ حيث كان القناصة الروسيون لا زالوا منتشرين فيه.
الفصل العشرون
بسالة توشين
كانت سرايا المشاة التي هوجمت في الغابة على غير انتظار تفر أمام العدو دون نظام ولا ترتيب، وقد اختلطت الأفصال والوحدات فغدت أشبه بقطعان الماشية. ألقى أحد الجنود، في جنون الرعب الذي استولى عليه، صرخة سخيفة ضمنها جملة مرعبة شديدة الوقع في الحروب: «لقد قطع خط تراجعنا!» فأحدثت هذه الكلمات الغبية رعبا وذعرا شديدين في الصفوف، وانتشرت بين الجنود انتشار النار في الهشيم، فراح الفارون يصيحون: لقد أحيط بنا! لقد طوقنا! لقد ضعنا!
وكان الجنرال، الذي بلغت أصوات الرصاص مسامعه، جاء مسرعا من الخطوط الخلفية، وقد وصل في تلك اللحظة، فقدر أن خطبا جللا قد وقع في سريته. أقلقه أن يعزى إليه - وهو الضابط القديم المثالي - إهمال في القيادة أو خطأ فيها، وبلغ من اضطرابه وبلباله أن نسي عصيان «كولونيل» الفرسان، ونسي كرامته كجنرال، فثبت نفسه فوق السرج واندفع بحصانه غير مبال بالخطر ولا شاعر به. اخترق ستارا كثيفا من الرصاص المتطاير دون أن يصاب لحسن الحظ بأذى، كان جل همه منصرفا إلى شيء واحد؛ معرفة ما يدور في تلك اللحظة بين رجاله مهما غلا الثمن، وإصلاح الوضع ما استطاع إلى إصلاحه سبيلا، وإنقاذ نفسه والترفع بها عن مزالق الخطأ، وهو الذي أمضى اثنين وعشرين عاما في الخدمة دون أن يتعرض لأي نقد أو لوم.
وبعد أن اخترق صفوف الفرنسيين دون أن يصاب بأذى، وصل إلى حدود الغابة التي كان جنوده ينحدرون منها متصامين عن سماع الأوامر، وكأن في آذانهم وقرا، كان ذلك الموقف من تلك الفترات النادرة التي تنتصر فيها البلادة الفكرية وعدم الروية على الرصاص المتطاير المتلاحق، فهل كانت تلك الشراذم المتداخلة المضطربة من الرجال تصغي إلى أوامر رئيسها وتلبي نداءه، أم أنها ستلقي عليه نظرة لامبالاة وتستمر في فرارها؟ كان الجانب الأخير من هذا التساؤل هو الأكثر توقعا؛ ذلك أن الجنود، رغم نبرات ذلك الصوت الآمر الذي طالما رهبوه وخشوه، ورغم ذلك الوجه المصطبغ بحمرة قانية لاندفاع الدماء الثائرة فيه، ورغم تهديدات السيف المشرع وقسمات ذلك الوجه العاتي؛ ظلوا في فرارهم، يطلقون النار في الفضاء، ويتصايحون ويرفضون الانصياع للأوامر، لقد كان اتجاه التردد النفسي منصبا نحو الذعر والإفلات.
بح صوت الجنرال من الصراخ، وامتلأت حنجرته بدخان البارود المحترق، فتوقف يائسا تماما، بدا له أنه فقد كل شيء، ولكن فجأة، ودون سبب ظاهر، استدار الفرنسيون الذين كانوا يطاردون فلول الهاربين، وغادروا حدود الغابة التي ظهرت عليها، بما يشبه المعجزة، فصيلة من القناصة الروسيين. كانت تلك الفصيلة، فصيلة تيموخين، هي وحدها التي حافظت على النظام في صفوفها؛ فكمنت في الغابة حتى إذا بلغ العدو مقربة منها، انقضت عليه فجأة، وكان أن ارتد العدو مأخوذا بالمفاجأة، وكان تيموخين مسلحا بسيفه الصغير فقط، فارتمى على الفرنسيين بجرأة السكير الجنونية، وراح يطلق صرخات مرعبة مروعة، حتى إن هؤلاء لم يجدوا الوقت الكافي لتعرف أوضاعهم، فألقوا ببنادقهم على الأرض وولوا الأدبار، وكان دولوخوف في تلك اللحظة متجها نحو تيموخين، فقتل فرنسيا في طريقه من مسافة جد قريبة، وكان أول من أطبق على عنق ضابط فرنسي وأخذه أسيرا، وكان لهذه المفاجأة وقعها، فارتد الروسيون الهاربون وعادت صفوفهم تنتظم؛ وبذلك رد العدو، الذي كان يقطع الجناح الأيسر إلى قسمين، على أعقابه مؤقتا. وهكذا اجتمعت القوات الاحتياطية التي بقيت قريبة في متناول يد الجنرال، وعاد الفارون إلى صفوفهم.
كان الجنرال باجراسيون مصحوبا بالمأجور أيكونوموف يشرف بنفسه قرب الجسر على انسحاب قطعات جيشه، وفجأة رأى جنديا يقترب منه فيمسك بركابه ويعتمد بجسمه عليه، كان ذلك الجندي مرتديا معطفا حائل اللون ميالا إلى الزرقة من قماش ثمين، ولم يكن يحمل كيسه ولا قلنسوته، لكنه كان يتمنطق بجيب عتاد فرنسي ويحمل في يده سيف الضباط، كان شاحب الوجه معصوب الرأس، وكان يحدج رئيسه بعينين زرقاوين تشع من زرقتهما الباهتة نظرة صافية، بينما انفرجت شفتاه عن ابتسامة، وعلى الرغم من شدة انصراف الجنرال إلى إعطاء أوامره إلى المأجور المرافق، فإن اهتمامه تحول إلى ذلك الجندي الغريب المظهر.
قال دولوخوف بصوت متقطع وهو يعرض جيب العتاد الجلدي والسيف: هاتان غنيمتان يا صاحب السعادة وقد أسرت ضابطا، والفضل لي في صمود سريتنا، وجميعهم يشهدون لي بذلك، فأرجو أن تتفضل سعادتك بتذكر ذلك.
فقال الجنرال: حسنا، حسنا.
وأراد العودة إلى إصدار أوامره للضابط الركن، غير أن دولوخوف لم يتراجع، بل نزع رباط رأسه وحسر عنه مظهرا الدم المتجمد بين شعره وقال: ها هو ذا جرح أصابني من حربة، مع ذلك فإنني لم أخرج من الصفوف، فعسى أن تتذكروا سعادتكم ذلك.
كانت مدفعية توشين قد نسيت تماما، ولم يتذكر الأمير باجراسيون أمرها إلا عندما لاحظ في آخر المعركة أن قذف المدافع ما زال مستمرا في الجبهة الوسطى، فأرسل الضابط الركن، ثم أعقبه بالأمير آندريه ليحمل الأمر إلى توشين بالانسحاب بأقصى السرعة، وكانت المدفعية مستمرة في قصف العدو رغم أن جنود التغطية كانوا قد اختفوا بنتيجة أمر لا يعلم إلا الله من أصدره. وإذا كان العدو لم يستول عليها بعد؛ فذلك لأنه ما كان يعتقد أو يتوقع أن أربعة مدافع فقط دون جنود للهجوم والدفاع يمكن أن تظل تقصف خطوطه بمثل تلك البسالة دون انقطاع، وكان رد الفعل الطبيعي لهذا الوضع أن اعتقد الفرنسيون أن معظم قوى الروسيين متركزة في الجبهة الوسطى، فهاجموا تلك النقطة مرتين، وفي كل مرة كانوا يتراجعون مندحرين، تصيبهم حمم أربعة مدافع منعزلة مقامة على ذلك المرتفع.
أفلح توشين في إشعال النار بقرية شوينجرابن بعد ذهاب الأمير باجراسيون بفترة وجيزة.
أخذ الجنود المكلفون بحشو المدافع وتنظيفها يصيحون: انظر، ها هم يميدون! لقد شبت النار! انظروا إلى الدخان! إنه لهدف محكم! رائع! يا للدخان الكثيف، هم، يا للدخان!
كانت المدافع الأربعة تقذف حممها دون انقطاع، دونما حاجة إلى إصدار الأمر إلى المشرفين عليها، الذين عرفوا واجبهم وعرفوا أن الهدف هو النار المشبوبة، وكان المدفعيون يعقبون على كل قذيفة يطلقونها بعبارات مشجعة، وكأنهم يهيبون بحماستهم ويحثون المدافع على الاستمرار: «هيا، هيا! هو كذلك! بديع، لقد أصاب صميم الجمع!» وساعدت الريح على سرعة انتشار النار وامتداد رقعتها، وراحت الوحدات الفرنسية التي كانت تسد مداخل القرية تتقهقر متراجعة، غير أن العدو انتقم لهذا الخذلان الذي أصابه بأن نصب إلى يمين القرية عشرة مدافع راحت تصب حممها على مركز توشين.
كان الفرح الصبياني الذي أحدثه حريق القرية في نفوس جماعة توشين، ودقة تصويبهم نحو الهدف، قد ألهياهم عن المدفعية القوية التي نصبها العدو ضدهم، ولم يشعروا بخطرها إلا عندما سقطت قذيفتان تبعتهما أربع أخرى فوق مركزهم، فقتلت إحداهما حصانين وأطاحت الأخرى بساق أحد سائقي عربات البارود والقذائف، غير أن هذه المفاجأة المزعجة لم تفل من عزم توشين ورجاله، الذين سرعان ما استبدلوا الجوادين النافقين بآخرين من الحظيرة القريبة، وأخرجوا الجرحى من الميدان، بل جعلتهم يحولون الهدف الذي كانوا يهاجمونه، ويصبون نيران مدافعهم الأربعة على «البطارية» العشرية، كان ضابط توشين الملازم قد قتل منذ بدء المعركة، ولم تمض ساعة حتى كان سبعة عشر جنديا من الجنود الأربعين المكلفين بالعناية بالمدافع قد أخرجوا من ساحة المعركة لإصابتهم بجراح قاتلة أو عادية، مع ذلك فإن الرجال الباقين لم يفقدوا مرحهم وحماسهم، لقد شاهدوا الفرنسيين يهاجمونهم مرتين متعاقبتين، وفي كلتا المرتين ردوهم على أعقابهم بقصف شديد حصد صفوفهم.
كان ذلك الرجل القصير ذو الحركات الفاشلة المبتسرة، يطلب إلى تابعه في كل لحظة «أن يوافيه بغليون آخر جزاء له»، ويهرع أثر كل قذيفة تطلقها مدافعه الأربعة، إلى الحاجز الأمامي ليطمئن بنفسه إلى سلامة القذف ودقته، ومعاينة صفوف الفرنسيين وحركاتهم، وهو يظلل عينيه بيده الصغيرة.
كان يصيح: النار أيها الفتيان!
ويمسك بنفسه المدفع المتراجع بعد الانطلاق ليعيده بمساعدة رجاله إلى مكانه الملائم، ويحل بيده سلم التصويب والتركيز.
كان توشين يمضغ أبدا غليونه القصير بين أسنانه، ويجري من مدفع إلى آخر؛ يسدد هذا ويحصي ما يحشى به ذاك، أو يأمر بإبدال الخيول المقتولة المصابة بجراح، ويلقي أوامره هنا وهناك بصوته الرقيق الأجوف، وقد أصمه الدوي المتتابع من المدافع، وأعماه الدخان الكثيف، وكان وجهه يزداد إشراقا وابتهاجا كلما استمر في دك صفوف العدو وتحصيناته، وكان إذا جرح أحد رجاله أو قتل يقطب حاجبيه ويصب جام غضبه على رجاله السالمين الذين كانوا يتأخرون - كالعادة - في إخلاء الساحة من القتلى والجرحى، وكان الجنود - ومعظمهم من الفتيان الوسيمين كما درجت العادة في المدفعية، حيث الجنود يمتازون عن ضباطهم بالطول الفارع، والأكتاف العريضة، والصدور العامرة القوية - يستشيرونه بأبصارهم، كالأطفال الواقعين في مأزق حرج، وينقلون على وجوههم بكل إخلاص الأمارات التي تبدو على تقاطعية أثر كل استشارة.
ولعل الفضل أن توشين لم يشعر بخوف مطلقا راجع إلى الدوي المصم الذي كان يرتفع حوله، والحاجة إلى مجابهة كل خطر، فكان احتمال إصابته أو مقتله لا يخطر على باله مطلقا، بل إن بشاشته وخفته كانتا على العكس بازدياد مستمر، كانت الدقيقة الأولى التي أطلق خلالها قذيفته الأولى على العدو تبدو بعيدة جدا عن ذاكرته، ولعله كان يعتقد أنها بدأت البارحة؛ إذ إن تلك البقعة من الأرض التي وجد نفسه فيها ولم يعرفها إلا منذ وقت قريب بدت لناظريه مألوفة لديه وكأنه يعرفها منذ الأزل. وعلى الرغم من أنه كان يحس بكل شيء، ويذكر كل شيء، ويفكر في كل شيء، وأنه كان يتصرف على أحسن ما يمكن لضابط ممتاز أن يفعله في مثل ذلك الموقف، فإن حاله كانت أقرب إلى الهذيان أو الثمل أو الحمى.
كانت الانفجارات المدوية التي تحدثها «بطاريته» الناشطة، وصفير القذائف العدوة، وحركة الجنود المكلفين بصيانة المدافع الدائمة السابحين في عرقهم بوجوههم الأرجوانية، ومنظر دماء الرجال والخيول، ومشهد الدخان الكثيف المرتفع من الأسفل؛ دلالة على انطلاق قذيفة أو أكثر باتجاههم؛ قذيفة قد تصيب مدفعا أو رجلا أو حصانا، أو ترتطم بالأرض، كل ذلك كان يغذي خياله بشتى المرئيات، ويخلق في رأسه جوا خياليا وعالما سحريا غريبا، كان يرى نفسه متلذذا بالعيش فيه، وبذلك لم تعد المدافع الأجنبية في نظره مدافع بالمعنى المعروف، بل غلايين يدخنها مدخن خفي غير منظور، يلذ له بين الحين والآخر أن يطلق منها سحابة نحو السماء.
هتف مغمغما: خذ، تلك نفحة جديدة!
كانت تلك النفحة سحابة من الدخان ارتفعت فوق موقع مدافع العدو، وانجابت عنه إلى اليسار تدفعها الريح.
أردف يقول: انتظر الآن الكرة لنلتقطها ونعيدها!
سأل الحراق الذي سمعه يزمجر: ماذا ينبغي أن نعيد يا حضرة الضابط؟ - لا شيء، قذيفة!
وأردف قائلا: دورك الآن يا ماتفييفنا
Matvéievna .
كان هذا هو الاسم الذي كان يطلقه مجازا في خياله على القطعة الأخيرة من مدافعه الأربعة، وهي قطعة قديمة، أما المكلف الأول بالقطعة الثانية - وكان فتى جميلا يساعده جندي مدمن - فقد عمده في خياله باسم «العم»، لقد كان ينظر إلى ذلك الفتى أكثر من سواه، وكانت حركاته ترضيه وتطربه، وكان الفرنسيون المنشغلون حول مدافعهم على مرمى بصره، يبدون في ناظريه أشبه بالنمل الدائب، أما لعلعة البنادق التي كانت ترتفع تارة وتخبو أخرى على سفح التل، فكانت في زعمه تنفس مخلوق حي، فكان يصيخ السمع إلى إيقاع ذلك التنفس.
هتف ملاحظا: هه! ها هو ذا يعاود الكرة.
كان يتخيل نفسه في تلك اللحظة عملاقا جبارا يلقي بيديه الاثنتين القذائف على الفرنسيين.
صاح وهو ينحرف عن مدى تراجع المدفع المنطلق: هيا يا ماتفييفنا، جميل جدا أيها العجوز العزيز!
وفجأة، سمع صوتا آتيا من ورائه يصيح: كابتين توشين، كابتين!
فروعه أن رأى الضابط الركن الذي طرده من جرانت واقفا في تلك اللحظة يناديه بصوت لاهث ويهتف به: ولكن ماذا تعمل؟ هل أنت مجنون؟ هذه هي المرة الثانية التي يصدر إليك فيها الأمر بالانسحاب ومع ذلك ...
فكر توشين وهو يرفع إلى رئيسه نظراته الوجلة: «ماذا يريدون مني أيضا؟» وتمتم وهو يرفع إصبعيه إلى حافة خوذته: أنا؟ أبدا ... إنني ...
غير أن الزعيم لم يستطع القيام بمهمته على الوجه الأكمل، ذلك أن قذيفة مرت فوق رأسه فكادت تلامس شعره، جعلته يغطس على ظهر جواده مرغما، ولما استعاد وضعيته وهم بالكلام، قاطعته قذيفة ثانية، وعندئذ حول عنان جواده وفر هربا.
راح يصيح وهو يبتعد: انسحبوا، انسحبوا جميعكم!
راح الجنود يضحكون، ولم تمض دقيقة واحدة حتى وصل ضابط مساعد يحمل أمرا مماثلا، كان ذلك الضابط هو الأمير آندريه.
كان أول شيء وقعت أبصاره عليه حصان يصهل قرب المكان والدم ينفر من قائمته المحطمة، وكأنه يخرج من قناة جارية، ورأى الجثث متناثرة على الأرض بين عربات جر المدافع، والقذائف تمر الواحدة تلو الأخرى فوق رأسه. سرت في ظهره قشعريرة باردة محمومة، غير أن تلك الفكرة التي أخافته هي ذاتها التي ألهمته الصبر وأمدته بالشجاعة، قال في سره وهو يترجل عن جواده: «لا أستطيع الشعور بالخوف.» نقل الأمر للضابط توشين وقرر البقاء للإشراف بنفسه على انسحاب المدفعية برجالها، فراح توشين والأمير آندريه، يتخطيان الجثث تحت وابل النيران ويشرفان على عملية الانسحاب.
قال الحراق للأمير آندريه: يا لحسن الحظ! إن نبالتكم تختلفون عن السيد الذي كان هنا منذ حين، لقد فر ذاك بأسرع من الريح!
لم يتبادل الأمير آندريه كلمة واحدة مع توشين، كان كل منهما شديد الانهماك والانصراف إلى مهمته؛ حتى ليقال إنهما ما كانا يستطيعان النظر حولهما، واضطر الجنود إلى ترك مدفع معطل وقاذفة القنابل، وبعد ذلك قطر المدفعان الباقيان وبدأ الموكب يسير، وعندئذ دفع الأمير آندريه حصانه نحو توشين وقال له: هيا، إلى اللقاء يا صديقي.
ومد إليه يده مصافحا، فأجابه توشين: إلى اللقاء يا عزيزي ويا صديقي الباسل.
وأردف بعد حين، وقد شعر بالعبرات تندفع من عينيه دون سبب ظاهر وتسيل على وجنتيه: الوداع يا عزيزي!
الفصل الحادي والعشرون
هدوء مؤقت
هدأت الريح وراحت سحب من الغيم الأسود تتداعى منخفضة على ساحة المعركة، وتختلط عند الأفق بدخان البارود الكثيف، وكان اقتراب الظلام يزيد الحريقين المشتعلين في مكانين مختلفين حدة وظهورا، خفت قصف المدفعية وتضاءل تدريجيا، غير أن لعلعة الرصاص ظلت على أشدها عند الخطوط الخلفية، وتزداد عنفا واقترابا إلى اليمين، ولم يكد توشين يخلص بمدفعيته متخطيا خطوط الجرحى، منحدرا إلى الوادي، مبتعدا عن منطقة النار؛ حتى التقى برؤسائه وبالضباط المساعدين الذين عرف بينهم جركوف والضابط الركن، كان جركوف قد أرسل مرتين إلى عش المدفعية الذي يقوده توشين، وأخفق في تينك المرتين في بلوغ الغاية، فلم يصل ولم يبلغ توشين شيئا، راح رؤساؤه يعنفونه بحدة، ويقاطع بعضهم حديث البعض الآخر وهم يوجهون إليه الملاحظات دون أن يغفلوا مع ذلك عن إصدار الأوامر وتوجيهها إلى حيث يجب أن تصل، ولم يجرؤ توشين على الاعتراض، ولم يرد على اللوم الموجه إليه، خصوصا وأنه كان يخشى أن يفتح فمه استعدادا للنطق بشيء؛ لأنه كان يحس برغبة في البكاء عند أول كلمة تصدر عنه؛ لذلك فقد اكتفى بالصمت وراح يسير في مؤخرة «بطاريته»، ممتطيا «كديشته» شأن كل ضباط المدفعية.
وعلى الرغم من أن الأوامر قد صدرت بترك الجرحى في أماكنهم، فإن عددا غير يسير منهم راح يزحف في أعقاب الجيش المنسحب، طالبين أن ينقلوا على عربات المدافع، وكان ذلك الضابط الجميل طويل القامة - الذي أفلت قبل بدء المعركة من كوج توشين محاولا اللحاق بوحدته - مسجى على عربة ماتفييفنا وفي أحشائه رصاصة، وعند سفح التل كان أحد الفرسان التلاميذ يحمل ذراعه بيده السليمة، يبتهل إلى توشين أن ينقله وهو شاحب الوجه خائر القوى، هتف ذلك الفارس الشاب متوسلا بصوت خجل: أيها الكابتين، ناشدتك الله! لقد رضت ذراعي ولا أستطيع متابعة المشي، أستحلفك الله!
كان صوت ذلك الشاب الضعيف الشاحب، بما كان عليه من خور وضعف، يدل على أن صاحبه قد لقي حتى الآن رفضا متكررا من كل من استنجد بهم، أردف يقول: دعني أجلس أتوسل إليك.
فهتف توشين: خلوا له مكانا، خلوا له مكانا.
واستدار نحو جنديه المفضل وهتف به آمرا: هه، أنت أيها «العم» افرش معطفا، ولكن أين الضابط الجريح؟
فأجاب أحدهم: لقد نقل؛ إذ إنه مات. - هيئوا له مكانا، هيئوا له مكانا، اجلس يا صغيري، اجلس، افرش المعطف يا أنتونوف.
لم يكن ذلك الفارس التلميذ إلا روستوف، كان ممتقع الوجه، ترتعد ذقنه من الحمى، وكان يحمل يده المصابة بيده الأخرى، وضعه الجنود على عربة ماتفييفنا، على تلك العربة بالذات حيث رفع عنها الضابط الميت منذ حين، كان المعطف ملطخا بالدماء، فتلوثت به سراويل روستوف ويديه.
قال توشين: لكنك جريح يا صغيري. - كلا، بل مصاب بكسر أو رض. - إذن لم هذه الدماء على المعطف؟
فأجاب أحد المدفعيين - وكأنه يعتذر عن المكان القذر الذي هيأه للفارس الشاب: إنه الضابط يا صاحب النبالة، لقد ترك دماءه هنا.
وراح يمسح الدماء بكم معطفه.
استطاع توشين بعد جهد خارق، وبعد اللجوء إلى مساعدة المشاة، أن ينقل مدافعه إلى ضفة الوادي المقابلة؛ حيث بلغ الجيش المنسحب ضواحي جونترسدورف
Ganthersdorf ، وهنا توقف عن السير، كان الظلام قد هبط بحلكته حتى تعذر على الرجال تمييز ثوب الجندي على بعد عشر خطوات، وكانت طلقات البنادق قد خمدت نهائيا، ولكن لم تمض فترة حتى عاد الرصاص يئز فجأة على الجناح الأيمن مصحوبا بصياح وضجيج، وكانت النيران المنطلقة تضيء الظلام كلما قذفت البنادق ما في أجوافها، كان سبب ذلك الرصاص المفاجئ الهجوم الأخير الذي قام به الفرنسيون، والذي أجاب عليه الجنود الروسيون المحتمون في المنازل، هرع الجنود كلهم خارج القرية باستثناء توشين ومدفعيته، ذلك أن توشين أضحى عاجزا عن الحركة؛ لشدة الإعياء الذي أصابه ذلك اليوم، راح الضباط والمدفعيون والفرسان يتبادلون نظرات قلقة دون أن يتفوهوا بكلمة، ولم تلبث البنادق أن صمتت، وارتفع صخب وضجيج مرتفعين، أحدثهما سيل عرم من الجنود العائدين عبر زقاق في القرية، وهم يتناقشون باحتداد ويتدفقون على شارع القرية الرئيسي.
كان أحدهم يسأل زميله: ألست جريحا يا بيتروف؟
وآخر يقول: يا لها من ضربة أليمة تلك التي أنزلناها بهم! إنهم لن يعودوا بعدها إلى الاحتكاك بنا.
وثالث يقول: لا يرى المرء شيئا في هذا الظلام. لسنا ندري كم ذبحنا منهم، يا للشيطان! أليس مزعجا ألا يرى المرء شيئا؟ هل من سبيل إلى شرب جرعة خمر أيها الرفاق؟
رد الفرنسيون نهائيا على أعقابهم، ومن جديد راحت مدفعية توشين تحف بها إطارات متراصة من المشاة، تشق طريقها وسط ذلك الليل البهيم، أشبه بملكة النحل وسط ثول حافل كبير.
كانت تلك الرحلة في ذلك الظلام، تشبه تدفق مياه نهر عرم، بما تحدثه حوافر الجياد ولفظ الحديث، وعجلات العربات، ووقع الأقدام من ضجيج مكتوم، وكانت تأوهات الجرحى وزمجراتهم تطغى على كل ذلك اللفظ الأصم، فكانوا وحدهم يشكلون مع تلك الظلمات وحدة متينة العرى، وكأنهم خلقوا منها وفيها. وفي فترة ما، وقع صخب بين جماعة من السائرين، ومر فارس على صهوة جواد أبيض يتبعه حرس مواكب وهو يتلفظ بكلمات غير واضحة، فانتثرت الأسئلة من كل مكان؛ أسئلة متلهفة طافحة بالتساؤل والفضول: «ماذا قال الفارس؟ هل وجه إلينا التهاني على ما عملناه؟ إلى أين نمضي الآن؟ هل نتوقف هنا؟» وأعقب ذلك تدافع وازدحام دل على أن الصفوف الأمامية قد توقفت، فشاعت بين الصفوف همسات تقول إن الأمر قد صدر بالتوقف، وعندئذ توقفت الكتلة البشرية الكبيرة وسط ذلك الطريق الموحل.
أوقدت النار في مكانين ووضحت الأصوات، وبعد أن أصدر الكابتين توشين التعليمات اللازمة لاتخاذ التدابير الملائمة المتعلقة بقضاء الليل في ذلك المكان، أرسل من يستقدم عربة إسعاف أو طبيبا لمعالجة الفارس التلميذ، وجلس قرب نار أوقدها الجنود على الطريق، فزحف روستوف حتى بلغ مكان توشين، كان قشعريرة الحمى تجتاح كل جسده؛ بسبب الكسر الذي أصيبت به ذراعه، والبرد والرطوبة اللذان تعرض لهما، وكانت ذراعه تؤلمه ألما شديدا أطار النوم عن عينيه، رغم شديد حاجته إليه، فكان يغمض عينيه حينا ويحدق بالنار المشبوبة التي كان يخيل إليه أنها مصبوغة باللون القرمزي حينا آخر. وبين الحين والحين، كان ينقل بصره إلى توشين الجالس على الأرض على الطريقة التركية محدودب الظهر، ينظر إليه بعينيه الكبيرتين المتوقدتين الطيبتين نظرات مفعمة بالعطف والإشفاق. كان روستوف يشعر في قرارة نفسه أن توشين يود من صميم فؤاده لو يستطيع مساعدته، وأنه يتألم لعجزه عن ذلك.
جلس الجنود المشاة في حلقة دائرية حول النار، فكانت خطواتهم وأصواتهم ترتفع من كل مكان ممتزجة بوقع حوافر جياد الفرسان الذين كانوا يمرون بالقرب منهم. كانت تلك الأصوات والخطوات، ورديان الخيول في الوحول، وفرقعة الأخشاب المشتعلة في النيران المشبوبة القريبة منها والبعيدة؛ تشكل إلى حد ما صوتا أشبه بتلاطم الموج في محيط لجب في ليلة عاصفة، توقف السيل الخفي العرم عن التدفق وسط ذلك الظلام الحالك، وأصبح الحال في تلك الأثناء أقرب شبها بالبحر الزاخر المعتكر، الذي يعود إلى السكون والتماوج الهادئ بعد عاصفة عاتية هوجاء.
راح روستوف ينظر ويسمع ما يدور حوله وأمامه دون أن يفقه منه شيئا، واقترب أحد المشاة، فقعى بالقرب من النار ومد يديه يصطلي الدفء وهو يشيح بوجهه قائلا لتوشين: أتسمح نبالتك؟ إنني كما تراني نبالتك قد أضعت سريتي فلا أدري أين تركتها، آمل ألا يزعجك وجودي.
وفي تلك الأثناء، جاء رئيس من سلاح المشاة معصوب الوجه يوجه الحديث لتوشين، طلب إليه أن يبعد مدافعه قليلا؛ لأنها كانت تعرقل سير عربات مهماته، ثم أعقب ذلك مقدم جنديين يتنافسان على ملكية حذاء يدعي كل منهما أنه له ويكيل للآخر السباب.
كان أحدهم يصيح بصوت أجش: هل التقطته أنت؟ إنك - ولا شك - أسوأ من ذلك حتى تدعي ملكيته!
وجاء جندي هزيل شاحب الوجه، يلف عنقه بجورب ملطخ بالدم، يطلب ماء للمدفعيين بلهجة غاضبة، كان يغمغم بانفعال: إنكم لن تدعوني على كل حال أنفق ككلب حقير!
أمر توشين أن يجاب طلبه، وجاء بعدئذ أحد المهزارين، جاء يطلب شعلة نار بقوله: «أريد نارا صغيرة شديدة الاحمرار لفتيان الصف.» فلما أجيب إلى طلبه قال: شكرا يا أبناء البلد، البثوا في أماكنكم دافئين، أما النار فلا تقلقوا من أجلها، سوف نردها لكم ... عندما تلد أطفالا صغارا!
وابتعد مازحا وهو يلوح بيده قطعة من الخشب المشتعل، وبعد قليل مر أربعة من الجنود كانوا يحملون شيئا ثقيلا في معطف تعاونوا على حمله، فتعثر أحدهم وتمتم محنقا: لا بأس، ها هم قد زرعوا الطريق كلها بقطع الحطب، يا للملاعين!
فقال آخر: ما دام أنه ميت، فأية فائدة نجنيها في نقله؟ - إه! ليحملك الشيطان!
وابتلعتهم الظلمات وحملهم الثقيل.
سأل توشين روستوف بصوت خفيض: وإذن، هل تؤلمك ذراعك؟ - نعم.
تقدم أحد الحراقين في تلك اللحظة يقول: إن الجنرال يطلب من نبالتك المثول بين يديه، إنه هنا في الكوخ على مقربة.
فنهض توشين وزر معطفه وهو يقول: على الفور يا صديقي.
وابتعد وهو يصلح هندامه على قدر استطاعته.
كان الأمير باجراسيون يتحدث مع قواد الأسلحة المتفرقة في كوخ أقيم على عجل لإيوائه قرب حظيرة المدفعيين، كان هناك ذلك الكهل قصير القامة، ذو العينين نصف المغمضتين، يلتهم ضلع خروف مشوي بنهم، والجنرال الذي أمضى في الخدمة اثنين وعشرين عاما وهو في أحسن هندام، وقد أشرق وجهه أثر العشاء اللذيذ الذي تناوله وأقداح الفودكا التي تلذذ بارتشافها بعد ذلك، وكان هناك كذلك الضابط الركن ذو الخاتم الماسي، وجركوف الذي كان يجعل حوله نظرات كئيبة قلقة، والأمير آندريه ممتقع الوجه تلتمع عيناه ببريق محموم.
وفي زاوية من المسكن المتواضع، أسند علم اغتصبه الروسيون من العدو، كان المدني الضخم يلمس القماش الذي صنع منه ويهز رأسه بسذاجة على عادته، لم يكن واضحا إذا كان مهتما حقيقة بتحسس قماش العلم، أم أنه كان مرغما على ذلك بسبب حرمانه من ذلك العشاء الشهي الذي لم يدع للمشاطرة فيه. وفي الغرفة المجاورة كان الضباط الروسيون يتفحصون بشوق ضابطا فرنسيا برتبة زعيم أسره فرسان الدراجون، كان الأمير باجراسيون يهنئ قواد القطعات ويسألهم تفاصيل المعركة التي دارت رحاها ذلك اليوم، ويستعلم عن الخسائر التي مني الجيش الروسي المنسحب بها، وكان قائد السرية التي استعرضها كوتوزوف قرب برونو يروي للأمير أنه عند بدء المعركة أخلى الغابة من جنوده الذين كانوا يجمعون الأخشاب، وأنه نظم صفوفهم؛ حتى إذا مر الفرنسيون انقض عليهم بلواءين كاملين، فقذف بهم إلى الوراء ضربا بالحراب، وأعقب قائلا: ما كدت أرى لوائي الأول في حالة بلبال وفوضى حتى قلت لنفسي: «دعهم يمرون واستقبلهم بعد ذلك بنار حامية الوطيس»، وهذا ما عملته يا صاحب السعادة.
والحقيقة أن ذلك كان ما يريد صنعه، فكان شديد الأسف لأنه لم ينجح في مسعاه، حتى إنه كان مؤمنا كل الإيمان بصدق تقريره عن الحوادث، ولعله لم يكن مخطئا كل الخطأ؛ إذ من الذي كان يستطيع في مثل ذلك الظرف العصيب من الفوضى والاختلاط تمييز الحقيقة عن الخيال؟!
أردف القائد الكبير معقبا وقد تذكر لقاءه القريب مع دولوخوف، وما قصه هذا عليه من عطف الأمير باجراسيون عليه: ولا يفوتني في هذه المناسبة أن أشيد ببسالة الضابط السابق دولوخوف؛ تلك البسالة النادرة التي شهدتها بأم عيني، لقد أسر ضابطا فرنسيا يا صاحب السعادة.
وتدخل جركوف في الحديث قائلا، وهو يجيل حوله نظراته القلقة: وفي تلك اللحظة يا صاحب السعادة أتيح لي أن أشاهد بإعجاب هجوم الفرسان؛ فرسان بافلوجراد.
كان على حق في قلقه؛ لأن في ذلك اليوم لم يلتق بأي فارس من الفرسان، بل كان يعتمد في حديثه بكل سذاجة على أقوال أحد ضباط المشاة. أردف يقول: لقد رأيتهم يشتتون مربعين من الأعداء.
ابتسم بعض الحاضرين عندما شرع جركوف في الحديث، متوقعين منه دعابة مستملحة يطلقها على عادته، لكنهم عندما سمعوه يعقب بجملته الأخيرة مضفيا إكليل غار جديد على هامة الجيوش الروسية، عاد الاتزان إلى قسمات وجوههم رغم أن معظمهم كان يعرف سلفا أن تقرير جركوف لم يكن إلا كذبة صارخة جريئة وقحة.
قال باجراسيون وهو يختص الكولونيل العجوز بمعظم ثنائه: أشكركم جميعا أيها السادة، لقد تصرف الجنود من مختلف الأسلحة، بين مشاة وفرسان ومدفعية، تصرفا يدل على بطولتهم.
ثم أجاب الطرف حوله باحثا عن شخص ما وقال: ولكن كيف حدث أن تركنا قطعتين من مدفعيتنا في الجبهة الوسطى؟
لم يكن باجراسيون يستفسر عن مدافع الجناح الأيسر كلها؛ لأنه كان يعرف من قبل أنها سقطت جميعها في أيدي العدو منذ بدء المعركة؛ لذلك فقد أعقب موجها حديثه إلى الضابط الركن: ألم أكلفك بالإشراف على انسحاب المدفعية من الجناح الأيمن؟
فأجاب الضابط الركن: لقد كان أحد المدافع معطلا، أما الآخر فإنني لا أدري على الضبط سبب تركه. لقد اتخذت كل الإجراءات اللازمة، ولم أترك «البطارية» إلا في اللحظة الأخيرة.
وأردف بشيء من التواضع: الحقيقة أن المدفع كان شديد الحرارة.
فهمس بعضهم أن الكابتين توشين، آمرا المدفعية في الجناح الأيمن، يعسكر قريبا من مركز القيادة، وأنهم أرسلوا في طلبه. وعندئذ قال باجراسيون للأمير آندريه: ولكن أنت؟ لقد كنت هناك أيضا على ما أعتقد.
فبادر الضابط الركن يقول مشفعا كلامه بابتسامة لطيفة وجهها إلى بولكونسكي: بلا ريب يا صاحب السعادة لقد مررنا ببعضنا.
فأجاب الأمير آندريه ببرودة: لم يحصل لي شرف رؤيتك.
وأعقب ذلك صمت عام، وفي تلك اللحظة ظهر توشين على عتبة الباب، فبدا شديد الاضطراب كعادته كلما التقى برؤسائه، وبينما كان يتسلل بخجل وراء الجنرالات في تلك الغرفة الضيقة، تعثر بسارية العلم التي لم يكن قد لاحظ وجودها لشدة ارتباكه، فتعالت بعض الضحكات.
سأله الأمير باجراسيون وهو يقطب حاجبيه برسم الضاحكين الذين كان جركوف أشدهم ضوضاء، أكثر مما عنى توشين بذلك التقطيب: كيف حدث أن أغفل مدفع في ساحة المعركة؟
وفي تلك اللحظة فقط - إزاء جبين القائد العام المقطب - أدرك توشين أنه ارتكب خطيئة كبرى، وأحس بالعار يلحقه؛ لأنه فقد مدفعين وظل بعدهما على قيد الحياة، لقد كان شديد الاضطراب، حتى إنه لم يفكر في هذا الموضوع قبل تلك اللحظة، وقد سببت ضحكات الضابط الساخرة انهيار تجلده التام، فلبث واقفا دون حراك مرتجف الذقن ينظر إلى باجراسيون بارتباك، وأخيرا استطاع بعد عناء شديد أن يغمغم: لست أدري يا صاحب السعادة، لم يبق لدي عدد كاف من الرجال يا صاحب السعادة. - كان يمكنك أن تأخذ حاجتك من جنود التغطية.
وعلى الرغم من أن الحقيقة الصارخة كانت تفسر السبب، فإن توشين لم يجرؤ على القول إنه لم يكن هناك جنود تغطيه قط، كان يخشى إذا صرح بتلك الحقيقة أن يسيء إلى بعض الرؤساء الذين أمروا بانسحاب التغطية؛ لذلك فقد راح يتأمل باجراسيون بصمت دون أن ينطق بحرف واحد، شأن الطالب الذي لا يعرف كيف يجيب على أسئلة فاحصة.
ران الصمت فترة غير قصيرة، كان باجراسيون - ولا شك - يتجنب الظهور بمظهر القاسي الصارم؛ لذلك فإنه لم يجد ما يقوله، وكذلك المجتمعون الآخرون فإنهم لزموا الصمت المطلق متحاشين الشروع في الحديث، وكان الأمير آندريه يختلس النظر إلى وجه توشين ويداه ترتعدان، وفجأة شق صوته الصارم السكون المخيم فوق الرءوس وقال: لقد تفضلتم سعادتكم بإرسالي إلى «بطارية» توشين، ولما ذهبت إلى هناك وجدت أن ثلثي رجاله وخيوله بين قتيل وجريح، وأن مدفعين من مدافعه الأربعة كانا معطلين، ولم يكن لديه جندي واحد من جنود التغطية.
راح باجراسيون وتوشين يحدقان معا في وجه بولكونسكي الذي كان يتكلم بحماس متئد، أردف هذا يقول: وإذا تفضلتم سعادتكم بالسماح لي بإبداء رأيي، قلت إن جانبا كبيرا من نجاح معركة اليوم راجع إلى تدخل بطارية توشين، وإلى البطولة والبسالة والحزم التي أبداها الرئيس توشين ورجاله في هذا اليوم.
لم ينتظر بولكونسكي جوابا، بل نهض واقفا وانسحب عن المائدة، فعاد باجراسيون بأبصاره إلى توشين، ولما كان راغبا عن إظهار تشككه في حكم بولكونسكي الحاسم، فقد أشار برأسه إلى توشين وقال إنه يستطيع الانسحاب، فخرج الأمير آندريه في أعقابه.
قال له توشين: شكرا لك يا صديقي ، لقد أنقذتني.
فشمله بولكونسكي بنظرة حالمة وغادره دون أن يتفوه بكلمة. كان يشعر بحزن يوقر صدره ويعصف بقلبه، لقد كان ما رآه وسمعه شديد الغرابة، مخالفا كل المخالفة لآماله وأحلامه.
راح روستوف يسائل نفسه وهو يراقب الأشباح التي كانت تمر أمامه: «من هم هؤلاء الناس؟ ماذا يعملون هنا؟ ماذا يبتغون؟ ومتى ينتهي كل هذا؟» كان الألم يزداد عنفا في ذراعه، وكان جفناه مثقلان بنعاس قاهر، فراحت عيناه تريه حلقات حمراء آخذة في الاتساع، تتراقص أمامه بين دنو وابتعاد، كانت تلك الأصوات المتلاحقة، وتلك الوجوه المختلفة، وذلك الشعور بالوحدة القاتلة، تتحد في نفسه فتزيد من آلامه وأوصابه، كان أولئك الجنود - بين جريح وسليم - هم الذين يثقلون عليه ويسحقونه، ويقطعون أعصابه ويرهقونها، ويحرقون بشرته بنار وئيدة تلتهم ذراعه المحطمة وكتفه، كان يشعر أنهم أس البلاء، ولما كان يود من صميم نفسه الابتعاد عن ذلك الخيال المخيف الذي يعذب تنكيره، فقد ظن أن من الخير له أن يغمض عينيه.
ألكسندر الأول قيصر روسيا.
لم يفقد حواسه إلا لحظة خاطفة، مع ذلك فقد حلم خلال تلك اللحظة بعدد لا يحصى من الوجوه والأشخاص؛ رأى أمه بيديها البضتين الكبيرتين، وسونيا بكفيها الناحلتين، وناتاشا بعينيها الباسمتين، ودينيسوف بصوته الخشن وشاربيه الكبيرين، وتيليانين وكل قصته الطويلة التي وقعت له مع تيليانين وبوجدانيتش. كانت تلك الحادثة اللعينة متحدة مع الجندي ذي الصوت القاسي، وذينك الشبحين اللذين حطما ذراعه دون رحمة، ولبثا يشدان عليها في اتجاه واحد، تشكل معهم وحدة لا تتجزأ، بذل جهدا خارقا للتخلص من الجندي والشبحين الغامضين القاسيين وتلك القصة كلها، لكنهم لم يفلتوا كتفه ولا ذراعه دقيقة واحدة، ولم يبدلوا مواقع أيديهم على تلك الذراع قيد أنملة، ولعل الشفاء كان قريبا لولا أنهم حطموا ذراعه بتلك الوحشية، أما وأنهم لا زالوا يجذبونها، فإن كل أمل بالشفاء بات وهما، وكل محاولة للخلاص من أيديهم أصبحت فاشلة.
فتح عينيه وراح ينظر إلى الفضاء، كانت حلكة الليل البهيم مخيمة بشدة على المكان، حتى إن النار المشبوبة ما كانت لتبدد من الظلمة إلا على ارتفاع قدمين أو ثلاثة أقدام فوقها وحولها، رأى منفذا من الثلج تتدافع فوق تلك الشعلة الملتهبة، أما توشين فإنه لم يعد بعد، وكذلك الطبيب فإنه لم يصل، لم يكن أمامه إلا جندي واحد عار عن الثياب يجففها على النار، كان شاحب الوجه هزيل البنية، ضعيف التكوين أصفر اللون.
فكر روستوف في سره: «لن أجد أحدا يهتم بشأني، لا يوجد أحد يسعفني ويطببني أو يشفق على مصابي، كيف يمكن أن أنسى أنني منذ وقت جد قصير كنت في منزلي ممتلئا حيوية وبشرا، يحبني كل من حولي!»
أطلق زفرة انقلبت بالرغم عنه إلى زمجرة قبل أن تتبدد في الهواء، فسأله الجندي وهو ينفض قميصه فوق النار: هل تشعر بألم؟
ولم ينتظر جوابا إذ أضاف وهو يكح: لقد أصابوا أناسا كثيرين اليوم! آه، يا للتعاسة!
لم يكن روستوف يصغي إلى قوله، كانت عيناه شاخصتين إلى نتف الثلج المتراقصة فوق اللهب، فتذكر شتاء روسيا والمنزل الدافئ المضيء، والفراء الناعمة والزحافات السريعة، كان يرى نفسه بعين الخيال ممتلئا صحة، محاطا بالعطف والحب ورعاية أسرته، فتمتم يخاطب نفسه: «يا لها من فكرة، تلك التي قادتني إلى هنا!»
لم يجدد الفرنسيون هجومهم صبيحة اليوم التالي، وهكذا استطاع الناجون من جيش باجراسيون بلوغ مواقع كوتوزوف، والالتماق بجيشه الناجي.
الجزء الثالث
الفصل الأول
الكونت بيزوخوف
لم يكن الأمير بازيل من أولئك الذين يعدون خططا مسبقة للمستقبل، ولا من زمرة الذين يفكرون في الإضرار بالناس لجني ربح شخصي، كل ما في الأمر أنه كان من زمرة النبلاء، لاقى نجاحا في حياته واعتاد على النجاح في كل أعماله، لقد كانت تدابيره كلها على اختلاف ألوانها تدين بوجودها وترتيبها للظروف الطارئة، وللون العلاقات التي تربط كلا منها بما يجانسها، فكان مسرح الصخب والتناحر قائما في رأسه، فكان يتبع الظروف في اتجاهاتها غير مفكر في أن ذلك كان سر كل وجوده، كان يحتفظ دائما بخطط كثيرة تهدف كل منها إلى غاية معينة، وكان تفكيره لا يكاد يخلو من عشرات من هذه الخطط، فكان بعضها يخفق وبعضها ينجح، والبعض الآخر يتبخر قبل البدء في تنفيذه، لم يكن يحدث نفسه مثلا: «إن فلانا أو فلانا قد بلغ مبلغ السطوة والنفوذ، فلأكسبن ثقته علني أصل بها إلى نفع ما»، أو مثلا: «ها إن بيير قد أصبح غنيا، فعلي إذن أن أزوجه ابنتي؛ لأقترض منه الأربعين ألف روبل التي أنا في حاجة إليها»، لكنه ما يكاد يلتقي بتلك الشخصية القوية صاحبة النفوذ حتى تحدثه غريزته بأن ذلك الرجل يمكنه أن يكون ذا نفع عميم له، فيربط بينهما علاقة متينة منتهزا أول فرصة تعرض له دون تصاميم مسبقة، ويمتدحه ويرضي غروره، مستعملا معه لهجته الأنيسة التي تشعر السامع أنه يعتبره من أفراد أسرته، ثم يلمح إلى غايته بكلمة عابرة.
ولما كان بيير في تلك الأثناء قريبا من متناول يده في موسكو، فقد عمل الأمير بازيل على إبلاغه رتبة تعادل رتبة مستشار دولة، وأصر على أن يرافقه الشاب إلى بيترسبورج وأن ينزل في ضيافته هناك، لم يكن الأمير بازيل قد نوه بغايته أمام بيير بعد، لكن كيانه كله وقناعته الشخصية استلزما منه ذلك التصرف، الذي كان الأمير بازيل يبذل كل استطاعته وإمكانياته ليبلغ به إلى نتيجة يرتضيها؛ وهي تزويج ابنته بالشاب بيير. ولو أنه كان متدبرا أمره من قبل لما استطاع أن يبدو طبيعيا في تصرفاته إلى ذلك الحد، صريحا في تصرفاته مع رؤسائه ومرءوسيه كما كان عليه حينذاك، لقد كان بازيل مدفوعا بقوى خفية إلى الاحتكاك بأشخاص أوسع منه نفوذا وغنى، وكان يعرف بغريزته وحواسه الفطرية كيف يستخلص من هؤلاء مغنما مهما كان تافها.
شعر بيير، وهو الذي أضحى بين عشية وضحاها «الكونت بيزوخوف واسع الغنى»، أنه أصبح فجأة محاطا بصفوف متراصة كثيفة من الناس، شديد المشاغل والأعمال، وهو الذي كان إلى أمس القريب في عزلة حياة العزب البريئة المريحة؛ لذلك فإنه لم يكن يشعر بالراحة الحقيقية إلا عندما كان يأوي إلى سريره؛ حيث يجد نفسه وحيدا مع نفسه، كان عليه أن يوقع على أوراق كثيرة وأن يقوم بأعمال المكتب؛ أعمال ما كان يدري عن فائدتها شيئا، وكان عليه أن يحضر الحفلات الراقية المتألقة، وأن يهرع إلى استشارة مسجله الرئيسي، أو يزور أملاكه في ضواحي موسكو، ويستقبل عددا لا يحصى من الناس كانوا إلى عهد قريب يتجاهلون وجوده، وأصبحوا الآن يشعرون بمرارة الخيبة إذا رفض مقابلتهم، وكان كل هؤلاء الناس - بين رجال أعمال وأقارب ومعارف عاديين - يظهرون استعدادهم القوي لخدمة الوارث الشاب بما يشبه الإجماع، ويعلنون عن قناعتهم المتينة وإعجابهم العميق بصفاته النادرة، كان لا ينفك يسمع أقوالا تشبه: «بطيبتكم النادرة»، «نظرا إلى قلبكم النبيل»، «أنت الذي تتمتع بروح عالية»، «لو أنه كان على قدر من ذكائكم» ... إلخ. ولما كان يشعر بهاتف داخلي يؤكد له أنه شديد الطيبة جم الذكاء، فقد راح يصدق ما يغدقه عليه أولئك الناس من عبارات الإطراء والمديح ويؤمن بصحتها، كما يؤمن «بطيبته النادرة وذكائه النادر»، وكان أولئك الذين كانوا من قبل يعاملونه بلامبالاة وإهمال، بل وبشيء من الشراسة، يعربون له الآن عن ميلهم وشعورهم الحاني الرقيق، فكبرى الأميرات مثلا - وهي تلك المشاكسة العابسة، ذات الجذع الطويل والشعر المنسدل الأملس كشعر اللعب - جاءت إليه بعيد الجنازة تدخل إلى غرفته لتعلن عن أسفها الشديد لتنافرهما السابق، وهي خافضة البصر متضرجة الوجه، ولم تقف عند ذلك الحد، بل اعترفت أمامه أنه ليس من حقها منذ الآن أن تطلب شيئا، لكنها تلتمس منه السماح لها فقط بالبقاء بضعة أسابيع أخرى في ذلك البيت، الذي كان عزيزا على قلبها حتى إنها ضحت فيه بكل ما في طوقها، ولم تستطع الامتناع عن البكاء فانفجرت منتحبة، وكان ذلك التحول الغريب من جانبها كافيا ليحدث أثره في نفس بيير، الذي كان يعرف الأميرة شخصية باردة جامدة كالمرمر، فأمسك بيدها وسألها الصفح دون أن يدري عن أي شيء يطلب إليها أن تصفح، وراحت كبرى الأميرات اعتبارا من ذلك اليوم تحيك له «لفحة» مخططة من الصفوف، وتعامله معاملة مختلفة كل الاختلاف عما درجت عليه عادتها.
وجاء الأمير بازيل يوما يحمل إذنا مصرفيا بمبلغ ثلاثين ألف روبل باسم الأميرة، وطلب إلى بيير أن يوقع عليه وهو يقول: اعمل ذلك من أجلها يا «عزيزي»، ينبغي أن نعترف أن المرحوم جعل حياتها قاسية جدا.
كان الأمير بازيل يخاف أن تفضح الأميرة الدور الذي لعبه في قضية حافظة الأوراق؛ لذلك فقد راح يسعى لإلقاء تلك العظمة أمام تلك الفتاة المسكينة ليشغلها بها، فوقع بيير على إذن الصرف المخصص للأميرة، وتظاهرت هذه بالمزيد من التودد، أما أختا الأميرة فإنهما لم تختلفا في سلوكهما عن سلوك شقيقتهما الكبرى، أصبحتا شديدتي الحماسة والاندفاع في سبيل مرضاته، حتى إن صغراهما - تلك التي كانت جميلة وعلى وجنتها حسنة - أقلقت بيير أكثر من مرة بابتساماتها المعبرة والارتباك الذي كانت تتظاهر به كلما وقع بصرها عليه.
وكان بيير من جانبه يعتقد أن حب الناس - كل الناس له - أمر طبيعي جدا، وأن عكس ذلك مستحيل، حتى إنه ما كان يفكر لحظة واحدة في الارتياب بإخلاص الأشخاص المحيطين به، أضف إلى ذلك أنه لم يكن يجد متسعا من الوقت للتساؤل عن صراحة المحيطين به أو أنانيتهم، لم يكن لديه الوقت ليعمل شيئا ما، لقد كان يعيش في لون من ثمل دائم فيه نشوة وفيه نشاط، كان يشعر أنه محور حركة عامة دائبة مهمة، وأنهم ينتظرون دائما معلومات جديدة عنه، ويتوقعون منه أمرا إذا لم يفعله فإنه يسيء إلى عديد من الناس ويحزنهم ويخدعهم فيما ينتظرونه منه، وأنه إذا فعل ذلك الأمر، فإن كل شيء - على العكس - يسير في الطريق الصحيحة التي يجب أن يسير فيها، فتعم السعادة ويعم الرخاء.
لم يشرف أحد على رعاية شئون بيير رعاية مستمرة متيقظة، كما أشرف عليها الأمير بازيل في بدء المرحلة، ولم يتوقف ذلك الإشراف عند حل المصالح، بل تعداه إلى بيير نفسه؛ ذلك أنه منذ أن توفي الكونت لم يترك بيير لحظة واحدة، كان يتظاهر بمظهر الرجل الذي توقر الأعمال والمشاغل كاهله، وينهكه التعب ويضنيه، ومع ذلك لا يستطيع لشدة حدبه على بيير أن يترك مصيره للأقدار تتلاعب به وفق هواها، ويترك ذلك الشاب البريء الطيب فريسة سهلة لكل نصاب زنيم، وهو المحروم من كل أسلحة الخبث والدهاء، خصوصا وأنه ابن صديقه الودود، ومالك ثروة هائلة لا تقدر. واستمر طيلة الأيام التي قضاها في موسكو عقب الجنازة، يستدعي بيير أو يذهب بنفسه إلى جناحه؛ ليشير عليه بما ينبغي عمله، وفي كل مرة كانت لهجته المعبرة عن إنهاك شديد تكاد تحدثه قائلة: «إنك تعرف أنني مغمور بالعمل والمشاغل، وأنني إذا كنت أهتم بشئونك فما ذلك إلا على سبيل الإحسان الصرف، ثم إنك تعلم أن ما أعرضه عليك هو الأمر الوحيد الذي يمكن عمله في هذه المناسبة.»
وذات يوم، أعلن الأمير بازيل قراره وهو يربت على ذراع بيير، ويسدل جفنيه على حدقتيه: وعليه يا صديقي، سنرحل غدا ولن يكون رحيلنا قبل أوانه.
كانت لهجته تدل على أن الأمر الذي اتفقا عليه منذ أمد طويل لا يحتمل أي اعتراض، أردف يقول: نعم، سنرحل غدا ولسوف أحملك في عربتي، وسأكون مرتاحا لوجودك معي، لم يعد لدينا هنا عمل هام يستبقينا، وكان علينا أن نغادر موسكو منذ فترة طويلة. آه! لقد تلقيت جوابا من مستشار الدولة الأول، لقد سميت بناء على طلبي نبيلا إداريا، وستكون مرتبطا بالسلك السياسي، لقد أصبح المستقبل مفتوحا أمامك الآن.
وعلى الرغم من الحزم الذي كان في لهجة الأمير المنهكة المترفعة؛ تلك اللهجة التي فاه بها بتلك الكلمات، فإن بيير - الذي كان قد فكر طويلا في مستقبله - كاد أن يصيح محتجا، غير أن الأمير بازيل قاطعه ملتجئا في تلك المرة إلى لهجته الغريدة المنخفضة؛ تلك اللهجة التي ما كان يعمد إليها إلا في الضرورات القصوى، عندما يريد اجتناب كل إمكانيات للرفض: ولكنني يا عزيزي لم أعمل ذلك إلا من أجل نفسي، من أجل إرضاء ضميري، فلا أطلب منك أن تشكرني على صنيعي، ثم إنني لم أر بعد أحدا يشتكي من كثرة محبة الناس له، ثم إنك حر وليس هناك ما يمنعك من طرد كل الناس ورفض كل شيء منذ صباح الغد، إذا راق لك ذلك بنفسك عندما نبلغ بيترسبورج، كذلك فإنني أعتقد أن الوقت قد أزف لتبتعد نهائيا عن هذه الذكريات الأليمة.
أنهى الأمير بازيل كلامه بتلك الجملة، وأشفعها بزفرة وأردف: لقد اتفقنا، أليس كذلك يا صديقي؟ سوف يركب تابعي في عربتك. آه! كدت أنسى؛ إنك تعلم أنني كنت على علاقات مالية مع المرحوم، ولقد قبضت مبلغا على أجور أملاكك في ريازان، لست في حاجة إلى ذلك المبلغ، سوف نتفاهم عليه.
كان ذلك المبلغ الذي تحدث عنه الأمير بازيل موهما أنه مبلغ تافه، أجور مزارع الكونت التي تبلغ عدة آلاف من الروبلات، استملكها الأمير بازيل معتبرا أن من حقه التصرف بها.
رأى بيير نفسه في بيترسبورج قبلة أنظار الناس، كما كان شأنه في موسكو، لم يلق إلا كل من يغدق عليه الإطراء ويمتدحه ويتدلسه، ولما كان لا يعمل شيئا فإنه لم يستطع رفض المركز الاجتماعي الذي أوجده له الأمير بازيل، وتهافتت عليه الدعوات وكثرت واجباته الاجتماعية، حتى فاقت ما أحاطت به في موسكو؛ لذلك فإنه أحس من جديد أنه يطير في دوامة هائلة تبشر بسعادة عميقة، تبدو قريبة منه وإن كانت في كل مرة تنأى عن متناول يديه.
لم يجد في بيترسبورج عددا كبيرا من أصدقاء مرحه السابقين، فقد كانت فرقة الحرس في جبهة القتال، وكان دولوخوف قد نزعت رتبته وآناتول في الجيش، أما في الضواحي فإن الأمير آندريه كان كذلك متغيبا؛ لذلك فإن بيير لم يستطع قضاء ليال جميلة كما كان يفعل عندما كان أولئك الأصدقاء مجتمعين، ولا أن يكشف عن دخيلة نفسه من حين لآخر لذلك الصديق الذي يكبره سنا، والذي كان يحترمه ويقدره كل التقدير، كانت كلها تتبدد بين الولائم والحفلات الراقصة، وفي معظم الأحيان لدى الأمير بازيل في صحبة الأميرة الضخمة وهيلين الجميلة.
ولم تتخلف آنا بافلوفنا شيرر عن تتبع الركب، فأظهرت لبيير أن تحولا كليا قد طرأ على وجهة النظر التي كانت تتمسك بها بصدده، كان يشعر من قبل أن كل ما كان يتفوه به في حضرتها يعوزه الإحكام وتنقصه اللباقة أو المناسبة أو التجانس، فكانت كل كلماته، رغم ما كان يحس به في قرارة نفسه من وجاهتها وإحكامها، تبدو سخيفة حالما ينطق بها بصوت مرتفع، بينما كانت بلاهات هيبوليت وحماقاته تعتبر مقبولة ومعبرة عن بديهة وتوقد ذكاء، أما الآن فقد انعكست الآية، لقد أصبحت أتفه كلمة يفوه بها «رائعة»، حتى إن آنا بافلوفنا إذا لم تعرب عن ذلك بتهافت ومبادرة، فإنه كان يلاحظ أن صمتها ليس إلا عزوفا منها عن إخجال تواضعه.
تلقى بيير في مطلع شتاء عام 1805-1806، بطاقة آنا بافلوفنا المعهودة، تدعوه فيها إلى وليمة أقامتها، وقد ذيلت البطاقة بالملاحظة التالية: «لسوف ترى عندي هيلين الجميلة التي لا يمل أحد من طول التحديق في فتنتها.»
شعر بيير لأول مرة عند قراءته تلك الجميلة أن علاقة ما قامت بينه وبين هيلين؛ علاقة تقبلها كل الناس ولكنها كانت ترهبه وتخيفه؛ لأنها تفرض عليه التزامات لا يستطيع تأديتها، مع ذلك فإن تلك الفكرة كانت تروق له على اعتبارها طارئا مسليا.
لم تختلف حفلة آنا بافلوفنا عن سابقتها إلا في الوجه الجديد الذي راحت تفكه به مدعويها، لم يكن في تلك الليلة مورتمارت كما كان في المرة السابقة، بل دبلوماسي وصل حديثا من برلين يحمل معه آخر الأخبار عن إقامة الإمبراطور ألكسندر في بوتسدام وتفاصيل التحالف المتين الذي تعاهد عليه العاهلان الصديقان للدفاع عن قضية الإنسانية وحقوقها ضد عدو الجنس البشري، استقبلت آنا بافلوفنا بيير وعلى وجهها سحابة من الحزن سببتها - ولا شك - الخسارة القاسية التي مني بها الشاب؛ إذ إن كل الناس كانوا يتظاهرون بإيمانهم الشديد بحزن الشاب على أبيه الذي لم يعرفه، ولم يقض معه إلا طفولة قصيرة، كان ذلك الحزن البادي على وجهها يشبه إلى حد بعيد الخطورة الكئيبة التي تعلو وجهها كلما تحدثت عن سيدتها الجليلة الإمبراطورة ماري فيودوروفنا، فشعر بيير بشيء من التيه لهذا الاستقبال. وزعت آنا بافلوفنا ببراعتها المعهودة مدعويها على جماعات، فكانت الجماعة الرئيسية تحيط بالأمير بازيل والجنرالات الذين كانوا يتلذذون بالتندر والبحث في الشئون السياسية، وكانت جماعة أخرى تحيط بمائدة للشاي، وكان بيير يود من صميم قلبه لو انضم إلى جماعة المتحدثين بالسياسة، غير أن آنا بافلوفنا لم تكد تراه وتقدر عزمه، حتى هرعت إليه مبتهجة مستبشرة وكأنها رئيس في ساحة معركة اشتهر بحسن توجيهاته ودقة آرائه، فلمست ذراعه بيدها وقالت وهي تلقي نظرة إلى هيلين وتبسم له بنفس الوقت: انتظر، إنني أشملك هذا المساء بعنايتي.
وقالت تخاطب هيلين: يا هيلينتي الطيبة، ينبغي أن تكوني محسنة ل «ماتانت»، فما قولك في الذهاب إليها والبقاء معها بضع دقائق؟ إنني أقدم لك عزيزنا الكونت الذي لن يرفض صحبتك خلال هذا الوقت كي يبعد عنك السأم.
مضت هيلين للقاء «ماتانت»، بينما أمسكت آنا بافلوفنا بذراع بيير من جديد واستبقته برهة، متظاهرة بأن عليها قبل أن تطلق يده أن تزوده بنصائحها وتوصياتها الضرورية.
قالت وهي تشير إلى الجمال الصارخ المتجسم في شخص هيلين التي كانت تتجه باعتداد ناحية «الماتانت» بخطوات جليلة مهيبة: ألست تراها رائعة الحسن؟ ثم يا لجمال هندامها! ويا لكياستها ووفرة علمها واتزانها رغم سنها الصغيرة وشبابها المتدفق! إن هذه الميزات طبيعية عندها وهي تدل على جمال قلبها، كم هو سعيد ذلك الذي سيمتلكها! إن أقل الأزواج خبرة في الأوساط الراقية لن يجد نفسه معها إلا وقد أصبح في أوج المجتمع، ألست من هذا الرأي؟
وأطلقت آنا بافلوفنا بيير الذي راح ينعم النظر بإخلاص في مظهر هيلين الأنيق، ولهجتها الحانية المتزنة، لم يكن يفكر - إذا أراد التفكير فيها - إلا في جمالها فحسب، في ذلك الفن النادر الذي تمكنت منه حتى راحت تتخذ مظهرا هادئا صامتا ومعتدا في كل الأندية.
استقبلت «ماتانت» الشابين وهي في زاويتها بتصرف كان يوحي بشديد خوفها من ابنة أخيها آنا بافلوفنا، أكثر مما ينبئ بحبها وتقديسها لهيلين الجميلة، اختلست نظرة إلى ابنة أخيها كأنها تستشيرها في السلوك الذي يجب أن تسير عليه معها، ولما انسحبت آنا بافلوفنا، لمست كم بيير من جديد ، وقالت ملمحة وهي تنظر إلى هيلين: آمل أن تكف عن القول بأن الإنسان يشعر بالسأم في حفلاتي!
أما هيلين فقد أعربت بابتسامة وادعة عن أنها لا تتوقع ألا يعجب كل من يراها ويفتتن بجمالها، سعلت «ماتانت» برهة وابتلعت ريقها ثم أعلنت لهيلين عن سرورها لرؤيتها، ثم وجهت إلى بيير مثل ذلك القول بعد أن سعلت وابتلعت ريقها كذلك، وسلك الثلاثة في حديث لا طائل تحته ولا معنى له، راحت هيلين خلاله تلتفت نحو بيير وتقطعه ابتسامتها المشرقة الصافية؛ تلك الابتسامة التي كان من عادتها منحها للجميع، وكان بيير قد ألف تلك الابتسامة، حتى إنه لم يعد يشعر بها؛ لأنها كانت غير معبرة بالنسبة إليه، وإذا كانت تعبر عن شيء، فإنما عن تفاهة لا طائل تحتها، وفي تلك اللحظة راحت الماتانت تمتدح علب السعوط التي كان الكونت بيزوخوف المرحوم يقتنيها. وبتلك المناسبة، أخرجت علبتها تعرضها على الشابين، فطلبت هيلين رؤية صورة زوج السيدة الفاضلة التي كانت منقوشة على غطاء العلبة تزينه.
قال بيير: إنها - ولا شك - من صنع فينيس (ويقصد بذلك النقاش اليدوي الشهير).
وانحنى على المنضدة لالتقاط العلبة وهو يصيخ السمع إلى الحديث الدائر حول المائدة المجاورة.
هم بالنهوض ليدور حول المنضدة ويلتقط العلبة، غير أن «ماتانت» مدت يدها بها من وراء ظهر هيلين التي رأت من واجبها - تسهيلا لحركة العجوز - أن تنحني قليلا نحو بيير، فانحنت والتفتت نحوه باسمة. كانت ترتدي ثوب سهرة حاسر العنق يبرز الصدر وجزءا كبيرا من الظهر، كما كانت عليه أزياء ذلك العصر، فكان جذعها اللدن الذي كان بيير يتخيله دائما منحوتا في الرخام، شديد القرب منه حتى إنه رغم قصر بصره لم تغب عن عينيه حركات الجيد العاجي والكتفين المرمريتين، كان شديد القرب حتى إنه كان يكفي أن ينحني قليلا حتى يلامس بشفتيه ذلك الجسد الشهي، أحس بدفء ذلك الجسد الفتي واستنشق عبيره، وأصغى إلى فرقعة حمالة النهدين الخفيفة، وبدلا من أن يرى ذلك الجمال والتكوين المرمري الذي كان متحدا مع الزينة الخارجية، أتيح لبيير بتلك الانحناءة أن يرى ويخمن ما تحت ذلك الستر الرقيق من الثياب، ويقدر أن وراءه سحر جسد رائع شديد المفاتن، ومنذ أن وفق إلى ذلك الاكتشاف، استحال عليه أن يرى شيئا آخر كما يستحيل على كل إنسان التعلق بخيال مرة ثانية بعد أن يكتشف حقيقته.
كان يبدو على وجه هيلين تعبير من تقول: «إنك ما كنت ترى أنني غدوت امرأة ناضجة؟ نعم، امرأة تريد أن تصبح ملكا لهذا أو لذلك، لك كما لسواك من الناس»، وعندئذ أحس بيير أن هيلين لا يمكنها أن تكون زوجته فحسب، بل إنها يجب أن تكون زوجته ولا شيء غير ذلك.
لقد أدرك ذلك منذ تلك اللحظة بمثل التأكيد والاطمئنان الذي يشعر بهما لو كان واقفا معها بين يدي القس يبارك زواجهما، أما كيف سيتحقق ذلك ومتى سيتحقق؟ فإنه كان يجهل التفاصيل، بل إنه ما كان يعرف إذا كانت تلك النهاية المنتظرة ستكون حدثا سعيدا أم عكس ذلك - وكان ينتظر الحل الثاني بشكل غامض مبهم - لكنه كان متأكدا من أن ذلك سيتم بالفعل.
خفض بيير أبصاره ثم رفعها وهو يتمنى لو أنه رآها كتلة جمال صارخ حي ناء عنه صعب المنال، كما كان يراها في الأيام السابقة، لكنه ما استطاع إقناع نفسه بوجاهة ذلك وما قنع به، بل إنه كان يستحيل عليه رؤيتها كذلك، كما يستحيل على المرء الذي ظن تحت تأثير الضباب الكثيف أن حزمة من الحشيش إن هي إلا شجرة سامقة، أن يرى بعد انقشاع الضباب الشجرة حزمة من الحشيش، أو أن يخدعه نظره من جديد، لقد كانت شديدة القرب منه، وقد أثرت في شخصه واستولت على لبه، فلم يبق بينهما منذ ذلك الحين من عقبات إلا ما تغرسه في طريقهما إرادته الشخصية.
ارتفع صوت آنا بافلوفنا يقول: حسنا، سأدعكما في زاويتكما، أرى أنكما على أحسن ما يرام فيها.
وعندئذ راح بيير يتساءل بشيء من الارتياع عما إذ لم يكن قد ارتكب فعلا مشينا يستوجب اللوم، فاحمر وجهه وراح يسرح الطرف حوله بنظرات مكتئبة قلقة ، كان يخيل إليه أن كل المدعوين باتوا يعرفون ما وقع له في تلك اللحظة مثل معرفته تماما.
ولما انضم بعد فترة إلى الجماعة الرئيسية قالت له آنا بافلوفنا: يقال إنك تجمل منزلك في بيترسبورج، وتدخل عليه تحسينات جديدة.
والواقع كان كذلك؛ إذ إن ببير - دون أن يعرف السبب لذلك - نزل عند رأي مهندسه الجازم، فأمر بإجراء إصلاحات وإدخال تحسينات جمة على قصره الفخم المنيف في بيترسبورج.
أردفت وهي تبسم: إن هذا حسن، ولكن لا تترك منزل الأمير بازيل، إن من الخير أن يكون للمرء صديق كالأمير بازيل، ألا تراني أعرف شيئا ما؟ ثم إنك شاب في مقتبل العمر ولا زلت بحاجة إلى النصح، أرجو ألا تغضب إذا كنت أسيء التصرف في الحقوق المخولة إلي بوصفي من العانسات المسنات.
وتوقفت قليلا بانتظار عبارة الاحتجاج المألوفة في مثل هذا الموقف عندما تعترف سيدة بتقدمها في السن، ثم أردفت: لكنك إذا تزوجت فإن الأمر يكون مختلفا.
وأشفعت قولها بنظرة شملت الشابين معا.
لم ينظر بيير إلى هيلين ولم تنظر هذه إليه كذلك، لكنها كانت أبدا شديدة الالتصاق به لدرجة مرعبة، غمغم ببضع كلمات غير مفهومة وقد اندفعت الدماء إلى وجهه.
ولما عاد إلى غرفته، جفاه الكرى طويلا ونأى النوم عن عينيه، ظل يفكر فيما وقع له، ترى ماذا حدث له ذلك المساء؟ لا شيء، لقد فهم وأدرك أن تلك المرأة التي كان يعرفها منذ طفولتها، والتي كان يقول بلامبالاة كلما تحدث عنها أو رد على أولئك الذين يطرون جمالها: «آه نعم، إنها لا بأس!» أدرك أن تلك المرأة يمكن أن تصبح له.
راح يحدث نفسه قائلا: «لكنها حمقاء، لقد اعترفت بنفسي بذلك مرارا، هناك شيء من الانحطاط والرداءة في الشعور الذي تلهمه، لقد زعموا أن آناتول أخاها قد أغرم بها، وأنها كانت كذلك مغرمة به تعشقه؛ وقد يكون إبعاد آناتول راجعا إلى هذا السبب، ثم هناك أخوها الآخر هيبوليت وأبوها الأمير بازيل ... هم! إن كل هؤلاء لا يروقون لي.»
وبينما كان يناقش نفسه على هذا النحو دون أن يندفع بأحكامه إلى المدى الأقصى، أحس بابتسامة تلعب على شفتيه، واعترف أن هناك مناقشات أخرى كانت تتغلب في نفسه على تلك الاعتراضات. لقد كان يحلم بجعل هيلين زوجة له رغم اعترافه بتفاهة شأنها ومعرفته الأكيدة لذلك؛ لعلها كانت تستطيع أن تحبه في المستقبل، لعلها كانت خلافا لكل ما ظن بها من سوء، ولعل كل ما قيل عنها ليس مرتكزا على أسس متينة وتعود ابنة الأمير بازيل تخطر في خياله ليس بوصفها ابنته، بل على اعتبارها المرأة التي لا يكاد الثوب الأشهب يغطي جسدها الفاتن. «ولكن لم لم تراودني أفكار مماثلة من قبل؟» ومن جديد راح يؤكد لنفسه استحالة ذلك، وأن ذلك الزواج لن يخلو من شيء مقيت كريه؛ شيء ينقصه الشرف وتأباه الطبيعة، تذكر كلماتها ونظراتها كما تذكر كلمات أولئك الذين كانوا يرونهما معا ونظراتهم، تذكر عبارة آنا بافلوفنا عندما حدثته عن منزله في بيترسبورج، وتذكر ألف تلميح وتلميح صدرت كلها عن الأمير بازيل في مناسبات متعددة وعن أشخاص آخرين، وعندئذ استولى عليه ارتياع شديد؛ ألم يقذف بنفسه في مغامرة تجلب عليه النقد واللوم دون شك، وعليه تحاشيها والتخلص منها؟! لكنه في ذات الوقت، في أحلامه الكثيرة تلك الليلة كانت صورتها هي تبعث بين ألوف الأشياء الأخرى وتطالعه بكل إغرائها الأنثوي البديع.
الفصل الثاني
خطوبة مدبرة
عزم الأمير بازيل في تشرين الأول عام 1805 على القيام بجولة تفتيشية في أربع مقاطعات، وكان قد اعتزم القيام بتلك الرحلة؛ ليتسنى له زيارة ممتلكاته التي كانت أوضاعها المتزعزعة تثير قلقه باستمرار، وكان ينتظر أن يصطحب ابنه آناتول من المدينة التي كانت فرقته مستقرة فيها لزيارة الأمير بولكونسكي العجوز، الذي كان يأمل بالفوز بيد ابنته، تلك الوارثة الغنية، لابنه المهتار. لكنه كان مصمما - قبل الاندفاع في تدابيره الجديدة - على الانتهاء من مشكلة بيير، والحقيقة أن هذا لم يكن يغادر مسكنه منذ أسابيع، تبدو عليه في حضرة هيلين الجميلة بوادر الاضطراب والبلاهة والحياء الشديد، وهي الصفات المعروفة عن العاشقين، لكنه ما كان بعد قد حزم أمره على التصريح بواقع حاله خلافا لما كان ينتظر الأمير بازيل.
وفي صباح ذات يوم، حدث الأمير بازيل نفسه بقوله: «إن كل هذا جميل ورائع، ولكن ينبغي أن أفرغ منه.» وندت عن صدره زفرة عميقة سويداوية، والواقع أن بيير ذاك، الذي كانت له عليه التزامات متعددة - ليباركه الله - لم يكن يتصرف تصرفا سليما في تلك المسألة، كان يحدث نفسه بقوله: «الشباب ... الطيش ... ليباركه الله (ويلذ له إشعار نفسه، بطيبته المتزايدة، بتلك البركات التي يستمطرها عليه) ولكن ينبغي أن نفرغ من هذا، إن عيد ليوليا (وهو تحريف وتدليل لاسم هيلين ابنته) سيحل بعد غد، ولسوف أدعو بعض الأشخاص، فإذا لم يفهم واجبه فإنني سأقوم بواجبي. إنني على كل حال أبوها.»
كانت ستة أسابيع قد انقضت على حفلة آنا بافلوفنا الأخيرة وليلة الأرق تلك، التي قرر بيير فيها أن ذلك الزواج سيسبب له التعاسة، وأن عليه تنكب سبيل هيلين والفرار منها مهما كان الثمن، لكنه مع ذلك لم ينفك عن السكنى في منزل الأمير بازيل طيلة تلك المدة، متطلعا خلالها برعب وذعر إلى أن كل يوم يقضيه هناك يزيده تعلقا بهيلين، وقربا منها في عيون الناس، وأن عودته إلى نفوره السابق منها أمر مستحيل. لقد شعر بعجزه التام عن انتزاع نفسه من بين يدي هذه المرأة التي كان يعتبر ربط مصيره بمصيرها مجازفة خطيرة، عليه أن يتحاشاها، ولعله كان يستطيع رغم ذلك أن ينجو بنفسه من ذلك الخطر، لولا أن الأمير بازيل راح يحيي كل يوم - خلافا لجري عادته - حفلات كان على بيير الظهور فيها إلا إذا كان معتزما تشويه متعة المدعوين بتخلفه، وتبديد أملهم وما ينتظرون. وفي المناسبات النادرة التي كان بيير يجد نفسه فيها في منزله، كان الأمير يهرع إليه فيضغط بقوة على يده مصافحا، ويقدم له وجنته المجعدة لتقبيلها وهو يقول له: «إلى الغد»، أو «تعال لتناول طعام الغذاء معنا، وإلا فلن أعود إلى رؤيتك»، أو كذلك: «إنني سأنتظرك وأبقى خصوصا من أجله»، فإنه ما كان يوجه إلى بيير أكثر من كلمتين اثنتين خلال الجلسة كلها، ولم يكن هذا قادرا على مشاكسته أو الصمود له. وفي كل يوم كان بيير لا يفتأ يردد في سره: «ينبغي أن أفهمها رغم كل ذلك، وأن أصل إلى حقيقتها لأعرف هل كنت مخدوعا من قبل أو أنني أخدع نفسي الآن؟ كلا، إنها ليست حمقاء، كلا، إنها فتاة رائعة، إنها لا تأتي مطلقا أمرا منكرا، إنها تتكلم نادرا، لكن ما تقوله يكون دائما مصيبا وواضحا، فهي إذن ليست غبية حمقاء، إنها ذات مزاج متزن؛ لأنني لم أرها مرة مضطربة مرتبكة، فهي إذن شخصية ممتازة.» وكان غالبا يتورط في التفكير بصوت مرتفع أمام هيلين فيلقي ببعض الآراء، فكانت تجيبه إجابة قصيرة تدل - رغم ما فيها من وفرة المعاني - على استخفافها بتلك الأمور إلا إذا أعربت، خلافا لذلك بنظرة أو بابتسامة صامتة، عن تساميها وتفوقها، ولقد كانت على صواب إذ ماذا تجدي تخرصات الناس وآراؤهم أمام تلك الابتسامة التي تنطق ببيان فصيح لا تعبر عنه الأحرف والكلمات؟!
كانت هيلين تخصه بابتسامة فريدة مرحة مطمئنة، تحمل من المعاني ما لا تحمله ابتساماتها التقليدية الفارغة التي ترسمها على شفتيها في كل المناسبات، وكان كل الناس ينتظرون أن ينطق بيير بكلمة، أو أن يتخطى حدودا معينة، وكان يعرف ذلك تماما كما يعرف أنه سوف يتخطى ذلك الحد آجلا أم عاجلا، لكن رعبا غامضا كان يستولي عليه لمجرد التفكير في تلك الخطوة الآتية، حدث بيير نفسه ألف مرة خلال تلك الأسابيع الست، وهو يشعر أنه يجذب كل يوم أكثر من اليوم الأسبق إلى تلك الهاوية الرهيبة: «ولكن عجبا، إن الأمر لا يعدو وجوب اتخاذ قرار، فهل أكون عاجزا عن اتخاذ خطوة حاسمة؟!»
كان بيير - رغم إصراره على اتخاذ قراره النهائي - يحس دائما بذعر كلما رأى أن التصميم، الذي كان يعتقد أنه جازم وفي طاقته التمسك به، يتبدد ويهجره في موقفه الحاضر. كذلك هو الحال لدى بعض الأشخاص الذين لا يشعرون بحقيقة قواهم الداخلية إلا إذا كان لهم ضمير نقي شديد الصفاء؛ لذلك فإنه منذ ذلك اليوم الذي استولت فيه الرغبة الجامحة عليه بينما كان يعاين علبة السعوط عند آنا بافلوفنا، شل الخبث والمقصد السيئ اللذان نبتا في ضميره كل حركات إرادته.
لم يستقبل الأمير بازيل في يوم عيد هيلين إلا لفيفا من الأقرباء والأصدقاء، أو بعبارة أصح «الحلقة الصغيرة» كما كانت تسميهم الأميرة، وقد أشعر هؤلاء المدعوين بشكل غير مباشر أن مصير ابنة الأمير يتوقف على تلك الحفلة، كانت الأميرة كوراجين - وهي سيدة ضخمة مهيبة الطلعة، ذات جمال لم تعصف الأيام بكل آثاره - تترأس المائدة وحولها المدعوون الأرفع شأنا ومقاما: جنرال عجوز وزوجته، آنا بافلوفنا شيرر ... إلخ. وعلى طرف المائدة، انتظم عدد من المدعوين ممن كانوا أقل شأنا أو أصغر سنا، وكان بيير وهيلين بين هؤلاء يجلسان جنبا إلى جنب. لم يشترك الأمير بازيل في تناول الطعام مع ضيوفه، لقد كان مزاجه شديد الصفاء، فكان يحوم حول المائدة فيجلس تارة قرب هذا وطورا قرب ذاك، هامسا كلمة مجاملة في أذن هذه، أو عبارة شيقة تطري تلك، لكنه لم يقترب قط من بيير وهيلين، وكأنه لم يكن يشعر بوجودهما على الإطلاق، كان يثير حماس الموجودين وشهيتهم، وكانت الفضيات والكئوس «الكريستالية» تلتمع تحت نور الشموع القوي، وكذلك حلي النساء والصفائح الدقيقة الذهبية أو الفضية التي تزين أكتاف الرجال. وكان الخدم بأثوابهم الحمراء ناشطين في خدمة المدعوين وتلبية رغباتهم، ورنين السكاكين وقرع الأقداح واحتكاك الملاعق بالأطباق تختلط بالجدل. ارتفع من أحد أطراف المائدة صوت حاجب عجوز يوجه إلى بارونة عجوز تصريحا منمقا يطري جمالها بلغة البلاط؛ الأمر الذي جعلها تنفجر ضاحكة من ذلك البيان الهزلي، وفي جانب آخر كان القوم يتندرون بضائقات من تدعى ماري فيكتورفنا. أما في الوسط فقد كان الأمير بازيل محور الانتباه، كان يقص على السيدات تفاصيل آخر جلسة لمجلس الدولة الاستشاري وعلى شفتيه ابتسامة هازئة. قال إن تلك الجلسة عقدت يوم الأربعاء الفائت، وإن حاكم بيترسبورج العسكري الجديد، سيرج كوزميتش فيازميتينوف، قرأ خلالها «فرمانا» بخط الإمبراطور ألكسندر، تسلمه عن طريق الجيش. كان الإمبراطور في كتابته الشريفة يخاطب فيازميتينوف قائلا إنه يتلقى من كل مكان كتبا تعرب عن ولاء مرسليها وإخلاصهم، وإن تلك التي أرسلت إليه من بيترسبورج كانت تلقى عند جلالته عناية وتقبلا فائقين، وإنه يحس بفخار لأنه رئيس أمة عظيمة كالأمة الروسية، وإنه يعمل ما في وسعه ليكون جديرا بها. وكان الكتاب الشريف يبدأ بهذه الكلمات:
سيرج كوزميتش، تصلني من كل مكان ...
فسألت إحدى السيدات: إذن، إنه لم يستطع الاسترسال في قراءته أبعد من عبارة «سيرج كوزميتش»؟
فأجابها الأمير ضاحكا: كلا، بل «سيرج كوزميتش، من كل مكان ... من كل مكان، سيرج كوزميتش ...» لم يستطع التاعس الفكاك من هذه الجملة، لقد هم أكثر من مرة بمتابعة القراءة، لكنه كان في كل مرة لا يكاد يتفوه بكلمة «سيرج» حتى ينفجر باكيا، وعند «كوز ... ميتش» يزداد انتحابا، أما عند «من كل مكان» فقد يختنق بالعبرات، فيخرج منديله من جديد ويعاود القراءة: «سيرج كوزميتش، من كل مكان»، غير أن نحيبه كان لا يلبث أن يتعالى أكثر فأكثر، حتى إنه اضطر أخيرا إلى تكليف سواه بقراءة الكتاب الشاهاني!
كرر أحدهم ضاحكا: كوزميتش ... من كل مكان ... وكان يبكي ويرتفع نحيبه!
فهتفت آنا بافلوفنا من الجانب الآخر من المائدة بسبابتها: اعقلوا، إن «فيازميتينوفنا» الطيب رجل باسل ممتاز!
فعم الضحك المائدة كلها؛ ذلك الضحك الذي ما كان ينفك يتردد لأتفه الأسباب، وكان بيير وهيلين الوحيدين اللذين ظلا في مكانيهما صامتين وعلى شفاههما طيف ابتسامة لم تستكمل بعد، لم تكن لتلك الابتسامة أية علاقة بموضوع سيرج كوزميتش، بل كانت ابتسامة احتشام منبعثة عن عواطفهما الخاصة، وعلى الرغم من أن المدعوين لبثوا يتحدثون ويتضاحكون ويتفكهون متلذذين بتذوق خمرة الرين وأطايب الطعام، متظاهرين بعدم الاهتمام بالشابين، فإن نظراتهم المختلسة التي كانوا يوجهونها إليهما من حين إلى آخر، كانت تدل دلالة واضحة على أن فكاهة سيرج كوزميتش والضحكات المدوية والوليمة الحافلة وكل ما يحيط بها ليس إلا خدعة أو ظاهرة يراد بها التمويه ، وأن الاهتمام العام منصب بكليته على الشفع: هيلين وبيير. وبينما كان الأمير بازيل يقلد سيرج كوزميتش في انتحابه، شمل ابنته هيلين بنظرة محيطة، وعندما كان ينقلب على قفاه ضاحكا مقهقها، كان وجهه ينطق بصراحة: «إن كل شيء على ما يرام، وإن كل شيء سيقرر هذا المساء.» وكانت آنا بافلوفنا تدافع عن «فيازميتينوفنا الطيب» وهي تتخذ مظهر المتوعد، غير أن الأمير بازيل كان يقرأ في عينيها خلال تلك النظرة الحادة التي سلطتها على بيير، إنها تهنئه بصهره الجديد المنتظر وبسعادة ابنته المرتقبة. أما الأميرة، فكانت وهي تقدم الخمر لجاراتها تلقي على ابنتها نظرة غاضبة وتزفر زفرة كئيبة، وكأنها تقول: «بلى يا عزيزتي، لم يبق لنا الآن إلا أن نشرب النبيذ الحلو؛ لأن الدور قد أصبح لهذه الشبيبة، وعليها أن تنشر سعادة شديدة السفاهة والوقاحة!» وكان هناك سياسي يرقب وجهي العاشقين المشرقين ويقول لنفسه متسائلا: «لماذا أتظاهر بالاهتمام بكل ما أروي وما أقص؟ إن كل هذا ليس إلا سخافات! والواقع أن هذا وحده هو السعادة الحقيقية!»
وفي غمار ذلك التشاغل التافه الحقير الذي يصطنعه الموجودون ليربط بينهم في تلك الحفلة، انبثق فجأة شعور جديد طبيعي غريزي، كان ذلك الشعور هو الرغبة التي يحس بها أحدهما في الآخر، مخلوقان فتيان نبيلان! كان ذلك الشعور مهيمنا على كل شيء، وكان متفوقا على الثرثرات العرضية التي علت جلبتها في ذلك المكان. فقدت الدعابات ملاحتها والأنباء الجديدة طرافتها وأهميتها، وظهرت الحماسة العامة على حقيقتها مفتعلة مصطنعة، ولقد امتد ذلك الشعور إلى الخدم أنفسهم، الذين كانوا رغم إغفالهم خدمة الشابين متعمدين، لا ينوا يتأملون وجه هيلين المشرق الوضاح، ووجه بيير المضرج بالحمرة بقسماته الكبيرة التي امتزج البشر والقلق في الظهور عليها.
كان بيير يحس أنه أضحى محط أنظار الجميع، فكان يشعر بارتياح يشوبه الاضطراب والارتباك، كان لا يصغي إلى شيء ولا يفقه أو يسمع شيئا شأن الرجل المستغرق في مشاغله، لولا أنه من حين إلى آخر كانت بعض الفكر أو المشاعر البتراء الغامضة تعيده إلى الحقيقة دون سابق إنذار.
كان يفكر في سره: «إذن لقد انتهى كل شيء! ولكن كيف وقع كل هذا؟ أبمثل هذه السرعة؟! إنني أرى الآن أن هذا الأمر ينبغي أن يتم ليس من أجلها هي أو من أجلي أنا، بل من أجل هؤلاء جميعا؛ لأنهم ينتظرون حدوثه بتلهف، إنهم ينتظرون كلهم حدوث «هذا الشيء» بمزيد من القناعة، حتى إنني لا أجد ما يبرر خيبة أملهم، أما كيف سيتم ذلك؟ فإنني لست أدري! غير أن ذلك سيتم، نعم، سيتم حتما.»
وبينما كان مستغرقا في خواطره، كانت نظراته تجوب رحاب تينك الكتفين العاجيتين الرائعتين، القريبتين من عينيه النهمتين، لكن لونا من الخجل استولى عليه فجأة عندما فكر في أنه يحتكر اهتمام الموجودين جميعا، وأنه يبدو أمامهم بمظهر الرجل السعيد، وأنه بوجهه البعيد عن منازل الجمال، يلعب دور باريس
1
في غزو قلب هيلين الجميلة.
راح يحدث نفسه مواسيا: «مع ذلك فإن الأمر دائما يبدو كذلك، ولا يمكن أن يكون على شكل آخر. ثم إنني ماذا عملت في سبيل ذلك؟ متى بدأ هذا الشيء؟ إنني عندما غادرت موسكو مع الأمير بازيل، لم يكن في الأمر شيء من كل هذا، ثم إنني - ولا شك - ما كنت أستطيع رفض النزول في ضيافته، ثم لعبت معها الورق والتقطت حقيبة يدها مرة، ورافقتها في نزهة. فمتى إذن بدأ هذا؟ متى وقع كل هذا؟» وها هو الآن يجلس بقربها وكأنه خطيبها، إنه يسمعها ويراها ويحس بوجودها، يشعر بتنفسها وحركاتها وجمالها. جمالها؟ أوليس جماله هو - وليس جمالها - الذي يجذب كل هذه الأنظار؟ واعتد بنفسه حين بلغ من مناقشته هذا الحد، فاستوى بجذعه ورفع رأسه مغتبطا بسعادته، وفجأة خيل إليه أن صوتا مألوفا لديه ارتفع مرتين، لكنه كان مستغرقا في أحلامه فلم يفهم ما قيل له، ولما كرر الأمير بازيل سؤاله للمرة الثالثة قائلا: إنني أسألك متى تسلمت رسالة بولكونسكي، كم أنت ساهم البال يا عزيزي!
وابتسم الأمير فرأى بيير أن الآخرين جميعهم يشاركونه في الابتسام وعيونهم شاخصة إلى هيلين وإليه، فقال في سره : «ماذا بعد؟ ما دمتم أنكم جميعا على علم بالحقيقة. ثم إنها هي الحقيقة الواقعة.» وافتر ثغره كذلك عن ابتسامته الهادئة؛ ابتسامة الطفل البريء التي استجابت لها هيلين بابتسامة مماثلة.
ألح الأمير مستفسرا وقد بدا عليه أنه في حاجة إلى الجواب ليضع حدا لنقاش معين: ألا تتكلم؟! متى تلقيت تلك الرسالة؟ هل كانت واردة من أولموتز؟
فأسر بيير في نفسه قوله: «كيف يمكنهم الاهتمام بتفاهات كهذه؟» وأجاب بصوت مرتفع مشفوع بزفرة: نعم، من أولموتز.
وانتهى العشاء، فرافق بيير رفيقته إلى البهو أسوة بالآخرين، وأخذ المدعوون ينسحبون تباعا، فكان بعضهم لا يودع هيلين مطلقا، والبعض الآخر يتظاهر بعزوفه عن إزعاجها في انشغالاتها الجدية، فيقترب منها قليلا ثم يستأذن مسرعا ملحفا عليها بالبقاء مكانها معفيها من واجب التشييع؛ فالسياسي انسحب انسحابا صامتا ضجرا لأن حياته كلها بدت لعينيه تافهة إذا قيست بهناء بيير وسعادته، والجنرال العجوز اقتاد زوجته التي كانت تشكو ألما في ساقها وهو يحدث نفسه قائلا: «هه! أيها الحيوان العجوز! انظر إلى هيلين فاسيلييفتا، ها هي ذي امرأة تظل محتفظة بجمالها ولو تخطت الخمسين!» أما آنا بافلوفنا فقد همست في أذن الأميرة الأم قائلة: أعتقد أنني أستطيع تقديم تهاني منذ الآن.
وانحنت عليها تعانقها وأردفت: لولا إصابتي بالبرد لبقيت وقتا أطول.
فلم تجب الأميرة، لقد كانت تغبط ابنتها، بل وتحسدها على سعادتها.
وبينما كان الأمير وزوجه يقودان الضيوف الذاهبين ويشيعانهم، بقي بيير منفردا بهيلين في البهو الصغير دون رقيب، لقد ظل وحيدا معها عدة مرات خلال الأسابيع الستة المنصرمة، لكنه لم يحدثها قط عن الحب، لكنه كان يشعر أن مثل هذا الحديث أصبح الآن ضرورة ملحة، غير أنه ما كان يعرف كيف يبدأ الخطوة الأولى. كان يشعر بالخجل، لقد كان يرى أنه يحتل مكانا قرب هيلين معدا لغيره من الناس، وكان هاتف داخلي يهيب به قائلا: «إن هذه السعادة لم تخلق من أجلك، إنها خلقت لأولئك الذين لا يملكون ما تملكه في نفسك من مشاعر.»
مع ذلك فقد شعر بضرورة التحدث بشيء ما - أي شيء - وحزم أمره على الكلام، سألها عما إذا كانت مسرورة من تلك الحفلة، فأجابته بطهرها وبراءتها المعهودين أن ذلك اليوم كان أجمل أعياد الأعياد في حياتها كلها.
كان بعض الأقرباء المقربين لا زالوا يجالسون الأميرة الأم في البهو الكبير، فجاء الأمير بازيل إلى حيث جلس الشابان يسترق الخطى، فنهض بيير عند قدومه، وأعرب عن تأخره لأن الوقت قد أصبح متأخرا، غير أن الأمير أظهر بنظرة قاسية مستفسرة أن مثل ذلك القول غريب وفي غير محله، لكنه تمالك نفسه على الفور وأمسك بذراع بيير فأجلسه، وابتسم له ابتسامة وديعة باشة.
قال يسأل ابنته بلهجة ماجنة طبيعية لدى الآباء الذين أنشئوا أولادهم في النعيم والدلال؛ لهجة كانت غير واضحة لديه كما ينبغي: وإذن يا لوليا؟
ثم التفت إلى بيير وقال وهو يفك أزرار صدارته: «سيرج كوزميتش، من كل مكان.»
ابتسم بيير، لكن ابتسامته - والتي تعني - للأمير على أنه يفهم تماما أن أقصوصة سيرج كوزميتش ليست هي التي تستأثر بانتباهه إلى هذا الحد في تلك اللحظة، وفهم الأمير كذلك أن بيير لم يكن غبيا كما كان يعتقد، فانسحب وهو يمضغ كلمات غير مفهومة، ولم يفت بيير اضطراب هذا النبيل العجوز ذي الوجه الجامد، وأثر ذلك الارتباك فيه، فالتفت إلى هيلين فبدت هي الأخرى مرتبكة تنظر إليه نظرة ناطقة تقول: «إنها خطيئتك على أية حال!»
خاطب بيير نفسه قائلا: «لا شك أن علي أن أسرع في بلوغ النتيجة لكنني لا أستطيع، لا أستطيع.» وعاد يتحدث في أمور تافهة. سألها عن حقيقة أقصوصة سيرج كوزميتش التي لم يكن قد استوعبها، فاعترفت له هيلين باسمة أنها هي الأخرى لا تعرف عنها أكثر مما يعرف.
ولما عاد الأمير بازيل إلى البهو الكبير، كانت الأميرة تتحدث عن بيير مع سيدة في سن ناضجة: صحيح إنها صفقة موفقة، لكن السعادة يا عزيزتي ...
فأجابتها السيدة المسنة: إن أمر الزواج بيد الله.
بدا على الأمير بازيل أنه لم يسمع تلك المحاورة، وراح يتهاوى على أريكة في أحد الأركان ، ولم يلبث أن أغمض عينيه وكأنه أغفى، ولما سقط رأسه على صدره تمالك نفسه وقال لزوجته: آلين، اذهبي وانظري ماذا يفعلان.
نهضت الأميرة واجتازت الباب وعلى وجهها طابع الخطورة واللامبالاة، فألقت نظرة على البهو الصغير، حيث كان بيير وهيلين يتحدثان، فقالت لزوجها: إنهما لا زالا ينسجان على منوال واحد: الحديث!
قطب الأمير بازيل حاجبيه فتقلص جانب من فمه، واهتزت وجنتاه وانطبع وجهه بذلك الطابع البشع الفظ، وانتفض ونهض واقفا، وألقى برأسه إلى الوراء ومر بالسيدات غير عابئ بهن، واتجه نحو البهو الصغير بخطوات مصممة ثابتة. مضى من فوره إلى بيير الذي ما إن شاهد خطورة قسمات وجهه حتى انتصب واقفا مذعورا.
قال الأمير: حمدا لله، لقد حدثتني زوجتي بكل شيء.
ثم طوق بيير بإحدى ذراعيه وهيلين بالأخرى وأعقب: ليوليا يا فتاتي، إنني سعيد، شديد السعادة ... (واختلجت نبرات صوته من الانفعال) وأنت يا بيير، لقد كنت أحب أباك ... لسوف تكون رفيقة جديرة بك ... ليبارككما الله!
وضم ابنته إلى صدره ثم عانق بيير الذي شعر بأنفاسه الكريهة تحجب وجهه، ومن الغريب أن دموعا حقيقية كانت تبلل جفنيه.
هتف متابعا: تعالي يا أميرة.
وهرعت الأميرة وراحت بدورها تبكي، ثم تبعتها السيدة المسنة التي راحت تمسح دموعها بمنديلها أيضا، معانقتين بيير الذي قبل بدوره يد هيلين أكثر من مرة، وبعد قليل خرجوا نساء ورجالا تاركين الشابين وحدهما.
راح بيير يحدث نفسه: «كان لا بد من وقوع هذه الكارثة، فمن العبث إذن أن أتساءل عما إذا كان الأمر حسنا أم سيئا، والآن وقد حلت القضية فقد تخلصت من شكوكي المتزايدة المقلقة، ولعل في هذا وحده ربحا كافيا.» أمسك بيد مخطوبته بصمت وراح يمعن النظر في حنجرتها البديعة التي كانت تهتز بانتظام.
شرع يقول فجأة: هيلين.
وأرتج عليه، راح يفكر: «إن الإنسان ينبغي أن يقول شيئا في مثل هذه المناسبات.» لكنه لم يتذكر كلمة واحدة من ذلك الشيء الذي يجب أن يقال. حدق في وجهها، فاقتربت منه متضرجة الوجه، قالت وهي تشير إلى نظارتيه: آه! ارفع هذه ال... هذه ال...
فأطاعها بيير ونزع نظارتيه فبدت عيناه مروعتين مستفسرتين إلى جانب التعبيرات الأخرى التي كانت مرتسمة فيهما؛ تلك التعبيرات المألوفة الأخرى التي كانت مرتسمة فيهما، تلك التعبيرات المألوفة عند الذين درجوا على استعمال النظارات عندما ينزعونها، أراد أن ينحني ليقبل يدها، لكن هيلين، بحركة عنيفة من رأسها سريعة غير منتظرة، قربت شفتيها من شفتيه وضغطت بهما عليهما، انقلبت سحنتها بشكل غريب، حتى إن بيير شده لذلك التحول.
قال في نفسه: «ليكن، لقد توغلنا كثيرا حتى تتيسر لنا العودة أو التراجع، ثم إنني أحبها بعد كل شيء»، نطق بقوله: أحبك.
لقد تذكر أخيرا أن هذه الكلمة ومثيلاتها جديرة بالترديد في تلك المناسبة، لكن تلك الكلمة التي تفوه بها خلفت صدى مؤثرا مخزيا، حتى إنه خجل من تلفظه بها.
وبعد ستة أسابيع أخرى تزوج بيير، لقد أصبح المالك السعيد لأجمل امرأة ولعدة ملايين - أو على الأقل هذا ما كان يشاع عنه - فانتقل إلى قصره المنيف الذي أدخل عليه الكثير من التحسينات والإصلاحات؛ قصر كل كونت من آل بيزوخوف.
الفصل الثالث
زيارة غير منتظرة
في تشرين الثاني من عام 1805، تلقى الأمير العجوز نيكولا آندريئيتش بولكونسكي رسالة من الأمير بازيل، يخطره فيها بعزمه على زيارته برفقة ابنه، كانت الرسالة تقول:
إنني سأقوم بجولة تفتيشية، ولا شك أن خمسا وعشرين مرحلة لا تعتبر بالنسبة إلي شيئا مذكورا إذا كان المقصود من قطعها زيارتك يا محسني شديد النبل والاحترام. إن «آناتولي» يرافقني في هذه الزيارة، إنه سيلتحق بالجيش، وإنني آمل أن تسمح له أن يعبر لك شفهيا عن شديد الاحترام الذي يشعر به إزاءك كما يكن مثله لأبيه.
ولما أطلعت الأميرة الصغيرة على تلك الرسالة قالت بطيش: هه، لم يعد من حاجة لدفع ماري في الأوساط، ها إن الراغبين يتبعونها إلى حيث تقيم.
أما الأمير نيكولا آندريئيتش فقد عبس بوجهه ولم يعقب.
وبعد خمسة عشر يوما، جاء رجال الأمير بازيل يعلنون أن سيدهم سيصل صباح اليوم التالي.
كان بولكونسكي العجوز يشعر دائما بتقدير تافه لعقلية الأمير بازيل وشخصه، وقد ازدادت تلك الفكرة قوة في نفسه عندما بلغ بازيل مركزا لامعا على عهد العاهلين بول وألكسندر، وقد أدرك من التلميحات التي وردت في الرسالة من التنويه الذي فاهت به «ليز» الغرض الذي يسعى إليه بازيل، فامتزج الحكم السيئ الذي كان يصدره عليه بشعور بالازدراء والنفور منه، لم يكن يتحدث عنه إلا مغمغما مغضبا، وبلغت شراسته ذروتها في اليوم الذي كان ينتظر فيه وصول الأمير بازيل، فهل كان سيئ المزاج لأن الأمير سيصل ذلك اليوم، أم أنه كان مستاء بصورة خاصة من مجيء الأمير لأنه كان سيئ المزاج؟ على كل حال، لقد كان في وضعية نفسية سيئة حتى إن تيخون أشار على المهندس بعدم تقديم تقريره ذلك اليوم للأمير الغاضب الساخط.
قال له وهو يدعوه إلى الإصغاء إلى وقع خطوات سيده: اسمعه كيف يمشي، ألا يضرب الأرض بكعبيه؟ إننا نعرف معنى هذه المشية.
مع ذلك، فقد قام الأمير بنزهته اليومية المألوفة في الساعة التاسعة صباحا، كان يلبس قلنسوته المعروفة وفروته المبطنة بالمخمل ذات الياقة المصنوعة من فراء السمور، وكان الثلج قد انهمر بغزارة في الليلة السابقة، لكن الممشى الذي كان الأمير يسير فيه كان خاليا من الثلج، لقد كانت الآثار تشير إلى أن الخدم قد أزالوا الثلج عن الممشى وكنسوه، وكانت آثار المكانس والرفوش واضحة، بل إن مجرفة كانت مفروشة في مرتفعات الثلج التي تحيط بجانبي الطريق. تجول الأمير الصامت العابس في حديقة البرتغال وفي الزرائب والإصطبلات وبيوت أتباعه، وتفقد الأبنية والدور المشيدة، سأل وكيله الذي كان يرافقه حتى القصر: هل تستطيع الزحافات المرور؟
فأجاب الوكيل، وهو رجل وقور تكاد سحنته وتصرفاته أن تكون صورة طبق الأصل عن تصرفات سيده وسحنته: هناك طبقة كثيفة من الثلج يا صاحب السعادة، لكنني أمرت بتنظيف الممر.
كان الأمير قد بلغ عتبة القصر، فأومأ برأسه إشارة على الموافقة، فهمس الوكيل في سره: «حمدا لله، لم تهب العاصفة!»
أردف معتبا: ولولا ذلك لما كان من السهل على الزحافة أن تمر يا صاحب السعادة ، ولما كان هناك وزير - كما يقال - آت لزيارة سعادتكم.
وهنا وقع المحذور؛ فقد التفت الأمير بغتة وحدج وكيله بنظرة ملتهبة، وهتف بصوته القاسي الثاقب: ماذا قلت؟ وزير؟ أي وزير؟ من أعطاك هذه الأوامر؟ لا تنظف الأرض من أجل الأميرة ومن أجل ابنتي، ولكن من أجل وزير! أنا لا أعرف وزراء! - كنت أعتقد يا صاحب السعادة ...
فصرخ الأمير وهو يقذف بكلمات لا حصر لها بسرعة متزايدة: كنت تعتقد! كنت تعتقد! آه، أيها الحشرات، يا لكم من أوغاد! سأعلمك كيف تعتقد!
ورفع عصاه فوق رأس آلياتيتش وأهوى بها، فدفعت الغريزة الرجل إلى تفادي الضربة.
استرسل الأمير يقول: لقد كنت تعتقد إذن! أيها القذر!
وعلى الرغم من أن آلياتيتش - الذي روعه أن يجد في نفسه الجرأة على تفادي الضربة التي وجهها إليه سيده - ازداد اقترابا من سيده وهو يحني رأسه الأصلع، فإن الأمير لم يعاود رفع عصاه ليضرب بها الرجل، ولعل اقتراب الوكيل من سيده بتذلل كان السبب في منع تلك المحاولة، غير أنه لم يتوقف عن الصراخ، وإغراق المسكين بوابل من السباب: أيها القذر السافل! دعهم يعيدوا الثلج على الطريق!
واندفع إلى الداخل مغضبا.
وفي ساعة الغذاء انتظرت الأميرة ماري والآنسة بوريين مقدم الأمير وهما واقفتان، كانتا مطلعتين على حالته النفسية طيلة ذلك اليوم، كانت الآنسة بوريين مشرقة الوجه، يخيل للناظر إليها أنها تقول: «لا أريد معرفة شيء، إنني كما أنا دائما.» أما الأميرة ماري فقد كانت ممتقعة الوجه خافضة البصر مروعة، كانت ماري تعرف أنه يجدر بها في مثل هذه الأزمات أن تتخذ مظهر الآنسة بوريين دريئة، فتبدو باسمة مشرقة الوجه مثلها، لكنها ما كانت لتستطيع النجاح في تصنع ذلك المظهر، وكان عجزها يملأ قلبها حزنا ويأسا، كانت تقول في سرها: «إنني إذا تظاهرت بأنني لم ألاحظ عليه شيئا، فإنه يظن أنني لا أعبأ به ولا أحفل بما يصيبه، وإذا عبست واكتأبت فإنه سيقول من جديد أنني حزينة كجلباب الليل!»
وما كاد الأمير يطالع سحنة ابنته المستطيلة حتى انفجر مغمغما: إما أنك عديمة القلب أو حمقاء!
ولما لاحظ اختفاء كنته عن المائدة حدث نفسه قائلا: «ها إن الأخرى ليست هنا! لعلهم ثرثروا أمامها بحديث ما!»
سأل: ترى أين الأميرة؟ هل هي مختبئة؟
فأجابت الآنسة بوريين باسمة: إنها ليست على ما يرام؛ لذلك فقد احتجبت في حجرتها، إن مثل هذه الأمور منتظرة لمن كانت على مثل حالها.
فغمغم الأمير وهو يجلس إلى المائدة: هم، هم!
بدت إحدى الصحاف على غير ما يشتهي، وحدث أنها غير مستوفية النظافة، فأشار بأصابعه إلى «المنطقة» المشبوهة وألقى بالصحفة بعيدا؛ فالتقطها تيخون قبل أن تسقط، وأعطاها لرئيس الخدم.
لم تكن الأميرة الشابة منحرفة المزاج بالفعل، لكنها أعلمت بحالة الأمير العقلية المتوترة، ففضلت التزام حجرتها؛ لأنها كانت تشعر برعب لا يوصف من مقابلته، وهو في مثل تلك الحالة المعتكرة.
همست في أذن الآنسة بوريين قائلة: إنني أخاف على الطفل الذي في أحشائي؛ لأن الله وحده يعرف ماذا سيترك مثل هذا الرعب في نفسي، وماذا سيخلف من نتائج.
كانت منذ وصولها إلى ليسيياكوري تشعر بلون من الخوف من حميمها؛ خوف ممزوج بنفور لم تكن تتبينه بوضوح لشدة ما كان الرعب مستوليا على نفسها. أما الأمير، فإن نفوره منها انتهى بكراهية، ولما تآلفت ليز مع محيطها الجديد، خصت الآنسة بوريين بكثير من عطفها ومحبتها، فلم تقنع بقضاء ساعات النهار في صحبتها، بل رجتها أن تنام إلى جوارها، وبذلك فإنها ما كانت توفر حماها في أحاديثها الكثيرة التي كانت تقطع الوقت بها مع الآنسة بوريين.
قالت الآنسة بوريين وهي تطوي منشفتها الناصعة البيضاء بأناملها الوردية: سوف نستقبل ضيوفا يا أميري، إن سعادة الأمير كوراجين وابنه هما اللذان سيصلان على ما نمى إلي، أليس كذلك؟
وعلى لهجتها الاستفسارية المرحة أجاب الأمير: هم! إن صاحب هذه «السعادة» عديم الشأن، إنني أنا الذي أدخلته في الوزارة! ثم إنني لست أفهم ماذا جاء يعمل عندي الابن، لست أفهم، لعل الأميرة إليزابيث كارلوفنا والأميرة ماري تعرف السبب. أما أنا، فإنني لست في حاجة إلى هذه الشخصية .
وألقى نظره على ابنته ماري التي تضرج وجهها فجأة وأردف: هل أنت مريضة؟ لعله الخوف من الوزير كما يقول آلياتيتش السخيف! - كلا يا أبي.
وعلى الرغم من أن الآنسة بوريين أثارت الحديث دون كبير مقصد، فإنها لم تقبل بالهزيمة، راحت تتحدث عن بيوت البنات الشتوية، وتبدي انشراحها وافتتانها بهزيمة تفتحت أكمامها مؤخرا، حتى إن الأمير لم يكد يفرغ من الحساء حتى لانت أسارير وجهه وانبسطت.
مضى إلى جناح كنته يعودها قبل انتهائه من الطعام، فرآها جالسة على مقعد منخفض تثرثر مع ماشا وصيفتها، فلما وقع بصر ليز على حميها، شحب وجهها، طرأ على وجهها تحول كبير، فغارت وجنتاها، وبدت بشفتها الناتئة وعينيها الشاخصتين أميل إلى البشاعة، أجابت على سؤال الأمير الذي جاء يستفسر عن صحتها: إنني أشعر بشيء من التثاقل فحسب. - ألست في حاجة إلى شيء؟ - كلا، شكرا يا أبي. - ليكن، حسنا.
وانسحب من الغرفة، وبينما هو يجتاز الردهة وجد آلياتيتش مطرق الرأس. - هل أعادوا الثلج على الممشى؟
لقد أعيدت يا صاحب السعادة، أرجو أن تتفضل سعادتك بالصفح عن خطيئتي، لقد تصرفت بحماقة.
غير أن الأمير قاطعه وهو يضحك ضحكته المغتصبة: هيا، انس هذا، حسنا، حسنا.
ومد يده إلى وكيله الذي هرع إليها يقبلها، ومضى إلى مكتبه.
وصل الأمير بازيل قبل المساء، هرع عدد من الخدم والسائقين لاستقباله عند طرف الممشى الذي نثر عليه الثلج عمدا، فلم يتمكنوا من إدخال زحافته وأمتعته إلى جناح القصر إلا بعد عناء شديد.
خصص للأمير بازيل وولده غرفتان مستقلتان.
نزع آناتول سترته، وجلس إلى منضدة راح يحدق في زاويتها بعينيه الكبيرتين الجميلتين، ويداه إلى وركيه، والابتسامة مرتسمة على شفتيه. كانت حياته كلها في نظره عيدا مستمرا دائما، يشرف على تنسيقها منظم خفي، تنحصر مهمته في إعدادها وترتيبها. ومن خلال هذه الزاوية، راح آناتول ينظر إلى زيارته إلى ذلك العجوز النكد ووارثته البشعة، فكر في أن المهزلة قد تكون مسلية، «وما دامت هي على هذا القدر من الغنى، فلماذا لا أتزوجها؟ إن المال ووفرته لا يفسدان شيئا.»
أزال لحيته وتعطر بعناية وتدقيق باتا عادة مألوفة لديه، ثم رفع رأسه الجميل باعتداد مضفيا على نفسه - كعادته - مظهر الفاتح الغازي والشاب الهادئ الوسيم، ودخل إلى حجرة أبيه، كان أبوه منشغلا في زينته وحوله وصيفاه الملازمان له يستجيبان لطلباته، أجال الأب نظرة فيما حوله؛ نظرة ارتياح واطمئنان، واستقبل ابنه بحركة رشيقة من رأسه تدل على مدى سروره وانشراحه، وكأنه يقول له: «رائع، بديع، كذلك كنت أريد أن أراك اليوم!»
سأل آناتول مناقشا موضوعا قتله بحثا وتمحيصا مع أبيه من قبل كما يبدو: دعك عن المزاح يا أبي، قل لي هل هي حقيقة شديدة البشاعة؟ - يا للغباء! المهم هو أن تبدو معقولا ومحترما حيال الأمير العجوز. - لكنه إذا تسبب في شيء لا يروق لي، فإنني سأنسحب على الفور، إنني شديد الخوف من مثل هؤلاء العجائز! - فكر في أن مستقبلك كله متوقف على سلوكك ورضاه.
وفي تلك الأثناء، كانت الوصيفات في غرفة الخدم على علم بوصول الوزير وولده، حتى إن أدق تفاصيل مظهريهما بات معروفا منهن، يتناقشن فيه ويتجادلن حوله، أما الأميرة ماري، فإنها انسحبت إلى غرفتها محاولة عبثا السيطرة على أعصابها وطرد ارتباكها، كانت تحدث نفسها وهي تنظر إلى وجهها في المرآة قائلة: «لماذا كتبوا لي؟ ولماذا حدثتني ليز بالأمر؟ إن ذلك لا يمكن أن يقع، ثم إن علي أن أظهر في بهو الاستقبال، إنني لن أستطيع الظهور أمامه على حقيقتي بعد علمي بما يضمره حتى ولو نال إعجابي ورضاي.» كان مجرد تفكيرها في أنها قد تضطر إلى مجابهة نظرة أبيها تشل أطرافها من الخوف.
هرعت ماشا، وصيفة لويز، إلى سيدتها تنقل إليها وإلى الآنسة بوريين تقريرا مفصلا عن الوزير وابنه وآخر الأخبار المتعلقة بهما؛ لقد وجد الأب صعوبة تذكر في ارتقاء السلم، أما الابن، وهو شاب جميل نضر الوجه أسود الحاجبين، فقد ارتقاه وراء أبيه كالنسر، وراح يتخطى كل ثلاث درجات دفعة واحدة. ولما حصلت الصديقتان على هذه المعلومات، راحتا تتناقشان حول هذا الموضوع نقاشا حاميا، حتى إن صوتيهما كانا مسموعين من الردهة، ولما قصدتا إلى حجرة الأميرة ماري، لم تكونا قد انتهتا من الجدل.
قالت ليز وهي تتهاوى على أريكة؛ لأن انتفاخ بطنها كان يجعل مشيتها عسيرة صعبة: لقد وصلا يا ماري، هل علمت بذلك؟
كانت ليز قد نضت عن جسمها ثياب الصباح، وارتدت واحدا من أجمل أثوابها، وعنيت عناية فائقة بزينتها وشعرها، لكن انفعال وجهها ما كان يخفي التعب والشحوب القاتل المتجليين على قسماته. وكان ذلك الثوب، الذي لا ترتديه إلا إذا كانت مدعوة إلى حفلة رسمية أو اجتماع للنبلاء، يزيد في مظاهر بشاعتها. أما الآنسة بوريين، فقد كانت هي الأخرى قد أدخلت على زينتها تجميلا خيل إليها أنه لن يكون واضحا أو ظاهر الافتعال؛ ولقد بدت حينذاك أكثر جمالا من عادتها وأشد فتنة.
قالت الآنسة بوريين: ماذا؟ هل تبقين كما أنت يا أميرتي العزيزة؟ لن يلبثوا حتى يعلنوا لنا أن هؤلاء السادة قد انتقلوا إلى البهو، فيجب عندئذ أن نلحق بهم، ومع ذلك فإنني أرى أنك لم تصلحي شيئا من زينتك!
نهضت ليز من مكانها، وقرعت الجرس تستدعي الوصيفة، وراحت تجهد نفسها في تزيين سلفتها، كانت ماري تشعر بجرح في كبريائها؛ لأنها كانت مضطربة لمجرد قدوم خطيب، خصوصا وأن صديقتيها ما كانتا تعتقدان غير ذلك الاعتقاد، ولم تكن تريد الإفصاح عن مشاعرها بإظهار ارتباكها في حضرتهما، ثم إنها إذا رفضت إصلاح زينتها، فإنها ستتعرض لإلحاحهما ودعابتهما التي لا تنتهي؛ لذلك فقد انطفأ وميض عينيها الجميلتين، وتضرج وجهها بالاحمرار، واتخذت مسحة الضحية المستسلمة التي طالما ألفتها، وأسلمت أمرها لعناية الصديقتين؛ ليز والآنسة بوريين. وشرعت المرأتان في تجميلها «بكل إخلاص» رغم أن بشاعتها كانت تفوق كل منافسة، راحتا إذن تنصرفان إلى عملهما بصراحة تامة تستلهمان غريزتهما النسوية الساذجة المتأصلة في نفوس كل النساء؛ تلك الغريزة التي تجعلهن يعتقدن أن الزينة هي السلطة التجميلية الوحيدة!
قالت ليز جازمة بعد أن تأملت جانب وجه سلفتها على مسافة معينة: كلا يا صديقتي الطيبة، إن هذا الثوب لا يلائمك، مري أن يأتوك بالثوب الماساكا (وهي كلمة كانت تطلق على اللون الباذنجاني الذي كان يعتبر آخر مبتكرات ذلك العصر). إن الأمر مهم كما تقدرين، لعل مصيرك كله سيقرر اليوم. إن لون هذا الثوب فاتح فاقع، أؤكد لك أنه لا يلائمك، كلا، لا يلائمك.
والواقع أن الثوب لم يكن غير ملائم، بل إن الوجه هو الذي كان غير متجانس، وليس الوجه وحده، بل الجسد كله، جسد الأميرة ماري. غير أنه لا الآنسة بوريين ولا ليز كانت تعرف ذلك. كانتا تعتقدان أنهما إذا ثبتتا شريطا سماوي اللون في شعر ماري المرجل المرفوع إلى أعلى، واحتاطتا الثوب الأسمر بغلالة من ذلك اللون ... إلخ؛ فإن كل شيء يكون على خير ما يرام، لكنهما كانتا تنفيان من حسابهما أن الوجه الهزيل لا يمكن أن يخضع لأي تحويل، بل إنهما كانتا تنسيان أنهما مهما بالغتا في تجميل الإطار وتبديله، فإن ذلك الوجه سيبقى أبدا على بشاعته تلك التي تنتزع العبرات والحسرات. وبعد تجربتين ثلاث تجارب استسلمت ماري لها بكل خضوع، وبعد أن عكفت ليز شعر سلفتها ورفعته إلى الأعلى - رغم أن ذلك كان يشوه منظر وجهها - وبعد أن أثبتت أصابع الآنسة بوريين الغلالة الزرقاء على ثوب الماساكا الجميل، حامت ليز حولها مرة أو مرتين فأصلحت ثنية هنا، وجذب الغلالة من هناك، ثم أحنت رأسها وراحت تتأملها من جانب ثم من آخر، وأخيرا قالت بلهجة الواثقة: كلا، مستحيل، كلا ولا شك يا ماري، إنه لا يلائمك، إنني أراك أكثر جمالا في ثوبك الأشهب الذي ترتدينه كل يوم، كلا رحماك، اعملي ذلك من أجلي.
وضربت كفا بكف، وهتفت تقول للوصيفة: كاتيا، ائتيني بثوب سيدتك الأشهب.
وأردفت تخاطب الآنسة بوريين: انظري يا آنسة بوريين كيف سأجعلها تبدو في ذلك الثوب.
وراحت تتلمظ شأن الفنان الذي يتذوق فنه سلفا.
ولما جاءت كاتيا بالثوب، كانت ماري لا تزال جالسة دون حراك تتأمل تقاسيم وجهها، فرأت ليز في المرآة أن عيني سلفتها ممتلئتان بالدموع، وأن رعدة خفيفة كانت تهز شفتيها شأن من كان على وشك البكاء.
قالت الآنسة بوريين: آه يا عزيزتي الأميرة، ابذلي مجهودا صغيرا آخر.
أخذت ليز الثوب من يدي الوصيفة، واقتربت به من ماري، قالت: والآن، سوف نقوم بتجربة بسيطة وفتانة معا.
واختلط صوتها بصوتي الآنسة بوريين وكاتيا الوصيفة اللتين شاطرتاها الضحك، فتعالت ضجة مرحة مؤنسة.
قالت ماري: كلا، دعيني يا ليز.
كانت لهجتها شديدة الخطورة مشبعة بالألم، حتى إن زقزقة العصافير البهيجة انقطعت على الفور، ولما نظر ثلاثتهن إلى تعبير تينك العينين الكبيرتين الجميلتين المليئتين بالدموع والمقاصد، أدركن أن الإلحاح غير مجد، هذا إذا لم يكن إغراقا في القسوة والتجني.
قالت ليز: أبدلي إذن ترتيب شعرك.
ثم خاطبت الآنسة بوريين بلهجة عتاب ولوم: لقد نبهتك من قبل إلى أن لماري وجها لا يلائمه هذا النوع من «التسريحة» المرتفعة، نعم، إنها لا تلائم وجهها أبدا أبدا، أبدليها فديتك.
فأجابت ماري بصوت مخضل بالدموع: لا، بل اتركنني، اتركنني، سيان عندي ذلك.
واضطرت ليز والآنسة بوريين إلى الاعتراف في سرهما أن ماري كانت - وهي على تلك الزينة - بادية البشاعة، بل أكثر بشاعة من ذي قبل، لكن فات الوقت الذي يمكنها من تلافي الخطأ، نظرت إليهما تلك النظرة الكئيبة الحالمة، تلك النظرة التي كانتا تعرفانها لدرجة أنها ما عادت تخيفهما - رغم أن ماري ما كانت تشعر أحدا بالرهبة أو بالخوف - والتي كانت مع ذلك تجعلهما في مثل هذه الحالة تنطويان على نفسيهما وتلتزمان الصمت.
ظلت ماري وحيدة، لم تتبع نصيحة ليز، بل إنها لم تلق نظرة واحدة على وجهها في المرآة، لبثت كالحة الوجه صامتة مطرقة الرأس متصلبة اليدين، وراحت تحلم في يقظتها، أخذت تتصور زوجها المقبل شخصا قويا مسيطرا، ذا جاذبية غامضة معقدة تساعده على حملها إلى عالمه هو، عالم سعيد مختلف كل الاختلاف عن عالمها، وتتصور طفلها «هي» شبيها لذلك الذي شاهدته أمس لدى ابنة مربيتها، كانت تراه مضموما إلى صدرها وتتصور زوجها ينظر إليهما بحنان، لكنها قالت تحدث نفسها فجأة: «ولكن كلا، إن هذا مستحيل، إنني شديدة البشاعة !»
علا صوت الوصيفة من وراء الباب تقول: لقد أعد الشاي يا سيدتي، وسيصل الأمير فورا.
انتزعت ماري نفسها من أحلامها، وروعت لاستسلامها إلى مثل تلك التخيلات، وقبل أن تبارح غرفتها، عمدت إلى مصلاها حيث حدقت طويلا في الوجه الأسود الماثل في صورة كبيرة للمخلص يضيئها قنديل، ويداها مضمومتان إلى صدرها، كان يعذبها شك مريع؛ ترى هل كانت مدعوة إلى تذوق مباهج الحب؛ الحب الأرضي المكرث لرجل؟ كانت كلما فكرت في الزواج تخيلت السعادة التي يشعر بها المرء في الأسرة، سعادة الأطفال والبيت، لكنها كانت في قرارة نفسها تشعر أنها منذورة لأشواق أرفع من مباهج الأرض، وكان ذلك الإحساس في نفسها شديد الوضوح والصخب، حتى إنها راحت تحاول إخفاءه عن عيون الآخرين بمثل القوة التي كانت تصرفها لمغالطة نفسها في هذا الصدد، تمتمت: «رباه! كيف أستطيع إبعاد هذه الوساوس الشيطانية، خنق هذه الأفكار السيئة إلى الأبد، وإنجاز إرادتك المقدسة بسلام وهدوء؟» لم تكد تنتهي من هذا الابتهال حتى شعرت في قرارة نفسها بالجواب العلوي السامي: «لا ترغبي في شيء من أجل نفسك، لا تبحثي عن شيء ولا تقلقي روحك، لا تحسدي إنسانا، ينبغي أن يظل مستقبلك مجهولا منك كما هو الحال في آخرتك، ولكن نظمي حياتك بشكل تكونين معه مستعدة لكل شيء، فإذا شاء الله أن يبلوك بالتزامات الزواج، فأطيعي مشيئته على الفور دون تردد.»
وإزاء هذه الفكرة المطمئنة - وكذلك في أمل تحقق حلمها المحرم المتعلق بالحب الملتهب - رسمت ماري إشارة الصليب على صدرها وهي تزفر، وهبطت السلم دون أن تفكر في زينتها أو في شعرها، أو أن تهتم بالطريقة التي ستسلكها للظهور في البهو، بل إنها لم تعد تفكر كذلك في المواضيع التي قد تثار وتصبح موضوعا للبحث؛ إذ ما معنى هذه التفاهات إذا قورنت بمشيئة الله القدير؛ ذلك الإله الذي لا يمكن أن تسقط شعرة عن رأس مخلوق إلا بإذنه؟!
الفصل الرابع
أحلام بوريين
عندما دخلت ماري إلى البهو، كان الأمير بازيل وابنه يتحدثان إلى الأميرة الصغيرة والآنسة بوريين . دخلت متمهلة بتثاقل تسير على كعبها بحكم العادة. فلما اقتربت، نهضت الآنسة بوريين وكذلك الأمير وابنه، بينما راحت ليز تهتف مشيرة إليها: «ها هي ذي ماري!» شملتهم ماري بنظرة عامة لم تترك شيئا إلا وأحاطت به، رأت أن الأمير بازيل عاد إلى الابتسام بعد أن حافظت قسمات وجهه فترة وجيزة على تعابير الخطورة المصطنعة التي أسدلها على وجهه، وأن ليز كانت تحاول أن تقرأ على وجهي الضيفين الأثر الذي أحدثه رؤيتهما لماري على تلك الصورة، وأن الآنسة بوريين - وكانت نظرتها أكثر اتقادا من أي وقت مضى - في أوج زينتها وبهائها، تشخص بأبصارها محدقة في وجهه «هو»، أما «هو» فقد كان الشخص الوحيد الذي لم تره رغم وجوده، غير أنها حدست أنه طويل القامة جميل جدا شديد الجاذبية، وقد تقدم نحوها ملاقيا مستقبلا.
انحنى الأمير بازيل بادئ ذي بدء فقبل يدها، فلمست بشفتيها جبهته الجرداء، وأجابت على عبارات المجاملة التي بادرها بها بأنها لا زالت تحتفظ له في نفسها بذكرى ممتازة، ثم أتبع آناتول أباه، لكنها لم تحدق في وجهه، شعرت بيد ناعمة قوية تمسك بيدها، وأن الجبين الذي تحسسته بشفتيها كان أبيض يعلوه شعر أشقر مضمخ بشكل معقول، فلما نظرت إليه أخيرا، أدهشها أن يكون على ذلك القدر من الجمال، كان محنيا رأسه قليلا، واضعا إبهام يده اليمنى في إحدى عرى سترته، عاطفا صدره وظهره معا، مستويا على إحدى ساقيه، يتأمل ماري بصمت بينما كانت أفكاره منصرفة عنها بشكل واضح، وعلى الرغم من أن آناتول لم يكن حاذقا ولا متحدثا لبقا ولا مؤثرا، فإنه كان يتمتع بميزة ثمينة في المجتمع؛ هي بروده واعتداده اللذان ما كانا يزعزعهما حدث مهما كانت قوته، وقد درجت العادة على أن صمت الخجول أمام شخص يقابله للمرة الأولى وقناعته بأنه غير لبق يضفيان على المقابلة برودا ملحوظا، يكون خلاله مجهدا نفسه في التنقيب عن الكلمات المناسبة والعبارات المقبولة. أما آناتول فكان على العكس؛ يصمت دون أي ارتباك ويتبختر أمام ماري متفحصا زينتها بدعة، وكان واضحا أنه يستطيع البقاء زمنا غير قصير على حاله تلك، وكان سلوكه يشعر بأنه «إذا كان سكوتي يؤملك، فتحدثي على هواك، أما أنا، فإنني لست راغبا في الحديث.»
ثم إن آناتول كان يتخذ حيال النساء موقف الترفع والتكبر الذي يوقظ فيهن الفضول والانفعال بل والحب. كانت مواقفه المترفعة تنطق بصراحة قائلة: «إنني أعرفك، إنني أعرفك، فما الفائدة من تهافتي على الترحيب والاهتمام بك؟ إنني لو فعلت ذلك لكنت شديدة السرور!» لقد كانت قسمات وجهه وتصرفاته توحي بذلك حتى ولو لم يكن يفكر مثل هذا التفكير بالفعل، وهو الذي عرف عنه أن التفكير ليس من مزيته وخصائصه! شعرت ماري بتلك المعاني والمقاصد التي تبرزها مظاهر ذلك الشاب وحركاته، ولكي تشعره بأنها لا تريد احتكار صحبته، انخرطت في حديث مع الأمير العجوز، ولم يلبث ذلك الحديث أن أصبح عاما قويا متشعبا بفضل ثرثرة ليز التي كانت شفتها ذات الزغب تكشف باستمرار عن أسنانها البيضاء. كانت تخاطب الأمير بازيل بتلك اللهجة الماجنة التي يستعملها الثرثارون الوادعون، والتي تقضي بإيهام المستمعين أن بينهما ذكريات مشتركة لا يعرفها سواهما، والتي تكون في حقيقتها وهما وخيالا مطلقين، استطاب الأمير بازيل تلك اللعبة فاشترك فيها، وراحت ليز تقص على الحاضرين نوادر من محض ابتكارها وتوهمهم أنها حقائق ثابتة، وأشركت في تلك النوادر الأمير الشاب آناتول الذي لم تكن تعرفه من قبل إلا قليلا، وتاهت الآنسة بوريين في تلك الذكريات المبتكرة المختلفة، حتى إن ماري نفسها وجدت صعوبة في انتزاع نفسها من تيار تلك الذكريات السعيدة.
قالت ليز بالفرنسية طبعا: هنا على الأقل يا أميري العزيز يمكننا أن ننعم بوجودك كليا، إن الأمر يختلف عما كان عليه الحال في حفلات آنيت حيث كنت تنسحب فرارا، هل تذكرها، تلك العزيزة آنيت؟ - لكنك لن تحدثيني في السياسة كما كانت تفعل آنيت! - وماذا عن ذكرياتنا حول مائدة الشاي؟ - آه! نعم.
وسألت آناتول: لماذا لم أكن أراك عند آنيت؟ آه! نعم، إنني أعرف، إنني أعرف!
وغمزت بعينيها وأردفت: لقد حدثني أخوك هيبوليت عن أعمالك ومشاريعك.
وهددته بسبابتها وأعقبت: إنني أعرف حتى مغامراتك الباريسية.
فقال الأمير بازيل لولده وهو يستوقف ليز بإمساكها من ذراعها، وكأنه يجد صعوبة في منعها عن الفرار: غير أن ما لم يكن جديرا بهيبوليت أن يحدثك به هو أنه كان يحوم حول أميرتنا الفاتنة التي طردته بلطف.
وأردف مخاطبا ماري: آه، إنها لؤلؤة النساء يا أميرة!
أما الآنسة بوريين فإنها لم تفلت الفرصة التي أتيحت لها عندما سمعتهم يتحدثون عن باريس، فانبرت تسأل آناتول عما إذا كان قد غادر تلك المدينة منذ زمن طويل، وعن الشعور الذي خلفته في نفسه، فأجابها آناتول بسرور جلي وهو ينظر إليها باسما، وراح يحدثها عن وطنها، كان آناتول بمجرد أن وقع بصره على تلك الحسناء الفرنسية، قد حدث نفسه بأنه لن يسأم النزول في ليسيا جوري ما دامت هذه فيها. كان يتفحصها مدققا ويقول لنفسه: «إنها ليست رديئة، كلا، في الحقيقة إنها ليست رديئة هذه الآنسة المرافقة، إنني آمل أن تحتفظ ماري بها بعد زواجنا، إن هذه الصغيرة لطيفة للغاية.»
كان الأمير العجوز في تلك الأثناء يرتدي ثيابه في مخدعه دون تعجل، كان يتساءل في شيء من السخط عن الخطة التي سيسلكها مع ضيفيه، لقد كان قدومهما يزعجه، كان يغمغم: «ما حاجتي إلى الأمير بازيل وفرخه؟ إن الأب دعي مأفون، أما الابن فلا شك أنه سر أبيه.» لكن سبب سخطه الحقيقي إنما يرجع إلى أن تلك الزيارة تثير مسألة معينة كان يخنقها كلما انطرحت على بساط فكره؛ مسألة كان دائما يفكر فيها ويدرسها من كل وجوهها؛ هل يقرر ذات يوم الافتراق عن ماري بإيجاد زوج لها؟ تلك كانت المسألة التي لم يفكر مرة في حلها بصراحة أو درسها بإقدام، خصوصا وأنه كان يعرف سلفا أن العدل وحده سيملي عليه الجواب، وأن العدل في هذه المسألة يتناقض وعواطفه الشخصية، بل ويتنافى مع شروط وجوده وحياته. لقد كان رغم البرود الذي يتظاهر به، لا يطيق الحياة دون وجود ماري، راح يفكر: «ولم أزوجها؟ لسوف تكون تعيسة حتما في حياتها الزوجية؛ هذه ليز التي تزوجت آندريه، وهو - ولا شك - أحسن الأزواج، ومع ذلك فإنها غير راضية عن مصيرها! ثم من ذا الذي سيتزوج ماري عن حبه لها؟ إنها بشعة وغير لبقة اجتماعيا، لسوف يتزوجونها من أجل علاقاتها وثروتها، فهل يتعذر فعلا بقاؤها فتاة عزباء؟ أبدا، وإنها ستعيش بذلك في سعادة أعم وأوسع!» وبينما هو يضرب أخماسا بأسداس ويستكمل ارتداء ثيابه، شعر أن المسألة التي ظلت متفاوتة زمنا طويلا لن تكون اليوم أكثر تعقيدا، وإذا كان الأمير بازيل قد اصطحب ابنه، فما ذلك إلا ليتقدم بطلب يد ماري، ولا بد من إعطائه جوابا نهائيا، سواء أكان ذلك اليوم أو غدا. نعم، إن الاسم والمركز مناسبان، ولكن ينبغي أن يعرف كذلك إذا كان الخطيب نفسه جديرا بابنته؛ وهذا ما سيتأكد منه بعد حين.
وأنهى الأمير مناجاته بصوت مرتفع قائلا: هذا ما سنراه الآن، نعم، هذا ما سنتأكد منه بعد حين.
دخل إلى البهو بخطاه السريعة الرشيقة، وشمل الحاضرين بنظرة سريعة أتاحت له ملاحظة زينة ليز المحدثة والأشرطة التي كانت الآنسة بوريين تثبتها في شعرها وعلى ثوبها، وابتساماتها التي كانت تتبادلها مع آناتول، وشعر ابنته في ذلك الوضع الكئيب وانطوائها وسط النقاش العام، فحدث نفسه بغضب قائلا: «لقد أظهرت نفسها كأغبى الحمقاوات! لقد فقدت كل حيائها، بينما الفتى لا يعيرها التفاتا!»
اتجه نحو الأمير بازيل وقال له: مرحبا، مرحبا، سرتني رؤيتك.
فأجابه الأمير بازيل بتلك اللهجة الأنيسة الفكهة المتزنة المألوفة لديه: إن مرحلتين لا تعتبران مشقة في سبيل لقاء صديق طبيب قديم، ها هو ذا أصغر أبنائي أقدمه بين يديك.
تأمل الأمير نيكولا آندريئيتش وجه آناتول وقال: لعمري إنه فتى! تعال وعانقني.
وأدار له خده تسهيلا لمهمته.
عانق آناتول الأمير العجوز وهو يتأمله بفضول متحرر منتظرا أن يبادره بإحدى ثوراته الغريبة الشاذة التي حدثه أبوه عنها.
جلس الأمير نيكولا في مكانه المألوف على الأريكة، وجذب إليه مقعدا دعا الأمير بازيل إلى الجلوس عليه، وراح يستفسر منه عن الأحداث الأخيرة، وكان يتظاهر بالإصغاء للأمير ، بينما كانت أبصاره لا تنفك تلاحق ابنته وتراقبها.
قال مكررا كلمات الأمير بازيل الأخيرة، وقد نهض فجأة، واتجه نحو ماري مباشرة: إذن، فإن الأخبار أصبحت ترد الآن من بوتسدام؟
سألها: أمن أجل الضيوف عملت هذه المهزلة؟ لعلك تريدين إظهار نفسك بمظهر الجميلة، ولما كنت قدرت أن من المناسب ترجيل شعرك بطريقة جديدة إكراما للضيوف، فإنني أسرك الأمر أمامهم بألا تعمدي إلى تبديل «تسريحتك» بعد الآن دون موافقتي وإذني.
فتدخلت الأميرة الصغيرة وقد تضرج وجهها: إنها خطيئتي يا أبي.
فأجاب العجوز: إنك حرة التصرف على هواك، أما هي، فلا حاجة بها لأن تبدو أكثر بشاعة مما هي عليه.
وعاد يجلس في مكانه دون أن يعير ابنته التفاتا، وهي التي بلغ بها الخجل مبلغ البكاء.
قال الأمير بازيل: على العكس، إن هذه الطريقة تتلاءم تماما مع الأميرة.
لكن العجوز كان في تلك الأثناء ملتفتا إلى آناتول، قال له: هيا يا فتاي، أو أيها الأمير الشاب - لست أدري على الضبط كيف ينادونك الآن - تعال إلى هنا، ينبغي أن نتحدث وأن نتعارف.
فجلس آناتول قرب الأمير باسما، وهو يفكر في سره: «ها إن المهزلة قد بدأت!»
أردف الأمير العجوز: إذن يا عزيزي، لقد نشأت في الخارج كما قيل لي، أليس كذلك؟ طبعا، إن أمرك يختلف عن أمرنا أنا وأبيك؛ لأننا لم نجد إلا واحدا من جرذان الكنيسة ليعلمنا الكتابة والقراءة!
ثم سأله وهو يحدق في وجهه عن قرب: قل لي، هل انتظمت الآن في عداد الحرس الراكب؟
فقال هذا وهو يكبت ضحكته بجهد بالغ: كلا، بل إنني في عداد الجيش العامل. - جميل جدا، آه، حسن جدا يا صديقي! إنك تريد خدمة القيصر والوطن؟ إننا في حالة حرب، وإن شابا مثلك يجب أن يساهم في الخدمة، إذن هل تذهب إلى الجبهة؟ - كلا يا أمير، إن فرقتي في الجبهة فعلا، لكنني أشغل مركز ملحق ...
وتوجه إلى أبيه بالسؤال قائلا وهو يضحك: إنني ملحق بأي شيء يا أبي، يا للشيطان!
فتضاحك الأمير العجوز وقال : هذا ما يسمى خدمة الوطن! بأي شيء أنا ملحق بحق الشيطان؟! ها، ها، ها!
وانفجر آناتول ضاحكا بكل نفسه، غير أن الأمير العجوز قطب حاجبيه فجأة وقال له: حسنا، اذهب.
فمضى آناتول إلى السيدات والابتسامة لا زالت على شفتيه، بينما تحول الأمير العجوز إلى أبيه يقول: لقد أنشأتهما نشأة ممتازة في الخارج، أليس كذلك؟ - لقد عملت ما في وسعي. والحق يقال؛ إن الثقافة الأوروبية خير من ثقافتنا المحلية. - آه لا شك، كل جديد جميل. لا مجال للبحث في هذا، إنه فتى! هيا، لننتقل إلى مخدعي.
وأمسك بذراع الأمير بازيل وقاده إلى مكتبه، وما إن أصبحا وحيدين حتى أطلعه الزائر على رغبته وآماله.
قال الأمير العجوز غاضبا: أتعتقد مثلا أنني أعترض سبيلها، وأنني لا أستطيع الحياة بدونها؟ هراء يا عزيزي! خذها منذ الغد، فإنني لن أتصدى لها، بيد أني أريد معرفة صهري على حقيقته، إنك تعرف مبادئي؛ كل شيء في وضوح كامل! سوف أطرح عليها السؤال غدا بحضورك، فإذا وافقت، دعه يبقى هنا، نعم، دعه يبقى وقتا ما هنا لأدرسه.
وأعقب بصوت ثاقب يشبه ذلك الذي صرف به آناتول عن نفسه: لتتزوجه، لتتزوجه، لست أبالي!
فقال الأمير بازيل بلهجة صريحة شأن الماكرين الذين يعرفون عقم الخداع مع مستمع نابه ذكي: سأحدثك بكل صراحة، إن من السهل عليك اختراق نفوس الناس وسبر أغوارهم، وإن آناتول لم يخترع البارود، لكنه فتى نبيل وطيب وابن ممتاز. - حسنا، حسنا، سوف نرى.
وكما هي العادة لدى النساء اللواتي حرمن عشرة الرجال زمنا طويلا، فإن نساء ليسيا جوري شعرن عند حلول آناتول بينهن، أن الحياة التي عشنها حتى ذلك اليوم لم تكن حياة بالمعنى الصحيح؛ لذلك فقد تضاعفت ملكات التفكير والشعور والملاحظة في أشخاصهن حتى بلغت عشرة أضعافها، وبدت حياتهن التي كانت حتى ذلك الحين مدفونة في الظلام، منتعشة براقة تخطف الأبصار.
نسيت الأميرة ماري «تسريحتها» اللعينة ووجهها الهزيل. كان ذلك الشاب الجميل ذو الوجه الباش، الذي قد يصبح زوجا لها، يحتكر كل انتباهها، كانت واثقة من أنه طيب باسل كريم وثابت العزم. وراحت ألوف الأحلام، أحلام الهناءة الزوجية المقبلة التي كانت تطردها من مخيلتها عبثا، تزدهر في خيالها.
قالت تهمس في سرها: «ألست شديدة الجمود حياله؟ إنني إذا كنت أبذل ما في وسعي لأسيطر على مشاعري، فما ذلك إلا لأنني أحس في قرارة نفسي بأنني أصبحت شديدة القرب منه، لكنه يجهل كل ما أفكر به، ولعله يعتقد أنه لم يعجبني.»
وراحت ماري تحاول الظهور بمظهر الأنيسة المرحبة بالقادم الجديد، بينما كان آناتول يفكر في نفسه: «يا للفتاة المسكينة! إنها شديدة البشاعة!»
أما الآنسة بوريين فقد نبتت في رأسها أفكار من لون آخر، لقد كانت هي الأخرى مثارة أقصى الإثارة بمقدم هذا الفتى الجميل، كانت تنتظر منذ وقت طويل أن يتقدم منها أمير روسي، يشعر للوهلة الأولى بتفوقها على لداتها الروسيات البشعات الغبيات اللواتي لا يجدن ارتداء ثيابهن وإظهار فتنتهن، فيقع صريع غرامها للنظرة الأولى. وها إن ذلك الأمير الفتان قد جاء في تلك اللحظة. كانت تعرف أن فتاة مثلها، محرومة رغم جمالها من أي مركز ممتاز في المجتمع، محرومة من الأقارب والأصدقاء حتى من الوطن، لا يمكن أن تقبل البقاء أبدا حيث هي؛ تكرس حياتها للأمير نيكولا آندريئيتش، وأن تظل إلى الأبد رفيقة الأميرة ماري ومقرئتها، وكانت الآنسة بوريين شديدة التعلق بأقصوصة حفظتها عن عمتها، كانت قد حاكت لها نهاية من محض ابتكارها وخيالها. كانت قصة فتاة جميلة أغراها رجل، فاستسلمت له دون أن يجمعهما زواج رسمي، وكانت الآنسة بوريين تذرف الدمع السخي كلما فكرت في خيالها أنها ستروي هذه القصة بالذات للفارس الذي سيغريها في المستقبل وينالها. أما الآن فإن ذلك الفارس لم يعد خيالا، بل «إنه» موجود بالفعل أمامها، إنه أمير روسي عريق، ولسوف يختطفها وينالها وينتهي الأمر أخيرا بالزواج، تلك كانت خطوط المغامرة التي كانت تبدو في الأفق أمام ناظري الآنسة بوريين، التي كانت تتحدث مع آناتول عن باريس، لقد انقلبت القصة الخيالية إلى حقيقة بدأت خيوطها تبزغ عند الأفق، لم تكن تخضع في نفسها لأي حسبان، وهي التي لم تفكر قط فيما كان يجب عليها صنعه، لكنها كانت قد رتبت أقصوصتها منذ زمن بعيد، حتى إن كل التفاصيل بدأت تجتمع تلقائيا في تلك اللحظة وبشكل طبيعي تماما، وراحت خيوطها تلتف حول آناتول، ذلك الفتى، فتى أحلامها الذي طالما تاقت إليه، والذي كانت تبرز أمامه كل فتنتها وروعتها.
وكانت ليز، كالحصان المدرب الذي يقفز عند سماعه البوق يقرع بالنداء، متحفزة للاندفاع في سباق الرشاقة، متناسية حالتها الصحية، متجاهلة ما قد يترتب على ذلك، خصوصا وأنها ما كانت تغذي أية فكرة أو تهدف إلى أية غاية من وراء ذلك التهافت، اللهم إلا تلك الرغبة البريئة الساذجة التي تدفعها إلى الظهور بطيش وتهور.
وكان آناتول - وهو الذي درج في حضرة النساء على اتخاذ مظهر الإنسان الذي أنهكته ملاحقاتهن وتعلقهن - يشعر بلذة فائقة وهو يرى نفسه محور التفاف كل نساء البيت ومدار اهتمامهن، أضف إلى ذلك أنه لم يلبث حتى شعر نحو بوريين الجميلة المثيرة برغبة من تلك الرغبات الهوجاء الملحة التي كانت تستحوذ أحيانا على كيانه، وتقسره على التصرف تصرفا طائشا، وارتكاب أقسى الخطيئات وأكثرها تهورا.
انتقل الضيوف وصحبهم إلى البهو الصغير بعد تناول الشاي، وهناك طلب إلى ماري أن تعزف على الأرغن، واتكأ آناتول بالقرب منها على مرفقيه بجانب الآنسة بوريين، وراح يصوب إلى وجهها نظرات وادعة بسامة، وكانت ماري تشعر بارتباك مصدره السرور الذي تحس به والقلق من إحساسها المرهف بتلك النظرة المسلطة عليها، وكانت القطعة الموسيقية المفضلة عندها التي كانت تعزفها قد حملتها إلى عالم سري شاعري، ازداد بهاؤه التماعا وفتنة بتلك النظرة المغضبة عليها، والحقيقة أن تلك النظرة - رغم ما كان يبدو عليها من أنها موجهة إليها - لم تكن متوقفة عند ماري، بل كانت تراقب بدقة حركات قدم الآنسة بوريين الصغيرة التي تعمد آناتول الاحتكاك بها تحت المعزف، وكانت الآنسة بوريين تنظر بدورها إلى ماري، غير أن عينيها الجميلتين كانتا تحملان مسحة واضحة من السرور الكئيب، وأملا في ألا تراها ماري وهي في وضعها ذاك مع آناتول.
كانت الأميرة تفكر في سرها: «كم تحبني بوريين! كم أنا سعيدة الآن! يا للهناء الذي ينتظرني في حياتي الزوجية المقبلة مع صديقة كهذه وزوج كهذا! ولكن هل سيصبح زوجي حقيقة؟» كانت تشعر بعيون آناتول وهي تتفحصها، لكنها ما كانت تجرؤ على اختلاس نظرة واحدة إليه.
ولما حان الوقت للافتراق بعد العشاء، قبل آناتول يد ماري، وبوغتت هذه من جرأته فنظرت إلى وجهه الجميل القريب منها بعينيها الضعيفتين نظرة كلها تساؤل، وببساطة مفاجئة كان لها الأثر في تخفيف حدة تلك الحركة النابية، هم آناتول بتقبيل يد الآنسة بوريين أيضا، فتضرج وجهها خجلا وراحت تستشير ماري بنظرة ذاهلة.
حدثت ماري نفسها: «يا للرقة المتناهية! هل تعتقد أميلي - وهو الاسم الأول للآنسة بوريين - أنني أغار منها أو أنني لا أقدر حنانها وإخلاصها حق قدرهما؟» واقتربت منها فعانقتها بحرارة لتزيل شكوكها.
واقترب آناتول من الأميرة الصغيرة، فهتفت هذه نافرة وهي تلوح بإصبعها مهددة: كلا، كلا، كلا! لن أعطيك يدي لتقبلها قبل أن يكتب لي أبوك مؤكدا أنك أصبحت تسلك سلوكا حسنا، أما الآن فلا.
وأفلتت خارجة.
الفصل الخامس
جواب ماري
نام آناتول وحده نوما هانئا تلك الليلة، أما الآخرون، فقد قضوا جميعهم ليلة مضطربة قلقة.
كانت ماري لا تفتأ تتساءل: «هل سيصبح زوجي، هذا المجهول الذي يبدو لي شديد الطيبة، رائع الجمال؟» ويستولي عليها جزع مفاجئ، وهي التي ما كانت تشعر بالخوف من قبل، ما كانت تجرؤ على النظر إلى زاوية حجرتها، كان يخيل إليها أن بعضهم كامن هناك في الزاوية المعتمة وراء الحاجز، وأن ذلك المختبئ كان الشيطان المتقمص في جسد رجل أبيض الجبهة أسود الحاجبين قرمزي الشفتين، فقرعت الجرس مستدعية وصيفتها، وطلبت إليها أن تنام معها.
وظلت الآنسة بوريين فترة طويلة تتنزه في حديقة النباتات الشتوية منتظرة عبثا قدوم فارس ما، فكانت تبتسم تارة للقادم الموهوم، وأخرى يأخذها التحنان حتى تطفر دموعها من عينيها، وتتصور اللوم العنيف الذي ستتعرض له مثلما تعرضت فتاة أقصوصتها المسحورة بفتنة فارسها الجذاب.
أما الأميرة الصغيرة، فقد وجدت سريرها غير منسق كما يجب، فعنفت خادمتها، لم تكن تستطيع النوم على جنبها ولا على صدرها، وكانت كل وضعية أو استلقاءة تسبب له ألما وشكوى، كان حملها يبهظها ويربكها، ويزيد في إزعاجها ما أثاره مقدم آناتول في تلك الليلة من ذكريات عهد كانت فيه بعيدة عن مشاكل الحمل، تتذوق المتعة وهي هيفاء القد متأودة العود منشرحة الصدر، غرقت في أريكة لينة وهي في جلبابها وقلنسوة النوم على رأسها، وراحت تنظر إلى وصيفتها كاتيا، التي كانت تسوي وتقلب الفراش الكبير الثقيل المحشو بالريش للمرة الثالثة، وهي مشعثة الشعر، يثقل النوم في أجفانها.
كررت احتجاجها بصوت متهدج كالطفل الذي يهم بالبكاء: لقد قلت لك إنه مليء بالأخاديد والنتوءات، إنني في أشد الحاجة إلى النوم، وأؤكد أنه لو كان الأمر مقتصرا علي وحدي ...
أما الأمير العجوز فقد ظل ساهرا وقتا طويلا من الليل خلافا لمألوف عادته. وكان تيفون الذي ينام بعين واحدة ويسهر بالأخرى، يسمع وقع خطوات سيده الغاضبة، وتنهداته الحارة العميقة. كان الأمير يعتقد أنه أهين في شخص ابنته. وكانت تلك أشد الإهانات وقعا على نفسه؛ لأنها لم تكن موجهة إليه مباشرة، بل كانت تستهدف شخصا يحبه أكثر من حبه لنفسه، وعلى الرغم من أنه دأب يكرر في سره أنه سيجد لهذه المسألة حلا مرضيا بالتفكير العميق فيها، فإن انفعاله كان في تزايد مستمر.
كان يغمغم قائلا: «لا يكاد أول طالب زواج يظهر على الباب، حتى تتناسى الآنسة الفاضلة أباها وكل ما تبقى، فيضيع رشادها، وتهرع إلى المرآة لتتبرج وترتمي متهالكة! آه، إنها سعيدة بتركها أباها! لقد كانت تعرف أنني لن أغفل عن رؤيته؛ ذلك الغبي الذي لم يرفع أنظاره عن بوريين! هذه واحدة ينبغي طردها على الفور! كيف لم تلاحظ ماري تصرفهما؟! كان عليها أن تخجل مني إذا كانت لا تخجل من نفسها، ينبغي أن أطلعها على أن هذا المخاتل المتصنع لا يفكر فيها مطلقا، بل يفكر في بوريين. ولما كانت لا تملك شيئا من الاعتداد والكرامة ، فإن من واجبي أن أدلها على ما تعمل وأن أفتح عينيها ...»
كان الأمير العجوز يدرك تماما أنه إذا أثبت لابنته أن اهتمام آناتول كان منصبا على الآنسة بوريين وحدها، فإنه بذلك يدمي كرامتها، وبذلك ينجح في مبتغاه، فترفض الابتعاد عنه. فلما بلغ من مناقشته هذا المبلغ، قرع الجرس مستدعيا تيخون الذي راح يعد له ثياب النوم.
وبينما كان تيخون يحجب جسده الأعجف النحيل ذا الصدر المغطى بالشعر الأشهب، كان الأمير يحدث نفسه: «ما كنت في حاجة إلى زيارتهما! لقد جاءا يقلبان حياتي كما لو كنت مستغنيا عنها!»
صرخ ورأسه لا زال محجوبا بالقميص الذي لم يتخلص منه بعد: ليذهبوا إلى جهنم وكل الشياطين!
كان يحدث أحيانا أن يعبر الأمير عن آرائه بصوت مرتفع، وكان تيخون يعرف عادات سيده؛ لذلك فقد جابه نظرته المستفسرة الغضبى، التي ظهرت خلال فتحة القميص بوجه مشرق خلي.
سأل الأمير: هل ناموا؟
كان تيخون خادما ممتازا، وكان يفهم مرامي سيده من كلماته الأولى؛ لذلك فقد أدرك على الفور أنه يعني بذلك السؤال الأمير بازيل وولده، فقال: نعم يا صاحب السعادة، وقد أطفئوا الأنوار في حجراتهم.
غمغم الأمير مزمجرا: لكأنني كنت في حاجة إلى أمثالهم!
ثم انتعل خفه، ولبس معطفه المنزلي، ومضى يستلقي على الأريكة التي كانت تقوم عنده مقام السرير.
وعلى الرغم من أن آناتول والآنسة بوريين لم يتبادلا كلمة واحدة حول شعورهما، فقد فهم كلاهما أن لديهما كثيرا مما يودان التحدث به في جلسة هادئة لا ثالث فيها. لقد أدرك كلاهما خطوط الرواية التي يفكر فيها الآخر، أو على الأقل الجزء الأول منها؛ الإغراء والاستسلام؛ لذلك فإن الصباح التالي ما كاد يكتحل طرفه بالضياء حتى راح كل منهما يبحث عن الآخر ليختلي به، ولما كانت ماري تذهب عادة في ساعة معينة كل صباح لتحيي أباها تحية الصباح، فقد أتيح لبوريين أن تقابل آناتول في الحديقة الشتوية.
كانت ماري ترتعد ذلك الصباح لدى ولوجها باب غرفة أبيها أكثر من عادتها، كانت تعتقد أن كل من حولها أصبحوا يعرفون ليس أن مصيرها على وشك التقرير فحسب، بل كذلك أفكارها الشخصية وأحلامها المكتومة. بدا وجه تيفون لعينيها يعكس تلك الأحاسيس بكل صراحة، وكذلك خيل إليها أن خادم الأمير بازيل، الذي قابلته حاملا إناء ممتلئا بالماء الحار ذاهبا به إلى غرفة سيده، مطلعا على كل شيء بدليل التحية العميقة التي ابتدرها به لما مر بقربها في سبيله.
استقبل الأمير العجوز ابنته بترحاب وبشاشة تنذر - كما عرفت ماري لطول خبرتها - بأسوأ النتائج، كان وجهه منطبعا بمثل التعابير التي كانت تقرؤها عليه إبان دروس الرياضيات، عندما كان يثيره عدم استيعابها للشروح التي كان يفسر بها الدرس اليومي، كان يطبق قبضته، وينهض من مكانه مبتعدا عنها، ويكرر الكلمة نفسها مرات عديدة بصوت أجوف جامد.
هاجم الموضوع فورا باستعماله كلمة «أنتم» بدلا من «أنت»، قال بصوت هادئ والابتسامة المغتصبة تداعب شفتيه: لقد تقدم بعضهم بعرض يتعلق «بكم»، لا شك «أنكم» عرفتم أن عيني الجميلتين لا وزن لهما في زيارة الأمير بازيل وقاصره (والله وحده يعرف السبب الذي من أجله وصف آناتول بكلمة قاصر!) وإذن فقد تقدموا إلي بعرض يتعلق «بكم» كما قلت، وبما «أنكم» تعرفون مبادئي الشخصية ومثلي، فقد عدت بالموضوع إلى «قراركم».
تمتمت ماري وهي تمتقع تارة، ويتضرج وجهها تارة أخرى: كيف يجب أن أفهم قولك يا أبي؟
فهتف الأمير مستنكرا: كيف تفهمين؟! إن الأمير بازيل يجدك مناسبة لتكوني كنة، ويتقدم إليك بالعرض نيابة عن قاصره، هذا ما يجب أن تفهميه! كيف تفهمين؟! ولكن عليك أنت إعطاء الجواب.
فعادت ماري تتمتم: لست أدري يا أبي كيف تنظر ... - كيف أنظر؟! إن الأمير غير متعلق بي! لا تهتمي بشأني، لست أنا الذي سأتزوج، لكن «أنتم»، ماذا «تفكرون»؟ هذا ما أريد معرفته.
فهمت ماري أن العرض لم يرق لأبيها، لكنها أدركت كذلك أن مصيرها كله متوقف على هذه الدقيقة من الزمن، أطرقت برأسها لتتحاشى نظرة أبيها المسيطرة؛ تلك النظرة التي كانت تخنق في نفسها كل أبواب التفكير، فلا تترك لها إلا الخضوع المطلق، وقالت: إنني لا أرغب إلا في شيء واحد: تنفيذ رغبتك، وبما أنك تريد معرفة رأيي حول هذا الموضوع ...
لم تجد فرصة لإتمام حديثها؛ لأن الأمير قاطعها قائلا: حسنا، لسوف يأخذك أنت وبائنتك والآنسة بوريين «على البيعة»، إنها هي التي ستكون زوجته وليس أنت.
لكنه توقف عندما رأى ماري خافضة الرأس على وشك البكاء، وقد زعزعت تلك الكلمات كيانها، قال مستدركا: لا تراعي، لقد كنت أمزح، كنت أمزح، إنك تعرفين مبدئي؛ على الفتاة أن تنتقي شريكها؛ وعلى ذلك فإنني أعطيك ملء الحرية، تذكري فقط أن سعادة حياتك كلها تتوقف على قرارك، ولا تجعلي مني حجة تقوم عليها اعتباراتك. - لكن في الحقيقة لست أدري يا أبي ... - إنني لا علاقة لي بهذا الأمر، أما هو فقد أمر أن يتزوجك، وإنه لفاعل، وإن لم يكن أنت فإنه لا بد وأن يتزوج أول من تقدم له، أما أنت، فإنك حرة في الانتقاء، اذهبي إلى غرفتك، وفكري في الأمر مليا، ثم عودي بعد ساعة، وسوف تتحدثين أمامه إما سلبا وإما إيجابا، إنني أعرف أنك ستركعين مصلية فور اعتكافك، فليكن، صلي ولكن فكري كذلك، هيا اذهبي الآن.
واستمر يصيح وراءها: نعم أو لا، نعم أو لا!
بينما كانت تغادر أباها، وهي تترنح في مشيتها، وكأنها تائهة في ضباب.
كان مصيرها قد تقرر، وكان ذلك القرار على خير ما يرام؛ لأنها كانت تملك ناصيته، غير أن تلك الملاحظة العابرة الخشنة التي أبداها أبوها حول مسألة الآنسة بوريين وعلاقتها ما فتئت تشغل بالها. عبرت الحديقة الشتوية على خط مستقيم دون أن ترى أو تسمع شيئا، لكنها فجأة سمعت همسات الآنسة بوريين المألوفة على سمعها، فانتشلتها من شرودها. رفعت أبصارها فرأت على بعد خطوتين منها الأمير آناتول ضاما الفرنسية بين ذراعيه، يهمس في أذنها كلاما، ولما وقعت عيناه على ماري، اكتسى وجهه الجميل بطابع الذهول الشديد وكأنه كان يقول: «ماذا؟ ماذا يريدون مني؟ انتظري لحظة.» لم يفلت بوريين لفوره، خصوصا وأن هذه لم تكن قد رأتها بعد، أخذت ماري تتأملها بصمت دون أن تتقبل ما ترى، أو أن تفهم ما يراد منه، وفجأة أطلقت الفرنسية صرخة قصيرة وأفلتت هاربة، أما آناتول فقد استعاد ابتسامته، وانحنى أمامها وكأنه يدعوها إلى مشاطرته الابتسام والضحك من هذه المناسبة الفريدة، ثم هز كتفيه، ومضى إلى الباب المؤدي إلى الجناح الذي نزل فيه مع أبيه.
وانقضت ساعة، جاء تيخون بعدها يعلن للأميرة ماري أن أباها ينتظرها وبصحبته الأمير بازيل سيرجيئيتش، وكانت هذه جالسة على أريكة تضم بين ذراعيها الآنسة بوريين، وتمر بيدها على شعرها بعطف وحنان، كانت عيناها الجميلتان على هدوئهما وإشعاعهما السابقين، وكانت تحدق في وجه الآنسة بوريين؛ ذلك الوجه الجميل الذي كان مبللا بالدموع، كانت تنظر إلى الفرنسية ببشاشة وعطف حقيقيين، وكانت بوريين تقول: كلا يا أميرة، لقد هلكت إلى الأبد، وفقدت مكاني في قلبك النبيل!
فتجيبها ماري: ولماذا؟ إنني أحبك أكثر من أي وقت مضى، وسأسعى بكل ما أوتيت من قوة في سبيل سعادتك. - لكنك تحتقرينني، أنت الطاهرة النقية، لا يمكنك أن تفهمي هذه الخطيئة الغريزية؛ خطيئة الرغبة! آه! إنه خيالي وأقصوصتي.
فأجابتها الأميرة بابتسامة حزينة: بل إني أفهم كل شيء، اطمئني يا صديقتي.
ثم أعقبت وهي تنهض من مكانها: ولكن يجب أن ألحق بأبي.
كان الأمير بازيل جالسا على مقعده، وقد لف ساقا على ساق، وأمسك بعلبة سعوطه في يده وعلى وجهه آيات الهياج والانفعال، وكانت الابتسامة الحانية المطلقة على شفتيه عند دخول ماري تبدو وكأنها استخفاف بذلك الانفعال والاضطراب. بادر إلى الهجوم، فقال وهو يستقبلها ناهضا، ويمسك بيديها الاثنتين: آه أيتها الطيبة، أيتها الطيبة!
ثم أطلق زفرة وأردف: إن مصير ولدي بين يديك، فقرري يا ماري، أيتها الطيبة، أيتها العزيزة الرقيقة التي أحببتك دائما كابنتي.
وبينما هو يفسح لها الطريق، ظهرت دمعة حقيقية في زاوية عينه بين الجفن والأهداب.
هتف الأمير العجوز بعد أن أخذ نفسا عميقا: إن الأمير باسم قاصره لا بل باسم ابنه يطلب يدك للزواج، فهل تريدين أن تصبحي زوجة آناتول كوراجين؟ أجيبي بنعم أو لا ، قولي نعم، أو قولي لا، وإنني أحتفظ فقط بحقي في إبداء رأيي بعد ذلك. رأيي فقط ولا ... ولا شيء سواه.
وكرر هذه الجملة حينما لمس أمارات التوسل التي انطبعت على وجه الأمير بازيل وأردف: حسنا، ما هو رأيك؟ نعم أو لا؟
فقالت ماري بثبات، وهي تنظر بشدة في عيني الأمير بازيل، ثم تنقل بصرها إلى وجه أبيها: إن رغبتي يا أبي هي ألا أفارقك أبدا، ألا أفصل حياتي عن حياتك، إنني لا أريد أن أتزوج.
فغمغم الأب حانقا وقد اكفهر وجهه: يا للغباء، يا للغباء! سخافات، سخافات!
لكنه جذب ابنته نحوه، ولامس وجنتها بوجنته دون أن يقبلها، وضغط على يدها بشدة، حتى إن ماري لم تتمالك أن أطلقت صرخة خافتة أشفعتها بحركة دالة على شدة الألم.
أما الأمير بازيل فقد نهض واقفا وقال: يا عزيزي، أستطيع القول إنني لن أنسى هذه اللحظة أبدا، ولكن ألا تعطين مجالا للأمل في أن قلبك شديد الطيبة شديد الكرم قد يعيد النظر في قراره؟ قولي: يجوز. إن المستقبل كبير فسيح، قولي: يجوز. - كلا يا أميري، لقد تحدثت بكل صراحة، وليس لدي ما أضيفه على ما قلت، إنني أشكرك للشرف الذي أسبغته علي، لن أكون زوج ابنك أبدا.
وعندئذ قال الأمير العجوز: حسنا يا عزيزي بازيل، لقد انتهينا من هذا، سرني أن رأيتك بعد طول فراق. سرني ... وأنت أيتها الأميرة يمكنك الانسحاب.
وعانق الأمير بازيل للمرة الثانية وأردف: سرني أن شاهدتك يا عزيزي.
كانت ماري تحدث نفسها بقولها: «إن مهمتي في الحياة تختلف عن كل هذه الأمور، إنها تنحصر في التضحية في سبيل الحياة الآخرة، ولسوف أمكن أميلي المسكينة من سعادتها مهما غلا الثمن، إنها تحبه بشغف، وهي آسفة شديدة الندم على زلتها، سأعمل كل ما في وسعي كي يتزوجها، إنه إذا لم يكن غنيا، فإنني سأقدم له بائنة، سوف أبتهل إلى أبي، وأتوسل إلى أخي آندريه، سأكون شديدة السعادة عندما تصبح زوجته! إنها غريبة مسكينة لا أقرباء لها ولا سند. آه! رباه، هل كان ينبغي أن تتعلق به إلى هذا الحد حتى تنسى نفسها، وتغفل عن شأنها، فتستسلم له! لعلني كنت أتصرف على غرارها! إنها لا تلام.»
الفصل السادس
رسالة نيكولا
مضى زمن طويل على آل روستوف، لم يتلقوا خلاله شيئا من أخبار نيكولا، وعندما انتصف الشتاء، سلم للكونت رسالة، كان العنوان مخطوطا بخط ولده، حركت لك الرسالة عواطف الكونت وأثارتها حتى إنه جرى على أطراف قدميه محاذرا تنبيه أحد إليه، وأغلق على نفسه باب مكتبه ليختلي برسالة ابنه، ويكتم الخبر عن الآخرين، وكانت آنا ميخائيلوفنا - رغم تحسن أحوالها وانتعاش مواردها - لا تزال تقيم لدى آل روستوف، وكان من عادتها الإحاطة بكل ما يدور حولها. وهكذا فإنها لم تلبث أن اكتشفت الأمر، فتسللت بخطى حذرة إلى مخدع الكونت، وهناك وجدته يضحك وينتحب والرسالة في يده.
سألته بلهجة فيها قلق واستفسار، وبلهفة تتقن إبرازها كلما أرادت المساهمة في الاطلاع على موقف معين: ماذا يا صديقي الطيب؟
فتضاعف نحيب الكونت، وتمتم خلال دموعه: رسالة ... من صغيري نيكولا ... لقد جرح يا عزيزتي ... نعم، نعم، لقد جرح صغيري العزيز ... ولقد بشروه برتبة ضابط ... حمدا لله! ... كيف أنقل هذا الخبر ... إلى عزيزتي الكونتيس الصغيرة؟
جلست آنا ميخائيلوفنا قرب الكونت، وراحت تمسح عينيه بمنديلها، وتجفف الورقة التي تساقطت عليها بضع عبرات، وأخيرا تمسح دموعها هي الأخرى، ثم قرأت الرسالة، فطمأنت الكونت وقررت أن تهيئ الكونتيس لتلقي النبأ قبل موعد الطعام معلنة أنها ستنهيه إليها بعون الله ومشيئته بعد تناول الشاي.
ظلت آنا ميخائيلوفنا تتحدث طيلة الوقت الذي استغرقه الطعام عن الأنباء والإشاعات المتناقلة على الألسن المتعلقة بسير القتال، وعلى الرغم من إلمامها التام بالوقت الذي تلقت فيه الأسرة آخر أنباء نيكولا، فإنها عادت تسأل عن الوقت ملمحة إلى أنه لا يستبعد أن يصل منه كتاب في ذلك اليوم بالذات، وكانت تلك التلميحات والتنويهات تسبب للكونتيس قلقا واكتئابا، فكانت تتفحص وجه زوجها بنظرة صارمة تارة ووجه صديقتها تارة أخرى، وعندئذ كانت هذه تحول الحديث ببراءة وبساطة إلى موضوعات تافهة، غير أن ناتاشا الحساسة المتفوقة في الحس المرهف على كل أفراد الأسرة، أدركت منذ أن بدأ الطعام أن في الجو شيئا جديدا؛ لذلك فقد راحت تصغي بانتباه عميق إلى كل التنويهات، وتسجل كل التحولات التي تطرأ على قسمات وجوه الجالسين، محاولة اختراق الستور ومعرفة ما وراء تلك النفحات الصوتية الغامضة، فهمت بسرعة أن هناك سرا، وأن ذلك السر يتعلق بنيكولا، وأنه كامن بين أبيها وبين آنا ميخائيلوفنا، بل وأدركت أن هذه تمهد السبيل للإفضاء بذلك السر، ولما كانت تعلم أن كل ما يتعلق بنيكولا يثير أمها ويزعجها، فإنها لم تجرؤ - رغم جرأتها وطيشها - على طرح أي سؤال، لكنها كانت في غمار لهفتها ناسية الطعام الذي بين يديها، فلم تصب منه إلا قليلا. لم تكن لتستقر على كرسيها متجاهلة ملاحظات مربيتها، وما إن نهض أفراد الأسرة عن المائدة حتى هرعت إلى آنا ميخائيلوفنا كالمجنونة، فلحقت بها قرب المخدع، وهناك قفزت إلى عنقها، فتعلقت به وهتفت: يا عمتاه، يا عمتي الصغيرة العزيزة، نبئيني بالخبر! - ليس من خبر يا عزيزتي. - بلى، بلى، إنني واثقة من أنك تلقيت شيئا جديدا، آه يا عزيزتي، يا جميلتي، يا معبودتي، قولي لي فورا ما الخبر وأسرعي؛ لأنني لن أفلتك قبل أن تنهيه إلي.
فقالت السيدة الطيبة وهي تهز رأسها: إنك مرهفة الحس يا طفلتي.
فهتفت ناتاشا: إنها رسالة من نيكولا، أليس كذلك؟
ولما قرأت على وجه آنا ميخائيلوفنا ما يدعم هذا الرأي أردفت: بلى، رسالة من نيكولا، بالتأكيد! - كوني حكيمة بحق السماء، إنك تعرفين مبلغ ما يعتري أمك من انفعال لهذا النبأ. - نعم، نعم، ولكن نبئيني بالخبر، حدثيني، ألا تريدين؟ حسنا، إنني ذاهبة من فوري إلى أمي أخبرها ...
فاضطرت آنا ميخائيلوفنا إلى إيجاز فحوى الرسالة الواردة في بضع كلمات، وناشدتها أن تكتم الخبر عن الجميع، فقالت ناتاشا وهي ترسم إشارة الصليب على صدرها: أعدك وعد شرف ألا أقول ذلك لأحد!
وهرعت لفورها إلى سونيا، وقالت لها وهي تكاد تطير من الفرح: سونيا، إن نيكولا ... جريح ... هناك رسالة منه.
فامتقع وجه سونيا، ولم تستطع النطق إلا بكلمة واحدة: نيكولا!
وأدركت ناتاشا من اضطراب ابنة عمها مبلغ ما في الخبر الذي وافتها به من شجن وحزن، فارتمت على عنقها، وذابت في دموعها.
راحت تطمئنها خلال نحيبها بقولها: لقد جرح جرحا خفيفا، وسيصبح ضابطا بعد قليل، إن حاله بتحسن مستمر، ولقد كتب الرسالة بنفسه وبخط يده.
وهنا أعلن بيتيا، الأخ الصغير وله من العمر تسع سنين، وكان يذرع الغرفة بخطوات ثابتة: إن كل النساء - ولا شك - لسن إلا نائحات منتحبات، أما أنا، فإنني سعيد جدا؛ نعم سعيد حقا أن يكون أخي قد أبرز شجاعته على هذا الشكل، إنكن نائحات سخيفات، لا تفقهن شيئا من شيء.
فابتسمت ناتاشا رغم دموعها بينما سألتها سونيا: هل قرأت الرسالة؟ - كلا، لكنها أنبأتني بأنه شفي تماما، وأنهم رقوه إلى رتبة ضابط.
فقالت سونيا وهي ترسم إشارة الصليب على صدرها: حمدا لله! ولكن لعلها لم تنبئك بالصدق، هيا بنا إلى «ماما».
وكان بيتيا لا يزال في تجواله صامتا، قال: لو أنني كنت بدلا من نيكولا، لقتلت مزيدا من أولئك الفرنسيين، يا للأوباش! كنت قتلت منهم عددا كبيرا، وكتلت جثثهم حتى يبلغ ارتفاعها هكذا!
وأشفع ذلك بإشارة من يده مبينا الارتفاع المنشود.
قالت أخته: حقا يا بيتيا، يا لك من غبي! - لست أنا الغبي بل أنتن، يا من تبكين لأتفه الحماقات.
سألت ناتاشا بعد فترة صمت: هل تذكرينه يا سونيا؟
فقالت سونيا باسمة: تسألينني إذا كنت أتذكر نيكولا؟!
فألحت ناتاشا وهي تؤيد خطورة سؤالها بحركة من يدها: كلا يا سونيا، هل تذكرينه بشكل يجعلك تذكرين كل شيء؟ إنني أتذكر كل تقاسيمه، أما بوريس فقد نسيته تماما.
فهتفت سونيا مذهولة: كيف؟! أنسيت بوريس؟! - أقصد أنني لم أنسه كما تدل الكلمة عليه، إنني أعرف كل تقاطيعه بالطبع، لكنني لا أذكره كما أذكر نيكولا، إنني عندما أغمض عيني (وأغمضتهما فعلا) أراه أمامي، أما بوريس، فعلى العكس، إنني لا أراه أبدا.
قالت ناتاشا وهي تنظر إلى صديقتها بخطورة وجلال، وكأنها قدرت أنها لا تستحق الإصغاء إلى ما تقول، فراحت تخاطب شخصا آخر، لم يكن دأبه المزاح والهذر: آه ناتاشا، آه ناتاشا! إنني أحب أخاك، ومهما حصل له أو لي، فإنني لن أنقطع عن حبه طيلة أيامي.
أرتج على ناتاشا، وحارت في الجواب الذي تقدمه، فاكتفت بالتحديق في وجه ابنة عمها بنظرة حافلة بمعاني الدهشة، كانت تشك وترتاب في صدق قول سونيا، وفي إمكانية وجود غرام من هذا النوع، ولكنها لم تجد مندوحة عن الاعتراف بجواز مثل هذا الأمر، خصوصا وأنها لم تكن بعد قد شعرت بشيء من هذا القبيل، واجتازت اختبارا من هذا النوع، وأخيرا سألت: هل ستكتبين له؟
استغرقت سونيا في التفكير، كانت منذ وقت طويل تتساءل بقلق عما إذا لم يكن من الواجب عليها أن تكتب لنيكولا، وعن العبارات التي تتلاءم مع هذه الغاية، أما الآن وقد غدا بطلا، وأصبح ينتظر ترقيته إلى رتبة ضابط، فهل من النبل في شيء أن تعيد إلى ذاكرة الفتى ذكراها؟ ألن يفسر رسالتها بأنها نداء وتذكير بالعلاقة والالتزام الذي تعهد به حيالها؟
قالت وقد تضرج وجهها خجلا: في الحقيقة لست أدري، ولكن يبدو لي أنني أستطيع أن أكتب له طالما أنه يكتب لنا بدوره. - وهل ستشعرين بالخجل إن أنت كتبت؟
فقالت سونيا باسمة: ابدأ، لماذا أخجل؟ - لست أدري، هكذا ... إن ذلك قمين بارتباكي.
وهنا تدخل بيتيا من جديد، وقال وهو شديد الألم لملاحظة أخته الأخيرة: أما أنا فأعرف لماذا تشعر بالخجل؛ ذلك لأنها بعد أن أحبت بوريس وتعلقت به، عادت تعشق ذلك الضخم ذا النظارات (ويقصد به الكونت بيزوخوف الجديد الذي لم يجد بيتيا وصفا آخر ينطبق على مظهره الطيب الساذج) وها هي الآن مفتونة بالمغني (وكان يقصد ذلك الإيطالي الذي يقوم بدور أستاذ الموسيقى بالنسبة لناتاشا) هذا هو سبب خجلها.
قالت ناتاشا: كم أنت غبي يا بيتيا! - لست أكثر غباء منك يا صديقتي الطيبة!
نطق الطفل بهذه الجملة بثبات الكهل المحنك الخبير.
تذكرت الكونتيس وهي في غرفتها بعد الطعام إلى التلميحات التي فاهت بها آنا ميخائيلوفنا على المائدة، فغرقت في أريكتها، واستغرقت في تأمل صورة ابنها الصغيرة المنقوشة على غطاء علبة سعوطها، تلألأت الدموع في عينيها، وطفرت تبلل أهدابها، وفي تلك اللحظة، كانت آنا ميخائيلوفنا تقترب من غرفة صديقتها بخطوات متسللة والرسالة في جيبها، قالت للكونت الذي كان يريد اللحاق بها: كلا، لا تدخل. انتظر برهة.
وأغلقت الباب وراءها.
ألصق الكونت أذنه بثقب الباب منصتا، وانتظر اللحظة المناسبة لدخوله.
لم يسمع بادئ الأمر إلا موضوعات تافهة، ثم خطبة مطولة من آنا ميخائيلوفنا، أعقبتها صرخة وبعدها سكون، ولم يلبث ذلك السكون أن مزقته هتافات البشر والفرح المتبادلة بين الصديقتين، وعلى وقع خطوات ظهرت آنا ميخائيلوفنا تدعوه إلى الدخول، كانت تعابير وجهها تشبه تعابير الجراح الماهر، الذي جاء يفتح الباب للجمهور الراغب في عيادة المريض بعد أن فرغ من إجراء عملية خطيرة له بنجاح خارق، استحق عليها الثناء والتقريظ.
قالت للكونت بفخار، وهي تشير إلى الكونتيس التي كانت ممسكة بعلبة السعوط في يد ورسالة نيكولا في الأخرى، تقرؤها بشغف وتقبلهما دوريا بتحنان: لقد انتهى الأمر.
ولما وقع بصر الكونتيس على الكونت، مدت ذراعيها نحوه، وأحاطت بها رأسه الأصلع، وقدرت أنها مستطيعة إعادة تلاوة الرسالة، وهي على ذلك الوضع والتأمل في الصورة المنقوشة على غطاء علبة السعوط، بل إنها اضطرت إلى تضييق الخناق على الرأس وصاحبه؛ ليتسنى لها تقبيل تلك الأشياء بكل راحة. ودخل الأولاد؛ فيرا، ناتاشا، سونيا وبيتيا بدورهم، وأعيدت تلاوة الرسالة على مسامعهم أيضا، كان نيكولا يورد في رسالته وصفا موجزا للجبهة والمعركتين اللتين اشترك فيهما، ثم يخبر ذويه أنه رفع لرتبة ضابط، وأخيرا قال في رسالته إنه يقبل يدي ماما وبابا، ويلتمس بركاتهما ودعاءهما، ويقبل وجنات فيرا وناتاشا وبيتيا، ويبعث بتحياته إلى السيد شيللنج والسيدة شوس وإلى المربية، ويطلب إليهم أن يقبلوا سونيا العزيزة نيابة عنه مؤكدا أنه لا زال يحبها كسابق عهده، ويحتفظ بذكراها بكل إخلاص، ولما بلغت الكونتيس في القراءة هذا المقطع اندفعت الدماء في وجنتي سونيا، وتلألأت الدموع في عينيها، ولما أخفقت في الصمود للنظرات التي راحت تحدق في وجهها، جرت هاربة بكل قواها، فدخلت البهو الكبير، واستدارت حول نفسها من الفرح، فانتفخ ذيل ثوبها، وغدا كالكرة الضخمة، وجلست على الأرض مضرجة الوجه باسمة الثغر.
كانت الكونتيس تبكي لذكرى ابنها، فقالت لها فيرا: لماذا تبكين يا أماه؟ إن رسالته تستحق أن يفرح الإنسان لها بدلا من البكاء.
كانت الملاحظة في محلها، مع ذلك فقد راح الكونت والكونتيس وناتاشا والآخرون يحدجونها بنظرات اللوم والعتاب، كانت أمها تتساءل: «بمن هي متعلقة إذن؟»
تليت رسالة نيكولا مرات ومرات، غير أن أولئك الذين رؤي أنهم يستحقون الإصغاء إلى ما جاء فيها، كانوا يحضرون إلى حيث كانت الكونتيس لتقرأها عليها؛ لأنها ما كانت توافق على التخلي عن رسالة ابنها، وهكذا فقد مر أمامها رؤساء الخدم والمربية وميتانكا وعدد من الأصدقاء، وفي كل مرة كانت الكونتيس تعيد التلاوة بشغف جديد، وبعد كل تلاوة جديدة، كانت تكتشف في نيكولا من الصفات ما فاتها إدراكه في المرة السالفة. وهكذا فإن ذلك الابن، الذي كان في أحشائها قبل عشرين عاما يتحرك بجسده الضئيل الضعيف، ذلك الابن الذي تشاجرت بسببه مع الكونت الذي كان يدلله بكثرة، ذلك الابن الذي كان أول ما نطق به من الكلام هو: «إجاصة»، ثم تعلم بعدها كلمة «سيدة»؛ ذلك الابن بالذات قد أصبح الآن بعيدا عنها في بلاد غريبة، وحيدا دون مساعدة ولا دليل، يقوم بأعمال الرجال، يا لها من فرحة! لكن الموضوع يستوجب كذلك الدهشة والذهول، أصحيح أن العالم كان لا يكاد يجهل أن الأطفال يصبحون بالتدريج رجالا وربما أبطالا! غير أن هذا التدرج الطبيعي العام، الذي ينطبق على كل البشر، ما كان معروفا من الكونتيس قبل ذلك اليوم. نسيت الكونتيس أن الملايين من البشر قد مروا في هذه المراحل من التطور، فراحت ترفض الاقتناع بأن ولدها «ذاك» قد بلغ مبلغ الرجال. منذ عشرين عاما، عندما كانت تحمل هذا الصغير قرب قلبها، ما كانت تصدق أنه سيرضع ثديها يوما، ويتعلم الكلام بعد ذلك. وكذلك الآن ، فإنها لا تصدق أن ذلك الصغير بالذات قد أصبح - كما كانت تنبئ رسالته - رجلا باسلا جديرا بأن يكون مثالا يقتدي به الأبناء كلهم، بل والجنس البشري بكامله!
كانت تقول وهي تعيد تلاوة المقاطع الإنشائية الوصفية في الرسالة: يا له من أسلوب جميل! يا للبراعة في وصف الأشياء! ثم يا لله من قلب الذي له! إنه لم يتحدث بكلمة واحدة عن آماله، ولا همسة! إنه لا يتحدث إلا عن واحد اسمه دينيسوف، مع ذلك فإنني واثقة من أنه أشدهم بسالة وأكثرهم إقداما، ثم إنه يهمس بكلمة واحدة عن العنت الذي لاقاه والمشقة التي احتملها، يا لقلبه الكبير! إنني أتعرف على ذلك القلب من خلال الأسطر! ثم إنه عني عناية خاصة بإبلاغ تحياته وتمنياته للجميع، فلم ينس أحدا ولم يستثن أحدا! لقد كنت أقول دائما أنه نبيل كبير القلب، نعم، منذ أن كان هكذا في طوله!
وانقضت ثمانية أيام لم يكن للأسرة من هم خلالها إلا كتابة الرسائل، ثم تمزيقها لعدم صلاحيتها، ثم إعادة كتابتها من جديد.
هيأ الكونت تحت إشراف الكونتيس كل التجهيزات اللازمة للضابط الجديد، ولما كانت آنا ميخائيلوفنا قد أحاطت ابنها بكثير من الرعاية وأسلمت أمره إلى عدد من المتنفذين، فإن الأسرة استطاعت بفضل هذه التدابير المسبقة أن تتصل بابن آنا بكل سهولة، خلافا لما كان عليه حال نيكولا، وهكذا فقد كان رسول الغراندوق كونستانتان بافلوفيتش، قائد الحرس العام، يتعهد إيصال الرسائل بأمانة، وبدت عبارة: «الحرس الروسي في الخارج» المطبوعة على الأوراق والغلافات كافية بنظر آل روستوف لتكون عنوانا مضمونا. كانوا يقولون: طالما البريد يصل إلى يدي الغراندوق قائد الحرس العام، فإنه ليس هناك ما يبرر عدم وصوله إلى سرية بافلوجراد التي ينبغي ألا تكون بعيدة جدا عن مكان وجوده، وهكذا قرروا إرسال ما ينبغي من المال مع رسالة في بريد الغراندوق باسم بوريس وتكليفه بتسليمها: المال والرسالة إلى نيكولا. وجمعت الرسائل من الكونت والكونتيس وبيتيا وفيرا وناتاشا وسونيا، وأضيف إليها مبلغ ستة آلاف روبل قدرت أنها كافية لشراء التجهيزات اللازمة، وأرسلت جميعها في البريد، بريد الغراندوق، مع عدد من الأشياء المختلفة التي قدر الكونت العجوز أنها ضرورية يجب إيصالها لولده نيكولا.
الفصل السابع
نقولا في الحرس الإمبراطوري
في الثاني عشر من تشرين الثاني، كان جيش كوتوزوف الذي كان معسكرا في ضواحي أولموتز، يستعد للقيام باستعراض كبير غداة اليوم التالي أمام الإمبراطورين الروسي والنمسوي، وكان الحرس الروسي، الذي وصل مؤخرا، يقضي الليل على بعد أربعة أميال من المدينة، وكان عليه الظهور في ساحة العرض في الساعة العاشرة صباحا.
في ذلك اليوم بالذات، تلقى نيكولا روستوف كلمة من بوريس ينبئه فيها بأن فيلق إسماعيل معسكر على مسافة أربعة أميال خارج أولموتز، وأنه ينتظر قدومه إليه ليسلمه رسالة ومبلغا من المال أرسلهما ذووه، وكان نيكولا في مسيس الحاجة إلى المال؛ لأن معسكره كان محاصرا بعدد كبير من الباعة اليهود النمساويين الذين كانوا يقدمون للضباط والجنود سلعا مختلفة مغرية ومتاعا وتسلية، وكانت أيام ضباط بافلوجراد تمضي في سلسلة متصلة من الولائم والحفلات والشرب، وهي ميزات خصصت لهم إبان انتقالهم، فكانوا لا يفتئون يترددون إلى أولموتز، إلى حانة أسستها امرأة اسمها كارولين الهنغارية، جعلت مستخدميها كلهم من الجنس الناعم، وكان روستوف قد احتفل منذ أيام بترقيته الجديدة، واشترى حصان دينيسوف (بيروان)، فتورط في ديون كثيرة موزعة في غير عدل بين الباعة وزملائه؛ لذلك فإنه ما كاد يتلقى كتاب بوريس حتى بادر إلى الذهاب إلى أولموتز، وهناك تناول طعامه، وجرع زجاجة من الخمر بصحبة زميل، وراح يبحث عن صديق طفولته، لم يكن قد أتم تجهيزاته بعد؛ لذلك فقد كان ممتطيا صهوة جواد روسي استعاره من أحد القوقازيين، ومرتديا سترة الجندي القذرة، وقد التمع عليها صليب يمنح للجنود، وسراويل ركوب مرقعة، وتمنطق بحسام ضابط في فرسان الدراجون، وغطى رأسه بقلنسوة مشوهة أمالها على أذنه بمجون، ولما اقترب من معسكر الحرس، راح يفكر في الأثر الذي سيحدثه مظهره العسكري وحركاته التي انطبعت بطابع فرسان الجيش على بوريس والسادة أفراد الحرس.
والحقيقة أن فرقة الحرس كانت قد التحقت بالجيش المحارب ، وكأنها ذاهبة إلى نزهة خلوية، لقد كان أفرادها على أوفر حظ من التنظيم وشموخ الأنف، وألبستهم نظيفة أنيقة لا تقبل النقد، ولقد كانت المراحل الذي قطفها رجال الحرس قصيرة جدا والأمتعة والمهمات والأكياس وما إليها كانت تنقل على عربات، أضف إلى ذلك أنهم في كل مراحل الطريق كانوا يطعمون أفخر الطعام الذي كانت السلطات النمساوية تجهزه خصيصا من أجلهم، فكانت السرايا عند دخولها إلى المدن، تسير على إيقاع الموسيقى وصداحها، وتخرج منها على تلك الحال. وكان مقررا أن يقطع رجال الحرس تلك المراحل بنظام السير الإيقاعي؛ الأمر الذي كان يجعل الأفراد شديدي الفخار والاعتداد، فكان الضباط في أماكنهم المقررة بين الصفوف وإلى جانبيها، يتيهون في أثوابهم الأنيقة. وكان بوريس قد قطع المرحلة كلها إلى جانب بيرج الذي أصبح قائد سرية بفضل دقته وعقليته النظامية، وكان يتمتع بكل ثقة رؤسائه بوصفه من النوع الذي لا يجب أن يهمل شأنه، وكان بوريس من جانبه قد ارتبط بعلاقات مجدية نافعة؛ نذكر منها تعرفه إلى الأمير آندريه بولكونسكي، الذي تلقى من بيير بيزوخوف توصية خاصة تدعوه للعناية ببوريس، وكان يعتمد على دعم الأمير وحمايته؛ ليلتحق بأركان حرب القائد العام كوتوزوف.
كان بيرج وبوريس في أبهى زينتهما، ينعمان بالراحة بعد المرحلة الأخيرة، ويقضيان الوقت بلعب الشطرنج حول مائدة مستديرة في النزل المريح الذي عين لهما، وكان بيرج مودعا غليونه المشتعل بين ركبتيه، بينما كان بوريس يبني أهرامات بالبيادق التي ربحها من صديقه، منصرفا إليها باهتمامه على عادته، يسويها بيديه الناصعتين الدقيقتين، وهو لا يني يراقب زميله الذي كان عليه أن يجيب على حركته، وكان بيرج - وهو المخلص لمبدئه القاضي بعدم الاهتمام إلا بعمل واحد حتى إنجازه - منصرفا بكليته إلى اللعبة غافلا عن كل ما حوله.
سأله بوريس: هيا، دلني على المخرج الذي ستجده لورطتك الآن.
فأجاب بيرج وهو يلمس بيدقا لا يلبث حتى يفلته: سوف نعمل ما في وسعنا.
وفي تلك اللحظة فتح الباب، هتف روستوف: آه، ها هو ذا أخيرا! ها إن بيرج موجود كذلك!
وأردف مقلدا لهجة مربيتهم العجوز التي كانت كثيرا ما تضحكهم من قبل: هيا يا أطفالي، اذهبوا لتستلقوا وتناموا!
ونهض بوريس لاستقبال روستوف وهو يقول: رباه، كم تبدلت!
تخلص من وراء المائدة وهو يسعى بإبقاء أهراماته على حالها، واندفع يريد معانقة روستوف، غير أن هذا تنحى عن طريقه ممتنعا، لقد درج الفتيان الشباب على تنكب العادات المألوفة؛ لأنهم يفضلون اللجوء إلى أساليبهم الخاصة التي لا تتفق غالبا مع ما هو مألوف بين الكبار من عادات، لعلها لا تخلو أحيانا من الأنانية والاصطلاح، وهكذا فضل نيكولا أن يحيي رفيق صباه على طريقتهما السالفة، معربا له عن سروره بلقائه؛ تلك الطريقة التي درجا عليها، والتي لا تخرج عن نكعة أو قرصة في الأذن. أما بوريس فعلى العكس، لقد اندفع نحوه وقبله ثلاثا دون خجل مصطنع، وبمحبة قلبية واضحة.
لقد مضى على افتراقهما أكثر من ستة أشهر؛ لذلك فقد راح كل منهما يتأمل التغييرات التي نالت من رفيقه، تلك التغيرات التي يعود الفضل فيها للوسط الذي عاش فيه كل منهما، وأخذ كل منهما يبين للآخر المعالم البارزة في تلك التغيرات الجديدة.
قال روستوف بصوته الذي لم يألفه بوريس، وبلهجة عسكرية صحيحة، وهو يشير إلى سراويله: إه أيها الملاعين، ها إنكما على أجمل زينة، وكأنكما في نزهة، خلافا لحالنا نحن جنود الجبهة التعساء!
وأطلت صاحبة المسكن الألمانية خلال الباب الموارب مستغربة مثل هذه الصيحات، فغمز لها نيكولا بعينه وقال: ماذا هناك يا جميلتي؟
فقال بوريس: لا تصرخ هكذا، سوف تخيفهم، في الحقيقة إنني ما كنت أنتظر قدومك اليوم؛ لأنني لم أرسل إليك رقعتي إلا البارحة بواسطة أحد ضباط كوتوزوف المساعدين الذي عرفه، إن اسمه بولكونسكي، وما كنت أظن أنك ستتلقى الرقعة بمثل هذه السرعة. ليكن، كيف حالك؟ لقد بلوت القتال إذن، أليس كذلك؟
فحرك روستوف صليب سان جورج المعلق فوق سترته العسكرية المخرجة، وأبرز ذراعه المعلقة إلى عنقه، ونظر إلى بيرج باسما دون أن يجيب، وأخيرا قال: أظن أن نعم!
فاستطرد بوريس وهو يبسم بدوره: طبعا، طبعا، بديع! أما نحن، فإننا قمنا كذلك برحلة بديعة، إنك تعرف أن سموه ظل يقطع الطرق تواكبه كتيبتنا، وبذلك أتيحت لنا كل أنواع المتعة؛ ففي بولونيا لم نشعر بالوقت يمضي ونحن نتنقل من حفلة راقصة إلى وليمة حافلة إلى حفلات استقبال فخمة، ولقد كان التسيزاريفيتش - لقب يعطى رسميا لابن القيصر البكر الذي سيخلفه في تسلم العرش - شديد العطف على الضباط جميعا.
وراح الصديقان يطريان أعمالهما؛ الأول يمتدح الفرسان، ويطنب في وصف شجاعتهم في الحرب، ويثني على حياة التقشف التي يحيونها، والآخر يعدد الميزات والاعتبارات الكثيرة التي ينعم بها أولئك المنتسبون إلى سلاح يكون قواده محط أنظار الناس واحترامهم.
قال روستوف: آه، إننا نعرفكم معشر رجال الحرس! ماذا يا عزيزي لو أرسلت من يأتينا بزجاجة؟
فعبس بوريس ثم قال: إذا كنت تصر، فلا بأس.
وأخرج كيس نقوده المخبأ تحت الوسائد النظيفة، وأصدر أمره بإحضار الشراب وقال: وبهذه المناسبة، سأعطيك الرسالة الواردة باسمك والمال.
أخذ روستوف الرزمة، فألقى بكيس النقود على الأريكة، واتكأ بمرفقيه على الطاولة، وراح يقرأ الرسالة، ولم يكد يطالع الأسطر الأولى حتى راح يحدق بيرج بنظرات التضجر، لقد شعر أن عيون بيرج شاخصة إليه، فجعل من الرسالة ستارا يحجب نفسه وراءه.
قال بيرج وهو ينظر إلى كيس النقود الفارغ في الأريكة: إنهم أرسلوا إليك مبلغا كبيرا على ما يبدو، مساكين نحن يا كونت؛ لأننا لا نملك إلا راتبنا الحقير نتبلغ به، وأنا من أفراد هذا الحرس.
فهتف روستوف: اسمع يا بيرج، إذا وقع لك أن تسلمت أمامي رسالة من ذويك، وكان إلى جانبك أحد المقربين إليك يرغب في أن يطرح عليك ألف سؤال وسؤال، فثق بأنني أكفيك مئونة التخلص من بقائي، فاعمل إذن كما كنت سأعمل لو كنت في مثل موقفك، واذهب إلى حيث تشاء. وليكن إلى الشيطان!
وعلى حين فجأة استدرك نفسه، وخفض صوته، وقام إلى بيرج يمسك بذراعه، ويصلح بنظرة متوردة ما أفسده بكلماته القاسية، أردف بلطف: لا تغضب يا عزيزي، أرجو أن تعذر صراحتي ، لكنني أعاملك معاملة الصديق القديم الودود.
فقال بيرج بصوت محتبس وهو ينهض: لا تبتئس يا كونت، إنني أفهم شعورك.
وقال بوريس من جانبه: أتدري أن مضيفينا دعوك إلى البقاء؟
حمل بيرج سترته النظيفة الخالية من كل شائبة، وأصلح شعره أمام المرآة، وسواه فوق صدغيه على طريقة الإمبراطور ألكسندر، وخرج باسما راضيا بعد أن دلته نظرة ألقاها على روستوف أن مظهر ثوبه الأنيق قد أحدث الأثر المطلوب في نفس الفارس المخشوش.
تنهد روستوف وهو يعود إلى قراءة رسالته: آه! يا لي من حيوان! - كيف؟ ماذا هناك؟
فكرر مزمجرا، وقد احمر وجهه بغتة: آه! يا لي من حيوان إذ لم أكتب لهم مرة من قبل أن أسبب لهم كل هذا الخوف! آه! يا لي من حيوان! ولكن أيها الغليون المحترق، هل أرسلت تابعك يأتينا بالخمر؟ - نعم. - إذن من الخير أن نتناول قدحا.
كانت الكونتيس روستوف قد أضافت إلى رسالتها الشخصية إلى ابنها رسالة توصية للأمير باجراسيون، حصلت عليها بواسطة صديقتها آنا ميخائيلوفنا، وكانت تتوسل إلى ابنها أن يستفيد منها إلى أقصى حدود الفائدة.
هتف روستوف وهو يلقي بكتاب التوصية أسفل المائدة: يا للغباء! لست في حاجة إلى مثل هذا أبدا!
سأله بوريس: لماذا ألقيت بهذه الرسالة؟ - إنها كتاب توصية! يا للوسيلة المناسبة! لست أبالي بها!
فقال بوريس وهو يلم الرسالة، ويقرأ ما جاء فيها: كيف لا تبالي؟! يمكن أن تفيدك هذه الرسالة كثيرا. - لن تفيدني في شيء؛ فلن أكون ضابطا مساعدا لأحد. - ولماذا من فضلك؟ - لأن هذا من عمل الخدم لا الجنود!
فقال بوريس وهو يهز رأسه: لا زلت ذلك الحالم الساهم كما أرى. - وإنك لا زلت ذلك «الدبلوماسي» المعهود، ولكن دعنا من هذا، قل ماذا أصبحت وما هي أخبارك؟ - الواقع أنني بخير حتى الآن، لكنني أعترف لك بأنني لا أرغب في البقاء في الجيش العامل لفترة طويلة، لك أن تثق بأنني لن أخجل أبدا لو أصبحت ضابطا مساعدا. - ولماذا؟ - لأنني إذا كنت اخترت الجندية سبيلا، فما ذلك إلا لأخلق لنفسي مركزا لامعا.
فقال نيكولا الذي كانت أفكاره تبدو في مكان آخر: صحيح!
كانت عيناه تحدقان في عيني صديقه، وكأنه يبحث عبثا عن جواب لسؤال معين.
وجاء التابع العجوز بالخمر، فقال بوريس: لعلنا نستطيع استدعاء ألفونس كارليتش، سوف تفرغ الزجاجة معه؛ لأنني امتنعت عن الشراب أخيرا.
فسأل نيكولا مشفعا سؤاله بضحكة مزدرية: لا بأس، لا بأس. قل لي أي نوع من الناس هو هذا الألماني؟ - إنه فتى باسل لطيف جدا وعظيم الاستقامة.
حدج روستوف صديقه بوريس فترة، وأطلق زفرة طويلة.
لم يلبث بيرج أن عاد، وكانت الخمر قد حلت عقد اللسان، فراح الحديث يتشعب بحماسة، أخذ ضابطا الحرس يرويان لروستوف الحوادث التي وقعت لهم خلال الطريق، وينهيان إليه تفاصيل الاستقبالات التي نظمت لهم في روسيا وبولونيا والخارج، وصفا له تصرفات رؤسائهم وحركاتهم وبصورة خاصة تصرفات الغراندوق، وقصا عليه عديدا من النوادر والفكاهات حول سلامة طويته وثورات غضبه. ومن الطبيعي أن بيرج لم يكن يتحدث إلا إذا كان الموضوع يتعلق بشخصه بالذات، ولكن ما إن دار البحث حول الغراندوق ونوبات غضبه، أعرب عن فخاره؛ إذ استطاع أن يتحدث معه في جاليسيا،
1
خلال جولة تفتيشية قام بها سموه للقطعات في الميدان، وبدا عليه أنه غير راض عن تحركات الجنود. قال بيرج موضحا وعلى شفتيه ابتسامة منتصرة إن التسيزاريفيتش اندفع بحصانه نحوهم وصاح: «يا لكم من عصبة باشيبوزوك!» - وهي السبة المفضلة لدى سموه عندما يكون غاضبا - وسأل بإلحاح أن يتقدم قائد السرية منه، وأردف: لعمري أيها الكونت، إنني لم أشعر قط بالخوف؛ لأنني كنت أعرف عدم مسئوليتي في الأمر، أنا لا أمتدح نفسي يا كونت، لكنني أؤكد لك أنني أحفظ عن ظهر قلب كل الأوامر اليومية الصادرة وأتمسك بها، كما أحفظ عن ظهر قلب صلاة «أبانا الذي ...» وهكذا فإنني في سريتي لا أتحول قط عن النظام؛ ولهذا السبب كنت دائما مرتاح الضمير هادئ البال؛ وإذن فقد تقدمت ممتثلا (ونهض بيرج يمثل حركاته، حينما تقدم من الغراندوق رافعا يده بالتحية إلى حافة خوذته ، فاتخذ وجهه طابعا امتزجت فيه اللامبالاة بالاعتداد بالنفس والرضى عنها إلى أقصى حدودهما) فبدأ يشتمني ويكيل لي السباب حتى غسلني فيها غسلا كما يقال، وتحدث فوصفني بكل الصفات، وأدرجني في كل الفئات: «منحط، باشيبوزوك، طريدة سيبيريا!» فلم يترك كلمة إلا وقالها.
وهنا ابتسم بيرج وأعقب: ولما كنت واثقا من براءتي مما ينسب إلي، فإنني لم أتفوه بكلمة، ألست على صواب يا كونت؟ فصرخ لي: «هل أنت أبكم يا هذا؟» لكنني لبثت صامتا لا أجيب، لك أن تصدقني إذا شئت يا كونت، حينما أقول لك إنه في صباح اليوم التالي عند اجتماع الصباح لم يذكر شيء عن حادثة أمس في التقرير اليومي ولم أعاقب، وهذا يرجع إلى تمالكي أعصابي في ذلك الموقف.
وجذب من غليونه نفسا عميقا، وراح يطلق حلقات الدخان من فمه بانتظام، وابتسامة الظفر لا تفارق شفتيه.
قال روستوف مبتسما ابتسامة غامضة: نعم، هذا عين الصواب وفيه كل الكمال!
شعر بوريس أن روستوف على وشك جعل بيرج هدفا لسخريته وهزئه، فقطع عليهما الطريق بمهارة بأن سأله أين ومتى وكيف جرح، وكان هذا الموضوع طليا، وعلى روستوف الذي راح يتحدث بحماس آخذ في التزايد كلما أوغل في سرد التفاصيل، قص عليهما مسألة شوينجرابن كما درج الجنود عادة على التحدث عن مجيد الأفعال التي قاموا بها؛ أي واضعا الأمور كما كان يريدها أن تكون لا كما كانت في واقع الأمر، أو كما سمعوا غيرهم يصفها، ولا شك أن روستوف - وهو الذي تعتبر الصراحة جزءا من طبعه - كان يتحاشى تشويه الحقيقة، ومع ذلك، فإن روايته التي بدأت صحيحة تماما، لم تلبث أن اختلطت، وتداخلت تدريجيا دون أن يشعر حتى أصبحت ادعاء واضحا ومبالغات تبهر العيون، كان يتعذر عليه التصرف على غير ذلك الشكل، وكان رفيقاه قد سمعا من قبل وصفا لبعض المعارك، وكونا على ضوء ما سمعا فكرة حول الموضوع، فباتا ينتظران منه أن يأتي وضعه مصداقا لفكرتهما، فلو أنه لم يوش قصته ولم يزينها؛ لاعتقد كلاهما أنها بعيدة عن الحقيقة أو - وهنا أخطر ما في الأمر - لعزوا إلى خطيئة ما صادرة عنه بالذات تلك المخالفات الواضحة في روايته عن حملة يقوم بها سلاح الفرسان؛ لذلك فإنه ما كان يستطيع القول إن سريته قنعت بالأدباء بأقصى ما في طاقة الخيل، وأنه سقط عن جواده أثناء الجري، فتحطمت ذراعه، وفر بعدها بكل ما أوتيت ساقاه من قوة هربا من الفرنسيين.
ثم إنه لا يمكن في سرد قصة طويلة أن يتحاشى المتحدث الخروج عن جادة الصدق إلا إذا بذل مجهودا خارقا لكبت عواطفه؛ الأمر الذي قل أن استطاعه شاب حديث العهد بالجندية، كان بيرج وبوريس ينتظران منه أن يحدثهما بأنه انقض على فيلق كامل من فيالق العدو، وهو يتقد حماسا واندفاعا فراح يفتك بهم، ويضرب بحسامه يمينا وشمالا، والأشلاء تتناثر في كل حدب وصوب حتى أعياه التعب فسقط أخيرا ... إلخ ... إلخ. وقد رسم لهما روستوف لوحة مماثلة تقريبا عن بطولته وسبب جرحه.
وبينما كان في غمرة تحمسه لحديثه يقول: «لا يمكنك أن تتصور السعار الغريب الذي يصيب المرء خلال الهجوم.» دخل الأمير آندريه بولكونسكي الذي كان بوريس ينتظره، وكان بولكونسكي يحمي الشباب الجدد مرضيا بذلك نزعته الشخصية التي كان يرضيها لجوء هؤلاء إلى حمايته، خصوصا وأنه كان على أتم استعداد لخدمة بوريس الذي راق له أمس واستلطف صحبته، فلما كلفه كوتوزوف أن يحمل أوراقا معينة إلى التسيزاريفيتش، انتهز الفرصة لزيارة بوريس، وهو يعتقد أنه سيجده على انفراد، غير أنه انزعج عندما شاهد فارسا يتبجح ويروي طرائف شجاعته؛ وهو الأمر الذي ما كان يطيق احتمال، فابتسم ببشاشة لبوريس وحيا روستوف بتقطيبة خفيفة مشفعة بطرفة من عينيه، أعقبهما سلام مقتضب، ومضى يجلس بإرهاق على الأريكة، كان يخشى أن يحتك مع أشخاص ويتناقش معهم بلغة غير مناسبة، وقد حدس روستوف ما في خاطره، فتضرج وجهه خجلا، لكنه ما عتم أن حدث نفسه قائلا: «ولكن ماذا يهمني منه؟ إنني لا أعرف هذا المخلوق!» مع ذلك فإنه ما كاد يرفع أنظاره إلى بوريس حتى شعر أنه هو الآخر مرتبك من تصرفاته المقتبسة عن فرسان الجيش. وعلى الرغم من أن مظهر الأمير آندريه الفاتر المتهكم، وعلى الرغم من ازدرائه الشخصي العميق الذي يحس به بوصفه من الجنود المحاربين حيال كل هؤلاء الأدنياء الحقيرين التابعين للأركان، والذي لا بد أن يكون هذا الوافد الجديد منهم؛ فإن روستوف لم يتمالك نفسه عن الاضطراب، أو يكبح اندفاع الدم الغزير إلى وجهه. وهكذا فقد صمت مرغما، وعندئذ استفسر بوريس عن حوادث الأركان العامة وأخبارها، غير أن الأمير بولكونسكي ما كان يستطيع التصريح أمام هؤلاء الغرباء بأمور على جانب كبير من الخطورة والأهمية؛ لذلك فقد أجاب: أعتقد أننا سنسير إلى الأمام.
وامتنع عن التعقيب على هذا القول بأية كلمة.
وانتهز بيرج الفرصة ليسأل بلهجة ملؤها الاحترام عما إذا كانت النية منصرفة حقا إلى زيادة العلف ومضاعفته لرؤساء السرايا كما كان يشاع، فأجاب بولكونسكي بأنه لا يستطيع احتمال البت في أمور على مثل هذه الأهمية؛ مما جعل بيرج يتقبل هذا الرد بضحكة مرحة.
وقال بولكونسكي لبوريس وهو يختلس نظرة إلى حيث جلس روستوف: أما قضيتك أنت، فسنتحدث فيها في مناسبة أخرى، لاقني بعد العرض، ولسوف نعمل جاهدين على إرضائك.
وأجال بصره في أنحاء الغرفة، ثم أوقفه على روستوف متظاهرا بأنه لم يدرك بلباله وارتباكه الصبوي المشوب بالغيظ، وقال له: أعتقد أنك كنت تتحدث عن مسألة شوينجرابن، فهل كنت هناك؟
فأجاب روستوف معتقدا أنه سيجرح شعور الضابط المساعد بإجابته: نعم، لقد اشتركت فيها.
لكن ذلك الجواب لم يأت بالمفعول المنتظر، لقد تلقاه الأمير بابتسامة ساخرة، كان يجد متعة في مراقبة مزاج هذا الفارس الشاب، قال معقبا: نعم، ثم إنهم يروون عن هذه الموقعة صنوفا من الروايات.
فهتف روستوف وهو يلقي على بولكونسكي تارة، وعلى بوريس تارة أخرى، نظرة نارية مشتعلة بغضبة مفاجئة: صنوفا من الروايات! نعم، بالطبع، لكن روايتنا نحن الذين بلونا نار العدو هي وحدها الحقيقة، وليس الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء السادة الأنيقين الذين يحشرون أنفسهم في زوايا الأركان والقيادة وينالون الأوسمة وهم مكتوفو الأيدي.
فأعقب بولكونسكي بلهجته الهادئة وابتسامته الوديعة متمما: والذين تعتبرني واحدا منهم، أليس كذلك؟
خلق ذلك الهدوء الذي اتسم به بولكونسكي احتراما في نفس روستوف نحوه رغم أنه ضاعف سخطه وغضبه، فقال: إنني لا أقول هذا عنك، إنني لا أعرفك، ولا أريد بكل صراحة أن أتعرف عليك، إنني أتحدث عن رجال القيادة العامة بصورة عامة.
فأجاب بولكونسكي بثبات وبلهجة حازمة: وأنا أقول لك ببساطة إنك تهدف إلى إثارتي وإهانتي؛ الأمر الذي لن يعييك فعله إذا توقفت عن احترام نفسك، ولكن اعترف معي أن المكان والزمان غير ملائمين لمثل هذا العمل، لسوف ندخل جميعا بعد أيام قريبة آتية في مبارزة جدية من نوع آخر، ومن جهة أخرى إذا كان وجهي لم يرق لك - وهذا من سوء حظي - فإن دروبتسكوي، الذي يدعي أنه من أصدقائك القدماء، لا دخل له في الموضوع.
وأردف وهو ينهض واقفا: ثم إنك تعرف اسمي، وتعرف أين تجدني، مع ذلك حاذر أن تعتقد بأنني أعتبرك مهانا أكثر مما تقدر أنت نفسك الموضوع. اتفقنا، أليس كذلك يا دروبتسكوي؟ إنني أنتظرك يوم الجمعة بعد العرض.
وانسحب بعد أن حيا الشابين.
لبث روستوف مذهولا فترة ما، ولما وجب الجواب المناسب كان الآخر قد خرج؛ الأمر الذي ضاعف غضبه الجامع، فاستقدم جواده، وسلم على بوريس بلهجة جافة تقريبا، وعاد إلى معسكره، كان صراع داخلي مرير يستعر في نفسه طيلة الرحلة، كان يتساءل: هل يجب عليه الذهاب في الغد إلى مقر القيادة ليتحدى ذلك الصعلوك؟ هل كان من الأفضل الامتناع عن مثل هذا الأمر؟ كان يتذوق أحيانا اللذة التي تنتظره لرؤية ذلك الدعي مذهولا أمام فوهة مسدسه المصوب إلى صدره، وأحيانا أخرى كان يعترف، رغم كل ما في نفسه، أنه لم يجد بين كل معارفه، رجلا جديرا بصداقته كهذا الضابط المساعد الهزيل اللعين.
الفصل الثامن
الاستعراض الحماسي
غداة اليوم الذي جرت فيه المقابلة بين روستوف وبوريس، كان الجيشان الحليفان، وتعدادهما ثمانون ألف رجل - لأن فرقا جديدة مرسلة من روسيا التحقت مؤخرا بجيوش كوتوزوف العائدة من حملتها الأوروبية - يقومان باستعراض ضخم يشاهده العاهلان. كان إمبراطور روسيا مصحوبا بولي عهده التسيزاريفيتش والإمبراطور النمساوي يصحبه الأرشيدوق.
ولم يكد يبزغ فجر ذلك النهار، حتى أخذت القطعات تنتظم صفوفا في ساحة القلعة، وهي على أحسن حال، فكانت ألوف من الأقدام والحراب تمر حينا وأعلامها خافقة، فتقف تحت إمرة ضباطها، وتتراص شاغلة كل فراغ مقام بين كتل أخرى من المشاة، في أثواب مختلفة، وأحيانا يمر ألوف الفرسان على إيقاع سنابك الخيل وقعقعة السلاح وصليل السيوف، فيخطرون على خيول زرقاء وحمراء وخضراء، تسبقهم موسيقاهم الصداحة، يعزفها موسيقيون على صهوات جياد دهماء أو صهباء أو شهباء، وأحيانا، كانت المدفعية تدرج بجلبتها المعهودة، تنبعث رائحة المشاعل المضاءة في الجو، بوحداتها البراقة اللامعة تقطرها الجياد، فتختلط في صفوف المشاة والفرسان. وكان الجنرالات، وكلهم في أبهى زينة وعلى صدورهم الأوسمة والأوشحة، مضرجو الوجوه لاحتقان أعناقهم - الهزيلة منها والضخمة - في الياقات القاسية، والضباط المعطرون المضمخون، والجنود وقد اغتسلوا حديثا وعنوا بألبستهم عناية فائقة وأجهزتهم وعتادهم نظيفة ولامعة، والخيول نفسها وقد نظفت وغسلت حتى راحت أعناقها وقوائمها تلتمع تحت إشعاع الشمس، وكأنها عوينت شعرة فشعرة، كانوا كلهم يشعرون بخطورة موقفهم، ويدركون أهمية تلك الساعة الرهيبة الجليلة. وكان كل من المحتشدين، من الجنرال وحتى الجندي البسيط، يحس بأنه ذرة من الرمل في صحراء أو محيط من البشر، لكنه كان معتدا بنفوذه وسطوته وسلطانه؛ نظرا إلى أنه جزء لا يتجزأ عن هذا المجموع الجبار الهائل.
كانت الاستعدادات قد بدأت منذ الفجر، فلم تبلغ الساعة العاشرة تماما حتى كانت كل الأمور على أهبة تامة. فالجيش كله، الفرسان في الطليعة والمدفعية في الوسط والمشاة في المؤخرة، كان منتظما في ثلاثة صفوف ضخمة متراصة على الساحة الكبرى الفسيحة، وكان يفصل بين كل قطعة وقطعة فراغ على شكل شارع فسيح مستو، كانت تلك الكتلة الهائلة المؤلفة من عناصرها الثلاثة الهامة، تشمل على قطعات كوتوزوف التي خاضت الحرب، وفي مقدمتها فيلق بافلوجراد في ثياب العرض، ثم القطعات التابعة للحرس أو للجيش التي وصلت حديثا من روسيا وأخيرا الوحدات النمساوية، وكانت هذه الكتل البشرية كلها محتشدة على صف واحد وفق تشكيل موحد، تخضع في قيادها لقائد واحد.
وارتعشت الشفاه بدمدمة هاتفة: «ها هم، ها هم!» وسرت تلك الدمدمة في الصفوف سريان النار في الهشيم والريح بين الأغصان، وقام الجنود بحركتهم الأخيرة استعدادا للساعة الحاسمة، فكانت تلك الحركة أشبه بموجة هادئة اجتاحت أديم محيط زاخر.
ظهر موكب مقبل عند أبواب أولموتز، وفي تلك اللحظة، مرت نسمة خفيفة فوق رءوس الجند رغم السكون المطبق الشامل، فتدبدبت نيران المشاعل، وارتعشت الأعلام في أعلى صارياتها، خيل للناظر أن انتفاضة عامة شملت الجنود كلهم سرورا لمقدم العاهلين، وردد الصدى صيحة مدوية تكررت منطلقة بالترتيب من أفواه مسئولة متعددة، كصياح الديك عند الفجر: اس...تعد!
تلك كانت الصيحة، فأعقبها سكون القبور.
لم تعد الأسماع تصغي إلا لوقع أقدام الجياد القادمة، ولما وصل العاهلان إلى الحشد، صدحت موسيقى فيالق الفرسان الأولى منبهة، وبدت تلك الأصوات الموسيقية صادرة عن الجيش كله، وليس عن فرقة موسيقية بعينها، كانت موسيقى معبرة عن سعادة الجند وفرحهم بالاحتفال والحفاوة بمقدم العاهلين الفجائي، مع ذلك، فإن الصخب الموسيقي لم يحجب صوت الإمبراطور ألكسندر، الفتي الجياش، الذي كان يرد التحية للجنود، وأجاب الفيلق الأول على التحية بنداء راعد: «هورا!» طويلة تصم الآذان، «هورا» أخافت الجنود أنفسهم مبينة لهم كبير عددهم وعظيم قوتهم وبأسهم.
استعرض الإمبراطور بادئ الأمر جيش كوتوزوف، وكان روستوف واقفا في الصفوف الأولى، فشعر شعور كل الجنود الآخرين: إنكار للذات، وإيمان عنيف بقوته، وحماس منقطع النظير لبطل تلك اللحظة. كان يدرك أن كلمة واحدة من هذا البطل تكفي لكي تتحرك هذه الكتلة الهائلة من البشر الذي لم يكن بنفسه إلا ذرة حقيرة من ذراتها، فتلقي بنفسها إلى الماء أو إلى النار، وتندفع نحو الموت، وتجري وراء الجريمة أو الأفعال الأكثر بطولة وتمجيدا، وعلى ذلك فقد شعر أنه على وشك السقوط عندما اقترب الرجل صاحب تلك الكلمة.
ترددت صيحات «الهورا» من كل مكان تختلط بأصداء الموسيقى، واستقبلت الفيالق، الواحد تلو الآخر، الإمبراطور بالهتاف وقرع الطبول التي تراجعت أصداؤها على شكل زمجرة هائلة مريعة متداخلة مشوشة، تصم الآذان، وتخبل العقول.
كان كل فيلق - قبل وصول الإمبراطور - يبدو جامدا وكأنه لا حياة فيه. حتى إذا اقترب منه، وبات على حدود جناحه، دبت الحياة فيه على أعنف الصور وأقواها، فيلحق صيحاته وهتافاته بصيحات الآخرين وهتافاتهم المدوية. وفي جحيم تلك الأصوات المرعدة وذلك الصخب العنيف، وفي وسط ذلك البحر الزاخر من الجنود؛ كانت بضع مئات من خيول الحرس المواكب تبدو أقل الجميع مبالاة بالنظام وقد روعتها الصيحات، لكن فرسانها كانوا قادرين أبدا على كبح جماحها دون ارتباك، بل وفي شيء من اللامبالاة، وجعلها تقف متباعدة حسب ترتيبها الأصيل. وكان فارسان اثنان - الإمبراطوران - يسيران في مقدمة الموكب وقد تعلقت فيهما أبصار جميع الجنود دون استثناء.
كان الإمبراطور ألكسندر الجميل الشاب يرتدي ثياب الحرس الراكب، وقد أحال قبعته المثلثة الأطراف قليلا على أذنه، وكان يستأثر بالاهتمام العام بوجهه الوديع المشرق وصوته الداوي القوي في غير قسوة.
استطاع روستوف في مكانه قرب فصيلة الموسيقى، أن يتعرف على الإمبراطور عن بعد، فراح يتابع حركاته كلها بعينيه الحادتين، فلما أضحى ألكسندر على بعد عشرين خطوة، لم يعد يرى شيئا أو يميز تقاطيع ذلك الوجه الفتي الجميل البشير. لقد استسلم لشعور لم يشعر بمثله من قبل؛ شعور امتزج فيه الحنان بالحماس والاندفاع، بدا له ذلك الرجل - في كل حركة من حركاته وكل قسمة من قسمات وجهه - جذابا يأخذ بمجامع القلوب.
توقف ألكسندر أمام فيلق بافلوجراد، وتحدث إلى الإمبراطور النمسوي ببضع كلمات بالفرنسية ثم أخذ يبتسم، أثارت تلك الابتسامة ابتسامة مماثلة على شفتي روستوف الذي أخفق في كبتها، وازداد تعلقه وحنينه حتى إنه شعر برغبة لا توصف في أن يعرب لإمبراطوره عن حبه العميق وإخلاصه، ولما أدرك عقم تلك الرغبة واستحالة تنفيذها، شعر بحزن عميق كاد أن يفجر الدمع من مآقيه.
وفي تلك الأثناء، استدعى الإمبراطور قائد الفيلق، وراح العاهلان يتحدثان معه فترة من الزمن.
أخذ روستوف يناجي نفسه قائلا : «رباه!» ماذا يكون حالي لو أنهما تحدثا معي أنا؟ إنني سأموت حتما!
لم ينس ألكسندر ضباط الفيلق من شكره فقال لهم: أيها السادة، إنني أشكركم من أعماقي.
وكانت كل كلمة من هذه الكلمات تبدو لروستوف لحنا صادرا عن السماء باتجاه الأرض، آه، كم كان سيشعر بالسرور لو أنه مات في تلك اللحظة في سبيل القيصر!
كان الإمبراطور يقول مسترسلا: لقد استحققتم بنود القديس جورج ولسوف تظهرون جدارتكم بها.
ففكر روستوف: «نعم الموت، الموت من أجله، هو أقصى ما أتمناه!»
وأضاف ألكسندر كلمات أخرى لم يتبينها روستوف، ولم يلبث الجنود أن هتفوا ملء حناجرهم: هورا!
انحنى روستوف على سرج جواده وراح يهتف كالجنود. كان مستعدا لتفجير رئتيه إذا كان في ذلك دليل كاف على حبه للإمبراطور!
لبث ألكسندر كالحائر فترة أمام فيلق الفرسان لا يتحرك، فتساءل روستوف: «كيف يمكن أن يحار الإمبراطور؟» ولكن تلك الحيرة لم تلبث أن بدت لناظريه - لكل حركات العاهل وتصرفاته - مليئة بالجلال والعظمة والوقار.
غير أن ذلك التردد لم يدم إلا لحظة سرعان ما تبددت، تحركت قدم الإمبراطور المغيبة في أحذية ضيقة عالية الساق دقيقة المقدمة، كالتي كانت سائدة في ذلك العصر، فمست برفق كشح الفرس المحجل القوائم المولد من عرق إنجليزي، وجمعت يده المقفزة الصروع، وعاد إلى سيره يتبعه سيل زاخر من الضباط المساعدين، راح يبتعد أكثر فأكثر ليتوقف أمام فيالق أخرى، حتى لم يعد يرى منه أخيرا إلا الريشة البيضاء التي تزين قبعته، طافية فوق ذلك المحيط المتلاطم من البشر.
شاهد روستوف بين المواكبين للإمبراطور الأمير بولكونسكي يختال على جواده بمرونة ووقار، وعادت إلى ذاكرته حوادث البارحة وتصور خصامهما بالأمس فعاد السؤال الذي ظل دون جواب يراود مخيلته: «هل أتحداه؟» وأخيرا قرر في سره: «أبدا، إن الوقت في الواقع لا يسمح بمثل هذه الأمور، ثم ما قيمة خصوماتنا الصغيرة في هذا الظرف الحافل بالإخلاص والحماس والتضحيات؟ نعم، ما قيمة التوعك الذي يصيب كراماتنا في مثل هذا الظرف؟ إنني أحب كل الناس الآن، وأصفح عن الجميع !»
وبعد أن استعرض الإمبراطور كل الفيالق تقريبا، راحت الصفوف تمر أمامه بخطوات الاستعراضات الموزونة، كان روستوف ممتطيا صهوة حصان «بيدوان» الذي عاد فاشتراه من دينيسوف، يسير وحيدا في مؤخرة كوكبته؛ أي إنه كان وحيدا يلفت أنظار العاهل، وقبل أن يصل إلى حيث كان الإمبراطور، همز روستوف - وهو الفارس البارع - بيدوان عدة مرات، ونجح في جعله يسير بذلك الجنب الهائج الذي كان مشهورا به عندما يثار ويغضب، خفض فمه المكسو بالزبد حتى كاد أن يلامس جؤشوشه، ونصب ذيله، وراح يطرح قوائمه على التوالي على ارتفاع متناسق، وكأنه يطير في الفضاء دون أن تطأ قوائمه الأرض، وهكذا مر بيدوان الذي أحس بأنظار العاهل تتعلق به أمام الإمبراطور بفارسه الشاب على ذلك النمط الرائع البديع، حتى إن روستوف نفسه، الذي كان ضامر البطن مضموم الساقين مبعدهما إلى الخلف متقلص الوجه منشرح الخاطر، بدا كأنه قطعة لا تنفصل عن حصانه الأهوج، فمر به أمام الإمبراطور، وكأنه «شيطان من الجحيم»، على حد قول دينيسوف.
قال الإمبراطور: مرحى يا فرسان بافلوجراد!
فناجى روستوف نفسه بقوله: رباه! بأية سعادة ألقي بنفسي إلى النار لو أمرني بذلك في هذه اللحظة!
ولما انتهى العرض، اجتمع الضباط الروسيون: ضباط كوتوزوف والوافدون حديثا من روسيا، في حلقات متفرقة، واستغرقوا في الحديث الذي كان يدور بصورة خاصة حول المكافآت المنتظرة والنمساويين وألبستهم، وحول بونابرت الذي كان موقفه الخطر قد ازداد خطورة بعد وصول فيالق إيسن
Essen
وانضمام بروسيا إلى الحلف، غير أن الحديث كان يدور حول الإمبراطور ألكسندر بصورة عامة، فكانت كل حركة من حركاته أو إشارة من إشاراته تفسر بحماس وتوقد، كانوا جميعا لا يطلبون إلا أمرا واحدا: الهجوم على العدو. كان روستوف ومعظم الضباط يفكرون في أنه من المستحيل أن يهزم جيش يأتمر بإمرة عاهل كهذا القيصر، فكانوا يشعرون بدنو النصر المبين، ويؤمنون به إيمانا يتوافر مثله عقب معركتين ظافرتين متتاليتين.
الفصل التاسع
طموح بوريس
غداة اليوم التالي للعرض، ارتدى بوريس أجمل ثيابه، ومضى إلى أولموتز ترافقه تمنيات صديقه بيرج الطيبة ، كان يهدف إلى الإفادة من مركز بولكونسكي ليصل إلى خير المراكز وأحسنها، وكان المركز الذي يهدف إليه ويتمناه هو أن يكون ضابطا مساعدا لشخصية قوية واسعة النفوذ، يغبطه الآخرون على سطوته ويحسدونه على قوته. كان يناجي نفسه بقوله: يستطيع روستوف، الذي يرسل له أبوه كل مرة عشرة آلاف روبل، أن يترفع ويأبى الانحناءات والاحترامات، أما أنا - الذي لا أملك شيئا باستثناء نفسي - فإنني مرغم على شق طريقي والإطباق على الفرصة بأيد قوية.
لم يجد الأمير آندريه في أولموتز ذلك اليوم، غير أن معالم المدينة، حيث أقيم فيها مركز القيادة العامة والسلك السياسي وأقام فيها الإمبراطوران مع حاشيتيهما بين مقربين وأقرباء؛ كل هذه الأشياء زادت في نفسه لهيب الشوق إلى المركز المنشود استعارا، وحببت إليه الدخول في ذلك العالم الجديد الرفيع، ما كان يعرف أحدا في المدينة، وأحس - رغم ثوبه الأنيق - أن كل هؤلاء الرجال العسكريين، المزوقة قلنسواتهم بالريش، المزينة أثوابهم بالصفائح الذهبية والخرج، الذين يخطرون بتيه وترفع في صخب وضجيج، يبدون أرفع منه مقاما وقدرا، حتى إنه لم يتفكر لوجوده فحسب، بل شعر أنه لا يستطيع إلا أن يتنكر لذلك الوجود التافه؛ ففي مركز القيادة، حيث استعلم عن الأمير بولكونسكي، شعر من لقاء الضباط المساعدين والحجاب أيضا الذين عاملوه بلامبالاة أنهم يستقبلون كل يوم عشرات من أمثاله، حتى إنهم متبرمون من كثرتهم. وفي اليوم التالي، رجع بوريس إلى أولموتز مرة ثانية، ولعل لقاء الأمس والمهانة التي شعر بها كانا الدافع المحفز له على معاودة الكرة، مضى إلى الفندق الذي ينزل فيه كوتوزوف وضباطه التابعون له، وكان ذلك بعد ظهر يوم 15 تشرين الثاني. قيل له إن الأمير موجود، وأدخلوه إلى حجرة فسيحة كانت من قبل صالة للرقص، كما بدت لبوريس الذي شاهد «بيانا» باقيا في ركن فيها إلى جانب خمسة أسرة، مؤسسة إلى جانب أسرة بمائدة وبعض المقاعد، وكان أحد الضباط المساعدين جالسا قرب الباب في معطف منزلي فارسي يكتب. وكان آخر، وهو نيسفيتسكي الضخم الأحمر الوجه، مكوما على أحد الأسرة معتمدا رأسه على يديه المضمومتين، يمازح زميلا له جالسا بالقرب منه. وثالث يوقع على «البيانو» لحن فالس شاع عن فيينا. بينما انحنى الرابع على الآلة الموسيقية، يرافق العازف بالغناء. لم يبدل أحد من الأربعة من سلوكه لدى رؤيتهم بوريس. استدار الذي كان يكتب، والذي سأله بوريس عن بولكونسكي، باستياء واضح وأفهمه أن بولكونسكي كان يؤدي وظيفة معينة، وأنه إذا كان يرغب في لقائه حقا، فعليه أن يذهب إلى قاعة الاستقبال مارا بالباب الذي إلى اليسار! فشكره بوريس، ومضى إلى القاعة التي عينها له الضابط، فرأى فيها عددا من الأشخاص بين ضباط وجنرالات ينتظرون.
شاهد عند دخوله جنرالا روسيا تملأ الأوسمة صدره، واقفا في وضعية أقرب إلى وضعية الاستعداد العسكرية، ينهي تقريره إلى بولكونسكي وعلى وجهه الناطق بالتبرم أمارات الإكرام المعروفة عند الجنود، وكان الأمير يصغي إليه، وعلى وجهه أمارات الإرهاق المهذب، وفي عينيه ومضة ساخرة، توحي للآخرين أنه لولا مستلزمات الواجب وضروراتها لما أصاخ السمع لحظة إلى كل ما يقولون، وسمع الأمير يقول له: حسن جدا، حسن، تفضل بالانتظار.
وكانت لهجته وأسلوب نطقه باللغة الروسية على الطريقة الفرنسية توحي بالسخرية والتهكم.
وقعت عيناه في تلك اللحظة على بوريس، فأغفل شأن الجنرال الذي راح يلاحقه ويتابعه، متوسلا إليه أن ينصت إلى ما يقول، واتجه نحو الشاب يخصه على البعد ببسمة بهيجة وبإيماءة من رأسه.
فهم بوريس عندئذ بجلاء ما توقعه من قبل دون أن يلمسه تماما؛ وأعني أن في الجيش شيئا اسمه درجات التسلسل، وأن هذا الشيء أكثر أهمية جوهرية من الطاعة الواردة في الأنظمة والمعروفة منه، كما هي معروفة من كل رفاقه. وكان ذلك الشيء الجوهري هو الذي كان يضيق على الجنرال ذي الوجه القرمزي المحشور في ثوبه العسكري، أن ينتظر بكل احترام أن يفرغ الرئيس الأمير بولكونسكي من محادثة حامل العلم دروبتسكوي على حديثه هو، وأن يصفو مزاجه ليصغي إليه. أحس بوريس أكثر من كل مرة سبقت أنه ينبغي له أن يخضع لذلك الترتيب الضمني أكثر من خضوعه للنظم المدونة؛ ذلك أنه رأى بنفسه أن مجرد حصوله على توصية لدى الأمير بولكونسكي جعله - وهو حامل العلم البسيط في فيلق الحرس - يتفوق دفعة واحدة على جنرال قادر على محقه في الصف وسحقه.
قال الأمير وهو يمسك بذراع بوريس: إنني آسف لأنك لم تجدني أمس؛ لقد ذهبنا باتجاه فيرورهر نعاين الأوضاع ونتفحصها، لقد أضاع هؤلاء الألمان علي كل يومي، إنهم عندما يتوخون التدقيق والتمحيص لا ينتهون بسهولة!
علت شفتي بوريس ابتسامة العارف بالأمر، رغم أنه لم يسمع بذلك الاسم إلا لأول مرة، بل ولم يسمع كلمة «أوضاع» كذلك إلا للمرة الأولى، أردف بولكونسكي: إذن يا عزيزي، إنك لا زلت ترغب في أن تكون ضابطا مساعدا، أليس كذلك؟ لقد فكرت فيك خلال هذا الوقت.
فأجاب بوريس، وقد تضرج وجهه بحمرة شديدة دون أن يعرف السبب: نعم، إنني عازم على تقديم طلب للجنرال القائد الأعلى الذي أوصاه لي الأمير كوراجين.
وأضاف وكأنه ينتحل عذرا لسلوكه: إنني إذا كنت أنهج على هذا النحو، فما ذلك إلا لخوفي من ألا يخوض فيلق الحرس في معركة حقيقية.
قال الأمير: جميل جدا! سوف نتحدث عن كل هذا، لكن اسمح لي الآن أن أدخل هذا السيد، ولسوف أكون بعد ذلك رهن تصرفك.
وبينما مضى بولكونسكي ليعلن عن وجود الجنرال ذي اللون القرمزي، راح هذا - وهو الذي لم يكن (ولا شك) يشاطر بوريس رأيه حول تفوق الترتيب النظامي لاستثناءات بروتوكولية - يحدج بإلحاح مرير ذلك الصعلوك، حامل العلم البسيط، الذي حرمه متعة التحدث براحة إلى الضابط المساعد، وشعر بوريس بالارتباك، فأشاع بنظره، وراح ينتظر عودة الأمير بفارغ صبر.
قال الأمير وهو يقوده إلى البهو ذي الأسرة والآلة الموسيقية «الأرغن»: إليك يا عزيزي الفكرة التي خطرت لي: أعتقد أنه من العبث تقديم طلب إلى القائد الأعلى، إنه سيسمعك ألف مجاملة ومجاملة، ولعله يدعوك أيضا إلى تناول الطعام على مائدته.
فكر بوريس في سره معقبا: «الأمر الذي لن يكون تافها إذا قورن بفروض الاحترام لدرجات التسلسل»، بينما استرسل الأمير: غير أن هذا لن يبدل من الأمر شيئا؛ لأننا - معشر الضباط المساعدين والأتباع - أصبحنا طابورا كبيرا، إليك إذن ما سنعمله: لي صديق، وهو الأمير دولجوروكوف، وهو فتى رائع يشغل مركز ضابط مساعد عام لجلالته، ولعلك تجهل أننا أصبحنا جميعا؛ كوتوزوف وهيئة أركانه ونحن معهم، عديمي النفوذ الآن؛ لأن كل شيء أصبح الآن منوطا بجلالة الإمبراطور؛ لذلك فإنني سأقابل دولجوروكوف هذا، فهيا رافقني إليه، لقد حدثته من قبل عنك، ولعله قادر على أخذك في معيته، أو إيجاد مركز مناسب لك حول الشمس.
كان حماس الأمير آندريه يزداد تباعا كلما أتيحت له الفرصة لحماية شاب ناشئ ودعمه وتقويم خطاه الأولى وتوجيهها في الحياة، وكانت تلك الحجة، حجة مساعدة الآخرين التي لم يسمح له كبرياؤه قط باستثمارها في سبيل نفسه، كان بولكونسكي يختلط بالأوساط الرفيعة التي تؤمن النجاح وتمهد له، ويتقرب من المتنفذين؛ لذلك فقد اعتبر أن مصالح بوريس التي أوكلت إليه، بادرة طيبة ترضي نزعته، وهكذا اصطحبه معه لزيارة الأمير دولجوروكوف بكل طيبة خاطر.
عندما دخل الصديقان قصر أولموتز، كان الليل قد أفنى جانبا من عمره، وغطى الظلام ذلك المكان الذي يقيم فيه الإمبراطوران وحاشيتهما.
أقيم ذلك اليوم مجلس حربي، حضره الإمبراطوران وكل أعضاء القيادة النمساوية والروسية، وقرر المجتمعون - خلافا لآراء العجوزين كوتوزوف وشوارزنبرج
1 - المبادرة إلى شن هجوم عام ضد بونابرت، وكان المجلس قد أنهى اجتماعه توا حينما دخل بولكونسكي ورفيقه يستفسران عن دولجوروكوف، كان أولئك السادة - سادة المجلس الحربي - في حبور كبير بسبب الفوز الذي أحرزه حزب «الشباب» على الكهول في ذلك الاجتماع. لقد خنقوا أصوات المستمهلين المسوفين بإجماع رائع، وأحبطوا كل اعتراضاتهم بمنطق بليغ سديد، حتى إن المعركة أو بالأحرى النصر المنتظر الذي توقعوا الحصول عليه أثناء مناقشاتهم في المجلس الحربي، بدا وكأنه وقع وانطوى في صفحات الماضي، كانت كفة الحلفاء - الروس والنمسويين والألمانيين - هي الراجحة؛ فقواتهم هائلة متفوقة بالعدد - دون أدنى شك - على قوات بونابرت، وهي جميعها متمركزة في نقطة واحدة، وكان الجنود قد أنشطهم ودب العزيمة في نفوسهم وجود الإمبراطورين، يتحرقون شوقا إلى القتال ، والأرض التي تقرر شن الهجوم عليها أرض معروفة مدروسة يعرف الجنرال فيروزر كل التفاصيل المتعلقة بها حتى أقلها شأنا، وهذا الجنرال هو الذي أوحى بفكرة الهجوم؛ لأن الجيش النمساوي كان أجرى في العام الأسبق مناورات كبيرة في تلك البقعة بالذات التي تقرر لقاء الفرنسيين عليها، وحدد على خرائط حديثة الوضع كل الأماكن والمرتفعات والمنحدرات. أضف إلى ذلك أن بونابرت كان - ولا شك - ضعيفا، بل وعاجزا عن خوض معركة كبيرة.
كان دولجوروكوف - وهو أكثر المتشيعين لفكرة شن الهجوم حماسة، يخرج في تلك اللحظة من قاعة الاجتماع منهوك القوى على آخر رمق من الجلد. لكنه كان كذلك ممتلئا حماسة واندفاعا، فخورا بالنصر الذي أحرزه فريقه منذ قليل، قدم له بولكونسكي «محميه» الذي اكتفى دولجوروكوف بأن شد على يده بتأدب دون أن يوجه إليه كلمة، لكنه لم يلبث أن وهنت عزائمه أمام رغبته الملحة في الإعراب عما يجيش في صدره، فالتفت إلى الأمير آندريه وقال له بالفرنسية بلهجة عنيفة متهدجة: آه يا عزيزي! يا لها من معركة تلك التي شنناها منذ حين! عسى أن يريد الله أن تكون المعركة التي ستنشأ عنها قريبا مكللة بالظفر! أتدري يا عزيزي أنني كنت مؤيدا مشرفا للنمساويين، وخصوصا فيروزر؟ يا للدقة! يا للإحكام! يا للمعرفة التامة بالأرض! ويا للخبرة المستبقة بكل الإمكانيات! بل يا للعلم المفرط بكل التفاصيل! صدقني يا عزيزي، إنه لا يمكن أن يتصور المرء مناسبة أكثر ملاءمة من التي نحن في صدرها، لقد اجتمعت الشجاعة الروسية بالدقة والإحكام النمساويين، فماذا تريد خيرا من ذلك؟!
فسأله بولكونسكي: إذن فقد تقرر الهجوم بالفعل؟
فأجاب دولجوروكوف بابتسامة هازئة: وخسر بونابرته (تسمية ساخرة لبونابرت) كل شيء، هل تعرف أن الإمبراطور قد تلقى أخيرا رسالة منه؟ - حقا! وماذا جاء فيها؟ - ماذا تريده أن يكتب؟ ترهات بقصد كسب الوقت. إننا نتحكم الآن في مقدراته، ثق بقولي.
ثم أضاف ضاحكا بطيبة قلب: غير أن ما يثير الفضول في الموضوع هو أن أحدا حتى الآن لم يوفق في تدبيج الجواب على تلك الرسالة بسبب العنوان، إن النية منصرفة إلى عدم استعمال كلمة «قنصل»،
2
فكيف بكلمة «إمبراطور»!
ولقد اقترحت أن يرسل الجواب باسم «الجنرال بونابرته»!
فقال بولكونسكي: اسمح لي، يجوز ألا يعترف به كإمبراطور، ولكن تسميته «بالجنرال بونابرته»!
فقاطعه دولجوروكوف ضاحكا: تماما، وقد أصبح الأمر أكثر تسلية. إنك تعرف بيليبين ولا شك، أليس كذلك؟ حسنا، لقد اقترح هذا الساخر الصامت أن نعنون الرسالة إلى «المعتدي عدو الجنس البشري»!
واستغرق دولجوروكوف في قهقهة مدوية، سأله بولكونسكي: أهذا كل شيء؟ - كلا، لقد أوجد بيليبين أخيرا اللقب المناسب، إن هذا الساخر يتمتع كذلك بذكاء ألمعي. - وماذا كان ذلك اللقب؟
فقال دولجوروكوف بلهجة جدية رزينة: إلى رئيس الدولة الفرنسية، أليس لك مخرج لهذه الورطة؟
فأجاب بولكونسكي: رائع! ولكنه لن يروق له. - بل على العكس، إن أخي يعرفه، نعم إنه يعرف ذلك الإمبراطور المرتجل، لقد تناول الطعام معه مرة في باريس، وأنبأني بأن لم ير في حياته دبلوماسيا أريبا داهية مثله، لقد اجتمع فيه الدأب الإيطالي بالرقة الفرنسية، هل تعرف الأقاصيص التي تشاع حول علاقاته بالكونت ماركوف؛ الرجل الوحيد الذي عرف كيف يتصرف معه بجدارة وحق؟ هل تعرف قصة المنديل مثلا؟ إنها رائعة.
وراح دولجوروكوف يتبسط في سرد الأحدوثة ملتفتا تارة إلى بولكونسكي وأخرى إلى بوريس، قال إن بونابرت كان مرة مع سفيرنا ماركوف في مقابلة رسمية، فأراد أن يختبره ليعرف قيمه الشخصية.
وبينما هما واقفان، ترك بونابرت منديله يسقط على الأرض، وراح ينظر إلى الكونت ماركوف نظرات ملؤها الأمل في أن يبادر هذا إلى التقاط المنديل وإعادته إليه، فما كان من سفيرنا إلا أن ألقى منديله بجانب منديل بونابرت وانحنى فالتقطه دون أن يحس منديل هذا الأخير.
قال بولكونسكي: رائع! ولكن اسمح لي يا أميري، لقد جئتك ملتمسا أمرا، إنه يتعلق بهذا الشاب الذي ...
لم يتمم حديثه؛ ذلك أن أحد الضباط المساعدين جاء يسأل عن دولجوروكوف ليسأله المثول بين يدي الإمبراطور.
قال الأمير وهو ينهض بنشاط، ويضغط على يدي بولكونسكي وبوريس مصافحا: آه، يا لها من مضايقة ! كنت سأكون سعيدا بتلبية كل رغباتك يا أمير في كل ما يتعلق بك وبهذا الشاب الجميل، وإنك تعرف حقيقة مشاعري نحوك.
وعاد يضغط على يديهما، ويخص بوريس بابتسامة مرحبة لم يكن الإخلاص فيها إلا طلاء ظاهريا، وأردف: لكنك ترى بنفسك ... فإلى المرة القادمة.
كانت مجاورة بوريس للسلطة العليا تحرك مشاعره بانفعال، كان يشعر في قرارة نفسه أنه في تلك اللحظة قريب من تلك السلطة التي تستطيع تحريك الكتلة الهائلة من البشر التي كان في عدادها صباح ذلك اليوم، والذي لم يكن فيها إلا ذرة طيعة سلسة القياد، تبع مع بولكونسكي الممشى الذي سار فيه دولجوروكوف، وعندما بلغا مكتب الإمبراطور الذي دخل إليه المساعد العام، التقيا برجل قصير القامة في ثوب مدني ذي ذقن ناتئة، تضفي على مظهره لونا من الحيوية الماكرة دون أن تكسب وجهه بشاعة، كان خارجا من حضرة الإمبراطور، شاهدا ذلك الرجل يومئ برأسه للأمير دولجوروكوف وكأنه من معارفه، ثم يصوب إلى بولكونسكي نظرة باردة منتظرا، ولا شك، أن يبادره هذا بالتحية أو يتنحى عن طريقه، لكن بولكونسكي خيب أمله، وعبس وقطب حاجبيه؛ مما جعل ذلك المدني يستدير متابعا طريقه.
سأل بوريس: من هذا؟ - إنه من أكثر الرجال رفعة في المركز وخطورة في الدولة، لكنه من أشدهم مقتا في نفسي، إنه الأمير آدم تزارتوريسكي وزير الخارجية، إن أمثال هذا الرجل يقررون مصير الشعوب.
وبينما كانا خارجين من القصر، ندت عن صدر بولكونسكي زفرة عميقة لم يستطع كتمانها.
وفي اليوم التالي، زحفت الجيوش، ولما لم يستطع بوريس لقاء بولكونسكي أو دولجوروكوف قبل معركة أوسترليتز، فإن بقاءه في فيلق «إسماعيل» كان يمضه ويضنيه.
الفصل العاشر
أفراح النصر
في فجر اليوم السادس عشر من تشرين الثاني، بارح نيكولا روستوف الذي كان في عداد كوكبة الفرسان التي يقودها دينيسوف والمربوطة بجيش باجراسيون، الثكنة مع كوكبته للدخول في العمليات المدبرة، أو على الأقل هذا ما كان يشاع حينذاك، ولكن لم تكد الفرقة تقطع ربع مرحلة حتى صدر إليها الأمر بالتوقف حيث هي على الطريق، رأى روستوف الجنود القوقاز يمرون أمامه، ثم الكوكبتين الأولى والثانية للفرسان، ففيالق كاملة من المشاة مصحوبة بعدد من المدافع، وأخيرا الجنرالان باجراسيون ودولجوروكوف يتبعهما الضباط المساعدون، وفي تلك المرة أيضا، بذل روستوف - الذي شعر بالخوف يتسرب إلى نفسه - جهدا جبارا للتغلب على مخاوفه، لقد حلم للمرة الثانية في أن يتصرف تصرف الأبطال؛ تصرف الفرسان الحقيقيين، لكن حلمه تبدد؛ لأن كوكبته تركت لتكون في عداد الاحتياطي من الجيوش؛ لذلك فقد قضى سحابة يومه في قلق واكتئاب عميق.
وفي الساعة التاسعة، ترامى إلى سمعه صوت طلقات نارية حامية أعقبها هتاف مدو، ولم تلبث أن مرت مراكب الجرحى عائدة إلى الصفوف الخلفية، وفي أعقابها كوكبة من القوقاز تعدادها مائة فارس، تحيط بحشد من الفرسان الفرنسيين الأسرى، وبدا أن المسألة قد انتهت نهاية سعيدة تتناسب مع أهميتها، كان العائدون إلى الصفوف الخلفية ينبئون زملاءهم بأخبار الانتصارات الرائعة التي أحرزتها القوات الروسية التي احتلت ويسشو، وأسرت كوكبة كاملة من الفرسان، وكان الصقيع الذي كسا الأرض خلال الليل بدثاره اللامع ينعكس بريقه تحت إشعاع شمس الخريف الخابية، فيزيد في ضياء ذلك الإصباح الجميل متناسقا مع النصر السعيد الذي أحرزته القوات الروسية، والذي لم تقتصر الروايات وحدها على تمجيده، بل أعرب عنه كذلك كافة الوجوه؛ وجوه الجنود والضباط والجنرالات التي كانت تفيض بشرا وحبورا كلما خطر أصحابها تحت أبصار روستوف الملتاع. وإزاء تلك المظاهرة البراقة المغرية، ازدادت نفس نيكولا اكتئابا وغما، واشتد سخطه لقضائه يوما آخر في جمود مزعج وهو الذي كان يتوق للقتال.
هتف دينيسوف يحدثه: تعال يا روستوف نغرق أحزاننا في الخمر.
وكان دينيسوف مقيما على جانب الطريق، وأمامه إناء وبعض الأرزاق.
راح ضباط الكوكبة يشكلون حلقة حول صندوق دينيسوف الحافل بالأرزاق، يتبادلون الحديث وهم يتناولون طعام الإفطار.
هتف أحدهم مشيرا إلى أحد فرسان الدراجون الفرنسيين الذي كان يسير على قدميه بين اثنين من القوقازيين: هه، ها هو ذا آخر يعودون به من جديد.
كان حصان الأسير، وهو حصان ضخم جميل التكوين، يسير في أعقاب صاحبه، وقد أمسك القوقازي بأعنته.
قال دينيسوف للقوقازي: هل تبيع الحصان يا هذا؟ - قد أبيعه يا صاحب النبالة.
تهافت الضباط حول القوقازيين وأسيرهما، كان هذا الإلزاسي الشاب، تكاد الدماء تنفجر من وجهه من شدة انفعاله، فلما سمع الضباط يتحدثون باللغة الفرنسية، راح يحدثهم بطلاقة واندفاع شديدين، متوجها تارة إلى هذا وأخرى إلى ذلك، معلنا أنه لولا عناد العريف قائد مفرزته، لما وقع في الأسر، قال إنه أخطر رئيسه مرارا بأن الروسيين قد احتلوا المدينة، مع ذلك فإن ذاك أرسله للبحث عن لبد أغفلت هناك، وكان بعد كل جملة يلاطف عنق جواده ويقول متوسلا: لكن أرجو ألا تسيئوا إلى جوادي المسكين. كان يبدو على ذلك الرجل أنه لا يدري عن أمره شيئا، فكان يعتذر أحيانا لأنه استسلم وأسر، وأحيانا أخرى يعتقد أنه في حضرة رؤسائه، فيتبجح أمامهم مبينا غيرته ودأبه في الخدمة، وبفضله أمكن للقوات الروسية المرابطة في الصفوف الخلفية أن تفهم الجو الذي يعيش فيه الجيش الفرنسي بكل تفاصيله؛ ذلك الجو الذي لم تكن لديهم أية فكرة عن حقيقته.
باع القوقازيان الحصان لقاء قطعتين ذهبيتين إلى روستوف الذي كان أكثر زملائه ثروة، فقال الأسير الإلزاسي لروستوف الذي قبض على أعنة الحصان: أرجو ألا يعامل حصاني الصغير معاملة سيئة.
ابتسم روستوف، وطمأن الأسير، ثم أعطاه بعض المال، وهتف أحد القوقازيين بالأسير وهو يدفعه إلى الأمام: هيا، هيا، تقدم.
وفجأة صاح أحدهم: الإمبراطور، الإمبراطور!
هرع الجميع لهذا النداء، واستدار روستوف فوقعت أبصاره على بعض الفرسان القادمين وعلى قلنسواتهم الريش الأبيض. وفي طرفة عين، كان كل في مكانه من الصف ينتظر القادمين.
مضى روستوف كذلك إلى مركزه، واعتلى صهوة جواده دون أن يشعر بما يفعل. تبدد أسفه العميق لعدم اشتراكه في المعركة، وتبخر اشمئزازه العنيف من اللفظ اليومي الوتير الذي كان يطالعه أبدا على تلك الوجوه المعروفة منه، وأصبح لا يشعر حتى في وجوده. لقد كان الفرح الذي شمله عند سماعه بأن الإمبراطور بات قريبا منه يستأثر بكل اهتمامه . كان سعيدا كالعاشق الذي ينتظر لقاء حبيبته للمرة الأولى، مع ذلك فإنه لم ينس مقتضيات النظام الذي تفرض عليه عدم الالتفات، لكنه لم يكن في حاجة للالتفاف ليعرف «أنه» اقترب، ولم يكن اقتراب الإمبراطور يعلن بارتفاع أصوات سنابك الخيل وتقدمها فحسب، بل بالإشراقة التي أحس بها روستوف تغمر الجو والجلال الذي راح يستولي على النفوس، وكانت تلك الشمس التي أضفت ذلك النور الرائع الهادئ تقترب تدريجيا وتلف روستوف بإشعاعاتها الدافئة المهدهدة، وتبينت أذنه ذلك الصوت الجليل الهادئ الدافئ البسيط، الذي راح يتعالى كلما ازداد صاحبه قربا.
لم تخدع روستوف إحساساته؛ لأن سكونا مطبقا شمل المكان فجأة، وتردد صوت الإمبراطور يمزق ستره بقوله: فرسان بافلوجراد!
فأجابه صوت بدا لسمع روستوف أن لهجته تدل على أن صاحبه ليس إلا من بني البشر بقدر ما كان الصوت الأول ملائكيا علويا: الاحتياط من الفرقة يا صاحب الجلالة.
توقف ألكسندر أمام روستوف الذي شعر أن وجهه أشد جمالا مما بدا له في الاستعراض العام قبل ثلاثة أيام، كان ذلك الوجه يطفح بالشباب والوداعة؛ شباب بريء، جعله يبدو - رغم جلاله وهيبته - أشبه بوجه وديع بهي لطفل في الرابعة عشرة من عمره، وبينما كان يجيل بصره في وجوه فرسان الكوكبة، التقت أنظاره فترة بأنظار روستوف وتوقفت برهة معها، فهل تراه فهم ما كان يجول في خاطره كما توقع روستوف؟ المهم أنه تأمله حوالي ثانيتين بعينيه الزرقاوين اللتين ينبعث منهما نور حان وديع، وفجأة، رفع حاجبه وهمز جواده بمهمازه الأيسر، واستمر في طريقه هدبا.
تصامم الإمبراطور الشاب عن رجاء أتباعه وأفراد حاشيته، ولم ينجح في التخلي عن رغبته في المساهمة في الهجوم، حتى إنه حوالي الظهر، انفصل عن الصف الثالث من الجيش، وهرع إلى الصفوف الأولى، لكنه لم يكد يصل إلى حيث كان الفرسان منقضين على العدو حتى أبلغه ضباطه المساعدون بنبأ النصر الذي أحرزوه.
كان ذلك النجاح، الذي لم يكن إلا أسر كوكبة فرسان فرنسية فحسب، قد رسم للإمبراطور الشاب على لوحة تظهره بمظهر النصر الرائع، حتى إن الإمبراطور والجيش كله - كما أشيع في حينه - ظنوا أن الفرنسيين قد دحروا، وأنهم يتراجعون مرغمين، وكان الدخان الكثيف الذي غطى ساحة المعركة يكاد هو الآخر يثني على ذلك. ولم تمض دقائق على مرور الإمبراطور، حتى صدرت الأوامر للجيش الذي كان الاحتياطي من فرسان بافلوجراد تابعا له بالحركة، وقد قدر لروستوف أن يشاهد الإمبراطور مرة ثانية في مدينة ويسشو، وكانت بعض الجثث - جثث الجرحى والقتلى - لا زالت في مكانها في ساحة تلك المدينة التي لعلع الرصاص فيها منذ حين خلال المعركة، لم ترفع بعد. وكان الإمبراطور ممتطيا صهوة جواد آخر غير ذلك الذي استعرض القطعات على صهوته، لكنه كان مولدا أيضا من أصل إنجليزي ومحجل الأطراف، وكانت حاشية كبيرة تحيط به. كان منحنيا على جنبه حاملا بيده عوينته الذهبية، ينظر إلى جندي مستلق على صدره مضرج بالدماء التي تخضب رأسه وسترته. كان ذلك الجريح كريه المنظر منفره، شديد القذارة؛ حتى إن روستوف شعر بألم شديد لوجود الإمبراطور بالقرب منه. اجتاحت قشعريرة ظاهرة كتفي العاهل المحنيين قليلا، فهمز جواده بعصبية بساقه اليسرى، غير أن الفرس المطهمة المدربة تدريبا ممتازا، لوت عنقها بشيء من اللامبالاة، ولم تتقدم خطوة واحدة، وكان روستوف يراقب كل حركات الإمبراطور حتى أتفهها شأنا. وأخيرا، ترجل أحد الضباط المساعدين، فحمل الجريح من تحت إبطيه، ووضعه على نقالة جيء بها في تلك اللحظة، فأطلق الجريح زمجرة.
وقال الإمبراطور الذي كان يتنفس بصعوبة أكثر من المحتضر نفسه: رويدكما، احملاه بلطف، ألا يمكن نقله بعناية أكثر وهدوء أشد؟!
شاهد روستوف الدموع تملأ عيني مليكه، وسمعه يقول لكزاركوريسكي وهو يبتعد: يا لها من أمر مروع هذه الحرب! يا لها من أمر مريع!
كانت مقدمة الجيش تحتل مراكزها خارج المدينة تلقاء العدو الذي ما فتئ إزاء أحقر هجوم، ويتخلى عن مساحات من الأرض. أعرب الإمبراطور عن شكره للقطعات المحاربة ووعد بمكافآت، وفي ذلك النهار وزعت على الجنود جراية مضاعفة من العرق، كانت نيران المعسكرات أكثر بهجة في تلك الليالي عن الليالي السابقة، وكذلك أغنيات الجنود فإنها كانت أشد حماسة، واحتفل دينيسوف تلك الليلة بترقيته إلى رتبة ماجور. وقبل نهاية الحفل، رفع روستوف يده بقدحه وكان قد ثمل لكثرة ما عب من شراب، واقترح أن يشربوا نخب الإمبراطور. قال مفسرا: أصغوا إلي لتفقهوا غايتي، إنني لا أقترح أن نشرب نخب «صحة الإمبراطور» كما درجت عليه العادة في الحفلات الرسمية، بل أطلب أن نشرب نخب الإمبراطور ألكسندر، الرجل الطيب الفتان الرائع، نخب صحته إذن، نخب انتصارنا على الفرنسيين، إن النصر أكيد أيها السادة، فنحن الذين حاربنا ببسالة من قبل، وطوحنا بالفرنسيين في شوينجرابن، ماذا يكون موقفنا اليوم والإمبراطور على رأسنا؟ سوف نموت جميعا وبسرور بالغ، أليس كذلك أيها السادة؟ لعلني لم أنجح في التعبير عن شعوري وعواطفي كما يجب، لكنني أوجزت في ذكر إحساساتي وإحساساتكم أيضا، فاشربوا نخب صحة ألكسندر الأول، هورا!
ورددت الحناجر صيحة هورا، حتى إن الرئيس العجوز كيرستن أودع في تلك الصيحة من الحماس الساذج مثل ما أودعها روستوف.
وبعد أن أفرغ الضباط أقداحهم وحطموها، ملأ كيرستن أقداحا أخرى، حمل كأسه وراح يلوح بها، وتقدم - وهو في قميصه الأبيض - إلى حيث يعسكر الجنود، وتوقف أمامهم وقفة جليلة قريبا من المعسكر، وشارباه الأشهبان الطويلان، وصدره الأبيض البارز خلال فتحة قميصه، بارزة واضحة تحت أضواء النيران.
هتف بصوته الأجش الخطير، صوت الفارس العجوز المحنك: هيا أيها الفتيان، اشربوا نخب صحة جلالة الإمبراطور، ونخب انتصارنا على العدو! هورا!
والتفتت الفرسان حوله، وراحوا يرددون بأصواتهم القوية هتافاته المدوية: هورا!
وفي ساعة متأخرة من الليل، حان وقت الانفصال، فربت دينيسوف بيده الصغيرة على كتف روستوف صفيه وقال: إذن، إنك لم تجد من تتعلق به في السرية، فانصرفت إلى عشق الإمبراطور! - آه يا دينيسوف! لا تمزح هكذا، إنه شعور جميل رفيع شديد التسامي شديد ... - لا شك، لا شك، وإنني أشاطرك هذا الشعور وأؤيده. - كلا، بل إنك لا تفهمني.
ونهض روستوف وراح تياها بين المعسكرات، يحلم في السعادة التي ينشدها في الموت ليس في سبيل إنقاذ حياة الإمبراطور، التي كان يؤمن أنه غير جدير في نيل شرف إنقاذها، بل في الموت تحت أبصاره. كان مأخوذا بمليكه وبعظمة الجيوش الروسية، يسمو ويحلق مع الأمل في إحراز نصر قريب، ولم يكن روستوف وحده يحس هذا الإحساس في تلك الأيام الخالدة التي سبقت معركة أوسترليتز، بل إن تسعة أعشار الجنود على الأقل كانوا مثله مأخوذين بروعة شخصية مليكهم وبعظمة الجيوش الروسية.
الفصل الحادي عشر
مفاوضات فاشلة
أقام ألكسندر في اليوم الثاني في مدينة فيسشو، وأمر باستدعاء طبيب جلالته المرافق فيلبير، فشاع خبر الوعكة الصحية التي ألمت بالإمبراطور في القيادة العامة وبين الوحدات القريبة من المكان، كان خلص العاهل الروسي يزعمون أن روحه الحساسة المرهقة تأثرت بمشاهد القتلى والجرحى، فضعفت شهيته إلى الطعام، وأمضى ليلة شديدة الإزعاج.
وفي فجر اليوم السابع عشر،
1
تقدم ضابط فرنسي، يحميه علم أبيض، إلى الخطوط الروسية الأمامية، وطلب مقابلة الإمبراطور، فنقل إلى فيسشو. ولما كان الإمبراطور نائما، فقد اضطر ذلك الضابط الذي لم يكن إلا سفاري،
2
أن ينتظر حتى يستيقظ جلالته. وحوالي الظهر، مثل بين يدي الإمبراطور حيث لبث ساعة كاملة، خرج بعدها يصحبه الأمير دولجوروكوف، وسرت بين الصفوف شائعة مفادها أن نابليون أرسل يلتمس مقابلة الإمبراطور ألكسندر الذي رفض الذهاب بنفسه، وأناب عنه الأمير دولجوروكوف، المنتصر في معركة فيسشو؛ ليبحث مع نابليون في شئون السلام إذا رغب هذا، خلافا لما كان ينتظر منه، وقد قوبل رفض العاهل ألكسندر من قبل الجنود بسرور بالغ، وأثار في الجيش روح الكرامة والاعتداد.
وحوالي المساء، عاد دولجوروكوف، فمضى قدما إلى مكتب الإمبراطور؛ حيث لبث في حضرته على انفراد وقتا طويلا.
وفي يومي 18 و19 (أي 1 و2 كانون الأول كما أسلفنا) ظلت الوحدات الروسية تتقدم والخطوط الأمامية للعدو تتراجع إثر مناوشات بسيطة تافهة، غير أن حركة كبيرة دبت في الصفوف اعتبارا من بعد ظهر يوم 19 (2 / 12 / 1805)، حركة هائلة بلغت في مداها إلى أعلى مراتب الجيش، واستمرت دائبة حتى صباح يوم 20 تشرين الثاني؛ وهو اليوم الذي وقعت فيه معركة أوسترليتز التاريخية
3
الخالدة.
كانت الحركة الصاخبة والأحاديث الحارة والسعي الدائب، ومهام الضباط المساعدين، محصورة كلها حتى ذلك اليوم بين حدود مركز القيادة العامة الإمبراطورية. أما في يوم 19 تشرين الثاني، فقد تعدت الحركة تلك الحدود، فبلغت مركز قيادة كوتوزوف ومركز أركان حرب قواد الكتائب والوحدات. ولم يحل المساء إلا وكانت الصفوف كلها في شغل شاغل بفضل مساعي الضباط التابعين. وفي ليل 19-20 تشرين الثاني، اهتزت الكتلة الهائلة التي كان قوامها ثمانين ألف رجل، والتي كانت تنبسط على جبهة طولها يناهز العشرة كيلومترات.
كانت الحركة المركزية التي بدأت ذلك الصباح من مركز القيادة الإمبراطوري، والتي دب بسببها النشاط في كل القطعات، تذكر المرء بالعجلة المحركة التابعة لساعة جبارة كبيرة. بدأت إحدى العجلات تدور ببطء، ثم أعقبتها ثانية فثالثة، ولم تلبث حتى استجابت لها المشابك والعجلات الفرعية وما إليها، فراحت تهتز بدورها، تزداد مشيتها سرعة دقيقة بعد دقيقة، فيدوي الجرس وتتحرك التماثيل الصغيرة، وتتقدم الإبر بانتظام إلى الأمام كما هي النتيجة المحتومة للعملية كلها.
كذلك كانت الآلة العسكرية تشبه آلة الساعة في كل شيء، حتى في الغاية، فإذا ما قامت الحركة الأولى، لبثت كل الآلات الأخرى جامدة حتى يصل إليها النشاط الدوري الرتيب، فتصر العجلات على الحوامل، وتتشابك أسنانها، وتتحرك المشابك بفعل السرعة والروتين، بينما تظل العجلة المجاورة ساكنة بانتظار دورها في الحركة، وكأنها تستطيع البقاء في سكونها وجمودها مئات السنين، ولكن عندما تحين اللحظة المواتية، وتشتبك أطرافها في مخلب مشرشر مدبب، تخضع لنظام الحركة فورا، فتدور ويرتفع صريرها هي الأخرى متماشية مع الحركة العمومية، التي تبقى النتائج المرجوة مجهولة منها.
وكما أن الحركة المعقدة في الساعة لا تنتهي إلا بانتقال الإبرة المشيرة إلى الوقت من مكانها على الميناء ببطء وانتظام، فإن النشاط الذي دب في أعصاب مائة وستين ألف رجل بين روسي وفرنسي، واصطدام تلك الرغبات واختلاط تلك الشهوات، والحسرات والمخاوف والآلام، وبوادر الكبرياء والذعر والحماس؛ لم يكن لها من نتيجة إلا خسارة معركة أوسترليتز بالنسبة إلى أحد الجانبين المتحاربين؛ تلك المعركة التي أطلق عليها اسم معركة الأباطرة الثلاثة : إمبراطور روسيا والنمسا وفرنسا؛ وبمعنى أصح، لقد كانت حركة إبرة التاريخ العام على ميناء تاريخ الإنسانية.
كان الأمير آندريه في الخدمة ذلك اليوم، فلم يفارق الجنرال الأعلى كوتوزوف لحظة واحدة. وفي الساعة السادسة مساء، وصل كوتوزوف إلى مقر القيادة الإمبراطورية، وبعد لقاء قصير مع الإمبراطور، قصد إلى الكونت تولستوي، الذي كان ماريشال البلاط الأكبر. شعر بولكونسكي أن كوتوزوف لم يكن على ما يرام، بل إنه لاحظ عليه الاغتمام والاستفزاز اللذين كان مردهما الاستقبال الفاتر الذي قوبل به من قبل السادة أعضاء الحاشية في القيادة العامة، واللهجة التي يخاطبونه بها، والتي توحي بأنهم يعرفون أشياء يجهلها الآخرون. وأراد بولكونسكي معرفة كلمة السر في هذه المعضلة، فمضى إلى دولجوروكوف منتهزا فرصة الفراغ القصير الذي عرض له أثناء مقابلة كوتوزوف للكونت تولستوي.
قال له الأمير، وكان يتناول الشاي مع بيليبين: إه! مرحبا يا عزيزي، نعم إن غدا موعد العيد، ترى ماذا يقول عجوزك؟ إنه ليس حسن المزاج أليس كذلك؟ - ليس الأمر مقتصرا على مسألة مزاج، إنني أعتقد أن الجنرال يطلب أن يصغى إلى ما يقول. - لقد أصغينا إليه عندما انعقد المجلس الحربي، ولسوف نصغي إليه كلما عزم على التحدث بتعقل، أما أن نتمهل في حين أن بونابرت لا يخشى شيئا مثل خوفه من معركة عامة لتشن على قواته، فذلك مستحيل. - صحيح، بمناسبة الحديث عن بونابرت، حدثني عن انطباعاتك، لقد رأيته وتحدثت معه، ماذا وجدت فيه؟ - لقد رأيته واستخلصت من تلك المقابلة أنه ما من شيء يخيفه أكثر من معركة عامة تشن عليه.
كرر دولجوروكوف هذا القول وهو شديد الفخار؛ إذ استطاع استخلاص ذلك الرأي. أردف يقول: لو أنه لم يكن خائفا من المعركة، فلماذا أثار هذه المباحثات، ورغب في المفاوضة؟ ثم لماذا يتراجع باستمرار، وهو الذي عرف عنه أن التراجع ليس في برامجه؟ صدقني إنه خائف، إنه يخاف المعركة العامة، لقد دقت ساعته أؤكد لك، فثق في قولي.
لكن بولكونسكي ألح يسأله: لكن خبرني، كيف وجدته؟ - إنه رجل يرتدي «الرودنجوت» الرمادي، ويرغب من كل قلبه أن يناديه الناس ب «يا صاحب الجلالة»، لكنني - لشديد حزنه واكتئابه - لم أطلق عليه أي لقب، هذا هو الرجل ولا شيء أكثر من هذا.
وابتسم دولجوروكوف لبيليبين ابتسامة شيقة، وأردف: إنني مع مزيد احترامي لكوتوزوف العجوز، أعتقد أننا لو تمهلنا وترددنا، فإننا نعطي فرصة كبيرة لنابليون تمكنه من الإفلات، وبذلك نكون من أكرم المحسنين! إنه الآن بين أيدينا، لا تنس مبدأ سوفوروف العتيد: «لا تسمح لخصمك بمهاجمتك، بل كن أنت المهاجم»، صدقني يا عزيزي إن حيوية الشباب في الحرب تمتاز ببعد نظر يفوق خبرة المخضرمين العجائز.
فقال بولكونسكي معترضا على نظرية دولجوروكوف، راجيا أن تتاح له في هذه المناسبة فرصة عرض خطته الشخصية التي وضعها لذلك الهجوم: ولكن في أي اتجاه سنهاجم، وعلى أية وضعية؟ لقد ذهبت بنفسي منذ حين إلى خطوطنا الأمامية، وتأكدت من استحالة تحديد مركز قواته الرئيسية.
فأجابه الأمير وهو ينهض واقفا، ويبسط خريطة على المائدة: وماذا يهم ذلك إذا كانت في برونو؟
وراح دولجوروكوف يشرح بسرعة وبوضوح حركة الالتفاف التي وضع خطوطها فيروذر.
شرح بولكونسكي اعتراضاته، وعرض خطته الشخصية التي كانت تبدو في مثل قيمة الخطط التي وضعها فيروذر، مع فارق واحد في غير صفه، وهو أنها جاءت متأخرة، ومنذ أن حاول إبراز محاسن خطته ومساوئ الأخرى، توقف دولجوروكوف عن الإصغاء إليه، فلم يعد يلقي إليه إلا بنظرة ساهمة دون أن ينظر إلى شروحه على الخريطة.
وأخيرا قال له: حسنا، سيقام هذا المساء مجلس حربي في مكتب كوتوزوف، وبإمكانك الدفاع عن وجهة نظرك هناك.
فقال بولكونسكي وهو يبتعد عن الخريطة: وهذا ما أنوي عمله.
وهنا تدخل بيليبين الذي ظل صامتا حتى تلك اللحظة، ينظر إلى المتحدثين بهدوء مترقبا الفرصة الملائمة للإلقاء بإحدى كلماته المأثورة: ماذا يفيدكم مثل هذا القلق الذي تسومونه أنفسكم أيها السادة؟! سواء جاءنا الغد بالهزيمة أو بالنصر، فإن عظمة الجيوش الروسية لا يمكن أن تمس، إننا إذا استثنينا كوتوزوف، فإننا لن نجد قادة روسيين على رأس جيوشنا، إن القواد هم كالتالي : هر جنرال ويمبفن، الكونت دولانجيرون ، الأمير دوليشتنشتاين، الأمير دو هوهنلوه، وأخيرا برشد ... برشد ... وهلم جرا، كما هو حال كل الأسماء البولانية.
فصاح به دولجوروكوف: اصمت يا لسان السوء! ثم إن هذا غير صحيح؛ فهناك قائدان روسيان هما ميلورادوفيتش ودوختوروف، وكان يمكن أن يكون هناك ثالث أيضا؛ وهو آراكتشيئيف لكن أعصابه ضعيفة قليلا.
قال بولكونسكي: أعتقد أن مقابلة ميخائيل لاريونوفيتش قد بلغت نهايتها، فإلى اللقاء أيها السادة، وحظا سعيدا.
وصافحهما وخرج.
وبينما كان عائدا بصحبة كوتوزوف إلى مقر القيادة العامة دون أن ينطق هذا بكلمة، لم يستطع كبح جماح نفسه، فألقى عليه سؤالا ينشد رأيه في معركة صبيحة الغد.
فحدجه كوتوزوف بنظرة صارمة، وأجابه بعد لحظة صمت: إنني أعتقد أننا سنخسر المعركة، وهذا ما قلته للكونت تولستوي راجيا أن يبلغ الإمبراطور رأيي، فهل تعرف ماذا كان جوابه؟ لقد قال لي: «إيه يا عزيزي الجنرال، إنني لا أهتم إلا بالرز والضلع المحشي، فاهتموا أنتم بالحرب»، نعم هذا هو الجواب الذي حصلت عليه منه!
الفصل الثاني عشر
اجتماع القادة
انتقل فيروذر حوالي الساعة العاشرة مساء إلى مسكن كوتوزوف، حاملا معه أوراقه ومخططاته؛ حيث كان مقررا أن يعقد هناك جلسة أخيرة مع قواد الجيوش قبل الشروع في المعركة، ولقد دعي إلى ذلك الاجتماع كل القواد، فحضروا باستثناء الأمير باجراسيون.
كان فيروذر - وهو صاحب الخطة التي ستسير على هداها المعركة المقبلة - على نقيض كوتوزوف من حيث المظهر والمزاج؛ كان الأول شديد الحماس والاندفاع على نقيض كوتوزوف العابس المتشائم، الذي كان يقوم بدور الحكم، ومدير الجلسة رغم نفوره من تلك المهمة، وكان من الواضح أن فيروذر كان يشعر بأنه يرأس عملية من أخطر العمليات وأوسعها، كان أشبه بالحصان الذي ينحدر من عل، لا فرق لديه بين أن يكون هناك من يدفعه، أو أن يكون مدفوعا بثقل عربة يجرها وراءه، بل إن همه كله كان محصورا في الانحدار، وتخطي المسافة بسرعة، بصرف النظر عما يمكن أن يكون فيها من أخاديد وحفر قد تورده مورد الهلاك بسبب سرعته الجنونية. مضى ذلك المساء مرتين يتفقد شخصيا مراكز الجيش الأمامية؛ عله يستكشف مواقع العدو، وفي كل مرة، كان يقدم لكل من الإمبراطورين تقريرا ضافيا، ثم مضى بعد ذلك إلى مكتبه؛ حيث عكف على وضع خطته باللغة الألمانية، فلما بلغ إلى مسكن كوتوزوف لعقد المؤتمر الأخير، كان يقف على قدميه بصعوبة لفرط تعبه وحاجته إلى الراحة. لقد كان مشغول الفكر لدرجة أنسته واجب الاحترام حيال الجبراليسيم. لقد كان يقاطعه، ويتحدث بسرعة وبشكل غير واضح دون أن ينظر إليه، أو أن يجيب على الأسئلة الموجهة إليه، لقد كانت الأحوال تغطي ثوبه، وكان مظهره يوحي بشرود ذهنه ونفاد جلده، مع ذلك فقد كان ممتلئا اعتدادا واستعدادا وتجهما.
كان كوتوزوف يشغل قصرا صغيرا بجوار أوسترالتز، وكان الضباط المدعوون إلى ذلك المجلس العسكري مجتمعين في البهو الكبير يتناولون الشاي، وكان المجتمعون ينتظرون وصول الأمير باجراسيون لتفتح الجلسة، ولم تنقض دقائق بعد الساعة السابعة، حتى وفد أحد ضباط باجراسيون يقدم اعتذارات الأمير لعجزه عن حضور الاجتماع، وحمل الأمير آندريه اعتذارات باجراسيون إلى القائد الأعلى كوتوزوف، واستغل فرصة وجوده في البهو لحضور اجتماع القادة مستندا إلى رغبة كوتوزوف بالذات في إبقائه بقربه.
قال فيروذر وهو ينهض، وكأنه آلة تدفعها قوة رافعة: بما أن الأمير باجراسيون لن يستطيع حضور الاجتماع، فإننا نستطيع البدء فيما نحن بصدده.
واقترب من المائدة وبسط فوقها خريطة ضخمة تبين ضواحي برونو بتفصيل دقيق.
كان كوتوزوف، ذو العنق الضخم البارز خلال فتحة الثوب العسكري، جالسا على مقعد من طراز «فولتير»، ويداه السمينتان مرتكزتان على ذراعيه في وضع متناسق، وكان النعاس يداعب عينيه، فلما علا صوت فيروذر، فتح عينه الوحيدة بعناء وقال: نعم، نعم، لا شك أن الوقت متأخر.
وأومأ برأسه دلالة على الموافقة، ثم عاد يغمض عينيه، ويترك رأسه يسقط على صدره.
ولو أن أعضاء المؤتمر العسكري اعتقدوا للوهلة الأولى أن كوتوزوف يتظاهر بالنوم استخفافا بما يدور، فإن شخيره الذي علا بعد لحظات بدد الظنون والريب، وأكد أن الجنراليسيم لم يكن يتعمد إظهار الاحتقار بما يدور، أو بالخطة الموضوعة أو بأي شيء آخر، بل إنه كان يرضي حاجة قاهرة غريزية في النفس البشرية؛ وأعني النوم الذي كان في نظره لا يقل أهمية وخطورة عما هو بصدده، لقد كان نائما تماما، فألقى فيروذر نظرة على كوتوزوف ليتأكد من أنه نائم فعلا، ثم أتى بحركة تشعر أنه لا يستطيع إضاعة دقيقة واحدة في أمر خارج عن موضوع الخطة، وأخذ ورقة راح يقرأ ما فيها بصوت رتيب قوي، تفاصيل الخطة العتيدة، دون أن ينوه إلى أي فضل أو مساعدة لزملائه.
كانت الورقة معنونة كالآتي: «خطة الهجوم على موقع العدو وراء كوبيلينتز وسوكولينتز في العشرين من تشرين الثاني عام 1805.»
وكانت الخطة شديدة التعقيد صعبة الفهم تبدأ كالآتي: «لما كان العدو يرتكز بجناحه الأيسر على هضبة حرش، ويمتد بجناحه الأيمن على طول كوبيلينتز وسوكولينتز، وراء المستنقعات الموجودة هناك، وكنا نحن على العكس، نتجاوز بجناحنا الأيسر امتداد جناحه الأيمن تجاوزا كبيرا، فمن الأرجح بالنسبة إلينا أن نهاجم جناح العدو الأيمن، خصوصا إذا احتللنا القريتين: سوكولينتز وكوبيلينتز؛ الأمر الذي سيسمح لنا الانقضاض على جانب العدو ومطاردته في السهل بين شلاباينتز وغابة توارس، متحاشين بذلك قوات شلاباينتز نفسها والقوات المعسكرة في بلوتيز، التي تغطي جبهة العدو، وللوصول إلى هذا الهدف النهائي، من الضروري ... إلخ، تمشي الفرقة الأولى، وتمشي الفرقة الثانية ... إلخ.»
كان الجنرالات غير مبتهجين لسماع تلك الجمل المركبة المعقدة، فالجنرال بوكسووفدن - وهو طويل القامة أشقر اللون - كان واقفا قرب الجدار يحدق في شمعة، وكأنه لا يصغي أو حتى لا يريد أن يعتقد أنه يصغي إلى ذلك الشرح، والجنرال ميلورادوفيتش - وهو أحمر الوجه ضخم الشاربين معقوفهما متهدل الكتفين - جالس قبالة فيروذر جلسة عسكرية مهيبة، ويداه على ركبتيه ومرفقاه إلى الجانبين، يحدق في وجه بعينين شاخصتين، وهو صامت بعناد واضح. ولما انتهى رئيس الأركان النمساوي من تلاوة التفاصيل، نقل ميلورادوفيتش نظره بين زملائه، غير أن أحدا منهم لم يستطع أن يتبين شيئا في تلك النظرة المفعمة بالخطورة، أو أن يخمن لونها: أهي تحمل معنى الموافقة على الخطة أو الاعتراض عليها. وكان الكونت دولانجيرون - الجالس إلى جانب فيروذر مباشرة - يتأمل أصابعه الطويلة الأنيقة التي كانت تداعب علبة السعوط الذهبية ذات الصورة اليدوية التي تزين غطاءها، وكانت الابتسامة مطلة على وجهه الفرنسي الذي يشهد بأنه من أهل الجنوب، والعلبة الأنيقة ترسم حلقات مركزية بين أصابعه. وفي أحد المواقف الدقيقة الشديدة التعقيد، أوقف حركة علبته الرتيبة ونصب رأسه، ثم انفرجت شفتاه الرقيقتان عن اعتراض بلهجة مهذبة باردة، غير أن الجنرال النمساوي لم يتوقف عن القراءة، بل قطب حاجبيه بغضب وحرك مرفقيه حركة تشبه القول: «بعد حين، بعد حين، سوف تحدثني بكل رأيك، أما الآن، فأرجو أن تصغي إلى الشرح وأن تتتبع المراحل على الخريطة»، فرفع لانجيرون رأسه، وقد حملت عيناه تعبيرا حائرا مضطربا، وتطلع إلى وجه ميلورادوفيتش، وكأنه يسأله شرحا وتفسيرا، لكنه لما تقابلت نظرته بنظرة الجنرال الروسي الخطيرة الخالية من كل معنى، أطرق بعينيه بكآبة وعاد إلى علبته يديرها بين أنامله.
غمغم بصوت مرتفع متعمدا إسماعه للآخرين: درس جغرافيا!
وكان برزيبيسزوسكي، يوجه صيوان أذنه بيده، بحركة مهذبة وقورة، نحو فيروذر، شأن الرجل المستغرق في الإصغاء إلى محاضرة ممتعة يخشى أن تفوته كلمة منها، أما دوختوروف القصير فكان منحنيا فوق الخريطة قبالة فيروذر، يدرس بدقة مشروع الهجوم والمواقع التي يجهلها، وعلى وجهه آيات الاهتمام والتواضع، وبلغ من شديد عنايته أن قاطع زميله النمساوي مرارا طالبا إليه أن يتفضل بإعادة جملة لم يستوعبها أو مقطع لم يسمعه جيدا، أو بعض أسماء القرى الصعبة، فكان فيروذر يستجيب لرغباته ودوختوروف يسجل ملاحظاته في دفيتره.
ولما انتهت القراءة بعد ساعة على البدء فيها، أوقف لانجيرون دوران علبة سعوطه وأعرب - دون أن ينظر إلى فيروذر أو إلى أحد زملائه بصورة خاصة - عن رأيه قائلا إنه سيكون من الصعوبة بمكان القيام بمثل هذه المناورة التي ترتكز أسسها على معرفة مواقع العدو، بينما أن الحقيقة لا تؤيد هذه المعرفة؛ لأن تحركات هذا العدو مجهولة منا لا تسمح لنا بمعرفة مواقعه، وكان ذلك الاعتراض - رغم وجاهته - يهدف إلى إشعار فيروذر الدعي المتبجح، بأن هؤلاء العسكريين المحترفين الذين يعاملهم معاملة الجهلة الحمقى، على استعداد لتلقينه دروسا في فنون القتال. وفي تلك الأثناء، فتح كوتوزوف عينه الوحيدة بعد أن انقطع صوت فيروذر الرتيب، وكأنه طحان نام على صوت مطحنته الممل الرتيب؛ ليستيقظ فجأة عند توقف الصوت، أصغى بشرود إلى وجهة نظر لانجيرون، وبادر إلى إغلاق عينه وكأنه يقول: «باه! ألا زلتم تناقشون هذه التفاهات!» وعاد رأسه يسقط على صدره مثقلا بالنعاس.
كان لانجيرون يرغب في النيل من شعور فيروذر والحط من كبريائه وغروره الذي يصور له أنه يستطيع وضع الخطط المنسقة الموفقة؛ لذلك فقد راح يبين أن بونابرت يستطيع أن يتحول بسهولة إلى الهجوم بدلا من أن يكون مهاجما؛ الأمر الذي يجعل تلك الخطة عديمة الفائدة، غير أن فيروذر ما كان يجيب على كل تلك الانتقادات إلا بابتسامة ملؤها السخرية؛ ابتسامة مهيأة من قبل، ولا شك، لتجيب على كل الاعتراضات من أي نوع كانت.
قال مؤيدا رأيه: لو كان قادرا على مهاجمتنا، لقام بذلك اليوم.
فاعترض لانجيرون بقوله: هل أنت واثق من عجزه؟
فأجاب فيروذر جازما وعلى شفتيه ابتسامة الطبيب الذي يطالب باستعمال علاج النساء المخرفات: إنه لا يملك أكثر من أربعين ألف رجل على أبعد تقدير.
فابتسم لانجيرون ابتسامة ساخرة وقال معقبا: إنه إذن يسعى إلى حتفه بظلفه!
وعاد من جديد يبحث بنظره عن تأييد جاره ميلورادوفيتش، غير أن هذا - كما كان واضحا - لم يكن قط يفكر في الموضوعات التي يناقشها زملاؤه.
قال: لعمري، إن كل هذا سيقرر في ساحة المعركة.
عاد فيروذر يدلل بابتسامة جديدة على وقاحة هؤلاء الجنرالات الروسيين وسفاهتهم، الذين يسمحون لأنفسهم بمعارضته - هو - ومطالبته ببراهين حول أمور لم يكن مقتنعا من وجاهتها قناعة تامة فحسب، بل إنه كذلك أقنع الإمبراطورين بتلك الوجهة، قال: لقد أطفأ العدو نيرانه والجلبة المستمرة ترتفع من معسكره دون انقطاع، فماذا يعني ذلك؟ هل يبتعد أم يحول مراكزه؟ إن الاحتمال الأول هو وحده الذي نخشاه.
ثم أعقب وابتسامته تلك لا تفارق شفتيه : فإذا افترضنا جدلا أنه يبتعد، وأنه سيتمركز في توراس، فإنه سيوفر علينا كثيرا من المتاعب، على كل حال، فإن تفاصيل خطتنا - حتى أصغر خطوطها وأتفهها - تبقى نافذة بدقة.
فسأل الأمير آندريه الذي كان يتحين منذ زمن طويل فرصة إظهار مخاوفه وشكوكه: كيف ذلك؟
وفي تلك اللحظة، استيقظ كوتوزوف فسعل، وأجال حوله نظرة دائرية استعرض فيها وجوه الجنرالات، وقال: أيها السادة، إن خطة غد، أو على الأحرى اليوم؛ لأن الساعة قد جاوزت منتصف الليل؛ لا يمكن تعديلها، لقد سمعتم تلاوتها، وعلينا أن نقوم بواجبنا.
وصمت فترة ثم أعقب: غير أن لا شيء يضاهي النوم في أهميته قبل أية معركة. فاذهبوا إلى أسرتكم.
وتناهض فحذا المجتمعون حذوه وانسحبوا، وتبعهم الأمير آندريه، وكانت الساعة تشرف على الواحدة.
لم يستطع الأمير آندريه الإفصاح عن رأيه في المؤتمر الحربي الذي عقد قبل بدء المعركة؛ الأمر الذي ترك في نفسه شعورا عميقا بالانزعاج والقلق. ترى من كان على حق؟ أكان دولجوروكوف وفيروذر اللذين كانا يحملان لواء فكرة الهجوم ويمتدحانها، أم كوتوزوف ولانجيرون والآخرون الذين كانوا ينتقدون الفكرة وينادون بعدم ملاءمتها؟ ما كان يعرف! ولكن، أما كان كوتوزوف قادرا على إطلاع الإمبراطور مباشرة على تلك الخطة؟ ألم يكن ذلك التصرف قمينا بتبديل الأمور؟
كان يحدث نفسه بقوله: «هل من الواجب التضحية بعشرات الألوف من البشر، ولعله يكون في عدادهم، لإرضاء حفنة من أفراد بطانته المتملقين؟! نعم، حياتي أنا أيضا؛ لأنه لا يسترغب أن أقتل غدا.» وفجأة اكتسح مخيلته فيض من الذكريات إزاء فكرة الموت التي واتته؛ ذكريات بعيدة حبيبة، أخذت تمر في خياله. رأى نفسه بعين الخيال يودع أباه الوداع الأخير ويترك زوجه، وتذكر ليز الحبلى واستعاد فترات غرامها الأولى فشعر بعطف وإشفاق عليها وعلى نفسه. كان فريسة اضطراب عنيف لا يستطيع الاستقرار؛ لذلك فقد خرج من مسكنه الذي كان يشغله مع نيسفيتسكي وراح يذرع الطريق.
كان الضباب الخفيف يلف القرية في ردائه الشفاف الرقيق، وإشعاع هزيل من القمر يخترق ذلك الحجاب ، فيضفي على الجو طابعا غامضا . راح يحدث نفسه: «نعم، غدا، غدا ... غدا قد ينتهي كل شيء من جانبي، غدا ولا شك، بل وبالتأكيد؛ لأن هاتفا خفيا يؤكد لي ذلك، سيتسنى لي أن أظهر كفاءتي وقدرتي.» تصور المعركة واحتدامها وامتدادها المحزن، وارتكاز القتال في نقطة واحدة، وبلبال الرؤساء كلهم وتشوش القادة. وعندئذ، تعرض له الفرصة الذهبية لتحقيق «طولونه»
1
المنشود، عرض على كوتوزوف بصوت واضح حازم تفاصيل خطته وكذلك على فيروذر، ثم على أسماع الإمبراطورين، وذهل هؤلاء جميعا بدقة خطته وحسن سبكها ووضعها، لكنهم لم يتعهدوا مجتمعين أو فرادى باحتمال نتائجها وتطبيقها؛ وعندئذ، وبعد أن تأكد من أن أحدا لن يتدخل في خطته، فيعترض عليها أو يدعمها، ترأس سرية، بل جيشا، وقاده إلى حيث كانت المعركة في أدق المراحل وأخطرها، فأنقذ الموقف وانتصر. وهنا اعترض صوت داخلي قائلا: «والموت والآلام؟» لكن الأمير آندريه لم يتعشم مشقة الجواب، لقد كان يتتبع خطوط فوزه وخطى انتصاراته، لقد وضع بمفرده خطة المعركة المقبلة، رغم أنه لم يكن يحمل أي لقب باستثناء لقب الملحق العسكري بقيادة كوتوزوف، وكان هذا المركز هو كل ذخر لديه؛ فقد قاد العملية الناجحة، ثم إنه هو نفسه ووحده الذي سينتزع النصر من براثن الهزيمة، وعندئذ يقال كوتوزوف من مركز القيادة وتسند هذه إليه، فيصبح القائد هو بولكونسكي، واعترض الصوت مرة ثانية قائلا: «وبعدئذ؟ هذا على فرض أنك لم تقتل أو تجرح عشرات المرات، أو تمنى بخيانة منتظرة، وبعدئذ؟ ماذا سيكون؟»
فأجاب الأمير آندريه: «وبعدئذ؟ حسنا، وبعدئذ! لست أدري ماذا سيحدث بعدئذ، لا أستطيع ولا أريد معرفة ما يأتي بعدئذ، لكنني إذا كنت حقيقة أسعى وراء هذا الشيء الذي يطلق عليه اسم المجد أو الشهرة، أو ... فإنني لا أدان لأنني أردته وعملت من أجله، نعم من أجل هذا وحده! لن أعترف لأحد بهذه الحقيقة، ولكن، رباه! ماذا أستطيع أن أفعل إذا كنت لا أحب إلا هذا المجد والشهرة العظيمة بين الرجال؟ إن الموت والجرح وفقد أسرتي، كل هذه المصائب لا تخيفني، صحيح أن لدي عددا كبيرا من الأعزاء؛ وعلى رأسهم أبي وأختي وزوجتي، مع ذلك فإنني مهما بدوت مخيفا ومنافيا في تفكيري للطبائع البشرية، فإنني على استعداد للتضحية بهم دون تردد في سبيل دقيقة مجد ولحظة فوز، وفي سبيل حب الأشخاص الذين لا أعرفهم والذين لن أعرفهم قط وسلامتهم ... أشخاص مثلهم!» وأصاخ السمع إلى لغط أصوات كان يرتفع في تلك اللحظة من فناء مسكن الجنراليسيم، فأعقب قائلا: «أشخاص مثل هؤلاء!»
كان التابعون والخدم في قصر كوتوزوف يتأهبون - ولا شك - للنوم، وكان أحدهم - ولعله الحوذي - يريد إثارة «تيت» طاهي كوتوزوف، الذي كان آندريه يعرفه حق المعرفة. سمع السائق يقول: تيت، هه، تيت!
فأجاب الرجل مستفسرا: ماذا تريد؟
فعاد الأول يقول مازحا: امض إلى صغيرتك الفتانة!
فأرعد الصوت الآخر، وقد طغت عليه أصداء الضحكات المتعالية: ليحملك الشيطان!
وأعقب آندريه في سره: «رغم كل ذلك، فإنني أتعلق برغبة الفوز من أجلهم جميعا، إنني لا أمجد إلا هذه القوة الغامضة، هذا المجد الذي أشعر به محلقا فوق رأسي في هذا الضباب!»
الفصل الثالث عشر
أحلام روستوف
كانت كوكبة روستوف تستكشف ذلك المساء لصالح جيش باجراسيون، كان الفرسان مقسمين إلى فصيلتين ومنتشرين على طول خطوط الجيش الأمامية. وكان روستوف يطوف على فرسانه مفتشا، يغالب النعاس الذي يثقل جفنيه ورأسه، كان يميز في الفراغ الشاسع الممتد أمامه أضواء الجيش الروسي الخافتة، لكنه ما كان يرى في الرقعة التي يشغلها العدو إلا الظلام الدامس، لم يستطع اختراق تلك الحجب المدلهمة الصفيقة بنظراته، لقد كان يظن تارة أنه رأى أشكالا سوداء تتحرك، وأحيانا يعتقد أنه طالع بنظره نيران العدو المخيفة بإحكام، لكنه كان يقنع نفسه بأن هذه المرئيات ليست إلا أوهاما خدع بها خياله. أطبق جفناه من التعب، وصور له خياله الإمبراطور تارة ودينيسوف وذكريات موسكو تارة أخرى، فكان يفتح عينيه بسرعة، فلا يرى إلا رأس جواده وأذنيه وأحيانا أشباح الخيالة عندما كان يقترب من بعضهم، بينما ظل الظلام الكثيف يخيم على الأبعاد التي يربض فيها العدو.
راح يفكر في سره: «لم لا؟ لعلني إذا قابلت الإمبراطور حصلت منه على إحدى المهام التي يسندها إلى الآخرين، لعله يقول لي مثلا: «اذهب واستطلع ما يحدث هناك»، إنه كما يبدو، كثيرا ما يقع بصره على أحد الضباط فيلحقه بخدمته، ولكن ماذا لو حصل لي مثل ذلك؟ أواه! كم سأضحي في سبيل حمايته، كما سأبذل لأحدثه بالحقائق، وكم سأعمل لأفضح الخونة وأكشف عن المارقين!» ويجسد له الخيال هذه الآمال، فيرى نفسه بعين الواقع مشتبكا مع عدو أو خائن ألماني، فيطرحه أرضا ويضربه ويصفعه في حضرة معبوده الإمبراطور ليبين له مبلغ حبه وتفانيه في سبيل شخصه المبجل، وفجأة أعادته صرخة ثاقبة بعيدة إلى الحقيقة، فانتفض وفتح عينيه.
تساءل: «أين أنا؟ آه! نعم، في الخطوط الأمامية، إن كلمة السر هي تيمون، أولموتز ... يا للضنك ببقاء كوكبتنا في عداد الاحتياط غدا! سأطلب الاشتراك في العمليات، لعل بذلك فرصتي الوحيدة لرؤية الإمبراطور، لقد أزفت ساعة تبديل الحرس، سأقوم الآن بجولة جديدة، وبعدها أقدم ملتمسي للجنرال.» انتصب على ظهر جواده، وهمز كشح الجواد للقيام بجولته الأخيرة. بدا له الظلام أقل حلكة، فاستطاع أن يرى إلى يساره منحدرا خفيفا مضيئا، ومن الجانب الآخر تلا مظلما، بدا لعينيه منتصبا كالجدار القائم، شاهد على ذلك التل بقعة بيضاء لم يتمكن من تحديد نوعها ومنشئها، ترى هل كانت بقعة جرداء يضيئها القمر، أم ذراعا من الثلج أم صفا من المنازل؟ خيل إليه أنه يرى تلك البقعة تتحرك، راح يحلم: «ينبغي أن تكون هذه البقعة كتلة من الثلج. بقعة، البقعة، بقعتي ... آه، نعم، ناتاشا، أختي وعينيها السوداوين ... هل ستدهش عندما أروي لها أنني شاهدت الإمبراطور؟ ... ناتاشا ... حاولي ألا تسقطي ...»
هتف أحد الفرسان إلى يمينه فجأة، وكان روستوف قد مر به وهو بين النوم واليقظة: احذر نبالتك من الأدغال.
استيقظ من حلمه، فرأى أن رأسه كان يتهدهد فوق ذؤابة الجواد، انتصب على السرج، وتوقف قرب الفارس. لقد كان النوم، النوم البريء الذي يثقل عيون الأطفال، يطغى على حواسه.
عاد يحدث نفسه: «هيا، بماذا كنت أفكر؟ لا، لا ينبغي أن أنسى، آه، نعم، كنت أفكر فيما سأقوله للإمبراطور أليس كذلك؟ كلا، إن هذا لن يكون إلا غدا. آه، نعم، كنت أفكر في ناتاشا ... بقعة، بقعة، بقعة ... أية مهمة
1
تنتظرنا غدا؟ ... من هذا؟ الفرسان؟ ... آه، نعم الفرسان ذوو الشوارب، أين يا ترى شاهدت واحدا من هؤلاء الفرسان ذوي الشوارب؟ آه، نعم، لقد كان ذلك في شارع تفير
Tver
قبالة منزل العجوز جورييف ... يا له من باسل هذا الدينيسوف! ... لكن هذه الأفكار كلها ليست إلا حماقات، المهم هو أن الإمبراطور موجود هنا! ... عندما نظر إلي، خيل إلي أنه أراد أن يقول شيئا، لكنه لم يجرؤ على قوله ... كلا، بالطبع إنه لم يجرؤ ... حماقات كل هذه أيضا! المهم هو ألا أنسى ... ترى ماذا كان ذلك الشيء المهم الذي كنت أريده؟ ... ناتاش، لطخة، لطخة ... بقعة ...»
ومن جديد عاد رأسه إلى الانحناء فوق حارك الجواد، وفجأة خيل إليه أن هناك من يطلق النار عليه، فهتف منتفضا: ما هذا؟ ماذا هناك؟ اعمل السيف، اعمل السيف!
وفي تلك اللحظة التي فتح فيها روستوف عينيه، سمع من جانب العدو جلبة طويلة صادرة عن ألوف من الأصوات، فنصب جواده وجواد الفارس القريب منه آذانهما، وفجأة أضيء نور على المرتفع وأعقبه آخر، ولم تلبث النيران أن التمعت على طول الجبهة الفرنسية، بينما ظلت الجلبة تزداد امتدادا واتساعا. وعلى الرغم من أن روستوف لم يستطع أن يميز تلك الأصوات لسبب وفرة عددها وكثرتها، فإن الأحرف التي التقطها أكدت له أنها صادرة عن خناجر الفرنسيين.
سأل الفارس الذي كان إلى جانبه: ما معنى هذا؟ ماذا تظن؟ إنه صادر عن معسكر العدو، أليس كذلك؟
فلم يجب الفارس، وعاد روستوف يسأله بعد أن انتظر جوابه عبثا: ماذا؟ ألا تسمع؟
فأجابه الفارس بتذمر: الله يعرف ما الخبر يا صاحب النبالة.
قال روستوف فلحا: إذا استهدينا بموقع العدو، فإن هذه الأصوات صادرة، ولا شك، عنه!
فقال الفارس بلغته الرعاعية: قد يكون كذلك وقد لا يكون، ليس من السهل معرفة ذلك في الظلام .
وأردف يهيب بجواده - الذي حاول التراجع - أن يقف: هه، كفاك حماقة، قف!
كان حصان روستوف أيضا نافد الصبر، لا يكاد يستقر على الأرض المغطاة بالجمد، كان ينصب أذنيه ويضرب بقوائمه الأرض، ويميل نحو الأضواء، أما الصيحات فقد أخذت تزداد وتتعالى وتذوب في جلبة عامة، لا تستطيع القيام بمثلها إلا الألوف المؤلفة من الرجال، وكانت النيران منتشرة في تلك اللحظة على طول خط متناه في البعد، لا شك أنه كان خط العدو الأمامي، واتضحت أخيرا معالم الأصوات، واستطاع روستوف أن يتبين فيها هتافا مؤداه: «ليحي الإمبراطور، الإمبراطور!» فشعر كأن ذلك الهتاف سوط ينهال على جلده.
قال يحدث الفارس: لا يمكن أن يكون هذا بعيدا، لعله على الجانب الآخر من النهير، أليس كذلك؟
فسعل الفارس بعد أن زفر زفرة غاضبة، وكان هذا كل الجواب، وفجأة علا وقع حوافر جياد قادمة، وانبعث من ذلك الضباب الليلي شبح وكيل ضابط ما زال يقترب، حتى وصل إلى حيث كان روستوف، قال القادم: يا صاحب النبالة، لقد قدم الجنرالات.
تبع روستوف وكيل الضابط وأذنه تصغي إلى الهتافات والصيحات، واستطاع رؤية مفرزة من الفرسان تقترب؛ ورأى أن أحدهم يمتطي جوادا أبيض كان القادمون هم الأمراء: باجراسيون ودولجوروكوف ومعهما أفراد حاشيتيهما. لقد جاء الأميران يستطلعان سبب تلك البادرة الغريبة؛ النيران والأصوات بعد الظلام والصمت المطبق. قدم روستوف تقريره لباجراسيون، وانتظم في عداد الضباط المساعدين، يصغي بشغف إلى ما يقوله الجنرالان.
قال دولجوروكوف بتأكيد: صدقني إنها مجرد خدعة حربية، إنه بينما ينسحب متراجعا، يضع جنود المؤخرة، ويأمرهم بإبقاء النيران والهتاف على هذا الشكل؛ لإيهامنا بأنه في مكانه، إنها خدعة.
فأجابه باجراسيون: إنني أشك في هذا القول، لقد رأيتهم هذا المساء فوق هذا النتوء، لا شك أن جيشهم لو كان ينسحب كما تقول، لما ظل هؤلاء فوق التل.
وأضاف يسأل روستوف: يا سيدي الضابط، هل لا زال مشاتهم المكلفون بحماية الجناحين في أمكنتهم؟ - لقد كانوا هناك هذا المساء، أما الآن فلا أستطيع الجزم، فإذا أصدرتم لي سعادتكم الأمر، مضيت مع فرساني لمعرفة ذلك.
توقف باجراسيون محاولا تمييز وجه روستوف وسط الضباب، وأخيرا قال: حسنا، اذهب واستطلع. - كما تأمرون سعادتكم.
همز روستوف كشح جواده واستوقف وكيل الضباط فدتشنكو واثنين من رجاله، وأصدر إليهم الأمر بمواكبته، وانحدر عن المرتفع، وراح يقطع المسافة باتجاه الأصوات بأقصى ما تستطيعه الخيول من جري. كان يشعر بقلق مشوب بالسرور لذهابه وحيدا مع ثلاثة من الفرسان نحو ذلك الأفق المليء بالضباب؛ حيث يكمن السر الرهيب والخطر الجسيم الذي لم يستطلعه قبله إنسان. ومن أعلى المرتفع، صاح به باجراسيون يأمره ألا يتجاوز النهير، لكنه تصامم عن الأمر وأوغل في جريه رغم العوائق الكثيرة والأخطاء التي كان يقع فيها، لقد كان يرى الدغل أشجارا والحفر رجالا. ولما بلغ أسفل المنحدر، لم يعد يرى نارا، سواء أكانت النار الروسية أو نيران العدو. لكن الأصوات أخذت تزداد اقترابا ودويا ووضوحا، خيل إليه أنه يرى نهير أسفل الوادي لكنه لما اقترب منه، رأى أنه كان طريقا ممهدة، فأوقف جواده وهو لا يدري أيتبع الطريق أم يسير في الاتجاه المعاكس، أيخترق الحقول التي تحاذي الطريق في ذلك الظلام أم يعود إلى نقطة انطلاق أخرى. وأخيرا قدر أن سلوك الطريق كان أقل خطرا؛ لأنه كان أشبه باللطخة المضاءة وسط ذلك الضباب، فكان يمكن تمييز الأشباح عليها بأكثر سهولة، هتف بفرسانه: «اتبعوني»، وعبر الطريق محاولا تسلق التل الذي شاهد الرقباء الفرنسيين فوقه مساء ذلك اليوم هدبا.
قال أحد فرسان دينيسوف: ها هو ذا يا صاحب النبالة!
انتصب ظل في ذلك الضباب، ولم يجد روستوف وقتا كافيا لتبينه؛ إذ التمع شهاب ناري أعقبه دوي طلقة نارية، ومرت الرصاصة تشق الضباب فوق رءوس الفرسان الأربعة بزمجرة صاخبة. لم تنطلق رصاصة ثانية، لكن وميض «الكبسولة» فضح رغبة صاحبها. لوى روستوف عنان جواده، وجرى بأقصى سرعة عائدا من حيث أتى. دوت أربع طلقات أخرى خلال فترات متقطعة وعلى أبعاد مختلفة، ومرت الرصاصات تصفر وسط الضباب، فأوقف روستوف حصانه الذي كان شديد الانفعال كفارسه، وراح يسيره الهوينا بخطوات وئيدة، كان صوت بهيج يغمغم في أعماقه : «هيا، طلقة أخرى!» غير أن الرصاص توقف.
وقبل أن يصل روستوف إلى حيث كان باجراسيون ببضع خطوات، هدب حصانه، ورفع يده اليمنى إلى حافة خوذته بالتحية. كان دولجوروكوف لا يزال يصر على أن الفرنسيين ينسحبون وأن تلك الأصوات ليست إلا خدعة حرب. كان يقول: علام تدل هذه النيران؟ إنهم يستطيعون ترك بعض الحراس حتى بعد انسحابهم لمجرد الخداع.
فيجيبه باجراسيون: صدقني يا أمير إنهم لم يذهبوا جميعا، سوف تتأكد من ذلك غدا صباحا.
وكان روستوف قد وصل فقال: لا يزال هناك نقط مراقبة على التل يا صاحب السعادة، إنهم لا زالوا حيث رأيتهم هذا المساء.
كان منحنيا إلى الأمام ويده إلى قبعته بالتحية، يستخفه الفرح الذي أحدثته تلك المهمة في نفسه، وخصوصا لعلعة الرصاص الذي تطاير فوق رأسه، فما كان يستطيع كتمان ابتسامته المشرقة.
قال باجراسيون: حسن، حسن جدا، أشكرك يا سيدي الضابط.
قال روستوف: هل تسمحون لي سعادتكم بتقديم ملتمس؟ - ما موضوعه؟ - إن كوكبتنا ستبقى غدا في عداد الاحتياط، وإنني أرغب في الالتحاق بالكوكبة الأولى. - ما اسمك؟ - كونت روستوف. - آه، حسنا، ابق معي كضابط تابع.
وسأله دولجوروكوف: أأنت ابن إيليا آندريئيتش؟
غير أن روستوف لم يجب على هذا السؤال بعد أن خاطب باجراسيون قائلا: إذن، هل آمل أن يحقق ملتمسي؟ - سأصدر أوامري.
فقال روستوف في سره: «غدا، يجوز أن أكلف بحمل رسالة أو تقرير إلى الإمبراطور، حمدا لله وشكرا!»
كان سبب تلك النيران المشتعلة في صفوف العدو وتلك الهتافات المدوية في معسكراته، حضور نابليون بنفسه؛ الذي راح يستعرض القطعات على ظهر جواده، بينما كان القواد يقرءون على الجنود الكلمة التي وجهها إليهم، فلما وقعت أعين الجنود عليه، أشعلوا النيران؛ نيران مشاعل من التبن، وراحوا يجرون وراءه هاتفين: «يحيا الإمبراطور!» أما الكلمة التي وجهها إليهم فكانت كما يلي:
أيها الجنود
إن الجيش الروسي ينتصب الآن أمامنا؛ لينتقم لهزيمة حلفائه النمساويين في أولم، إن وحداته هي نفسها التي هزمتموها في هولا برونو، والتي ما فتئتم تتأثرون خطاها في هزيمتها منذ ذلك اليوم.
إن المواقع التي نحتلها رائعة ممتازة، سوف يكشفون لي عن جانبهم حين التفافهم حول جناحي الأيمن. أيها الجنود، سوف أدير بنفسي كتائبكم، وسأظل بعيدا عن خطوط النار إذا قدرتم بشجاعتكم المعهودة أن تزرعوا الفوضى والارتباك في صفوف العدو، ولكن إذا رأيت أن النصر بات مهددا في أية لحظة، فسترون إمبراطوركم يعرض نفسه للرصاصات الأولى؛ لأن النصر لن يعرف التردد، خصوصا في هذا اليوم الذي يتوقف فيه شرف الجيش الفرنسي على الانتصار؛ ذلك الشرف الذي يدعم شرف الأمة الفرنسية بأسرها.
لا يجب أن تفرغ الصفوف بحجة إبعاد الجرحى، وليكن نصب عين كل منكم أنه يجب إلحاق الهزيمة بأجراء الإنجليز هؤلاء، الذين يضمرون حقدا هائلا على أمتنا.
إن هذا النصر سينهي هذه الحملة، وسنستطيع بعدها إقامة معسكرات الشتاء، وستلحق بنا القطعات الجديدة التي تشكل الآن في فرنسا؛ وعندئذ سيكون الصلح الذي أعقده جديرا بشعبنا وبكم وبي كذلك.
الفصل الرابع عشر
نابليون
كان الظلام لا زال مخيما رغم أن الساعة كانت قد جاوزت الخامسة، وكان جناح باجراسيون الأيمن والوسط والقوات الاحتياطية لا زالت في مواقعها لم تتحرك. أما الجناح الأيسر، فقد كان موجوده من المشاة والفرسان والمدفعية - الذين كان عليهم الهبوط أولا ومهاجمة جناح العدو الأيمن، حسب الخطة المرسومة، والإلقاء به باتجاه جبال بوهيميا - على أتم استعداد للعمل، يجهزون آخر ما هم في حاجة إليه. وكان دخان المهاجع، التي كانت النار تلتهم فيها كل ما كان يلقى إليها به من أشياء غير ذات أهمية، يمض العيون ويحرقها، والوقت مظلما باردا، وكان الضباط يتناولون طعامهم على عجل ويشربون الشاي، والجنود يلتهمون قطع البسكويت، ويضربون الأرض بأقدامهم استجلابا للدفء، أو يحيطون بالمواقد التي كانت تغذي نيرانها أخشاب جدران المهاجع والكراسي والموائد والعجلات والعلب، وكل ما كان يتعذر حمله ونقله. ولما وصل الأدلة النمساويون الذين كان عليهم إرشاد الوحدات الروسية في زحفها، كان وصولهم إيذانا ببدء الحركة.
ما كان واحد من أولئك الضباط يمثل أمام أحد قواد الكتائب أو السرايا ، حتى كانت تلك الكتيبة تتحرك وفق الخطة المرسومة. فالجنود يغادرون مضاجعهم مسرعين، فيحشرون غلايينهم في سوق أحذيتهم العالية، ويلقون بأجربتهم في العربات، ثم يتنكبون بنادقهم، ويقفون في صفوف منظمة، والضباط يزرون ستراتهم، ويربطون نطقهم وخرجهم، ويطوفون بالصفوف ليصدروا أوامرهم، والخفراء والتابعون يقطرون الخيول إلى العربات، ويكدسون الأمتعة عليها ويشدون السيور، والزعماء «كولونيل» والعقداء والضباط الملحقون يمتطون خيولهم، ويرسمون إشارات الصليب على صدورهم، ويعطون تعليماتهم الأخيرة للحوذيين والخفراء الذين سيمكثون في الخطوط الخلفية احتياطا. ولم يلبث الصوت الرتيب - صوت ألوف الأقدام التي تقرع الأرض - حتى علا. كانت الصفوف تسير دون أن تعرف الهدف أو أن تميز طبيعة الأرض التي كان الازدحام والدخان والضباب المتكاثف تتحد لإخفائها وحجب الهدف الذي تسعى تلك الصفوف إليه عن الأبصار.
إن الجندي في تسياره محاط ومساق في صفوف وحدته كالبحار السجين في حدود زورقه. إنه مهما توغل وابتعد، ومهما ازداد الخطر المحدق به وتعاظم، فإن عينيه تقعان أبدا على رؤسائه أنفسهم وزملائهم أنفسهم، وعلى الرقيب الأول إيفان ميتريش «إياه» وكلب السرية «نوارو»، تميمة الفرقة، وكذلك البحار الذي يجد نفسه أبدا يواجه الصاريات ذاتها والحبال ذاتها والمنظر المألوف دون تبديل، إن الجنود لا يطلبون معرفة الامتداد الذي يجري فيه زورقهم إلا نادرا، لكنهم في يوم المعركة يشعرون جميعهم في قرارة نفوسهم بصوت خطير؛ بهاتف لا يعرف إلا مصدره، يوقظ فضولهم السادر، وينبئهم بقرب حلول لحظة حاسمة رهيبة، وعندئذ يحاولون اختراق أفقهم المحدود، فيصفون الهمسات ويراقبون الحركات ويطرحون الأسئلة تلو الأسئلة، وهم في مزيد الشوق إلى معرفة ما يدور حولهم.
أصبح الضباب شديد الكثافة، حتى إن الجندي ما كان يستطيع رؤية أبعد من عشر خطوات أمامه، رغم أن النهار كان قد انبلج. كانت الأدغال ونباتات العوسج تبدو للنظر أشبه بأشجار ضخمة شامخة، والأخاديد المتقاربة أودية سحيقة. وكان خطر الاحتكاك بالعدو والاصطدام به كامنا في كل مكان من على اليمين وعلى الشمال. وكانت الرؤية المحدودة تزيد في وقع ذلك الخطر، مع ذلك فقد راحت الوحدات تتسلل عبر ذلك الضباب الكثيف فترة طويلة، وسط تلك الأراضي المجهولة، فتنحدر إلى الأودية، أو تتسلق المرتفعات، وتسير بحذاء الأسوار والحظائر والبساتين، دون أن تلتقي بالفرنسيين. بينما كانت الوحدات الروسية تتبع ذلك الاتجاه آتية من كل حدب وصوب، تطالع العين صفوفها في كل لحظة. وكانت تلك البادرة وحدها تطمئن الجندي الذي يرى أن عددا كبيرا من بني قومه وزملائه يتقدمون معه نحو هدف واحد؛ هدف مجهول منهم جميعا.
كانوا يتحدثون بين الصفوف قائلين: هه، ها هم أولاء جنود روسيون من كورشك.
1
فيجيب مغضبا: ذلك أنهم كثر، إنهم يعدون الألوف المؤلفة يا أخي، لم أجد وسيلة للإحاطة بعددهم أمس عندما أوقدت النيران. حقيقة يمكن القول إن المرء ليخال نفسه في موسكو!
كان رؤساء الوحدات متأخرين قليلا عن وحداتهم، لقد كان هؤلاء السادة - كما نوهنا في جلسة المؤتمر الحزبي - على أسوأ مزاج، وكانوا شديدي الاستياء لرؤيتهم العمليات في بدايتها؛ فكانوا ينفذون الأوامر بإخلاص، ولكن لا يبالون بمعنويات الجنود، وكان هؤلاء يسيرون بوداعة وابتهاج شأنهم كلما مضوا إلى المعركة، وخصوصا في حالات الهجوم. غير أن معظم القطعات اضطرت إلى التوقف بعد مسير ساعة كاملة في ذلك الضباب الكثيف، واكتسحت الصفوف إحساسات مؤلمة بالفوضى والبلبال. صحيح أن الإنسان ليعجز عن تبيان الأسلوب الذي تتصل فيه تلك المشاعر، وتنتقل من فرد إلى آخر، غير أن امتدادها بسرعة مدمرة هائلة، وانتشارها - كما تكتسح المياه أرضا منخفضة - أمر مؤكد ثابت. ولو أن الجيش الروسي كان وحيدا لا يعضده حلفاء، لكان ممكنا أن يمر وقت طويل قبل أن يصبح ذلك الشعور مؤكدا محققا وعاما شاملا، أو في تلك الأثناء، فقد راح كل من القادة والجنود، على السواء، يلقون تبعة هذا الأمر على عاتق أولئك «الألمان البلهاء» وأولئك الملاعين «أكلة النقانق»، بمكر وتشف مألوفين عند البشر. - هه ماذا؟ ألا نتحرك؟ هل الطريق مقطوع؟ أم ترانا وقعنا على فرنسيين؟ - كلا، لو كان كذلك لأطلقوا النار علينا، ونحن لم نسمع بعد شيئا. - وإذن، ألكي يوقفونا في العراء جروا بنا ركضا منذ الصباح؟ إن كل هذا نتيجة خطأ أولئك الألمان الملاعين ، عصبة الحمقى! - لو أن الأمر كان راجعا إلي لأرغمتهم على السير في الطليعة، وها ها! لا شك أنهم في أحسن حال في المؤخرة، يلتهمون ما يشاءون، بينما أوقعونا هنا ومعدنا فارغة خاوية!
وزمجر ضابط: اللعنة! ألن ننتهي من هذا؟ إنهم يزعمون أن الفرسان يقطعون الطريق.
فأجابه آخر: ماذا تعمل بمثل هؤلاء الألمان الأغبياء؟ إنهم لا يعرفون حتى بلادهم.
وهتف أحد الضباط المساعدين، وكان وصل لتوه: من أية فرقة أنت؟ - من الثامنة عشرة. - إذن ماذا تفعل هنا؟ كان ينبغي أن تكون في الطليعة منذ زمن طويل، أما الآن فإنك تتعرض للانتظار حتى المساء.
فقال الضابط وهو يبتعد: هل الأمر على مثل هذا السخف! إنهم لا يعرفون أنفسهم ماذا يعملون!
ووصل جنرال بعد ذلك، وصاح بصوت مرتفع بلغة أجنبية، فقال أحد الجنود، وهو يشير إلى الجنرال الذي كان يبتعد: تافا، لافا! ماذا يغني؟ إننا لا نفقه شيئا، كان يجب قتل هؤلاء السفلة رميا بالرصاص!
ومن كل مكان كان هناك من يزمجر: كان علينا أن نحتل مواقعنا قبل الساعة التاسعة، مع ذلك فإننا حتى الآن لم نقطع نصف الطريق! ألا ترى مبلغ العظمة في ترتيبهم وإعدادهم!
حل الخور محل العزيمة التي بدأ الجنود بها يومهم، وتطور إلى لون من الغضب القاصر عن بلوغ مداه؛ غضب على سخف الأساليب المتبعة وخطيئة الألمان الفادحة.
وكان سبب ذلك البلبال مرده قرار اتخذته القيادة العليا: لقد وجدت أن وسط الجيوش قد أصبح متباعدا عن الجناح الأيمن، فأصدرت الأوامر بإيقاف زحف المشاة، وانتقال الفرسان النمساويين الذين كانوا حتى ذلك الوقت يحمون الجناح الأيسر، إلى الجناح الأيمن لحمايته؛ الأمر الذي جعل المشاة يتوقفون وقتا طويلا ريثما تمر تلك الموجة الزاخرة من الفرسان الذين يعدون بالألوف.
وفي تلك الأثناء، كان الجنرال الروسي ثائرا على الدليل النمساوي في مقدمة الجيوش. كان الروسي يرغي ويزبد مطالبا بإيقاف الفرسان ليعود المشاة إلى سيرهم، بينما كان النمساوي يحتمي وراء أوامر القيادة العليا، وخلال ذلك، كانت القطعات متوقفة مغيظة تفقد شجاعتها وحماسها، وانقضت ساعة كاملة قبل أن تعاود المشي والنزول إلى أعماق الوادي؛ حيث الضباب الذي كان قد انجاب فوق المرتفعات لا يزال كثيفا مظللا. أزت طلقتان ناريتان في مقدمة الجنود، وسط ذلك الضباب، ثم تبعتها طلقات أخرى بدأت غير متتابعة أول الأمر، وما لبثت أن زادت حدة على ضفاف جولدباخ.
وكان الجنود الروسيون لا يتوقعون الالتحام مع العدو هنا؛ لذلك فقد أخذوا على حين غرة، دون أن يسمعوا عبارة تشجيع واحدة. والأدهى في الأمر أنهم ما كانوا يرون شيئا أمامهم أو حولهم، اقتنعوا في تلك اللحظة أنهم وصلوا متأخرين، فراحوا يجيبون على نيران العدو بتراخ؛ فيتقدمون تارة ثم يتوقفون، دون أن يتلقوا أي أمر من القواد الكبار أو بواسطة ضباطهم الملحقين الذين كانوا يضلون في ذلك الضباب دون التعرف على الوحدات التي يريدون الاتصال بها. وهكذا بدأت المعركة بالنسبة للفيالق الأول والثاني والثالث، التي انحدرت من هضبة براتزن التي لم يبق فوقها إلا الفيلق الرابع الذي يقوده كوتوزوف بالذات.
وفي الأعماق - حيث بدأت العمليات - كان الضباب كثيفا، أما على المرتفعات فقد باتت الرؤية ميسورة، حتى إن المرء كان يستطيع معرفة ما يدور أمامه، لم يكن أحد يعرف إذا كانت قوات العدو الرئيسية كامنة على بعد ميلين أو ثلاثة أميال كما كان الروسيون يتوقعون، أم أنها تنتظرهم وراء هذا الخط من الضباب الكثيف، نعم، لم يكن أحد يستطيع تحديد ذلك.
بلغت الساعة التاسعة، وبحر الضباب ما زال متلاطما في الأعماق ممتدا على مسافات شاسعة، أما باتجاه قرية شلاباينتز؛ حيث كان نابليون يرقب على مرتفع هناك، محاطا بماريشالاته، فقد كان منقشعا تماما، لقد كانت السماء الزرقاء الصافية المشرقة تمتد فوقه، وقرص الشمس الأحمر يغمر بإشعاعاته الوردية الفاقعة سطح ذلك البحر الأبيض من الدجنة. لم يكن الجيش الفرنسي بكامله، ونابليون بالذات مع كامل أركان حربه على الطرف الآخر من النهير وفي تخوم مستنقعات سوكولينتز وشلاباينتز؛ حيث كان يزمع الجيش الروسي وحلفاؤه مهاجمته هناك، بعد أن يعدوا له العدة اللازمة، بل كان هنا ، على هذا الجانب من الضابط النهير، شديد القرب من القطعات الروسية، حتى إن نابليون كان يستطيع بعينه المجردة أن يفرق بين الضابط والجندي، وبين الفارس والراجل.
كان الإمبراطور متقدما ماريشالاته قليلا ممتطيا صهوة جواد عربي أشهب، مرتديا المعطف الأزرق الداكن الذي خاض به حملة إيطاليا. كان يراقب بصمت المرتفعات التي كانت تبدو كأنها ناتئة من خضم من الضباب، والتي كانت القطعات الروسية تتحرك فوقها على البعد. وكان يصيخ السمع إلى لعلعة الرصاص التي انفجرت فجأة في الوادي. لم تتحرك عضلة واحدة من وجهه الذي كان لا يزال هزيلا حينذاك، بل ظلت عيناه اللامعتان تحدقان في نقطة واحدة، لقد صدق حدسه، ووقع ما كان ينتظره، كان جزء من القطعات الروسية قد انحدر إلى الوادي باتجاه المستنقعات، بينما راح الجزء الآخر يتهيأ لإخلاء مرتفع براتزن، الذي كان يريد مهاجمته والاستيلاء عليه. لقد كان يتطلع إلى ذلك المرتفع تطلعه إلى مفتاح العملية الحقة، كان يرى الوحدات الروسية تسير خلال الضباب شاكية الحراب، فتختفي إحداها في أثر الأخرى في محيط الدجنة الكثيف الرابض في أعماق المنحدر الذي كان يفصل بين المرتفعين المجاورين لقرية براتزن، لقد كانت المعلومات التي تلقاها مساء أمس، والضجة التي أطلعه خفراؤه في الخطوط الأولى عليها، وقعقعة العجلات التي سمعها جنوده خلال الليل والحركات الكثيرة المتداخلة التي أمكن تمييزها في صفوف الروسيين، كل ذلك كان يؤكد له بأن الحلفاء يعتقدون أنه بعيد عنهم، ويثبت أن الفيلق الذي كان يتحرك قرب براتزن إن هو إلا وسط الجيش الروسي، فتأكد من أن هذا الوسط كان شديد الضعف حتى ليعجز عن مهاجمته بنجاح، مع ذلك فقد ظل لا يوعز بالبدء بالهجوم.
كان ذلك اليوم بالنسبة إليه يوما جليلا مجيدا؛ لقد كان عيد تنصيبه الأول إمبراطورا لفرنسا، لقد اختلس سويعات نوم قليلة كفته، فنهض بعدها نشيطا خفيف الحركة. وفي مثل ذلك الاستعداد الفكري المشرق، الذي بدا له فيه كل شيء ممكنا وكل شيء ناجحا، اعتلى بونابرت صهوة جواده وقصد إلى ساحة القتال. أما الآن، فقد كان جامدا شاخص العينين إلى تلك المرتفعات التي كانت ظاهرة وراء الضباب وفوقه، ووجهه الجامد يشع بالسعادة والاطمئنان؛ سعادة العشاق الشباب عندما يجدون تشجيعا من عشيقاتهم. وكان ماريشالاته منتظمين صفا وراءه لا يجرءون على تعكير سكونه. كان ينظر إلى هضبة براتزن تارة، وتارة أخرى إلى الشمس التي كانت تخترق الضباب.
ولما انقشع الضباب عن الشمس تماما، وأنارت هذه البرية بضيائها الوضاء، خلع نابليون قفازه عن يده البيضاء الرقيقة، وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة بالذات، لإصدار الأمر إلى ماريشالاته ببدء الهجوم. وجرى هؤلاء وضباطهم المساعدون في أنحاء مختلفة لإدارة العمليات، فلم تمض دقائق معدودة، حتى كانت قوى الجيش الفرنسي الرئيسية تتجه بسرعة نحو هضبة براتزن التي كانت الوحدات الروسية تخليها باستمرار لتنحدر إلى أعماق الوادي ونحو اليسار.
الفصل الخامس عشر
الإمبراطوران
امتطى كوتوزوف جواده في الساعة الثامنة واتجه نحو براتزن، ولما بلغ الفيلق الرابع - الذي يقوده ميلورادوفيتش الذي جاء يحل محل فيلقي برزيبيسزوسكي ولانجيرون اللذين كانا في سيرهما المقررة - تبادل التحية النظامية مع جنود اللواء، وأعطى الأمر بالمسير دلالة على أن سيقود هذا الفيلق بنفسه، ولما وصل قرية براتزن توقف. كان الأمير آندريه في عداد الضباط المساعدين، وكان فريسة ذلك النوع من الانفعال المكبوت الذي يستحوذ على كل من يرى أخيرا أن الفرصة التي كان ينتظرها بفارغ صبر باتت على وشك السنوح، كان قانعا بأن يوم «طولونه» قد أزف أو يوم «جسر آركول»،
1
ما كان يعرف كيف سيقع ذلك الحدث الذي سيحقق حلمه، لكنه ما كان يشك قط في وقوعه، نسي خطته الاستراتيجية الخاصة التي أصبح تحقيقها ضربا من المستحيل، وتبنى خطة فيروذر، وهو الذي يعرف المواقع أكثر من أي آخر من مواطنيه الروسيين، كان في تلك اللحظة يفكر في الصدف التي يمكن أن تعرض، وفي مختلف الخطط التي ستساعده على التحقق من وجهة نظره وسرعة تقديره ودقته.
كان الرصاص يلعلع بين فرق غير منظورة في أعماق الوادي إلى اليسار بين ستر الضباب الكثيفة، ففكر بولكونسكي في سره: «إن المعركة كلها سوف تتركز هناك، فليظهر أي عائق ولأرسل على رأس وحدة أو جيش، وعندئذ سوف أندفع على رأس الجيش والعلم في يدي، وسأحطم كل ما يظهر أو يقوم في سبيلي.» لبهجته رؤية الأعلام ترفرف في مقدمة كل قطعة سائرة، غمغم وعينه تحصي الأعلام التي راحت تترى: «لعلني سأرسل حاملا هذا العلم، وسيتاح لي أن أقود الوحدات تحت لوائه.»
خلف الضباب الليلي على المرتفعات صقيعا راح يتحول إلى ندى تحت وطأة الحرارة، أما في الوادي، فقد كان البحر الأبيض الكثيف على حاله يعرقل السير، ويعترض نطاق الرؤية؛ مما جعل القوات الروسية لا تعرف العدد الذي يهاجمها وموقع المهاجمين على الضبط، وفي أعلى الهضبة، كانت السماء زرقاء داكنة، أما إلى اليمين فقد كان قرص الشمس الضخم واضحا مرئيا، وإلى الأمام - على الشاطئ الآخر من خضم الضباب - كانت تقوم هضاب محرشة تشكل مشارف مناسبة تصلح لاختباء العدو فيها، وقد أيد هذا الظن الأشباح التي كانت ترى بشكل غامض نظرا إلى بعد المسافة. أما إلى اليمين، فقد كانت قعقعة العجلات وصدى الخطى الكثيرة المتزاحمة ووقع حوافر الجياد وبعض الانعكاسات الضوئية على الحراب؛ تدل على أن الحرس يشق عباب الضباب التي كانت سرايا كاملة من الفرسان تسير فيه على اليسار وراء القرية. أما في المقدمة وفي المؤخرة فقد كانت التحركات مقتصرة على المشاة، كان كوتوزوف يراقب زحف القطعات وهو في مكانه عند مخرج القرية، كان يبدو متعبا منهوكا سيء المزاج مغضبا، ولما رأى أن المشاة، التي اعترضها - ولا شك - معترض، توقف زحفهم دون أن يصدر إليهم الأمر بالتوقف، راح كوتوزوف يناقش الحساب، الجنرال الذي كان يقود فرق المشاة، هتف به: ماذا تنتظر بالله لترتب صفوف لوائك، وتجعله يدور حول القرية؟! هيا يا سيدي العزيز، أقصد يا صاحب السعادة، هل يتمدد الجنود على هذا الشكل على طول طريق عندما يسيرون نحو العدو؟!
فأجابه الجنرال: لتعذرني سعادتكم العلية، لقد كنت أفكر في تنظيم الصفوف عند الجانب الآخر للقرية.
هتف كوتوزوف وهو يضحك ضحكة خشنة: حقا؟! إنك تريد أن تكشف جبهتك على مرأى من العدو؟! لعمري إن هذا جميل! - ما زال العدو بعيدا يا صاحب السعادة العلية، إن الخطة ...
قال كوتوزوف مستنكرا بلهجة غاضبة: الخطة! من الذي قال لك هذا؟ تفضل بالتقيد بما تؤمر به. - كما تأمرون.
وهمس نيسفيتسكي في أذن الأمير آندريه قائلا: إن العجوز يا عزيزي متعكر المزاج مخيفه.
وفي تلك الأثناء، اقترب ضابط نمساوي في حلة بيضاء، والريشة الخضراء مغروسة في قبعته، ليقول لكوتوزوف على لسان الإمبراطور إن جلالته يسأل عما إذا كان الفيلق الرابع قد دخل في الحركة.
فالتفت كوتوزوف دون أن يجيب، ووقع بصره صدفة على الأمير آندريه، فهدأت ثائرته وخفت حدته، وكأنه أدرك أن ضابطه المساعد لم يكن على علاقة بكل تلك الحماقات التي ترتكب. قال لبولكونسكي بلهجة هادئة وهو يغفل عامدا الضابط النمساوي: اذهب يا عزيزي، وانظر إذا كان الفيلق الثالث قد اجتاز القرية أم لا، قل لضباطه أن يتوقفوا بانتظار أوامري.
ولم يكد الأمير آندريه يتحرك نحو الوجهة التي أوفده إليها حتى عاد فاستوقفه ليضيف مزمجرا بين أسنانه مغفلا النمساوي دائما: واسألهم إذا كان الرماة قد احتلوا مراكزهم، استعلم عما يفعلون، عما يفعلون!
هرع الأمير آندريه لأداء مهمته، ولما تخطى الألوية السائرة، استوقف الفيلق الثالث، ولاحظ أن أي خط من خطوط القناصة لم يقم بعد على طول جبهته ولا لحماية الفيالق السائرة. أظهر الكولونيل الذي يقود الفيلق الثالث بليغ دهشته للأمر الذي يحمله الأمير، كان يعتقد جازما أن قطعات أخرى كان ينبغي أن تتقدمه، وأن مرحلتين أو ثلاث مراحل على الأقل تفصله عن العدو، وكان محقا في وجهة نظره؛ لأنه لم يكن يرى أمامه إلا امتدادا شاسعا للسهل المقفر الذي يسبح في الضباب. وبعد أن أوعز إليه باسم الجنرال القائد الأعلى بتلافي الخطأ الواقع، عاد الأمير آندريه إلى مركزه. كان كوتوزوف في مكانه ذاك لم يبرحه، وقد استرخى جسمه الضخم على سرج الجواد، وكان يتثاءب مغمض العينين، أما القطعات فقد كانت هناك متوقفة وأسلحتها عند أقدامها.
قال كوتوزوف وهو يلتفت نحو الجنرال، الذي كانت ساعته مفتوحة في يده يتطلع إليها وكأنه يلمح إلى أن لحظة الزحف قد أزفت: حسن، حسن، لدينا الوقت الكافي يا صاحب السعادة، لدينا الوقت الكافي.
وعاد يتثاءب من جديد، كانت وحدات الجناح الأيسر كلها قد انحدرت إلى الوادي حسب الخطة المرسومة.
وفي تلك اللحظة، تجاوبت وراء كوتوزوف هتافات تحية ترددها أصوات بعيدة، أخذت تقترب شيئا فشيئا، فاستدل من ذلك على أن الذي توجه إليه تلك التحيات يتحرك بسرعة نحوه مستعرضا الفيالق هدبا، فلما راح جنود كوتوزوف على رأسهم يرددون الهتاف، تراجع هذا قليلا إلى الوراء، وألقى نظرة مستفسرة. شاهد كوكبة كاملة من الفرسان تتجه نحوه مسرعة قادمة من براتزن، ورأى أن ألبسة أولئك الفرسان غير موحدة، وكان فارسان يهدبان في المقدمة؛ أحدهما يرتدي حلة سوداء، وفي قبعته ريشة بيضاء، يمتطي جوادا محجلا مستولدا من أصل إنجليزي، والآخر في زي أبيض معتليا صهوة جواد أدهم، كان الإمبراطوران قادمين مع أفراد حاشيتهما، أسبغ كوتوزوف على وجهه قسمات الجندي العجوز الذي يخضع للقوانين والأنظمة العسكرية، وصرخ يأمر الجنود الواقفين: است...عد!
تبدلت وضعيته، وتبدلت أساليبه، فغدت في طرفة عين أساليب المرءوس الذي لا يفكر ولكن يطيع. وباحترام واضح متزايد، اقترب من الإمبراطور يحييه.
بدت تلك الحفاوة البالغة على غير ما يتمنى الإمبراطور، لكن ذلك الشعور المقبض لم يكن إلا سحابة عابرة ظللت وجهه فترة وجيزة ثم تبددت، أشبه ببقية من ضباب خفيف في سماء شديدة الإشراق. كان الإمبراطور يبدو في ذلك الصباح أكثر نحولا من مألوف عادته، ولعل لانحراف صحته في الأيام الأخيرة دخلا كبيرا في هذا الشأن. لقد رآه بولكونسكي يوم استعراض «أولموتز»، وكان على حال أحسن من حاله اليوم، مع ذلك فقد كان ذلك المزيج من الفتنة الطاغية والجلال والعظمة متركزا في عينيه الجميلتين الشهلاوين، وذلك الأسلوب المعبر مرتسما على شفتيه الرقيقتين، وكان شبابه يطغى على كل هذه الصفات؛ ذلك الشباب البريء النبيل. صحيح أنه كان أقل هيبة مما كان عليه في أولموتز؛ فقد كان أكثر ابتهاجا وحيوية .
كان وجهه متضرجا بتأثير تلك الرحلة القصيرة على الجياد، فاسترد أنفاسه، والتفت يتفحص وجوه بطانته التي كانت تضم كل شاب متوقد الوجه مضرجه مثله، وكان هؤلاء يتحدثون فيما بينهم باسمين، وكان بينهم كزارتوريسكي ونوفوسيلتسوف، والأمير فولكونسكي وستروجانوف، وعدد آخر؛ وكل منهم طلق المحيا مرتد ثيابا فاخرة، تفصح عن شرف محتده، وكلهم مبتهجون، على صهوات جياد مطهمة، مجهزة بسخاء وإسراف، ونظيفة كل النظافة. توقف أفراد الحاشية على مبعدة من الإمبراطور الذي لبث وحده إلى جانب زميله النمساوي الإمبراطور فرانسوا، وكان هذا شابا ذا وجه طويل مشرب بالحمرة، منتصبا فوق صهوة جواده الأدهم الأصيل، يسرح الطرف ببطء حوله وعيناه تشعان بنظرات قلقة. نادى أحد مساعديه - وكان مثله في ثياب بيضاء - وطرح عليه سؤالا، فقال الأمير آندريه في سره: «لا شك أنه يسأله عن ساعة مغادرتهم القصر»، ولم يستطع كتمان ابتسامة طافت على شفتيه حينما تذكر مقابلته الشخصية معه. كان أفراد حاشية الإمبراطورين منتخبين من أشهر الفرسان الروسيين والنمساويين المنخرطين في أسلحة الجيش، وكان بعض فرسان الركاب ممسكين بأعنة خيول البدل، وهي من صافنات الجياد التي تحفل بمثلها إصطبلات الإمبراطور.
كانت تلك الكوكبة المتألفة من الفرسان الأنيقين، أشبه بالنفحة المنعشة التي تهب على الحقول وتدخل إلى غرفة كئيبة عبر النافذة المفتوحة. لقد كان لها أثر عميق في نفس أعضاء حزب كوتوزوف المتطيرين، الذين شعروا بنفحة من الشباب والحيوية والثقة في النجاح تتغلل في دمائهم.
سأل الإمبراطور ألكسندر والجنراليسيم كوتوزوف بصوت حي، وهو يلقي نظرة امتثال على الإمبراطور فرانسوا: هه يا ميخائيل لاريونوفيتش، ألا تشرع؟
فأجاب كوتوزوف وهو يحييه تحية عميقة: إنني أنتظر يا صاحب الجلالة.
قطب ألكسندر حاجبه، وانحنى فوق الجواد مدللا على أنه لم يسمع الجواب، فكرر كوتوزوف الذي كانت شفته السفلى ترتعد بشكل غير مألوف، لم يغب عن دقة ملاحظة الأمير آندريه: إنني أنتظر يا صاحب الجلالة، إن تركيز القطعات لم ينته بعد يا صاحب الجلالة.
فهم الإمبراطور، لكن الجواب بدا على غير ما كان ينتظر، فهز كتفيه المقوستين، وألقى نظرة على نوفوسيلتسوف، وكأنه يشكو إليه كوتوزوف. أردف: ولكن يا ميخائيل لاريونوفيتش، لسنا في ساحة المناورات في تساريتسينو؛ حيث ينتظر المرء هناك إن لم يتم تجهيز كل القطعات لبدء العرض.
ومن جديد عاد ألكسندر يختلس النظر إلى الإمبراطور فرانسوا، وكأنه يدعوه للانتباه على الأقل إذا كان لا يرغب في المشاركة في الحديث. غير أن الإمبراطور فرانسوا كان يجيل أبصاره بشرود دون أن يسمع شيئا.
قال كوتوزوف بصوت قوي رزين يبلغ مسامع الإمبراطور: إنني إذا كنت لا أبدأ يا صاحب الجلالة، فذلك لأنني في الحقيقة لست في ساحة المناورات، ولا في عرض عسكري.
ومن جديد عادت الرعدة الخفيفة تقلص تقاطيع وجهه.
تبادل ضباط البطانة نظرات تنبئ باللوم والانزعاج. كانت وجوههم تنطق قائلة: «مهما كان عجوزا مسنا، فإنه ما كان يجوز له أن يتحدث بهذه اللهجة، كلا، ما كان يجوز له ذلك.»
راح الإمبراطور يتفحص وجه كوتوزوف بدقة وعناية، منتظرا منه المزيد من التفسير، لكن هذا كان منحنيا بكل احترام، يبدو وكأنه ينتظر بدوره، وران الصمت حوالي دقيقة.
أردف كوتوزوف بعد أن استعاد طابع الجندي القديم الذي لا يعرف غير الطاعة دون مناقشة ولا سؤال: على كل حال، إذا كنتم جلالتكم تأمرون ...
وهمز جواده ليصدر الأمر بالهجوم إلى سيلورادوفيتش.
ومن جديد تحركت الكتل البشرية؛ تحرك لواءان من فيلق نوفوجورود ليمر أمام الإمبراطور، وما لبث أن تبعه لواء من فيلق آبشيرون. وبينما كان هذا اللواء يسير تحت أنظار الإمبراطور وحاشيته، انقض ميلورادوفيتش على صهوة جواده، بوجهه القرمزي، دون معطف، تزين صدره الأوسمة الكثيرة، والريشة الفاخرة الضخمة تنبت من قبعته، وأوقفه فجأة أمام الإمبراطور وهو ينحني محييا بحركة رشيقة عريضة واسعة.
قال له ألكسندر: ليحفظك الله يا جنرال!
فأجاب هذا بمرح واتزان لم يمنع أفراد الحاشية الابتسام ضاحكين من ركاكة لغته الفرنسية: لعمري يا صاحب الجلالة، سنعمل كل ما سيكون في وسعنا يا صاحب الجلالة.
لوى ميلورادوفيتش عنان جواده بحركة فجائية، وتوقف وراء الإمبراطور على بعد عدة خطوات. أما لواء الجنود، فقد مر أمام العاهل يستخف أفراده الفرح لوجوده، وهم يخطرون بخطوات عسكرية جبارة تدعو للإعجاب.
نسي ميلورادوفيتش وجود الإمبراطور وهتف بجنوده: هيا يا شجعاني، أبرزوا مقدرتكم من جديد، إنها ليست أول مرة!
كان صوت الرصاص المتطاير وقرب وقوع المعركة، بالإضافة إلى جنوده البواسل الذين خاض معهم معارك سوفوروف من قبل، قد أثارت حميته واندفاعه حتى غفل عن كل ما حوله.
وهتف الجنود يرددون: سنعمل ما في وسعنا.
شب حصان الإمبراطور أثر ذلك الهتاف المدوي غير المنتظر الذي انبعث من مئات الحناجر. كان هذا الحصان الذي درج الإمبراطور على امتطائه في الاستعراضات في روسيا، يحمل سيده الآن إلى ساحة المعركة، ويحتمل لكز مهماز قدمه اليسرى، فينصب أذنيه عند سماع أصوات العيارات النارية كما كان يفعل في ساحة مارس - ساحة العرض - دون أن يدري شيئا عما تعنيه تلك الطلقات وجواره مع حصان الإمبراطور فرانسوا الأدهم. كذلك فقد كان كل ما كان فارسه يفكر فيه ذلك اليوم أو يقوله أو يشعر به، غير ذي أهمية بالنسبة إليه.
التفت ألكسندر نحو أحد خلصائه، وأشار إلى لواء آبشيرون الباسل، وأسر له شيئا وهو يبتسم.
الفصل السادس عشر
تولون بولكونسكي
راح كوتوزوف وضباطه المساعدون يتبعون الفيلق مشيا على أقدامهم، يتقدمهم حاملو الغدارات، فلما قطع خمسمائة متر، توقف قرب منزل منعزل مهجور، يبدو أنه كان خانا قبل أن يهجره أصحابه. وكان ذلك المنزل قائما عند ملتقى طريقين ينحدر كلاهما من الهضبة، وتغطيهما الفرق الزاحفة في تلك الأثناء.
كان الضباب قد أخذ ينقشع، وأصبح بالإمكان رؤية قطعات عدوة على التل المقابل في غير وضوح، على بعد نصف مرحلة. وكانت طلقات البنادق تزداد وضوحا في الجهة اليسرى المطروقة من قبل الجنود السائرين إلى الهدف المقرر. تبادل كوتوزوف بضع كلمات مع الجنرال النمساوي، وكان الأمير آندريه متخلفا قليلا يرقبهما بانتباه. طلب من أحد زملائه الضباط أن يعيره منظاره، هتف: انظروا، انظروا!
وأشار بيده، ليس إلى الأبعاد البعيدة، بل إلى أسفل الهضبة التي كانوا عليها، وأضاف: ها هم الفرنسيون!
تنازع المنظار جنرالان وعدد من الضباط المساعدين، وكلهم تبدلت أسارير وجوههم ، وعلا الخوف قسماتهم. لقد كان العدو الذي اعتقدوا أنه بعيد عنهم منتصبا أمامهم بغتة، كانت الأصوات المتداخلة تقول: أهو العدو؟ ... مستحيل! ... لكن بلى، انظر، إنه هو ... ما معنى هذا؟ ...
استطاع الأمير آندريه أن يرى بعينه المجردة فيلقا كبيرا من الفرنسيين، يتقدم للقاء لواء آبشيرون على أقل من خمسمائة خطوة من المكان الذي وقف فيه كوتوزوف.
قال الأمير آندريه في سره: «ها إن الدقيقة الحاسمة قد أزفت!» همز حصانه، واقترب من كوتوزوف، هتف: يا صاحب السعادة العلية، ينبغي إيقاف لواء آبشيرون.
لكن المشهد كله في تلك اللحظة وسط سحابة كبيرة من دخان البارود، ولعلع الرصاص قريبا جدا، وفجأة ارتفع صوت على بعد خطوتين من الأمير آندريه يهتف بذعر: لقد قضي عليها أيها الفتيان!
كان ذلك الصوت أشبه بالأمر، حتى إن كل من سمعه لم يلبث حتى لاذ بالفرار.
وقع ازدحام متزايد عكسي، متجه إلى حيث استعرض الإمبراطور الجنود الذين مروا أمامه منذ خمس دقائق. وكان يستحيل إيقاف ذلك السيل العرم، بل ويستحيل كذلك أن يتفادى المرء الانقياد إليه. أما بولكونسكي فكان يجهد على عدم البقاء في المؤخرة، ويجيل حوله نظرات حيرى دون أن يفقه ما يجري. أما نيسفيتسكي، فقد كان غاضبا ملتهب الوجه خارجا عن طوره، يصيح بكوتوزوف قائلا إنه إذا لم يتراجع فإنه سيسقط في يد العدو. غير أن كوتوزوف لم يبارح موقفه ولم يجب، بل أخرج منديله من جيبه ليمسح الدماء التي كانت تلطخ وجهه، فشق الأمير آندريه لنفسه طريقا محاولا الوصول إليه.
سأله وهو لا يكاد يسيطر على ارتعاد ذقنه من العصبية والانفعال: هل أنت جريح؟
فأجاب كوتوزوف: إن الجرح ليس في وجهي بل هنا!
وأشار بيده إلى الجنود الفارين، بينما كانت يده الأخرى تمسح الدم بالمنديل، هتف: أوقفوهم!
لكنه اقتنع على الفور باستحالة تنفيذ ذلك الأمر وبطلانه، فهمز جواده محاولا بلوغ الجانب الأيمن، غير أن موجة أخرى من الهاربين اكتسحته وأجبرته على العودة إلى الوراء.
كان الجنود يفرون جماعات جماعات، بلغ من كثافتها وشدة اندفاعها أن كل من يقع في سبيلها كان مصيره السحق إذا حاول المقاومة. كان أحدهم يصيح: «انج بنفسك، أسرع، تحرك، ماذا تنتظر؟!» وآخر يطلق النار في الفضاء وهو مول الأدبار، وثالث يضرب حصان كوتوزوف. فلما استطاع كوتوزوف ومن بقي معه من معاونيه - وكان عددهم قد تقلص إلى أقل من النصف - بمعجزة خارقة أن يتخلصوا من ذلك السيل الجارف، راحوا يستهدون بقصف المدافع القريب الذي كان يدوي في الجانب الأيسر، وكان بولكونسكي يسعى بكل ما أوتي من قوة أن يلحق بكوتوزوف. لاحظ وهو في سبيل التخلص من الازدحام مدفعية روسية تقصف حشدا فرنسيا لا يني يهاجم مواقعها. كان عش المدفعية مقاما في منتصف المسافة بين السفح والقمة، وكان الدخان يعلو في السماء كثيفا. وفي الأعلى، شاهد فيلقا من المشاة متوقفا لا يحاول مد يد العون إلى المدفعية، ولا يلتحق بالهاربين إلى المؤخرة. دفع الجنرال الذي كان يقود ذلك الفيلق حصانه نحو كوتوزوف الذي كان مساعدوه لا يتجاوز عددهم الأربعة، وكلهم ممتقعو الوجوه ينظرون إلى بعضهم بصمت.
هتف كوتوزوف بإعياء وهو في أقصى درجات الإعياء: أوقف هؤلاء السفلة!
وأشار بيده إلى الهاربين، غير أن بردا من الرصاص تساقط في تلك اللحظة على الفيلق الجامد، وعلى كوتوزوف وحاشيته، وكأن الغاية منه الاستهزاء بالأمر الصادر. كان الفرنسيون الذين يهاجمون عش المدفعية، قد شاهدوا ذلك الفيلق وهم في هجومهم، فجعلوا منه هدفا لنيران بنادقهم. قبض الجنرال على فخذه، وتساقط عدد من الجنود، أما حامل العلم، فقد أفلت العلم من يديه، فتأرجح هذا وهوى فوق بنادق الجنود الذين حوله، وانطلقت رصاصات أخرى دون أن يصدر أي أمر إلى الفيلق المنتظر.
زمجر كوتوزوف بلهجة يأس: آوه، آوه!
ثم أدار بصره حوله، وهمس بصوت مرتعد متهدج صادر عن قناعته بعجزه وهو في شيخوخته: بولكونسكي، بولكونسكي، ما معنى هذا؟!
وأشار بإصبعه إلى الفيلق المبعثر والعدو المتقدم الزاحف.
لم يكد كوتوزوف ينهي جملته حتى كان بولكونسكي يقفز على ظهر جواده، وقد جرض بدموع الخجل والغضب، فاندفع نحو العلم يحمله، وصاح ملء رئتيه: إلى الأمام أيها الفتيان!
فكر وهو يمسك بصارية العلم: «ها هي ذي اللحظة الحاسمة!» كان يسمع صفير الرصاص وأزيزه حول رأسه بغبطة حقيقية وابتهاج.
هتف من جديد: هورا!
وعلى الرغم من ثقل العلم الخفاق الذي كان يربكه، فقد كان متأكدا من أن الفيلق كله سيتبعه.
والواقع أنه لم يكد يقطع بضع خطوات منفردا حتى لحق به جندي، ثم تبعه آخر، وبعدئذ انحدر الفيلق كله وكأنه سيل يصخب منحدرا نحو الأعماق. أخذ الجنود يلقون صرخات الحرب ويعدون. ولم يلبثوا أن تجاوزوه، ولما كان العلم يترنح بين يديه، فقد اقترب أحد صف الضباط ليأخذه منه، غير أنه قتل على الفور، فعاد الأمير يجر العلم من صاريته، ويتابع الزحف مع الفيلق. كان يرى المدفعيين الروسيين أمامه وقد ترك بعضهم مدافعه، بينما استمر الآخرون يطلقونها، ورأى الفرنسيين يستولون على المدافع، فيحولون اتجاهها ليطلقوها على رجاله، لم يبق بينه وبين عش المدفعية إلا عشرون خطوة، والرصاص يتطاير حوله رأسه دون هوادة، بينما الجنود يزمجرون حوله ويسقطون، لكنه لم يكن مباليا بكل هذا، كان كل همه منصرفا إلى المدفعية. تبين مدفعيا أحمر الوجه وعلى رأسه قلنسوة مائلة إلى الجانب، يتنازع ملكية جهاز تفريغ المدفع مع جندي من الأعداء، كانا كلاهما باديا الغضب والزيغ، لا يدركان شيئا مما يعملان.
تساءل الأمير آندريه: «ماذا يعملان؟ لماذا لا يفر «الأحمر» طالما أنه لم يعد يملك سلاحا؟ ولماذا لا يخرق الفرنسي صدره بحربته؟ لو أن الفرنسي فكر في حربته لما وجد الآخر متسعا للفرار.»
وفي تلك اللحظة، أقبل فرنسي آخر وحربته على فوهة بندقيته، واقترب من المتخاصمين، كان مصير «الأحمر» الذي لم يكن حتى تلك اللحظة مدركا ما يفعل، يحاول بكل طاقته تخليص الجهاز من يد خصمه، غير أن الأمير آندريه لم ير كيف انتهى النزاع، أحس بأنه تلقى على رأسه ضربة من عصا أهوى بها بعض من حوله بكل ما في طاقة البشر من قوة. لم يكن الألم شديدا، لكن ما أثاره وأزعجه كان انصرافه بسبب تلك الضربة عن متابعة المشهد الذي كان يرقبه.
قال يحدث نفسه: «ما هذا؟ أأسقط؟ أتخونني ساقاي؟» وهو على ظهره من فوق الحصان. عاد ففتح عينيه آملا أن يتابع النظر إلى العراك العنيف الدائر بين الفرنسيين والمدفعيين، متعطشا لمعرفة ما إذا كان «الأحمر» قد قتل واستولي على «البطارية» أم لا، لكنه لم يعد يرى شيئا، لم يكن فوق رأسه إلا السماء، سماء غائمة، ولكن شديدة الارتفاع والتسامي، تخفق على أديمها غيوم قاتمة، فكر في نفسه: «يا للهدوء! يا للجلال! يا للسلام! يا له من فرق شاسع بين جرينا المجنون وسط الهتافات والمعركة، والغضبة السخيفة التي كانت مستولية على رجلين يتنازعان عصا تنظيف المدفع، وبين مشية هذه الغيوم البطيئة على أديم هذه السماء العالية اللامتناهية! كيف لم ألاحظ هذا حتى اليوم؟ كم أنا سعيد لأنني اكتشفت ذلك أخيرا! نعم، إن كل شيء غرور وعدم، كان كذبا ونفاقا باستثناء هذه السماء التي لا تحدها حدود. لا يوجد شيء مطلقا، أي شيء، باستثناء هذا ... ولعل هذا المشهد أيضا ومضة خداعة، لعله لا يوجد شيء إطلاقا، باستثناء السكون والراحة، والحمد لله العظيم!»
الفصل السابع عشر
مهمة روستوف
بلغت الساعة التاسعة والجناح الأيمن لم يدخل بعد في القتال رغم إلحاح دولجوروكوف ومطالباته. كان باجراسيون لا يشاطره الرأي، لكنه كان يريد نزع المسئولية عن كاهله؛ لذلك فقد عرض عليه أن يرسل من يأتي بالأوامر من لدن القائد الأعلى، وكانت تفصل بين الجناحين مسافة لا تقل عن ثلاثة أميال، فإذا لم يقتل الرسول - وهو احتمال ممكن - وإذا استطاع بلوغ مكان الجنرال القائد الأعلى - وهو أمر شديد الصعوبة - فإنه لا يمكن أن يعود إلى حيث كان الجناح الأيمن إلا حوالي المساء، ولم يكن باجراسيون يجهل ذلك.
راح يجيل في ضباط حاشيته نظرات كئيبة نعسة، فاجتذب انتباهه وجه روستوف الصبياني المشع بالانفعال والأمل؛ فانتقاه ليقوم بالمهمة المطلوبة.
سأل روستوف ويده لا زالت على حافة خوذته بالسلام: وإذا لاقيت صاحب الجلالة قبل التقائي بالجنرال القائد الأعلى؟
فأجابه دولجوروكوف دون أن يتيح لباجراسيون مجالا للرد: يمكنك أخذ الأوامر من جلالته.
كان روستوف قد نال قسطه من الراحة، حينما انتهت نوبته حوالي منتصف ليلة أمس، فكان يشعر بالراحة والدعة والاطمئنان، ممتلئا حماسة مؤمنا في حسن مصيره، وباختصار لقد كان في عقلية تجعل كل شيء هينا وميسورا في نظره.
وكانت كل رغباته تتحقق ذلك الصباح، فهناك معركة كبيرة على وشك النشوب، وسوف يساهم في خوضها، وها هو ذا تابعا لواحد من أكثر الجنرالات بسالة وشجاعة، وأخيرا ها إنه يكلف بمهمة إلى كوتوزوف، لعله يقابل فيها الإمبراطور كذلك. كانت الصبحية جميلة وحصانه ممتاز، وروحه مبتهجة نشيطة، فما إن تلقى الأمر، حتى اندفع بحصانه مبتعدا، وبعد أن حاذى في جريه جيش باجراسيون الجامد، بلغ المكان الذي كان فرسان أوفاروف يرابطون فيه استعدادا لاشتراكهم في العمليات العامة. ولما تخطى هؤلاء، طرقت أسماعه ضجة غير واضحة، لم تلبث أن وضحت، فإذا هي قصف عنيف من المدفعية تصحبه فرقعة عالية تحدثها طلقات البنادق، وكان القصف والرصاص يزدادان وضوحا كلما ازداد اقترابا.
كان جو الصباح المنعش الهادئ الذي لم يكن يعكره منذ حين إلا صوت انفجارات متباعدة منفردة، وقد استحال في تلك اللحظة إلى إرعاد مستمر يتعالى فوق منحدرات براتزن؛ إرعاد مخيف تساهم فيه المدافع والبنادق، فتجعل من الجو جحيما، وكانت أدخنة الانفجارات تتوالى على طول سفح الهضبة، بينما كانت الغيوم الكثيفة التي تخلفها طلقات المدافع تتناثر وتختلط بعضها ببعض، كان لمعان الحراب وسط ذلك الدخان يدل على كتل المشاة المتحركة، أما الخطوط الدقيقة التي كانت تتخللها، فقد كانت تدل على مكان المدفعيين وصناديق ذخيرتهم الخضراء.
أوقف روستوف حصانه برهة ليكون لنفسه فكرة عن المعركة الدائرة، لكنه أخفق في مسعاه، كانت كتل المخلوقات تتحرك وسط الأدخنة وستائر من الفرق تنتشر في الأمام وفي المؤخرة، ولكن من كان أولئك الجنود؟ وإلى أين كانوا ذاهبين؟ ماذا كانت نواياهم؟ يستحيل معرفة ذلك. غير أن هذا المشهد لم يثبط عزيمته، بل على العكس، لقد أضفى عليه مزيدا من الشجاعة والعزم، كان يهيب بالانفجارات قائلا: «كرر، كرر! بمزيد من القوة، بمزيد من القوة!»
همز جواده، فبلغ به جانب الجبهة الذي كان الجنود فيه قد بدءوا في المساهمة في المعركة.
راح يتساءل: «ماذا سيحدث هناك؟ لست أدري، مع ذلك فإنني واثق من أن كل شيء سيكون على ما يرام.»
تجاوز فيلقا نمساويا، وبلغ المراكز التي يشغلها جنود الحرس، غير أن هؤلاء كانوا يخوضون المعركة عند وصوله.
فكر في سره: «ذلك أحسن! سوف أشاهد المسألة عن قرب.»
كان يسير في محاذاة الخط الأول تقريبا، فوقعت أبصاره على عدد من الفرسان ظهروا في تلك اللحظة، تبين أنهم كانوا بعض رماحي الحرس الذين كانوا عائدين من المعركة مفككي الصفوف. ولما مروا بجانبه، رأى بوضوح أن أحدهم كان مغطى بالدم، فقال يحدث نفسه: «ماذا يهم!» ولما قطع بضع مئات من الخطوات، شاهد مفرزة كبيرة من الفرسان، كانت ثيابهم البيضاء تتعارض بشدة مع لون جيادهم الدهماء. بدأ ظهور تلك المفرزة على يساره، وقد انتشر أفرادها على خط طويل يقطع الاتجاه الخلوي الذي كان يسير فيه، ولم يلبثوا أن اندفعوا نحوه هادبين، وكان روستوف يرغب في تحاشي الاصطدامات والاشتباكات ليقوم بمهمته؛ لذلك فقد أرخى لجواده العنان، فراح هذا يسابق الريح، لكن الفرسان بدورهم قاموا بحركة مماثلة، حتى إن بعضهم راح ينهب الأرض نهبا بجواده يطارده، وأصبح وقع الحوافر أكثر وضوحا وصليل الأسلحة قريبا وراءه، بل إنه أخذ يتبين أشكال الفرسان، وأصبحت معالم وجوههم تتضح، عرف فيهم فرسان الحرس الذين كانوا يقومون بهجوم معاكس ضد الفرسان الفرنسيين.
ازدادت سرعتهم رغم أن جيادهم ما كانت مطلقة الأعنة، سمع روستوف ضابطا يصيح: «هدبا سر!» ورأى الفرسان يطلقون الأعنة لخيولهم الأصيلة، فتندفع هذه وكأن بطونها تلامس الأرض، وخشي روستوف أن تطأه سنابك الخيل أو أن تقتحمه في هجومها، فراح يحث جواده على طول امتداد خط هجومهم، حتى إنه لم ينج من الاصطدام بهم إلا بأعجوبة.
كان آخر فارس من الحرس الراكب، وهو عملاق ذو وجه منقوش بالجدري، يعلو وجهه الغضب لمرأى هذا الفارس الغرير الذي جاء يعرض نفسه للسقوط بين حوافر جواده، وكانت نهاية روستوف محتومة - وقد شعر بنفسه بضآلته إزاء هؤلاء الفرسان العمالقة - لولا أنه ظل محتفظا ببداهته، فأهوى بسوطه بضربة قوية على وجه الجواد الهائج المندفع الذي يعتليه العملاق، فشب الحيوان على قائمتيه، وأرخى أذنه وأدار وجهه، لكن الفارس لم يمهله، بل همزه بشدة، فعاد على أحسن ما كان عدوا، ممدود العنق مشرع الذيل، لكن روستوف كان قد نجا.
لم يكن فرسان الحرس يبتعدون عن روستوف حتى سمع هذا هتافات قريبة، ولما استدار رأى أن صفوفهم الأولى قد اشتبكت بصفوف العدو، ذوي شعارات الكتف الحمراء، ود لو يتابع مشهد المعركة، لكن مدفعا انطلق في تلك اللحظة وتبعه آخر، وعلت سحب الدخان، فحجبت الفرسان عن أنظاره، تردد فترة وهو بين راغب في الانضمام إلى ذلك الهجوم ومحجم عنه، لقد كان هجوما عنيفا مستميتا، تجلت فيه البسالة النادرة، حتى إن الفرنسيين أنفسهم لم يسعهم إلا الإعجاب بأعدائهم الفرسان، ولقد علم بعدئذ أن كل أولئك الميامين الأبطال، زهرة الفرسان وزينتهم، كل أولئك الشبان المتأججة حماستهم؛ قد هلكوا في تلك المعركة باستثناء ثمانية عشر فارسا نجوا.
فكر روستوف: «لم أغبطهم؟ سوف يأتي دوري، ولعلني أجد فرصة مواتية أشاهد فيها الإمبراطور للحظة خاطفة!»
تابع طريقه، فلما اقترب من الحرس الراجل، لاحظ من تعابير وجوه الضباط التي يمتزج فيها الجلال بالعطف والخشونة العسكرية، أنهم كانوا هدفا لنيران مدفعية العدو الهائجة، لقد كانت تعابير الوجوه أبلغ في معانيها ومراميها من أصوات القنابل وأزيز الرصاص المتطاير فوق الرءوس.
وبينما كان يمر خلف أحد الفرق، سمع بعضهم يناديه: روستوف!
أجاب دون أن يعرف صوت بوريس: ماذا هناك؟
فقال بوريس وابتسامة السعادة التي تنطبع على وجوه الشبان الذين خاضوا نيران المعركة للمرة الأولى، مرتسمة على وجهه: هه، ها نحن أولاء في الخطوط الأولى!
توقف روستوف وقال: حقا! وماذا بعد؟
فقال بوريس وهو شديد الانفعال: لقد دحرناهم!
وفجأة حلا له أن يثرثر، فراح يقص عليه نبأ فيلق الحرس الذي ما كاد رجاله يبلغون الأماكن المخصصة لهم حتى شاهدوا جنودا آخرين كانوا يحتلونها، لقد ظنوا بادئ الأمر أنهم النمساويون، غير أن أولئك الجنود الغرباء أمطروهم وابلا من قذائف المدفعية، وعندئذ أدركوا أنهم إزاء العدو، ورأوا أنفسهم بغتة في الخطوط الأولى وهم الذين ما كانوا يتوقعون لقاء العدو. غير أن روستوف لم ينتظر نهاية القصة، بل همز جواده ومضى، صاح به بوريس: أين تقصد؟ - عندي مهمة إلى جلالته.
وخيل لبوريس أنه يقول إلى سعادته،
1
فقال: ها هو ذا!
وأشار إلى الغراندوق الذي كان على بعد مائة خطوة منهما، مرتديا خوذة الفرسان وسترتهم، مقطب الحاجبين، مرفوع الكتف، يصرخ محدثا أحد الضباط النمساويين الذي كان شاحب الوجه في ثوبه الأبيض. - لكن هذا هو الغراندوق! إن مهمتي محصورة بين الإمبراطور والجنرال القائد الأعلى.
وهم بالابتعاد، لولا أن هرع بيرج من الجانب الآخر، وكان على مثل انفعال بوريس وحماسه، هتف وهو يريه رسغه الملفوف بمنديل تخضب بالدم: كونت، كونت، لقد جرحت في يدي اليمنى، مع ذلك فقد لبثت في الصف، إنني أمسك سيفي بيدي اليسرى يا كونت، لقد كان كل آل «فون بيرج» أبطالا في أسرتي.
أضاف بيرج كلمات أخرى، لكن روستوف لم يسمعها؛ لأنه كان قد ابتعد فعلا.
وبعد أن قطع قفرا خاليا، قرر الابتعاد عن الصفوف الأولى ليتجنب الوقوع في طريق هجوم جديد، راح يسير على طول جبهة الاحتياطي من القطعات، مبتعدا أكثر فأكثر عن المكان الذي كانت المعركة فيه على أشدها، وفجأة رأى أمامه على مؤخرة الفرق الروسية، في المكان الذي لم يكن يحلم أن يجد فيه العدو، رأى العدو يصلي الجنود الروسيين نارا حامية، تساءل: «ما معنى هذا؟ هل التف العدو حولنا؟ مستحيل!» وارتعد فجأة خوفا على مصير المعركة. أردف يقول لنفسه: «مهما بلغ الأمر، لا يمكن الإفلات منه! ينبغي أن أكتشف الجنرال القائد الأعلى هنا، وإذا كان كل شيء قد فقد وانتهى، فإن واجبي يدعوني إلى الموت مع الآخرين.»
كان في تلك اللحظة قد بلغ حدود قرية براتزان؛ حيث كانت تتزاحم أعداد هائلة مختلطة من مختلف القطعات الفارة المتقهقرة دون نظام ولا ترتيب. وكلما توغل في السير، ازداد شعوره القاتم بالنهاية المحزنة.
سأل في طريقه بعض الجنود الروسيين والنمساويين الذين كانوا يقطعون الطريق لكثافة أعدادهم: ماذا هناك؟ ماذا حدث؟ على من تطلق النار؟
فأجابه الفارون بالروسية والألمانية والتشيكية، وهم لا يدرون من أمرهم شيئا: الشيطان وحده يعرف! لقد قضي علينا! لقد فقدنا كل شيء!
وصاح أحدهم: الموت للألمان! - ليحملهم الشيطان، أولئك الخونة!
بينما غمغم ألماني في لغته: إلى الشيطان هؤلاء الروس!
كان بعض الجرحى يجرون أنفسهم على جوانب الطريق. الشتائم والصيحات والزمجرات تخلط في بعضها، فترتفع عنها جلبة هوجاء تصم الآذان، وكان صوت البنادق قد خبا. وقد فهم روستوف أخيرا أن تلك الطلقات الكثيرة كانت متبادلة بين الروسيين والنمساويين حلفائهم!
فكر روستوف: «رباه، ما معنى كل هذا؟ وهنا، حيث يمكن للإمبراطور أن يراهم بين لحظة وأخرى؟ لا يمكن أن يكون ذلك ... إن هؤلاء ليسوا إلا عصبة من السفلة. لأسرع في الابتعاد عنهم.»
لم يفكر قط في هزيمة ساحقة يصاب بها الروسيون، لقد شاهد القطعات الفرنسية متمركزة على هضبة براتزن، ورأى المدفعية العدوة منصوبة تصب وابل قذائفها على مواطنيه، لكنه لم يفكر في الهزيمة، كانت مهمته محصورة في إيجاد القائد الأعلى، فكان كل همه منحصرا في تلك المهمة، ولم يكن مباحا له أن يقدر الواقع، بل إن ما كان يريد - ولا يستطيع - مجابهة ذلك الواقع.
الفصل الثامن عشر
هزيمة منكرة
كان روستوف يتوقع إيجاد الإمبراطور والقائد الأعلى كوتوزوف في جوار براتزن، حسب المعلومات التي حصل عليها أثناء الطريق، لكنه لم يعثر على هذا ولا على ذاك، بل إنه لم يجد هناك أي قائد مسئول. اندفع بحصانه الذي بدأت حوافره تؤلمه، محاولا تخطي زمر الفارين من مختلف الأسلحة والجنسيات، لكنه كلما توغل في سيره، ازدادت الوحدات الهاربة كثافة. شاهد على الطريق الأيسر الذي استطاع بلوغه عددا من العربات بين كبيرة وصغيرة ومن كل الأنواع، وحولها جنود روسيون ونمساويون بين سليمين من الجراح ومصابين، وكان هذا الحشر المخيف الذي تموج فوقه الأصوات والصرخات المتنافرة في صخب مريع، يختلط مع مشهد العدو المتمركز فوق هضبة بارتزن وسفوحها، الذي يمطر الروسيين وحلفاءهم وابلا من حممه، فيعطي صورة تحطم المعنويات، وتغمر النفوس باليأس.
كان روستوف يسأل الجنود عبثا: أين الإمبراطور؟ أين كوتوزوف؟
وأخيرا استطاع أن يطبق على ياقة أحد الجنود ليرغمه على الجواب، فقال الجندي مازحا، وهو يحاول التملص من قبضته: آه يا أخ! لقد كانت اللعبة حامية حتى إنهم هربوا جميعا!
شعر روستوف أن ذلك الجندي كان ثملا، فتركه ليتصدى لفارس كان يبدو عليه أنه تابع أو خفير في خدمة إحدى الشخصيات البارزة. ضيق عليه روستوف بالأسئلة، فأجاب الفارس أن الإمبراطور قد جرح جرحا بليغا أدى إلى حمله في عربة أسجي فيها على صدره، وأن العربة درجت على هذا الطريق منذ ساعة كاملة.
فقال روستوف معترضا: إنك مخطئ، إنك الجريح ليس الإمبراطور ولا شك.
فقال الرجل وعلى شفتيه ابتسامة الواثق: كيف أخدع، وقد شهدته بنفسي، أتعتقد أنني لا أعرف الإمبراطور! لقد شهدته مرات عديدة في بيترسبورج على ما أعتقد، لقد كان شاحبا كالأموات، لقد مرت العربة أمامنا يقطرها أربعة أجياد دهماء، كان ينبغي أن ترى ذلك. إنني أعرف خيول القيصر، وأعرف سائق عربته إيليا إيفانيتش على ما أعتقد، لعل إيليا هذا يقود عربة غير عربة القيصر، أو يحمل في عربة القيصر شخصا آخر غيره.
أفلتت يد روستوف عنان الجواد، راح يتابع طريقه، وفجأة ناداه أحد الضباط الجرحى وقال له: عمن تبحث؟ عن القائد الأعلى؟ لقد قتل. نعم لقد أصابته القذيفة ملء صدره وهو على رأس فيلقنا.
فصحح ضابط آخر قول زميله: لم يقتل بل جرح.
فسأل روستوف: لكن من الذي قتل أو جرح؟ أهو كوتوزوف؟ - كلا، ليس كوتوزوف، بل الآخر ... آه، لقد نسيت اسمه ... على كل هذا غير مهم؛ إذ لم يبق منه إلا الأشلاء. هل ترى تلك القرية هناك؟ اذهب إلى هناك وستجد القادة كلهم مجتمعين.
وأشار الضابط إلى قرية جوستييراديك وابتعد.
سار روستوف الهوينا على حصانه وهو مرتبك متردد، ترى هل جرح الإمبراطور ؟ هل خسرنا المعركة؟ ما كان يصدق كل هذه الأقوال، وراح يسير نحو القرية التي كان جرس كنيستها يرتفع فوق الأبنية على البعد، ما فائدة العجلة؟ ماذا كان يستطيع أن يقوله الآن للإمبراطور أو لكوتوزوف؟ هذا إذا افترضنا جدلا أنهما كانا سليمين!
هتف به أحد الجنود: انعطف من هنا نبالتك، إن المكان خطير حيث تسير، وستقتل حتما.
فقاطعه آخر: ماذا تقول؟ أين يقود هذا الطريق؟ إن هذا الذي يسلكه أقرب من ذاك!
وبعد فترة تردد، توغل روستوف في الطريق الذي أنبأه الجندي بأنه سيقتل إذا سار عليه، قال يحدث نفسه: «ماذا يهمني أن أقتل الآن؟ إذا كان الإمبراطور جريحا، فلم أوفر نفسي وأحميها؟»
كانت الأرض التي يجتازها في تلك اللحظة، هي التي مني عليها الفارون من جبهة بارتزن بأفدح الخسائر، ولم يكن الفرنسيون يحتلونها بعد، رغم أن الروسيين، أو على الأصح، الأحياء من الروسيين والجرحى الذين سمحت لهم جراحهم بالانتقال، قد أخلوها منذ زمن طويل. كانت جثث القتلى مبعثرة على عشرة أو خمسة عشر مترا على سفح الهضبة، وكأنها حشائش نابتة في أرض خصبة، وكان الجرحى الخطيرون يزحفون مثنى أو ثلاث وهم يطلقون زمجرات وصيحات مصطنعة أحيانا، كانت تترك في نفس روستوف أسوأ الأثر. دفع جواده إلى السير خببا ليتفادى رؤية هؤلاء المصابين المتألمين، وشعر بالخوف يستولي على فؤاده؛ لقد كان يخشى على شجاعته أكثر مما كان يخاف على حياته. كان في حاجة ماسة إلى تلك الشجاعة التي كانت تزايله كلما وقع بصره على جماعة من أولئك المناكيد.
عزف الفرنسيون عن قصف ذلك الحقل المغطى بالجثث بعد أن خلا من كل ما يستحق القصف والضرب، لكنهم ما إن رأوا الضابط المساعد حتى سددوا نحوه أحد المدافع، وأطلقوا عليه عددا من القذائف. أحدث صفير القنابل ورؤية الجثث المبعثرة لونا من الذعر في نفس روستوف الذي أحس بإشفاق على نفسه، تذكر رسالته الأخيرة إلى أمه وجوابها عليها، فكر في نفسه: «ترى ماذا كانت تقول لو شاهدتني هدفا لهذه المدافع؟!»
كانت القطعات الروسية التي شاهدها في «جوستييراديك» تفر كغيرها من ساحة المعركة، ولكن في شيء من النظام. وكانت قنابل الفرنسيين لا تصل إلى هناك، وأصوات البنادق تصل مكتوفة مختلطة، كان كل المحتشدين هناك على مختلف رتبهم يعلنون بصوت مرتفع أن المعركة قد انتهت بخسرانهم، ولم يستطع أحد أن يعين لروستوف مكان كوتوزوف ولا مقام الإمبراطور. كان بعضهم يؤكد له أن الإمبراطور جريح، والبعض الآخر يكذبون تلك الشائعة قائلين إن الرجل الشاحب الذي حملته عربة الإمبراطور لم يكن إلا الكونت تولستوي، ماريشال الحاشية الملكية الأكبر الذي رافق سيده إلى ساحة المعركة. وزعم أحد الضباط أنه شاهد شخصية كبيرة على يسار القرية، فاتجه روستوف حيث أشار الضابط ليريح ضميره. ولما قطع مرحلة صغيرة، وتجاوز آخر فلول الجنود الروسيين، شاهد فارسين يقفان قرب حفرة تحد بستان خضار. كان أحدهما يضع على رأسه قبعة غرست فيها ريشة بيضاء، بدت أليفة في نظر روستوف، والآخر كان مجهولا منه، يمتطي صهوة جواده محجل القوائم بديع الشكل، خيل لروستوف أنه شاهده من قبل في مكان ما. لكز هذا الأخير جواده، فقفز فوق الحفرة بسهولة، وإن كانت قائمتاه الخلفيتان قد احتكتا قليلا بحافتها، ثم استدار إلى حيث كان ذو الريشة البيضاء، واجتاز الخندق من جديد ليحدثه بلهجة شديدة الاحترام، قدر روستوف أنه يدعوه إلى تخطي الخندق، غير أن هذا - وكان روستوف شاخصا بأبصاره إليه بدافع غريزي - أبدى إشارة من يده ورأسه تدل على رفضه الدعوة. وعندئذ فقط، أدرك روستوف أنه إزاء إمبراطوره المعبود، الذي كان يحس بألم شديد للمصير السيئ الذي بلغت إليه قواته في هذه المعركة.
قد جرح الأمير آندرو.
لكنه عاد يقول لنفسه: «ولكن مستحيل، كلا، لا يمكن أن يكون الإمبراطور وحيدا هنا، في هذا السهل المقفر!» وفي تلك اللحظة، أدار ألكسندر رأسه، فشاهد روستوف تقاطيع وجهه النبيل، المنقوشة على صفحة ذهبية، وعرفها. لقد كان الإمبراطور ممتقع الوجه، لكن شحوبه وخديه الغائرين وعينيه الخابيتين؛ كانت تجعل وجهه أشد فتنة، وأكثر وداعة ورأفة. ورأى روستوف بسرور بالغ أنه لم يكن جريحا ، فكان سعيدا برؤيته سليما. شعر أنه يستطيع أن يخاطبه مباشرة، بل إنه يجب أن يخاطبه ليحمل إليه رسالة دولجوروكوف.
ولكن كما أن العاشق يرتعد ساعة اللقاء، ويغلبه الخوف فيطغى على إحساساته الحادة الجارفة التي طالما استقرت في أعماق نفسه، ويجعله يلقي حوله نظرات مذعورة شاردة، باحثا عمن يساعده ويدعمه ويمنحه فرصة يسترد فيها روعه، كذلك كان روستوف في تلك اللحظة التي تحققت فيها أغلى أمنياته وأعزها على نفسه، لقد كان يخشى الاقتراب من الإمبراطور، ويقنع نفسه بألف حجة وحجة أن سلوكه سيكون معيبا غير صحيح، بل ويستحيل تقبله.
كان يهمس لنفسه: «هه! ماذا؟ إنني سأبدو أشبه بذلك الذي استغل فرصة وجوده وحيدا محطم المعنويات! لا شك أنه سيتألم لرؤية غريب يقترب منه في هذه اللحظات الكئيبة، ثم ماذا أستطيع أن أقول له، وأنا الذي تكفيني نظرة منه لتسلبني القدرة على النطق والسلطة على الأعصاب؟!»
لم تحضره جملة واحدة من الجمل التي هيأها من قبل لمثل هذه المناسبة، عندما كان يفكر في لقاء الإمبراطور وتوجيه الكلام إليه، خصوصا وأن معظم تلك الجمل كانت موضوعة لتلائم مناسبات تختلف عن هذه كل الاختلاف، كانت متعلقة بساعات النصر والمجد، وبصورة خاصة باللحظات التي سيتقبل فيها تهاني مليكه، وهو جريح تحت أقدامه جرحا بليغا، فيعرب له بدوره عن حبه العميق وتعلقه الشديد الذي برهن عليه بالتضحية بحياته.
وأردف يقول: «ثم ما هي الأوامر التي سأطلب إليه إصدارها بخصوص الجناح الأيمن والساعة الآن الرابعة مساء والمعركة قد ضاعت؟! كلا، لا يجب أن أقترب، ليس من حقي أن أقلق تأملاته وتفكيره، إنني أفضل الموت ألف مرة على أن أوحي إليه فكرة سيئة عني، أو أن أراه يصوب إلي نظرة عدم رضاء.» فلما بلغ روستوف هذا الحد من تقريره، ابتعد واليأس يملأ قلبه، وهو يلتفت بين الحين والآخر إلى حيث كان يقف إمبراطوره المفدى وهو لا يزال مترددا جامدا في موقفه.
وبينما كان روستوف يعود كسير الفؤاد حزين النفس وهو يفكر على ذلك الشكل، مر من هناك رئيس يدعى فون تول، فاقترب من الإمبراطور عارضا عليه خدماته، وساعده على تخطي الخندق راجلا، وكان ألكسندر مرغما - بسبب انحراف صحته - على نيل قسط من الراحة، فجلس في ظلال شجرة تفاح، بينما لبث فون تول واقفا بالقرب منه، شاهد روستوف كل هذه الحركات عن بعد والمرارة ملء حنجرته، ورأى فون تول يحدث الإمبراطور بحرارة وطلاقة، ورأى هذا الأخير يمد إليه إحدى يديه، بينما حجب بالأخرى وجهه؛ ليخفي عن عينيه مرأى الدموع التي سالت على خديه ولا شك.
فكر روستوف: «تأمل، إنني كنت سأحل محل هذا في أداء هذه الخدمة!» كان الغضب يعصف بكيانه، حتى إنه كان على وشك البكاء تحنانا على الإمبراطور المرزوء، تابع طريقه وهو لا يدري إلى أين يتجه، كان يأسه يزداد عمقا كلما اعترف بينه وبين نفسه بأن ضعفه الشخصي أدى إلى فقدان الفرصة الجوهرية التي كان يتلهف إليها.
كان يستطيع أن يقترب من الإمبراطور، بل كان يجب عليه أن يقترب منه، لقد كانت تلك هي المناسبة الفريدة التي تمكنه من إظهار تفانيه في سبيل مليكه، لكنه أفلت الفرصة من يده. قال يحدث نفسه: «ماذا عملت؟!» لوى عنان جواده وعاد هدبا إلى حيث وجد الإمبراطور، لكنه لم ير هناك أحدا قرب الخندق ولا حوله، كانت عربات النقل والأمتعة والمهمات تملأ الطريق على رحبه، أنبأه أحد الجنود أن كوتوزوف وأركان حربه كان على مقربة من القرية التي يسيرون بحذائها، فتبع روستوف الموكب الزاحف.
كان «سائس» كوتوزوف يقود خيولا مسرجة، ويسير في طليعة الموكب، وكان عجوز من الخدم يسير وراءه على ساقيه الملتويتين، لا يفصل بينهما إلا عربة نقل.
هتف السائس: تيت، هه، تيت!
فأجابه الرجل العجوز ذو القبعة الوحيدة الجانب والسترة المبطنة بالفراء والساقين الملتويتين، ببساطة وسلامة طوية: ماذا تريد؟ - اذهب للقاء حبيبتك!
فزمجر العجوز وهو يبصق من الغيظ: أيها الغبي!
وراحا يتابعان طريقهما صامتين، ولكن الدعابة عادت تتكرر والعجوز يؤخذ بالنداء، فلا يتحاشى الجواب.
لما بلغت الساعة الخامسة مساء، كانت المعركة قد ضاعت على كل النقاط والجبهات، استولى الفرنسيون على أكثر من مائة قطعة من قطع المدفعية، واستسلم «برزيبيسزوسكي» وفيلقه، وخسرت الفيالق الأخرى أكثر من نصف رجالها، فراحت تنسحب بفوضى وصخب، بينما كانت بقايا فيالق لانجيرون ودوختوروف تتزاحم بجنون واضطراب على شواطئ مستنقعات أوجويزد وعلى مداخل السدود.
ولم تمض ساعة أخرى، حتى كانت المدفعية الفرنسية تستهدف هذا المكان وحده، كان الفرنسيون حينذاك يقصفون الجيوش الروسية المنهزمة من أعشاش مدفعيتهم التي نصبوها على مرتفعات هضبة براتزن.
وفي الخطوط الخلفية، كان دوختوروف وآخرون يحاولون إعادة ترتيب بعض الألوية ليوقفوا قصف مدفعية العدو ومطاردة الفرسان الفرنسيين الفلول الهاربة، وكان الظلام قد أقبل. وعلى السد الضيق؛ سد أوجويزد، حيث أمضى الطحان العجوز ذو القلنسوة القطنية سنوات طويلة يصطاد السمك بهدوء بسنارته، بينما كان حفيده يداعب الأسماك الفضية الحبيسة في صفيحة من التنك، وهو حاسر الكم، على ذلك السد الذي عبر فوقه المورافيون بستراتهم الزرقاء وقلنسواتهم المصنوعة من القطيفة، طيلة أعوام طويلة، يقودون عرباتهم المحملة بالقمح الذي كانوا يعيدونه وقد استحال دقيقا أبيض، وعلت أثوابهم طبقة خفيفة من الطحين بالمثل غطت رءوسهم وأقدامهم؛ على ذلك السد بالذات، كانت تتزاحم في تلك الساعة عشرات من عربات النقل وجر المدافع، تسحق عجلاتها الصماء رجالا شوه الرعب وجوههم وشل حركتهم، وتعجن سنابك الخيول جثث القتلى والمحتضرين، ويتقاتل الجنود فيما بينهم سعيا وراء الفوز بالعبور، الذي ما كان يتم قط؛ لأن القتلة كانوا بدورهم يقتلون، ولما يتجاوزوا بعد خطوات معدودات.
وبين كل عشر ثوان، كانت قذيفة تشق الفضاء لتتفجر وسط ذلك الازدحام المخيف، فتقتل وتجرح وتبعثر مئات من الأنفس وتلطخ بالدماء ثياب العشرات من الناجين، كان دولوخوف - وقد أعيدت إليه رتبته السابقة - يسير على قدميه على رأس قبضة من رجاله الناجين، والكولونيل قائد السرية على صهوة جواده، وكان هذا النفر القليل هو كل من بقي على قيد الحياة من فيلق دولوخوف. كانوا يدفعون دفعا من قبل كتل الفارين نحو مدخل السد، اضطروا إلى التوقف؛ لأن حصانا كان قد سقط تحت عجلات عربة مدفع، وكان الجنود المذعورون يحاولون إخراجه ليفسح لهم طريق العبور، فسقطت قذيفة وراءهم، فقتلت رجلا وجرحت آخر، فسقط هذا إلى الأمام، فتخضبت ثياب دولوخوف بالدماء، واندفعت الزمر بمجهود خارق خطوات إلى الأمام، لكنها لم تلبث أن توقفت.
كان كل منهم يقول لنفسه: «مائة خطوة أخرى وبعدها الخلاص، لكننا إذا لبثنا هنا دقيقتين ضعنا!»
استطاع دولوخوف المحصور في صميم الازدحام وسط السد، أن يصل إلى الجانب الآخر بعد أن طرح جنديين أرضا، وهناك تزحلق على جليد المستنقع الذي كان يغطي معظم سطحه.
صرخ وهو يقفز قفزات خفيفة فوق الجليد الذي كان يتحطم تحت وطأة أقدامه: هاتوا المدفع إلى هنا، إن الجليد هنا يحتمل الثقل، هاتوه!
كان سطح المستنقع يحمل ثقل جسمه، لكنه كان واضحا أنه سيتحطم تحت ثقله بعد قليل، فكيف إذا أضيف إليه ثقل مدفع وعدد كبير من الجنود! راح الجنود المجتمعون قرب الشاطئ ينظرون إليه دون أن يستجيبوا لأمره، وكان الجنرال منتصبا عند مدخل السد فوق صهوة جواده، فرفع يده يحيط بها فمه محاولا التحدث إليه، غير أن قذيفة مرت فجأة على ارتفاع خفيض، حتى إن كل الموجودين اضطروا إلى إحناء رءوسهم لتفاديها، وارتفع صوت تخبط مكتوم، وشوهد الجنرال يسقط مع حصانه في بحيرة من الدم، لم يقلعه أحد نظرة، ولم يفكر أحد في رفعه.
صاحت ألوف الأصوات بعد إصابة الجنرال دون أن يعي أصحابها شيئا مما يقولون: على الجليد، على الجليد! هاتوا المدافع! هل أنت أصم؟! إلى الأمام، إلى الأمام، فوق الجليد!
وكان المدفع الذي يطلب الجنود المخبولون من الذعر سحبه فوق الجليد، قد وصل إلى مدخل السد، وكان الجندي الذي يقود عربته محجما عن تلك المغامرة، غير أن الجنود الفارين كانوا متجمهرين بالمئات على ضفاف المستنقع المتجمد، اندفع أحدهم فوق الجليد، فتحطم تحت وطأة قدمه، ولما حاول تخليصها، سقط حتى وسطه في الماء المتجمد، وتوقف الصف الأول مترددا، لكن الأصوات ظلت تصيح من الوراء قائلة: «على الجليد! لماذا تتوقفون؟ إلى الأمام!» وهكذا لم يجد سائق عربة المدفع بدا من السير، خصوصا وأن مئات الأيدي أخذت تلوح، وتحث الجواد على السير، مصحوبة بزمجرات الفزع والرعب العنيف الذي كان مستوليا على كل النفوس، جلد الجنود الأقربون جواد العربة ليرغموه على التقدم، وقرروا أخيرا مغادرة الضفة والسير فوق الجمد، فتقدموا ولكن لم تلبث أن ارتفعت فرقعة هائلة مكتومة، ندت عن الجليد المتحطم، وسقط أربعون رجلا في الماء وهم يجرون معهم إلى الهاوية رفاقهم الذين تشبثوا بهم؛ ليستعينوا بهم على النجاة من الغرق.
وراحت قذائف المدفعية تترى وتسقط على الجليد وفي الماء، وغالبا على الكتل البشرية المتزاحمة فوق السد وعلى ضفاف المستنقع وجوانبه.
الفصل التاسع عشر
بعد المعركة
لبث الأمير آندريه ملقى فوق هضبة بارتزن في المكان الذي سقط فيه والعلم في يده، وكان الدم ينزف من جراحه بغزارة، وهو يزمجر متألما بصوت ضعيف ناحب دون أن يعي.
توقف عن الأنين مساء، وفقد رشده، لكن ألما حادا في رأسه ما لبث أن أعاده إلى الصواب، وأخرجه من خدره.
كانت أول فكرة واتته عند يقظته هي: «أين تلك السماء العميقة البعيدة التي لم أكن أعرفها من قبل والتي اكتشفتها اليوم؟» ثم تساءل: «وهذا الألم أيضا، أما كنت أجهله؟ نعم، لقد كنت أجهل كل شيء حتى الآن، إطلاقا كل شيء. لكن أين أنا؟»
تناهى إلى سمعه وقع حوافر جياد مقتربة فأصغى، وصكت أذنه عبارات فرنسية، ففتح عينيه، كانت تلك العميقة التي تسبح الغيوم العالية فوق صفحتها، وتضفي على الجو لونا لازورديا ممتعا، قائمة فوق رأسه، لم يدر رأسه ليرى نوع الأشخاص الذين كانوا يقتربون من مكانه، رغم أن أصواتهم كانت تدل على أنهم توقفوا قريبا منه.
كان أولئك الفرسان هم الإمبراطور نابليون واثنان من ضباطه المساعدين، وكان يقوم بجولة في ساحة المعركة متفقدا، وبعد أن أعطى أوامره بدعم المدفعية التي كانت تقصف السد والجنود المتراصين حوله، راح يتفحص وجوه القتلى والجرحى الذين تركوا في ساحة المعركة.
قال وهو يرى أحد القناصة الروسيين ملقى على الأرض ووجهه إلى الأسفل، مسود العنق وأحد ذراعيه ممتد قليلا ومتصلب: إنهم من أجمل الرجال!
وجاء أحد الضباط المساعدين موفدا من قبل قيادة المدفعية التي تقصف أوجويزد، فقال: إن ذخيرة المدافع قد نفدت هناك يا صاحب الجلالة.
فأجابه نابليون: قدموا مدافع الاحتياط.
خطا بضع خطوات وتوقف قرب الأمير آندريه، الذي كان ممددا على ظهره قرب صارية العلم الذي أخذ الفرنسيون القماش عنها، وقال وهو يتأمل وجه بولكونسكي: إنها ميتة جميلة!
فهم بولكونسكي أن الأمر متعلق به، وأن نابليون يتحدث عنه، لقد سمع منذ حين صوت أحدهم يخاطب المتكلم الحالي بلقب «صاحب الجلالة»، لكن الكلمات كانت تصل إلى أذنيه على شكل دندنة خافتة، أو طنين ذبابة، لم يلق بالا إليها، ولم يهتم بفهم ما يقال ومعرفة ما يدور حوله، بل إنه فقد قوة الذاكرة بعد حين، كان يحس بنار تلتهب في رأسه، ويشعر أن الدم يغادر جسمه، ويتأمل السماء المرتفعة البعيدة، العالية المتسامية الخالدة، كان يعرف أن نابليون - بطله المفضل - موجود بالقرب منه، لكن نابليون بدا له في تلك اللحظة شديد الضآلة، شديد التفاهة، إذا قيس بالمأساة الصاخبة الأليمة التي كانت تمثل في أعماق روحه، بين روحه والسماء الصافية ذات الغيوم السابحة. لم يعد يهتم لمعرفة أولئك الذين كانوا منحنين فوقه يتحدثون عنه، لكنه كان مسرورا لأنهم لم يتجاوزوه، كان يرغب في أن يمدوه بعون وغوث ليعيدوه إلى تلك الحياة التي بدت له رائعة الجمال، منذ أن اكتشف أخيرا عقيدته الجديدة، جمع قواه - أو على الأصح ما تبقى من قواه - فاستطاع تحريك ساقه، وانطلقت أنة خافتة ملأ صوتها الناحب نفسه تحنانا.
قال نابليون: آه إنه حي! ليحمل هذا الشاب وليودع في عربة الإسعاف.
واستمر الإمبراطور في سيره ليستقبل الماريشال؛ لان
Lanes
الذي كان يتجه نحوه باسما وقبعته في يده، هنأه الإمبراطور بفوزه وانتصاره الساحق.
لم يحتفظ الأمير آندريه بذكريات ما حصل له بعد أن أمر نابليون بنقله على عربة الإسعاف. لقد سبب له نقله على المحفة واختبار عمق جراحه إغماء طويلا، فلم يعد إلى وعيه إلا عند المساء، عندما كانوا ينقلونه إلى المستشفى في صحبة عدد آخر من الضباط الروسيين الجرحى. شعر خلال الرحلة أنه أحسن حالا، واستطاع أن يجيل بصره حوله، وأن يتلفظ ببعض الكلمات.
قال أحد الضباط الفرنسيين، وكان يرافق موكب الجرحى: ينبغي التوقف هنا.
فكانت هذه أولى الكلمات التي سمعها بولكونسكي بعد أن استعاد الوعي، أضاف الضابط: سيمر الإمبراطور من هنا بعد حين، ولا شك أنه سيسر لرؤية هؤلاء الأسرى من الجرحى البارزين.
فقال ضابط آخر: إن لدينا الآن المزيد من الأسرى، حتى إن الإمبراطور سيتذمر لكثرتهم؛ لدينا كل الجيش الروسي تقريبا.
فأجاب الضابط الأول: صحيح، لكن هذا (وأشار إلى ضابط في ثوب أبيض تابع للحرس الراكب) كان يقود - على ما نمى إلينا - فيلق حرس الإمبراطور ألكسندر كله.
عرف بولكونسكي أن ذلك الضابط الجريح كان ربنين الذي كان قد صدفه مرات في الأوساط الراقية، وكان إلى جانبه ضابط آخر من سلاح الحرس في العشرين من العمر أو تنقص قليلا.
اقترب نابليون هدبا، وأوقف جواده بالقرب منهم، سأل عندما وقع بصره على السجناء الجرحى: من هو الأرفع رتبة؟
فأجيب أن الزعيم الأمير ربنين.
سأله نابليون وهو يلتف نحوه: أأنت رئيس الحرس الراكب التابع للإمبراطور ألكسندر؟ - لقد كنت أقود كوكبة من ذلك الحرس. - لقد قام فيلقك بواجبه كاملا. - إن ثناء عسكري كبير خير مكافأة للجندي الصغير! - إنني أمنحك إعجابي عن طيبة خاطر. لكن من هو هذا الشاب الراقد بالقرب منك؟
فأجابه الأمير ربنين أنه الملازم سوختلن. نظر إليه نابليون وقال وهو يبتسم: لقد جاء يحتك بنا وهو ما زال فتى يافعا!
فأجاب سوختلين بصوت متهدج: إن صغر السن لا يمنع المرء أن يكون شجاعا. - جواب بديع أيها الشاب، سوف تبلغ مرتبة سامية!
كان الأمير آندريه قد وضع في الصف الأول من الجرحى ليكمل اللوحة التي شاء الضباط الفرنسيون رسمها لإمبراطورهم، ووقعت أنظار الإمبراطور عليه بالطبع، واجتذبت هيأته انتباهه، تذكر أنه رآه من قبل في ساحة المعركة، فسأله وهو يناديه بعبارة «أيها الشاب» التي احتفظ بذكراه في مخيلته مقرونا بها: وأنت أيها الشاب؟ كيف تشعر الآن أيها الباسل؟
ظلت عينا الأمير آندريه، الذي استطاع منذ حين أن يوجه بضع كلمات إلى الجنود المرافقين، شاخصتين إلى وجه الإمبراطور، وقد غرق في الذهول والسكون. شعر بأن الأهداف التي تشغل بال نابليون تافهة حقيرة، وأحس بأن بطله بالذات شديد الضآلة في حمى انتصاره الحقير، إذا قيس إلى جلال السماء وعظمتها؛ تلك السماء الحافلة بالعدالة والخير، والتي اكتشفت حقيقتها في اللحظة الأخيرة؛ لذلك فإنه لم يجد عبارة يحسن به أن يوجهها إليه.
كان كل شيء يبدو لناظريه فانيا حقيرا إذا قورن بالأفكار القاتمة الصارمة السامية التي خلفها في نفسه نزيف الدماء من جسده، والألم الحاد الذي أحس به، وانتظار الموت البطيء الذي تعرض له. ظلت نظرته غارقة في أعماق عيني نابليون، يفكر في غرور العظمة وبطلانها، وفي تفاهة الحياة الزائلة الفانية، التي لا يمكن لأحد أن يدرك معناها ومرماها، وبطلان الموت نفسه الذي كان مدلوله مغلقا أبدا على مفاهيم الأحياء.
ولما لم يتلق الإمبراطور جوابا من الأمير آندريه، استدار نحو رجاله وقال لهم آمرا: أريد أن يعنى بهؤلاء السادة وأن ينقلوا إلى مركزي، اطلبوا إلي طبيبي لأرى أن يفحص جراحهم.
وهمز جواده بساقيه معا، واندفع ووجهه مشرق بالسعادة والرضى.
لما شاهد جنود النقلات مدى عناية الإمبراطور بالجرحى، هرع الذي سلب الأمير آندريه الصورة المقدسة الذهبية يعيدها إليه، ولم ير الأمير آندريه ذلك الذي أعادها إليه، كما لم يشعر كيف وقع ذلك، لكنه فجأة شاهد الصورة فوق ثوبه العسكري ملقاة على صدره، ورأى سلسلتها الذهبية التي أحاطت أخته ماري عنقه بها بخشوع ورهبة وانفعال.
تساءل آندريه وهو يتأمل الصورة: «لماذا لا يبدو كل شيء نيرا واضحا بسيطا كما تؤمن به ماري؟ يا له من عزاء إذا عرف المرء أين نجد العون في هذه الحياة، وأدرك ما ينتظره فيما وراء القبر! يا للسرور! ويا للهدوء الذي سأحس به لو استطعت القول: مولاي، رحمة بي! ولكن لمن أتقدم بهذا الابتهال؟ ألتلك القوة غير المحدودة، غير الملموسة، التي لا أستطيع توجيه الكلام إليها، ولا أقدر على التعبير عن أفكاري بكلمات في وصفها؟ وهل هي العدم أو كل شيء؟ أم ترى لهذا الله الذي أراه هنا مؤطرا في هذه الصورة التي صنعتها يد ماري؟ لا يوجد شيء ثابت، إلا إذا اعتبرنا أن ما أعرفه ضئيل وأن ما أجهله جليل كبير عظيم، وهذا الجزء الهائل غير مفهوم مني، ولكنه مع ذلك عظيم الأهمية.»
عاد حاملو النقالات إلى سيرهم، كان بولكونسكي يشعر بآلام هائلة إثر كل رجة أو صدمة، ازدادت وطأة الحمى عليه وأخذ يهذي، كان خياله الملتهب بالحمى حافلا بشتى الذكريات، كانت صورة أبيه وزوجه وأخته، وذكرى تحنانه تلك الليلة الفائتة، ووجه نابليون الصغير الضئيل المتناهي في الصفار، ومشهد السماء اللامتناهية الصافية؛ كل هذه المرئيات كانت تدوي، وتصطخب في رأسه وتفكيره.
كان يرى نفسه في ليسيا جوري، يعيش حياته بهدوء وسكون، لكنه ما يكاد ينعم بتلك الحياة البيتية الهانئة حتى ينتصب وجه نابليون، ذو النظرة القاسية الباردة، وعلى سيمائه أمارات الاغتباط لتعاسة الآخرين، فيعيده إلى مهاوي الشك والريب والألم، وعندئذ يلقي نظرة إلى السماء - السماء الصافية - فتلهمه السلوان، وحوالي صباح اليوم التالي، كانت هذه الأحلام لا تزال تعتلج وتتزاحم في خياله المحموم، حتى إن الطبيب لاري أكد أن الظلمات الفكرية التي غرق فيها بولكونسكي والانحلال الكلي في قواه، لا تبرئه الحياة، كما يشفيه الموت نفسه!
أكد الطبيب قائلا: إنه شخص عصبي سوداوي، لن ينجو من الموت.
وهكذا ترك بولكونسكي لعناية سكان المنطقة أسوة بجرحى آخرين رؤي أن شفاءهم لا أمل فيه.
الجزء الأول
1 - عودة روستوف
2 - مهمة روستوف العجوز
3 - وليمة النادي الإنجليزي
4 - تحد
5 - المبارزة
6 - ثورة بيير
7 - فجيعة بولكونسكي العجوز
8 - عودة آندريه
9 - ولادة ليز
10 - أم دولوخوف
11 - غرام دولوخوف
12 - حفلة الأحداث
13 - حفلة دولوخوف
14 - خسارة روستوف
15 - في أجواء الحب
16 - خيبة دينيسوف
الجزء الثاني
1 - المسافر الغامض
2 - أوسيب بازدييف
3 - الكونت فيلارسكي
4 - المحفل الماسوني
5 - محاولة الأمير بازيل
6 - حديث الأندية
7 - صديق جديد لهيلين
8 - الأمير بولكونسكي العجوز
9 - رسالة بيليبين
10 - مساعي بيير
11 - زيارة وتبشير
12 - مناقشة
13 - رجال الله
14 - عودة الأمير العجوز
15 - عودة روستوف
16 - ورطة دينيسوف
17 - زيارة للمستشفى
18 - لقاء مع دينيسوف
19 - روستوف وبوريس
20 - جواب الإمبراطور
21 - منحة نابليون
الجزء الثالث
1 - سيدا العالم
2 - آندريه وروستوف
3 - آراء آندريه
4 - بولكونسكي وآراكتشييف
5 - سبيرانسكي العظيم
6 - مهمة بولكونسكي
7 - في المحفل الماسوني
8 - عودة هيلين
9 - عودة إلى المجتمع
10 - يوميات بيير
11 - خطوبة بيرج
12 - بوريس وناتاشا
13 - خاتمة المطاف
14 - دعوة
15 - في الحفلة
16 - وصول الإمبراطور
17 - ناتاشا وآندريه
18 - نقطة التحول
19 - فجر بولكونسكي
20 - حفلة بيرج
21 - ملاحظات بيير
22 - الحب الجامح
23 - الخطوبة
24 - سفر الأمير
25 - الأمير العجوز
26 - محاولة آندريه
الجزء الرابع
1 - عودة نيكولا
2 - مناقشة الحساب
3 - الخطوة الأولى
4 - الذئب
5 - مقتل الذئب
6 - الخصم إيلاجين
7 - دعوة لطيفة
8 - خطة الكونتيس
9 - آلام ناتاشا
10 - المقنعون
11 - المتحابان
12 - أوهام العاشقة
13 - اعتراف نيكولا
الجزء الخامس
1 - متاعب بيير
2 - متاعب ماري
3 - أصفياء الأمير
4 - حيرة ماري
5 - خطوبة بوريس
6 - ماري دميترييفنا آخروسيموف
7 - مقابلة الأمير العجوز
8 - حفلة الأوبرا
9 - كوراجين الفاتن
10 - في طريق الانهيار
11 - نوايا كوراجين
12 - الخطوة الأولى
13 - حفلة هيلين
14 - رسالة آناتول
15 - على شفا الهاوية
16 - خطة الاختطاف
17 - فشل الخطة
18 - رد الفعل
19 - تدخل بيير
20 - تصرف بيير
21 - عودة الأمير آندريه
22 - غفران وحب
الجزء الأول
1 - عودة روستوف
2 - مهمة روستوف العجوز
3 - وليمة النادي الإنجليزي
4 - تحد
5 - المبارزة
6 - ثورة بيير
7 - فجيعة بولكونسكي العجوز
8 - عودة آندريه
9 - ولادة ليز
10 - أم دولوخوف
11 - غرام دولوخوف
12 - حفلة الأحداث
13 - حفلة دولوخوف
14 - خسارة روستوف
15 - في أجواء الحب
16 - خيبة دينيسوف
الجزء الثاني
1 - المسافر الغامض
2 - أوسيب بازدييف
3 - الكونت فيلارسكي
4 - المحفل الماسوني
5 - محاولة الأمير بازيل
6 - حديث الأندية
7 - صديق جديد لهيلين
8 - الأمير بولكونسكي العجوز
9 - رسالة بيليبين
10 - مساعي بيير
11 - زيارة وتبشير
12 - مناقشة
13 - رجال الله
14 - عودة الأمير العجوز
15 - عودة روستوف
16 - ورطة دينيسوف
17 - زيارة للمستشفى
18 - لقاء مع دينيسوف
19 - روستوف وبوريس
20 - جواب الإمبراطور
21 - منحة نابليون
الجزء الثالث
1 - سيدا العالم
2 - آندريه وروستوف
3 - آراء آندريه
4 - بولكونسكي وآراكتشييف
5 - سبيرانسكي العظيم
6 - مهمة بولكونسكي
7 - في المحفل الماسوني
8 - عودة هيلين
9 - عودة إلى المجتمع
10 - يوميات بيير
11 - خطوبة بيرج
12 - بوريس وناتاشا
13 - خاتمة المطاف
14 - دعوة
15 - في الحفلة
16 - وصول الإمبراطور
17 - ناتاشا وآندريه
18 - نقطة التحول
19 - فجر بولكونسكي
20 - حفلة بيرج
21 - ملاحظات بيير
22 - الحب الجامح
23 - الخطوبة
24 - سفر الأمير
25 - الأمير العجوز
26 - محاولة آندريه
الجزء الرابع
1 - عودة نيكولا
2 - مناقشة الحساب
3 - الخطوة الأولى
4 - الذئب
5 - مقتل الذئب
6 - الخصم إيلاجين
7 - دعوة لطيفة
8 - خطة الكونتيس
9 - آلام ناتاشا
10 - المقنعون
11 - المتحابان
12 - أوهام العاشقة
13 - اعتراف نيكولا
الجزء الخامس
1 - متاعب بيير
2 - متاعب ماري
3 - أصفياء الأمير
4 - حيرة ماري
5 - خطوبة بوريس
6 - ماري دميترييفنا آخروسيموف
7 - مقابلة الأمير العجوز
8 - حفلة الأوبرا
9 - كوراجين الفاتن
10 - في طريق الانهيار
11 - نوايا كوراجين
12 - الخطوة الأولى
13 - حفلة هيلين
14 - رسالة آناتول
15 - على شفا الهاوية
16 - خطة الاختطاف
17 - فشل الخطة
18 - رد الفعل
19 - تدخل بيير
20 - تصرف بيير
21 - عودة الأمير آندريه
22 - غفران وحب
الحرب والسلم (الكتاب الثاني)
الحرب والسلم (الكتاب الثاني)
إلياذة العصور الحديثة
تأليف
ليو تولستوي
نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية نخبة من أسرة «دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر بسورية»، استنادا إلى الترجمتين الفرنسية والإنجليزية، وروجع النص الأخير على الأصل الروسي.
الجزء الأول
الأمير بطرس.
الفصل الأول
عودة روستوف
عاد نيكولا روستوف مأذونا في مطلع عام 1806، وكان دينيسوف ينوي زيارة ذويه في فورونيج، فاتفق معه روستوف على أن يترافقا حتى موسكو؛ حيث يستضيفه فترة قبل متابعته رحلته إلى فورونيج. كان لقاؤهما قبل المرحلة الأخيرة من الطريق، فاحتفل روستوف بذلك اللقاء بأن شرب مع زميله ثلاث زجاجات، ونام خلال بقية الرحلة نوما عميقا رغم المجرات العميقة، منطويا على نفسه في الزحافة. أما روستوف فكان كلما ازداد قربا من نهاية رحلته، ازداد الشوق في نفسه لظى، وبلغ صبره منتهاه.
كان يفكر في نفسه بنفاد صبر: «ألن نصل أخيرا؟ أوه! لا نفتأ نمر في شوارع وبدكاكين ومخابز ومصابيح وعربات! إن هذا لا يحتمل!» وكان إذ ذاك قد دخل موسكو بعد أن أشر على مأذونيته ومأذونية صديقه عند مدخلها.
هتف ينادي دينيسوف وقد مال غريزيا بجسمه إلى الأمام، وكأنه يستحث سرعة الزحافة: «دينيسوف، لقد وصلنا! إنه لا يزال نائما، يا للحيوان!»
أردف في شبه هذيان: «هذه هي الناحية التي اعتاد «زاخار» الوقوف عليها بزحافته ...
آه! ها هو ذا زاخار بنفسه ومع الحصان «إياه» الذي لا يبدله، وهذه هي الدكان التي نشتري منها الحلوى. بسرعة، الله! بسرعة أكثر!»
سأل سائق الزحافة: «أين ينبغي أن نتوقف؟» - «أمام أكبر المنازل في أقصى الشارع. ألا ترى؟! إنه منزلنا. دينيسوف، دينيسوف ، لقد وصلنا!»
رفع دينيسوف رأسه وسعل، لكنه لم ينطق بكلمة.
سأل روستوف تابعه وكان جالسا على حاجز الزحافة: «دميتري، إن النور الذي نراه يشع من منزلنا، أليس كذلك؟» - «تماما، بل إنه ينبعث من مكتب أبيك على الضبط.» - «إنهم لم يأووا إلى مهاجعهم بعد إذن! هه، ماذا ترى؟ لا تنس بصورة خاصة سترتي الهنغارية الجديدة التي يجب عليك إخراجها من الحقيبة فورا.»
وراح يحاول عقف شاربه الصغير الذي لما ينبت بعد. أردف: «أسرع، ضاعف السرعة.»
وصرخ في أذن دينيسوف الذي عاد إلى النوم من جديد تاركا رأسه يتأرجح على صدره: «ألن تستيقظ يا فاسيا؟»
وللسائق رغم أن ثلاثة منازل فقط أصبحت تفصله عن داره: «أسرع، سأمنحك ثلاثة روبلات، ولكن زد سرعة جيادك. رباه!»
كان يعتقد أن الجياد لا تتحرك، وأخيرا مالت الزحافة إلى اليمين، ودخلت الممشى المؤدي إلى الدار. عرف روستوف حدود الرصيف والمرقاة، والطنف ذا الجص المكسر المتساقط. قفز من الزحافة وهي في سيرها وجرى إلى الردهة، فوجدها خالية. كان المنزل في جموده وصمته يبدو غير آبه لمقدم القادمين، فكر وهو يتوقف مترددا منقبض الصدر: «آه! رباه! أيكون مكروه قد وقع؟» لكنه سرعان ما عاد إلى جريه، وارتقى السلم أربعا فأربعا، ذلك السلم الذي كانت درجاته المنحنية مألوفة لديه. كان باب المدخل يحمل المقبض ذاته الذي عرفه قبل رحيله، ذلك المقبض الذي كانت قذارته تثير غيظ الكونتيس وغضبها، والذي كان يتحرك بسهولة ويسر لقدمه. رأى شمعة تضيء الردهة الداخلية وميخائيل العجوز نائما فوق صندوق فيها، أما بروكوب - وهو الوصيف المرافق، ذلك العملاق الذي يستطيع رفع عربة من محورها الخلفي - فقد كان يضفر خفا منزليا، التفت عندما سمع الباب يفتح، وأشرق وجهه الجامد النعس بذعر بهيج. هتف وقد عرف سيده الصغير: «يا ملائكة النعيم، إنه الكونت الشاب! هل هذا معقول؟! آه يا عزيزي!»
هرع بروكوب مضطربا من الانفعال إلى باب البهو ليذيع النبأ، لكنه تماسك برهة وعاد على أعقابه يسند رأسه الضخم على كتف سيده الشاب.
سأله روستوف بعد أن خلص ذراعه: «هل هم جميعا في صحة طيبة؟» - «كل شيء على ما يرام بحمد الله! لقد تناولوا العشاء منذ حين. دعني أراك يا صاحب السعادة.» - «صحيح! إن كل شيء على ما يرام؟» - «حمدا لله، حمدا لله.»
كان روستوف قد نسي في عجالته واندفاعه صديقه دينيسوف، خلع فروته ودخل على أطراف قدميه إلى القاعة الكبرى المظلمة، كان كل شيء فيها كما تركه عند رحيله: موائد اللعب، والنجفة، وكل الأشياء المألوفة لديه، ويبدو أن بعضهم قد رآه؛ لأنه ما كاد يصل إلى البهو الصغير حتى انقض أحدهم عليه كالإعصار قادما من باب جانبي، فطوقه وراح يغمره بالقبل، وجاء ثان وثالث كأن الأرض قد انشقت عنهما، وعاد العناق والقبل على أشده، وارتفعت صيحات التعجب والدهشة والفرح، وانسفحت دموع الغبطة. ما كان يعرف أيهم أبوه، وأي المهاجمين ناتاشا أو بيتيا. كانوا يصرخون معا ويتحدثون معا ويعانقونه معا، لكنه استطاع التنبؤ بأن أمه ليست بينهم. - «وأنا الذي ما كنت أنتظر وجودك. نيكولا يا صديقي.» - «ها هو ذا طفلنا الفتان! هذا الصغير العزيز! كم تبدل! أسرعوا، إلي بالشموع والشاي.» «وأنا يا مهجتي، وأنا.»
أحيط به من جديد، واعتصرته الأذرع، وتناقلته الصدور، فمن سونيا إلى ناتاشا وبيتيا وآنا ميخائيلوفنا، وفيرا والكونت العجوز، فالخدم والوصيفات وكل من في الدار.
كان بيتيا يصيح وهو متعلق بساقيه: «وأنا، وأنا.»
أما ناتاشا فقد كانت مطبقة على خرج سترته تلتهمه بالقبل، ثم تركته فجأة وراحت تدور حول نفسها، وتطلق صرخات حادة عالية.
كانت النظرات كلها مفعمة بالحنان والعطف، والعيون مبللة بالدموع، والشفاه متعطشة للقبل.
كانت سونيا مضرجة الوجه كالزهرة البرية الحمراء، متفجرة بالسعادة، ممسكة بذراعه تبحث عن عينيه لتستجديها نظرة. كانت قد تجاوزت السادسة عشرة من عمرها، وازدادت جمالا، وخصوصا في تلك اللحظة التي كانت السعادة تضطرم في أعماقها وتشرق من عينيها، كانت تتأمله باسمة كاتمة أنفاسها، خصها بنظرة منفعلة والهة، لكنه ظل يبحث عن شخص آخر، ذلك أن الكونتيس لم تظهر بعد بين الموجودين، وأخيرا ارتفع صوت خطوات قرب الباب، كانت خطوات مسرعة لا يمكن أن تكون لأمه.
مع ذلك فقد كانت هي القادمة، بدت في زينة لم يرها روستوف من قبل فيها، أفسح لها الجميع الطريق وجرى هو للقائها. ارتمت الكونتيس على صدر ابنها وراحت تنتحب. ما كانت تستطيع رفع رأسها، بل راحت تضغطه بشدة على الأشرطة المذهبة التي تحلي سترته.
دخل دينيسوف إلى البهو دون أن يشعر به أحد، ووقف مباعدا بين ساقيه يتأمل ذلك المشهد وهو يدلك عينيه بيديه.
قال يقدم نفسه جوابا على نظرة الكونت المستفسرة التي حطت عليه بعد طول تنقل: «فاسيلي دينيسوف، صديق لولدك.»
فقال الكونت وهو يبسط ذراعيه ويعانق صديق ابنه: «تماما، لقد حدثني نيكولا عنك في رسائله. أهلا بك بيننا! ناتاشا، فيرا، هذا هو، هذا دينيسوف.»
تحولت الأنظار المبتهجة المتحمسة السعيدة إلى شخص دينيسوف الضخم وأحاطت به.
زمجرت ناتاشا، وقد أخفقت في ضبط شعورها، وارتمت على عنق دينيسوف دون وعي: «آه! أيها العزيز، دينيسوف العزيز.»
ارتبك الحاضرون لطيش الفتاة، واحمر وجه دينيسوف، ثم ابتسم وأمسك بيد الفتاة المتحمسة وقبلها، ثم اقتيد إلى الغرفة التي خصصت له، بينما اجتمع أفراد الأسرة في المخدع ملتفين حول نيكولا.
جلست الكونتيس قرب ابنها ممسكة أبدا بيديه توسعهما تقبيلا، واحتشد الآخرون حولهما يراقبون حركات نيكولا ونظراته ويحصون عليه كلماته، شاخصين إليه بأبصارهم المفعمة بالحب والابتهاج، وتزاحم أخوه الصغير مع أخواته يتنافسون على أقرب المقاعد إلى أخيهم الأكبر، ويتنازعون شرف تقديم الشاي إليه أو المنديل أو الغليون.
وكانت سعادة روستوف لا توصف وهو يرى نفسه موضع هذا العطف وذلك الحب، غير أن اللحظة الأولى التي مرت على لقائهم بلغت من تسامي العاطفة مبلغا جعله ينظر إلى الدقائق التي بعدها وما رافقها من أحاسيس، نظرته إلى شيء تافه فقير في مضمونه، وحفزته إلى التطلع إلى المزيد.
نام المسافران نوما عميقا بعد رحلتهما الشاقة، فلم يستيقظا إلا بعد العاشرة من صباح الغد.
وفي الغرفة التي تليها غرفتاهما تراكمت السيوف وجيوب الذخيرة والحقائب المفتوحة والأحذية الملطخة بالوحول، وجاء خادم بزوجين من الأحذية المنظفة الملمعة فوضعهما قرب الجدار، وآخر يحمل الصحاف والماء الساخن لإزالة اللحية، وثالث يحمل الألبسة النظيفة، أما الغرفة فكانت رائحة الرجل والتبغ تتضوع فيها.
ارتفع صوت فاسيلي دينيسوف الأجش صائحا: «هيلا! يا جريشكا، إلي بغليوني! وأنت يا روستوف، كفاك نوما!»
فرك روستوف أجفانه التي ألصقها النعاس وانتزع رأسه من الوسادة الدافئة وغمغم متسائلا: «أستيقظ؟ هل الوقت متأخر؟»
فأجابه صوت ناتاشا: «بالطبع، لقد أشرفت الساعة على العاشرة.»
وارتفع من الغرفة المجاورة حفيف الأثواب المهفهفة، وتعالت الهمسات والضحكات الفضية المجلجلة، بينما كان الباب الموارب يكشف عن شيء أزرق وأشرطة وشعور سوداء ووجوه مرحة، كانت ناتاشا قد جاءت بصحبة سونيا، وبيتيا تترقب نهوض أخيها من نومه.
نيكولا في بيته.
كررت ناتاشا نداءها وهي واقفة بالباب: «انهض يا نيكولا، انهض!» - «حالا!»
وفي تلك الأثناء وقع نظر بيتيا على السيوف، فحمل واحدا منها وهو يشعر بالحماس البريء الذي يستحوذ على نفوس الفتيان الصغار حيال المظاهر الحربية التي يتمتع بها الأبكار، وفتح الباب على مصراعه مغفلا التقاليد التي لا تسمح لأخواته برؤية الرجال وهم نصف عراة، وصاح: «أهذا حسامك؟»
قفزت الفتيات إلى الوراء مبتعدات، وذعر دينيسوف لهذه المفاجأة وبادر إلى إخفاء سيقانه المملوءة بالشعر تحت الغطاء وهو يلقي نظرة متطيرة إلى رفيقه، ولما مر بيتيا أغلق الباب وارتفعت وراءه القهقهات. سمع صوت ناتاشا يقول: «سيخرج نيكولا في معطفه المنزلي!»
بينما كرر بيتيا سؤاله غير عالم بما فعل: «أهو حسامك؟»
واستدار إلى دينيسوف وأردف يسأله باحترام وامتثال متأثرا بمشهد شاربيه الأسودين الكبيرين: «أم هو حسامك أنت؟»
لبس روستوف معطفه المنزلي على عجل واحتذى خفا وخرج، وكانت ناتاشا قد ربطت المهاميز بزوج من الأحذية وراحت تهيئ الآخر. أما سونيا فكانت تدور حول نفسها يستخفها الفرح، كانت هي وناتاشا ترتديان ثيابا زرقاء فاتحة اللون جديدة كل الجدة ومتشابهة كل الشبه، وكانتا باسمتين متوردتي الخدود ممتلئتين حيوية، نفرت سونيا عند مرأى نيكولا، بينما قادت ناتاشا أخاها إلى المخدع وراحت تثرثر معه، لم يجدا قبل هذه اللحظة فرصة مواتية ليتطارحا ألوف الأسئلة الصغيرة التي لا تخص إلا سواهما، فلما سنحت انتهزاها، وراحت ناتاشا تضحك بعد كل كلمة تتفوه بها أو تخرج من فم أخيها. ولم يكن مرد الضحكة الدعابة التي يتبادلانها، بل كانت بهجة ناتاشا ومرحها هما الدافعان، وما كانت تستطيع الإعراب عنهما إلا بالضحك، كانت تقول في كل لحظة: «آه! كم هذا جيد! كم هو بديع!»
وهكذا منذ ثمانية عشر شهرا شعر روستوف لأول مرة بأن ابتسامة الصبا التي بارحت وجهه منذ ذلك الحين، تعود فتغمر وجوده وتشرق في عينيه تحت تأثير ذلك السيل الجارف من الحنان الذي كانت ناتاشا تغدقه عليه. قالت له: «أصغ إلي، ها أنت قد أضحيت رجلا حقيقيا! كم أنا سعيدة إذ تكون أنت أخي!»
ولمست شاربه الصغير وأردفت: «آه! كم وددت لو عرفتكم معشر الرجال! هل تشبهوننا في شيء؟ كلا!»
سألها روستوف: «لم نفرت سونيا؟» - «آه! لكن هذه وحدها قصة طويلة! وبهذه المناسبة هل ستعود إلى مخاطبتها بصيغة المفرد أم بصيغة الجمع؟» - «سأخاطبها كما يدور على لساني.» - «بل أرجوك أن تقول لها «أنتن» بدلا من «أنت». سأفسر لك السبب فيما بعد، بل سأقوله لك على الفور، أنت تعرف أن سونيا صديقتي، وأن صداقتنا عميقة، حتى إنني على استعداد لحرق ذراعي من أجلها. خذ، انظر.»
حسرت كم ثوبها المصنوع من «الموصلين» وأشارت إلى بقعة حمراء على ذراعها الطويل النحيف قرب الكتف وفوق المرفق، في موضع لا يظهر حتى ولو كانت مرتدية ثياب الحفلات الراقصة. أردفت: «لقد حرقت ذراعي بنفسي لأدلل لها على صداقتي المتينة، لقد أحميت مسطرة وألصقتها هنا.»
شعر روستوف وهو في مجلسه في قاعة الدرس القديمة على أريكة ذات ذراعين تغطيها الوسائد الصغيرة، ونظرات ناتاشا الدافئة الحماسية تغمره؛ بأنه عاد إلى عالمه العائلي، عالمه الصبوي الذي لم يكن يعني بالنسبة إليه شيئا، لكنه يزخر بتلك المتع العميقة التي طالما تذوقها؛ لذلك فإن مغامرة المسطرة الحامية وإحراق الذراع بها إشارة للصداقة المتينة لم تكن تافهة في نظره، كان يفهم أسبابها الموجبة ولا يدهشه ذلك التصرف، سألها : «وماذا؟ لا شيء آخر؟» - «آه ! ليتك تعرف مدى ما نحن عليه من صداقة! إن مسألة المسطرة ليست جدية ولا شك، لكننا صديقتان، صديقتان إلى الأبد، وهي عندما تحب أحدا فإنما تحبه إلى الأبد، لكنني لا أفهم هذا، بل أنسى كل شيء على الفور.» - «وماذا بعد؟» - «حسنا إنها تحبنا - أنت وأنا - على هذا النحو.»
ثم تضرج وجهها فجأة وأردفت: «هل تذكر قبل رحيلك؟ حسنا، إنها تطلب إليك الآن أن تنسى كل شيء. لقد قالت لي: «سأحبه إلى الأبد، أما هو فليكن حرا!» إن هذا شيء رائع! النبل! نعم إنه نبيل أليس كذلك؟ ألا تجده كذلك؟»
كانت تصر وتلح بتلك اللهجة الجدية المنفعلة التي تدل على أن ما قالته الآن هادئة، قالته من قبل وهي تبكي.
فكر روستوف فترة، وقال: «إنني لا أسحب كلمتي، ثم إنها شديدة البهاء والجمال، حتى إن المرء يجب أن يكون غبيا كل الغباء إذ يرفض أن يكون سعيدا!»
هتفت ناتاشا: «كلا، كلا. لقد تحدثنا من قبل في هذا. كنا نعرف أنك ستقول مثل هذا القول، لكنه لا يجب أن يكون كذلك. ألا تفهم أنك إذا اعتبرت نفسك مرتبطا بوعدك، فإن ذلك سيبدو وكأنها أثارته عامدة؛ وعندئذ لا بد أن تعتقد في فترة ما بأنك إنما تزوجتها بدافع من الواجب! ولن يكون الأمر كذلك.»
شعر روستوف بوجاهة هذا المنطق السليم، لقد أذهله جمال سونيا مساء أمس، فلما رآها هذا الصباح بدت لعينيه أكثر جمالا رغم قصر الفترة التي استطاع خلالها أن يتملى بجمالها. كانت تلك البنية التي لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها تحبه حبا جما، ولم يكن عنده ظل شك في ذلك، ولكن لم لا يحبها هو الآخر بدوره؟ بل لم لا يتزوجها أيضا؟ بيد أن متعا كثيرة وانشغالات جمة كانت تنتظره في تلك الظروف، فقال لنفسه: «نعم، إنهما على حق. من الخير أن أبقى حرا.»
قال لأخته: «حسنا، كما تشائين، سوف نعاود البحث في هذا. آه! كم أنا سعيد برؤيتك! لكن نبئيني، لعلك لم تخوني بوريس على الأقل؟»
فهتفت ناتاشا ضاحكة : «هذه لعمري حماقات! إنني لا أفكر فيه ولا في أحد سواه.» - «مستحيل! في أي شيء تفكرين إذن؟»
فقالت ناتاشا ووجهها يزداد إشراقا: «أنا؟ هل شاهدت دوبور.»
1 - «كلا.» - «دوبور الشهير، الراقص، ألم تره قط؟ إنك إذن لن تفهم. انظر.»
أدارت ناتاشا ذراعيها وأمسكت بثوبها على طريقة الراقصات، وابتعدت راكضة ثم استدارت وقامت بقفزة صغيرة ضربت خلالها قدميها ببعضهما مرارا في الفضاء قبل أن تمس بهما الأرض (وتلك طريقة كان يبدأ بها الراقصون رقصهم) وخطت بضع خطوات جريا على رءوس أصابع القدمين.
قالت مفسرة وقد عجزت عن الاستمرار في وقفتها الفنية: «لقد استطعت الوقوف على رءوس أصابعي، أليس كذلك؟ هذا ما سأكونه! لن أتزوج قط، سأصبح راقصة، ولكن لا تتحدث بهذا إلى أحد.»
انفجر روستوف ضاحكا ضحكة بلغت من صفائها حدا جعل دينيسوف الذي سمعها في غرفته يغار منه، ودفعت ناتاشا إلى الاستجابة لها فجارته بضحكة مثلها. كررت بإلحاح: «أليس هذا بديعا؟» - «بلى، إنه بديع، لكنك لن تستطيعي بعدئذ الزواج من بوريس.»
احمر وجه ناتاشا وقالت: «أكرر القول إنني لا أريد الزواج بأحد! وسأقول له ذلك متى قابلته.»
فقال روستوف مستهزئا: «أصغوا إلى هذا القول، يا له من حديث!» - «على كل حال إنه ضرب من الغباء. قل لي هل هو لطيف دينيسوف هذا؟» - «بل شديد اللطف.» - «حسنا، إلى اللقاء. اذهب وارتد ملابسك. أليس دينيسوف هذا شديد الرهبة؟» - «رهيب، فاسكا؟ أبدا، إنه شاب فتان.» - «هه، أتسميه فاسكا؟ ذلك مضحك! إذن، إنه لطيف جدا؟» - «كل ما في العالم من لطف.» - «هيا إذن وأسرع، سنتناول الشاي كلنا معا.»
واجتازت ناتاشا الغرفة على رءوس أصابع القدمين كما تفعل الراقصات مع فارق واحد، وهو أن الابتسامة التي كانت على شفتيها لا يمكن أن ترتسم إلا على شفاه الفتيات السعيدات إذا كن في مثل سنها.
ولما دخل روستوف إلى البهو احمر وجهه وبان الاضطراب عليه عندما وقع بصره على سونيا، وارتبك في انتقاء النهج الذي سيجري عليه في معاملتها. لقد تعانقا أمس في غمار الفرحة الأولى والتحرر من القيود الذي سببته عودته المفاجئة، لكنهما كانا في ذلك الصباح يعرفان أنه يتعذر عليهما انتهاج سبيل البارحة. شعر نيكولا بنظرات أمه وأخواته المستفسرة تنحط عليه، لقد كان الموجودون يتساءلون عن السلوك الذي سيعمد إليه في حضرتها. انحنى على يدها يقبلها، وخاطبها بصيغة الجمع، لكن عيونهما كانت تتلاقى فتتخاطب بصيغة المفرد، وتتبادل أعذب القبل. كانت نظرات سونيا تسأله الصفح؛ لأنها جرؤت على تذكيره بوعده عن طريق ناتاشا وتشكوه على استمراره في محبتها، أما عيون نيكولا فكانت تشكرها؛ لأنها أعادت إليه حريته وتفهمها أنه سيظل يحبها على شكل من الأشكال؛ لأنها كانت من اللاتي لا يمكن للمرء إلا أن يحبهن.
انتهزت فيرا فترة صمت الحاضرين وقالت: «إن هذا مضحك! ها إن سونيا ونيكولا يتخاطبان بصيغة الجمع الآن وكأنهما غريبان!»
كانت ملاحظتها وجيهة كعادتها، لكنها كعادتها أيضا أحدثت أثرا سيئا في نفوس الحاضرين، ولم يقتصر الأثر السيئ على نفس سونيا وناتاشا ونيكولا وحدهم، بل تعداه إلى الكونتيس نفسها التي تضرج وجهها كالفتيات خشية أن تحرم تلك العاشقة الصغيرة ابنها العزيز نيكولا «صفقة» زواج مغرية.
وفي تلك اللحظة دخل دينيسوف، فكانت دهشة روستوف لا توصف؛ إذ رأى صديقه معطرا مزينا في ثوب جديد، في مثل الرشاقة والأناقة التي كان عليها يوم المعركة، ورآه بمزيد من الدهشة والذهول يتجه إلى السيدات وينخرط معهن في حديث شيق رقيق.
الفصل الثاني
مهمة روستوف العجوز
إذا كانت أسرة روستوف استقبلت ابنها العزيز بوصفه بطلا مغوارا، فإن أقاربه الآخرين استقبلوه على اعتباره شابا رفيع التربية لطيفا، ولاقاه أصدقاؤه - وأعني موسكو كلها - كما يليق اللقاء بملازم شاب من الفرسان الميامين، وبراقص مجيد، وواحد بين أحسن من ترجو الأمهات الفوز به زوجا لبناتهن في العاصمة.
كانت نقود الكونت العجوز متوفرة ذلك العام بفضل تجديد عقود رهن أملاكه؛ بذلك استطاع نيكولا أن يعيش حياة بهيجة جميلة، فكان يمتطي كل يوم صهوة جواد خاص مطهم، ويرتدي سراويل الفرسان من آخر ابتكار، ولم يكن أحد يرتدي مثلها في موسكو بعد، وينتعل أحذية عالية لم تتوصل صناعة الأحذية إلى أحسن منها، دقيقة الرأس بمهمازين فضيين صغيرين مثبتين في أعلى الكعبين. كان روستوف يتلذذ بالعودة إلى الحياة الأولى التي انتزع منها منذ عامين تقريبا، وهو أكثر خشونة ورجولة وأمتن عودا، كانت مغامراته القديمة - انزعاجه لتخلفه عن فحص التعليم الديني، وقروضه الصغيرة من الحوذي جافريل، والقبلات التي كان يختلسها من سونيا - تمثل في خياله الآن على صورة أفعال صبيانية بعيدة جدا متقادمة العهد، لقد أصبح اليوم ضابطا برتبة ملازم في سلاح الفرسان، يحمل صليب سان جورج على سترته الفخمة المزينة بأشرطة رتبته الفضية، ويدرب حصانه استعدادا للاشتراك به في سباقات تضم هواة مشهورين ورجالا وقورين ذوي قيمة ونفوذ، وقد تعرف مؤخرا على سيدة معينة تقطن في «البولفار» راح يتردد على زيارتها في الأمسيات، وأصبح يقود المازور كما في حفلات آل آرخاروف الراقصة، ويتحدث عن الحرب مع الماريشال كامنسكي، ويتردد على النادي الإنجليزي ويتحدث بصيغة المفرد مع زعيم في الأربعين من عمره قدمه دينيسوف إليه.
لم يعد إعجابه بالإمبراطور الذي لم يره منذ تلك الحوادث في مثل شدته الأولى. مع ذلك، فإنه كان عندما يتحدث عنه - الأمر الذي كان كثير الوقوع - يوحي إلى السامعين بأنه لا يتحدث عن كل ما يعرف، بل إن في عواطفه حياله جانبا سريا لا يمكن للبسطاء من بني البشر اكتشافه ومعرفته. وكان يشاطر أهالي موسكو من أعماق قلبه تعلقهم بألكسندر الأول، الذي كان يبلغ درجة العبادة، حتى إنهم أطلقوا عليه اسم «الملاك المتأنس»؛ أي المتقمص شكلا ناسوتيا ليراه البشر.
أدت إقامة نيكولا القصيرة في موسكو إلى تباعد الشقة بينه وبين سونيا أكثر مما ساهمت في تقريبها بينهما. لقد كانت سونيا جميلة جدا، لطيفة جدا، يشع الحب من عينيها، لكن روستوف كان - على حد زعمه - في تلك السن التي يجد الشاب فيها كثيرا مما يعمل، حتى ليتعذر عليه إقطاع مثل هذه الأمور جانبا من وقته. لقد كان في السن التي يخشى الشاب فيها من الارتباط بالأنثى، ويجد أن حريته أغلى من كل شيء. كان إذا فكر في سونيا يقنع نفسه بقوله: «آه! إنها ليست الوحيدة في العالم، ولقد خلقت للتعرف على عدد كبير من مثيلاتها! وعندما يبرحني الهوى لن أعدم الوقت للانشغال في الحب. أما الآن فإن في رأسي أهدافا أخرى.» ثم إنه شعر، منذ أن أصبح في عداد الرجال، أن الجري وراء الأثواب النسائية ومن فيها أدنى من أن تتقبله كرامته. لقد كان يتردد على الحفلات الراقصة والولائم، لكنه كان يتظاهر بأنه إنما يحضرها مرغما. أما السباقات والنادي ومهازله مع دينيسوف وزيارات «هناك»، فإن أمرها كان جد مختلفا. لقد كان الفارس المغامر يجد فيها الجو الذي يلائمه.
عزم النادي الإنجليزي الذي كان الكونت روستوف العجوز عضوا فيه، وفي مجلس إدارته منذ تأسيسه، على إقامة حفلة عشاء فاخرة على شرف الأمير باجراسيون. ولما كان الكونت العجوز لا يبارى في مواهبه التنظيمية في مثل هذه الأمور، وفي ذوقه المرهف، وكرمه المشهور، فقد كلفه مجلس إدارة النادي بمهمة إعداد الوليمة، واستجاب الكونت لذلك التكليف بكليته، وصرف في سبيل ذلك كل وقته. لقد كان الكونت من النادرين الذين لا يجدون غضاضة في الإنفاق من جيوبهم إذا اقتضى الأمر دون تذمر ولا تردد. وهكذا فقد كان الكونت روستوف يروح ويجيء بين القاعة الكبرى ومختلف أجزاء قصره وهو في معطفه المنزلي، يصدر أوامره إلى أمين الصندوق ورئيس الطهاة «تيؤو كتيست» المشهور حول ألوان اللحوم والسمك والهليون والخيار والفريز، فكان رئيس الطهاة وأمين الصندوق يصغيان إليه باغتباط وهما متأكدان أنهما يستطيعان بفضل الكونت أن يقتطعا ربحا كبيرا من مجموع أثمان تكاليف تلك الوليمة الباذخة، مما لا يتاح لهما مثله لو كلف غيره بأداء هذه المهمة. لقد كان الكونت ذواقا ماهرا، فرفعت تلك المزية تكاليف الوليمة إلى بضعة ألوف من الروبلات. - «انتبه جيدا، ولا تنس أعراف الديكة في حساء السلحفاة، مفهوم؟» - «وثلاثة أنواع من الحساء المبهر، أليس كذلك؟»
ففكر الكونت برهة وأجاب: «بلى، لا يمكن تقديم أقل من ذلك، لنقل إذن: حساء المايونيز
1
وحساء ...»
فقاطعه أمين الصندوق: «وماذا عن سمك ال «ستيرله»، سننتقي الكبار منه ولا شك، أليس كذلك؟» - «بلى، خذ الكبار. آه! يا عزيزي، كدت أنسى: يلزمنا كذلك لون آخر من المقبلات. آه! يا ربي العظيم!»
واحتوى رأسه بين يديه وأردف: «رباه! والزهور، من سيأتيني بها؟ ميتانكا، هه، ميتانكا! اهرع إلى بيتي الصيفي وقل لماكسيم البستاني أن ينفذ باسمي الأوامر التالية على الفور: لتحزم في قطع من القماش كل نباتات الحديقة الشتوية، وليحمل إلي إلى هنا مائتا أصيص على أن تصلني يوم الجمعة.»
هرع الوكيل ميتانكا لتنفيذ الأمر، بينما أصدر الكونت سلسلة أخرى من الأوامر، ومضى ينشد الراحة قرب كونتيسته الصغيرة العزيزة، لكنه تذكر فجأة أمرا مهما فنكص على أعقابه واستدعى رئيس الطهاة وأمين الصندوق، وعاد يتحاضر معهما. وفي تلك الأثناء ارتفع رنين مهاميز قرب الباب، وبدا على عتبته الكونت الشاب نضر الوجه، متورد الوجنتين، يظلل شفته العليا طيف شارب خفيف. أزالت حياة موسكو الموادعة اللطيفة كل آثار العناء والنصب التي كانت مخلفة على وجهه الفتي.
قال العجوز مبتسما ابتسامة لا تخلو من ارتباك: «آه يا صديقي! إنني فريسة دوار عنيف. تعال أنقذني وأغثني. ينبغي لنا إيجاد المغنين. إنني بالطبع متعاقد مع جوقة موسيقية، ولكن ألا تعتقد أن وجود البوهيميين سيقابل بالترحيب؟ إنكم معشر العسكريين تحبون هذا اللون من الغناء.»
أجاب الابن وهو يبتسم له بدوره: «حقا يا أبي، إنك تزعج نفسك الآن وترهقها أكثر مما كان يفعل باجراسيون قبل معركة شوينجرابن.»
فقال الكونت متظاهرا بالغضب: «حسنا، ضع نفسك مكاني وسترى أن الأمر ليس من السهولة كما يبدو لك.»
والتفت إلى رئيس الطهاة الذي كان يرقبهما بوقار وفي عينيه نظرة ماكرة، وقال له: «أرأيت الشباب يا تيؤو كتيست؟ إنهم يهزءون بنا معشر الكهول المساكين.» - «ماذا نستطيع يا صاحب السعادة أن نعمل! إن الشبان لا يريدون إلا رؤية قصعتهم مملوءة بالطعام، لكنهم لا يبالون بالكيفية التي جاء بها الطعام إلى قصعتهم.»
هتف الكونت: «هذا صحيح، هذا صحيح.»
وأردف وقد أمسك بذراع ابنه بيديه بحركة مرحة: «بما أنني ممسك بك الآن، فلن أفلتك بسهولة. سوف يسرني أن تقفز إلى الزحافة ذات الجوادين، وأن تطير بها إلى منزل بيزوخوف لتقول له إن الكونت إيليا آندريئيفيتش أرسلك في طلب بعض ثمار الفريز والأناناس من حدائقه الشتوية. يستحيل لنا إيجادها في مكان آخر. وإذا لم تجده أرجو أن تبلغ الأميرات ملتمسي، ومن هناك ستذهب إلى رازجولية - والسائق هيبات يعرف الطريق - لتطبق على البوهيمي إيليوشا مهما كان الثمن، وتأتي به إلى هنا. ألا تعرف إيليوشا الذي رقص عند الكونت أورلوف متشحا بعباءة بيضاء؟»
سأل روستوف ضاحكا: «وهل يجب أن آتيك بمغنياته أيضا؟» - «هلا أطبقت فمك!»
وفي تلك اللحظة دخلت آنا ميخائيلوفنا إلى البهو بخطوات غير مسموعة، وهي على عادتها متشاغلة مرهقة بالعمل، ومفعمة بالإيمان والتعاليم المسيحية. كانت تفاجئ الكونت كل يوم تقريبا في معطفه المنزلي. مع ذلك، فقد كان هذا يبدو شديد الخجل منها، ويطلب صفحها في كل مرة.
قالت وهي تخفض عينيها من الخفر: «لا أهمية لهذا يا صديقي الطيب. أما بصدد المهمة المتعلقة بآل بيزوخوف، فإنني أتطوع لأدائها. لقد وصل بيير مؤخرا، ولا شك أنه سيضع كل حدائقه الشتوية رهن تصرفنا، ثم إنني في حاجة إلى مقابلته؛ إذ إنه أرسل إلي أخيرا رسالة من بوريس ولدي الذي أحمد الله على التحاقه بالأركان العامة.»
راق عرض آنا ميخائيلوفنا للكونت، فأمر بإعداد العربة الصغيرة لها على الفور وقال لها: «ستقولين لبيزوخوف إننا ننتظره، سوف أسجل اسمه. هل ترافقه زوجته؟»
بدا على تقاسيم آنا ميخائيلوفنا حزن عميق ورفعت عينيها إلى السماء وقالت: «آه! يا صديقي، إنه شديد التعاسة، إذا كان ما يزعمونه حقيقيا؛ فإن الأمر جد مريع بينما كنا نحن نبتهج لسعادته! من كان يصدق أو يخمن حدوث مثل ذلك؟ إن بيزوخوف الشاب إنسان طيب نبيل! إنني أتألم من كل قلبي لمصابه، وسأحاول أن أوفر له ما في طاقتي توفيره من عزاء وسلوان.»
سأل الأب والابن بصوت واحد: «ماذا حدث بالله؟»
قالت بلهجة غامضة: «يقال إن دولوخوف ابن ماري إيفانوفنا قد أغواها وفتنها. لقد انتشل بيير هذا الفتى من مأزقه ودعاه إلى قصره في بيترسبورج، وهذه كانت مكافأته. لم تكد تصل إلى هنا حتى هرع ذلك المعتوه في أعقابها.»
كانت آنا ميخائيلوفنا ترمي إلى التوجع على مصير بيير، لكن لهجتها وابتسامتها كانت توحي بعطف على دولوخوف، الذي أطلقت عليه اسم المعتوه. أردفت معقبة: «ويزعمون أن بيير يكاد يقضي حزنا.» - «اطلبي إليه رغم ذلك أن يحضر إلى النادي؛ لأن حضوره سينسيه آلامه. سنقيم هناك وليمة حافلة سخية.»
وبعد ظهر اليوم التالي؛ الثالث من آذار، كان أعضاء النادي الإنجليزي، وعددهم مائتان وخمسون، ينتظرون ومدعووهم الخمسون مقدم الأمير باجراسيون؛ بطل معركة النمسا وضيف الشرف في وليمتهم، وكان نبأ هزيمة أوسترليتز قد غمر موسكو كلها في ذهول عميق؛ لأن الروسيين ألفوا الانتصار والفوز من قبل لدرجة جعلت بعضهم يرفضون تصديق ذلك النبأ، بينما استغرق البعض الآخر في التساؤل عن الحدث الخارق الذي وقع وأدى بوقوعه إلى تلك النتيجة الغريبة الخارقة لمألوف العادة. ولما توارد النبأ الأليم في كانون الأول بدا وكأن كل أعضاء النادي الإنجليزي، وهم النخبة الممتازة من الشخصيات الكبيرة العليمة ببواطن الأمور، قد تواعدوا على الانصراف عن الاجتماع فيه؛ تجنبا للحديث عن الحرب والمعركة الأخيرة.
وقد هجر النادي كل الذين درجوا على إثارة البحوث والمناقشات؛ أمثال: الكونت روستوبتشين، والأمير أيوري فلاديميروفيتش دولجوروكي، وفالوييف، والكونت ماركوف، والأمير فيازمسكي، وانصرفوا إلى حلقات خاصة واجتماعات عائلية. وهكذا حرم الأعضاء الموسكوفيون، أمثال الكونت إيليا آندريئيفيتش روستوف، الذين درجوا على ترديد أقوال الآخرين من مصادرهم الغنية، فظلوا فترة طويلة محرومين من الأنباء الجديدة الموثوقة حول مجرى الأمور، ولكن لم تمض فترة معينة حتى عادت تلك الشخصيات البارزة إلى النادي، فكانوا أشبه بالمحلفين الذين خرجوا لتوهم من غرفة المداولة. وألقيت الأضواء على الأمور، وانحلت عقد الألسن. لقد وجدوا أخيرا مبررات لذلك الحدث المريع الذي يستحيل وقوعه كما يستحيل تصديقه؛ وأعني هزيمة الروسيين.
كانت تلك الأسباب التي راحت تكرر وتفسر في كل زوايا موسكو كما يلي: خسة النمساويين وغدرهم، سوء التموين ، خيانة البولوني برزيبيسزوسكي، والفرنسي لانجيرون ، عجز كوتوزوف عن معالجة الأمور في حينها - وهذا السبب كان يبحث دائما بصوت خفيض كما هو الحال في السبب التالي والأخير - وشباب الإمبراطور وقلة خبرته؛ مما أدى إلى وثوقه بأشخاص عديمي القيمة مشئومين. أما الجيوش الروسية، فقد اتفق رأي المتحدثين جميعهم على أنها تصرفت تصرفا حميدا يدعو للإعجاب؛ لأنها بذلت تضحيات سخية قيمة. لقد تصرف الجنود والضباط والجنرالات تصرفا كله بطولة وتضحية.
أما بطل الأبطال، فكان الأمير باجراسيون الذي طبقت شهرته الآفاق، بعد معركة شوينجرابن وانسحاب أوسترليتز، الذي استطاع فيه أن يعيد فيلقه بنظام محكم، وأن يصمد طيلة ذلك النهار لعدو يفوقه عددا وعددا. والأمر الذي جعل الموسكوفيين يعتبرون باجراسيون بطل الساعة أكثر من غيره؛ كان جهل الموسكوفيين به، وعدم وجود أية علاقة له بينهم، فكانوا إذ يحتفلون به يقدمون تمنياتهم وعواطفهم لرمز الجندي الروسي الباسل المحروم من التوصيات، البعيد عن الزلفى والمكر. وكانت ذكرى معركة إيطاليا تدني اسمه من اسم سوفوروف. ثم ألم تكن تلك الحفاوة البالغة التي يظهرونها له هي خير تعبير عن اللوم الموجه إلى كوتوزوف، والانتقاص من كفاءته؟
راح شينشين السليط اللسان يقول مجترا كلمة فولتير المأثورة: «لو أن باجراسيون لم يكن موجودا، لوجب إيجاده وابتكاره.»
أما عن كوتوزوف فلم يكن أحد يتحدث بكلمة، وإذا ورد اسمه على اللسان فإنما كان في معرض الذم، ووصفه سرا بأنه متغطرس فظ فاسد، أو بإطلاق اسم «مذبذب البلاط» عليه.
كانت موسكو كلها تكرر قول دولجوروكوف المأثور: «يتدبق المرء لكثرة ما يلصق.» الذي كان يخفف من وقع الهزيمة بإحياء ذكريات الانتصارات السابقة، كذلك كانت تعيد أقوال روستوبتشين: «إن الجندي الفرنسي ينبغي أن يساق إلى ساحة المعركة بالكلمات الطنانة، والجندي الألماني لا يطيع إلا إيحاءات المنطق، فيتطلب من قادته شرحا وتفسيرا يشعران بأن الفرار أشد خطرا من الهجوم. أما الجندي الروسي فإنه على العكس يتطلب من قادته ضبطه وإعادته إلى الهدوء والسكينة.» وكانوا كل يوم يدونون مآثر جديدة في مضمار نشاط الجنود الروسيين وضباطهم؛ فأحدهم أنقذ علما، والآخر قتل خمسة فرنسيين ، وثالث قام بمفرده بكل ما يلزم من خدمة مضنية لثلاثة مدافع معا.
وكان عدد من الناس الذين لا صلة لهم ببيرج يؤكدون أنه جرح في يمناه، فحمل سيفه بيسراه وسار تحت وابل النيران يهاجم العدو. أما بولكونسكي فلم يكن أحد يتحدث عنه؛ لقد كان خلصاؤه وحدهم يأسفون لموته وهو في شرخ الشباب، ويشفقون على زوجه التي ستضطر لوضع جنينها تحت سقف حميها سقيم العقل.
الفصل الثالث
وليمة النادي الإنجليزي
ملأت دندنة الحديث كل حجرات النادي الإنجليزي وقاعاته في اليوم الثالث من آذار، كان الأعضاء ومدعووهم - وبعضهم في ثوب «الفراك»، والبعض الآخر في قفاطينهم وشعرهم المستعار - يروحون ويغدون، بين جالسين وواقفين، ومتجمهرين ومتفرقين، وكأنهم ثول نحل في فصل الربيع. وعلى كل باب وقف الخدم في أثوابهم الحمراء الرسمية، وشعرهم المستعار، وجواربهم الحريرية، وأخفافهم الرقيقة، يرقبون حركات المدعوين ليهرعوا إليهم ملبين طلباتهم عند أول إشارة. وكان المدعوون - وجلهم من المسنين ذوي النفوذ والسلطة - ذوي أصابع ضخمة، ووجوه مطمئنة ممتلئة صحة، وأصوات ثابتة حازمة، وحركات متزنة جليلة، يجلسون في أماكنهم المقررة لهم وكأنهم ملوك على عروشهم، أو يجتمعون في حلقاتهم المألوفة يتبادلون الآراء والحديث.
وكان الضيوف الطارئون، أمثال: دينيسوف، وروستوف، ودولوخوف الذي أصبح ضابطا في فيلق سيمينوفسكي، وكلهم من الشبان، يشكلون أقلية ضئيلة. كانت وجوه أولئك الشباب، وبصورة خاصة العسكريون منهم، تنطق باحترام ماجن مستهزئ، وكأنها تقول للمسنين: «نحن لا نمسك عليكم الاحترام الذي تطلبون، ولا المعاملة الحسنة التي تنتظرون، لكننا نذكركم بأن المستقبل لنا؛ فلا تنسوا ذلك.»
كان نيسفيتسكي، وهو عضو مرموق في النادي، حاضرا ذلك اليوم، وكان بيير الذي وافق على التضحية بنظارتيه بناء على أوامر زوجته، ويعوض هذا النقص بإرساله شعره طويلا، وارتدائه ثيابا على أحدث طراز، يذرع الأبهاء وعلى وجهه آيات الضجر والشراسة. كان يحس هنا كما يحس في كل مكان آخر بجو من الدناءة واللؤم يحيط به. لقد اعتاد على الرفعة والاستكانة التي يجزيها إليه متملقوه الطامحون في ثروته، الساعون وراء إحسانه، وألف أسلوبهم فراح يمنحهم جانبا من شروده واحتقاره. وإذا كان العمر يسلكه في عداد الشبان، فإن الثروة كانت تفتح له حلقات الكهول والشخصيات المحترمة ذات الشأن، فكان بذلك يتردد بين جموع الفريقين. وفي تلك الليلة، تجمهر حول أعلام الشخصيات نفر كبير من الناس بينهم مجهولون مغمورون، جاءوا كلهم يتسقطون الأخبار، ويتزودون بأقوال هؤلاء الأشخاص المرموقين المحترمين، وكان الازدحام على أشده حول الكونت روستوبتشين
1
وفالوييف وناريشكين.
2
كان روستوبتشين يؤكد أن الروسيين فوجئوا بفلول النمساويين الهاربين تسحقهم، حتى اضطروا أخيرا إلى شق طريقهم بقوة الحراب بين أولئك الفارين المذعورين، وفالوييف يعلن - بصورة سرية - أن أوفاروف أرسل مؤخرا من بيترسبورج ليتحسس آراء الموسكوفيين عن أوسترليتز. أما ناريشكين فكان يعيد إلى الأذهان ذكرى مجلس سوفوروف العسكري العتيد، لما أجاب هذا أفراده بنداء يشبه صياح الديكة، كرد على أقوال واقتراحات «الجنرالات» النمساويين العرجاء. وكان شينشين يصغي إلى هذا القول، فوجد فيه مادة مناسبة لحديثه، وفرصة مواتية ليطلق لسانه السليط فقال: «يبدو أن كوتوزوف لم يستطع أن يتعلم من سوفوروف حتى تقليد صياح الديكة، رغم ما في هذا الفن من سهولة ويسر.» غير أن الكهول المحترمين حدجوا ذلك الماجن بنظرة قاسية أفهمته أن المكان والزمان لا يسمحان بمثل هذه الفكاهات!
كان الكونت إيليا آندريئيفيتش روستوف يجر حذاءيه اللينين من قاعة الطعام إلى البهو وهو بادي الانشغال، يلقي تحيته المقتضبة السريعة على الشخصيات البارزة كما يلقيها على أتفههم شأنا؛ لأنه كان يعرف هؤلاء وهؤلاء على السواء، ومن حين إلى آخر كانت نظراته المنقبة تتوقف على وجه فتاه الجميل، فيغمز له بعينه بود. وكان روستوف الشاب يتحدث مع دولوخوف في مدخل إحدى الغرف، وهو شديد الكلف بهذا الصديق الجديد، فاقترب الكونت العجوز منهما وضغط على يد دولوخوف، وقال له: «يسرني أن تحضر إلى زيارتي؛ فأنت صديق ابني، وبطل مثله.»
ومر شيخ بالقرب منهما فحياه الكونت قائلا: «آه! فاسيلي إينياتيتش، مرحبا يا عزيزي.»
غير أن تمنياته وتحياته ضاعت وسط ضجة عامة ارتفعت في تلك اللحظة؛ ذلك أن أحد الخدم دخل مهرولا يعلن مذعورا: «إنه وصل !»
دوى قرع أجراس، وهرع أعضاء اللجنة، وتجمهر المدعوون الذين كانوا حتى تلك اللحظة متفرقين في مختلف الغرف والحجرات، واندفعوا إلى باب البهو وباب القاعة الكبرى يحتشدون وكأنهم حبات قمح جمعت بمجرفة!
ظهر باجراسيون في الردهة تاركا - حسب تقاليد النادي - سيفه وقبعته لرئيس الخدم. لم يكن يرتدي قبعة من جلد الخروف ويمسك بيده سوطا ذا شعب كما شاهده روستوف قبل معركة أوسترليتز، بل كان مرتديا ثوبا ضيقا جديدا تزين الأوسمة الروسية والأجنبية إلى جانب «صفيحة» سان جورج الجانب الأيسر منه، وكان - كما يبدو - قد أسلم للحلاق شعره وسالفيه، فتبدلت هيئة وجهه بما لا يتفق والغاية المتوخاة من ذلك التبديل، وكان مظهره الذي يجمع بين السذاجة والجلال يتناقض تناقضا مضحكا مع قسمات الرجولة البارزة على وجهه. وصدف أن وصل بيكليشوف وفيودار بيتروفيتش أوفاروف في ذات اللحظة التي دخل فيها باجراسيون إلى الردهة، فتوقفا يفسحان له مجال تقدمهما بوصفه بطل الحفلة، وأخجل هذا التأدب باجراسيون فحاول الاعتراض بادئ الأمر؛ مما أدى إلى فترة توقف وترقب، انتهت بقبوله الدخول قبلهما.
دخل إلى قاعة الاستقبال بخجل وارتباك، لا يدري ماذا يفعل بذراعيه. لقد كان ولا شك يألف السير تحت وابل من الرصاص في أرض محروثة، كما حدث له في شوينجرابن عندما سار في مقدمة فيلق كورسك إلى العدو، أكثر من السير بين مستقبليه في قاعة الاستقبال الفخمة. أعرب أعضاء المجلس الإداري الذين كانوا ينتظرونه عند الباب الأول عن ترحيبهم بمقدمه، وسرورهم باستقبال ضيف عزيز مثله، ثم «استولوا» عليه بشكل ما دون أن ينتظروا رده، واقتادوه إلى البهو. أصبح الدخول إلى البهو قريبا من الاستحالة لكثرة الازدحام، ولشدة التفاف المدعوين الذين راحوا يحدقون عبر المناكب في وجه البطل وكأنهم يتفرجون على دابة غريبة مثيرة. وكان الكونت إيليا آندريئيفيتش أكثر المستقبلين ابتهاجا، تشهد بذلك ضحكته العالية التي كانت تطغى على كل اللفظ.
راح يشق الطريق مستعينا بعبارة: «أفسح المكان يا عزيزي، أفسح.» حتى استطاع أخيرا إدخال الضيف إلى البهو؛ حيث أجلسه بين بيكليشوف وأوفاروف على الأريكة القائمة في الوسط. ومن جديد حاصر أعضاء النادي المتوافدون ضيوفهم المرموقين، وعاد إيليا آندريئيفيتش يشق طريقه وسط الحشد خارجا من البهو ليرجع بعد قليل في صحبة أحد أعضاء مجلس الإدارة، حاملا طبقا فضيا وضع عليه مقطوعة شعرية نظمت وطبعت على شرف الضيف الشهير. قدم الطبق إلى باجراسيون الذي راح يجيل حوله نظرات مرتبكة وكأنه ينشد العون والحماية، غير أن كل العيون التي لاقت عيونه كانت تدعوه إلى التجلد والاستسلام.
ولما شعر أنه بات تحت رحمتهم، أخذ الطبق بكلتا يديه بحركة عنيفة أشفعها بنظرة غضبى وجهها للكونت الذي كان يحتفي به. وتلطف أحدهم فأخذ من يديه ذلك «الشيء المزعج المربك» الذي بدا عليه أنه عازف عن التخلص منه، حتى ولو اضطر إلى الإبقاء عليه معه على مائدة الطعام، ولفت انتباهه إلى المقطوعة الشعرية، فبدا على باجراسيون كأنه يقول: «حسنا! سأقرؤها.» وحدق في الورقة بعينيه المكدودتين، محاولا الاطلاع على ما جاء فيها، وقد اكتست قسمات وجهه طابعا من الجد والتركيز، غير أن ناظم القصيدة أخذ ورقة من يديه وراح يتلوها بصوت مرتفع، بينما كان باجراسيون يصغي إلى تلاوته مطرق الرأس:
ليخلد إلى الأبد مجد عصر ألكسندر،
الحارس اليقظ لتيتوس
3
على العرش؛
رئيس رهيب ورجل إحسان كبير معا،
يشبه ريفي
4
في وطنه، قيصر في الحروب.
الواقع أن الفضل لك في أن بابوليون السعيد
لن يتحدى بعد اليوم «الآسدة»
5
الشمال ...
لم يفرغ من قراءة القصيدة بعد حينما ارتفع صوت رئيس الخدم مرعدا يقول: «إن طعام سموه جاهز.»
وفتح باب قاعة الطعام على أنغام البولونيز:
تجاوبي يا صواعق النصر،
يا أيها الروس البواسل، استسلموا للمرح.
6
وحدج الكونت إيليا آندريئيفيتش ناظم الشعر التاعس وقارئه، الذي ظل مستمرا في تلاوته، وانحنى أمام باجراسيون. قدر المجتمعون جميعا أن الطعام أفضل من القصيدة، فنهضوا متجهين إلى غرفة الطعام وباجراسيون في المقدمة. أجلس الجنرال في مقعد الشرف بين إسكندرين: إسكندر بيكليشوف وإسكندر ناريشكين، وهو تيمن وتلميح ضمني لاسم الإمبراطور. وجلس المدعوون الثلاثمائة حسب ترتيب درجاتهم الاجتماعية . ومن البديهي أن أرفعهم مكانة كان أقربهم إلى مجلس المحتفى به. مع ذلك، ألا يكون الماء أكثر عمقا في الأماكن الأكثر انخفاضا؟
وقبل البدء في الطعام، قدم إيليا آندريئيفيتش ابنه إلى باجراسيون الذي عرفه ووجه إليه بضع كلمات فارغة مرتبكة ككل ما تفوه به ذلك اليوم. مع ذلك، فقد راح الكونت يجيل بين المشاهدين لهذا الحديث نظرات تشع منها الكبرياء، ويلمح فيها السرور.
جلس نيكولا روستوف ودينيسوف وصديقهما الجديد دولوخوف بالقرب وسط المائدة، وقبالتهم الأمير نيسفيتسكي وبيير، وكان الكونت إيليا آندريئيفيتش - وقد احتل مع أعضاء مجلس الإدارة الجانب المقابل لباجراسيون - يقوم بدور المضيف خير قيام، حتى ليمكن اعتباره تجسدا بليغا للضيافة الموسكوفية الشهيرة.
وعلى الرغم من أن جهوده المبذولة لم تذهب هباء، وأن أصناف الأطعمة كانت على أحسن ما يمكن من الترف المفرط والعظمة، فإن الكونت العجوز ظل قلقا حتى نهاية الطعام. كان يغمز بعينيه إلى الخازن آمرا، ويهمس بتعليماته في آذان الخدم المشرفين على المائدة، ويترقب بانفعال متجدد ظهور كل لون جديد من الألوان التي انفرد باقتراح طهيها وتقديمها، فكان كل شيء فوق النقد. وأطار الخدم صمامات زجاجات الشمبانيا، وطافوا بها يملئون الأقداح حالما دخل الطهاة باللون الثاني من الطعام - وكان سمكة هائلة - الذي جعل وجه إيليا آندريئيفيتش يتضرج بالحمرة من السرور والارتباك.
وقد أحدث هذا اللون بعض الأثر في نفوس المدعوين، فلما فرغوا منه تبادل الكونت نظرة مع زملائه أعضاء مجلس الإدارة، وقال لهم بصوت خافت: «ستشرب أنخاب كثيرة؛ لذلك يستحسن أن نبدأ بها.» ونهض واقفا وكأسه في يده، فصمت الجميع وأصغوا إلى ما سيقول.
هتف الكونت وقد اخضلت عيناه بدموع الحماس: «نخب صحة جلالة الإمبراطور.»
وبذات الوقت صدحت الموسيقى من جديد ب «تجاوبي يا صواعق النصر»، ونهض الآكلون جميعهم هاتفين: «هورا.» وعلا صوت باجراسيون مدويا متجاوبا كما كان في ساحة معركة شوينجرابن، وميزت الأسماع صوت روستوف الشاب الذي كان يجد صعوبة في حبس دموعه وهو يزمجر صائحا: «نخب صحة الإمبراطور، هورا.» أفرغ كأسه دفعة واحدة وألقى بها على الأرض فتحطمت، وحذا الآخرون حذوه، وعادت الهتافات تتجدد مدوية، ولما ران السكون جمع الخدم الأقداح المحطمة، وعاد المدعوون إلى مقاعدهم يتحادثون والابتسامات التي خلفها حماسهم على شفاههم ترافق حركاتها في مراحل الحديث. ولم يلبث الكونت أن نهض مرة ثانية فألقى نظرة على مذكرة صغيرة موضوعة بجانب صحفته، وهتف: «نخب بطل حملتنا الأخيرة بيوتر إيفانوفيتش باجراسيون.» بينما تبللت أهدابه بالدموع من جديد، وصرخت ثلاثمائة حنجرة بصوت واحد: «هورا.» ولكن بدلا من عزف الموسيقى ارتفع صوت المغنين بنشيد وضعه بافل إيفانوفيتش كوتوزوف:
7
ماذا تفعل العقبات ضد الروس؟
إن بسالتهم هي عربون النصر.
ليكن لدينا فقط العديد من أمثال باجراسيون،
وسنرى الأعداد عند أقداحنا ...
ولم يكد المغنون ينتهون من هذا النشيد حتى اقترحت أنخاب وأنخاب، كان انفعال إيليا آندريئيفيتش يزداد بتعددها، وحطمت كئوس كثيرة، وبحت حناجر كثيرة. شرب الآكلون نخب بيكليشوف وناريشكين وأوفاروف ودولجوروكوف وآبراكسين وفالوييف، ونخب أعضاء مجلس إدارة النادي ومدعويهم، وأخيرا نخب منظم الحفلة الكونت إيليا آندريئيفيتش. وكان الكونت في أوج انفعاله، حتى إنه لم يستطع حبس دموعه عند النخب الأخير، فراح يكفكفها ويحجبها بمنديله.
الفصل الرابع
تحد
كان بيير الجالس قبالة دولوخوف ونيكولا روستوف يلتهم طعامه بشهية على جري عادته، ويفرغ القدح تلو القدح، لكن أولئك الذين يعرفونه حق المعرفة كانوا يلمسون فيه تبدلا كليا. لبث صامتا طيلة فترة الطعام مقطب الحاجبين، يجيل حوله نظراته القاصرة، أو على الأصح نظرات جامدة ساهمة، ويعرك جوانب أنفه بأصبعه، وكان وجهه عابسا مكفهرا. لقد كان غارقا في فكرة مسيطرة، مشغولا في شكوك أليمة مقلقة، حتى إنه ما كان يصغي إلى من حوله ولا يرى وجوه المحيطين به.
أيقظ تلميح ماكر، تقدمت به إحدى الأميرات، الشكوك المريعة في نفسه منذ وصوله إلى موسكو. ولقد تلقى رسالة مغفلة صباح ذلك اليوم تدعم تلك الشكوك التي تبهظ فؤاده، وتنهش صدره. أخبره كاتب تلك الرسالة بأسلوب متهكم - جريا على العادة - بأنه لا يرى بوضوح بسبب استغنائه عن نظارتيه، وأن علاقة زوجته بدولوخوف ليست إلا سرا عند المغفلين. وعلى الرغم من أن بيير كان يحاول الاستخفاف بكل تلك التعليمات المهينة، إلا أنه لم يكن يستطيع تفادي الانزعاج البليغ الذي يشعر به كلما وقع بصره على دولوخوف الجالس قبالته. كان كلما وقعت أبصاره على عيني ذلك الضابط الوقحتين الجميلتين؛ يشعر في أعماقه بأن عاصفة صاخبة تهب فيها، فيشيح بطرفه مسرعا.
كان ماضي هيلين كله، وطرق تصرفها مع دولوخوف كلها، تحضان بيير على التفكير في أن الروايات المتشابهة يمكن أن تكون حقيقة، أو على الأقل يمكن أن تكون كذلك لو لم تكن متعلقة بزوجته «هو». تذكر عودة دولوخوف إلى بيترسبورج بعد أن أعيدت له كل اعتباراته بعد الحملة، ولجوءه إليه دون غيره مذكرا إياه بأعمالهما الماضية ومجونهما، سائلا منه قبوله ضيفا عنده؛ الأمر الذي لم يتردد بيير في تحقيقه بسخاء وكرم، بل إنه تساهل معه حتى إنه أقرضه بعض المال لنفقاته الخاصة، واستعاد صوت هيلين عندما كانت تحدثه وهي باسمة، مستنكرة تصرفه وإدخاله مثل ذلك الضيف المزعج إلى بيتهم، وصوت دولوخوف يهنئه بلهجة هازئة بجمال زوجته. تذكر أنه منذ ذلك الحين وحتى وصولهم إلى موسكو لم يرهما يفترقان لحظة واحدة.
فكر بيير في سره: «لا شك أنه شاب جميل جدا، ثم إنني أعرفه. لقد قمت بتدابير في صالحه فآويته وساعدته، وقدمت له كل ما من شأنه أن يجعله يجد متعة في تلويث اسمي. لا شك أن خيانته كانت أشد أثرا، لو أن المسألة كانت صحيحة. ولكن لا، إنها ليست صحيحة. إنني لا أصدق ذلك، وليس لي الحق في تصديقه.» وفي تلك الأثناء كان يرى الطابع الوحشي على قسمات وجه دولوخوف كلما سقط فريسة لنوبة قسوة. ذلك اليوم مثلا، يوم أن أوثق الشرطي على ظهر الدب قبل أن يلقي بهما إلى الماء، وذاك اليوم أيضا عندما أثار رجلا وبارزه دون أي سبب، وتلك المرة عندما رآه يقتل حصان أحد السعاة بطلقة من غدارته.
وفجأة تذكر بيير أن دولوخوف نظر إليه أكثر من مرة؛ تلك النظرة المفعمة بالوحشية والقسوة. قال يحدث نفسه: «نعم، إنه ولوع بالقتل ، إن قتل رجل لا يشكل عنده ظلا من الأسف. لا بد أنه يتخيل أن كل الناس يخافون منه، فيتذوق هذه المتعة بسرور ماكر. ولا شك أنه يظن أنني كذلك أخاف منه. إنه غير مخطئ في ظنه هذا على كل حال.» ومن جديد عصفت في نفسه إعصارات عنيفة مدمرة.
وكان دولوخوف الجالس قبالته، وبجانبيه دينيسوف وروستوف، يبدو في تلك اللحظة غارقا في التسلي مع صديقيه. كان روستوف يتحدث بوداعة مع صديقيه وهو فخور بأن يكون أحدهما فارسا شجاعا غيورا، والآخر مقاتلا بنفسية مستهترة. ومن حين إلى آخر كان يلقي على بيير نظرة خالية من الظرف، متأملا هيكله الضخم ووجهه المكتئب اللذين يلفتان إليهما الأبصار. وليس عسيرا على المرء تفسير سبب عداء هذا الفارس الشاب، فقد كان بيير في نظر هذا العسكري «مدنيا» واسع الغنى، وزوج سيدة شديدة الجمال؛ وبالإيجاز، رجلا ضعيف الإرادة. ومن جهة أخرى، فإن بيير بدا كأنه لا يعرف نيكولا روستوف، حتى إنه لم يرد على تحيته.
ولما أزفت ساعة شرب الأنخاب، وطلب الكونت العجوز أن يشرب المدعوون نخب الإمبراطور، ظل بيير مستغرقا في بحرانه، فلم ينهض ولم يأخذ كأسه بيده.
صعقه روستوف بنظرة ثقيلة غاضبة ملتهبة وصاح به: «ماذا تعمل؟ ألا تسمع أنهم يشربون نخب صحة جلالته؟»
فزفر بيير ونهض بخشوع وأفرغ كأسه، وبينما كان ينتظر أن يروق للآخرين الجلوس فيجلس معهم، ألقى على روستوف نظرة أشفعها بابتسامته الطيبة المعروفة، وقال له: «وأنا الذي لم أعرفك!»
لكن روستوف كان مندفعا في هتافاته فلم ينتبه إلى قوله.
سأله دينيسوف: «لم لا تجدد معرفتك به؟» - «إنني لا أحفل أبدا بهذا الغبي.»
فقال دينيسوف معترضا: «ولكن يجب أن يجامل المرء دائما أزواج النساء الجميلات!»
لم يسمع بيير حديثهما، لكنه خمن أنهما يتحدثان عنه، فاحمر وجهه وأدار رأسه.
قال دولوخوف مقترحا: «والآن، لنشرب نخب النساء الجميلات.»
ونهض واقفا وخاطب بيير بلهجة جدية وقورة وعلى زاوية فمه ابتسامة صغيرة: «بيتروشاه نخب النساء الجميلات وعشاقهن.»
أفرغ بيير كأسه وهو خافض أبصاره دون أن يجيب بكلمة على دولوخوف، أو أن يوجه إليه نظرة.
وجاء خادم يوزع على المدعوين المرموقين نسخا مطبوعة من قصيدة الاحتفاء بضيف الشرف ونشيد كوتوزوف، فوضع واحدة أمام بيير، فلما هم هذا بأخذها انحنى دولوخوف فوق المائدة وانتزعها من يديه وراح يقرؤها، وعندئذ نظر إليه بيير؛ انخفضت حدقتاه وانفجرت العاصفة الهوجاء التي كبتها طيلة فترة الطعام، فانحنى بكل جسمه الثقيل على المائدة بدوره وصرخ: «دع هذا.»
ذعر نيسفيتسكي لهذه البادرة، وعرف الشخص الذي استهدف لها، فحاول التدخل يدعمه زميل دولوخوف الذي إلى يمينه، قالا له معا: «اهدأ، ماذا دهاك؟»
أما دولوخوف فقد حدج بيير بنظرته الصريحة البهيجة القاسية معا، وابتسم ابتسامة من يقول: «آه! آه! هذا ما يروق لي.» وأجابه بصوت جازم: «كلا، لن أتركها.»
امتقع وجه بيير من الغضب، وارتعدت شفتاه، فانتزع الورقة من يده، وقال هائجا: «إنك ... مخلوق ... حقير!»
ودفع مقعده وغادر المائدة.
وفي اللحظة التي نطق فيها بيير بتلك الكلمات وقام بتلك الحركة، شعر أن مسألة إدانة زوجته - تلك المسألة التي كانت تعرض له بأسى بليغ منذ أربع وعشرين ساعة - قد فصل فيها الآن دون تأخير، ومالت إلى الجانب الإيجابي، فنبت في صدره حقد على زوجته، وأحس بأنه انفصل عنها إلى الأبد.
وافق روستوف على أن يكون شاهدا لدولوخوف رغم تقريع دينيسوف وممانعته، فلما انفض المدعوون عن المائدة سوى مع نيسفيتسكي، الذي كلفه بيزوخوف ببحث هذه المسألة، شروط اللقاء. أما بيير فقد عاد إلى منزله، بينما استمر روستوف ودينيسوف في صحبة دولوخوف يتسامرون في النادي حتى ساعة متأخرة، ويصغون إلى غناء البوهيميين والمغنين العسكريين. ولما افترق الأصدقاء عند مدخل النادي قال دولوخوف: إلى الغد إذن في حديقة الفوكونييه (مدربي البزاة).
سأله روستوف: «وهل أنت هادئ النفس؟»
توقف دولوخوف وقال: «اسمع يا صديقي، سأكشف لك بكلمتين عن كل سر المبارزة. إنك إذا رحت في المساء الأسبق ليوم اللقاء تكتب وصيتك ورسائل عاطفية إلى أقاربك، وإذا فكرت في إمكانية إصابتك وموتك، فإنك لست إلا أحمق تسعى إلى حتفك. أما إذا ذهبت للقاء خصمك وأنت على يقين ثابت بأنك ستقتله في أسرع وقت، أو بأسرع ما يمكن، فإن كل شيء سيكون على العكس، على خير ما يرام، كما يقول صياد الدببة في كوستروما؛ لقد قال لي مرارا: «إذا ذهبت لصيد الدب شعرت بالخوف، لكن ما إن يظهر الوحش حتى يتبدد الخوف ويحل محله شعور بالابتهال كي يبقى الوحش في سيره عليك.» وهذا ما أعمله بكل دقة. فإلى الغد إذن يا عزيزي.»
وفي صباح اليوم التالي، وصل بيير ونيسفيتسكي إلى حديقة مدربي البزاة؛ حيث كان دولوخوف بانتظارهما وبرفقته دينيسوف وروستوف. كان بيير فريسة انهماك واستغراق غريبين عن المسألة التي كان بصددها. كان يرى على سحنته الصفراء المستطيلة، وفي نظرته الشاردة، وفي عينيه الزائغتين المغمضتين وكأن انعكاس ضوء باهر يعميهما. إنه لم ينم ليلته تلك؛ كان أمران فقط يشغلانه: إدانة زوجته التي تأكد منها خلال ساعات أرقه الطويل، وبراءة دولوخوف الذي لم يكن لديه أي سبب للتجاوز عن ثلم شرف رجل لا يشغل في نفسه أي اعتبار. كان يقول في سره: «لو أنني كنت مكانه، أما كنت أنهج نهجه؟ بلى - ولا شك - إنني كنت سأعمل مثله. إذن لم هذه المبارزة، هذا القتل؟ إما أن أقتله، أو أنه هو الذي سيصيبني في رأسي أو مرفقي أو ركبتي. ماذا لو فررت؟ ماذا لو اختبأت في مكان ما.» لكنه في حين كان يغذي مثل هذه المناقشات والأفكار في سره، كان يسأل قائلا بلهجة باردة برودا ملحوظا وبطلاقة استغرب لها من حوله: «هل نحن على استعداد؟» أو «هل نتأخر بعد؟»
وفي تلك الأثناء، كان الشهود يحشون الغدارات، ويفرسون السيوف في أماكن معينة على الثلج، إشارة إلى الحد الذي لا يجب تخطيه. ولما انتهت هذه الاستعدادات اقترب نيسفيتسكي من بيير وقال له بصوت متهدج: «أظن أنني يا كونت أخون واجبي ولا أستحق الشرف الذي منحتنيه بانتقائي شاهدا لك، إذا لم أبادر في هذه اللحظة الخطيرة الشديدة الخطورة إلى إطلاعك على الحقيقة كلها. إنني لا أرى أسبابا وجيهة تدعو إلى هذه المبارزة؛ لأن المسألة لا تستحق أن يراق من أجلها الدم. إنك مخطئ أو - على الأقل - إنك لست على كثير من الصواب. لقد ثرت وانفعلت ...»
فقال بيير مؤيدا: «نعم، إن كل هذا غاية في السخف.»
فأردف نيسفيتسكي قائلا: «في هذه الحالة، اسمح لي بنقل اعتذاراتك. إنني متأكد من أن خصومنا سيقبلونها. إنك لا تجهل، يا كونت، أنه من النبل بمكان الاعتراف بالأخطاء بدلا من الوصول إلى ما لا يمكن تلافيه. لم تقع بينكما إهانة خطيرة، ولم تتبادلا ما يستحق هذه النتيجة؛ فاسمح لي إذن بالتفاوض.»
كان نيسفيتسكي يقوم بواجبه أسوة بكل إنسان آخر يجد نفسه منغمسا في مثل هذه الأمور، ولم يكن يعتقد - ككل من وقفوا مثل موقفه - أن المسألة ستستمر حتى تبلغ نهايتها المحتومة؛ لذلك فقد أدهشه أن قاطعه بيير بتصميم وحزم قائلا: «كلا، ما فائدة ذلك؟ ماذا يهم ذلك الآن؟ هيا، هل نحن على استعداد؟ فقط قل لي: إلى أي حد ينبغي أن أتقدم، وفي أي اتجاه ينبغي أن أطلق غدارتي؟»
أضاف هذه الجملة وهو يبتسم ابتسامة مغتصبة، وأخذ الغدارة وسأل كيف يضغط زنادها دون أن يعترف رغم ذلك بأنه لم يمس سلاحا طيلة عمره. قال عندما شرح له ما غمض عليه: «آه، نعم! لقد فهمت، كنت ناسيا.»
وكان دولوخوف من جانبه يقول لدينيسوف - الذي كان يحاول إعادته إلى الصواب فيقر بخطئه ويطلب الصفح عنه: «كلا، إنني أرفض بشدة، لن أقدم اعتذارات.»
ومضى بدوره إلى مكانه المعين.
كان المكان الذي وقع الاختيار عليه للمبارزة واقعا على بعد ثمانين خطوة عن الطريق؛ حيث ترك الطرفان الزحافات في بقعة مكشوفة من غابة الصنوبر، وكان موسم ذوبان الثلج قد أقبل مبكرا منذ أيام. وقف الغريمان على جانبي البقعة المكشوفة تفصل بينهما مسافة أربعين خطوة، وكان الشهود قد خلفوا آثار أقدامهم على الثلج الرخو عندما راحوا يقيسون المسافة قبل الشروع بالمبارزة، وكانت تلك الآثار تتوقف عند سيفي نيسفيتسكي ودينيسوف اللذين كانا مغروسين على بعد عشر خطوات لتحديد سعة الساحة، وكان الضباب وبخار الثلج الذائب من الكثافة حتى إن الرؤية كانت مستحيلة على بعد أربعين خطوة، وكان كل شيء معدا منذ ثلاث دقائق دون أن يفكر أحد في الشروع بالعمل أو التلفظ بكلمة.
الفصل الخامس
المبارزة
قال دينيسوف: «حسنا، هيا.»
فقال بيير وهو دائم الابتسام: «هيا بنا.»
كان واضحا أنه بات متعذرا إيقاف هذه المسألة التي قوبلت وأجريت بشيء من الاستخفاف وعدم التروي. لقد أصبحت القضية مروعة مخيفة، كانت قوة فوق طاقة البشر تريد أن يتم هذا الأمر دون تأخير ولا تبديل.
تقدم دينيسوف من الحد المقرر وهتف: «لما كان الخصمان قد رفضا التصالح؛ فإنني أدعوهما إلى التسلح بالغدارات والسير عندما أصل إلى رقم «ثلاثة».»
ثم أردف بصوت غاضب منفعل: «واحد، اثنان، ثلاثة.» وابتعد.
راح الخصمان اللذان يحق لكل منهما أن يطلق النار قبل بلوغ الحد الفاصل، يمشيان الواحد باتجاه الآخر، سالكين الطريق الحديث الذي شقته في الثلوج أقدام الشهود عند قيامهم بالترتيبات الأولية. أخذا يريان بعضهما بعضا بشكل أوضح كلما اقتربا في ذلك الضباب، كان دولوخوف يقترب بخطوات بطيئة، خافضا غدارته، شاخصا إلى بيير بعينيه الزرقاوين الصافيتين الملتمعتين، وكانت ابتسامة غامضة تشرق على وجهه كعادته.
قال بيير: «وهكذا فإنني أستطيع إطلاق النار متى أشاء، أليس كذلك؟»
عندما هتف الحكم «ثلاثة» اندفع بيير إلى الأمام في مشية سريعة كانت تحرفه عن السبيل الممهد، فتغرز أقدامه في الثلوج. لا ريب أنه كان يخشى أن يصيب نفسه بجرح من غدارته الشخصية؛ لذلك فقد كان ممسكا بها على امتداد ذراعه الأيسر، جاهدا في إبقاء يسراه إلى الوراء؛ لأنه كان ينوي استعمالها في تثبيت يمناه، غير جاهل عدم جواز ذلك. ولما خطا بضع خطوات تائهة وسط الثلوج نظر إلى قدميه وألقى نظرة سريعة على دولوخوف وضغط الزناد كما أوضحوا له. قفز مروعا من دوي الانفجار الذي لم يكن يتوقع شدته، لكنه ما عتم أن ابتسم لسذاجته وتوقف في مكانه. وكان الضباب والدخان يحجبان خصمه عن عينيه تحت ستار كثيف، وبدلا من أن تدوي الطلقة الثانية - كما كان ينتظر - شعر بوقع خطوات سريعة متلاحقة. وأخيرا شاهد شبح دولوخوف يبرز من الضباب ووجهه ممتقع، وإحدى يديه تضغط على جنبه الأيسر، بينما كانت الأخرى مطبقة بشدة على الغدارة المخفضة. هرع روستوف إليه وقال له بضع كلمات، أجاب هذا عليها خلال أسنانه المطبقة: «كلا، كلا، لم ينته بعد.»
خطا بضع خطوات أخرى وهو يترنح ثم هوى على الثلج بجانب السيف، وبعد أن مسح يده اليسرى الملطخة بالدم بسترته، استند عليها بجسمه. كان وجهه الشاحب المكفهر يرتعد.
غمغم بصعوبة وهو يقوم بمجهود خارق: «اس... اس... اسمحوا ...»
راح بيير الذي كان على وشك الإجهاش بالبكاء يعدو نحوه دون أن يتبادر إلى ذهنه الخروج من الساحة، فهتف دولوخوف قائلا: «إلى الحد!» فهم بيير ما يعنيه فتوقف قرب حسامه. لم يكن يفصله عن دولوخوف إلا عشر خطوات. غمر دولوخوف رأسه في الثلج وملأ فمه منه بنهم ثم انتصب وهو يحافظ بصعوبة على توازنه حتى استطاع الجلوس. كان يمتص الثلج الذي ملأ به فمه، وكانت شفتاه ترتعدان، لكن عينيه كانتا أبدا تبسمان ويلتمع فيهما بريق حقد عميق ضاعفه ذلك المجهود الخارق الذي كان يبذله. وأخيرا رفع غدارته وراح يسدد إلى الهدف.
قال نيسفيتسكي يوصي بيير: قف وقفة جانبية واحجب نفسك بالغدارة.
ولم يستطع دينيسوف بدوره إلا أن يهتف به رغم أنه شاهد الخصم: «رباه! احجب نفسك.»
لكن بيير ظل واقفا مباعدا بين ساقيه وذراعيه دون دفاع، يعرض صدره العريض لدولوخوف وهو ينظر إليه بابتسامة شاحبة تحمل طابع الإشفاق والندم. أغمض دينيسوف وروستوف ونيسفيتسكي عيونهم، سمعوا صوت انطلاق الغدارة وصيحة يأس وغضب ترافقها.
زمجر دولوخوف: «أخطأت الهدف!»
وخارت قواه فهوى على الأرض ووجهه على الثلج.
أطبق بيير على رأسه بيديه ونكص على أعقابه وراح يلتجئ إلى الغابة.
كان يسير بخطوات واسعة على الثلج الذائب يصرخ بصوت مبحوح كلمات متتابعة: «شنيع! شنيع! الموت ... ترهات كل هذه!»
فلحق به نيسفيتسكي وأعاده إلى منزله.
وحمل روستوف ودينيسوف الجريح.
كان دولوخوف ممددا في قاع الزحافة مغمض العينين، لا يجيب على الأسئلة التي كانت تطرح عليه.
وبينما هم داخلون إلى موسكو عاد إلى صوابه وأمسك بيد روستوف الجالس بجانبه. كان وجهه مضيئا بقبس مشع من حنان ووجد، وكأنه تحول إلى مخلوق آخر. سأله روستوف وهو لا يصدق عينيه: «حسنا، كيف حالك؟» - «سيئة.»
وبادر بصوت متقطع يقول: «ولكن ليس من الجرح يا صديقي. أين نحن؟ في موسكو، أليس كذلك؟ إنني لا أبالي بما قد يصيبني، ولكن هي ... لقد قتلتها، لقد قتلتها. إنها لن تحتمل هذا، كلا، أبدا.»
فقال روستوف مستفسرا: «من هي؟»
فأجابه دولوخوف وقد استحال إلى دموع هاطلة: «أمي، أمي، ملكي، ملكي المعبود ...»
وضغط على يد روستوف بأصابعه المتشنجة.
ولما هدأت ثائرته، أوضح لروستوف أنه يعيش مع أمه، وأنها إذا شاهدته على تلك الحال فإنها لن تحتمل ذلك المشهد، وراح يتوسل إلى نيكولا أن يمضي إليها قبل وصوله، وأن يمهد السبيل لتخف الصدمة على أعصابها.
قبل روستوف القيام بتلك المهمة التي أطلعته - ولدهشته البالغة - على أن ذلك الحقير التافه، ذلك المبارز الولوع بالقتل، يعيش في موسكو مع أمه العجوز وأخته الحدباء، وأنه كان أكثر الأبناء برا، والإخوة محبة.
الفصل السادس
ثورة بيير
لم يحدث أن وجد بيير نفسه وحيدا مع زوجته في الأيام الأخيرة؛ فالبيت في موسكو كان أبدا عامرا بالناس كما كانت عليه الحال في بيترسبورج. وفي الليلة التالية ليوم المبارزة، لبث بيير - كما كان يحدث له مرارا - في الغرفة الفسيحة الرحبة التي كان يشغلها أبوه من قبل؛ تلك الغرفة التي مات فيها الكونت. لم يشعر برغبة في الذهاب إلى غرفة نومه.
استلقى على أريكة آملا أن يجد في النوم سلوانا لما وقع ومضى، لكنه أخفق في بغيته؛ كانت عاصفة عنيفة من الأفكار والعواطف والذكريات تصخب في نفسه، فما كان يطيق النوم ولا كان يستطيع الجلوس. قفز عن الأريكة وراح يذرع الغرفة الفسيحة بخطوات سريعة متلاحقة. استعاد في ذاكرته صورة هيلين في لحظات زواجهما الأولى وهي عارية الكتفين ذات نظرة زاوية ضعيفة، وانتصب إلى جانب تلك الصورة وجه دولوخوف الجميل المزاح الساخر، كما كان يوم الحفلة، ثم ذلك الوجه بالذات، الممتقع المتقلص المتألم، الذي شاهده آخر الأمر عندما كان صاحبه التعيس يهوي على الثلج.
أخذ يتساءل: «ماذا حدث بعدئذ؟ لقد قتلت العشيق. نعم، لقد قتلت عشيق زوجتي. ولماذا؟ وكيف توصلت إلى ذلك؟» ليجيبه صوت داخلي قائلا: «لأنك تزوجتها.» «ولكن ما هو ذنبي؟» «ذنبك أنك تزوجتها دون حب، ولأنك خدعتها إذ خدعت نفسك.» وعادت إلى ذاكرته على الفور تلك الدقيقة الحاسمة التي نطق خلالها - وكان ذلك بعد العشاء الذي تناوله عند الأمير بازيل - بهذه الكلمات التي لم تكن تريد الخروج من فمه: ««أحبك.» نعم، إن كل شيء كامن في هذه الكلمة. كنت أشعر تماما بأن لا حق لي بنطقها، وأنني كنت أخطو خطوة عقيمة سقيمة، ولم يخدعني شعوري المسبق.»
احمر وجهه فجأة حينما مثلت في خاطره ذكريات شهر العسل، وكان حادث واحد خلال ذلك الشهر السعيد يغمره بالخجل؛ ذلك أنه ذات صباح، حوالي الساعة الحادية عشرة، بينما كان خارجا من غرفتهما في طريقه إلى مكتبه، التقى هناك بوكيله العام، فلما رأى هذا الرجل وجه بيير الطافح بالسعادة، ومعطفه المنزلي المصنوع من الحرير؛ حياه تحية مفعمة بالاحترام، وسمح لنفسه بإظهار ابتسامة مبتسرة معبرا بها عن مشاطرته سيده الشعور بسعادته. «وأنا الذي كنت أجعل منها مدارا لفخري! كنت أعتز بجمالها الصارخ، وبتأثيرها وعصمتها المنيعة، كنت أعجب بأسلوبها في استقبال الناس في بيترسبورج. لقد كان فيها ما يبعث على الفخار والتيه. كنت أظن أنني لا أفهمها، وكم من مرة لمت نفسي - وأنا أدرس طبيعتها - على تجاهل هدوئها الدائم، ومظهرها الرضي القانع، واختفاء كل آثار الرغبة والنزوة فيها! مع أن مفتاح السر كان في هذه الكلمة الرهيبة: «إنها فاجرة.» لقد أوضحت هذه الكلمة الرهيبة كل الأمر وأنارت السبيل.
كان آناتول يقترض منها المال ويقبل كتفيها العاريين. إنها ما كانت تعطيه المال، ولكن كانت تتقبل منه القبل، وأبوها كان يثير غيرتها مازحا فتجيبه بابتسامتها الهادئة بأنها ليست حيوانا لتتطرق الغيرة إلى نفسها . كانت تقول عني: «يمكنه أن يعمل ما يشاء.» ولما سألتها ذات يوم عما إذا كانت لا تحس ببوادر الحمل، أجابتني بضحكة مزدرية أنها «لم تكن حمقاء حتى ترغب في الحمل، وأنها على كل حال لن تنسل مني ولدا».»
ثم راح يكرر على نفسه انحطاط أفكارها الطبيعي، وفجاجة تعابيرها التي لا تتلاءم مع نشأتها الأرستقراطية الراقية؛ كانت تقول مثلا: «أتعتبرني سخيفة؟ جرب لأرى ... شوف شغلك.»
1
لقد كان يحار دائما، كلما رآها موضع ملق الجميع وتزلفهم، في فهم السبب الذي يجعله وحده لا يشعر بحبها. «كلا ولا ريب، إنني لم أحببها قط. كنت أعرف أنها خالعة العذار فاجرة، لكنني ما كنت أجرأ على التصريح بهذه الحقيقة. والآن، ها إن دولوخوف متهاويا فوق الثلج يحاول جاهدا أن يبتسم، ولعله سيموت، وأن يجيب على نزعة الندم في نفسي بالتظاهر بالشجاعة الخارقة.»
كان بيير من أولئك الناس الذين - رغم ما يعزى إليهم من ضعف في العزيمة - لا يأمنون جانب أحد، فلا يفصحون عن أحزانهم لأحد، ويبقونها تعتلج في أنفسهم للاجترار بها في خلواتهم.
استرسل في مناقشته: «إنها الجانية. نعم، إنها الجانية. ولكن ما العمل معها؟ لم ارتبطت بها؟ لماذا قلت لها تلك الجملة القاضية «أحبك»، رغم أنها لم تكن إلا كذبة، وأسوأ من كذبة أيضا؟ إنني أنا الجاني إذن، وينبغي أن أحتمل ... ولكن ماذا أحتمل على التحديد؟ تلويث الشرف، الخصومة ... كلا، كلا، بل العار والدناءة. إن كل هذه تتصل بسبب بينها فتجعل شخصيتي في خبر كان.
لقد أعدموا «لويس السادس عشر» لأنهم اعتبروه مجرما عديم الشرف، وكانوا على حق من وجهة نظرهم، لكن أولئك الذين احتملوا الاستشهاد والتضحية من أجله، وكانوا يضعونه في مصاف القديسين، ألم يكن هؤلاء أيضا على حق؟ طبعا لقد كانوا محقين من وجهة نظرهم كذلك. ثم أعدموا بعد ذلك روبسبير؛
2
لأنه كان مستبدا طاغية. فمن الذي كان على حق؟ ومن الذي كان مخطئا؟ لا أحد. اغتنم فرصة وجودك على قيد الحياة؛ لأنك ستموت غدا، كما كدت أموت اليوم منذ ساعة، فهل يستحق شيء في الوجود أن يتعذب المرء من أجله، خصوصا وأن الوقت الذي سنعيشه لا يساوي ثانية في عمر الزمن؟»
لكنه في اللحظة التي كان يظن نفسه فيها أنه بلغ الهدوء المنشود بفضل تلك المحاكمة البليغة، عاد يعيش في ذاكرته تلك الدقائق من الاستسلام الكاذب التي «راحت» خلالها تعرب له عن غرامها الكاذب، وحينئذ شعر بالدم ينحبس في قلبه ويكاد يفجره، فنهض من جديد ليمشي ويحطم ويجزئ كل شيء يقع تحت يده. راح يتساءل: «لماذا قلت لها «أحبك» بحق الشيطان؟» وبينما كان يطرح على نفسه هذا السؤال للمرة العاشرة، تذكر كلمة موليير
3
الشهيرة: «لكن، يا للشيطان! ماذا كان يريد أن يعمل في ذلك الجحيم؛ تلك السفينة.» يريد القول بذلك: ما الذي دفعه إلى سلوك هذا السبيل الوعر؟ وراح يضحك من تعاسته الشخصية.
استقدم خادمه أثناء الليل وأمره بإعداد المتاع. لقد كانت فكرة التقائه بزوجته تبدو له مريعة، فقرر الرحيل منذ صباح اليوم التالي، على أن يفسر لها الأمر في رسالة يتركها لها، ويعلمها فيها أنه يفترق عنها إلى الأبد.
وفي الصباح، لما جاءه الوصيف بقهوته كان بيير مستلقيا على أريكة تركية؛ حيث نام ليلته وفي يده كتاب مفتوح. قفز من مرقده فزعا، وراح يجيل حوله نظرة متبلدة حتى أدرك أخيرا أين كان، ولم كان حيث كان.
قال الخادم: «إن سيدتي الكونتيس تسأل إذا كنتم سعادتكم على استعداد لمقابلتها.»
لم يكن بيير قد حزم أمره على الجواب بعد حينما دخلت الكونتيس مرتدية غلالة من الساتان الأبيض المطعم بالفضة، ووجهها الفتان تتوجه ضفيرتان ثقيلتان على شكل إكليل، وقد ارتسمت فوق جبهتها المرمرية المائلة قليلا ثنية أقامها الغضب ليشوه ذلك الإشراق الرائع. دخلت متحلية بالحزم والجلال. لقد تناهى إليها خبر المبارزة فجاءت تسأله تفسيرا وإيضاحا. مع ذلك، فقد استطاعت بهدوئها المكين أن تسيطر على أعصابها حتى فرغ الوصيف من عمله وغادر الغرفة. واسترق بيير نظرة خجلى خلال نظارتيه، وبدا أشبه بالأرنب الذي داهمته كلاب الصيد وأحاطت به، عندما يرخي أذنيه وينطوي على نفسه أمام أعدائه الألداء. حاول التحصن وراء كتابه، والتلهي بالقراءة، لكنه شعر بعقم هذا التصرف، فراح يرقبها من جديد بنظرة ورعة. أما هي فقد لبثت واقفة تتفحصه وعلى شفتيها ابتسامة هازئة. سألته بلهجة شديدة عندما خرج الوصيف من الغرفة: «ماذا هناك من جديد؟ لقد ارتكبت أمرا جللا! ما معنى ذلك؟»
سألها بيير: «أنا؟ ماذا عملت؟» - «هه، ها أنت ذا قد أصبحت مغوارا في الحروب! ما معنى هذه المبارزة؟ ماذا أردت أن تثبت بها؟ أجبني عندما أحدثك!»
استدار بيير بتثاقل فوق الأريكة وفتح فمه لينطق بشيء، لكنه لم يخرج من حنجرته حرفا واحدا. أردفت هيلين تقول: «حسنا، طالما أنك لن تجيب فإنني أنا التي سأتحدث. إنك تصدق كل ما يقولونه لك، ولقد قالوا لك إن دولوخوف ... كان «عشيقي».»
نطقت بهذه الكلمة وأشفعتها بضحكة مدوية. كانت تتحدث بالفرنسية بتلك الرنة الوقحة المألوفة في أسلوبها، فأطلقت تلك الكلمة الفجة دون أي ارتباك أو خجل! أردفت: «ولقد صدقت أنت هذه الأقاويل، ولكن على أي شيء برهنت في هذه المبارزة؟ على أنك «أحمق» فحسب. ثم إن كل الناس كانوا يعرفون عنك ذلك! والآن تريد أن تجعل مني أضحوكة أهل موسكو؛ سيقولون كلهم إنك في ساعة ثملك أخفقت في السيطرة على أعصابك، فتحديت رجلا كنت تغار منه دون سبب وبارزته ...»
وأضافت وهي ترفع صوتها أكثر فأكثر: «نعم، رجلا يستأهل كل الالتفات والاحترام أكثر منك.»
زمجر بيير وهو يرف بعينيه دون أن ينظر إليها أو أن يقوم بحركة ما: «هم! هم!» - «ما الذي جعلك تعتقد أنه عشيقي؟ لأنني أجد متعة في رفقته؟ لو أنك كنت أكثر ذكاء وتوددا لفضلت عشرتك على عشرته ولا ريب.»
غمغم بيير بصوت أجش: «دعيني هادئا ... أتوسل إليك.» - «ولم إذن؟ إن من حقي أن أتكلم على ما أعرف! أقول لك بكل صراحة: مع زوج مثلك، أية امرأة ما كانت لتجعل لنفسها عشاقا؟! ومع ذلك فإنني لم أفعل ذلك.»
ود بيير أن يقول شيئا، لكنه اكتفى بأن ألقى عليها نظرة لم تفهم شيئا مما قصده بها. عاد يجلس على الأريكة وهو فريسة قلق فظيع. كان مبهور الأنفاس يكاد صدره أن ينفجر. كان يعرف الوسيلة التي تضع حدا لعذابه وألمه، لكنه كان يتراجع أمام هذه النتيجة. وأخيرا ألمح بصوت متقطع: «الأفضل لنا أن نفترق.» - «نفترق؟ يا للسعادة! ولكن بشرط أن تعطيني ما أعيش به! أما ما تبقى فإنني أسخر به.»
قفز بيير عن الأريكة ومشى إليها بخطوات متعثرة مترنحة.
زمجر كالحيوان الجريح: «سأقتلك!»
وأطبق بقوة لم يعهدها في نفسه على قطعة الرخام التي تغطي المائدة ورفعها مهددا.
تقلص وجه هيلين من الرعب، فأطلقت صرخة ثاقبة ورمت بنفسها إلى الوراء. لقد نطق الدم الأبوي في عروق بيير. كان يشعر بلذة غريبة مسكرة من غضبته. ألقى قطعة الرخام فتحطمت، واندفع نحوها مطبق القبضتين، وزأر بصوت مريع اهتز له القصر المنيف رعبا: «اخرجي.»
ولو أن هيلين لم تفر في تلك اللحظة لوقعت أمور لا يعلم مداها إلا الله وحده.
وبعد ثمانية أيام، سافر بيير وحيدا في طريق أملاكه في روسيا الكبرى، تلك الأملاك التي كانت تشكل أكثر من نصف ثروته.
الفصل السابع
فجيعة بولكونسكي العجوز
انقضى شهران على وصول أنباء معركة أوسترليتز إلى ليسيا جوري (الجبل الأقرع)؛ حيث يقيم الأمير العجوز بولكونسكي. كان ابنه آندريه لا زال في حكم المفقود رغم كل الرسائل التي وجهها أبوه إلى السفارة، والتحقيقات الكثيرة التي أجريت، والتي لم تسفر عن إيجاد جثة الأمير آندريه، خصوصا وأن اسمه لم يرد في قائمة من قوائم الأسرى، ولم يكن هناك أي أمل في أن تكون جثته قد رفعت من قبل السكان بعد المعركة، بل إن هذه النظرية كانت أكثر النظريات إيلاما لعائلة الفقيد؛ لأنه في هذه الحالة يكون وحيدا في مكان ما في طور النزع، أو في دور النقاهة دون أن يكون حوله نصير أو مغيث، ودون أن يستطيع وهو في غربته أن يبعث بأخباره. اطلع العجوز بادئ الأمر على أنباء الهزيمة عن طريق الصحف. كانت هذه كعادتها تعلن بعبارات مقتضبة غامضة أن الروسيين - بعد معارك عظيمة أظهروا فيها بسالة فائقة - اضطروا إلى التراجع، وأن الانسحاب جرى في جو منظم تنظيما تاما. فلما قرأ الأمير هذا البلاغ أدرك أن الروسيين قد هزموا. ولم تمض ثمانية أيام حتى تلقى رسالة من كوتوزوف يطلعه فيها على مصير ابنه، قال في رسالته: «لقد سقط ولدكم تحت أبصاري والعلم في يده، بينما كان على رأس فيلق، سقوط الأبطال، فكان جديرا بأبيه، جديرا بوطنه. وإننا - لشديد أسفي وأسف الجيش كله - لا ندري إذا كان حيا أو ميتا. مع ذلك، فإننا نستطيع أن نرضي أنفسنا بالقول إنه نجا، وإلا فإن اسمه كان يجب أن يرد في قائمة أسماء الضباط القتلى التي اطلعت على نسخة منها بنفسي، بعد أن حصلنا على هذه القائمة عن طريق المفاوضات مع العدو.»
أبلغت هذه الرسالة للأمير العجوز في ساعة متأخرة من الليل، عندما كان وحيدا في مكتبه. وفي اليوم التالي، باشر بنزهته الصباحية المعتادة وكأن أمرا لم يحدث، لكنه بدا شديد الشراسة مع وكيله وبستانيه ومهندسه. وعلى الرغم من سمات الغضب التي كانت بادية على وجهه، فإنه لم يوجه اللوم والتعنيف لأحد.
ولما دخلت الأميرة ماري لتحيته صباحا حسب العادة، كان منصرفا إلى دولابه (دولاب صنع الفخار) فلم يلتفت إليها.
وفجأة قال لها بصوت مبحوح: «آه، ماري!»
ألقى بإزميله جانبا، فظلت العجلة تدور بفعل السرعة المكتسبة، وظل ذلك الصرير المكتوم الذي أخذ يخفت تدريجيا عالقا زمنا طويلا في ذاكرة ماري مقرونا بذكريات تلك الصبحية.
اقتربت منه وقد قرأت على وجهه آية جعلتها تتهم عينيها، واضطربت اضطرابا شاملا. لم يكن ذلك الوجه حزينا ولا مرهقا، ولكن كان منقلبا وكأنه فريسة عراك غير طبيعي، وكان ينبئها بأن مصيبة مريعة معلقة من قبل فوق رأسها على وشك أن تسحقها الآن برزئها. تلك المصيبة التي كانت أخطر ما مر بها في حياتها، والتي كان يستحيل محو آثارها، ويستحيل احتمالها بتجلد وصبر؛ كانت موت كائن تحبه بحرارة وقوة.
صرخت الأميرة المكدرة الفاشلة بصوت خارج عن غير ذاتها، وبألم شديد الوقع والأثر قائلة : «أبي، آندريه!»
ولم يستطع الأب الصمود لنظرتها، فأشاح بوجهه وانتحب، قال بصوت كالنباح بلهجة غاضبة متمردة وكأنه يريد أن يطرد ابنته من حضرته: «لقد تلقيت أخبارا. إنه ليس في عداد الجرحى ولا في عداد الموتى. لقد كتب لي كوتوزوف؛ وإذن فإنه ميت.»
لم تفقد الأميرة الوعي ولم يستول عليها الدوار. كانت من قبل شاحبة الوجه، لكنها لما تلقت النبأ تبدل وجهها، وشعت نظراتها بوميض أضاء عينيها الجميلتين. سيطر على ألمها العميق الهائل يمن علوي، لون من الذهول الغريب، مترفع عن أفراح هذه الأرض السفلية وأتراحها على السواء. نسيت الخوف الذي كان يبعثه أبوها في نفسها، فاقتربت منه وأمسكت بيده، وأحاطت عنق العجوز الأعجف المعقد بذراعيها، وقالت: «أبتاه، لا تبالي بوجودي. لنبك معا.»
صرخ الأمير وهو يتخلص من ذراعي ابنته: «السفلة، الأوباش! لماذا أضاعوا الجيش وقتلوا الرجال؟ اذهبي وأخبري ليز.»
سقطت الأميرة في مقعد وأطلقت لدمعها العنان. رأت بعين الخيال أخاها يودعهم قبل سفره، يودع ليز ويودعها هي، بلهجة مترفعة وودودة معها، ورأت نفسها تضع «الأيقونة» الصغيرة حول عنقه وهو يقابل صنيعها بسخرية رقيقة حانية، تساءلت: «هل كان مؤمنا؟ هل تاب عن إلحاده وزندقته؟ هل هو الآن هناك في السماء، في مقام الراحة الأبدية واليمن الأزلي؟»
سألت أباها خلال دموعها: «قل لي يا أبي، كيف وقع ذلك؟» - «هيا، هيا، لقد قتل في معركة فقدنا فيها إلى جانب مجدنا خيرة الروسيين. هيا يا أميرة ماري، أخبري ليز وسألحق بك.»
لما عادت ماري من لدن أبيها، كانت الأميرة الصغيرة جالسة أمام نولها. راحت ترقبها وتتأمل الأمارات التي تدل على القناعة والإشراقة المتيقظة، التي تنفرد بها النساء الحاملات. ما كانت ترى فيها زوجة لأخيها فحسب، بل كانت تنظر في أعماق روحها وتتأمل الحدث السعيد الذي كان يتم في عالم المجهول والخفاء.
قالت ليز وهي تكف عن العمل على نولها وتستلقي إلى الوراء: «ماري، أعطني يدك.»
أخذت «ليز» يد ماري ووضعتها على بطنها. كانت عيناها تضحكان ضحكة الترقب والانتظار، وشفتها ذات الزغب ترتفع لتبقى جامدة في مكانها، مضفية على وجهها سعادة الأطفال الأبرياء الهانئين.
ركعت ماري ودفنت وجهها في ثنيات ثوب زوجة أخيها.
قالت ليز وهي تنظر إلى ماري بعينين مشرقتين: «هنا، هنا، أتشعرين؟ إن هذا يبدو لي شديد الغرابة. ثم هل تعلمين؟ لقد كنت أحبه حبا جما.»
لم تستطع ماري أن ترفع رأسها، كانت تبكي. - «ماذا بك يا ماري؟» - «لا شيء، إنني أشعر بفائض من الحزن كلما فكرت في آندريه.»
وجففت ماري دموعها بثوب زوجة أخيها.
همت عدة مرات أن تهيئها لتقبل الخبر المفجع، لكن دموعها كانت تحبس النطق في حنجرتها كل مرة فتصمت وتتراجع، وما كان يمكن لتلك الدموع التي لم تكن ليز تفهم الباعث على ذرفها إلا أن تعذبها وتزعجها، مهما بلغ ذكاؤها من ضعف ووهن. لم تكن تنبس ببنت شفة، لكنها كانت تجيل حولها في الغرفة نظرات قلقة مضطربة. وقبل موعد الطعام، رأت الأمير العجوز يدخل إلى حجرتها. وكان الأمير يبعث الرهبة في نفسها أبدا، لكنه كان في تلك المرة على غير عادته، تحمل أمارات وجهه طابعا سيئا متباهيا. وقد رأته يخرج من غرفتها دون أن يوجه إليها كلمة، راحت تحدجه بنظرة فارغة، ثم استغرقت في التفكير وقد ارتسمت على وجهها ظاهرة العناية الموجهة إلى مكنون أحشائها كما يحدث غالبا للنساء الحبالى. وفجأة انخرطت في البكاء.
سألت باكية: «هل تلقيتم أنباء عن آندريه؟» - «كلا، إن الوقت لا زال مبكرا كما تعلمين، لكن أبي شديد القلق من أجله؛ الأمر الذي يؤلمني أشد الألم.» - «إذن، ألا زالوا لا يعرفون شيئا؟»
فأجابت ماري مؤكدة وهي تنظر إليها بعينيها المشعتين: «كلا، لا شيء.»
قررت أن تكتم الحقيقة، وأقنعت أباها بوجوب اتخاذ مثل هذا القرار بانتظار قيام «ليز» من الوضع القريب المنتظر. وراح الأب والابنة، كل على طريقته، يسيطر على آلامه وأحاسيسه ويخبئ حزنه. كان الأمير العجوز لا يتعلق بأي أمل رغم أنه كلف رجلا موثوقا بالقيام بأبحاث وتحريات في النمسا. كان قانعا بأن ابنه قتل، وأعلن نبأ موته لجميع الناس، بل إنه أوصى على نصب يرسل إليه من موسكو ليقيمه في حديقته ذكرا لابنه القتيل. وعلى الرغم من محاولته عدم تبديل شيء من عاداته المألوفة، فإن قواه كانت تخونه؛ فقصر مدى نزهاته، وضعفت شهيته للطعام، وجفاه النوم. وبالاختصار كانت حالته تسوء يوما عن يوم. أما الأميرة ماري، فقد كانت بعيدة عن مسالك اليأس، تصلي من أجل أخيها كما تصلي من أجل مخلوق حي تنتظر خبر أوبته سالما بين لحظة وأخرى.
الفصل الثامن
عودة آندريه
قالت الأميرة الصغيرة فجأة بعد إفطار يوم 19 آذار: «يا صديقتي الطيبة، أخشى أن يكون «الفروشتيك»
1 - كما يسميه الطاهي فوكا - قد سبب لي بعض الارتباك.»
تقوست شفتها المظللة بشكل آلي وهي بسبيل تصوير ابتسامة. ولما كان كل ما في ذلك البيت منذ ورود ذلك النبأ المفجع، من ابتسامات وأصوات، بل وحركات أيضا، يحمل طابع الحداد، فإن ليز نفسها انساقت مع المجموعة دون أن تفقه شيئا من الموجبات، واندفعت مع التيار العام، فكانت ابتسامتها تزيد في الاكتئاب العام.
هتفت ماري وهي تهرع بخطوها الثقيل المتراخي: «ماذا بك يا عزيزتي؟ رباه، كم أنت شاحبة!»
وألمحت إحدى الوصيفات قائلة: «ماذا - يا صاحبة السعادة - لو أرسلنا في استدعاء ماري بوجدانوفنا؟»
كانت ماري بوجدانوفنا هذه قابلة تقطن في المدينة الصغيرة المجاورة، وقد استقرت في ليسيا جوري منذ خمسة عشر يوما.
قالت ماري مؤيدة: «بلا شك، لعل استدعاءها بات ضروريا. إنني ماضية إليها، تشجعي يا ملكي.»
وقبلت ليز قبل أن تخرج، فهتفت هذه متوسلة ووجهها الشاحب المتقلص من الآلام يعكس الفزع الصبياني من العذاب والألم المنتظرين: «أوه، كلا، كلا، كلا! إنها المعدة. قولي إنها المعدة، قولي ماري قولي ...»
وانخرطت في البكاء وراحت تلوي ذراعيها كالطفل الحرون بحركة لم تخل من التصنع.
ابتسمت ماري وخرجت مسرعة مصحوبة ب: «أوه! أوه! ويا ربي! يا ربي!» التي كانت ليز تواكبها بها.
وفي الطريق، التقت بالقابلة التي كانت قادمة وهي تفرك يديها البضتين السمينتين، ووجهها الخطير موسوم بالهدوء. قالت ماري وهي تلقي على القابلة نظرات حائرة من عينيها المتسعتين من الذعر: «يا ماري بوجدانوفنا، أعتقد أن المخاض قد بدأ.»
فقالت ماري بوجدانوفنا دون أن تسرع الخطى: «حمدا لله يا أميرة، لكن هذه الأمور لا يجوز للعذارى معرفتها.» - «ولكن لم لم يصل الطبيب من موسكو؟»
كانوا بناء على رغبة ليز وآندريه قد أوصوا على طبيب مولد من موسكو؛ ليحضر في الوقت المحدد، وكانوا ينتظرونه بفارغ صبر.
أجابت القابلة: «لا تبتئسي يا أميرة، لا حاجة إلى الطبيب، وسيسير كل شيء على ما يرام.»
وبعد خمس دقائق، سمعت ماري التي كانت قد انسحبت إلى جناحها صوتا يدل على أن بعضهم ينقل شيئا ثقيلا، واربت الباب، فرأت عددا من الخدم يحملون بينهم الديوان الجلدي الذي كان يزين مكتب الأمير آندريه، ويدخلونه إلى مخدع ليز. وكان الخدم يؤدون عملهم بجلال وتأن.
لم تتحرك ماري من غرفتها، بل كانت تصيخ السمع إلى الضجة التي تنبعث بين الحين والحين، وتوارب الباب بين فترة وأخرى لتراقب الحركة الدائبة القائمة في الممشى. كان عدد من النسوة بين داخلات وخارجات يمشين بخطى هادئة، ولكنهن كن يشحن بأبصارهن عن وجه الأميرة كلما التقت نظراتهن بعينيها المتسائلتين. ولم تجرؤ الأميرة على طرح أسئلة عليهن، فكانت تغلق بابها لتجلس على مقعد، أو لتأخذ كتاب الصلوات، أو لتركع أمام «الأيقونات» مبتهلة. ولشدة دهشتها الأليمة، كانت الصلاة عاجزة عن تخفيف حدة انفعالها وألمها، وفجأة فتح باب غرفتها بهدوء، وبرز رأس يغطيه منديل، ومن تحته مربيتها العجوز براسكوفي سافيشنا التي - نزولا عند أوامر الأمير - لم تكن تدخل إلى غرفتها أبدا تقريبا. قالت المربية: «لقد جئت أجالسك يا ماريتي الصغيرة، وها هي - يا ملكي - شموع زواج والديك، سأشعلها أمام قداسة السعيد.»
2 - «آه! كم تسرني صحبتك أيتها المربية.» - «إن الله رحيم يا حمامتي.»
أشعلت المربية الشموع الملفوفة بورق مذهب أمام خزانة التمائم المقدسة، وعادت تجلس قرب الباب وبين يديها أشغالها، وأخذت ماري كتابا وراحت تقرأ، فلم تكونا تتبادلان النظر دون الحديث إلا إذا طرأ مسامعهما صخب أو ضجيج أو أصوات خطى وحديث. وكانت نظرة ماري قلقة مترقبة بينما كانت نظرة المربية هادئة مطمئنة.
كان الشعور بالقلق الذي استحوذ على ماري في غرفتها منتشرا في كل أنحاء الدار بين كل أهلها. وهناك خرافة قديمة تقول إنه كلما نقص عدد الأشخاص العارفين بأمر المرأة التي تعاني المخاض، كلما نقصت آلامها وخفت؛ لذلك فقد كان كل من في المنزل يتصنع الجهل بالأمر متظاهرا بالهدوء، فلا حديث عن الولادة ولا همس، ولكن كان لون من الاهتمام المشبع بالحنان والعطف يبرز خلال ذلك الجمود والحركات الخطيرة الهادئة المعروفة لدى كل من في خدمة الأمير العجوز وحوله، وكان ذلك الاهتمام يتحد مع القناعة الواضحة بوقوع حدث كبير مجهول لا زال في دور التكامل.
وفي غرفة الخادمات والوصيفات لم تكن إحداهن تبعث بضحكة. أما في المخادع والغرف الأخرى فكانت الشموع مضاءة، والمسارج مشعلة، وكل من في البيت يقظان، وكان الأمير العجوز يذرع غرفته على أطراف قدميه حذر الضجة، فقرر أخيرا أن يرسل تيخون للاستفسار من ماري بوجدانوفنا عن حالة الأم المنتظرة، قال له: «عليك أن تقول لها فقط إن الأمير يسأل عن الحالة، وعد إلي بما ستقوله لك.»
فلما بلغ إلى حيث كانت القابلة، قالت له وفي عينيها نظرة حافلة بالمعاني: «أخبر الأمير أن المخاض قد دب فيها.»
وعاد تيخون يحمل الجواب، فقال الأمير وهو يغلق الباب وراءه: «حسنا، حسنا.»
وبعد ذلك، لم يسمع تيخون ضجة ما أو صوتا صادرا عن مكتب الأمير.
وبعد فترة طويلة، دخل إلى المكتب بحجة تنظيف الشموع، فرأى الأمير مستلقيا على الأريكة. راح تيخون يتأمل وجهه المهدم فترة، ثم اقترب منه بهدوء عظيم، وقبل كتفه وخرج دون أن يعمل شيئا آخر، أو أن يفصح عن رغبته، بينما ظل السر الجليل الذي لا يضاهيه شيء في العالم يتكامل ويتحقق. وأقبل الليل وراح شعور الانتظار والحنو والخشوع أمام المجهول الذي لا يمكن إدراكه يتزايد باطراد بدلا من أن تخبو جذوته.
كانت تلك الليلة من ليالي آذار التي يعود فيها الشتاء فجأة ثائرا مغضبا ينقض بيأس بجحافله الأخيرة وعواصفه الثلجية المدخرة، وكان بعض الرجال على جيادهم حاملين المصابيح يقفون في أماكن معينة على الطريق المتصلة بالشبكة العامة، منتظرين وصول الطبيب الألماني من موسكو ليقودوه بين الردغات والمجرات العميقة إلى القصر. وكانوا ينتظرون قدومه بين حين وآخر، وقد أرسلوا جيادا إلى الطريق العام لاستقباله.
تركت ماري كتابها منذ فترة طويلة، وراحت تتأمل بصمت بعينيها المضيئتين وجه مربيتها المتغضن، الذي ألفت تقاطيعه وعرفتها ابتداء من خصلات شعرها الأشهب الناجية من قماط رأسها، وحتى ذلك الجيب الجلدي الحي الذي يتدلى أسفل ذقنها أشبه بالطنف.
وكانت المربية سافيشنا تقص بصوت منخفض، دون أن تسمع أو تفهم ما تقوله بنفسها، حكاية كررتها أكثر من مائة مرة ومرة، موضوعها أن الأميرة المرحومة وضعت ماري في كيشينيف
3
بمساعدة سيدة مولدافية
4
فقط، وأعقبت: «سوف يرحمنا الله. أما «الدوختور» فإنه لا يستطيع شيئا.»
وفجأة هبت ريح قوية على إحدى النوافذ التي رفع حاجزها الخشبي الخارجي نزولا عند أوامر الأمير، الذي درج على مثل هذه العادة كل عام حال وصول طير القنبرة مؤذنا بحلول الربيع، فاهتزت الدقيرة التي لم تكن محكمة الوضع وفتحت النافذة، وأزيح الستار الحريري، وانطفأت الشمعة. ارتعدت ماري بتأثير تلك النفحة الثلجية الباردة، وقامت المربية فوضعت أشغالها واقتربت من النافذة، وراحت تحاول الإمساك بالدرفة الخارجية لإغلاقها وهي تنحني إلى الخارج على قدر استطاعتها، وراحت الريح العاصفة تحاول انتزاع طرفي قمطتها واختطاف خصلات شعرها الأشهب الهوجاء.
قالت وهي ممسكة بالحاجز الخشبي لا تطبقه: «يا أميرة، يا ابنتي العزيزة، هناك بعضهم قادما على الممشى وحوله المصابيح المضاءة. إنه «الدوختور» ولا شك.»
هتفت ماري: «حمدا لله! ينبغي أن أهرع لاستقباله؛ إنه لا يعرف الروسية.»
ألقت شالها على كتفها وهرعت تستقبل القادمين، وبينما هي تجتاز الردهة، لمحت خلال النافذة عربة يواكبها حملة المصابيح تقف أمام المدخل، فهبطت السلم. وكان على قائمة حاجز السلم شمعة تصارع الريح وتصمد له، تضيء المدخل. ورأت فيليب - وهو أحد الخدم - واقفا بذهول أسفل السلم وفي يده شمعة. وعند مدخل السلم، كانت خطوات حذاء ملبد ترتفع مرتقية، وارتفع صوت لم يكن غريبا على ماري، كان الصوت يقول : «حمدا لله وشكرا! وأبي؟»
فيجيبه رئيس الخدم داميان، الذي هرع إلى الأسفل: «لقد نام منذ حين.»
ونطق الصوت ببضع كلمات أخرى أجاب عليها داميان، وراحت الخطوات الخفيفة غير المنظورة ترتقي السلم مقتربة.
تساءلت ماري: «أهو آندريه؟ كلا، مستحيل، سيكون ذلك خارقا صعب التصديق.»
وفي اللحظة التي راودتها تلك الفكرة، رأت على البسطة قرب الخادم الذي كان يحمل الشمعة ظلا يظهر، ثم وجه الأمير آندريه ثم جسده، وقد غطت الثلوج ياقة معطفه السميك. نعم، لقد كان القادم آندريه بنفسه، لكنه كان شاحبا هزيلا تصعب معرفته لأول وهلة؛ لأن عذوبة غريبة كئيبة كانت تحل محل قسماته القاسية الأولى، فلما بلغ أعلى السلم ضم أخته بين ذراعيه. سألها: ألم تتلقوا رسالتي؟
ولم ينتظر الجواب الذي ما كان ليأتي؛ لأن ماري كانت عاجزة عن الكلام، ونزل ليأتي بالطبيب المولد الذي التقى به عند المرحلة الأخيرة من الطريق. وبعد حين عاد بصحبة الطبيب يرتقي السلم بخطوات واسعة، وعاد يعانق شقيقته من جديد.
قال: «يا لها من مصادفة غريبة! أليس كذلك يا عزيزتي ماري؟»
ونزع معطفه وحذاءه ومضى إلى مخدع زوجته.
الفصل التاسع
ولادة ليز
كانت الأميرة الصغيرة التي كانت آلامها تترك لها فترات راحة متقطعة، مستلقية على الوسائد، وكانت خصلات من الشعر الأسود تفلت من غطاء رأسها الأبيض، وتسترسل على طول خديها المحمومين النديين، وكان فمها البديع الوردي ذو الشفة المظللة منفرج الشفتين قليلا، وكانت تبسم بجذل. ولما وقف آندريه قرب الأريكة التي كانت ممددة عليها، وقعت عيناها الملتمعتان بنظرتهما المذعورة ذعر الأطفال عليه، ولكنها لم تبدل من تعبيرهما. كانت تلك العينان تقولان: «إنني أحبكم جميعا حبا جما، ولم أسئ إلى أحد؛ فلماذا إذن أتألم؟ رحماكم! خففوا آلامي عني.» عرفت زوجها لكنها لم تعرف معنى ظهوره المفاجئ في تلك اللحظة. دار آندريه حول الأريكة حتى بلغ موضع رأسها فقبلها في جبينها وقال لها: «يا روحي العزيزة، إن الله رحيم.»
كانت هذه أول مرة يناديها بهذا القول، لكن عينيها امتلأتا بالعتاب أشبه بعيني طفل حرد وكأنها تقول: «كنت أنتظر منك بعض السلوان، فإذا بك كالآخرين لا تختلف عنهم في شيء.» لم تكن مدهوشة لرؤيته أمامها، لكنها لم تكن تفقه السبب الذي جاء به، لم يكن لوصول زوجها أية علاقة بآلامها وتخفيف تلك الآلام عنها، وعادت الآلام تتجدد، فرجت ماري بوجدانوفنا الأمير آندريه بمبارحة الغرفة.
دخل المولد إلى الغرفة وخرج آندريه، فالتقى بأخته وراح يتحدث معها بصوت منخفض حديثا تقطعه فترات صمت. كان كلاهما ينتظر مرهفا سمعه بصبر نافد.
قالت له ماري: «هيا يا صديقي.»
مضى آندريه إلى شقة ليز، وأقام في الغرفة الملاصقة لغرفة النوم، وبعد فترة خرجت امرأة يعلو الذعر والهول وجهها، فلما لقيت الأمير تضاعف ارتباكها. غطى وجهه بيديه ولبث كذلك دقائق طويلة. كان الأنين يقطع نياط القلوب، والعويل الصادر عن غرفة النوم يشبه زمجرة الحيوان في الكرب، اقترب آندريه من الباب وهم بفتحه، لكن صوتا من الداخل هتف بذعر قائلا: «مستحيل! مستحيل!»
ويدا مجهولة قاومت حركته، فعاد إلى غرفته يذرعها بخطى مضطربة محمومة.
توقف الأنين، ولكن بعد ثوان قليلة انطلقت صرخة مروعة تجاوبت في المنزل؛ صرخة لا يمكن أن تصدر عن ليز وهي على مثل حالها من الضعف. وبينما اندفع نحو الباب من جديد يحاول اقتحام الغرفة، انقطعت الصرخة فجأة وارتفع استهلال طفل وليد.
تساءل آندريه للوهلة الأولى: «لماذا أتوا بطفل إلى هنا؟! طفل! أي طفل؟! ماذا يعمل هنا الطفل؟! هل ولد طفل؟!»
وفجأة أدرك أن ذلك الاستهلال الذي سمعه يحل معه حبور شديد لوالديه، فخنقته العبرات، وارتمى على مسند النافذة وانخرط في بكاء ونحيب كطفل صغير. جاء الطبيب وكان خالعا «الرودنجوت» الرسمي حاسرا أكمام قميصه. تحرك رعدة عصبية قسمات وجهه الممتقع. لم يجب على أسئلة الأمير إلا بنظرة تائهة، وتجاوزه إلى مقعد. وهرعت امرأة جمدت في مكانها لما وقع بصرها على الأمير آندريه وكأنها فقدت حواسها، فقرر هذا دخول مخدع النوم، رأى ليز ممددة كما شاهدها منذ خمس دقائق وقد فارقتها الحياة. كانت تلك التعابير نفسها التي قرأها على وجهها اللطيف الصغير ذي الشفة المظللة بطيف من الزغب الأسود، والخدين الشاحبين، والنظرة الشاخصة الجامدة.
كان وجهها الميت الفتان المؤسي يقول: «إنني أحبكم جميعا حبا جما، ولم أسئ إلى أحد، وأنتم ماذا صنعتم بي؟»
وفي أحد أركان الغرفة، كان شيء صغير أحمر يهمهم ويصرخ بين يدي ماري بوجدانوفنا البضتين المرتعدتين.
بعد ساعتين من هذا الحادث، مضى آندريه إلى مخدع أبيه بخطوات صامتة، كان العجوز قد اطلع على كل شيء، وكان واقفا قرب الباب، فلما فتح أخذ عنق ابنه بيديه القاسيتين الهرمتين الشبيهتين بالكلابات، وراح يبكي كالطفل.
وفي ثالث يوم شيع جثمان الأميرة الصغيرة، وصعد الأمير آندريه فوق النعش ليودع زوجته، كانت قسمات وجهها محتفظة بذلك التعبير الخالد رغم عينيها المغمضتين: «آه! ماذا فعلتم بي؟» فأحس آندريه كأن شيئا قد تمزق في صدره، وشعر أنه مذنب، وأن خطيئته لا تغتفر، وخانته الدموع فلم يقدر على البكاء. وجاء الأمير العجوز بدوره يقبل اليد الشمعية الصغيرة الممدة فوق الأخرى باسترسال وهدوء، وكان الوجه؛ وجه الأميرة، يقول له: «آه! ماذا عملت بي؟ ولماذا؟» فأشاح الشيخ بأبصاره عنها في شيء من الغضب إزاء ذلك الاستفسار الصامت.
ومضت خمسة أيام أخرى فأقيم الاستعداد لتعميد الأمير الطفل نيكولا آندريئيفيتش. كانت المربية تمسك بقمط الذقن بينما كان القس يمسح بالزيت الكفين الصغيرتين وأسفل القدمين الحمراوين المغضنتين بريشة أوز.
كان الجد، وهو أشبين الطفل، يخاف أن يفلته من يده فيسقط على الأرض؛ لذلك فقد حمله حول أجران المعمودية، وكانت عبارة عن طست قديم من الحديد الأبيض (التنك) المبعوج، وأسلمه إلى الإشبينة التي لم تكن إلا الأميرة ماري. أما آندريه فكان الخوف يكاد أن يودي به لشدة قلقه على ابنه، وخوفه من أن يغرقوه في الطست أثناء العماد. كان ينتظر في الغرفة المجاورة ويترقب بلهفة نهاية الطقس الديني. ولما جاءته المربية به، راح يتأمله بسرور، وأخذ يهز رأسه برضى وارتياح لحديث المرأة التي أخبرته بأنهم عندما ألقوا في الطست بقطعة الشمع الملصق به خصلة من شعر الوليد، لبثت طافية تسبح على سطح الماء دون أن تنحدر إلى القاع.
1
الفصل العاشر
أم دولوخوف
نشط الكونت روستوف العجوز نشاطا كبيرا حتى استطاع أن يجعل المسئولين يتجاوزون عن اشتراك ابنه في مبارزة دولوخوف-بيزوخوف، وكان نيكولا ينتظر ذلك. والحقيقة أنه بدلا من أن تسحب منه رتبته عين ضابطا مساعدا لحاكم موسكو العام، وكان بحكم منصبه الجديد مرغما على البقاء في العاصمة، وهكذا تخلف عن مرافقة أسرته إلى الريف، وقضى الصيف كله في موسكو، وكان دولوخوف قد أبل من جراحه بفضل عناية أمه التي كانت تحبه حبا عميقا، فازدادت أواصر الصلة بينه وبين نيكولا توثقا خلال فترة نقاهته، وكانت أم دولوخوف العجوز ماري إيفانوفنا متأثرة بهذه الصداقة، فأحبت روستوف وأحلته من نفسها مكانا لائقا، وراحت تتحدث معه عن عزيزها فيديا، كانت تقول: «نعم، يا كونت، إنه نبيل جدا، وروحه سامية لا تتفق والقرن الحاضر الفاسد. إن أحدا لا يحب الفضيلة اليوم؛ إنها تكدر كل الناس وتزعجهم. خذ مثلا يا كونت؛ هل ما قام به بيزوخوف نبيل وحق؟ لقد كان فيديا يحبه من أعماق قلبه الكبير، وهو حتى هذه الساعة لم يتفوه بكلمة سيئة عنه. تذكر مشاكلهم في بيترسبورج وقصة ذلك الشرطي. إن الله وحده يعلم حقيقتها، لكنهما كانا مشتركين فيها معا، أليس كذلك؟ مع ذلك فقد تخلص بيزوخوف من النتائج. أما «فيدياي» العزيز فقد تحمل كل الوزر، والله يعرف وحده مبلغ الألم والشقاء الذي قاساه في محنته. ثم أعادوا إليه رتبته! إن البواسل والمواطنين المخلصين مثله قلة في الجيش! وهم في حاجة إلى أمثاله. ثم هذه المبارزة!
إنني أسألك يا كونت: هل حقيقة أن لهؤلاء الناس قلبا وشرفا؟ إنه يعرف أن فيديا ولدي الوحيد، مع ذلك فقد ورطه في ذلك النزاع وأطلق النار عليه دون أن ينبهه! ولحسن الحظ رفق الله بنا ولطف. وما هو سبب المبارزة؟ من الذي يخلو في عصرنا هذا من الدسائس والمكايد؟ فإذا كان يحس بالغيرة على زوجته، فلماذا لم يبد له ملاحظاته من قبل بدلا من أن يحتمل دأبه وزياراته المتكررة الكثيرة طيلة عام كامل؟ وهو إذ تحداه كان يظن أن فيديا لن يقبل التحدي؛ لأنه مدين له ببعض المال. يا لها من دناءة! يا لها من خسة! إنني أعرف تماما يا عزيزي الكونت أنك تفهم «فيدياي» حق الفهم؛ ولهذا السبب أحبك من كل قلبي. قلائل الذين يفهمونه؛ فلا تبتئس. إنه روح علوية سامية.»
وكان دولوخوف نفسه يحدث روستوف بشيء من هذا القبيل؛ الأمر الذي لم يكن منتظرا منه. كان يقول: «أنا أعرف أنهم يعتبرونني رجلا خبيثا، لكنني لا أبالي. إنني لا أريد أن أعرف أحدا إلا أولئك الذين أحبهم، وعندما أحب إنسانا فإن حبي يبلغ مبلغ افتدائه بدمي وروحي. أما الآخرون فإنني سأسحقهم جميعا إذا حاولوا الوقوف في سبيلي والتصدي لي. إن لي أما أعبدها ولا أستطيع إيفاءها حقها من التقدير، وثلاثة من الأصدقاء بينهم أنت. أما الباقي فإنني - كما ترى - لا أعتبرهم إلا بالقدر الذي أستطيع أن أفيد منهم، ويختلف تقديري لهم باختلاف النفع والضر، وهم جميعا مضرون كما يبدو، وخصوصا النساء. نعم يا عزيزي، إنني إذا وجدت حقيقة رجالا نبلاء القلوب، رفيعي العواطف، مهذبين، فإنني بالمقابل لم أجد بعد بين النساء، ابتداء من الكونتيسات وحتى الطاهيات، إلا مخلوقات برسم البيع. إنني لم أعثر بعد على ذلك الطهر الملائكي والإخلاص اللذين أنشدهما عند المرأة، وإذا وقع مثل هذا الاكتشاف ووجدت المرأة المنشودة؛ فإنني سأقدم حياتي هبة لها، أما تلك ال...! - وأشار بيده إشارة احتقار - صدقني كذلك إنني شديد التعلق بالحياة لسبب واحد؛ وهو اكتشاف العصفور النادر ذات يوم، المخلوق السماوي السامي الذي سيطهرني ويرفعني ويسمو بي ويبدل نفسيتي، لكنك لا تفهمني.
فأجاب روستوف - وهو شديد الإعجاب والافتتان بصديقه الجديد: «بل أفهمك تماما.»
جاء الخريف وعاد آل روستوف إلى موسكو، وفي أول الشتاء عاد دينيسوف بالمثل ونزل عندهم. كان ذلك الشتاء من عام 1806 أول شتاء قضاه نيكولا روستوف في موسكو، وكان أروع وأسعد شتاء عرفته تلك الأسرة. ولقد اجتذب وجود نيكولا عددا كبيرا من الشباب، وكانت فيرا قد بلغت العشرين وأصبحت جميلة، وسونيا السادسة عشرة وملء إهابها اللطف والجمال الذي لم يتفتح بعد. أما ناتاشا فأضحت نصف طفلة نصف آنسة، تجمع بين عبث الطفلة وفتنة الشابة الفتية.
كان منزل آل روستوف في تلك الأثناء مشبعا بجو غرامي تنفرد به البيوت الحافلة بالفتيات الجميلات الناضجات، وكان الشبان الذين يدخلون ذلك البيت وتطالعهم تلك الوجوه المشرقة المتعطشة المتقبلة كل أنواع الإيحاء، الباسمة الطروب من السعادة ولا شك، ويرون تلك الحركة الدائمة، وذلك النشاط المتقد، ويصغون إلى الأغاني والموسيقى وثرثرة نساء في مقتبل العمر يحدوهن الأمل والإرادة الطيبة، تلك الثرثرة الفارغة إلا من تودد وعطف؛ كان أولئك الشبان يشاطرون شباب آل روستوف ذلك الترقب للحب والسعادة الذي يعيشون فيه.
وكان دولوخوف، وهو أول الوافدين إلى تلك الدار بتسهيل من نيكولا، يحوم حول كل من في الدار باستثناء ناتاشا، التي كادت أن تشتجر مع أخيها نيكولا بسببه. كانت ناتاشا تؤكد أن هذا الرجل يحمل وحده كل الخطأ في مبارزته مع بيير، وأنها تنفر منه لأنه متصنع ومكروه. كانت تصرخ بعناد في وجه أخيها: «إنني لا أريد فهمه ولا يهمني ذلك. لنأخذ - على سبيل المثال - صديقك دينيسوف؛ إنه فاسق حقا، وكل ما يريد المرء أن يقوله عنه يمكن أن يكون صحيحا، لكن ذلك لا يمنعني من أن أحبه، وبالتالي أن أفهمه. لست أدري كيف أوفق في إفهامك هذا الرأي! إن الآخر كل شيء عنده قائم على تدبير سابق، وهذا ما يزعجني فيه وينفرني منه، بينما دينيسوف ...»
فيجيبها نيكولا: «إن دينيسوف يختلف اختلافا كليا. يجب فهم روح هذا الشاب ومعرفة ذلك القلب الذي يضمه بين جوانحه، وكيف يتصرف حيال أمه!»
كان يريد بهذا القول أن يلمح بأن دينيسوف لا يعتبر شيئا مذكورا إذا قيس بدولوخوف. قالت ناتاشا: «إنني أجهل كل هذا، لكنني أشعر بالارتباك في حضرته. هل تعرف أنه مفتون بسونيا؟» - «يا لها من حماقة!» - «بل إنني متأكدة، وسوف ترى.»
والحقيقة أن ناتاشا كانت محقة في تخمينها؛ أصبح دولوخوف - وهو الذي لم يكن يحب عشرة النساء - ضيفا مواظبا في دار روستوف، حتى إن كل السكان أدركوا إدراكا ضمنيا أن تردده المنظم ما كان إلا من أجل سونيا، وسونيا نفسها - رغم أنها لم تجرؤ حتى تلك اللحظة على التفوه بحرف واحد من ذلك - كانت تعرف حقيقة نواياه، ويتضرج وجهها خجلا كلما ظهر دولوخوف في البهو.
كان دولوخوف يتناول طعامه غالبا لدى آل روستوف، ولا يتخلف عن أية حفلة تقام حتى حفلات الأحداث الخاصة بهم، التي كان أستاذ الرقص إيوجل يقيمها أحيانا، والتي كانت النسوة من آل روستوف يحضرنها بلا انقطاع. كان يظهر كثيرا من العناية والرعاية إزاء سونيا، ويغمرها بنظرته المغرية التي ما كانت تتذكرها دون أن تندفع الدماء إلى وجهها حياء، بل إن الكونتيس نفسها وناتاشا أيضا كانتا تشعران بمثل شعورها حيال تلك النظرة. كان ذلك الرجل القوي الغريب الشاذ يتأثر بشدة تأثرا لا يقاوم بفتنة تلك السمراء الصغيرة الجذابة التي كان قلبها مشغولا في مكان آخر.
وأدرك نيكولا أخيرا - دون أن يحدد الغاية الحقيقية من ذلك - أن هناك صلة ما بين دولوخوف وسونيا، فكان يحدث نفسه وهو يفكر في أخته وابنة عمه: «آه! رباه! إن هاتين الخبيثتين لا تقضيان يوما دون أن تغرما بأحد!» ولما كان يشعر أنه على غير ما يرام في صحبة دولوخوف وسونيا - ومن أن يعرف السبب - فقد راح يقضي جل وقته خارج الدار.
ومنذ خريف عام 1806، عاد حديث الحرب إلى الألسن؛ الحرب مع نابليون، فكان حديثا أكثر انتشارا وحماسة من العام السابق. تقرر إجراء تجنيد يعادل عشرة على كل ألف للجيش العامل، وتسعة على كل ألف لبقية الأسلحة الفنية والمهمات الحربية. وفي كل مكان كانت اللعنات الدينية والحرمان الكنيسي يسلطان على بونابرت، فلم تكن موسكو لتتحدث إلا عن معاودة القتال القريب. ولولا عزيزهم نيكولا لما علق آل روستوف على تلك الأخبار والاستعدادات إلا أهمية سطحية، لكن الشاب كان يرفض بإلحاح البقاء في موسكو، كان ينتظر انتهاء مأذونية دينيسوف بفارغ صبر ليعود معه إلى القطعة بعد أعياد الميلاد ، غير أن ذلك الرحيل المنتظر لم يبدل شيئا من أفراح روستوف وعاداته اليومية، بل إنه كان على العكس يثيره ويشحذ همته، وكان لذلك النبأ رد فعل لطيف؛ ذلك أن الدعوات انهالت عليه بين حفلات راقصة وولائم، حتى إن ذويه باتوا لا يرونه إلا غرارا.
الفصل الحادي عشر
غرام دولوخوف
تناول نيكولا طعام الغداء ظهر اليوم الثالث من أيام عيد الميلاد مع أفراد أسرته بصورة استثنائية. كان ذلك الغداء بمثابة وليمة الوداع؛ لأن رحيل نيكولا بات مقررا عقب اليوم الأخير مباشرة، وكانت المائدة تضم عشرين آكلا بينهم دولوخوف ودينيسوف.
لم يحدث من قبل أن أشبع الهواء في منزل آل دينيسوف بمثل ذلك الحب. كان ذلك الجو يوحي للمرء أن «أطبق على هذه اللحظات من السعادة، وأحبب، ودع الآخرين يحبونك. إن الحب هو الأمر الوحيد ذو الشأن والقيمة، وهو وحده الذي يشغلنا؛ لأن كل ما عداه ليس إلا سخفا وتحريفا.»
وصل نيكولا كعادته قبل البدء في الطعام بلحظة وجيزة، بعد أن أنهك جياد عربتين طافتا به على التتابع بين دور أصدقائه، دون أن يستطيع مع ذلك تلبية كل الدعوات ولقاء كل الراغبين في رؤيته، ولم يكد يدخل غرفة الطعام حتى شعر بالجو العاطفي المخيم على الموجودين، ولمس ارتباك بعضهم وانزعاجهم، وكانت سونيا والكونتيس وناتاشا، وكذلك دولوخوف، يبدون على شيء كثير من الانفعال، فأدرك أن أمرا ما قد وقع قبل الطعام، وقدر أن يكون ذلك الأمر قد وقع بين سونيا ودولوخوف. ولما كان رقيق القلب حساسا، فقد سعى إلى تجنبها بكثير من العطف والمودة، وكان مقررا إقامة حفلة راقصة يحييها أستاذ الرقص «إيوجل»، ويشترك فيها تلاميذه من الجنسين.
قالت له ناتاشا: «نيكولا يا عزيزي، هل تأتي إلى دار إيوجل؟ إنه يعتمد على مجيئك كل الاعتماد، ثم إن فاسيلي دميتريش - أي دينيسوف - قد وعد بالحضور.»
فهتف دينيسوف الذي جعل من نفسه رفيقا لناتاشا وهو قرير العين مطمئن النفس: «وهل هناك مكان لا أذهب إليه بناء على أمر الكونتيس؟ سوف أرقص عن طيب خاطر «خطوة الشال» لأدخل البهجة على نفسها .»
فقال نيكولا: «سأذهب إذا وجدت دقيقة فراغ في وقتي؛ لقد وعدت آل آرخاروف بحضور حفلتهم. وأنت؟»
كان هذا السؤال موجها إلى دولوخوف، لكنه أدرك بعد فوات الأوان أنه كان من الأصوب عدم طرح ذلك السؤال.
أجاب دولوخوف بجفاء: «نعم، يحتمل أن أحضر.»
وتاهت نظرته إلى سونيا فلمستها برفق، ثم عادت تنحط على روستوف الذي قرأ فيها مثل ذلك التعبير الذي شاهده من قبل، عندما كان دولوخوف يحدق في وجه بيير إبان تلك الوليمة المشهودة.
حدث نيكولا نفسه: «لا شك أن أمرا قد وقع!» وتأكدت ظنونه بسرعة عندما رأى دولوخوف ينسحب فور فراغ المدعوين من الطعام. استدعى ناتاشا وسألها عما حدث، قالت له وهي تهرع إليه: «كنت أبحث عنك بذات الوقت. لقد أخطرتك من قبل ولكنك لم تصدقني حينذاك. لقد طلب إلى سونيا أن تتزوجه.»
كانت ناتاشا تتحدث بلهجة منتصرة. أما نيكولا فإنه على الرغم من قلة اهتمامه بأمر سونيا في المدة الأخيرة، شعر بيد خفية تعصر قلبه عند سماع هذا النبأ. وكان دولوخوف بالنسبة ليتيمة مثل سونيا «صفقة» ملائمة، بل ورابحة من بعض وجهات النظر، وكان يستحيل رفضه في نظر الكونتيس والآخرين. وهكذا فإن نيكولا هم بالقول مدفوعا بالإحساس الأول: «هيا، ليكن! لتنس وعود الطفولة ولتعرب عن موافقتها.» لكنه لم يجد الوقت للنطق بهذا القول.
أردفت ناتاشا بعد فترة صمت: «تصور أنها رفضت؛ لقد رفضت رفضا جازما، بل إنها قالت له بأنها تحب شخصا آخر غيره.»
فقال نيكولا في سره: «ما كنت أتوقع منها غير ذلك!» وأردفت ناتاشا قائلة: «ولقد ألحفت عليها أمنا وتوسلت إليها أن تقبل به ولكن عبثا، وأنا واثقة من أنها لن تتراجع عن عزمها.»
فقال نيكولا بانزعاج: «توسلت إليها أمي!» - «نعم، أصغ يا نيكولا ولا تغضب. إنني أعرف أنك لن تتزوجها. كلا، إنك لن تتزوجها وأنا متأكدة من ذلك. إن الله يعرف السبب، لكنني واثقة مما أقول.»
فاعترض نيكولا بقوله: «هذا ما لا يمكن معرفته. لكن يجب أن أتحدث معها.»
وأردف مبتسما: «إنها فاتنة سونيا الصغيرة هذه!»
وقفزت ناتاشا إلى عنق أخيها تطوقه وانطلقت راكضة.
لم تمض دقائق حتى دخلت سونيا مرتبكة خجلى وعلى وجهها أمارات المتهم المذعور. اقترب نيكولا منها وقبل يدها. كانت تلك أول مرة يلتقيان فيها منفردين منذ عودة نيكولا ويتحدثان فيها بصراحة.
شرع نيكولا يقول بصوت وجل أخذ يسترد ثباته رويدا رويدا حتى أصبح جريئا: «صوفي، صوفي، هل يعقل أن ترفضي مثل هذا العرض المغري؟ إنه شاب ممتاز نبيل القلب، ثم إنه صديقي.»
فبادرت سونيا تقاطعه قائلة: «لقد رفضت وانتهى.» - «إذا كان رفضك بسببي، فإنني أخشى من جانبي أن ...»
ومن جديد بادرت تقاطعه قائلة وهي تستعطفه بنظرة: «نيكولا لا تقل لي هذا.» - «بل يجب أن أقوله، لعله لون من الغرور من جانبي، ولكن يجب أن أقوله: إذا كنت ترفضين دولوخوف من أجلي؛ فإنني أضطر عندئذ إلى مفاتحتك بكل الحقيقة. إنني أحبك ولا شك، وأومن أن أيا في العالم ...»
فقالت سونيا مضرجة الوجه: «وهذا يكفيني.» - «صحيح، لكنني عشقت أكثر من مرة، وهذا يتكرر الآن أيضا رغم أنني لا أشعر بالاطمئنان والود مثل شعوري بهما لما أكون معك، ثم إن أمي لا تريد أن أتزوجك. وبالاختصار، فإنني لا أتعهد بشيء، وأطلب منك أن تفكري في عرض دولوخوف.»
ونطق باسم صديقه بشيء كبير من العناء، فقالت سونيا: «لم تقول لي هذا؟ إنني لا أطلب شيئا؛ إنني أحبك كأخ وسأحبك دائما؛ فماذا ينبغي لي أكثر من ذلك؟» - «إنك ملك طاهر، وأنا لست جديرا بك، وكل ما أخشاه هو ألا أستطيع الإجابة على طول انتظارك وصبرك.»
وقبل يدها مرة أخرى.
الفصل الثاني عشر
حفلة الأحداث
كانت حفلات إيوجل الراقصة التي يقيمها من حين إلى آخر أكثر الحفلات تسلية في موسكو كلها. هذا ما كانت تقوله الأمهات وهن يرقبن «أكبادهن» يتمرنون على إجادة الخطوات التي تعلموها، وكذلك الصغار أنفسهم بين بنين وبنات كانوا جميعهم من هذا الرأي، وكانوا يجدون متعة كبيرة في تلك الحفلات، وكان الشباب لا يخالفون هذا الرأي، فيحضرون تلك الحفلات باسم المسايرة، فيتسلون فيها أكثر من أي مكان آخر. وقد تم عقد زواجين اثنين في تلك الحفلات هذا العام؛ ذلك أن الأميرتين الجميلتين جورتشاكوف وجدتا هناك زوجين صالحين، وارتفعت أسهم تلك الحفلات وذاع صيتها حتى بلغ الأوج، وكان فيها شيء خاص جذاب لا يتوفر في أمكنة أخرى؛ ذلك أن تلك الحفلات كانت تقام في جو لا يعكره وجود رب منزل أو ربة دار.
لقد كان «إيوجل» طيب القلب يجري هنا وهناك كالريشة الخفيفة، يقدم الانحناءات والاحترامات حسب كل ألوان فنه وقواعده، ويتقبل أساليب مدعويه كلهم، خصوصا وأن كل من كان يجتمع هناك كان ولوعا بالرقص، شغوفا بانتهال المسرات البريئة، كما هو حال الفتيات الصغيرات دائما اللاتي لم يتجاوزن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من أعمارهن، ويرتدين لأول مرة أثوابا طويلة. كانت الفتيات كلهن - ما عدا استثناءات نادرة - جميلات فاتنات، بسبب الحماس والحيوية التي تشتعل في كيانهن، وابتساماتهن المشرقة، ووميض عيونهن، وكان خيرة تلاميذه يحاولون أحيانا رقصة «خطوة الشال» التي كانت شديدة الشيوع، لكن ناتاشا كانت أكثر التلاميذ إجادة لهذه الرقصة، وأبعدهم شأوا، لكن الرقصات المقررة تلك الليلة كانت محصورة في «الإيكوسية»، و«الإنجليزية»، و«المازوكا» التي بدأت تحتل مكانها في الذوق العام.
وكان إيوجل قد استعار إحدى صالات الكونت بيزوخوف لإقامة حفلته، فكانت حفلة ناجحة كل النجاح كما شهد الجميع بذلك. كانت الفتيات الجميلات كثيرات تلك الليلة، وكانت الآنستان الممتلئتان سعادة ونشاطا تعتبران في عداد أجمل الجميلات، وكانت سونيا شديدة الفخار بالطلب الذي تقدم به دولوخوف إليها، وبرفضها ذلك الطلب، وبتفاهمها مع روستوف بعد ذلك؛ الأمر الذي كان يغمرها بالسعادة، ويجعلها تدور حول نفسها وتتيه في لون من التسامي العلوي الذي لا يشعر بمثله إلا المحبون، فما كانت تمكن الوصيفة من وضع القلنسوة على رأسها إلا بعد مزيد من العناء لكثرة هياجها وحركتها. لقد كانت فرحة جنونية تغمر نفسها، وحتى ليقال إنها تبدلت تبدلا كليا. أما ناتاشا فإنها لم تكن أقل افتخارا من سونيا؛ لأنها كانت سترتدي ثوبا طويلا لأول مرة في حياتها، وستمضي إلى حفلة راقصة حقيقية، فكانت هي الأخرى تشعر بسعادة جامحة ولا تستقر على حال.
لم تكد ناتاشا تدخل القاعة حتى استمالت لميلها الغرامي. كانت لا تميز شخصا بعينه، بل تعجب بكل الناس معا؛ فإذا وقعت أبصارها على شخص ما عشقت ذلك الشخص، بانتظار تحول أبصارها إلى آخر وهكذا ...
قالت تحدث سونيا كلما التقتا خلال الحفلة: «آه! كم هذا بديع!»
وكان نيكولا ودينيسوف يروحان ويجيئان ويمنحان الراقصتين نظرات حانية واقية، قال دينيسوف: «إنها فاتنة، سوف تصبح آية في الجمال.» - «من هي؟»
فأجاب هذا بعد صمت: «الكونتيس ناتالي، إنها ترقص بمهارة، يا للظرف والملاحة!» - «عمن تتكلم؟»
فأجاب دينيسوف بضجر: «عن أختك، ألا تفهم!»
وابتسم روستوف.
وجاء إيوجل يحدث نيكولا قائلا: «يا عزيزي الكونت، إنك واحد من خيرة تلاميذي، يجب أن ترقص. انظر كم من فتاة جميلة في هذا الحفل!»
وتقدم بمثل ذلك الرجاء إلى دينيسوف الذي كان فيما مضى تلميذا له كذلك، فقال هذا: «كلا، كلا يا عزيزي، سأكون كثير الأخطاء. لم أحسن الانتفاع بدروسك، ألا تذكر؟»
فبادر إيوجل قائلا قصد التعزية والترفيه: «آه! كلا، لقد كنت ساهم الفكر، لكن استعداداتك لم تكن رديئة. نعم، نعم، إن استعداداتك كانت طيبة.»
عزفت الموسيقى المازوكا التي كانت حديثة العهد في البلاد، ونزل نيكولا على رغبة إيوجل وإلحاحه فخاصر سونيا. أما دينيسوف فقد مضى يجلس إلى جانب النساء المسنات متكئا على حسامه، ضابطا الإيقاع بقدمه، يحدثهن أحاديث ماجنة طريفة وهو لا ينفك عن مراقبة الراقصين، وكان إيوجل أول «زوج» بين المتخاصرين يراقص ناتاشا، التي كانت خير تلميذة عنده ومبعث فخره. كان ينزلق بخفة فوق خفيه، ويندفع خلال القاعة مع راقصته المرتبكة التي كانت رغم ذلك تلاحق خطاه، وتنقل خطاها بتيقظ وانتباه. ولم يكن دينيسوف يحول أبصاره عنها. أما عن طريقته في ضبط الإيقاع بحسامه، فإنها كانت تدل على أنه كان عازفا عن الرقص بملء إرادته، وليس بسبب جهله كما قد يتبادر إلى الأذهان. وبينما كان الأستاذ يقوم بحركة تصويرية، نادى دينيسوف روستوف الذي كان قريبا منه في تلك اللحظة، وقال له: «ليس هذا بالمازوكا البولونية، كلا ليست هذه المازوكا. على كل حال إنها ترقص بإبداع.»
ولما كان نيكولا يعرف أن دينيسوف يستطيع أن يرقص المازوكا في بولونيا نفسها، وأن يستأثر بإعجاب الموجودين، فقد هرع إلى ناتاشا وقال لها: «اذهبي إلى دينيسوف واطلبي إليه أن يراقصك؛ إنه لا يبارى في المازوكا.»
وجاء دور ناتاشا فنهضت وراحت تنزلق على حذاءيها الصغيرين المزينين، والدم يتصاعد إلى وجنتيها تحت وطأة الأنظار التي كانت تحدق فيها من كل جانب، حتى بلغت ركن دينيسوف. رآهما نيكولا يتناقشان برهة؛ إذ كان دينيسوف يرفض بلطف - على ما يبدو - وناتاشا تصر، فهرع إلى نجدتها. كانت ناتاشا تقول: «أرجوك يا فاسيلي دميتريش، تعال، أرجوك.» - «اعفيني يا كونتيس.»
وهنا تدخل نيكولا قائلا: «هه يا فاسيا، لم لا تجاريها؟»
فقال دينيسوف مازحا: «سيقولون إنهم يلاطفون قطهم.»
1
ووعدته ناتاشا: «سأغني لك كل الأمسية.»
فقال دينيسوف وهو ينزع حسامه من منطقته: «آه! يا للممالقة! إنها تتصرف بي وفق هواها.»
خرج من صفوف المقاعد وأمسك بقوة على يد مراقصته، ورفع رأسه ومد ساقه بانتظار الإيقاع. لقد كان دينيسوف يستطيع إخفاء عيب قامته في مناسبتين: عندما يكون على صهوة جواده، وعندما يرقص المازوكا؛ ففي هاتين المناسبتين كان يبدو بمظهر الشاب القوي البهي الذي يريد أن يكونه، ولما أزف دوره بعث إلى مراقصته بنظرة فكهة ومنتصرة معا، وقام بحركة عنيفة من قدمه، وقفز كالكرة المرنة ساحبا معه ناتاشا في غمار الرقصة. كان يجتاز على قدم واحدة نصف مساحة البهو دون أن تصدر عنه أية ضجة، أو يند عنه صوت يذكر، ودون أن يتظاهر برؤية المقاعد المصفوفة قبالته، فكان يظن أنه سيصطدم بتلك المقاعد، لكنه فجأة كان يتوقف على كعبيه بين رنين مهمازيه وصوت ارتطام كعبيه بالأرض، فيباعد بين ساقيه ويستعين برشاقة قدميه ليستدير دورة عنيفة سريعة، ويلحق بحلقة الراقصين وقدمه اليمنى تضرب دون هوادة بالقدم اليسرى.
وكانت ناتاشا تتابع كل حركة من حركاته وتترقبها وتستسلم لفارسها مسلوبة الإحساس . كان يجعلها تدور حول نفسها تارة ممسكا بها بيمناه أو يسراه، وطورا يركع على ركبتيه ويجعلها ترسم حلقات حوله، ثم ينتصب فجأة ويعود إلى جريه السريع المغضب وكأنه يريد اجتياز القاعات كلها دفعة واحدة، ليتوقف فجأة قبل أن يدرك المتفرج غرضه، فيقوم بحركة تصويرية غير منتظرة، ولما قام بحركته الدائرية الرائعة الكبيرة موصلا ناتاشا إلى مقعدها الذي كانت جالسة عليه؛ إشارة إلى انتهاء الرقصة، لم يكن لهذه من صفاء الذهن ما يمكنها من الانحناء أمامه لشكره كما يقتضي الأمر، بل كانت تحدق في وجهه بعينيها الباسمتين المذهولتين وكأنها تنظر إلى شخص جديد.
غمغمت بدهشة: «ما معنى هذا؟»
وعلى الرغم من ادعاءات إيوجل بأن هذه ليست المازوكا الحقيقية، فإن عظمة رقص دينيسوف استأثرت بإعجاب كل الحاضرين، وهرعت الراقصات إليه يطلبن مراقصته بشغف، واستعاد الكهول ذكريات شبابهم في بولونيا، والوقت الطيب الذي قضوه. أما دينيسوف فقد كان مضرج الوجه يجفف عرقه بمنديله، وكان يجلس قرب ناتاشا فلم يفارق مجلسها طيلة الحفلة.
الفصل الثالث عشر
حفلة دولوخوف
لم يظهر دولوخوف في منزل آل روستوف بعد تلك الليلة، رغم مضي يومين متتاليين عليها، وأخيرا وبعد ثلاثة أيام أخر، وصلته من دولوخوف الرقعة التالية:
لما كنت لا أزمع الحضور إلى داركم للأسباب التي تعرفها، وكنت سألتحق بالجيش قريبا؛ لذلك فإنني أقيم حفلة عشاء هذه الليلة لوداع أصدقائي، فتعال إذن إلى فندق إنجلترا.
خرج روستوف من الملهى الذي رافق أسرته إليه مع دينيسوف، وقصد فندق إنجلترا حوالي الساعة العاشرة، وهناك اقتاده الخدم إلى أحسن غرفة كان دولوخوف يشغلها تلك الليلة. شاهد روستوف حوالي عشرين مدعوا يزدحمون حول مائدة مثقلة بأوراق النقد والقطع الذهبية، وكان دولوخوف جالسا بين شمعتين مضاءتين يوزع ورق اللعب. شعر نيكولا بشيء من الرهبة للمقابلة الأولى التي ستقع بينه وبين صديقه الذي لم يره منذ تلك الليلة التي رفضت فيها سونيا طلبه، تقابلت نظرته بنظرة دولوخوف المتقدة الباردة منذ أن وطئت أقدامه الحجرة وكأن هذا كان في انتظاره. قال دولوخوف: «لقد مضى زمن طويل لم نتقابل خلاله. شكرا على مجيئك. سوف يصل إيليوشا مع مغنيه حال فراغي من هذا «البنك».»
فقال روستوف وقد تضرج وجهه: «لقد مررت بدارك مرتين أو ثلاثا فلم أجدك.»
وقال دولوخوف دون أن يلقي بالا إلى تلك الملاحظة: «يمكنك المراهنة إذا شئت.»
تذكر نيكولا فجأة حديثا مثيرا دار بينه وبين دولوخوف ذات يوم، لقد قال له هذا: «ليس إلا الحمقى الذين يلعبون على السعادة الصغرى.»
أردف دولوخوف باسما وكأنه يقرأ ما في طويته: «هل يخيفك أن تقامر معي؟»
ومن خلال تلك الابتسامة برزت لعيني روستوف حالة صديقه النفسية التي كانت تسيطر عليه دائما كلما مر به وقت طويل دون تبديل، فتتوق نفسه - كما حدث يوم حفلة النادي الإنجليزي - إلى الخروج من ذلك الجمود بتصرف غريب شاذ، كان غالبا شديد القسوة أيضا.
وكان نيكولا غير منشرح الصدر، فراح يتساءل عن الدعابة التي سيرد بها على صاحبه عندما حدجه هذا في أعماق عينيه، وقال وهو يضغط على الألفاظ ويقرعها قرعا؛ ليسمع الموجودون حديثه: «أتذكر ما كنا نقوله ذات يوم من أن الحمقى وحدهم هم الذين يلعبون بالسعادة الصغيرة؟ ينبغي أن يقامر الإنسان بكل شيء، وهذا ما سأحاوله الآن.»
فراح روستوف يتساءل: «ترى هل أجرب حظي فقط أم أقامر بكل شيء؟»
أعقب دولوخوف قائلا وهو يمزق الورقة المحيطة بورق اللعب: «ثم إنك تحسن صنعا إذا امتنعت عن اللعب. «بنك» أيها السادة.»
وبعد أن نثر دراهمه أمامه راح يقطع الورق ويوزعه. جلس روستوف بجانبه وامتنع بادئ الأمر عن الرهان، فألقى عليه دولوخوف نظرة وقال: «إذن ألا تلعب؟»
والغريب في الموضوع أن نيكولا شعر كأنه مرغم على اللعب، فأخذ ورقة ووضع عليها مبلغا تافها؛ قال مفسرا: «لست أحمل مبلغا معي.» - «سأقرضك.»
وضع روستوف خمسة روبلات على ورقة فخسرها، فكرر العمل وخسر كذلك، وهكذا حطم دولوخوف عشر ورقات متتالية كان روستوف يقامر عليها. وبعد أن استأثر ب «البنك» فترة قال: «أيها السادة، أرجوكم أن تضعوا نقودكم على الورقة بالذات، وإلا فإنني قد أخطئ في الحسابات .»
فاحتج أحد اللاعبين بقوله: «نحن قوم موثوقون على ما أظن.»
فأعقب دولوخوف قائلا: «لا شك، لكنني أخشى أن أخطئ. أرجو إذن أن تضعوا نقودكم على الورقة.» وأردف يحدث روستوف: «أما أنت فلا تنزعج؛ سوف نسوي الأمر بيننا فيما بعد.»
استمر اللعب، واستمر الخادم يصب الشمبانيا في الكئوس.
تحطمت كل أوراق روستوف فخسرت، وارتفع دينه إلى ثمانمائة روبل. هم أن يغامر بهذا المبلغ على ورقة جديدة، لولا أن أمسك عندما كان الخادم يصب له الشمبانيا، وقرر أن يعود إلى مبلغه العادي - عشرين روبلا - الذي ما برح يقامر به تباعا.
قال له دولوخوف وهو يتظاهر بأنه لا ينظر إليه: «قامر بالمبلغ كله، ألا ترى أنني أخسر مع الجميع إلا أوراقك أنت؛ فإنني «أحطمها» دائما! أتراك تخاف مني مثلا؟
خضع روستوف للإيحاء. التقط من الأرض ورقة «السبعة الكبا» من الأوراق الممزقة - وقد ظلت ذكرى تلك الورقة في مخيلته زمنا طويلا - وكتب على ظهرها رقم «800» بأحرف معتدلة وبخط جميل، ثم ازدرد كأس الشمبانيا الساخنة التي كانوا في تلك اللحظة يطوفون بها على الضيوف، وابتسم لدولوخوف ردا على جملته وانتظر واجف القلب وعيناه شاخصتان إلى يدي «البانكيه» متأملا أن يقلب له البنك رقم «7». لقد كان ربح تلك الورقة «السبعة الكبا» أو خسارتها يشكل بالنسبة إليه خطورة كبيرة؛ إذ إن إيليا آندريئيفيتش رغم عدم إمساكه على ولده وتقتيره، طلب منه يوم الأحد المنصرم أن يقتصد في نفقاته، وأعطاه ألفي روبل قائلا إنه لن يستطيع إمداده بمبلغ آخر قبل شهر آيار المقبل لأسباب وجيهة.
وكان نيكولا قد أكد له حينئذ أن ذلك المبلغ سيكفيه لنفقاته حتى الربيع المقبل، مهما بلغت تلك النفقات من إفراط، وأقسم له بكل الآلهة أنه لن يطلب منه شيئا حتى ذلك التاريخ، وهو الآن بعد أن خسر ثمانمائة روبل لم يبق له من مجموع نقوده إلا ألف ومائتا روبل فقط. وكان مصير تلك الروبلات الثمانمائة متوقفا على تلك «السبعة الكبا»؛ لأنه ما كان سيخسر ألفا وستمائة روبل فحسب، بل إنه سيخون الوعد الذي قطعه على نفسه؛ ولهذا كله كان قلقه عظيما وهو يرقب يدي دولوخوف. راح يحدث نفسه قائلا: «هيا، أعطني هذه الورقة وأسرع لأمضي إلى حيث سأتناول الطعام مع دينيسوف وناتاشا وسونيا، وأقسم غير حانث هذه المرة على أنني لن أقرب الورق بعد اليوم أبدا.»
وفي تلك الأثناء، خطرت على باله أتفه الحوادث التي مرت عليه في حياته العائلية: دعابات بيتيا وتبجحاته، والأحاديث مع سونيا، وثنائي الغناء مع ناتاشا، وموقفه مع أبيه، بل وتقلباته فوق سريره الوثير، وبدت في خياله بهجة تلك السعادة الماضية الضائعة التي يحسن التمسك بها والإبقاء عليها بكل قوة ووضوح، وما كان يتقبل أن يكون مصيره الآن مرتبطا بصدفة سخيفة تجعل «سبعة» إذا جاءت إلى اليمين، أو سقطت إلى اليسار تعكر عليه صفو حياته، وتحرمه ذلك اليمين الذي استعاده في خياله بكل تفاصيله ودقائقه؛ لتغمره في جحيم الأمواج السيئة المجهولة منه. كلا، إن ذلك لا يمكن أن يكون. مع ذلك، فقد كان يتابع بقلق كل حركة من حركات يدي دولوخوف الحمراوين العظميتين، اللتين كان الشعر الذي يغطي ساعديهما ظاهرا عند المعصمين، تضعان الورق على المائدة لتمسك إحداهما بالغليون، والأخرى بالكأس؛ كأس الشمبانيا.
كرر دولوخوف قوله: «إنك إذن لا تخاف من اللعب معي، أليس كذلك؟»
وأسند ظهره إلى مقعده، وأنه سيقص على الحاضرين قصة ممتعة، وهو مستلق في جلسة مريحة، وغمرت شفتيه ابتسامة بطيئة وقال: «نعم أيها السادة، لقد تلفظت مرة بقول مفاده أنني أعتبر غشاشا في اللعب في موسكو؛ لذلك فإنني أنصحكم أن تكونوا على حذر.»
فقال روستوف: «هيا، وزع الورق.»
فأجاب دولوخوف وهو يعود إلى الورق فيمسك به والابتسامة لا تفارق شفتيه: «آه، من نساء موسكو العجائز!»
ورفع يديه إلى شعره. لقد كانت السبعة التي هو في مسيس الحاجة إليها أول ورقة من الأوراق، وبذلك لم تصل إليه، ومعنى ذلك أنه خسر أكثر مما كان يستطيع أن يدفع.
فقال له دولوخوف وهو يحدجه بطرف عينه: «لا تجزع، هه!»
وعاد يوزع الورق من جديد.
الفصل الرابع عشر
خسارة روستوف
بعد ساعة ونصف الساعة ، كان معظم اللاعبين في غرفة دولوخوف لا يقامرون إلا شك ليا. لقد تركز اللعب كله في روستوف وحده. لقد بلغ دينه عمودا طويلا من الأرقام بلغ مجموعها عند جمعها أكثر من عشرة آلاف روبل، بعد أن كان لا يتجاوز الألف والستمائة روبل، بل إن رقم عشرة آلاف كان منذ حين، أما الآن فإنه ارتفع - ولا شك - إلى خمسة عشر ألفا أو أكثر. والحقيقة أن المجموع تجاوز العشرين ألف روبل. توقف دولوخوف عندئذ عن الإصغاء إلى أقوال الآخرين، وأمسك عن سرد القصص، وراح يراقب كل حركة من حركات روستوف ويحصي مجموع الحساب بعينه. لقد قرر الاستمرار في اللعب حتى يصل المبلغ إلى ثلاثة وأربعين ألف روبل، وكان روستوف متكئا على المائدة ورأسه بين يديه، وأمامه الأرقام تغطي المائدة الملوثة بالخمر المراقة والمحملة بأوراق اللعب.
كان شعور مسيطر طاغ مستوليا عليه: هاتان اليدان، هاتان اليدان الحمراوان العظميتان اللتان يظهر الشعر عند رسغيهما، هاتان اليدان اللتان كان يحبهما ويمقتهما بنفس الوقت كانتا تجعلانه تحت رحمتهما. «ستمائة روبل، آس، مضاعف، تسعة ... لم يعد هناك أمل في استعادة الخسارة! آه! كم كنت أتسلى عندك! «شاب» على «صفر»، لكن كلا، بالله! لم يعاملني بهذا الشكل.»
كان إذا هم بالمساهمة بمبلغ كبير تهرب منه دولوخوف وحدد بنفسه المبلغ الذي يقبل المجازفة به، وكان روستوف يستنجد بالله محاولا الظهور بمظهر الهادئ، وكان ابتهاله يشبه ذاك الذي رفعه بخشوع إلى الله عندما كان في معركة آمستيتين. كان يتصور حينا أن ورقة «كذا» الأولى من رزمة الأوراق التي كانت توزعها اليدان الحمراوان قادرة على إنقاذه، وأخرى كان يعد خيوط الخرج على سترته ويقامر على الورقة التي تتساوى مع عددها، آملا أن يستعيد كل خسارته دفعة واحدة. كان تارة يستجدي الإلهام من وجود الآخرين، وطورا يتفحص وجه دولوخوف الذي غدا جامدا متحجرا، محاولا سبر أعماقه ومعرفة نواياه. «رباه! إنه يعرف مع ذلك معنى هذه الخسارة بالنسبة إلي. لا يمكن أن يكون راغبا في دماري؛ لقد كان صديقي، لقد كنت أحبه وأوده ... لكن الخطيئة ليست خطيئته. ما هو ذنبه إذا كان الحظ يحالفه؟! وأنا، ما هو ذنبي؟ إنني لم أرتكب فعلة مؤذية، إنني لم أقتل ولم أحقر إنسانا! فلم إذن هذا الطالع السيئ؟ ومتى بدأ هذا النحس؟ منذ لحظات اقتربت من هذه المائدة لأربح مائة روبل، كنت مزمعا شراء الصندوقة التي سأقدمها لأمي بمناسبة عيدها، على أن أعود بعد ذلك مباشرة إلى الدار. لقد كنت عظيم السعادة آنذاك، شديد الغبطة ممتلئا بالحرية! إنني ما كنت أفهم سعادتي، فمتى إذن أخلت مكانها ليحل محلها هذا الموقف الجديد الرهيب؟ بأي بادرة وقع هذا التحول العظيم؟ إنني لم أبارح مكاني هذا، ولم أتوقف عن أخذ الورقة تلو الورقة واللعب بها، ولم أنفك عن النظر إلى هاتين اليدين الحمراوين البارعتين، فمتى تم ذلك؟ وما هو هذا الشيء على وجه التحديد؟ إنني في صحة طيبة، قوي نشيط، لم أتبدل ولم أبدل مكاني. إن كل هذا ليس إلا حلما مزعجا ولا شك.»
كان أحمر الوجه يسبح في العرق رغم أن حرارة الغرفة كانت مقبولة معتدلة. كان وجهه يخيف ويستدعي الشفقة معا، بسبب المجهودات الخارقة التي كان يبذلها ليظهر بمظهر الهادئ المتزن.
وأخيرا وصل الحساب إلى الرقم الرهيب: ثلاثة وأربعين ألف روبل! كان روستوف يستعد للمقامرة بالثلاثة آلاف الفائضة التي ربحها على أساس الازدواج عند الربح
، عندما ترك دولوخوف الورق من يده بحركة قوية وراح يجمع الأرقام التي يدين له بها. ولما كان يضغط بشدة على قطعة الحكك التي كان يسجل بها الرقم الهائل، فقد تفتتت بين أصابعه، قال: «لقد أزف الوقت أيها السادة. ها قد وصل البوهيميون في الوقت الملائم.»
والحقيقة أن عددا من الرجال والنساء سمر الوجوه دخلوا الغرفة في تلك اللحظة حاملين معهم البرد من الخارج، يتحدثون فيما بينهم بلهجة أهل بوهيميا. فهم نيكولا أن كل شيء قد انتهى، فلم ينطق إلا بجملة واحدة وبلهجة من استأثر اللعب بلبه - لا الخسارة - فانفعل: «كيف؟! ألا تستمر؟! مع ذلك فقد كنت مهيئا لك ورقة كنت ستخسر بها ولا شك.»
فكر في نفسه: «لقد انتهى كل شيء، لقد ضعت! لم يبق أمامي إلا أن أفرغ غدارتي في رأسي.» فقد كرر بوداعة: «نعم، ورقة ممتازة! هيا، جولة ثانية!»
فقال دولوخوف الذي كان قد انتهى من عمليات الجمع: «ليكن، سنبدأ من واحد وعشرين روبلا.»
وأشار إلى هذا الرقم الذي كان فائضا عن الأرقام الكبيرة الأخرى، عن مبلغ ثلاثة وأربعين ألف روبل! ثنى جانب ورقته ليسجل عليها رقم 21.
فقال روستوف: «سيان عندي. كل ما أرغب فيه هو معرفة ما إذا كنت ستعطيني عشرة أم إنك ستحطم ورقتي كالعادة.»
خلط دولوخوف الورق ووزعه بعناية فائقة مركزة. أوه! كم كان روستوف يحقد على تينك اليدين في تلك اللحظة، تينك اليدين الحمراوين بأصابعهما القصيرة، اللتين كان الشعر يظهر فوق معصميهما، واللتين كانتا تجعلانه تحت رحمتهما!»
ربحت العشرة فقال دولوخوف وهو ينهض عن المائدة ويتمطى بتثاقل: «إنك مدين لي بثلاثة وأربعين ألف روبل يا كونت! يا للشيطان! كيف يجلس الإنسان كل هذا الوقت دون حراك؟!»
فقال روستوف: «نعم، إنني الآخر ما عدت أستطيع البقاء.»
غير أن دولوخوف أراد ولا ريب أن ينبهه إلى أن دعابته ليست في حينها، فقاطعه قائلا: «متى ستسدد هذا الدين يا كونت؟»
صعد الدم إلى وجه روستوف حتى غدا بلون الدم، فأمسك بيد دولوخوف وأخذه إلى الحجرة المجاورة، قال معترفا: «لن أستطيع أن أدفع لك مرة واحدة؛ سأعطيك سندا بالمبلغ.»
فقال دولوخوف وهو ينظر في عينيه بنظرته الباردة، وابتسامته الجامدة لا تفارق شفتيه: «أصغ إلي يا روستوف، أنت تعرف المثل القائل: «سعيد في الحب، تعيس في اللعب.» إن ابنة عمك مفتونة بك وأنا أعرف ذلك.»
فكرر روستوف في سره: «أوه! يا له من عذاب أليم لمن يشعر أنه تحت رحمة هذا الرجل!» كان يعرف ما سيحدثه اعترافه بالخسارة في نفس أفراد أسرته. آه! يا له من سرور بليغ وبهجة لا توصف إن استطاع التخلص من هذا الموقف المخجل المعيب! كان دولوخوف يستطيع إنقاذه من هذا الكابوس المريع ، وهو يعرف ذلك، لكنه كان يتسلى باللعب معه لعبة القط والفأر.
فقال دولوخوف بإلحاح: «إن ابنة عمك ...»
غير أن نيكولا قاطعه بشدة قائلا بغضب ظاهر: «لا علاقة لابنة عمي في هذا الأمر؛ فدعها بسلام.» - «إذن متى ستدفع لي؟»
فقال روستوف وهو ينسحب وكأن في أعقابه الشيطان: «غدا.»
الفصل الخامس عشر
في أجواء الحب
أن يقول المرء غدا بلهجة التأكيد أمر سهل، ولكن أن يعود إلى البيت فيقابل الأخوات والإخوة، والأم والأب، وأن يعترف بالخسارة ويطلب المال رغم الوعد المقطوع أمر مريع مختلف عن الأول.
لم يكن أحد في البيت قد نام بعد، هرع الشباب إلى الأرغن عقب وصولهم من المسرح، فلم يكد روستوف يضع قدمه في القاعة الكبيرة، حتى أحس بذلك الجو العاطفي المشبع بالحب والشعر؛ ذلك الجو الذي ظل هائما في سماء ذلك البيت طيلة الشتاء، والذي تركز في الأيام الأخيرة، بعد تصريح دولوخوف وحفلة إيوجل الراقصة، حول سونيا وناتاشا، كما يثقل الهواء قبل العاصفة، يحيط به ويغمره. كانت الفتاتان الشابتان في ألبستهما الزرقاء التي ارتديتاها قبل الذهاب إلى المسرح سعيدتين هانئتين، مطمئنتين إلى جمالهما وروعته، تبتسمان وهما واقفتان قرب المعزف. أما فيرا فكانت تلعب الشطرنج مع شينشين في البهو، وكانت الكونتيس تتسلى بلعبة الحظ مع سيدة نبيلة عجوز تقطن في بيتهم، بانتظار عودة ابنها وزوجها، وكان دينيسوف جالسا إلى المعزف مشعث الشعر، براق العينين، دافعا إحدى ساقيه إلى الوراء قليلا، يضرب على المعزف بأصابعه القصيرة بقوة وحيوية، ويغني بصوته الأجش، ولكن غير الموزون قصيدة من نظمه عنوانها «الفاتنة» وهو يدير حوله عينيه الكبيرتين، ويبحث عمن يشاركه في الغناء.
أيتها الساحرة، آه! يا لها من قوة تدفعني
إلى إيقاظ هذه الأوتار النائمة!
وبأية قوة تعانقين قلبي؟
وأي هيام تخفق به أصابعي؟!
وبينما كان يهدل بهذه الأنشودة العاطفية كانت عيناه العقيقيتان ترسلان إشعاعاتهما باتجاه ناتاشا، التي كانت مأخوذة وهي مذعورة ذعرا غامضا.
هتفت دون أن تلاحظ دخول أخيها: «إن هذا رائع، غن مقطعا آخر.»
فقال نيكولا في سره: «إن كل شيء إذن يسير في طريقه الهادئ هنا.» وألقى نظرة على البهو فرأى فيرا وأمه والسيدة العجوز.
هتفت ناتاشا وقد وقع بصرها عليه فهرعت إليه: «آه! ها هو ذا نيكولا.»
سأل: «هل أبي هنا؟»
فقالت ناتاشا دون أن تجيبه على سؤاله: «كم أنا مسرورة لعودتك! إننا نتسلى جدا هنا. هل تعرف أن فاسيلي دميتريش قرر البقاء يوما آخر من أجلي؟»
وقالت سونيا: «كلا، إن بابا لم يعد بعد.»
وعلا صوت الكونتيس يقول: «ها أنت ذا أخيرا يا كوكو. تعال إلي يا صديقي!»
أطاع نيكولا نداء أمه فمضى إليها وقبل يدها، وجلس بقربها دون أن ينطق بحرف واحد مستغرقا في تأمل أصابعها وهي تصف الورق وترتبه. ومن قاعة الرقص تعالت الضحكات وأصوات بهيجة تتوسل إلى ناتاشا، كان دينيسوف يقول: «كلا كلا، لن أقبل أعذارا. إنك مدينة لي بأغنية باركارولا، ويجب أن تغنيها لي، أتوسل إليك.»
قالت الكونتيس وهي تلقي على وجه ابنها الصامت نظرة مستفسرة: «ماذا وقع لك؟»
فأجاب وكأنه مستاء من هذا السؤال الدائم الأبدي: «لا شيء. هل سيعود أبي مبكرا؟» - «بلا شك.»
راح نيكولا يخاطب نفسه بقوله: «إن كل شيء يسير في هدوئه المعتاد هنا. إنهم لا يعرفون شيئا، إلى أين أستطيع اللجوء؟» وذهب إلى القاعة الكبرى.
كانت سونيا شارعة في التمهيد لمقدمة الباركارولا التي كانت تعجب دينيسوف، وكان هذا يفترش ناتاشا بنظراته وهي على وشك الغناء.
راح نيكولا يذرع القاعة بانفعال؛ كان يحدث نفسه: «يا لها من فكرة تلك التي جعلته يطلب إليها الغناء وكأنها تجيده أو تقوى عليه! ماذا يجدون في هذا من تسلية؟» بينما كانت تعيد المقدمة وتضبط النغم، عاد يفكر في نفسه: «رباه، رباه! إنني رجل مقضي علي! لقد فقدت شرفي، رصاصة في رأسي. هذا خير جزاء! إن الأمر يستحق الغناء! أذهب؟ ولكن إلى أين؟ على كل حال، ليغنوا إذا كان قلبهم يطاوعهم على الغناء!»
واستمر في طوافه في القاعة مكتئب الوجه مكفهره، ملقيا على دينيسوف والفتاتين نظرات شاردة ومتحاشيا نظراتهم.
كانت عينا سونيا الشاخصتان إليه تسألانه: «نيكولا، ماذا بك؟» لقد خمنت من فورها أن أمرا ما قد وقع له، فراح نيكولا يتهرب من ذلك الاستفسار الصامت.
وناتاشا الحساسة كانت هي الأخرى قد أدركت منذ دخول أخيها أنه في حالة نفسية مضطربة، لكنها كانت في تلك اللحظة شديدة الفرح، بعيدة كل البعد عن الأفكار المزعجة، حتى إنها أبعدت عامدة ذلك الشعور المحزن الذي خامرها. فكرت في نفسها: «آه! ما فائدة تبديد مثل هذا الجو المرح السعيد لمشاركة الآخرين فيما يزعجهم؟ ثم إنني مخطئة ولا شك في تصوري. إنه ولا ريب في مثل حالي من الابتهاج والفرح!» وهكذا فإنها لم تخرج في محاكمتها عما ألفه كل الشباب من مناقشة وتفسير في مثل هذا الموقف.
سألت: «هل أنت مستعدة يا سونيا؟»
وشمخت برأسها وباعدت بين ذراعيها على طريقة الراقصات، ومضت بخطوات متحمسة تقرع الأرض حتى بلغت منتصف القاعة حيث المجال السمعي أفضل، وفجأة توقفت.
بدت في وقفتها تلك كأنها تجيب على نظرة دينيسوف المعجبة: «كذلك أنا، إنني كما تراني.»
تساءل نيكولا: «ماذا تجد في هذه الحركات المتصنعة من جمال وفكاهة؟ ألن تنتهي؟ إن هذا معيب.»
أطلقت ناتاشا المقطع الأول من الأغنية، فتمددت حنجرتها وارتفع صدرها، واتخذت نظرتها طابعا جديا. لم تكن في تلك اللحظة تفكر في شيء خاص. وراحت الأصوات تنبعث خلال شفتيها المقوستين بشبه ابتسامة، أصوات كان كل إنسان قادرا على إخراج مثلها، وعلى نسقها وطبقتها، أصوات تجعلنا باردين جامدين ألف مرة، ولكنها في المرة الواحدة بعد الألف تجعلنا نرتعد ونبكي.
كانت ناتاشا استجابة لإطراء دينيسوف المتحمس لها قد أخذت تغني خلال فصل الشتاء بشكل جدي، وقد تحرر غناؤها من الطابع المضحك الصبياني الذي كان يشوهه من قبل، لكنه لم يبلغ حد الكمال، وكان العارفون الخبيرون يقولون: «إنه صوت جميل، لكنه غير متزن بعد. ينبغي العناية به لصقله.» ما كانوا يذيعون رأيهم هذا إلا بعد أن تكون ناتاشا قد فرغت من غنائها منذ وقت ليس بالقصير. أما خلال الفترة التي كان صوتها الخام يرسل أنغامه خلال أنفاسها المبهورة ومحاولاتها الشاقة لإبدال الطبقة أو اللحن، فإن قضاتها القساة ما كانوا يستطيعون التمالك عن مشاطرتها البهجة والطرب والإحساس بالرغبة الملحة في الإصغاء إلى غنائها أبدا. كان في صوتها نضرة بتولية، وفيه تنكر لقواه وتأثيراته، ورخامة غير ناضجة بعد، تتناسق مع الأخطاء الفنية بشكل يبدو للسامع معه أن أي تبديل أو تحويل فيه قمين بإفساد كل شيء، وتبديد كل المتعة.
تساءل نيكولا وقد اتسعت عيناه دهشة: «ما معنى هذا؟ ماذا حدث لها؟ إنها تغني اليوم بشكل رائع غير مألوف!» لم يلبث حتى استغرق روحا وجسدا في انتظار اللحن، وترقب الجملة التالية، وبدا له العالم كله قائما في الإيقاع الذي يضبط الأغنية. عاش فيها برهة، وراح يضبط السلم الموسيقي في نفسه: «واحد، اثنان، ثلاثة ... واحد ... اثنان ... ثلاثة ... واحد ... أوه! كم هو سخيف وجودنا! كل هذا والنحس الذي ركبني والغضب والإحراج والشرف. نعم، كل هذا ليس إلا ترهات. هذا هو الحقيقي. تشجعي يا ناتاشا، تشجعي يا صديقتي، ترى هل تستطيع إبراز هذا ال «سي»؟ مرحى، لقد أحسنت الأداء.» ودون أن يشعر بأنه يغني ليساعدها على إبراز ذلك ال «سي»، ارتفع باللحن إلى مرحلته الثالثة
Tirce
في أعلى طبقاته. «رباه! هو بديع! أصحيح أنني أنا الذي أدى هذه النوتة الموسيقية؟ كم كانت ناجحة!»
أوه! كم اهتز ذلك اللحن وتردد في الغرفة! وكم تأثر به روستوف في أعماق فؤاده! كان في تلك اللحظة يحلق متساميا بعيدا عن كل ما له علاقة بالأرض والعالم. «ماذا تهم الخسارة التي مني بها في اللعب؟ وماذا يهمه من دولوخوف والوعد المقطوع؟! إن كل هذه ليست إلا ترهات! يستطيع المرء أن يسرق وأن يقتل، ومع ذلك يستطيع بنفس الوقت أن يتذوق السعادة بكل كيانه.»
الفصل السادس عشر
خيبة دينيسوف
لم يشعر روستوف بمثل تلك الرغبة في الإصغاء إلى الموسيقى كما شعر بها ذلك اليوم. مع ذلك، فإن ناتاشا ما كادت تنتهي الباركارولا حتى عاد إليه الإحساس بالواقع. خرج دون أن يتفوه بكلمة ومضى إلى حجرته، وبعد ربع ساعة، عاد الكونت العجوز من النادي وهو على أحسن مزاج، سمع نيكولا صوت مجيئه، فمضى للقائه.
قال إيليا آندريئيفيتش وهو يبسم لابنه ابتسامة فخر مرحة: «هه يا فتاي! هل تسليت؟»
أراد نيكولا أن يجيبه بنعم، لكن قواه خانته واختنق صوته بالعبرات، ولم يلاحظ الكونت حالة ابنه العنيفة؛ لأنه كان يشعل غليونه.
قرر نيكولا أن يخطو الخطوة الرهيبة، وقال يحدث نفسه: «هيا، ينبغي أن أحدثه بكل شيء، وأن أنتهي من هذا الموضوع.» وفجأة، شرع يتحدث بطلاقة أخجلته نفسه، وبمثل اللهجة التي يطلب بها عربة للذهاب إلى المدينة، قال لأبيه: «على فكرة يا أبي، كنت أود محادثتك لأنني في حاجة إلى المال.»
فأجاب الكونت وهو شديد المرح ذلك المساء: «آه، رباه! لقد قلت لك إنك ستنفق كل ما معك، هل يلزمك مبلغ كبير؟»
أجاب نيكولا بابتسامة بلهاء ماجنة، ظل ضميره يوبخه من أجلها طويلا، ووجهه متضرج: «نعم، مبلغ كبير. لقد خسرت قليلا؛ أعني مبلغا غير قليل ... بل كثيرا أيضا، ثلاثة وأربعين ألف روبل.»
هتف الكونت بشدة بينما تغطى عنقه فجأة بالحمرة الناجمة عن ارتفاع الضغط عند المسنين: «ماذا؟ مع من؟ إنك تمزح!»
فأردف نيكولا: «وقد وعدت بتسديد هذا الدين غدا.»
فتهاوى الكونت بيأس على إحدى الأرائك وهو يقول: «رباه!»
فتابع نيكولا بطلاقة: «ما العمل؟ إن هذا يحدث لكل الناس.»
لكنه كان في سره يعتبر نفسه سافلا دنيئا لا تكفيه حياته لدفع ثمن جريمته، كان يؤكد لأبيه بطيش ورعونة قريبة من الإهانة أن ذلك يقع لكل الناس، في حين أن واجبه كان يقضي عليه بأن يقبل يديه، وأن يطلب غفرانه وصفحه وهو راكع على ركبتيه.
خفض إيليا آندريئيفيتش أبصاره لدى سماعه تلك الإجابة، وغمغم منتقيا الكلمات المناسبة: «نعم، هذا مؤكد. لن يكون من السهل تدبير هذا المبلغ، إنني أخشى ذلك. نعم ولا شك، لقد وقع مثل هذا لآخرين ... لقد وقع لآخرين.»
واختلس نظرة سريعة إلى ولده واتجه نحو الباب. كان نيكولا يتوقع ممانعة ورفضا من أبيه؛ لذلك فقد فوجئ بسلوكه ذاك وأخذ على غرة.»
هتف بين دموعه وتنهداته: «أبتاه! أبتاه! اصفح عني.»
وأطبق على يد أبيه وألصق شفتيه عليها بخشوع، وانخرط في البكاء.
وبينما كان الأب والابن يتفاهمان على تلك الصورة كانت مناجاة أخرى لا تقل عن هذه خطورة تدور بين الأم والبنت، كانت ناتاشا قد هرعت إلى أمها الكونتيس وكلها انفعال وارتباك، قالت: «أماه، أماه! لقد ... لقد ...» - «ماذا حدث؟» - «لقد صرح ... لقد صرح بحبه!»
لم تكن الكونتيس تصدق أذنيها. لقد صرح دينيسوف بحبه! ولمن؟ لتلك الطفلة ناتاشا التي كانت إلى زمن قريب تلعب بلعبتها، والتي لا زالت تدرس على يد مربية.
قالت الأم آملة أن يكون ذلك محض دعابة: «هيا يا ناتاشا، لا تتفوهي بحماقات.»
فأجابتها ناتاشا بشيء من الدهشة المتألمة: «حماقات! ولكن ليس ما أقوله حماقة أبدا. إنني أتكلم جديا. لقد جئت أسألك الرأي؛ فتحدثيني بهذا الشكل وتتهمينني بالتلفظ بالحماقات!»
هزت الكونتيس كتفيها وقالت: «إذا كان السيد دينيسوف قد طلب يدك فأجيبيه بأنه أحمق، وستغني هذه الكلمة عن مجمل الحديث.»
أصرت ناتاشا على موقفها وقالت بلهجة جدية: «كلا، يا أماه! إنه ليس أحمق.»
فقالت الكونتيس وعلى شفتيها ضحكة مغتصبة: «إذن ماذا تريدين؟ في هذه السن لا تخلو رأس إحداكن من نوع من الحب. حسنا، إذا كان يعجبك بمثل هذه الشدة فتزوجيه وليباركك الله الرحيم.» - «لكن كلا يا أماه، إنني لا أحب دينيسوف أو - على الأقل - لا أعتقد أنني أهواه.» - «وإذن قولي له ذلك.» - «أماه، إنك غاضبة، أليس كذلك؟ لا تنزعجي أرجوك، هل هي خطيئتي؟»
فقالت الكونتيس باسمة: «لكنني لست غاضبة أبدا. هيا، هل تريدين مني أن أذهب لأتحدث معه؟» - «كلا، بل إنني سأكلمه بنفسي، لكنني أريد منك فقط أن تنبئيني بما يجب علي أن أقوله.»
وأردفت مستجيبة لابتسامة أمها: «ألا ترين أن كل شيء سهل في نظرك؟! آه! ليتك شاهدته عندما حدثني عن هذا الأمر! ثم إنني أعرف تماما أنه لم يكن يريد أن يقوله، لكن الكلمات أفلتت من فمه.» - «هذا لا يمنعك من أن ترفضي طلبه.» - «لكن لا، إن ذلك سيؤلمني أشد الألم ! إنه عظيم اللطف!»
فقالت الأم ساخرة: «إذن فاقبلي، ثم ألا ترين أن الوقت قد أزف لتتزوجي وكاد أن يفوت!» - «آه يا أمي! إن ذلك يؤلمني كل الألم. لست أدري كيف أجيبه، وماذا أقول له.»
فقالت الكونتيس في شيء من الغضب؛ لأن بعضهم عامل تلك الطفلة معاملة الفتاة الناضجة: «لست أنت ستتكلمين، بل إنني سأتكفل بذلك.» - «أوه، كلا! سوف أحدثه بنفسي وستصغين إلى حديثي من وراء الباب.»
عادت ناتاشا إلى بهو الموسيقى؛ حيث كان دينيسوف جالسا في مكانه الأول قرب المعزف ورأسه بين يديه. انتفض في مكانه لدى سماعه صوت خطواتها الخفيفة العائدة.
قال وهو يهرع للقائها: «ناتالي، قرري مصيري، إنه بين يديك.» - «فاسيلي دميتريش، إنك تزعجني كثيرا! إنك شديد اللطف. حقا إن ذلك لا يمكن أن يكون، لكنني سأظل أحبك دائما.»
انحنى دينيسوف على يدها، وسمعت ناتاشا أصواتا غريبة غير مفهومة. ألصقت شفتيها بشعرها الأجعد المشعث، وفي تلك اللحظة ارتفع حفيف ثوب عنيف ينبئ بمقدم الكونتيس.
قالت هذه بصوت منفعل بدا رغم رقته على شيء من القسوة في نظر دينيسوف: «يا فاسيلي دميتريش، شكرا على الشرف الذي تسبغه علينا، لكن ابنتي لا زالت طفلة. ولقد ظننت أنك بوصفك صديقا لابني ستبدأ بالاتصال بي أولا، ولم يكن ذلك - لو عملته - ليدفعني إلى إجابتك بالرفض.»
تمتم دينيسوف مطرق الرأس كالمجرم: «يا كونتيس ...»
ولعله أراد أن يضيف شيئا إلى كلمته ولكن ارتج عليه.
ولما رأت ناتاشا مبلغ الانقلاب الذي طرأ عليه، لم تتمالك أعصابها وخرجت عن هدوئها بنوبة صاخبة من البكاء والنحيب.
وأخيرا استطاع دينيسوف أن يقول بصوت متهدج متقطع: «كونتيس، قد أكون مخطئا في حقك، ولكن اعرفي تماما أنني أشعر باحترام لا يوصف نحو ابنتك، ونحو كل أسرتك، لدرجة أنني مستعد لإعطاء حياتين لو كنت أملكها ...»
وتوقف فجأة عندما لاحظ أن هيئة الكونتيس لا زالت موسومة بطابع القسوة، وأخيرا قال فجأة بشيء من العنف: «هيا، الوداع.»
وقبل يد الكونتيس وخرج بخطوات مصممة سريعة دون أن يلقي نظرة على ناتاشا.
وفي غداة اليوم التالي، ودع نيكولا دينيسوف الذي رفض البقاء يوما آخر في موسكو. كان كل أصدقائه يحتفلون بسفره لدى البوهيميين؛ لذلك فإنه لم يذكر قط كيف حشروه في زحافته، وكيف اجتاز المراحل الثلاثة الأولى.
اضطر نيكولا إلى البقاء في موسكو خمسة عشر يوما أخرى بانتظار أن يجمع الكونت العجوز المبلغ الذي كان يسعى لإيجاده سدادا لدين ولده. ولقد أمضى هذه الأيام حابسا نفسه غالبا في غرفة الفتاتين، متشاغلا بالتنظيم والتدوين الموسيقي.
أبدت سونيا نحوه حنوا وإخلاصا أشد من أية مرة مضت، كانت تحاول أن تظهر له أن خسارته في القمار تجعله في عينيها أرفع قيمة، وأسمى مكانة، لكن نيكولا كان يعتقد جازما أنه لم يعد جديرا بها.
وفي نهاية تشرين الثاني، استطاع روستوف أن يرسل ثلاثة وأربعين ألف روبل إلى دولوخوف، وأن يأخذ منه براءة ذمة. وبعد ذلك مباشرة سافر إلى وحدته دون أن يتقدم إلى أحد من أصدقائه ومعارفه مودعا، وكانت فرقته معسكرة حينذاك في بولونيا.
الجزء الثاني
لازاروف من بريوبر أزينسك.
الفصل الأول
المسافر الغامض
سافر بيير إلى بيترسبورج غب خصومته مع زوجته، فلما بلغ مرحلة تورجوك ادعى مدير مركز تبديل الخيول أنه لا توجد لديه في تلك الليلة خيول مستريحة، فاضطر بيير إلى الانتظار. تمدد بكامل ثيابه على أريكة جلدية أمام مائدة مستديرة مدد فوقها ساقيه الطويلتين المحتذيتين والمبطنتين بالفراء، واستغرق في خواطره.
سأل وصيفه: «هل أحضر الحقائب؟ هل أعد سريرا وشايا؟»
غير أن بيير لم يجبه، كان لا يسمع ولا يرى شيئا، كانت أفكاره وتصاميمه تدور حول موضوع شديد الخطورة منذ المرحلة الأخيرة، حتى إنه ما كان يعير كل ما يدور حوله أي التفات، ما كان يهتم للوصول إلى هدفه عاجلا أم آجلا، ولا بأن يجد في هذه المرحلة سريرا أو لا يجد، بل إنه ما كان يهتم إذا أمضى في هذا المكان ساعات معدودات أم قضى العمر كله فيه؛ لشدة انهماكه في أفكاره التي كانت تشغل كل انتباهه.
وكان مدير المركز وزوجته ووصيف بيير وبائعة جلود
1
يتناوبون دوريا في المثول بين يدي بيير عارضين عليه خدماتهم، فكان بيير يتأملهم خلال نظارتيه دون أن يبدل وضعيته أو أن ينزل ساقيه، غير مدرك ما يريدون ولا كيف استطاعوا أن يعيشوا حتى الآن دون أن يوفقوا إلى حل المعضلات التي كانت تدمي فؤاده وتعذبه. وكانت هذه المعضلات هي هي، لم تتبدل منذ أن طرح على نفسه تلك الأسئلة بعد عودته من المبارزة في غابة الفوكونييه؛ تلك الأسئلة التي ظل يفكر فيها طيلة ليلة الأرق الرهيبة التي قضاها آنذاك، لكن عزلة السفر جعلت تلك الأسئلة أكثر إلحاحا وأشد وقعا، فكان كلما حاول أن يفلت منها خلال ثغرة ما، أو أن يزوغ أمامها؛ عادت إليه تهاجمه وتحدق به دون أن يستطيع إيجاد أجوبة لها وحلول، وكأن المحور الرئيسي في كيانه وحياته قد تركز في رأسه وغرس فيه، فكان يشعر في ذلك المحور ثابتا لا يحاول النفاذ إلى أبعد من مكان وجوده، ولكنه لا يحاول الخروج من مكانه كذلك، بل يكتفي بالدوران في مكانه دون أن يلف حوله شيئا، وكذلك دون أن يتوقف عن الدوران أبدا.
جاء رئيس المركز يرجو سعادته بخضوع أن يتفضل بالانتظار ساعتين صغيرتين؛ حتى يستطيع بعدها أن يقدم على مسئولياته الشخصية وعهدته خيول عربة البريد لسعادته. كانت تلك كذبة واضحة؛ لأن الرجل الطيب كان يحاول أن يسحب من الرجل المسافر الثري أكبر جانب ممكن من المال.
تساءل بيير: «هل يتصرف تصرفا حسنا أم سيئا؟ إنه على حق فيما يتعلق بي، ولكن إذا عامل مسافرا آخر على هذه الصورة، فإنه يكون مخطئا. أما هو فإنه على صواب؛ لأنه فقير لا يجد ما يتبلغ به، ولا يستطيع كسب عيشه إلا بهذه الوسيلة. لقد ادعى ضابط جاء منذ حين يطلب بدلا لعربته، فلما امتنع ضربه وقسا عليه، فإذا كان حقيقيا، فإن معناه أن الضابط كان على عجلة من أمره. لقد أطلقت النار على دولوخوف لأنني ظننت أنه أهانني، ولويس السادس عشر؛ ألم يعدموه لأنهم اعتبروه مجرما؟ وبعد عام أعدموا أولئك الذين حكموا عليه من قبل؟ ولا شك أنه كانت لديهم أعذارهم أيضا. ما هو السيئ؟ وما هو الحسن؟ ماذا ينبغي أن يحب المرء؟ وماذا يجب أن يكره؟ لماذا ينبغي أن يعيش المرء؟ وما هو «الأنا»؟ ما هي الحياة؟ وما هو الموت؟ وما هي القوة التي تسير كل هذا؟»
لم يكن يجد على كل هذه الأسئلة إلا جوابا واحدا لم يكن جوابا في حد ذاته: «ستموت يوما وتنتهي، ستموت وستعرف كل شيء، أو ستكف عن طرح الأسئلة على نفسك.» ولكن أن يموت كان ذلك شيئا رهيبا.
كانت البائعة تعرض بضاعتها على بيير بصوتها الثاقب، وبصورة خاصة كانت تقدم له أحذية من «الشيفرو» (جلد الجديان). قال يحدث نفسه: «إن معي مئات من الروبلات لست أدري ماذا أعمل بها. وهذه المرأة بفروتها الممزقة تسألني بخضوع أن أساعدها، ولكن هل هي في حاجة حقيقية إلى المال؟ هل يستطيع المال أن يشتري أوقية من السعادة وراحة الفكر؟ كلا، لا شيء في الدنيا يستطيع أن يجعلها أو يجعلني أقل خضوعا للسوء أو للموت، ذلك الموت الذي سينهي كل شيء، والذي سيأتي اليوم أو غدا، ولا قيمة لذلك؛ لأنه لن يكون إلا لحظة بالقياس إلى الأبدية.» ومن جديد اصطدم بالمحور الذي يدور في الفراغ حول نفسه دون أن يأتي بما يفيد، دورات لا طائل تحتها ولا جدوى.
قدم له خادمه كتابا قطعت نصف صفحاته. كان ذلك الكتاب عبارة عن رواية في رسائل لمدام دوسوزا. راح يقرأ قصة الصراع الجبار الصالح الذي قامت به من تدعى آميلي دومانسفلد.
2
راح يتساءل: «لماذا تقاوم وتمانع من فتنها طالما أنها تحبه؟ إن الله ما كان ليضع في نفسها رغبات ضد رغبته. إن زوجتي السابقة لم تناضل - هي - ولعلها كانت على صواب! لم يكتشف شيء ولم يخترع شيء. إن كل ما نستطيع معرفته هو أننا لا نعرف شيئا. هذه هي الدرجة القصوى في الحكمة الإنسانية.»
كان كل شيء في نفس بيير وحوله يبدو بعينيه ارتجاجا مزعجا، وصخبا غريبا مخالفا للمألوف، لكن ذلك التناقض كان يتيح له في ثنياته لونا من المتعة والإغراء.
قال رئيس المركز وهو يدخل مسافرا آخر، كان افتقار المركز للخيول يرغمه على التريث هو الآخر: هل تتفضل سعادتكم - إذا كان ذلك لا يضايقكم - بإعطاء مكان صغير لهذا السيد؟
كان المسافر عجوزا، قصير القامة، بارز العظام، أصفر الوجه متقلصه، يبرز حاجباه الأشهبان فيظلان عينين براقتين بلون رمادي غير مركز.
رفع بيير ساقيه عن المائدة ومضى يستلقي على السرير الذي أعد له، ملقيا بين الحين والآخر نظرة على القادم الجديد الذي لم يكن يعيره التفاتا، بل كان - كما يبدو عليه - مكتئب الوجه متعبا، يتخلص بصعوبة من فروته، يساعده على ذلك خادمه. أما ثيابه الداخلية فكانت عبارة عن جلد خروف مبشور مغطى بنسيج قطني أصفر، وحذاءين من اللباد المتين يرتفعان حتى أعلى ساقيه الهزيلتين المعروقتين. جلس على الأريكة في ذلك التجهيز وكفأ رأسه الكبير الحليق ذا الصدغين العريضين على مسندها، وعندئذ فقط ألقى على رفيقه نظرة جعلت بيزوخوف يفاجأ ببيانها الصارم الحارق المتخلخل. شعر برغبة في الدخول في حديث مع ذلك المسافر، فهم بسؤاله عن حالة الطريق، لكن العجوز كان قد أغمض عينيه، وعقد يديه المغضنتين الهزيلتين التي يزين إصبع إحديهما خاتم كبير من المعدن على شكل جمجمة ميت، ولبث جامدا مستغرقا في بحران هادئ عميق كما خيل لبيير. أخرج خادمه - وكان عجوزا خفيف الحركة، قصير القامة، أجرد الوجه، ذا صفرة متقلصة كوجه سيده تماما، يرى بوضوح أنه لم يحلقه يوما ما، بل ولم يكن يوما يحوي على لحية وشاربين - أدوات الشاي، وجاء «بسماور» يغلي الماء فيه. ولما انتهى كل شيء، فتح السيد عينيه واقترب من المائدة؛ حيث أعد لنفسه قدحا من الشاي، وقدم آخر إلى الرجل الأجرد. شعر بيير بكآبة غامضة، وأحس بضرورة ملحة تدفعه إلى توجيه الحديث إلى المسافر.
أعاد الخادم بعد حين قدحه فارغا ومقلوبا على صحيفته، دلالة على أنه لا يرغب في قدح آخر، وإلى جانبه قطعة السكر الفائضة عن استهلاكه، وسأل سيده عما يرغب فيه من خدمات.
فأجابه هذا : «كلا، لا شيء، أعطني كتابي .»
قدم له الخادم كتابا خمن بيير أنه يبحث في شئون النسك والورع، واستغرق في قراءته. أما بيير الذي كانت عيناه في تلك اللحظة محولة نحو المسافر العجوز، فقد شاهده فجأة يضع الكتاب من يده ويغلقه، ويعود إلى وضعه الأول مغمض العينين، منكفئ الرأس على مسند الأريكة. هم بيير أن يستدير، لكنه لم يجد الوقت الكافي لذلك؛ إذ إن العجوز فتح عينيه فجأة وراح يتفحص وجهه بصرامة وتصميم.
شعر بيير بالارتباك؛ كان يحب من كل نفسه أن يفلت من تينك العينين اللامعتين اللتين كانت لهما جاذبية لا تقاوم.
الفصل الثاني
أوسيب بازدييف
قال المسافر الغريب بصوته القوي المتزن: «إذا لم أكن مخطئا، فإن لي شرف التحدث مع الكونت بيزوخوف، أليس كذلك؟»
لم ينبس بيير ببنت شفة، بل اكتفى بالنظر إليه خلال نظارتيه نظرة مستفسرة. أردف المسافر الغريب يقول: «لقد سمعتهم يتحدثون عنك يا سيدي وعن المصيبة التي أصابتك.»
كانت لهجته وهو ينطق بتلك الجملة تؤيد معنى الكلمات وكأنها تقول: «نعم، إنها مصيبة مهما أطلقت عليها من أسماء أخرى. إنني أعرف أن ما وقع لك في موسكو مصيبة.»
أردف: «إنك تراني يا سيدي شديد الغم.»
احمر وجه بيير، فوضع قدميه على الأرض بسرعة ومال إلى العجوز وعلى شفتيه ابتسامة رسمها الخجل والضيق.
تابع المسافر العجوز قوله: «إنني لم أحدثك يا سيدي عن هذا الأمر لمجرد فضول عابر، بل لأسباب أجل شأنا.»
صمت المتحدث دون أن يغفل عن النظر إلى بيير، ثم تحرك في مقعده داعيا بيير في حركته إلى الجلوس بجانبه. شعر بيير بدافع يرغمه على إطاعة ذلك النداء الصامت، رغم نفوره من الامتثال له، استرسل المسافر: «إنك تعيس يا سيدي، إنك شاب وأنا كهل، وإنني أريد أن أساعدك في حدود طاقتي وإمكانياتي الشخصية.»
فقال بيير بابتسامة مغتصبة: «آه! نعم، سأكون شاكرا لك صنيعك. من أين أتيت؟»
استأنف العجوز الكلام: «مع ذلك، إذا كنت تجد لسبب أو لآخر أن حديثي يزعجك أو يضايقك؛ فأرجو أن تنبئني بذلك يا سيدي العزيز.»
كان لهذا الرجل وجها عابسا، بل وجامدا وصارما. مع ذلك، فإن وجهه وأبحاثه كانتا تفرضان جاذبية لا تقاوم على بيير. ولما انتهى من جملته الأخيرة، ابتسم فجأة ابتسامة أبوية حانية ما كانت تنتظر منه.
أجاب بيير وهو يفحص عن قرب خاتم صديقه الجديد: «كلا البتة، بل على العكس، إنني مفتون بالتعرف إليك.»
ولما تأكد أن الخاتم يحمل جمجمة ميت، وهي رمز الماسونية، قال له: «اسمح لي بسؤال: هل أنت ماسوني؟»
فقال المسافر وقد ازدادت نظرته غوصا في أعماق نظرة بيير: نعم، إنني منتسب لجمعية الماسونية، وإنني باسمي واسم إخواني أمد لك يدي الأخوية.
أجابه بيير باسما، تتجاذبه عوامل الثقة التي توحيها إليه شخصية ذلك العجوز، وميله إلى الهزء من المعتقدات الماسونية: أخشى كثيرا، أخشى كثيرا أن لا أستطيع ... كيف أعبر لك؟ ... أخشى أن تكون نظرتي إلى العالم ومعتقداتي بعيدة جدا عن معتقداتك حتى ليتعذر التفاهم بيننا.
استأنف الماسوني حديثه: «إنني أعرف أفكارك، إنها ليست خصوصية ثابتة من أعماق نفسك، إنها الثمرة العامة للكبرياء والجهل وكسل الذهن. إن السواد الأعظم من الناس يؤمنون بها. اعذرني يا سيدي العزيز، ولكن لو أنني ما كنت أعرف أسلوبك في التفكير لما عقدت معك هذا الحديث. إن آراءك ليست إلا خطيئة محزنة.»
اعترض بيير بابتسامة واهنة وقال: «إنني أستطيع وصف معتقداتك بمثل هذا الوصف.»
قال الماسوني الذي أخذت لهجته الحازمة الواضحة تدهش بيزوخوف أكثر فأكثر: «لن أجرؤ أبدا على الادعاء بأنني حاصل على الحقيقة. إن أحدا من المخلوقات لا يستطيع بأضوائه الخاصة أن يبلغ إلى الحقيقة. إن المعبد الذي سيكون المقام الجدير بالله الكبير لم يبن إلا حجرا حجرا، بالتعاون بين «الكل»، وبفضل ملايين الأجيال التي تعاقبت منذ سلفنا آدم إلى اليوم.
وأغمض العجوز عينيه، فقال بيير وكأنه يخضع آسفا لدافع عدم إخفاء شيء الذي نبت في نفسه: إنني مضطر للاعتراف لك بأنني ... إنني لا أومن ... بالله.
تأمله الماسوني باسما ابتسامة رجل غني يملك الملايين، جاءه صعلوك فقير يشكو له عجزه عن إيجاد الروبلات الخمسة التي فيها كل سعادته، قال: «إن هذا صحيح يا سيدي، إنك لا تعرفه ولا تستطيع أن تعرفه، ولأنك لا تعرفه تشعر بالتعاسة.»
قال بيير: «الحق أنني تعيس، ولكن ماذا أستطيع أن أعمل؟»
قال الماسوني بصوت قاس ولكن مرتعد: «إنك لا تعرفه يا سيدي العزيز؛ ولهذا السبب أنت تعيس، إنك لا تعرفه وهو هنا. إنه في، في كلماتي، بل إنه فيك أنت - وهنا استعمل صيغة المفرد واستمر يستعملها حتى نهاية الحديث - بل وهو في تلك الجمل الدنسة التي نطقت بها منذ حين.»
صمت الماسوني وأطلق زفرة، ولعله كان يحاول استرداد هدوئه. استأنف بلهجة أقل عنفا من الأولى: «لو أنه لم يكن موجودا يا سيدي لما كان في هذه اللحظة موضوع جدلنا وبحثنا، عم وعمن نتحدث الآن؟ من هو الذي أنكرته؟»
وصاح فجأة بتلك اللهجة الجليلة الآمرة: «من الذي اخترعه لو أنه لم يكن موجودا؟ من أين جاءتك فكرة وجود كائن لا يمكن فهمه وإدراكه وتصوره؟ من أين أتى العالم كله وأنت نفسك بفكرة كائن شديد القوة أزلي وغير محدود في كل صفاته؟»
توقف وصمت فترة طويلة، فلم يستطع بيير ولم يرد كذلك أن يخرق حجاب ذلك الصمت.
استأنف الماسوني حديثه وعيناه تنظران أمامه بدلا من التحديق في وجه بيير، بينما كانت يداه المعقدتان تتصفحان كتابه بتأثير اضطرابه الداخلي وانفعاله: «إنه موجود، ولكنهم لا يفهمونه بسهولة. لو أن الأمر كان مقتصرا على رجل تشك في وجوده لأتيت به إليك ولأمسكت بيده وعرضته على ناظريك.» - «ولكن كيف أستطيع وأنا الفاني الحقير أن أري جلالته - جل وعلا - وأزليته ورحمته التي لا حدود لها للذي هو أعمى أو مغلق عينيه كيلا يرى بهما ولا يفهمه، للذي لا يرى ولا يفهم شناعته، وبشاعته الشخصية، وفساد أخلاقه؟»
وصمت برهة وتحرك في جلسته وأردف بابتسامة ساخرة: «من أنت إذن؟ نعم، من أنت؟ إنك تعتقد أنك حكيم لأنك قادر على النطق بهذه الكلمات الدنسة، لكنك في الحقيقة لست إلا أكثر حمقا وأكثر سخفا من الطفل الصغير ، الذي بعد أن لعب فترة طويلة بأجزاء ساعة متقنة الصنع يجرؤ على القول أنه طالما لم يفهم الغاية من هذه الساعة، فإنه لا يؤمن كذلك بالصانع البارع الذي صنعها. نعم، إن من الصعب معرفته. لقد عملنا منذ قرون، منذ سلفنا آدم حتى اليوم في تلك المعرفة، ولا زلنا حتى الآن بعيدين جدا عن بلوغ غايتنا، لكن هذا العجز إن دل على شيء فإنما يدل على ضعفنا إزاء عظمته.»
راح بيير يحدق في وجه الماسوني بعينيه اللامعتين وقلبه يكاد يكف عن الخفقان. كان يصغي إلى توكيدات هذا المجهول دون أن يقاطعه، أو أن يطرح عليه سؤالا، وكان يؤمن ولا ريب في أقواله. ترى هل يستسلم للمنطق الذي في نقاشه؟ هل يدع نفسه يقاد كالطفل بحرارة أقوال هذا الرجل، والانفعال الذي كان يخالط صوته فيجعله يرتعد حينا ويتقطع أحيانا؟ هل يخضع لسحر تلك النظرة التي يلتمع فيها نور إيمان مخلص؟ هل كان ذلك الإشراق وتلك الثقة الحوارية
1
ينكدانه بالقدر الذي كان يتناقض تماما مع كآبته الشخصية وفساده الخلقي؟ مهما كان الأمر، فإنه كان راغبا في الإيمان بتلك الأقوال، مؤمنا بها، يشعر بإحساس منشط مجدد يخفف من حدة آلامه ويعيده إلى الحياة.
بيير يلتقي ببازدييف.
وأنهى الماسوني كلامه قائلا: إن الذكاء لا يمكن أن يدركه، لكن الحياة وحدها هي التي تقود إليه!
شعر بيير بقلق بقيام شك في نفسه. ترى هل يجعله ضعف حجج محدثه وغموضها يتنكر للإيمان بمزاعمه؟ ذلك ما كان يخشاه.
قال معترضا: «لست أفهم كيف لا يستطيع الفكر البشري الوصول إلى تلك المعرفة التي تتحدث عنها.»
فابتسم العجوز ابتسامته الأبوية الطيبة، وقال: «إن الحكمة الحقيقية العارية تشبه سائلا شديد النقاء والصفاء نريد ارتشافه. فهل أستطيع الحكم على نقائه إذا صببته في وعاء قذر متسخ؟ إنني لن أستطيع أن أجعل ذلك السائل الثمين يبلغ مرحلة معينة من النقاء إلا إذا عمدت إلى دخيلة نفسي فأنقيتها.»
هتف بيير متشجعا: «نعم نعم، هو كذلك!» - «فالحكمة المطلقة إذن لا ترتكز على العقل وحده، ولا على العلوم المنافية للمناقبية الدينية ؛ كالفيزياء والكيمياء والتاريخ وفروع المعرفة البشرية الأخرى. إن الحكمة البشرية «واحدة»، أما الحكمة المطلقة فإن لها علما واحدا وهو علم «الكل». إنه العلم الذي يفسر كل الخليقة والمكان الذي يحتله الإنسان فيها. ولكي يفسح الإنسان المجال لهذا العلم في نفسه، لا بد له من أن يطهر تلك النفس، وأن يجدد وجوده الداخلي؛ أي إن عليه قبل أن يعرف أن يؤمن ويكمل. ومن أجل مساعدتنا على بلوغ هذه الأهداف، وضعت في نفوسنا تلك الشعلة الإلهية المسماة بالضمير.»
فقال بيير مؤيدا: «نعم نعم.» - «تأمل شخصك الباطن بعيني روحك، وتساءل: هل أنت مسرور من نفسك حقا؟ إلى أين بلغت بمساعدة الفكر البشري وحده؟ إنك شاب وغني وذكي ومثقف؛ فماذا عملت يا سيدي بكل هذه الملكات التي وزعت عليك؟ هل أنت راض عن نفسك وعن طريقتك في الحياة؟»
فقال بيير مكتئبا يعترف بواقعه: «كلا، إنني أمقت حياتي.» - «إذا كنت تمقتها فأبدلها، واستفد منها، وكلما ازددت تطهيرا لنفسك اشتد قربك من الحكمة، ألق نظرة على حياتك يا سيدي، ماذا فعلت حتى اليوم؟ سلسلة من الفسق والإفراط في المنكر. لقد نلت كل شيء من المجتمع، لكنك لم تعط المجتمع شيئا. لقد جاءت الثروة إليك، فكيف تصرفت بها؟ ماذا عملت لآخرتك؟ هل فكرت في عشرات الألوف من عبيدك؟
2
هل قدمت لهم مساعدة جسدية أو فكرية؟ كلا، لقد أفدت من كدحهم وعملهم لتحيا حياة كلها فوضى، هذا ما عملته. هل بحثت عن بعض الأعمال التي تسمح لك بأن تكون نافعا لآخرتك؟ كلا، لقد أمضيت عمرك في عطالة وبطالة، ثم تزوجت يا سيدي، فوجبت عليك مسئولية كبرى؛ وهي توجيه امرأة شابة خلقيا، ولكن ماذا عملت؟ لقد غمستها في أعماق جحيم الكذب والتعاسة بدلا من أن تسدد خطاها في طريق الحقيقة، وأهانك رجل فقتلته. وها إنك تقول لي: إنك لا تعرف الله، وإنك تكره وجودك. ليس في ذلك ما يدهش يا سيدي العزيز.»
ولما بلغ الماسوني هذا الحد أسند رأسه مرة أخرى إلى مسند الأريكة من التعب ولا ريب، وأغمض عينيه. راح بيير يتأمل ذلك الوجه الصارم الجامد الشبيه بوجوه المومياء. حرك شفتيه لتنطقا بجملة «نعم، لقد عشت حياة بشعة مليئة بالفسق والعطالة.» لكنه لم يجرؤ على تبديد الصمت الشامل.
سعل الماسوني سعالا خشنا ينفرد به الشيوخ واستدعى خادمه: «إذن، ماذا جرى للخيول؟» - «إنهم على وشك إعدادها من أجلك، ولكن ألا نأخذ قسطا من الراحة؟» - «كلا، اقطر الخيول إلى العربة.»
راح بيير يتساءل: «هل سيمضي دون أن يحدثني بكل ما كان يريد أن يقوله لي، ودون أن يعدني بمساعدته وعونه؟» كان في تلك اللحظة يذرع أرض الحجرة مبلبل الخاطر، ويختلس بين الحين والحين نظرات وجلة إلى وجه الماسوني. «نعم، إنني لم أفكر في هذا من قبل أبدا، لقد أمضيت حياة مشوشة حقيرة كريهة، لكنها كانت ضد رغبتي. نعم، لقد كنت أمقتها حقا. إن هذا الرجل يعرف الحقيقة، وهو يستطيع إطلاعي عليها لو أنه وافق على ذلك.»
كان بيير يود من صميم قلبه أن يعترف بهذه الأفكار أمام المسافر العجوز، لكن الشجاعة خانته. وفي تلك الأثناء، كان العجوز يزر فروته بعد أن نظم أدوات الشاي بيديه النحيلتين الخبيرتين. ولما انتهى من عمله استدار نحو بيزوخوف وقال له بلهجة مهذبة غير رفيعة: «إلى أين تفكر في الذهاب يا سيدي؟»
فأجاب بيير بصوت طفل غير واثق من نفسه: «أنا؟ إلى بيترسبورج. إنني ممتن لك كل الامتنان، إنني موافق على آرائك بكل قوتي، ولكن لا تعتقد أنني على كل هذا الفساد في الأخلاق أنني أتعطش من كل روحي إلى بلوغ الدرجة التي تريدني على بلوغها، لكن أحدا لم يأخذ بيدي من قبل ولم يساعدني؛ الأمر الذي - على كل حال - لا يخفف من بشاعة سلوكي شيئا. ساعدني إذن وثقفني، ولعلني عندئذ ...»
خنق الانفعال صوته فلم يستطع الاسترسال في الحديث، فاستدار ساخطا، بدا على الماسوني أنه يفكر، وأخيرا قال بعد فترة صمت طويلة: «إن العون لا يأتي إلا من عند الله، لكن جمعيتنا تستطيع مساعدتك ضمن نطاق إمكانياتها. ولما كنت ذاهبا إلى بيترسبورج، أرجو أن تسلم هذه إلى الكونت فيلارسكي.»
وأخرج من حافظته ورقة كبيرة طواها أربعا بعد أن كتب عليها بضع كلمات، وأعطاها له وقال متمما: «اسمح لي بأن أعطيك نصيحة: حالما تصل إلى العاصمة، كرس الأيام الأولى من وصولك للوحدة، فافحص ضميرك ولا ترجع إلى أسلوبك القديم في الحياة.»
ولما رأى خادمه داخلا قال مختتما كلامه: «والآن يا سيدي، أتمنى لك سفرا طيبا، وحظا سعيدا.»
ولما تصفح بيير سجل مدير المركز علم أن ذلك المسافر لم يكن إلا أوسيب ألكسيئيفيتش بازدييف. وكان هذا منذ زمن نوفيكوف
3
واحدا من أكثر المتحمسين لشيعة القديس مارتن وللماسونية. ظل بيير زمنا طويلا بعد ذهاب المسافر يذرع الغرفة جيئة وذهابا دون أن يفكر في الإيواء إلى سريره، أو في طلب خيول لعربته، كان يتمثل الحياة الفاسدة التي عاشها حتى ذلك اليوم، ويتصور - بحماس المؤمن حديث الإيمان - المستقبل الجميل الذي ينتظره، مستقبلا مليئا بالفضيلة والسعادة. كان يقدر أن تحقيقه على جانب من اليسر والسهولة، وأن فساد أخلاقه من قبل لم يكن إلا نتيجة لصدفة منكدة مزعجة. لقد عمي من قبل عن رؤية جمال الفضيلة. أما الآن فقد تبددت شكوكه كلها، وأصبح مؤمنا بأن رجالا متحدين فيما بينهم يستطيعون التعاون للبحث على الفضيلة، وأن الماسونيين كانوا بلا ريب كذلك.
الفصل الثالث
الكونت فيلارسكي
لم يخطر بيير أحدا بوصوله إلى بيترسبورج، بل أمضى أيامه الأولى يقرأ كتاب «القدوة» الذي أوقعته في يده يد مجهولة، وقد أضفت عليه تلك القراءة متعة لم يكن يعرفها من قبل، وهي الإيمان بإمكانية البلوغ إلى الكمال وتحقيق الحب الأخوي في هذا العالم السفلي، ذلك الحب الأخوي الفعال الذي أنبأه به أوسيب ألكسيئيفيتش.
وبعد وصوله بثمانية أيام، دخل الكونت البولوني فيلارسكي، الذي كان بيير قد صادفه في المجتمعات البيترسبورجية من قبل ذات مساء إلى مكتب بيير وعلى وجهه ذلك الطابع الخطير الرسمي الذي اتسم به. شاهد دولوخوف عندما تقدم إليه، وبعد أن أغلق الباب وراءه، وتأكد من خلو المكتب إلا منهما، قال لبيير دون أن يجلس: «إنني مكلف بمهمة لديك يا كونت؛ لقد تدخلت شخصية رفيعة المقام في جماعتنا لتجعل قبولك بيننا - قبل المدة المحددة عادة - مقبولا وممكنا، ولقد كلفت من قبلها أن أكون كفيلك في هذه الخطوة، وإنني أعتبر الامتثال لرغبات تلك الشخصية الرفيعة بمثابة واجب مقدس، فهل ترغب في الانخراط في جماعة الماسونيين على مسئوليتي وعهدتي؟»
دهش بيير للهجة الباردة الحازمة التي يتحدث بها هذا الرجل الذي لم يره مرة إلا والابتسامة مشرقة على وجهه في المجتمعات، لطيفا، مقربا إلى ألمع النساء وأشدهن فتنة.
قال يجيبه: «نعم، إنها رغبتي.»
هز فيلارسكي رأسه مؤيدا وقال: «هناك سؤال أخير يا كونت، أرجو أن تجيبني عليه بكل إخلاص وأمانة، لا بوصفك ماسونيا مقبلا، بل بوصفك شابا أمينا نبيلا: هل تنكرت لأفكارك القديمة، وبت تؤمن بالله؟»
فكر بيير برهة وقال: «نعم، نعم إنني أومن بالله.»
قال فيلارسكي: «في هذه الحالة ...»
لكن بيير قاطعه مكررا: «نعم، إنني أومن بالله.»
فقال فيلارسكي متمما: «في هذه الحالة يمكننا الذهاب. إن عربتي بالباب وهي في خدمتك.»
لبث فيلارسكي صامتا طيلة الطريق، كان يجيب على أسئلة بيير حول ما يجب عليه أن يعمل ويقول. إن إخوة أرفع مقاما منه وأكبر منه شأنا سيختبرونه، وإن عليه أن يصدقهم القول.»
وبعد أن ترجلا من العربة تحت رواق البناء الذي يحتله المحفل، صعدا سلما معتما ودخلا إلى ردهة صغيرة مضيئة، وهناك نزعا فروتيهما دون مساعدة الخدم. ولما دخلا إلى الغرفة التالية جاء رجل يرتدي زيا غريبا. دخل عليهما من الباب الآخر، فمضى فيلارسكي إلى لقائه وخاطبه بالفرنسية بصوت منخفض، ثم اقترب من خزانة شاهد بيير فيها ألبسة لم ير مثلها في حياته. أخذ فيلارسكي منديلا من الخزانة عصب به عيني بيير، وربط عقدته وراء رأسه ضاما بذلك دون عمد خصلة من شعر رأسه. ولما انتهى من عمله جذبه إليه وقبله ثم مضى به ممسكا بيده. وكانت خصلة الشعر الملفوفة مع عقدة المنديل تؤلمه، فكان يقلص وجهه من الألم، ويبسم مع ذلك ابتسامة المستحي . كان ذلك العملاق ذو الذراعين المباعدين والوجه المتقلص الباسم يتبع فيلارسكي بمشية مضطربة مترددة.
ولما قطع بضع خطوات توقف فيلارسكي وقال له: «مهما أصابك، ينبغي أن تحتمل بشجاعة وجلد إذا كنت مصمما بعزم على الدخول في محفلنا وإخوتنا.»
فهز بيير رأسه إيجابا، بينما أردف فيلارسكي: «عندما تسمع قرعا على الباب، يمكنك نزع العصابة عن عينيك. أتمنى لك شجاعة طيبة وحظا طيبا.» وانسحب بعد أن ضغط على يده مصافحا.
لبث بيير يبسم بعد أن أصبح وحيدا. لقد رفع يده مرتين أو ثلاث مرات محاولا نزع العصابة وهو يهز كتفيه، لكنه في كل مرة كان يسدل يده قبل أن تصل إلى المنديل. كانت عيناه معصوبتين منذ خمس دقائق فقط. مع ذلك، فقد خيل إليه أن تلك الدقائق الخمس كانت ساعة كاملة. شعر بيديه تتخدران وبساقيه تنحطان تحت ثقل جسده، وأحس بموجة من الوهن تستولي عليه وتضنكه، وكان أشد ما يخافه هو أن يخفق في إخفاء خوفه. كانت معرفة ما سيعملون به وما سيطلعونه عليه تثير في نفسه فضولا قويا، وكان جذله يتزايد كلما شعر أن اللحظة التي ستمهد له السير على طريق التجدد والنشاط الفاضل الذي كان يحلم به منذ لقائه مع أوسيب ألكسيئيفيتش باتت قريبة وشيكة.
تجاوبت طرقات عنيفة على الباب، فنزع بيير العصابة عن عينيه وراح يجيلهما حوله. استطاع خلال الظلام الدامس الذي كان يغمر المكان أن يميز قنديلا مشغلا في شيء أبيض، فلما اقترب منه رأى القنديل موضوعا على مائدة سوداء أمام كتاب كبير مفتوح. كان ذلك الكتاب نسخة من الإنجيل، وكان الشيء الأبيض جمجمة ميت. قرأ الكلمات التالية: «في البداية كان الفعل، والفعل كان في الله.» وعلى مقربة من المائدة شاهد صندوقا مثبتا مغطى، يبدو عليه أنه ممتلئ، عرف فيه نعشا تملؤه عظام بشرية، لكن ذلك كله لم يذهله ولم يدهشه. كان يتوقع أشياء خارقة أكثر غرابة من التي رآها حتى تلك اللحظة، وكان توقعه هذا راجعا إلى رغبته العميقة في تدشين حياة جديدة مختلفة تماما عن حياته السابقة. أما الجمجمة والإنجيل والنعش ، فقد كان يؤمن أنه متوقع كل هذه الأشياء، وكثيرا غيرها أيضا. ولكي يثير في نفسه حمية العبادة والتمجيد أخذ يلفظ في سره: «الله، موت، حب، أخوة.» التي كان يرى فيها مرئيات غامضة مطمئنة تنبعث منها. في تلك اللحظة فتح الباب ودخل بعضهم.
شاهد بيير الذي اعتادت عيناه الظلام رجلا قصير القامة يقف مترددا لحظة لدخوله من الضوء إلى الظلام، ثم يمشي بخطوات متحرزة، فيضع فوقها يديه المغيبتين في قفازين من الجلد. كانت صدارة من الجلد الأبيض تغطي صدره وجزءا من ساقيه، وكان يطوق عنقه بشيء يشبه القلادة، وتبرز من ذلك الشيء مشغلة بيضاء تؤطر وجهه المتطاول المضاء من الأسفل.
التفت ذلك الرجل نحو الاتجاه الذي كانت تصدر عنه حركة خفيفة تدل على وجود بيير، وسأله: «لماذا جئت إلى هنا؟ لماذا جئت إلى هنا يا من لا تؤمن بالنور الحقيقي، ولا ترى ذلك النور؟ ماذا تريد منا؟ أهي الحكمة والفضيلة والعلم؟»
منذ اللحظة التي فتح فيها الباب ليسمح لذلك الغريب بالدخول، شعر بيير باحترام قلق يشبه ذلك الذي كان يسيطر عليه في طفولته كلما مضى للاعتراف. لقد كان في تلك اللحظة وجها إلى وجه مع رجل لم يكن شيئا مذكورا بالنسبة إليه في الحياة العامة، ولكن الإخاء البشري جعله شديد القرب منه في تلك اللحظة. كان قلبه يكاد يقفز من صدره أو يتفجر فيه، فاقترب من «الخطيب» - هذه هي التسمية التي تطلق في المحافل الماسونية على الأخ المكلف بتثقيف المبتدئ - ولما صار في دائرة الرؤية عرف فيه المدعو سموليانينوف، وهو أحد معارفه، لكنه طرد ذلك الخاطر وكأنه خاطر مزعج. إن هذا الرجل لا يجب أن يكون له أخ ومدرس فاضل. ظل فترة طويلة لا يجد ما يرد به على سؤاله، حتى إن الخطيب اضطر إلى تكرار السؤال، وأخيرا تمتم بيير، فقال سموليانينوف مستأنفا كلامه بلهجة حازمة وسريعة: «حسنا، هل تعرف لمحات عن الأساليب التي تملكها جماعتنا المقدسة، والتي تكفل لك الوصول إلى غايتك؟»
فأجاب بيير بصوت منفعل متداع مرتعد: «إنني أتوقع ... أن ... أوجه ... وأغاث.»
لم يكن يألف التعبير عن أفكاره باللغة الروسية، خصوصا إذا كانت أفكارا مجازية؛ لذلك فإنه ما كان يجد الكلمات الموافقة الملائمة. - «أية فكرة كونت لنفسك عن الماسونية؟»
أجاب بيير وهو شديد الخجل لاستعماله كلمات لا تتفق تماما مع عظمة الموقف وجلاله: «إنني أرى فيها جمعية أخوية تؤمن بالمساواة في سبيل أهداف نبيلة فاضلة. إنني أرى فيها ...»
بادر الخطيب يقول وقد أعجبه الرد كما يبدو: «حسنا هل فتشت في الدين عن وسائل تبلغك إلى هذه الغايات؟» - «كلا، لقد كنت أعتبر الدين خدعة وغشا؛ فلم ألاحظ تعاليمه وأحكامه.»
نطق بيير بهذه العبارة بصوت منخفض، حتى إن الخطيب اضطر إلى مطالبته برفع صوته، فقال مفسرا: «لقد كنت ملحدا.»
صمت الخطيب لحظة ثم استأنف قائلا: «إنك تبحث عن الحقيقة لتخضع حياتك لتعاليمها، وبالتالي فإنك تبحث عن الحكمة والفضيلة، أليس كذلك؟»
فقال بيير مؤكدا: «بلى، بلى.»
عقد الخطيب يديه المقفزتين على صدره، وبعد أن سعل سعالا خفيفا، قال: «ينبغي أن أكشف لك الآن عن الخطة الهائلة التي يتبعها محفلنا، فإذا وجدتها متفقة مع أهدافك ومراميك فإنك ستجد فائدة في مساهمتك معنا في إخوتنا. إن غاية جماعتنا الأولى؛ أي القاعدة التي ترتكز عليها، والتي لا يمكن لقوة بشرية أن تزعزعها، هي المحافظة على سر معين شديد الخطورة، ورفعه وإبلاغه الأجيال الصاعدة. لقد وصل إلينا هذا السر الخطير منذ أكثر القرون تأخرا، بل منذ خليقة الإنسان الأول، ويتوقف عليه تقريبا مصير الجنس البشري كله. ولما كان هذا السر من نوع خاص يجعل من المستحيل على أي كان أن يفيد منه إلا إذا هيأ نفسه طيلة فترة طويلة من التطهير النفسي؛ لذلك فإن عددا قليلا جدا من الأشخاص يستطيعون الاطلاع عليه للوهلة الأولى؛ ولهذا السبب فإن مهمتنا الثانية تنحصر في إعداد إخواننا، وتنقية قلوبهم، وتطهير عقولهم وتنويرها بالطرق التي نقلها إلينا الرجال الذين جهدوا في البحث عن هذا السر، حتى نجعلهم صالحين وقادرين على الاطلاع عليه. وفي المرحلة الثالثة فإننا نسعى بكل قوانا لصلاح الجنس البشري كله، بتطهيرنا وتهيئتنا تلامذتنا والمتشيعين لنا حتى نقدمهم له كأمثلة من التقوى والورع والفضيلة. وبهذه الطريقة نستعمل كل نشاطنا لمحاربة الإثم والشر اللذين يسيطران على هذا العالم. فكر في هذا وسأعود بعد قليل.»
وانسحب الخطيب فور انتهائه من هذا الكلام.
كرر بيير قوله: «محاربة الإثم والشر اللذين يسيطران على هذا العالم.» وهو يهيئ نشاطه المقبل للسير في هذا المضمار. راح يتمثل نفسه حيال أشخاص يشبهون ما كان عليه منذ خمسة عشر يوما، وهو يوجه إليهم فكريا موعظة مقنعة، وأنه يساعد الفاسدين المتفسخين بأقواله وأفعاله، ويسعف المساكين البؤساء، وينقذ ضحايا المعتدين والطغاة. كان يقدر المبدأ الثالث من المبادئ التي سردها عليه الخطيب، وهو تهذيب الجنس البشري. صحيح أن السر الخطير الذي تحدث عنه ذلك الرجل أثار فضول بيير، لكنه لم يبد له شديد الأهمية. أما الهدف الثاني «التطهير الشخصي»، فإنه كان قليل الالتفات إليه؛ لأنه كان يشعر في أعماق نفسه بأنه قد أصلح من نفسه تماما، وأن أخطاءه السابقة لم تعد إلا ذكريات باهتة، وأن عنايته قد صرفت الآن نحو الخير، ولا شيء سواه.
لم تنقض نصف ساعة حتى عاد الخطيب لينبئ الخطيب التلميذ بالفضائل السبع التي تقابل درجات معبد سليمان السبع، والتي يجب على كل ماسوني أن ينميها في نفسه. وهذه الفضائل هي: (1) السرية التي تحفظ أسرار الجماعة. (2) الطاعة لذوي المناصب الرفيعة. (3) الخصال والعادات الرفيعة. (4) حب الإنسانية. (5) الشجاعة. (6) الكرم. (7) حب الموت.
ولما انسحب الخطيب من جديد تاركا بيير لأفكاره الخاصة، فكر هذا في سره: «نعم، ينبغي أن يكون الأمر كذلك، ينبغي أن يكون الأمر كذلك، لكنني ما زلت من الضعف لدرجة أنني أحب الحياة التي بدأت الآن أتعمق في فهم اتجاهها وجوهرها.» أما الفضائل الخمس الأخرى التي راح بيير يراجعها وهو يعدها على أصابعه، فإنه كان يشعر أنها موجودة فعلا في نفسه؛ فالشجاعة والكرم والعادات الطيبة وحب الإنسانية، وبصورة خاصة الطاعة، التي كانت تبدو له سعادة أكثر من كونها فضيلة، كانت متجمعة في نفسه . لقد كان يشعر أن الطاعة سعادة أكثر منها فضيلة لشدة رغبته في التخلص من حكمه الخاص، وإسلام إرادته لأولئك الذين يملكون الحقيقة المطلقة التي لا يمكن دحضها. أما الفضيلة السابعة فقد نسيها بيير، فلم يكن يتوصل إلى تذكرها.
عاد الخطيب إلى الظهور بعد غياب أقصر من الأول. سأل بيير عما إذا كان لا يزال مصمما على قراره، ومقررا بملء رغبته أن يخضع لكل ما يطلبونه منه، فقال: «إنني مستعد لكل شيء.»
أردف الخطيب قائلا: «ينبغي أن أخطرك كذلك بأن جماعتنا يعلمون مبادئهم ليس بالأقوال فحسب، بل بوسائل أخرى أيضا تفرض على ذلك الذي يبحث عن الحكمة بإخلاص وعن الفضيلة. ولعل تلك الوسائل أشد تأثيرا من التعليمات الشفهية. إن ما يزين هذه الغرفة ينبغي أن يؤثر في قلبك - إذا كان مخلصا - أكثر من تأثير أي خطاب، ولعلك سترى كلما ازددت تعمقا في العلم وسائل للتثقيف مماثلة لهذه. إن جماعتنا تحاكي في هذا، المجتمعات العريقة القديمة التي كانت تنشر تعاليمها بواسطة الألغاز، كما كانت عليه الكتابة الهيروغلوفية.»
توقف برهة ثم أردف متمتما: «إن الهيروغلوفية هي رمز شيء لا يقع في مدى الحواس، ولكنه مع ذلك يملك صفات تشبه تلك التي يمثلها.»
كان بيير يعرف تماما ما معنى كلمة «هيروغليف»، لكنه لم يجرؤ على الإفصاح عن رأيه. كان يصغي بصمت شاعرا أن الاختبارات على وشك الوقوع.
استأنف الخطيب كلامه وهو يقترب منه قائلا: «إذا كنت مصمما تصميما حازما، فإن واجبي يجبرني على البدء في إشراكك في جماعتنا. والآن أرجو أن تعطيني كل ما تملكه من أشياء ثمينة للدلالة على كرمك.»
فقال بيير معترضا معتقدا أنهم يطلبون منه تقديم كل ما يملك من مال وعقار: «لكنني لم أحمل معي شيئا.» - «ما هو موجود معك هنا: ساعة، نقد، خواتم ...»
بادر بيير إلى إخراج كيس نقوده وساعته، واستغرق وقتا طويلا في سحب خاتم زواجه من أصبعه الضخم، فلما قدم هذه الأشياء قال له الماسوني: «والآن أرجو أن تخلع ثيابك للدلالة على طاعتك.»
نزع بيير ثوبه وصدارته وحذاءه الأيسر بناء على إشارة الخطيب، وكشف له الماسوني القميص عن الجانب الأيسر من صدره، وانحنى فحسر كم سرواله الأيسر حتى فوق الركبة. أراد بيير أن يخلع حذاءه الأيمن حتى يوفر العناء على هذا الرجل الذي لم يكن بالنسبة إليه شيئا مذكورا. لكن الماسوني أكد له أن ذلك غير ضروري، وقدم له خفا منزليا لينتعله في قدمه اليسرى. ارتسمت على وجه بيير ابتسامة صبيانية، مزيج من الخجل والسخرية. ظل واقفا وذراعاه وساقاه مباعدتان قبالة الخطيب ينتظر أوامر جديدة. قال هذا أخيرا: «والآن للدلالة على إخلاصك أرجو أن تعترف لي بالضعف الرئيسي الموجود فيك.»
قال بيير: «نقاط ضعفي! إن عندي كثيرا منها!» - «النقطة التي جعلتك تتعثر على طريق الفضيلة أكثر من سواها.»
راح بيير يفكر ويزن بميزان عقله كل إثم من آثامه وميل ومفسدة في نفسه: «الخمر؟ رخاء العيش؟ البطالة؟ الكسل؟ الغضب؟ الخبث؟ النساء؟» ما كان يعرف أي عيب من هذه العيوب يقدم، وأخيرا قال بصوت لا يكاد يسمع: «النساء!»
ظل الماسوني فترة طويلة صامتا بعد هذا الجواب لا يتحرك، وأخيرا اقترب من بيير وأخذ المنديل عن المائدة فعصب عينيه من جديد. - «للمرة الأخيرة أقول لك: تعمق في نفسك، كبل عواطفك وابحث عن السعادة في قلبك وليس في شهواتك. إن منبع السعادة الأبدية ليس خارج نفوسنا، بل في نفوسنا نفسها.»
شعر بيير سلفا أن نبع السعادة الأبدية ذاك أخذ يتفجر في قلبه ويغرقه بالحبور والحنو.
الفصل الرابع
المحفل الماسوني
بعد قليل من الوقت، جاء أحدهم يقود بيير. لم يكن ذلك الشخص هو الخطيب نفسه، بل فيلارسكي شبيه بيير في هذا العماد. ولقد تعرف بيير على شخصه من صوته. كرر عليه السؤال حول عزمه الأكيد وتصميمه واستعداده، فأجاب بيير: «نعم نعم، إنني مصمم وموافق.» وارتسمت على وجهه ابتسامة الطفل المشعة، وراح يمشي وصدره الضخم مكشوف، وخطواته متعثرة مرتبكة، وفي إحدى قدميه حذاؤه، وفي الأخرى الخف. أخذ بيير يسير وأمامه فيلارسكي وبيده سيف مسدد إلى صدره. اقتيد عبر المماشي المتعرجة حتى بلغ أخيرا باب المحفل. سعل فيلارسكي فأجيب بطرقات موقعة وفتح الباب. سأل أحدهم بيير بصوت غليظ منخفض عن اسمه ومكان ولادته ... إلخ. ثم عاد إلى السير يقوده دليله وعيناه لا زالتا معصوبتين. كان بعضهم يحدثه خلال سيره بعبارات مجازية رمزية عن صعوبات رحلته، والصداقة المقدسة، ومهندس الكون الأزلي، وعن الشجاعة التي يجب عليه احتمال الوصب والمتاعب بها والأخطار، ولاحظ بيير أنهم كانوا يسمونه تارة ب «الذي يبحث»، وأخرى ب «الذي يتألم»، وثالثة ب «الذي يسأل»، وأنهم يقرعون في كل مرة السيوف والمواقع قرعا خاصا. وبينما كانوا يقودونه نحو شيء معين، لاحظ ترددا على مرافقيه الذين راحوا يتباحثون بصوت منخفض، وسمع أحدهم يلح على أن يمر التلميذ فوق بساط ما. وأخيرا أمسكوا بيمناه، ووضعوها على شيء ما، ووضعوا في يسراه فرجارا ورجوه أن يضغط به على ثديه الأيسر، ثم طلبوا إليه أن يكرر قسم الإخلاص للمحفل والجماعة طيلة تلاوتهم لذلك القسم.
وأخيرا أطفئوا الشموع وأشعلوا كحولا، كما استنتج بيير من الرائحة التي انبعثت من احتراق الكحول، وأخطروه بأنه سيرى الآن النور الأصغر، ثم رفعوا العصابة عن عينيه، فشاهد - وكأنه في حلم - على ضوء الشعلة الخافتة عددا من الأشخاص واقفين قباله مرتدين صدارات بيضاء تشبه صدارة الخطيب، ومسددين إلى صدره سيوفهم، وكان أحدهم يرتدي قميصا مخضبا بالدم، فلما وقع بصر بيير على ذلك المشهد ارتمى على السيوف راغبا في أن تخرق صدره، لكن هذه أبعدت عنه، وهرع بعضهم إلى العصابة يحكم وضعها على عينيه.
قال له صوت: «لقد رأيت الآن النور الأصغر.»
ثم أشعلت الشموع مجددا وأخطروه بأنه سيرى بعد قليل النور الأكبر، ثم رفعوا العصابة عن عينيه، وسمع اثني عشر صوتا تردد معا عبارة: «هكذا يمر مجد العالم.»
lic transit gloria mnndi .
استعاد بيير رباطة جأشه تدريجيا، وراح يفحص الغرفة والأشخاص الموجودين فيها. شاهد فيها اثني عشر رجلا جالسين وراء مائدة مستطيلة مغطاة بقماش أسود، يرتدون الألبسة التي شاهدها من قبل. عرف بعضهم، لكنه لم يستطع معرفة الرئيس، وهو شاب كان عنقه مزينا بوسام خاص، وكان إلى يمين الرئيس يجلس الأب الروحي الإيطالي الذي شاهده بيير في العام الماضي عند آنا بافلوفنا، وكذلك رأى موظفا كبيرا في الدولة ومدرسا سويسريا كان صديقا حميما لآل كوراجين، كانوا جميعهم صامتين صمتا رهيبا، يصغون إلى أقوال الذي كان ممسكا بميقعة في يده. وعلى الجدار شاهد نجما يتألق، ورأى سجادة صغيرة مزينة بصفات رمزية ممددة عند جانب المائدة. أما الجانب الآخر فكان مجاورا لمذبح أقيم عليه إنجيل وجمجمة بشرية، وكان في الغرفة سبعة «شمعدانات» كبيرة كالتي توضع في الكنائس مصفوفة بنظام في أركانها. قاد اثنان من الإخوان «بيير» إلى المذبح وطلبوا إليه الاستلقاء على الأرض، بعد أن باعدوا بين ساقيه على شكل مثلث، وفسروا له هذا العمل بأنه خضوع وخشوع أمام أبواب المعبد.
قال أحدهما بصوت منخفض: «ينبغي أن يتلقى المسيعة أولا.»
فأجاب الآخر: «كلا، إن ذلك عديم الجدوى لا لزوم له.»
لم يخضع بيير للأمر، بل راح يجيل حوله نظراته الضعيفة التائهة، وفجأة برزت الشكوك في نفسه «أين أنا؟ ماذا أعمل؟ ألا يسخرون مني؟ ألن أشعر بالخجل مستقبلا إذا تذكرت كل هذا؟» لكن تردده لم يدم لحظة واحدة. تأمل الوجوه الجدية التي تحيط به، وفكر في كل ما عمله حتى تلك اللحظة، وفهم أن من الصعب النكوص على عقبه بعد أن اجتاز هذه المرحلة الطويلة، رفع شكوكه وأبعدها برعب واستنكار مستعيدا اندفاعه وحماسته الأولى، واستلقى أمام المعبد، وشعر أن غيرته الدينية قد عادت إليه، وهي أكثر اتقادا من كل وقت مضى، ظل في استلقائه زمنا معينا. وأخيرا رجوه أن ينهض، وعندئذ قدموا إليه صدارة بيضاء مماثلة لصدارتهم، وأعطوه مسيعة وثلاثة أزواج من القفازات، ثم وجه إليه المعلم الكبير الكلام، طلب إليه ألا يلوث بياض هذه الصدارة بشيء؛ لأنها رمز الحزم والطهر. أما المسيعة الغامضة فإنها ستفيده في تنظيف قلبه من الأدران والخبائث، وفي تسوية قلب المجتمع دون خشونة.
أما الزوج الأول من القفازات فلن يكشف له في الوقت الحاضر عن معناه، لكن عليه الاحتفاظ به. أما الثاني فعليه أن يضع يديه فيه في الاجتماعات. وكان الزوج الثالث من تلك القفازات مصنوعا للنساء على عكس الزوجين الأولين، قال له المعلم الكبير عنهما: «أيها الأخ العزيز، إن هذين القفازين النسويان مخصصان لك كذلك، ستعطيهما للمرأة التي ستشعر بالاحترام نحوها أكثر من الأخريات، سوف تبرهن بهديتك هذه على نقاء قلبك وصفائه لتلك التي ستنتخبها لتكون ماسونية جديرة باسمها.» وبعد فترة صمت أردف قائلا: ولكن حاذر يا أخي العزيز أن تزين هذه القفازات أيدي غير نقية. خيل لبيير خلال حديث المعلم الأكبر أن هذا ليس على غاية ما يرام، فازداد اضطرابه لهذه الفكرة، واندفع الدم غزيرا إلى وجهه، فغدا شديد الاحمرار أشبه بوجوه الأطفال، وراح يلقي حوله نظرات قلقة.
تبع ذلك سكوت مربك قطعه أحد الإخوان بعد قليل. قاد ذلك الأخ «بيير» نحو السجادة وراح يقرأ عليه في دفتر هناك شروح تلك الرسوم الرمزية التي كان عليها: الشمس، القمر، الميقعة، الفادم، المسيعة، الحجر الخام والمكعب، العمود، النوافذ الثلاث ... إلخ، ثم عينوا له مكانا في الاجتماعات، وإشارات المحفل المصطلحة، وكلمة السر. وأخيرا، سمحوا له بالجلوس. أخذ المعلم الأكبر يقرأ عليه النظام الذي كان شديد التطويل، والذي لم يلق بيير إليه أذنا مستوعية؛ لشدة ما كان متأثرا بالفرح والانفعال والارتباك، فلم يحفظ منه إلا المقطع الأخير:
في معابدنا لا نعرف درجات أخرى غير التي تفصل الخير عن الشر؛ فاحذر القيام بخلافات تحطم المساواة. اهرع إلى مساعدة أخيك دون تمييز، وأعد الذي يتوه، وأنهض الذي يسقط، ولا تغذ في نفسك أي شعور بالكراهية لأخيك أو الحقد عليه. أوقظ في كل القلوب شعلة الفضيلة، واقتسم سعادتك مع المجتمع، ولا تدع الحسد والرغبة يزعزعان هذه المتعة النقية الطاهرة. اصفح عن عدوك ولا تنتقم منه إلا بعمل الخير له. إنك إذا نفذت القانون الرفيع على هذا الشكل استعدت على آثار عظمتك القديمة الضائعة.
ولما انتهت قراءة النظام، نهض المعلم الأكبر وضم بيير وقبله. حار بيير في إيجاد التعابير الملائمة للجواب على التهاني وعبارات الود والصداقة التي ارتفعت من كل مكان حوله، فراح يجيل حوله نظرات حائرة والدموع تترقرق في عينيه. نسي أولئك الذين كان يعرفهم بين المجتمعين، وراح ينظر إليهم جميعا نظرته إلى إخوان له. كان يتحرق شوقا إلى العمل متعاونا معهم.
قرع المعلم الأكبر بمطرقته؛ كل إلى مجلسه، وعرض أحد الإخوان ضرورة التصاغر والخشوع، فكان ذلك الدرس الأخير الذي ألقي على بيير يومئذ.
ولما أوعز المعلم الأكبر بالقيام بالواجب الأخير، قام الموظف الكبير الذي كان يشغل منصب الأخ الجابي وطاف بالموجودين. كان بيير يريد أن يسجل على ورقة التبرعات كل المال الذي كان يحمله، لكنه خشي أن يكون في ذلك دليل على الكبرياء؛ لذلك فقد وضع رقما مساويا لأرقام الآخرين.
انتهت الجلسة، ولما عاد بيير إلى مسكنه أحس كأنه رجع لتوه من سفر طويل دام عشرات السنين، تبدل خلاله تبدلا كليا، وقطع كل علاقة له وصلة مع عاداته القديمة.
الفصل الخامس
محاولة الأمير بازيل
في اليوم الثاني لقبول بيير في المحفل، كان هذا جالسا في مسكنه يقرأ محاولا بكل قواه الفكرية أن يتفقه في معنى المربع الذي كان أحد أضلاعه يشير رمزيا إلى الله، والثاني إلى العالم الفكري، والثالث إلى العالم السفلي، والرابع إلى العالمين معا. كان خلال فترات يترك الكتاب والمربع، ويطلق لخياله العنان، ويضع في تفكيره أسس حياته الجديدة. لقد أخبروه أمس في المحفل أن الإمبراطور اطلع على قصة المبارزة، وأنه يتصرف بتعقل إذا ابتعد عن بيترسبورج لبعض الوقت، فكان يزمع القيام برحلة إلى أملاكه في الجنوب للتفرغ بالعناية بفلاحيه هناك. وكانت الأحلام اللذيذة تهدهد خاطره عندما قطع عليه تأملاته فجأة الأمير بازيل الذي دخل الحجرة.
سأله هذا دون مقدمات: «ماذا فعلت في موسكو يا صديقي؟ لم بحق الشيطان اختصمت مع ليوليا يا عزيزي؟ إنك على خطأ مبين. إنني أعرف كل شيء وأستطيع أن أؤكد لك أن ليوليا ليست مخطئة نحوك إلا بالقدر الذي أخطأ فيه المسيح نحو اليهود.»
هم بيير بالجواب، لكن الأمير بازيل لم يترك له الوقت، تابع حديثه قائلا: «ولماذا لم تأت إلي لتطلب مشورتي كصديق؟ أعرف كل شيء ، وأفهم كل شيء. لقد تصرفت تصرف الرجل الذي يعرف قيمة شرفه، ولكن في شيء من العجلة، مع ذلك لندع هذا. فكر فقط في أي موقف وضعتنا - هي وأنا - حيال المجتمع، بل وحيال البلاط.»
أضاف هذه الجملة الأخيرة بصوت منخفض، ثم أردف مؤكدا وقد أمسك على عادته بذراع بيير وأنزلها نحو الأرض: «إنها تقطن في موسكو، وها أنت ذا هنا، فهيا يا عزيزي؛ إنه سوء تفاهم لا أكثر. أعتقد أنك لمست ذلك بنفسك. لنكتب لها رسالة، وستهرع على الفور، وسيزول كل الجفاء، وإلا يا عزيزي فإن هذه المسألة قد تنتهي بما لا يسرك، بل ويؤسفك. إنني أرغب في إخطارك منذ الآن.»
وأعقب قائلا بعد أن ألقى على بيير نظرة حافلة بالمعاني: «نعم، إنني علمت من مصدر موثوق أن الإمبراطورة المطلقة مهتمة بهذا اهتماما كليا، وأنت تعرف محبتها والتفاتاتها نحو هيلين وعطفها عليها.»
كاد بيير يقاطع المتحدث مرارا، لكنه إلى جانب استرسال الأمير في الحديث بحرارة كان يخشى أن يعلن لحميه بلهجة قاسية شديدة رفضه الجازم، الذي كان مصمما على التمسك به، ثم إنه تذكر في تلك اللحظة أن مقطعا من النظام الماسوني يأمره أن يكون وديعا حانيا؛ لذلك فقد قطب حاجبيه وتضرج وجهه، وراح يقف ويجلس ويكرر ذلك وهو يناضل نفسه في أشد المواقف إيلاما، مما لم يسبق له من قبل أن جربه بها؛ ذلك أنه لم يكن يطيق مجابهة أحد بأشياء مزعجة، وإبلاغ هذا الرجل، بصرف النظر عن مكانته، أمرا لا يتوقعه كان من أشد المزعجات. لقد اعتاد بيير الاستكانة أمام لهجة الأمير بازيل المستخفة الحازمة، وأساليبه المصطنعة، فكان في تلك اللحظة كذلك لا يجد بنفسه الشجاعة الكافية على مقاومته. مع ذلك، فقد كان يعرف أن الكلمات التي سيفوه بها ستقرر مصير مستقبله كله، فهل يرجع إلى أخطائه السابقة وضلاله، أم يسلك السبيل الجديد الذي أطنب الماسونيون في امتداحه، والذي سيقوده دون ريب إلى التجدد الذي طالما تاقت نفسه إليه؟
استأنف الأمير بازيل كلامه قائلا بلهجة فكهة: «هيا يا عزيزي ، قل نعم، وسأكتب لها بنفسي، وعندئذ لا يبقى أمامنا إلا أن نحتفل بإزالة سوء التفاهم.»
لم يكن قد أنهى جملته بعد عندما انتصب بيير ووجهه المتقلص من الغضب يعيد إلى الذاكرة فجأة وجه أبيه، وقال بصوت منخفض دون أن ينظر إليه: «لا أعتقد يا أمير بأنني استدعيتك إلى منزلي! فاخرج. أرجوك اخرج!» واندفع نحو الباب، فلما فتحه عاد يكرر وهو لا يصدق نفسه: «اخرج، هيا!»
شعر بغبطة غامرة عندما رأى الأمير بازيل تفضح قسمات وجهه فجأة لونا من التشوش والخوف. قال هذا: «ماذا دهاك؟ أأنت مريض؟!»
فكرر بيير بصوت مرتعد: «قلت لك: اخرج!»
فاضطر الأمير بازيل إلى الانسحاب دون أن يحظى بتفسير عما جاء من أجله.
وبعد ثمانية أيام، استأذن بيير من أصدقائه الجدد وقدم إليهم منحة كبيرة، ومضى لزيارة أملاكه وأراضيه. حمله الإخوان رسائل إلى الماسونيين في كييف
1
وأوديسا
2
ووعدوه بالكتابة إليه وإرشاده في نشاطه الجديد.
الفصل السادس
حديث الأندية
على الرغم من القسوة والصرامة التي كان يبديها الإمبراطور في ذلك العصر حيال المبارزات، فإن المبارزة التي وقعت بين بيير ودولوخوف لم تتبعها ذيول مؤسفة وتدابير مؤذية بالنسبة للخصمين والشهود معا. مع ذلك، فإن الشائعات لم تلبث أن راجت حول أسباب المبارزة ودوافعها، فجاء قطع العلاقات بين بيير وهيلين منشطا لها حتى بلغت المجتمعات الراقية، وأصبحت حديث اليوم فيها، وكان بيير - الذي عومل بمراعاة عندما كان يعتبر ابن سفاح، والذي راحوا يطرونه ويتملقونه عندما أصبح محط الأنظار، والصفقة الهائلة الكبرى في المملكة كلها - قد خسر منذ زواجه الشيء الكثير من اعتباره في المجتمعات الراقية، وفقد الاهتمام الشديد الذي كانوا يحيطونه به، فالأمهات اللاتي كن يحلمن في تزويجه بناتهن، والفتيات اللاتي كن ينظرن إلى الفوز به زوجا فقدن اهتمامهن به.
أما الأندية والمجتمعات فقد تغاضت كذلك عنه؛ لأنه كان جاهلا بأسباب الرياء والملق، وإلفات الأنظار إليه فيها. وعلى ذلك فقد راحوا يعتبرونه المسئول الأوحد عن كل ما حدث، ويصورونه غيورا سخيفا شاذا، خاضعا كأبيه المرحوم لنوبات من الغضب الدموي الوحشي . فلما عادت هيلين إلى الظهور في الأندية بعد ذهاب بيير من بيترسبورج، استقبلها معارفها كلهم بود يشوبه الاحترام بسبب المصيبة التي وقعت لها، فإذا ما دار الحديث حول زوجها اتخذت هيلين طابع الوقار الذي كان إحساسها الفطري يوحيه لها، دون أن تفهم على الضبط موضوع ذلك الحديث.
كان ذلك الطابع يشير إلى أنها مصممة على احتمال مصيبتها دون تذمر، وأنها تعتبر زوجها صليبا
1
أرسله الله إليها. أما الأمير بازيل فكان يعرب عن رأيه في صهره بعبارات أكثر دقة وإحكاما، فيقول مشيرا بأصبعه إلى جبهته: «إنه أرعن ماجن، وقد قلت دائما.»
وتؤيد آنا بافلوفنا أقواله جازمة: «لقد قلت ذلك دائما. نعم، لقد أظهرت ذلك منذ البداية قبل كل الناس.»
كانت تلح على أسبقيتها في التكهن بفساد بيير وعدم صلاحه: «نعم، لقد قلت قبل كل الناس أن أفكار هذا العصر الفاسدة قد زعزعت عقل هذا الفتى. لقد كان عائدا من الخارج فكان كل الناس يرفعونه فوق السحاب إلا أنا. لقد حكمت عليه للوهلة الأولى عندما رأيته ذات مساء عندي يتحدث وكأنه مارا،
2
ألا تذكرون؟ ثم كيف انتهى ذلك؟ إنني منذ تلك اللحظة ما كنت أرغب في ذلك الزواج. لقد كنت أتوقع هذه النتائج.»
كانت آنا بافلوفنا تحيي في أيام فراغها الحفلات التي تنفرد وحدها في فن إقامتها على طريقتها وتنظيمها. كانت تجمع - حسب تعبيرها الخاص - زبدة المجتمع الراقي الحقيقي، وزهرة الروح الفكرية الرفيعة الكامنة في مجتمع بيترسبورج. وإلى جانب هذا الانتقاء الرائع للمدعوين، كانت حفلات آنا بافلوفنا تعرض شيئين جذابين آخرين؛ ففي كل منها كانت تقدم لضيوفها شخصية جديدة مهمة، وتعطيهم فكرة صحيحة عن الميزان السياسي في الأوساط الحاكمة في البلاط والمدينة، الأمر الذي يتعذر وقوعه في أي مكان آخر بمثل الدقة والصحة التي يبدو عليهما عندها.
أقامت حفلة على هذا الطراز في نهاية عام 1806، عندما كانت أنباء انتصار نابليون الساحق في أيينا
3
وأويرستايدت،
4
واستسلام كل الحصون البروسية تقريبا، قد بلغت إلى العاصمة حديثا. كانت القطعات الروسية قد دخلت حينذاك بروسيا، وكانت الحملة الثانية ضد نابليون على وشك القيام، وكانت زبدة المجتمع الطيب الحقيقية ذلك المساء: هيلين الفاتنة التعيسة التي هجرها زوجها، ومورتمارت - الذي مر ذكره - والأمير الفتان هيبوليت الذي عاد حديثا من فيينا، وسياسيان، و«ماتانت»، وشاب رفيع الذكاء لا أكثر، ووصيفة شرف أنعم عليها بذلك اللقب مؤخرا، وأم تلك الوصيفة، وأخيرا بعض الشخصيات الأدنى أهمية ومرتبة. أما الباكورة التي كانت آنا بافلوفنا تقدمها لمدعويها في تلك الحفلة، فإنها كانت بوريس وبتسكوي - إياه - الذي كان عائدا من بروسيا بمهمة رسول. كان الميزان السياسي يشير إلى ما يلي: «يستطيع من يشاء من أمراء وجنرالات أن يتعاهدوا مع بونابرت، ويتفقوا ما شاءوا معه ليحدثوا لي أو لنا مضايقات ومزعجات، لكن رأينا في صدده لن يتغير مطلقا. لن نتوقف أبدا عن التعبير عن رأينا الخاص بهذا الصدد، ولا نستطيع أن نقول لملك بروسيا وللآخرين إلا: أنتم وشأنكم. لقد أردتها بنفسك يا جورج داندان.»
5
وعندما دخل بوريس، وهو الذي كان مقررا أن يتسلى المدعوون على حسابه إلى البهو، كان الضيوف كلهم مجتمعين فيه، والحديث الذي كانت آنا بافلوفنا توجهه على عادتها يدور حول علاقات روسيا الدبلوماسية مع النمسا، والأمل الذي يراود النفوس في الارتباط بحلف مع هذه الأمة. كان بوريس مرتديا ثوبا أنيقا من أثواب الضباط المساعدين، نضرا متورد الوجنتين، ولكن أكثر رجولة من قبل، يمشي مشية رشيقة نشيطة. قدمت آنا بافلوفنا إليه يدها الجافة ليقبلها، ثم قادته حسب القاعدة المطردة لينحني أمام «ماتانت»، وبعد أن أدخلته في الحلقة الرئيسية الكبرى قدمته إلى عدد من الأشخاص الذين لم يكن يعرفهم، وهي تشير إلى كل واحد منهم وتذكر له اسمه بصوت منخفض: «الأمير هيبوليت كوراجين شاب فتان، السيد كروج؛ القائم بالأعمال في مفوضية كوبنهاجن، وهو عبقري عميق التفكير، السيد شيتوف رجل جم المواهب.»
وصل بوريس إلى مركز مرموق بفضل تصرفات آنا ميخائيلوفنا ومواهبها الخاصة، وبفضل عقليته المتحفظة. لقد كان ضابطا مساعدا لشخصية رفيعة جدا، فاستطاع أخيرا أن يؤدي مهمة هامة في بروسيا. لقد وضع نصب عينيه ذلك القانون غير الرسمي الذي اطلع عليه في أولموتز فسحر به وافتن؛ ذلك القانون الذي يستطيع بفضله أن يحتل حامل علم بسيط مركزا أرفع من مركز جنرال في الجيش، قانون لا يدين الترقي في العمل للمجهود والشجاعة والصبر والثبات، بل للموهبة التي تجعل المرء مرموقا يستحق تلك الترقية. كان نجاحه الشخصي يدهشه أيما دهشة حتى إنه كان يتساءل لم لا يحذو الآخرون حذوه؟ لقد أبدل ذلك الاكتشاف كل حياته وشخصيته وعلاقاته ومعارفه القدماء، وقلب خططه للمستقبل رأسا على عقب. لقد كان - رغم فقره - ينفق آخر قرش لديه ليكون أحسن هنداما من الآخرين. لقد حرم نفسه متعا كثيرة كيلا يقطع شوارع بيترسبورج مرتديا زيا باليا أو قديما، ومتنقلا في عربة حقيرة قديمة. لم يكن يتصل إلا بشخصيات رفيعة أرفع منه مقاما، كانت تستطيع أن تكون مفيدة له في المستقبل. كان يحب بيترسبوج ويمقت موسكو. كانت ذكرى آل روستوف وغرامياته الصبيانية مع ناتاشا تزعجه، حتى إنه لم يطرق منزلهم منذ أن ذهب إلى الجيش، وكانت دعوته إلى حفلة آنا بافلوفنا تعتبر في نظره خطوة كبيرة إلى الأمام في طريق مستقبله، فهم على الفور الدور الذي عليه أن يلعبه، فترك لمضيفه استثمار الاهتمام الذي كانت تثيره بحضرته، وراح يعاين الموجودين فردا فردا بعناية واهتمام، ويزين الفوائد التي قد يجنيها من هؤلاء أو هؤلاء في المستقبل. وكان جالسا قرب هيلين الجميلة، في المكان الذي عين له، يصغي بانتباه إلى الحديث العام.
كان القائم بالأعمال الدانماركي يقول: «إن فيينا ترى أن أسس المعاهدة المقترحة بعيدة المنال حتى ليتعذر الوصول إليها، ولو بواسطة سلسلة من النجاح والانتصارات الأكثر شأنا، وهي تشك في الوسائل التي يمكنها أن تؤمن لنا كل هذا النجاح. إن هذه الجملة هي التي يتمسك بها المكتب الوزاري في فيينا.»
تدخلت آنا بافلوفنا قائلة: «آه يا عزيزي الفيكونت! إن إيروبا - كانت تعتقد أنها إذا نطقت كلمة أوروبا بالفرنسية محرفة حتى تصبح إيروبا، فإن ذلك يدل على رقة في النطق ، ولا يعلم إلا الله من أين أتت بهذه البدعة - إن إيروبا لن تكون حليفتنا أبدا.»
ولكي تمنع دخول بوريس في المناقشة، حولت دفة الحديث فراحت تمتدح شجاعة ملك بروسيا وحزمه. أما بوريس فكان يصغي باحترام وصمت إلى الحديث الدائر حوله منتظرا دوره للدخول في سياقه، لكن ذلك ما كان يمنعه من اختلاس نظرات إلى وجه جارته الحسناء التي قابلت نظراته مرارا مبتسمة لذلك الضابط المساعد الشاب الجميل.
رجت آنا بافلوفنا بمناسبة الحديث عن بروسيا، بوريس بكل بساطة أن يقص عليهم قصة سفره إلى جلوجو
6
وأن يصف لهم حالة الجيش البورسي كما شاهدها، فراح بوريس يعطي بيانات وتفصيلات دقيقة هامة عن الجيش والبلاط بصوت متزن، وبلغة فرنسية سليمة، لكنه حرص على تجنب إبداء رأيه في الأحداث التي نتجت عنها، وعلى كتمان وجهة نظره الشخصية فيها. احتكر خلال فترة طويلة الاهتمام العام في ذلك الحفل، واستطاعت آنا بافلوفنا أن ترى بنفسها مبلغ الاستمتاع الذي نعم به مدعووها بهذه الباكورة التي قدمتها إليهم، وبدا على هيلين أنها اهتمت ببوريس اهتماما خاصا، فراحت تطرح عليه عدة أسئلة تتعلق بسفره ووضع الجيش البروسي الذي خيل للموجودين أنها تعيره عناية خاصة، فلما انتهى من تقديم تفصيلاته وأجوبته استدارت نحوه وقالت له خلال ابتسامتها المعهودة: «ينبغي أن تحضر لرؤيتي يوم الثلاثاء بين الساعة الثامنة والساعة التاسعة، ولا أقبل الاعتذار.»
كانت لهجتها توحي بأن الأسباب التي دعتها إلى طلب مقابلته، والتي كانت مجهولة منه، تجعل زيارته لا بد منها، فوعد بالامتثال لطلبها، وراح يتحدث على انفراد مع هيلين، وعندئذ استدعته آنا بافلوفنا بحجة أن «ماتانت» تتحرق شوقا لسماعه بدورها.
ولما ابتعد معها قالت له مشيرة إلى هيلين إشارة مشفقة ومغمضة عينيها بعد ذلك: «إنك تعرف زوجها على ما أظن؟ آه! يا لها من سيدة فاتنة وبائسة! لا تتحدث عنه أمامها. أتوسل إليك؛ إن ذلك يؤلمها أشد الإيلام.»
الفصل السابع
صديق جديد لهيلين
عندما عاد بوريس وآنا بافلوفنا إلى الحلقة الكبرى كان الأمير هيبوليت يتدخل في الحديث الدائر.
هتف وقد مال بجذعه إلى الأمام : «ملك بروسيا!»
وانفجر ضاحكا، فاستدار الضيوف نحوه مترقبين.
عاد يقول، ولكن بلهجة استفهامية هذه المرة: «ملك بروسيا؟»
وبعد ضحكة جديدة، عاد إلى مقعده يغرق فيه بخطورة ووقار وتأن.
انتظرت بافلوفنا لحظات، فلما وجدت أن هيبوليت لا يرغب في متابعة الحديث - وكان هذا هو الواقع - راحت تروي للموجودين أن بونابرت الزنديق سرق من بوتسدام سيف فريدريك الأكبر. بلغت في حديثها قولها: «إنه سيف فريدريك الأكبر الذي ...» عندما قاطع هيبوليت كلامها.
شرع يقول: «ملك بروسيا ...»
ولما راح الموجودون يصوبون نحوه نظراتهم المستفسرة اعتذر وعاد إلى سكوته المطبق.
أخذت آنا بافلوفنا موقفا سلبيا، وراح مورتمارت - صديق هيبوليت - يحثه على الإعراب عما يريد قائلا: «هيا، مع من تتحدث بملك بروسيا؟ وما هي هذه النغمة؟»
فضحك هيبوليت ضحكة جديدة ولكنها مرتبكة، وقال: «كلا، لا شيء في هذا الأمر، لقد أردت أن أقول فقط ... أردت أن أقول فقط: إننا مخطئون إذ نحارب من أجل ملك بروسيا.»
والحقيقة أنه كان قد تعلم هذه النكتة في فيينا، فأمضى تلك الأمسية كلها يتحين الوقت المناسب عبثا ليلقي بها.
قالت آنا بافلوفنا وهي تهدده بإصبعها الصغير المغضن: «إن لعبة الألفاظ هذه شديدة القبح، دقيقة جدا وذهنية، ولكن غير حقيقية ولا عادلة. إننا لا نحارب من أجل ملك بروسيا، ولكن من أجل المبادئ السامية الطيبة. آه! يا له من شيطان هذا الأمير هيبوليت!»
لم تخمد حدة الحديث طيلة السهرة. لقد ارتطم الوقت حول السياسة ولم تزد حدته إلا عندما تطرق بعضهم إلى المكافآت التي وزعت باسم الإمبراطور.
قال الرجل جم المواهب: «لقد تلقى «ن. ن» في العام الماضي علبة سعوط ذات صورة محفورة، فلم لا يحظى «س. س» بواحدة كذلك؟»
فتدخل أحد الدبلوماسيين قائلا: «إنني أسألك العفو، لكن علبتي المحلاة بصورة الإمبراطور ليست تمييزا أو تقديرا، بل مكافأة، أو على الأصح هدية.» - «لقد وقعت حوادث مماثلة من قبل؛ خذ مثلا شوارزنبرج.»
فاعترض الآخر قائلا: «ذلك مستحيل.» - «هل تراهن؟ الشريط الكبير «وسام» إن أمره يختلف.»
ولما أزفت ساعة الانصراف، خرقت هيلين الصمت الذي لاذت به طيلة الوقت تقريبا، وكررت على بوريس دعوتها اللطيفة الآمرة، قالت له: «إنني في مسيس الحاجة إلى رؤيتك.»
وراحت عيناها تستدعيان آنا بافلوفنا إلى مساعدتها، فجاءت هذه تثني على طلب هيلين وتدعمه بابتسامتها السويداوية التي تضفيها على وجهها عندما تتحدث عن حاميتها السامية النبيلة.
بدا كأن هيلين قد اكتشفت خلال حديث بوريس عن الجيش البروسي أسبابا ملحة تدعوها إلى رؤيته من جديد، فكانت دعوتها ليوم الثلاثاء المقبل أشبه بوعد منها حددت فيه اليوم الذي ستقص عليه تلك الأسباب الموجبة فيه. مع ذلك، فإن بوريس لما دخل إلى بهو الكونتيس الأنيق في اليوم المحدد، انتظر عبثا أن تقدم له تفسيرا عن سلوكها، كان بعض الناس مجتمعين في البهو، فلم تحدثه هيلين إلا حديثا تافها، فلما استأذن منصرفا وهو يقبل يدها، همست له بصوت خافت دون أن تبتسم - الأمر الذي يثير الفضول - قائلة: «تعال غدا، وقت العشاء. ينبغي أن تحضر. تعال.»
وأصبح بوريس خلال كل مدة أقامته في بيترسبورج الصديق الحميم للكونتيس بيزوخوف.
الفصل الثامن
الأمير بولكونسكي العجوز
عادت الحرب إلى الاشتعال، وراحت تقترب من الحدود الروسية، لم يعد يسمع إلا اللعنات تصب على بونابرت في كل مكان، بوصفه عدوا للجنس البشري، وفي القرى والضواحي، كان التجنيد للجيش العامل والخدمات الفنية قائما على قدم وساق، وكانت إشاعات مختلفة متناقضة تدور على الألسن حول العمليات الحربية، وكانت تلك الأخبار خاطئة مضلة كالعادة، وبالتالي فإنها كانت تعطي المجال للتأويل والتفاسير المختلفة.
منذ عام 1805، دخلت تعديلات كبيرة على طراز حياة الأمير العجوز بولكونسكي وأولاده.
جمعت صفوف الخبراء العسكريين المجندين في ثمانية فيالق كبيرة من مختلف بقاع روسيا، وأنيطت قيادة إحدى هذه الفيالق بالأمير العجوز عام 1806. وعلى الرغم من الانهيار الذي ظهر على الأمير العجوز، وخصوصا خلال الفترة التي اعتقد فيها بموت ابنه في ساحة المعركة، فإنه لم يستحسن التصامم عن النداء الشخصي الذي وجهه الإمبراطور إليه شخصيا. هذا عدا عن أن ذلك النشاط الجديد في مركزه الجديد أتاح له فرصة استعادة قوته ونشاطه وشجاعته. كان يفتش دون توقف المناطق الثلاث الموضوعة تحت إشرافه تفتيشا حازما صارما، فكان يتصرف حيال مرءوسيه بخشونة، ويقوم بواجباته الشخصية بكل دقة وأمانة، ويتعمق في أتفه التفاصيل. وتوقفت دروس الرياضيات بالنسبة إلى ماري، التي كان عليها أن تدخل إلى غرفة أبيها كل صباح إذا كان في البيت، بصحبة المربية وحفيده نيكولا الصغير، كما كان يسميه جده. كان الأمير الصغير نيكولا يشغل مع مربيته والخادم العجوز سافيشنا جناح المرحومة جدته، وكانت ماري تقضي معظم أيامها بالقرب منه، فتقوم - على قدر طاقتها - بدور الأم لابن أخيها، وكان يبدو على الآنسة بوريين أنها هي الأخرى تحب الطفل حب العبادة، حتى إن ماري كانت غالبا تتخلى عن مكانها لها، حارمة نفسها متعة تدليله وملاطفته، لتحل بوريين محلها، فتناديه بملكها الصغير وتلعب معه.
أقيمت للأميرة المتوفاة قبة صغيرة إلى جانب كنيسة «ليسيا جوري» ضمت ضريحها الذي رفعوا فوقه نصبا من الرخام المستورد من إيطاليا بصورة خاصة. كان ذلك النصب عبارة عن ملك باسطا جناحيه على وشك التحليق، وكانت شفة الملك العليا المرفوعة قليلا توحي بشروع في ابتسامة. وذات يوم، بينما كان آندريه وماري خارجين من القبة، اتفقا في الرأي على أن وجه الملك يشبه إلى حد بعيد وجه الفقيدة نفسها، وكان هناك أمر أشد غرابة من الأول وأبعد أثرا؛ أمر لم يطلع آندريه أخته ماري عليه، ذلك أن الفنان الذي نحت ذلك الملك أعطاه دون أن يشعر ذات الأمارات التي ارتسمت على وجه المتوفاة، حتى لكأنه ينطق بمثل كلماتها العذبة؛ كلمات اللوم الرقيقة التي قرأها من قبل على وجه زوجته الراحلة «آه! لم عاملتني على هذا النحو؟»
بعد عودة الأمير الشاب بفترة قصيرة منحه أبوه سلفة على ميراثه، أملاكه الهامة في بوجوتشاروفو، التي تبعد عن ليسيا جوري بأربع مراحل روسية. وكانت ليسيا جوري تحيي في نفس الأمير الشاب ذكريات أليمة، فكان يلجأ إلى أراضيه الجديدة، ابتعادا عن أبيه وعقليته الصعبة ناشدا الوحدة؛ لهذه الأسباب كان يرى في بوجوتشاروفو محط آماله، فشرع يقيم فيها الأبنية ويقضي فيها جل أوقاته.
قرر آندريه بعد معركة أوسترليتز الانسحاب نهائيا من الحياة العسكرية، فلما أعلنت الحرب من جديد، واضطر كل مواطن إلى القيام بواجبه. قبل آندريه أن يساعد أباه في تجنيد «الميليشيا» مفضلا هذه المهمة على الخدمة الفعلية، وبدأت الأدوار تنقلب عكسيا، فالأب الذي شحذ منصبه الجديد همته بات يتصور الحملة الجديدة على ضوء تفاؤله براقة سهلة هينة، والابن على العكس كان يراها مؤسية، ويأسف في صميم قلبه على وقوعها، وينظر إلى الأمور بمنظار أسود.
ذهب الأمير العجوز في السادس والعشرين من شباط عام 1807 في جولة تفتيشية، فقرر آندريه - كما كانت عادته أثناء غياب أبيه - البقاء في ليسيا جوري؛ لأن الأمير نيكولا الصغير كان معتل الصحة منذ حوالي أربعة أيام، عاد السائقون الذين حملوا الأمير العجوز إلى المدينة، ومعهم بريد آندريه، فلم يجده الوصيف في غرفته، ولما راح يبحث عنه في جناح ماري أرسلته هذه إلى حيث كان الطفل مع مربيته.
قالت إحدى الوصيفات للأمير آندريه الذي كان جالسا على مقعد صغير من مقاعد الأطفال، مكفهر الوجه، مرتعد اليدين، مقطب الحاجبين، يصب الدواء من قارورة صغيرة في قدح مملوء إلى نصفه بالماء: «اعذرني يا صاحب السعادة، إن بيتروشا بالباب ومعه بعض الأوراق.»
سأل آندريه بلهجة محنقة: «ماذا هناك؟»
وأدت حركته المنفعلة إلى إهراق نقط زائدة في القدح، فألقى محتوياته على الأرض، وطلب ملأه بالماء من جديد، فنفذت الوصيفة أمره.
كانت الحجرة مؤثثة بسرير صغير وصندوقين وأريكتين ونضد ومائدة أطفال وكرسي صغير، وهو الذي كان الأمير آندريه يستعمله لجلوسه كلما جاء لزيارة ابنه، وكانت الستائر مرفوعة، وشمعة واحدة مضاءة ومثبتة على النضد، يحجب نورها عن السرير دفتر موسيقي أقيم بجانبها على شكل ستارة.
قالت الأميرة ماري التي كانت تسهر على الأمير المريض: «يا صديقي، لننتظر قليلا؛ لأن ذلك أجدى ...»
فغمغم الأمير آندريه راغبا في إحراج أخته وإيلامها: «كلا، إنك تقولين دائما مثل هذه السخافات. إنك تطلبين التريث والانتظار دائما، وهذه هي النتيجة التي حصلنا عليها .»
واستأنفت الأخت قائلة بلهجة متوسلة : «أؤكد لك يا صديقي أن من الأصوب عدم إيقاظه طالما هو مستغرق في نومه.»
نهض آندريه وفي يده العلاج، واقترب من السرير الصغير على أطراف قدميه، وقال مرتبكا: «هل يجب حقا أن ندعه نائما؟»
فأجابت ماري متمتمة وهي خجلى لرؤية أخيها يأخذ برأيها: «كما تشاء! إنني أعتقد حقا ... ولكن كما تشاء!»
ونبهت أخيها إلى الوصيفة التي كانت تناديه بصوت منخفض.
كانت تلك ثاني ليلة يقضيانها ساهرين قرب سرير الطفل الذي كان مصابا بحمى عنيفة. ولما كانت ثقتهما قليلة في طبيب الأسرة، فقد أرسلا يستدعيان طبيبا آخر من المدينة، بينما كانا يجربان الدواء تلو الدواء عبثا، كانا مثقلين بالقلق محطمين من القلق، فراحا يلقيان على بعضهما متاعبهما يتخاصمان ويتبادلان اللوم والتقريع.
ظلت الوصيفة مصرة على موقفها تقول: «إن بيتروشا هنا ومعه أوراق من أبيك.»
فغمغم الأمير آندريه الذي وافق أخيرا على مقابلة بيتروشا: «يا له من وقت مناسب!»
وبعد أن سلمه الخادم البريد وتعليمات أبيه الشفهية، عاد آندريه قرب سرير ابنه، سأل أخته: «ماذا إذن؟»
فدمدمت ماري وهي تزفر بحرقة: «كما هو، انتظر. أتوسل إليك؛ إن كارل إيفانيتش يقول دائما إنه يجب احترام النوم.»
اقترب آندريه من الطفل وتحسس نبضه، كانت يده ملتهبة من الحرارة، هتف: «دعيني أنت وكارل إيفانيتشك هذا!»
وعاد إلى الدواء يحمله واقترب من السرير. قالت ماري: «دعه، دعه.»
فنظر إليها نظرة غاضبة ومتألمة معا، وانحنى فوق الطفل والقدح في يده، قال: «إنني أصر على إعطائه الدواء. خذي، اسقيه أنت بيدك.»
هزت ماري كتفيها، ولكن لم تعترض. استدعت الوصيفة وراحت تحاول بمساعدتها إعطاء الدواء للطفل الذي عاد يحشرج ويتوجع ويزمجر. اكفهر وجه آندريه وهرع إلى الغرفة المجاورة ورأسه بين يديه.
هوى على أريكة هناك، وعندئذ لاحظ أن الرسائل لا زالت في يده، فضها بحركة آلية وراح يقرأ. كان الأمير العجوز يعرفه بخطه الكبير المطاول، وبالاصطلاحات الموجزة التي كان يزرعها هنا وهناك في رسالته، بما يلي:
جاءني رسول يحمل إلي خبرا لا تضاهى بهجته في الساعة الحاضرة، شريطة أن يكون الخبر موثوقا. إنه يقول إن بينيجسن
1
قد انتصر على نابليون انتصارا كاملا في أيلو.
2
وفي بيترسبورج، كل الناس في فرح مقيم، والمكافآت تمطر على الجيش. إن بينيجسن هذا يستحق أن أرفع له قبعتي رغم أنه ألماني. ماذا يستطيع السيد خاندريكوف أن يفعل بحق الشيطان، وهو الذي يقود الجيش في كورتشيفا؟ إنه لم يرسل لنا بعد إلا جنودا لتعزيز قوتنا، ولا ما يلزم من أرزاق. امض إليه سريعا وأبلغه أنه لن يحتفظ برأسه فوق كتفيه إذا لم يكن كل شيء جاهزا خلال ثمانية أيام. إن انتصار بروسيخ-أيلو تأيد لأنني تلقيت رسالة من بيتنكا «الأمير باجراسيون» الذي ساهم في تلك المعركة يؤكد النصر. عندما لا يتدخل أولئك الذين لا يعنيهم الأمر، فإن بونابرت يهزم حتى من ألماني. إنهم يزعمون أنه يفر في أقصى الفوضى؛ وإذن فاهرع إلى كورتشيفا ونفذ أوامري.
أطلق آندريه زفرة وفض الرسالة التالية. وجد فيها ورقتين مكتوبتين بخط دقيق عرف فيه خط بيليبين. طواهما مرة أخرى وعاد إلى رسالة أبيه يعيد قراءتها. ولما بلغ هذه الكلمات: «اهرع دون تأخر إلى كورتشيفا، ونفذ أوامري.» قرر في سره قائلا: «كلا، وألف معذرة، لن أذهب قبل أن يشفى ولدي المريض.» ومضى إلى الباب فأطل منه. كانت ماري لا تزال في مكانها قرب السرير تهدهد الطفل برفق.
قال الأمير آندريه متمثلا ذكرياته: «هيا، ترى ما هو الخبر المزعج الذي يبعثه إلي هذه المرة؟ آه، نعم! لقد فزنا على بونابرت وانتصرنا عليه وأنا بعيد عن الجيش. هيا، إن القدر يهزأ بي دائما. شكرا له وبورك فيه.»
أخذ رسالة بيليبين وألقى عليها نظرة عجلى حتى بلغ نصفها دون أن يفهم أو يعي شيئا. لم يكن يقرأ في الحقيقة إلا فرارا من الأفكار الأليمة التي كانت منذ زمن طويل ترهقه وتزعجه.
الفصل التاسع
رسالة بيليبين
كان بيليبين بوصفه ملحقا سياسيا في الأركان العامة يصف المعركة باللغة الفرنسية، وبالأسلوب والتفكه الفرنسيين، لكنه كان كذلك يكتب بتلك الصراحة المتهورة التي تسمح للروسيين - وللروسيين وحدهم - أن ينتقدوا أنفسهم، ويهزءوا بأنفسهم دون إشفاق. اعترف في رسالته أن كتمانه الدبلوماسي كان يزعجه جدا، وأنه سعيد إذ يستطيع أن يفصح عما بنفسه لصديق موثوق أمين، يمكنه من أن يفثأ غضبه المتراكم في أعماقه، والذي تسببت الأمور التي تقع في الجيش في إشعال نيرانه. كانت الرسالة قديمة؛ أي قبل معركة بروسيخ-أيلو. كتب بيليبين:
منذ فوزنا الكبير في أوسترليتز لم أنقطع يوما واحدا عن القيادة العامة كما تعرف يا عزيزي الأمير. والحقيقة أنني أصبحت ميالا للحروب، ولقد أحسنت في هذا الميل. إن ما رأيته خلال هذه الأشهر الثلاثة لا يكاد يصدق.
أبدأ من الألف - وهنا استعمل التعبير اللاتيني
ab ovo ؛ أي من البداية - إن عدو الجنس البشري كما تعرف يهاجم البروسيين، والبروسيون هم حلفاؤنا المخلصون الذين لم يخدعونا إلا ثلاث مرات فقط منذ ثلاثة أعوام؛ لذلك فإننا ننصرهم في عملهم وفي قضيتهم، لكن الظاهر أن عدو الجنس البشري لا يلقي بالا إلى خطاباتنا الجميلة، فهجم بطريقته الوحشية المفتقرة للآداب على البروسيين دون أن يترك لهم الوقت لإنهاء استعراضهم الذي شرعوا فيه، فأنزل بهم «علقة» شديدة أدمت عظامهم. راح يستقر في قصر بوتسدام.
1
كل ذلك لم يستغرق إلا لمحة من الوقت.
وقد كتب ملك بروسيا إلى نابليون يقول: إنني أرغب كل الرغبة في أن تحلوا جلالتكم في قصري، وأن تعاملوا المعاملة التي تروق لكم، ولقد بادرت إلى اتخاذ كل الترتيبات المقابلة التي سمحت لي الظروف بها في هذا الشأن؛ فعساي وفقت في مسعاي! والجنرالات البروسيون يبدون كل اللباقة والأدب حيال الفرنسيين، فيستسلمون ويلقون بأسلحتهم عند أول مناوشة.
إن رئيس حامية جولجو، ومعه عشرة آلاف رجل تحت إمرته، أرسل يسأل ملك بروسيا عما يجب عليه أن يفعل إذا أنذر بالاستسلام. كل هذه التصرفات إيجابية ولا ريب.
والخلاصة أننا بعد أن كنا نأمل في التأثير على الموقف بمظهرنا العسكري وحده، وجدنا أنفسنا في حرب حقيقية؛ حرب واقعة على حدودنا - وهو الأدهى والأمر - مع ملك بروسيا ومن أجله. كل شيء على خير ما يرام، ولا ينقصنا إلا شيء صغير واحد؛ وهو القائد العام. ولما كان مقدرا أن النجاح الذي أحرزناه في أوسترليتز كان يمكن أن يكون أقل شمولا لو أن القائد العام كان أكبر سنا، فقد استعرضت أسماء أبناء الثمانين، وفضل في هذا المضمار كامنسكي على بروزوروفسكي بعد المفاضلة بينهما، وأخيرا جاءنا الجنرال دارجا على طريقة سوفوروف، فاستقبل بهتافات الفرح والمجد.
في الرابع من هذا الشهر، وصل بريد بيترسبورج الأول، ونقلت الصناديق إلى مكتب الماريشال الذي يجب أن يعمل كل شيء بنفسه، وقد استدعيت للمساعدة في فرز الرسائل لأحمل ما هو مرسل إلينا، وكان الماريشال ينظر إلينا ونحن نعمل منتظرا الرزم المرسلة إليه. ولقد بحثنا فلم نجد شيئا. نفد صبر الماريشال فجاء يبحث بنفسه، وهنا وجد رسائل موجهة من الإمبراطور إلى الكونت «ت»، وإلى الأمير «ف
V » وآخرين. وعندئذ ثار ثورة فظيعة رهيبة، وانهال بالنار واللهب على كل الناس، واستحوذ على الرسائل ففضها وراح يقرأ تلك التي كتبها الإمبراطور للآخرين. «آه! هكذا يعاملونني إذن. ليس لهم ثقة بي. إنهم أقاموا علي العيون والأرصاد! حسنا جدا. اخرجوا!» وكتب الأمر اليومي العتيد التالي للجنرال بينيجسن:
إنني جريح لا أستطيع ركوب الخيل، ولا بالتالي قيادة الجيش. لقد أعدت فيلقك من بولتوسك
2
في حالة فوضى، وهو مكشوف تماما ومحروم من العلف والحطب، فيجب الحذر إذن، والتفكير في التراجع على حدودنا، كما أخبرت الكونت بوكزويفدن بنفسك البارحة، الأمر الذي يجب أن يتم اليوم.
وكتب إلى الإمبراطور يقول: «إن احتكاك السرج خلال رحلاتي العديدة سبب لي خدشا إذا أضفناه إلى الإنهاك الذي نالني من تنقلاتي السابقة؛ يمنعني من ركوب الحصان وقيادة جيش يضم مثل هذا العدد الكبير؛ لذلك فقد سلمت القيادة لأكثر الجنرالات قدما بعدي، وهو الكونت بوكزويفدن، ولقد نقلت إليه كل صلاحياتي وأعمالي، وأوصيته أن يقترب من حدودنا متقهقرا عبر بروسيا إذا نقص منه الخبز. والواقع أنه لم يبق من الخبز إلا ما يكفي يوما واحدا، بل إن بعض السرايا لا تملك خبز يوم، إذا أخذنا بما أطلعني عليه قواد فيالق أوسترمان وسيد مورييدذكي، ولقد التهم كل ما كان عند القرويين. أما أنا فإنني - بانتظار شفائي - أبقى في مستشفى أوسترولنكا،
3
ولي الشرف أن أقدم لجلالتكم - طيا - تقريرا عن الأرزاق، وأن أخطر جلالتكم - بكل خضوع - أن الجيش إذا أمضى خمسة عشر يوما أخرى في معسكراته الحالية، لن يبقى جندي واحد صالح للخدمة في الربيع المقبل.
اسمحوا للعجوز أن ينسحب إلى الريف حاملا معه العار؛ لأنه أخفق في أداء المهمة الكبيرة المجيدة التي انتقي لأدائها. سوف أنتظر في المستشفى هنا إذنكم اللطيف؛ كيلا ألعب في الجيش دور «المسجل» بدلا من دور «الرئيس». إن انسحابي من الجيش لن يحدث من الضجة إلا ما يحدثه انسحاب أعمى منه. إن أشخاصا مثلي تحفل روسيا بالألوف منهم.
وهكذا فقد غضب الماريشال من الإمبراطور فعاقبنا جميعا، أليس ذلك منطقيا وسديدا؟
هذه هي العملية الأولى، لننتقل الآن إلى ما بعدها، وهي التي تبلغ فيها المنفعة والسخرية إلى رتبة الحق والصواب، ذلك أننا بعد ذهاب الماريشال وجدنا أنفسنا على مرأى من العدو، الأمر الذي يلجئنا إلى شن هجوم عليه أو الاشتباك معه في القتال. ولقد أضحى بوكزويفدن قائدا عاما بحكم قدمه، لكن الجنرال بينيجسن ليس من هذا الرأي، خصوصا وأنه هو وجيشه كان أمام العدو، وأنه كان يريد انتهاز الفرصة إذا أتيحت له بعد معركة نظيفة كما يقول الألمان. وإذن فقد شن الهجوم ووقعت معركة بولتوسك، التي اعتبرت نصرا كبيرا، والتي هي - في رأيي - ليست كذلك مطلقا. لقد درجت عادتنا اللعينة جدا نحن معشر المدنيين على إحصاء وتقرير الخسارة أو الربح كما تعلم. إننا نقول إن من ينسحب بعد معركة ما يكون قد خسر تلك المعركة. وعلى هذا الأساس، فإننا خسرنا معركة بولتوسك.
والخلاصة أننا انسحبنا بعد المعركة، لكننا أرسلنا إلى بيترسبورج بريدا يحمل أنباء النصر، ولم يسلم الجنرال القيادة العامة إلى بوكزويفدن، آملا أن يتلقى من بيترسبورج لقب قائد أعلى مكافأة له على انتصاره. وفي أثناء هذه الفترة؛ فترة خلو منصب القيادة العليا ممن يشغله، بدأنا في تنفيذ مناورات مفرطة في الإغراء والابتكار، لم يكن هدفنا مركزا في تحاشي العدو أو مهاجمته، كما كان ينبغي أن يكون، بل لتحاشي الجنرال بوكزويفدن فقط، الذي هو قائدنا بحكم قدمه. تابعنا هدفنا بحماس ونشاط مرموقين، فكنا إذا اجتزنا نهرا لم يكن سهل العبور؛ أحرقنا الجسور لنفترق عن العدو، ونباعد بيننا وبينه.
أما ذلك العدو الذي كنا نتحاشاه، فإنه لم يكن بونابرت، بل بوكزويفدن. وكاد الجنرال بوكزويفدن أن يهاجم وأن يطوق من قبل قوة عدوة تفوق تعداد جيوشه عددا، بفضل مناوراتنا الرائعة التي كانت تبعدنا عنه، فكان بوكزويفدن يتبعنا ونحن نفر منه، فإذا مر إلى الجانب الذي نكون فيه، عبر النهر ببراعته إلى الجانب الآخر، وأخيرا لحق بنا عدونا بوكزويفدن وهاجمنا، وزعل الجنرالان، بل إن دعوة إلى المبارزة صدرت من جانب بوكزويفدن أجيب عليها بنوبة من نوبات القلب من جانب بينيجسن، لكن بريد بيترسبورج وصل في اللحظة الدقيقة الحاسمة. لقد حمل لنا البريد - الذي حملناه نبأ انتصارنا في بولتوسك - نبأ تسمية القائد الأعلى، وبذلك تغلبنا على عدونا الأول بوكزويفدن. والآن نستطيع أن نفكر في العدو الآخر، في بونابرت، ولكن في تلك اللحظة قام أمامنا عدو ثالث، وهو الجيش الأورثوذكسي المبجل، الذي يطلب الخبز واللحم والبسكويت والعلف، ولست أدري ماذا، بصيحات عالية، وزمجرات مريعة! لقد فرغت مخازن المئونة، وأصبحت الطرق غير مسلوكة. شرع الجيش الأورثوذكسي يقوم بالسلب والنهب بشكل لا يمكن لما رأيته أنت خلال الحملة الماضية أن يعطيك أية فكرة صحيحة عنه. لقد أصبحت نصف السرايا تؤلف فرقا حرة تجوب المنطقة تعيث فيها سلبا وتقتيلا بفظاعة ووحشية، ونكب السكان نكبة مريعة، ولحقهم الدمار، وامتلأت المستشفيات بالمرضى، وعم القحط والنحس كل مكان. لقد هوجمت القيادة العامة نفسها مرتين من قبل السلابين، فاضطر القائد الأعلى أن يطلب لواء كاملا لطردهم، ولقد حملوا معهم في إحدى غزواتهم صندوقا فارغا ومعطفي المنزلي. إن الإمبراطور يريد إعطاء قواد الفيالق كلهم حق إعدام السلابين النهابين، لكنني أخشى أن يؤدي ذلك إلى أن يقتل نصف الجيش النصف الآخر رميا بالرصاص.»
كان الأمير آندريه لا يقرأ إلا بعينيه فقط، لكنه لم يلبث أن شعر بنفسه يتابع رواية بيليبين، التي كانت صحتها تدعو إلى الشك، فلما وصل إلى هذا الحد من القراءة كور الورقة في يديه وألقاها بعيدا. لم تغضبه فحوى الرسالة، بل إنه كان غاضبا على نفسه؛ لأن هذه الحوادث البعيدة التي كانت تبدو له شديدة الغرابة كانت تحرك كوامن عواطفه. أغمض عينيه ورفع يديه إلى جبينه وكأنه يطرد الأفكار المزعجة التي أيقظتها تلك القراءة، ثم أصاخ السمع إلى ما يدور في الحجرة المجاورة التي ينام الطفل فيها، خيل إليه فجأة أنه سمع صوتا غريبا صادرا عن تلك الغرفة، فراح يتساءل بذعر عما إذا كانت حال ابنه لم تبلغ حد التفاقم. اقترب من الباب على أطراف قدميه وفتحه.
في اللحظة التي اجتاز فيها المدخل رأى أن الخادم العجوز تخفي شيئا وعلى وجهها آيات الارتياع، ورأى أن أخته ليست قرب السرير كما كانت من قبل. سمع صوت ماري وراءه يحدثه قائلا: «يا صديقي ...»
وشعر أن اللهجة حافلة باليأس. استولى على الأمير ذعر لا مبرر له، كما يحدث للمرء غالبا بعد فترة طويلة من القلق والأرق. لا شك أن ولده مات؛ فكل ما كان يراه وكل ما كان يسمعه كانا يؤكدان هذا الظن!
فكر في نفسه: «إذن، لقد انتهى كل شيء.» غمر جبينه عرق بارد، فاقترب من السرير الصغير زائغ البصر متأكدا أنه سيجده فارغا، وأن الخادم العجوز أخفت منذ حين جثة ولده. أزاح الستائر قليلا، وظلت عيناه فترة طويلة يعميهما الذهول، فلا يرى بهما شيئا، وأخيرا وجد ابنه. كان الطفل مستلقيا على سريره عكسيا، وردي الوجنتين، مباعدا بين ذراعيه، ورأسه بعيد عن الوسادة، يرضع في نومه ويتنفس بانتظام.
استخفه الفرح لرؤية ابنه حيا وهو الذي قدر أنه قضى، فانحنى على الطفل ووضع شفتيه على جلده ليتحسس حرارته، كما علمته أخته ماري. كان الجبين الرقيق نديا. تحسس رأس الطفل بيده، فوجد أنه مبتل حتى الشعر، وإذن فقد حدثت نوبة جعلت الطفل يتعرق بشدة، وبذلك عاد إلى الحياة. كان آندريه يتوق إلى الإطباق على هذا المخلوق الصغير الضعيف وضمه إلى قلبه بشدة وعنف، لكنه لم يجرؤ على ذلك. ظل ذاهلا يتأمل الرأس الندي، واليدين الصغيرتين، والساقين الصغيرتين اللتين تركتا آثارهما على الغطاء. شعر بحفيف بالقرب منه، وانعكس ظل على ستار السرير. لم يحفل بذلك الظل. لقد كانت عيناه شاخصتان إلى الجسد اللدن المسجى على السرير، وكان يصغي إلى صوت تنفسه الرتيب. كان ذلك الظل هو الأميرة ماري، التي اقتربت بخطوات مكتومة فرفعت ستائر السرير وتركتها تنسدل وراءها. عرفها الأمير دون أن يستدير، فمد إليها يده، فأطبقت تشد عليها.
قال آندريه: «لقد نضح جسمه عرقا.» - «لقد قلت لك ذلك منذ حين.»
تحرك الطفل قليلا، وابتسم في نومه، وفرك جبينه الصغير على الوسادة.
نظر آندريه إلى أخته، وفي عتمة غرفة النوم الخفيفة كانت عينا ماري تبدوان أشد التماعا ووميضا من جري عادتهما، وكانت دموع الفرح تزيد البريق توهجا. وبينما هي تتسلل قرب أخيها لتعانقه علقت ستارة السرير، تناشد الهدوء والسكون فتبادلاه، ولبثا فترة في تلك العتمة، يشكلون ثلاثتهم فقط عالما خاصا بهم. كانا يجدان صعوبة في نزع نفسيهما منه. راح الأمير آندريه يخفي شعره في طيات ستارة السرير المصنوعة من الموصلين. وأخيرا ابتعد قبل أخته عن السرير وهو يقول زافرا بارتياح: «هيا، إن هذا هو كل ما تبقى لي، وما سيشغلني بعد الآن.»
الفصل العاشر
مساعي بيير
بعد زمن قصير من دخول بيير في عداد الإخوان الماسونيين، زوده هؤلاء بتعليمات خطية ليسير على خطوطها في أعماله وواجباته الكثيرة التي كانت تدعوه إلى زيادة أراضيه، فسافر هذا مقاطعة كييف؛ حيث كان السواد الأعظم من فلاحيه يعملون فيها.
استدعى بيير حال وصوله إلى مدينة كييف كل وكلائه ومسجليه إلى المكتب الرئيسي؛ حيث شرح لهم نواياه ورغباته. كان يتطلب منهم اتخاذ تدابير فورية لاستقلال الفلاحين في الأراضي استقلالا تاما. وبانتظار ذلك، لا يجب تكليف هؤلاء بالعمل. أما العقوبات الجسدية فينبغي أن تلغى، وأن يحل محلها تحذير ونصح شفهي. ينبغي مساعدة الفلاحين وإقامة المستشفيات في كل مقاطعة، وملاجئ، ومدارس، ويجب إعفاء النساء والأطفال من السخرات. كان بعض أولئك المسجلين - وبينهم خول شبه أميين - يصغون إليه بذهول وذعر، معتقدين أن الكونت، بدلالة محاضرته تلك، غير راض عن إدارتهم وأساليبهم في إلحاق الغبن بالفلاحين، والبعض الآخر كانوا يجدون بعد الفترة الأولى من الذهول أن لثغة سيدهم، وتلك الكلمات الجديدة التي ينطق بها فكهة مسلية كل التسلية. أما الفريق الثالث فقد كان أفراده يجدون متعة في الإصغاء إليه، ولا شيء غير المتعة، لكن أشدهم حنكة وذكاء، وفي طليعتهم رئيس المسجلين، استخلصوا من أقواله ومواعظه دلالة ثمينة جدا. أصبحوا يعرفون الآن، السلوك الذي يجب عليهم انتهاجه حيال سيدهم ليبلغوا مآربهم الشخصية.
راح المسجل العام يعرب عن شديد ميله واستئناسه بمشاريع بيير، لكنه أطلعه على ضرورة تنظيم الأمور التي كانت شديدة التعقيد، قبل الشروع في إدخال تلك الإصلاحات.
صحيح أن بيير كان في تلك الأثناء يملك ثروة الكونت بيزوخوف الضخمة التي كانت مواردها السنوية تصل إلى خمسمائة ألف روبل، كما كانوا يقولون، إلا أنه كان يشعر مؤمنا أنه كان أوسع غنى من قبل، عندما كان أبوه يعطيه عشرة آلاف روبل في العام لنفقاته الشخصية. وفيما يلي الطريقة العجيبة التي كانت ميزانيته السنوية تقام على أساسها، كان يدفع لمجلس الصيانة عن أملاكه كلها حوالي ثمانين ألف روبل، وثلاثين ألف روبل لقاء الخدمات والصيانة عن أبنيته في موسكو، وبيته الريفي، وبيته في المدينة، ودخل الأميرات السنوي، وهناك نفقات أخرى كانت تستهلك خمسة عشر ألف روبل، ومؤسسات الإحسان والغوث مثلها.
وكانت الكونتيس تنفق مائة وخمسين ألف روبل كل عام على نفسها، وتبلغ فوائد الديون التي تدفع كل عام سبعون ألف روبل تقريبا. وقد ارتفعت نفقات تشييد كنيسة جديدة إلى عشرة آلاف روبل خلال العامين الآخيرين. أما الباقي ويبلغ مائة ألف روبل تقريبا، فكان ينفق بشكل لا يعرفه بيير ولا يستطيع تحديده، حتى إنه في كل عام كان يجد نفسه مضطرا إلى الاستدانة والاقتراض. أضف إلى ذلك أن الوكيل العام كان يطلعه كل سنة على نبأ احتراق بعض المحصول أو تلف البعض الآخر، أو القحط الذي نزل في مكان كذا، أو الأضرار اللاحقة ببعض الأبنية والمعامل التي تتطلب إصلاحات فورية، فكان على بيير والحالة هذه أن يشرع قبل كل شيء بالعناية بمصالحه ورعايتها، الأمر الذي كان يشعر بعجزه عن القيام به ونفوره منه.
راح يعمل كل يوم في تنظيم شئونه بمساعدة وكيله العام، لكنه لم يلبث أن وجد أن العمل الذي شرع فيه طافح بالأخطاء، وأنه لم يكن يقدمه في طريق التحسن قيد أنملة، كان وكيله العام من جهة يعرض عليه الأمور من أسوأ زواياها، فيمتدح سداد الديون وفرض سخر جديدة على العبيد، الأمر الذي ما كان بيير يوافق عليه، ومن جهة أخرى كان هذا يلح على تجهيز ما يجب لإقراض الفلاحين، الأمر الذي كان الوكيل العام لا يراه ممكنا إلا إذا سددت الديون لمجلس الصيانة. كان الوكيل يضيف إلى أقواله أن بالإمكان الشروع في إقرار الفلاحين منذ الآن، شريطة أن تباع غابات كوستروما وأراضي الفولجا المنخفضة وأرض الكريمة، ولكن لكي تنجز هذه المبيعات لا بد من إجراءات شديدة التعقيد، على حد قول الوكيل العام، بين دعاوى وإجراءات نزع اليد، وتراخيص ... إلخ، مما كان يجعل بيير يشعر بالدوار، ويلجئه إلى القول: «هو كذلك، اعمل كما تراه مناسبا.»
كان بيير محروما من الروح العملية والجلد الذي يتيح له أن يتبنى مشاكله بنفسه؛ لذلك فقد كان ينفر من هذا العمل، لكنه كان يتظاهر باهتمامه الشديد أمام المسجل العام. أما هذا فكان يتظاهر بأنه يرى تلك المشاغل شديدة النفع لسيده مضجرة ومملة بالنسبة إليه.
وفي مدينة كبيرة ككييف وجد بيير ولا شك بعض معارفه، بل وتعرف على أشخاص جدد كانوا يفخرون بصلتهم بثري كبير مثله حديث العهد في المدينة، مالك أكبر أرض في المقاطعة، فكانوا يدعونه متهافتين، ويحيون الحفلات السخية على شرفه، وكانت الإغراءات المتعلقة بضعفه الشخصي الذي اعترف به في المحفل من القوة حتى استحال عليه الصمود أمامها ، وهكذا جرفته حمى الولائم والسهرات والحفلات في دوامة لا راحة فيها ولا توقف، خلال أيام كاملة وأسابيع وشهور، وعاد بيير سيرته في بيترسبورج. لقد انغمس في حياته القديمة بدلا من أن يشرع في حياة جديدة مع فارق واحد؛ وهو أن المظهر كان مختلفا.
اضطر إلى الاعتراف بأنه لم ينفذ من الواجبات الثلاثة التي فرضتها عليه العقيدة الماسونية، تلك التي يطالب كل ماسوني بأن تكون قدوته مثالية، وبأن اثنتين من الفضائل السبع؛ وهما: العادات الحميدة وحب الموت، لم تجدا مكانا في نفسه، لكنه كان يعزي نفسه بقوله: «إنه ينفذ مهمة أخرى، وهي تحسين النوع البشري، وإنه يملك فضائل أخرى مثل حب المجتمع، وبصورة خاصة الكرم.»
قرر بيير العودة في ربيع عام 1807 إلى بيترسبورج، وأن يزور أملاكه أثناء مروره بها. كان يتمسك بضرورة ملاحظة كيفية تنفيذ الأوامر التي أصدرها، ومعرفة الوضع الحالي لذلك الشعب الذي وضعه الله أمانة في عنقه، والذي كان يريد أن يكون المحسن إليه.
أما الوكيل العام الذي كان يرى أن مشروعات الكونت الشاب ليست إلا باطلا يسيء إلى الملاك والفلاحين بقدر ما تسيء إليه نفسه، فقد قرر أن يقوم ببعض المنح إرضاء لسيده. لم يكف فترة واحدة عن التدليل على استحالة تحرير العبيد الفلاحين وإقرارهم، لكنه أمر بمناسبة زيارة السيد أن تقام في كل الأملاك أسس أبنية ضخمة على غرار ما يبنى للمدارس والمستشفيات والمآوي. كان يعرف بعد دراسة عميقة لأخلاق بيير أن الاستقبالات الحافلة ستزعجه؛ لذلك فقد استعاض عنها باستعدادات لتوزيع الخبز والملح وأعمال البر مصحوبة بإهداءات صور مقدسة، قرر أنها ستؤثر في قلب الكونت وتحرك مشاعره.
أحدث ربيع الجنوب والسفر السريع في عربة مريحة من طراز عربات فيينا، والوحدة الشاملة على الطريق، تأثيرا حسنا على نفس بيير. كانت تلك الأملاك التي يزورها لأول مرة تتبارى في الجمال وتتنافس عليه، كان أينما حل يرى السكان في مظهر من الرخاء يبرهنون له عن إخلاص مؤثر، وتعلق شديد، ويستقبلونه استقبالا يملأ نفسه غبطة وفرحا إلى جانب الخجل والارتباك اللذين كان يشعر بهما كذلك. وفي إحدى ممتلكاته قدم له الفلاحون مع الخبز والملح صورة للقديسين بول وبيير، وسألوه أن يوافق على إقامة مذبح في الكنيسة على نفقتهم، يكرس لسادته المقدسين؛ اعترافا منهم بما تلقوه منه من فضل وإحسان، وفي مكان آخر، جاءت النسوة مع رضعهن يستقبلنه شاكرات له إعفاءهن من السخرات والأعمال الشاقة، بينما جاء القسيس بنفسه يستقبله في المرحلة الثالثة والصليب في يده، وحوله أطفال كان يعلمهم الدين ومبادئ اللاتينية بفضل تدابير الكونت الأخيرة. وفي كل مكان، كان بيير يرى الأبنية تقام حسب مخطط موحد، أبنية من الحجر كان مقررا أن تصبح عما قريب مدارس ومشافي ومآوي. وفي كل مكان كان وكلاؤه يحملون إليه التقارير المشيرة إلى تخفيف الأعمال عن كاهل الفلاحين والإقلال من السخرات، وفي كل مكان كانت وفود الفلاحين في «قفاطينهم» (جلابيبهم) الزرقاء تهرع إليه لتعبر له عن إخلاصها العميق وشكرها.
ما كان يعرف بالطبع أن الضاحية التي قدم له فيها الخبز والملح كانت ساحة تجارية يقام فيها معرض ريعه لكنيسة سان بيير، وأن مذبح القديسين بيير وبول كان يشيد منذ بعض الوقت على حساب أثرياء المنطقة، وهم أولئك الذين جاءوا يستقبلونه، بينما كان تسعة أعشار الفلاحين في حالة من العوز والجوع الكاملين. ما كان يعرف أن أولئك الأمهات الشابات اللاتي أعفين من السخرة بناء على أوامره كن مقابل ذلك يقمن في بيوتهن بأعمال مسخرة أكثر إجهادا من أعمالهن السابقة. كان يجهل أن ذلك القسيس الذي استقبله والصليب في يده كان يوقر رعيته بالأعشار، ويبهظ كاهل أولئك المساكين الذين ما كانوا يسلمونه أبناءهم إلا وهم يبكون، ويدفعون له مبالغ كبيرة أجرا على تثقيفهم.
كان يجهل أن الشروع في تلك الأبنية الحجرية العتيدة كان يرهق الفلاحين؛ لأنه قام على نفقتهم وبجهودهم؛ لأن السخرة قد ضوعفت فعلا ولم تخفف إلا على الورق. كان يجهل أن فلانا من الوكلاء - الذين كانوا يخطرون أمامه ويتبجحون بأنهم أنقصوا، حسب رغبات سيدهم، الواجبات المقدرة على الفلاحين بمقدار الثلث، مستشهدين بدفاترهم وسجلاتهم - قد ضاعف مقابل ذلك أعمال السخرة، فأي عجب إذن إذا كان بيير في تجواله في أملاكه قد انطبع بشعور من الراحة النفسية والغبطة؟! لقد راح يكتب إلى أخيه الموجه - وهو الاسم الذي كان يطلقه على المعلم الأكبر - رسائل كلها حماسة واندفاع، وقد استفزه الشعور بمحبة البشر الذي امتلأت نفسه به عندما كان في بيترسبورج.
كان يحدث نفسه قائلا: «كم هو سهل! وكم من جهد يسير تافه يقتضيه تحقيق كل هذه الحسنات! وكم نغفل الانشغال في مثل هذه الأمور رغم بساطتها!»
كان سعيدا بالعرفان الذي أظهر نحوه في كل مكان، رغم أنه ما كان يتقبل تلك المظاهر إلا بمزيد من الارتباك؛ لأنها كانت تذكره بأنه قادر على عمل الشيء الكثير في سبيل هؤلاء البسطاء الطيبين.
كان الوكيل العام قد كشف عن حقيقة سيده فعرفها، عرف أن هذا الفتى الذكي ولكن الساذج يمكن أن يكون ألعوبة بين يديه، فلما رأى أن تدابيره الارتجالية المؤقتة قد أحدثت في بيير الأثر المطلوب، راح ذلك الداهية الماكر يعلن له بتلاعب لفظي أن إقرار العبيد الفلاحين مستحيل وعديم الجدوى؛ لأنه لن يضيف شيئا إلى سعادتهم.
كان بيير في أعماق نفسه يرى مثل هذا الرأي، كان يخيل إليه أنه يستحيل إيجاد أشخاص أكثر سعادة من مماليكه، خصوصا وأن الله يعرف أي مصير ينتظرهم إذا حررهم. مع ذلك فقد ألح في طلبه إرضاء لشعور العدالة والحق، فوعد الوكيل العام بأن يعمل كل ما هو ممكن لتنفيذ هذا العمل. لقد كان يعرف سلفا أن سيده عاجز عن التحقيق بنفسه إذا كانت التدابير قد اتخذت فعلا لبيع الغابات والأملاك المقرر بيعها لسداد دين مجلس الرعاية، وأنه على ذلك سيظل دائما جاهلا ما إذا كانت تلك الأبنية الجميلة استعملت في الغاية المنتظرة منها، وإذا كان الفلاحون مستمرين على إعطاء كل ما يعطونه للآخرين؛ أي كل ما كانوا قادرين على إعطائه، سواء أكان بالعمل أم لقاء أجر.
الفصل الحادي عشر
زيارة وتبشير
ولما كان بيير عائدا من الجنوب وهو على أحسن ما يكون من الغبطة والانشراح والارتياح، فقد انتهز تلك الفرصة للقيام بالزيارة التي طالما أجلها وأخرها، زيارة صديقه بولكونسكي الذي لم يره منذ عامين كاملين.
كانت بوجوتشاروفو - المقاطعة التي منحها الأمير العجوز لابنه آندريه - واقعة في ناحية مسطحة موحشة، تتخلل الحقول فيها أدغال الصنوبر والسندر، مبعثرة هنا وكثيفة هناك، والقرية مبنية على طول الطريق الكبير في خط مستقيم. أما المقر الذي ينزل فيه السيد، فقد كان مشيدا وراء بحيرة حديثة الحفر ممتلئة بالماء، ذات حواف مجردة لم تعبد بعد، وسط غابة اصطناعية حديثة الغرس تشمخ فيه بعض شجرات الأرز الكبيرة، وكانت دائرة السيد تشمل إلى جانب البيادر وملحقاتها الإصطبلات والمغاسل والحمام والمنافع العامة، وجناحا ملحقا، وبناء كبيرا من الحجر ذا واجهة نصف دائرية لم يستكمل بناؤه بعد، وكانت حديقة حديثة الغرس والإعداد تحيط بالمسكن.
أما الحواجز الخشبية والبوابات فكانت جديدة ومتينة، وتحت طنف قرب البيت. كانت مضختان لمكافحة الحريق مستقرتين إلى جانب برميل ماء كبير مطلي بلون أخضر، وكانت الطرقات مخططة بدقة وعناية، والجسور متينة محاطة بالحواجز، وكل شيء في ذلك الحانوت يدل على النظام، وتفهم عميق للحياة الريفية الزراعية والتنظيم القروي. سأل بيير المماليك الخدم عن منزل سيدهم، فأشاروا إلى الجناح الجديد المقام على شاطئ البحيرة، فقصد بيير إلى البناء، وهناك ساعده خادم اسمه أنطون - كان يرافق الأمير منذ صباه ويعنى بشئونه - على الترجل من عربته، وأخبره بأن سيده موجود وأدخله غرفة صغيرة نظيفة.
كان ذلك المسكن المتواضع يتناقض كل التناقض مع المظهر الباذج الأنيق الذي شاهد بيير صديقه فيه آخر مرة في بيترسبورج، فأدهشه هذا التحول وبادر إلى ولوج البهو الصغير الذي لم تكن جدرانه قد غطيت كلها بطبقة الجص، والذي كانت تبعث منه رائحة خشب الصنوبر. هم بأن يدخل إلى الغرفة المجاورة، لكن أنطون سبقه على أطراف قدميه فقرع بابها.
سأله صوت أجش مقبض من الداخل: «ماذا هناك؟»
فأجاب أنطون: «زيارة لك.» - «دعه ينتظر.»
ارتفع صوت تراجع مقعد، فاندفع بيير ليصطدم بالأمير آندريه على عتبة الباب وهو خارج من الغرفة مكتئب الوجه عابسه، وعلى وجهه أمارات الشيخوخة، طوقه بذراعه ونزع نظارتيه ثم قبله في خديه وراح يتأمله عن قرب، قال آندريه: «بحق الشيطان ما كنت أنتظر ... إنني شديد السرور لرؤيتك.»
ذهل بيير من الانقلاب الكبير الواضح على مظهر صديقه، فراح ينظر إليه دون أن ينبس ببنت شفة، كانت كلمات الأمير مسرحية ووجهه بسام، لكنه رغم كل رغبته واستعداده ما كان يستطيع أن يضيء وميض الفرح في عينيه الخابيتين. كم هزل بولكونسكي وشحب وشاخ! غير أن بيير لم يكن ليلقي بالا إلى كل هذا لولا تلك النظرة الميتة، وذلك الأخدود الذي يقطع جبهته دلالة على تركيز التفكير في أمر واحد زمنا طويلا. لقد كانت هناك هاتان البادرتان تحيفانه وتجعلان صديقه بعيدا عنه؛ مما اقتضاه فترة غير قصيرة ليألفهما.
وكما يحدث عادة في الحديث الذي يدور بين صديقين بعد غياب طويل، فقد ظل الحديث يتعثر بينهما فترة حتى استقام. شرعا يبحثان في موضوعات مختلفة وفي آن واحد دون أن يولياها العناية التامة، رغم أن تلك الموضوعات كانت جديرة بالبحث والنقاش، كالبحث في ماضيهما وخططهما للمستقبل ورحلة بيير ومشاغله والحرب ... إلخ، ثم قام التفاهم بينهما رويدا رويدا، واتفقا ضمنيا على بحث كل مسألة على حدة. كان الانهماك والتداعي اللذين لاحظهما بيير في نظرة صديقه الأمير آندريه يبدوان أكثر وضوحا في الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه، والتي أخذ يستقبل بها الأحاديث التي كان الكونت الشاب يشرع فيها، وبصورة خاصة مشاريعه الحماسية المتعلقة بالمستقبل ورواياته عن الماضي.
كانت تلك الأمور رغم كل ما قد تثيره في نفسه من منعة لا تستأثر باهتمام الأمير، وكان هذا الإحساس ظاهرا على آندريه، حتى إن بيير لم تفت عليه ملاحظته، فأدرك أن حماسته وأحلامه وآماله في السعادة والفضيلة كانت في غير محلها؛ لذلك فقد عرض أفكاره الماسونية الجديدة في شيء من الارتباك، خصوصا ما كان يتعلق منها برحلته وما شعر به بعد تلك الرحلة. أخذ يسيطر على لسانه خشية أن يبدو ساذجا، لكنه كان يتحرق شوقا ورغبة في إظهار صديقه على أنه أصبح الآن بيير آخر غير الذي عرفه في بيترسبورج، قال: «لا أستطيع إطلاعك على كل ما حدث في نفسي من تغييرات في الأيام الأخيرة. إنني لا أكاد أعرف نفسي.»
فأجابه آندريه: «نعم، لقد تبدلنا كثيرا كثيرا.»
سأله بيير: «وأنت، ما هي مشاريعك وخططك؟»
فرد عليه آندريه بلهجة ساخرة: «مشاريعي؟»
وكرر وكأن معنى تلك الكلمة كان يدهشه: «خططي؟! لكن كما ترى؛ إنني أبني دارا وأتوقع أن أستقر هنا نهائيا في العام المقبل.»
أخذ بيير يدقق في وجه صديقه المهرم وقال: «أنا لا أتحدث عن هذا. لقد أردت سؤالك عن ...»
فقاطعه آندريه قائلا: «آه! ما فائدة التحدث عني؟ الأفضل أن تقص علي رحلتك وكل ما عملته في أملاكك هناك.»
شرع بيير يتحدث - ساعيا إلى إخفاء دوره في هذا الموضوع - عن التحسينات التي بات مماليكه الفلاحون ينعمون بها، وقد أنجز آندريه أكثر من مرة وكأنه يعرف ذلك منذ زمن طويل، اللوحة الكلامية التي كان يصورها له بيير، لكنه كان واضحا عليه أنه لم يكن يعير ذلك الحديث أية أهمية، بل إنه كان يبدو خجلا لمجرد إصغائه إلى تلك الترهات.
أخيرا شعر بيير بالضجر فآثر الصمت، ولا ريب أن آندريه كان يحس مثل ذلك الإحساس؛ لذلك فقد راح يبحث فقط عما يشغل ذلك الضيف الذي كانت آراؤه لا تنسجم ولا تتفق في شيء مع آرائه الشخصية، قال له: «أنت ترى يا عزيزي أنني جئت أعسكر هنا، ولقد قدمت لألقي نظرة على ما تم، وسأعود بعد حين لألحق بأختي في البيت. سوف أقدمك إليها، لكنك تعرفها على ما أعتقد؟ سوف نذهب بعد العشاء، والآن هل ترغب في زيارة أرضي وتفقدها؟»
ظلا يتنزهان حتى موعد العشاء وهما يتحدثان وكأنهما لا تربط بينهما إلا معرفة سطحية عن أصدقائهما كليهما، وعن الأنباء السياسية. لم تتدفق الحيوية في نفس الأمير آندريه إلا عندما تحدث عن ترتيباته الجديدة، لكنه عاد فبتر الحديث فجأة، بينما كان يتحدث عن التجهيزات المنتظرة، خلال وصف جميل للمسكن المنتظر، قال: «ثم إن كل هذا لا يثير إلا اهتماما ضئيلا. هيا بنا إلى المائدة قبل أن نمضي إلى القصر.»
تحدثا خلال الطعام عن زواج بيير، فقال آندريه: «لقد أدهشني النبأ كل الدهشة.»
تضرج وجه بيير كعادته، وتطرق البحث إلى هذه الناحية وبادر يقول: «سأقص عليك ذات يوم كيف وقع كل هذا. اعلم فقط أن كل شيء قد انتهى وللأبد.» - «للأبد! لا شيء يمكن أن يدوم إلى الأبد.» - «هل تجهل إذن كيف انتهى الأمر؟ هل سمعت عن المبارزة؟» - «نعم، إنني أعرف أنك بلغت حتى هذا السبيل.» - «إن الأمر الوحيد الذي أشكر عليه هو أنني لم أقتل ذلك الرجل.» - «ولم الشكر؟ إن قتل كلب مسعور يبدو لي أمرا ممتازا.» - «كلا، إن قتل رجل إثم، إنه غير حق!» - «غير عادل؟ ولم؟ إن الإنسان لا يمكنه أن يقرر الحق والباطل، الظلم والعدل. إن هذه هي النقطة التي أخطأ فيها الإنسان أكثر من غيرها، وسيخطئ في تقديرها أبدا.»
استأنف بيير وقد أسعده أن استثار الحديث اهتمام آندريه أخيرا، وبدا كأنه يريد أن يفضي إليه بمكنونات نفسه في تلك الآونة: «إن كل ما يسيء إلى المجتمع غير عادل.» - «ومن الذي قال لك ما هو الشيء الذي يسيء إلى المجتمع؟» - «كيف هذا؟ إننا نعرف جميعا ما يسيء إلينا.»
فقال آندريه وفي نفسه رغبة في عرض وجهة نظره الجديدة على بيير: «نعم، إننا نعرفه، لكن ذلك الشر الذي أعتبره مسيئا إلي شخصيا لا أستطيع أن أعمله للمجتمع.»
ثم ازداد تحمسه وأضاف بالفرنسية: «إنني لا أعرف في الحياة إلا سيئتين حقيقيتين: المرض، وتبكيت الضمير، ولا شيء أحسن من غيابهما عن النفس والجسد. إن حكمتي الحالية تنحصر في أن أعيش لنفسي، وأن أتجنب هذين الشرين.»
فاستأنف بيير مناقشا: «وحب المجتمع، وروح التضحية؟ إنني لا أستطيع أن أشاطرك الرأي؛ أن يعيش المرء لمجرد ابتعاده عن الإساءة تجنبا لتبكيت الضمير أمر تافه قليل. لقد عشت كذلك؛ عشت من أجل نفسي فحطمت حياتي. والآن وأنا أعيش للآخرين - وبادر إلى تصحيح جملته بتواضع فقال - أعني أنني أحاول على الأقل أن أعيش للآخرين ، فإنني على العكس بدأت أشعر بلذة الحياة وأفهمها. كلا إنني لست من رأيك، ثم إنك لا تؤمن بما تقوله بالفعل.»
أخذ آندريه يتأمله وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة، قال: «سوف ترى أختي ماري، وستتفق معها في الرأي.»
وأردف بعد فترة صمت: «إن من الممكن أن تكون على حق فيما يتعلق بك، لكن كل إنسان يعيش كما يرى وعلى هواه. إنك تزعم بعيشك من أجل نفسك، كما عملت بادئ الأمر. كدت أن تفسد وجودك وتحطم حياتك، وإنك لم تتعرف إلى السعادة إلا عندما رحت تعيش للآخرين. لقد قمت بالتجربة العكسية، لقد عشت من أجل المجد، والمجد هو حب المجتمع كذلك، والرغبة في تحقيق شيء من أجله، الرغبة في أن امتدح من قبله؛ إذن عشت من أجل الآخرين، فحطمت حياتي كلها نهائيا. إنني منذ أن بدأت أعيش من أجل نفسي شعرت على العكس بأكثر قسط من الراحة والهدوء.»
فناقشه بيير بحماس: «ولكن كيف يمكن أن يعيش المرء من أجل نفسه فقط؟ وابنك، وأختك، ووالداك؟» - «إنهم يدخلون في ال «أنا». إنهم ليسوا الآخرين. إن الآخرين (المجتمع) - كما تسميهم أنت وماري - هم السبب الجوهري للخطأ والشر. إن المجتمع هو فلاحو كييف الذين تريد أن تعمل صالحا من أجلهم.»
خيل لبيير أن نظرته الهازئة تتحداه، فأجابه وقد ازداد حماسه توقدا: «إنك تمزح ولا ريب، كيف يمكن أن تكون رغبتي في عمل الخير خطأ وشرا؟ قد أكون أخطأت في الترتيبات والتنفيذ، لكن نيتي طيبة، وقد قمت ببعض الخير رغم كل شيء. شرفي أن يخفف عن فلاحينا التعساء الذين هم من بني الإنسان مثلنا، والذين يكبرون ويموتون دون أن يعرفوا عن الله والحق إلا تطبيقات غير مجدية، وصلوات ربانية سخيفة! أقول: أي شر في أن يطلعوا على ما يخفف عن نفوسهم فيعرفوا شيئا عن الحياة الأخرى التي تنتظرهم جزاء لهم على أعمالهم، وتخفيفا عما في نفوسهم؟ أي شر وأي خطأ في أن نجنب الرجال الموت دون غوث مادي! وفي أن نؤمن لهم حاجتهم من الأطباء والمستشفيات والملاجئ مع ما في ذلك من يسر؟ أليس منح بعض الراحة لأولئك التعساء البائسين، وللأمهات الشابات اللواتي يقتلن أنفسهن في العمل المرهق عملا طيبا لا يبارى؟»
كان بيير يتحدث بسرعة متمتما، فلما بلغ هذا الحد أعقب بصوت هادئ وبرزانة قائلا: «هذا ما عملته. صحيح أنه كان عملا ناقصا، وأنه نفذ بشكل غير مرض كليا، لكنني عملته على كل حال. إنني لن أصدق أبدا مهما قلت وأكدت أنني أسأت صنعا فحسب، بل لن أصدق كذلك أنك لم تفكر في هذا بالمثل. إن المتعة التي يشعر بها الإنسان بعد عمل الخير هي سعادة الحياة الحقيقية. إنني أعرف ذلك الآن وفي نفسي القناعة الكاملة. وهذا هو الشيء الأساسي.»
استأنف الأمير آندريه قائلا: «على هذا الأساس فإن المسألة تبدو بشكل مختلف تماما. إنني أشيد دارا أو أغرس شجرا، وأنت تبني مشافي، لكل منا تسليته. أما ما هو خير وما هو عادل، فدع للذي يعرف كل شيء فرصة تقرير ذلك. إن هذه المسألة ليست شأننا. لكن، أتريد أن نتناقش؟ هيا، ليكن.» - «حسنا، لنستمر. إنك تقول: مدارس، مواعظ، وماذا بعد؟ الخلاصة أنك تريد أن تسحب هذا المخلوق - وأشار إلى فلاح كان يمر في تلك اللحظة محييا - من حالته الحيوانية الحالية لتعطيه ما ينقصه من النواحي الفكرية والخلقية. أما أنا فأعتقد، على العكس، أن سعادته الوحيدة الممكنة كامنة - على الدقة - في هذه السعادة الحيوانية التي تود سلبها منه. إنني أغبطه في الوقت الذي تريد أنت أن تجعله «أنا» دون أن تعطيه على أية حال واحدا أو أكثر من مصادري. ثم تقول بعدئذ: لنخفف عنه عمله. لكنني أقدر عكس ذلك أيضا؛ أن العمل الجسدي يعتبر ضرورة بالنسبة لك ولي. إنك لا تستطيع أبدا أن تتخلى عن التفكير، وأنا لا أنام قبل الساعة الثانية أو بعدها؛ لأن حشدا كبيرا من الأشياء يتجمع في رأسي، فأتقلب وأتقلب ولا أجد سبيلا إلى النوم. كل يوم لأنني لا أستطيع أن أعمل شيئا غير التفكير، وعلى ذلك، فإنه لن يستطيع التخلي بدوره عن الحراثة والحصاد ، وإلا ذهب إلى الحانات وسقط فريسة للأمراض. إنني لا أستطيع احتمال عمله الجسدي المخيف؛ لأنه سيقتلني في بحر أسبوع إذا مارسته، كذلك فإن بطالتي ستجعله عظيم السمنة وستقتله. ثالثا ... ماذا كنت تقول؟ آه، لقد تذكرت.»
وثنى إصبعه الثالث وأردف: «المستشفيات والمداواة، فهو إذا أصيب بضربة دم مات، أما أنت فتريد أن تعالجه ليشفى، سيعيش عشر سنين بعد شفائه، لكنه سيكون مقعدا عاجزا، عالة على الآخرين، ومن الخير له أن يموت مرة واحدة. إن غيره يولدون بكثرة، وسيحلون محله باستمرار، وسيكون عددهم أبدا كافيا، فإذا كنت تأسف لخسارة عامل - وإنني أعتبر الأمر كذلك - فليكن! لكن كلا، إنك تريد معالجته حبا به ليس إلا. إنه ليس في حاجة إلى مساعدتك. ثم من الذي شفاه الطب حتى الآن؟ إن الطب لا يعرف إلا القتل.»
وأشاح بوجهه غاضبا. كان آندريه يتحدث بطلاقة ووضوح الرجل الذي ناقش هذه الأفكار في نفسه طويلا، والذي وجد أخيرا مجالا للتعبير عما يجيش في صدره، فكلما كانت استنتاجاته كئيبة مظلمة ازداد بريق عينيه وميضا.
قال بيير: «آه! إن هذا مريع، إن هذا مريع! كيف يمكن أن يعيش المرء بمثل هذه الآراء؟! لقد عرفت - والحق يقال - دقائق من هذا الطراز في موسكو وأثناء سفري، لكنني لم أشعر بسقوطي في مثل هذا الإسفاف. لا أشعر بالحياة، بل إن كل شيء يبدو لعيني بشعا كريها، اعتبارا من نفسي؛ وعندئذ أعزف عن الطعام والاغتسال. وأنت؛ لم إهمال النفس؟ إن ذلك يعتبر قذارة! يجب على العكس أن يجهد المرء ليجعل حياته على أقصى ما يستطيع من درجات الرفاهية. إذا كنت أعيش فليس ذلك خطئي؛ فلنعش إذن على خير ما نستطيع بانتظار لحظة الموت.» - «ولكن كيف يمكنك مع ذلك أن تتمتع بالحياة وتشعر بلذة العيش؟ عندما يكون المرء في مثل هذه الحالة فإن من الأفضل أن يدفن نفسه في أحد الأركان، وأن يستغرق في تأملاته ويضرب أخماسه بأسداسه. ألا ترى أن الحياة لا تترك لنا مجالا للراحة، ولولا ذلك لأسعدني أن أعيش دون أن أعمل شيئا؟ لكن فئة النبلاء في المقاطعة أرادت بادئ الأمر أن تنتخبني قيما على مصالحها، ولقد وجدت صعوبات كبيرة في إقناع هؤلاء السادة بأنني لم أكن رجلهم المنشود؛ لأن المنصب يتطلب استعدادا نفسيا مرحا ودناءة مستمرة، مما لا يتوفر في، ثم اضطررت إلى تشييد هذا البيت لأجد لنفسي ركنا خاصا أشعر فيه بالراحة، وأخيرا جاء دور الميليشيا.» - «لم لم تعد إلى الخدمة العسكرية؟»
فأجاب الأمير بصوت كئيب: «بعد أوسترليتز! كلا، مع عظيم الشكر. لقد آليت على نفسي ألا أعود إلى الخدمة الفعلية، ولسوف أحافظ على وعدي، ولو أن بونابرت وصل إلى أبواب سمولنسك وبات يهدد ليسيا جوري؛ فإنني لن أعود إلى الخدمة الفعلية.»
ثم تابع بصوت استعاد بعض هدوئه: «إنني كما قلت لك وجدت أن خير وسيلة للإفلات من الخدمة الفعلية هي أن أعمل ملحقا لأبي الذي يقود المنطقة الثالثة لإعداد الميليشيا.» - «إنك إذن في الخدمة، أليس كذلك؟»
وصمت فترة طويلة. سأله بيير بإلحاح: «ولم تخدم؟» - «إليك السبب: إن أبي من أبرز شخصيات عصره وأهمها، لكنه أصبح اليوم هرما، وأضحى تصرفه على شيء من العنف دون أن تكون فيه قسوة. والآن قد منحه الإمبراطور سلطة غير محدودة بوضعه على رأس فرق الجيش الفني، إضافة إلى عاداته الآمرة، فقد أصبح خطرا يخشى جانبه، لقد كاد منذ خمسة عشر يوما أن ينفذ حكم الإعدام شنقا في واحد من المقيدين في إيوخنوف لو تأخرت ساعتين عن الوصول.»
وابتسم آندريه وأردف: «وإذن إذا كنت أخدم فلأنه لا يوجد سواي من يستطيع التأثير على عقلية أبي، وإنني من حين إلى آخر أستطيع منعه عن القيام ببعض الأعمال التي يمكن أن يأسف عليها فيما بعد أسفا عميقا.» - «أرأيت؟» - «نعم، ولكن ليس كما تتصور الأمر وتفسره. إنني ما كنت أطلب ولن أطلب أي خير لذلك المقيد الذي سرق أحذية الميليشيا، بل إنني كنت سأنظر إليه وهو يشنق بسرور، لكنني أشفقت على أبي، وأعني أنني أشفقت على نفسي مرة أخرى.»
أخذ انفعال الأمير يزداد تدريجيا، وبينما كان يجهد في أن يبرهن لبيير أن أعماله لا تضم شيئا من إرادة الخير للآخرين، كانت عيناه تتوقدان بحماسة محمومة، استأنف القول: «وإذن فإنك تنوي تحرير العبيد وإقرارهم. إنها نية ممتازة، لكنها لن تكون ذات نفع لك - وأنت الذي لم تأمر بجلدهم قط أو نفيهم إلى سيبيريا كما أعتقد - ولا لهم، بل إنني أعتقد أنهم إذا جلدوا أو أبعدوا فإن ذلك لن يكون في رأيهم شيئا كل السوء، ولو أرسلوا إلى سيبيريا لتابعوا حياتهم الحيوانية هناك وكأن شيئا لم يحدث، فإذا ما التأمت جروح السياط وبرئت؛ فإنهم سيشعرون بمثل سعادتهم السابقة. مع ذلك، فإن التحرير والإقرار ضروريان، ولكن لأولئك الذين يخنقون في أنفسهم صوت تبكيت الضمير بعد أن فقدوا تدريجيا الإحساس الروحي، فيقسون في عادتهم الرديئة التي يعتبرونها حقا لهم، وهي إنزال العقاب بعدل أو بغير عدل. هؤلاء هم الذين أشفق عليهم، والذين أتمنى أن يصار إلى تحرير العبيد الفلاحين بسببهم. لعلك لا تعرف بعضا من هؤلاء، لكنني رأيت أشخاصا بارزين نشئوا في تقاليد السلطة المطلقة، فأصبحوا مع السنين أكثر استجابة للغضب، وأشد قسوة ووحشية، وهم يعرفون ذلك عن أنفسهم، لكنهم لا يستطيعون السيطرة على رغائبهم؛ فيزدادون تعاسة وحزنا.»
كان آندريه يتحدث بحرارة. فكر بيير في سره مرغما: «لا شك أن هذه الأفكار قد تسربت إلى نفسه من تأثير عقلية ابنه.» لم يجب، بينما أعقب آندريه قائلا: «نعم، هؤلاء هم الذين يوحون إلي بالشفقة، وأعني كرامة الإنسان، راحة الضمير ونقاء الروح. أما الظهور والرءوس، ظهور هؤلاء الأشخاص ورءوسهم، فإنك مهما جلدت وحلقت فإنها ستبقى أبدا ظهورا ورءوسا.»
فقال بيير: «كلا وألف كلا، لن أكون أبدا من رأيك.»
الفصل الثاني عشر
مناقشة
استقل آندريه وبيير العربة وقصدا إلى ليسيا جوري عند حلول الظلام.
كان آندريه يلقي نظرات مختلسة على بيير، ويقطع الصمت من حين إلى آخر ليتحدث في موضوعات مرحة مسلية. كان يفسر له وهو يريه الحقول مختلف التحسينات التي أدخلها على الاستثمار.
لم يكن بيير يجيبه إلا بكلمات وحيدة المقاطع، دلالة على استغراقه في تأملات قاتمة مكدرة، كان يفكر في أن صديقه تعيس موغل في السبيل الخطأ، جاهل النور الحقيقي، وأن عليه أن يضيء أفكاره وينتشله من وهدته، لكنه عندما كان يفكر في أقواله وأسلوبه في الكلام كان يشعر بأن آندريه قادر على تهديم كل مناقشته بكلمة واحدة؛ لذلك فقد كان يتردد في الشروع في الكلام؛ خشية تعريض قدس أقداسه للهزء والسخرية.
قال بعد حين وقد أحنى رأسه أشبه بالثور الذي يتأهب للنطاح: «قل لي: من أين لك هذه الأفكار؟ لا يجب أن تفكر على هذا النحو.»
سأله الأمير حائرا: «أية أفكار؟» - «أفكارك عن الحياة ومهمة الإنسان لقد كانت لي أفكار مثلها أنا الآخر، لكن أتدري ماذا أنقذني منها؟ الماسونية. آه! لا تبسم، إنها ليست - كما كنت أظنها - مذهبا دينيا كله طقوس، بل إنها أجمل تعبير عما في الإنسان من أحسن ومن أزلي باق، إنها المعبر الوحيد عن كل هذا.»
وراح يعرض شارحا الماسونية - حسب رأيه - مؤكدا أنها الشريعة المسيحية النقية المتحررة من قيود الحكومات والأديان، شريعة المساواة والإخاء والحب، قال: «إن محفلنا المقدس هو الوحيد الذي يملك معنى الحياة الحقيقي، وكل ما عداه أحلام ووهم. إن كل شيء خارج نطاق المحفل ليس إلا كذبا وخطأ وزورا خارج دائرة المحفل وعقيدته. لا يبقى للرجل الذكي النبيل إلا أن يعيش حتى يموت، جاهدا ألا يسيء إلى سواه، تماما كما تفعل أنت. إنني على أتم وفاق معك حول هذا، لكنك إذا اعتنقت مبادئنا الأساسية، إذا دخلت في محفلنا، إذا أسلمت زمامك لنا، إذا تركتنا نوجهك ونرشدك؛ فإنك ستشعر على الفور - ما شعرت أنا من قبل - بأنك حلقة في تلك السلسلة الهائلة غير المنظورة، والتي تضيع بدايتها في الأجواء العليا في السماوات.»
كان آندريه يصغي إلى بيير دون أن يتفوه بكلمة، وعيناه شاخصتان إلى نقطة وهمية أمامه، رجاه أكثر من مرة أن يكرر بعض الكلمات والعبارات التي لم يستوعبها للمرة الأولى بسبب ضجيج العربة. شجع سكوته والبريق الخاص الذي انبعث عن عينيه بيير على الاسترسال، شعر أنه لم يعد يتحدث عبثا، وأنه لا خوف عليه من مقاطعات صديقه أو سخريته.
بلغا نهرا فائضا اضطرا إلى اجتيازه على طوف كبير، وبينما راح الخدم ينقلون العربة والخيول إلى العابرة، أخذ الصديقان مكانهما عليها متابعين الحديث. كان آندريه متكئا على حاجز الطوف يتأمل المياه الهادرة التي تنعكس عليها آخر إشعاعات الشمس الغاربة بصمت ووجوم. سأله بيير: «حسنا! ما رأيك في كل هذا؟ لم أنت صامت؟» - «ما رأيي؟ لكنني مصغ إليك. إن كل هذا جميل ولا شك. إنك تقول: ادخل في محفلنا وسندلك على غاية الحياة، ومصير الإنسان، والقوانين التي تسير العالم، لكن من نحن غير مخلوقات بسيطة فانية؟ كيف حدث أنكم تعرفون كل شيء؟ كيف حدث أنني وحدي لا أرى ما ترونه على هذه الأرض؟ إنكم ترون على الأرض ملكوت الخير والحق وأنا لا أراه.»
قاطعه بيير قائلا: «هل تؤمن بالحياة الآخرة؟» - «الحياة الآخرة!»
ولما كان بيير يعرف من قبل أن صديقه ملحد، فقد اعتبر استفساره هذا نفيا، فلم يعطه وقتا للجواب أو التفسير، واستأنف قائلا: «إنك تقول إنه يستحيل عليك رؤية ملكوت الحق والخير على الأرض. إنني أنا الآخر ما كنت أراه؛ إذ ليس ممكنا أن نراه إذا اعتبرنا أن نهاية حياتنا هي نهاية كل شيء على الأرض. نعم، على هذه الأرض - وأشار إلى السهل - لا يوجد حق. إن كل شيء عليها كذب وشر، ولكن في العالمين في مجموع الكون تسود الحقيقة. إننا أبناء الأرض لفترة وجيزة، لكننا في الأزل أبناء الكون. ألست أشعر في أعماق نفسي بأنني جزء من هذا الكون الهائل المتناسق؟ ألست أشعر في أعماق روحي أنني في هذه الكمية العظيمة المحدودة من المخلوقات التي تتجلى القدرة فيها، أو القوة العليا كما تشاء، لست إلا حلقة صغيرة، درجة من سلالم الخلق، من أدناها إلى أرفعها، بلى إنني أرى، وأرى بوضوح ذلك السلم الذي يبدأ من النبتة حتى يصل إلى الإنسان، فلم إذن أعتقد أنه عندما يصل إلي ينتهي عندي بدلا من القناعة والإيمان بأنه يمضي بعيدا كذلك إلى أبعد مني؟ إنني أشعر أنني لا يمكن أن أختفي من الوجود؛ لأن لا شيء يختفي فيه. إنني أشعر بأنني كنت من الأزل وسأبقى إلى الأزل. إنني أحس بوجود أرواح أخرى غيري وأرفع مني تعيش في الكون معي، وفي هذا الكون تقيم الحقيقة ويجثم الحق.»
قال آندريه: «نعم، إن هذه عقيدة هيردر،
1
لكنها يا عزيزي، لن تقنعني أن الحياة والموت هما وحدهما مجلبة للقناعة والإيمان، إن ما يقنعك هو أن ترى مخلوقا كنت شديد التعلق به مذنبا حياله، كنت تفكر في التكفير عن أخطائك نحوه - وأخذ صوته يرتعد انفعالا، فأشاح بوجهه - أقول: أن ترى هذا المخلوق العزيز الغالي يتألم فجأة، ويحتمل أوجاعا رهيبة مريعة، ثم يكف عن الحياة، فلم هذا؟ لا يمكن أن يكون هذا السؤال دون جواب، إنني أعتقد أن هناك جوابا على الأقل. إن هذا لمقنع، وهذا ما أقنعني.» - «لكن بلى، بلى إن هذا ما كنت أقوله لك.» - «أبدا يا عزيزي، أصغ إلي جيدا: إن الحياة الآخرة ليست الحجج التي تثبت لي ضرورة ذلك، بل إنها الواقعة التالية: يدخل المرء في مضمار الحياة ممسكا بآخر في يده. وفجأة يختفي هذا الآخر هناك في العدم، وعندئذ يقف المرء على حافة الهاوية يتفحصها بعينيه باحثا ... ولقد تفحصتها بنفسي.» - «حسنا! إنك إذن تعرف أن في الأمر «هناك» و«بعضهم». إن هذه ال «هناك» هي الحياة الآخرة، وذلك ال «بعضهم» هو الله.»
لم يجب آندريه، كانت العربة قد سحبت من الطوف إلى الشاطئ الآخر وقطرت الخيول إليها، والشمس كادت أن تغيب، وجليد المساء يرسم نجوما من برك الماء الصغيرة المنتثرة على الشاطئ، لكن السيدين ظلا في مكانيهما على الطوف لا يبرحانه، الأمر الذي أثار دهشة الخدم واستغرابهم. لبث بيير وآندريه يتناقشان دون أن يفكر أحدهما في مغادرة الطوف.
كان بيير يقلون وهو يشير إلى السماء. - «إذا كان الله موجودا، والحياة الآخرة موجودة، فإن الحقيقة والفضيلة موجودتان كذلك، والأمنية القصوى والنعيم المقيم في السعي لمعرفتهما ينبغي أن يعيش المرء، وأن يحب ، وألا يعتقد بأننا نعيش على هذه القطعة من الأرض فحسب، بل إننا عشنا وسنعيش إلى الأبد هناك، في «الكل».»
لبث آندريه يصغي إلى بيير وهو متكئ إلى حاجز الطوف، لا تفارق عيناه الأمواه الزرقاء اللامعة التي يلقي عليها المغيب سهامه الحمراء. صمت بيير وخيم سكون عميق لا يقطعه إلا تكسر المياه الهادرة على جوانب الطوف الراسي على الشاطئ منذ حين، خيل لآندريه أن يسمع في هذه الدمدمة الغامضة صدى لأقوال بيير «تلك هي الحقيقة فصدق.» أطلق زفرة وشمل وجه بيير المتضرج، بجلال، بنظرة مشعة صبوية حانية. كان وجه بيير رغم وقاره يحمل طابع الخجل إزاء هذا الصديق الذي يعرف أنه متوفق عليه في كل شيء، قال أخيرا: «نعم، عل الأمر كذلك! هيا، لنصعد إلى العربة.»
ولما جلا عن الطوف رفع عينيه إلى السماء التي أشار بيير إليها منذ حين، فرأى من جديد للمرة الأولى منذ أوسترليتز، تلك السماء الأزلية العميقة المتسامية التي تأملها على ساحة المعركة. ولقد كان لذلك المشهد في نفسه تجديد للغبطة والحنان اللذين افتقدهما، لكن ذلك تبدد من فوره حالما عاد الأمير آندريه إلى واقعه المألوف في الحياة، غير أنه كان يعرف أن ذلك الشعور - الذي لم يغذه وينشئه في روحه - باق في أعماقه حي فيه. وعلى الرغم من أن مظهر آندريه لم ينم عن شيء مما في نفسه، فإن ذلك الحديث الذي دار بينه وبين بيير أشرق في أعماقه فجرا جديدا داخليا غير مألوف لديه.
الفصل الثالث عشر
رجال الله
وصلت العربة إلى ليسيا جوري، ووقفت أمام الطنف الكبير بعد حلول الظلام. نبه آندريه صديقه بيير إلى الذعر الشديد الذي أحدثه وصولهما على مدخل باب الخدم. لقد كانت هناك عجوز محنية الظهر، جرابها على كتفها، يصحبها رجل قصير القامة، طويل الشعر، مرتديا ألبسة سوداء، يجريان إلى الباب العمومي هاربين، وفي أعقابهما امرأتان ركضتا تحاولان اللحاق بهما، فلما اجتمع أربعتهم ألقوا نظرة ذعر ووجل إلى العربة واندفعوا إلى سلم الخدم.
قال آندريه : «هؤلاء هم «رجال الله» عند أختي ماري. لقد اعتقدوا أن ماري تستقبلهم دائما رغم أن أبي دأب على طردهم دون هوادة. إن هذا هو الأمر الوحيد الذي تخالفه ماري من أوامر أبي.»
سأل بيير: «ولكن ما معنى رجال الله؟ ومن هم هؤلاء؟»
لم يجد آندريه متسعا للإجابة عليه، فقد هرع الخدم لاستقبالهما، فسألهم. أنبئوه أن الأمير العجوز لا زال في المدينة، لكنهم ينتظرونه بين لحظة وأخرى.
قاد آندريه صديقه بيير إلى حجراته المعدة للاستقبال؛ حيث تركه فترة ليستطلع أنباء ابنه ويراه، ولما عاد إليه قال له وهو يتقدمه: «والآن، هيا بنا إلى أختي، إنني لم ألمحها، إنها محتجبة في حجرتها مع محمييها. سوف نفاجئها، وسيغمرها الخجل، لكنك سترى رجال الله، إنهم لعمري يثيرون التطلع.»
سأل بيير مرة أخرى: «ما معنى رجال الله؟» - «سوف ترى بنفسك.»
خجلت الأميرة ماري كل الخجل لدى دخولهما إلى غرفتها الجميلة؛ حيث القناديل مضاءة بجلال قرب خزانة التمائم المقدسة، وعلت وجهها بقع حمراء تضرجه. كانت جالسة على أريكة تتناول الشاي بصحبة فتى طويل الأنف والشعر مرتديا مسوح راهب، وكانت امرأة عجوز عجفاء هزيلة ذات وجه يشبه وجوه الأطفال في دعته، تشغل مقعدا وثيرا بجانبهما.
قالت ماري في رنة لوم خفيفة: «لم لم تخطرني بقدومك يا آندريه؟»
وهرعت تقف بينه وبين حجاجها كالدجاجة التي تحمي صغارها، وأردفت: «إنني سعيدة جدا لرؤيتك يا كونت.»
وقبلت يد بيير. كانا يعرفان بعضهما منذ الطفولة، والآن فإن صداقته التي كانت تربطه إلى آندريه، ومصائبه الزوجية وأشجانه، وعلى الأخص وجهه الصريح الطيب. كل هذه الأشياء كانت تحمل ماري على الميل إليه. لبثت تحدق في وجهه بعينيها الجميلتين المتوقدتين وكأن نظرتها تقول: «إنني أحبك كثيرا، ولكن رحماك لا تسخر من جماعتي.»
تبادلا التحية والتمنيات المألوفة وجلسوا جميعا. قال آندريه مشفعا كلامه بابتسامة موجهة إلى الحاج الشاب: «هه! ها إن إيفانوشكا هنا كذلك!»
فهتفت ماري بلهجة متوسلة: «آندريه!» فقال هذا لبيير: «ينبغي أن تعلم أنه امرأة لا رجل كما تظن.»
كررت ماري توسلها: «آندريه ، ناشدتك الله!»
كان من الواضح أن مشاكسات آندريه للحجاج، واحتجاجات ماري غير المثمرة لحمايتهم، كانت متأصلة في أعماق الأخ والأخت، أصيلة في عاداتهما.
قال آندريه: «ولكن يا صديقتي الطيبة، ينبغي أن تشكري لي ما أحتمله من عناء في شرح علاقتك الأليفة مع هذا الفتى!»
قال بيير وهو يتفحص وجه الحاج خلال نظارتيه بفضول خطير - كانت ماري شاكرة له سلوكه الجدي: «صحيح؟»
وأدرك إيفانوشكا أنهم يتحدثون عنه فراح يجيل حوله نظرة ماكرة.
أخطأت ماري في دفاعها عن جماعتها وخوفها عليهم؛ لأنهم لم يكونوا مرتبكين مطلقا إزاء تلك النظرات المتطفلة. كانت العجوز ذات العينين المطرقتين التي كانت تختلس بين حين وآخر نظرة دائرية إلى وجهي القادمين؛ قد قلبت قدحها على الصحفة، ووضعت بجانبه قطعة السكر التي قرضت نصفها منتظرة أن يقدم لها الشاي من جديد، وهي جامدة ساكنة على مقعدها. أما إيفانوشكا فقد كان يرقب القادمين خلسة بعينيه الماكرتين الشبيهتين بعيني الإمرأة، وهو يتجرع محتويات قدحه بتمهل وسكون في الصحفة دون القدح.
سأل آندريه المرأة العجوز: «من أين قدمت هكذا؟ أمن كييف؟ لا شك.»
فأجابت العجوز وقد أسعدها أن تحل عقال لسانها: «لقد ذهبت إلى كييف يا أبي، وقد أسعدت في يوم عيد الميلاد المقدس بتلقي المناولة المقدسة قرب ضريح الصالحين. أما الآن فإنني قادمة من كوليازين
1
يا أبي، لقد ظهرت فيها معجزة كبرى.» - «وهل يصحبك إيفانوشكا؟»
فأجاب هذا ساعيا إلى النطق بصوت خفيض: «كلا يا أبي الرضعي، إنني أمضي في سبيلي، إنني لم ألتق ب «بيلاجويوشكا» إلا في إيوخنوف ...»
لكن العجوز لم تدعه يسترسل، لقد كانت تتحرق شوقا إلى رواية ما شاهدته: «لقد تبدت معجزة كبيرة في كوليازين يا أبي.»
سأل آندريه: «ماذا حدث؟ أهي بقايا أجساد مقدسة اكتشفت؟»
فقالت ماري: «أرجوك يا آندريه، لا تقصي شيئا يا بيلاجويوشكا.» - «ولم لا يا أمي؟ إنني أحبه كثيرا، إنه مختار من الرب، وهو طيب القلب. لقد أعطاني مرة عشرة روبلات لا زلت أذكرها حتما. وإذن، بينما كنت في كييف قابلت صدفة كيروشا البريء - وهو من رجال الله المقدسين - يمشي حافي القدمين في الصيف وفي الشتاء، قال لي: «ماذا جئت تعملين هنا؟ ليس مكانك هنا. اذهبي إلى كوليازين، فهناك صورة عجيبة. إن أمنا العذراء شديدة القدسية قد تجلت.» هكذا قال لي. وعندئذ ودعت الأولياء الصالحين وسرت في الطريق.»
كانوا جميعا صامتين متعلقة أعينهم بشفتي التقية التي كانت تروي قصصها بصوت متزن، تقطعه تنفساتها العميقة. أردفت: ولما وصلت قال لي كل الناس: «إن نعمة ربانية قد ظهرت. إن البلسم المقدس يقطر من وجنة أمنا العذراء شديدة الطهر.»
قالت ماري: «هيا، كفى، ستقصين هذه الحكاية مرة أخرى.»
فتدخل بيير قائلا: «اسمحي لي أن ألقي عليها سؤالا: هل رأيت ذلك بنفسك؟» - «لا شك يا أبي، لقد حصل لي هذا الشرف العظيم. كان وجه أمنا الطيبة يلمع بنور سماوي، والبلسم الشافي يقطر من وجنتها قطرة فقطرة.»
فهتف بيير بسذاجة بعد أن أصغى باهتمام بالغ إلى مزاعم العجوز: «لكن هذه خرافة!»
فقالت هذه مذعورة مغضبة تناشد الأميرة ماري الحماية بنظرة: «ما هذا الذي تقوله يا أبي؟»
كرر بيير بإلحاح: «هكذا يخدعون الشعب.»
هتفت التائهة وهي ترسم على صدرها إشارة الصليب: «يا سيدي يسوع، أوه! لا تتحدث هكذا يا أبي! كان هناك جنرال لم يشأ تصديق المعجزة، قال: «إنها خدعة من القساوسة.» لكنه أصيب لفوره بالعمى، وقد حلم في نومه أن أمنا المقدسة في كريبت جاءت إليه وقالت له: «آمن بي وسأشفيك.» وعندئذ راح يتوسل ضارعا: «خذوني إليها، خذوني إليها.» إن ما أقوله لك هو الحقيقة الحقة. لقد رأيته، لقد رأيته بعيني هاتين. وعندئذ أخذوا الأعمى إليها مباشرة فتهالك على ركبتيه وهو يقول: «اشفيني وسأعطيك ما منحنيه القيصر.» وإنه صحيح يا أبي؛ إذ إنني رأيت نجمته - وتقصد رتبة الجنرالية - معلقة في الصورة المقدسة، وأعادت إليه الأبصار الأم الطيبة! إنها خطيئة أن تتحدث هكذا، إن الله سيعاقبك.»
سأل بيير غير مبال بلهجتها الصارمة: «ولكن كيف وجدت النجمة معلقة فجأة في الصورة؟»
وأعقب آندريه ضاحكا: «هل منحوا الأم الطيبة رتبة جنرال يا ترى؟»
شحب وجه الحاجة بيلاجويوشكا وضربت كفا بكف، وصاحت بعد أن زايلها امتقاع لونها، فغدا وجهها أحمر قانيا: «يا للخطيئة! يا للخطيئة! اصمت يا أبي. إن لك ولدا ... ماذا قلت؟ ماذا قلت؟»
وراحت تضرع إلى الله وهي ترسم شارة الصليب: «ليغفر لك الله! مولاي، اغفر له! آه يا أمي، ما معنى هذا؟»
وجهت هذه الجملة إلى ماري وهي تلتفت إليها، ثم نهضت وهي على وشك البكاء وراحت تجمع جرابها. كان يرى على وجهها أنها كانت خجلة ومروعة لقبولها الضيافة في بيت يتحدثون فيه أمثال هذا الحديث، لكنه كان يبدو عليها كذلك أنها تأسف لاضطرارها في المستقبل إلى العزوف عن هذه الضيافة.
قالت ماري: «ماذا دهاكم؟ أية متعة تجدانها في هذا القول؟! كان يمكنكما ألا تحضرا أبدا.»
فأجاب بيير: «لقد أردت أن أمزح فقط يا بيلاجويوشكا. أيتها الأميرة، أقسم بشرفي إنني ما أردت جرح كرامتها ولا إهانتها. لقد تحدثت في غير مكر. لا تظني بي الظنون، لقد أردت المزاح.»
وأردف ملحا وهو يبسم ابتسامة خجلى: «وهو كذلك كان يمزح.»
كان واضحا أنه راغب في إزالة خطئه، وكان وجهه يعبر عن ندم مخلص. أما آندره فقد راح يلقي نظرات شديدة الحنو إلى بيير تارة، وإلى العجوز التائهة تارة أخرى، حتى إن هذه بعد أن كانت قليلة الميل إلى تصديق توبته اقتنعت بصحتها تدريجيا.
الفصل الرابع عشر
عودة الأمير العجوز
اطمأنت الحاجة فعادت تتحدث بحماسة متزايدة، ظلت فترة طويلة تطري مواهب أحد الآباء المسمى آمفيلوك، الذي بلغ من تقشفه وزهده وقدسيته أن راحت يداه تتضوعان برائحة البخور المنتشر منهما، ثم راحت تشرح بتفاصيل ضافية قصة مقامها الأول في كييف، قالت: إن بعض معارفها من الرهبان أعطوها مفاتيح الأقبية، فلبثت فيها ثماني وأربعين ساعة في صحبة السعداء الصالحين لا تأكل إلا البسكويت، وبعد أن أصلي صلاة طويلة أمام أحد الأضرحة كنت أنتقل للتبرك بآخر والصلاة أمامه، ثم نمت فترة قصيرة وعدت أقبل الأضرحة المقدسة. لقد كان السكون عميقا جدا والنعيم العلوي يدخل في نفسي متدفقا، حتى إنني ما كنت أرغب في الخروج لرؤية ضياء الله الطيب الكريم.
كان بيير يصغي إليها بانتباه خطير، لكن ماري لم تدعه يستقر طويلا؛ لأن آندريه كان قد انسحب، فتركت رجال الله يتممون احتساء شايهم، وقادت بيير إلى البهو، قالت له: «كم أنت طيب القلب!» - «آه! حقا إنني لم أفكر في إهانتها مطلقا، إنني أفهم هذه المشاعر وأقدرها حق قدرها.»
تأملته ماري فترة وهي صامتة وعلى شفتيها ابتسامة حانية، وأخيرا قالت: «إنني أعرفك منذ زمن طويل، وأحبك كأخ لي.»
ثم أضافت دون أن تترك له المجال للإجابة على كلماتها الرقيقة: «كيف وجدت آندريه؟ إنه يقلقني جدا. لقد كان أحسن حالا هذا الشتاء، لكن جرحه نكأ في الربيع فأوصى له الطبيب معالجة خارج البلاد، ثم إن حالته الفكرية تزعجني وتقلقني أيضا؛ إنه ليس من طبيعة مثل طبيعتنا نحن معشر النساء تمكنه من استهلاك أحزانه بالدموع والمظاهر الخارجية، إنه يطوي آلامه في حناياه، وإذا تظاهر اليوم بالانشراح والوداعة، فما ذلك إلا بسبب وجودك الذي كان له هذا الأثر. يندر أن يكون على مثل هذه الحال من الانشراح. ليتك تقنعه بالسفر إلى مكان ما! إنه في حاجة إلى النشاط. إن هذه الحياة الساكنة الوتيرية تقتله. إن الآخرين لا يلاحظون هذا. أما أنا فإنني أراه بكل وضوح.»
تجاوزت الساعة التاسعة، وعندئذ ارتفعت ضجة في الخارج وعلت جلجلة. لقد كان الأمير العجوز عائدا من المدينة، هرع الخدم على الطنف وتبعهم بيير وآندريه، فلما نزل الأمير من عربته شاهد بيير فسأل: «من هذا؟»
ولما عرف الكونت الشاب هتف: «آه! أهلا بك، قبلني هنا.»
كان على خير مزاج فعامل بيير بشيء كثير من المجاملة والعطف، وقاده إلى مكتبه، فلما جاء آندريه يلحق بهما ساعة العشاء وجدهما غارقين في نقاش حامي الوطيس، كان بيير يصر على القول إن وقتا سيحين تبطل فيه الحروب. أما الأمير فكان يسفه هذا الرأي، ولكن في غير جفاء وخشونة.
قال الأمير وهو يربت بلطف على كتف بيير: «إن الوسيلة الوحيدة لمنع الحروب هي أن تفصد العروق وتملأها بالماء بدلا من الدم. إن هذه ترهات وأحلام نساء!»
ثم اقترب من المائدة حيث كان آندريه يتصفح أوراق أبيه التي أتى بها من المدينة عازفا - ولا شك - عن الاشتراك في النقاش. راح يحدثه عن الأعمال، قال: «لم يستطع الكونت روستوف - بوصفه رئيس منطقة - أن يقدم لنا نصف الرجال المستنفرين. ثم تصور بعد ذلك أنه جاء إلى المدينة يدعوني إلى تناول العشاء عنده! لقد أرسلته وعشاءه إلى ...! هل رأيت مثل هذا ... تأمل.»
أردف وهو يضرب كتف بيير متوددا: «وبهذه المناسبة يا عزيزي، هل تعلم أن صديقك يعجبني؟ إنه فتى باسل يملؤني حماسا وفخرا. إن أيا كان مثله يبحث في مواضيع حساسة، لكنها تثير اشمئزاز المرء، فلا يلذ له الإصغاء إليها. أما هذا فإنه ينطق بحماقات، لكنه مع ذلك يثيرني رغم تقدم سني. حسنا، إنني لا أستبقيكما، اذهبا فتناولا طعامكما، لعلني أنضم إليكما، قد أجيء لمشاكستك من جديد.»
فلما خرجا هتف الأمير العجوز متمما: «حاول أن تنظر بعين العطف إلى ابنتي الحمقاء ماري.»
تذوق بيير خلال مقامه القصير في ليسيا جوري كل متعة الصداقة وقوتها؛ تلك الصداقة التي كانت تربطه إلى بولكونسكي، ولم تكن تلك المتعة قاصرة على علاقاتهما الشخصية، بل تعدتها إلى الصلات التي جمعت بينه وبين أفراد أسرة بولكونسكي ومعارفهم، فعلى الرغم من أنه لم يكد يتعرف على الأمير العنيد وماري الأميرة الخجول كما يجب، فإنه شعر في أعماقه براحة قصوى في مجالستهما أكثر مما يشعر به مع أصدقاء قدامى، ثم إنهم جميعا سرعان ما أحبوه بدورهم؛ فماري أعجبتها طريقته اللطيفة وأساليبه الرقيقة في معاملة حجاجها، فراحت تلقي عليه نظراتها الأكثر إشراقا وتوقدا، ونيكولا الصغير نفسه؛ ذلك الطفل الذي لم يتجاوز عامه الأول، والذي كان جده يدعوه بالأمير الصغير، تقبل دعابة بيير ورضي أن يحمله هذا بين ذراعيه وراح يناجيه. أما ميخائيل إيفانوفيتش والآنسة بوريين فكانا يبسمان ابتسامة حقيقية صادرة من أعماقهما كلما وقع بصرهما عليه، أو شاهداه يتحدث إلى الأمير العجوز وكأنه أليفه وصفيه القديم، حتى إن هذا راح يحضر طعام العشاء مع الآكلين تكريما لضيفه الشاب. والخلاصة أن بيير خلال اليومين اللذين قضاهما في ليسيا جوري تلقى من عطف الأمير العجوز وإيناسه الشيء الكثير، حتى إن هذا دعاه بإلحاح إلى زيارته مرة أخرى.
فلما بارح بيير آل بولكونسكي بعد ذلك، واجتمعت الأسرة أعطى كل فرد من أفرادها رأيه في الضيف الراحل كما هي العادة بعد ذهاب شخص دخل في نطاق الأسرة من جديد. والعجيب النادر في الأمر أن كل واحد منهم كان مجمعا مع الآخرين على امتداح الضيف المرتحل.
الفصل الخامس عشر
عودة روستوف
فهم روستوف لأول مرة عند عودته من إجازته أنه شديد التعلق بدينيسوف وبالفيلق كله، فقد خلقت دعوته إلى المعسكر في نفسه مشاعر مماثلة لتلك التي أحس بها عند دنوه من منزله الأبوي بعد ذلك الغياب الطويل. لقد شعر عندما شاهد أحد الفرسان ببزته مفكك الأزرار، ثم ديمانتييف الأشقر والخيول الصهباء في مرابطها، وعندما سمع لافروشكا يهتف بمرح معلنا لسيده: «ها هو الكونت قد وصل.» ورأى دينيسوف يهرع إليه من مسكنه أشعث الشعر وقد غادر فراشه لتوه؛ ليحييه التحية الودية المعروفة، بينما شرع الضباط الآخرون يحتفلون بوصول العائد. عندما شاهد كل هذه المظاهر، أحس روستوف بمثل الشعور الذي خالجه عندما كانت أمه تلاطفه، وأبوه يداعبه، وإخوته يستقبلونه. لقد كانت القطعة بالنسبة إليه منزلا آخر عزيزا مغريا جذابا كمنزله الأبوي.
لما تقدم روستوف إلى الكولونيل معلنا وصوله أعاده هذا إلى كوكبته السابقة، فانصرف بكليته إلى مشاغله اليومية الكثيرة التي تقتضيها طبيعة الخدمة. شعر من النهج الوتير اليومي في حياة الجندية والحرمان من الحرية والارتباط بملاك القطعة ارتباطا وثيقا ثابتا بمثل الدعة والسكون اللذين شعر بهما في بيته؛ حيث كان مدعوما من قبل أسرته دعما معنويا وماديا. كان يشعر أنه هنا أيضا في بيته وفي مكانه اللائق به هنا؛ حيث لا تصل الحياة الاجتماعية التي تحمل المرء في تيارها الجارف فلا يعرف أين يستقر، وبأي شيء يتشبث، ولا توجد سونيا التي يخشى تقديم المبررات والتفاسير لها، ويتبدد التردد في إشغال الوقت وصرفه، وتنعدم نهائيا تلك الأيام الطويلة التي تستمر أربعا وعشرين ساعة دون توقف ولا انقطاع، والتي تغري المرء فيها مئات من المشاغل وتستدعيه، وتختفي تلك الجماعات من الناس الذين لا يرتبط المرء بهم بأية صلة، والذين يشعر مع ذلك أنه ليس غريبا عنهم تماما، وليسوا عنه ببعيدين.
تنتهي هنا العلاقات المالية مع أبيه التي لم تكن صريحة تماما، وتتبخر ذكرى خسارته الهائلة في الميسر. إن كل شيء هنا في القطعة بسيط ومحدود. لقد كان العالم كله منقسما إلى قسمين غير متساويين؛ القسم الأول يشمل «فيلقنا بافلوجراد»، والآخر كل ما تبقى من العالم. وهذا الذي يتبقى يبدو للمرء عديم الأهمية. كانوا يعرفون هنا من هو الملازم ومن هو الرئيس، من هو الشجاع ومن الرديء، وعلى الأخص من الذي يجب اتخاذه صديقا. هنا يقدم لك بائع المعسكر حاجتك دينا، ويستوفي رصيده على دفعات، فلا حاجة بك إلى التفكير ولا إلى الانتقاء، يكفيك أن تتنزه عن كل ما هو معروف بسوئه في فيلق بافلوجراد، فإذا أوكلوا إليك مهمة، فعليك بتنفيذها حسب ما جاء في التعليمات الصريحة الواضحة المتعلقة بها، وعندئذ تسير كل الأمور على خير ما يرام.
شعر روستوف بعد استعادته تلك العادات النظامية التي تنفرد بها الحياة العسكرية بعزاء وانفراج ونشاط، كالتي يشعر بها الرجل المتعب المنهوك عندما يستسلم للراحة. كان ذلك اللون من الحياة يبهجه ويرضيه خلال الوقت الذي استغرقته الحملة، حتى إنه صمم منذ خسارته في الميسر؛ تلك الخطيئة التي لم يكن يغفر لنفسه وقوعه فيها، رغم كل ما تقدم به أبواه إليه من عزاء وتسلية، على أن يخدم في الكوكبة، ليس كما كان يخدم من قبل، بل بشكل يساعده على محو خطيئته. كان يتوقع أن يصبح زميلا حقيقيا وضابطا مثاليا. وبالاختصار، كان يريد أن يصبح رجلا كاملا، الأمر الذي كان يبدو له صعب التحقيق في العالم، شديد السهولة هنا في القطعة.
كذلك فقد كان مزمعا على تسديد القرض الذي اضطر ذويه إليه خلال فترة خمس سنين. لقد قرر أن يكتفي بألفين من الروبلات في العام بدلا من عشرة آلاف روبل؛ جرايته المقررة في كل عام، وبذلك يعيد إلى أبويه من هذا الفرق المبلغ الجسيم الذي خسره ودفعوه عنه.
بعد مناورات عديدة وحركات عسكرية كثيرة، وبعد معارك بولتوسك وبروسيخ-أيلو، تركز الجيش
1
الروسي في بارتنتشتن؛ حيث كان ينتظر مقدم الإمبراطور واستئناف العمليات فور قدومه.
اشترك فرسان بافلوجراد مرات عديدة في مناوشات مع العدو، ففازوا ببعض الأسرى، واغتصبوا مرة قوافل المؤن وعربات الذخيرة التابعة للماريشال أودينو.
2
كان فيلق بافلوجراد تابعا لإحدى وحدات الجيش الذي حارب عام 1805، وقد عاد إلى روسيا لاستكمال سلاحه الناقص؛ لذلك فإنه لم يساهم في العمليات الأولى، فلما عاد إلى ساحة المعركة أصبح يشكل وحدة من فيلق بلاتوف الذي كان يعمل بصورة مستقلة عن باقي الجيش.
خيم فيلق بافلوجراد في ضواحي قرية ألمانية مدمرة تدميرا كليا، ولبث في مكانه بضعة أسابيع قبل شهر نيسان، وفي نيسان كان الطقس باردا بسبب ذوبان الثلوج، وكانت الأنهار فائضة والطرق غير سالكة، فانقطع التموين عن الرجال، والعلف عن الخيول أياما. ولما أصبح سير القوافل متعذرا، بل ومستحيلا، انتشر الجنود في القرى المهجورة يبحثون عن البطاطا التي أصبحت بدورها نادرة الوجود. لقد التهم كل شيء وفر معظم السكان. أما الذين مكثوا في دورهم المخربة فقد كانوا أكثر تعاسة من المتسولين، لم يكونوا يملكون شيئا يسلب منهم، بل إن الجنود - وهم من طينة قليلة الإشفاق والعطف - كانوا رغم ذلك يقاسمون هؤلاء التعساء آخر لقمة في يدهم.
وهكذا فإن فيلق بافلوجراد الذي لم يخسر أكثر من رجلين في المعارك، خسر أكثر من نصف عدده بفعل المجاعة والمرض. لقد كان الموت مؤكدا في المستشفيات، حتى إن الجنود المرضى بالحمى أو الالتهابات بسبب سوء التغذية كانوا يفضلون الاستمرار في أعمال السخرة على قدر ما في طاقتهم على الذهاب إلى المستشفى. ولما حل الربيع اكتشف الجنود نبتة تخرج من الأرض تشبه الهليون، أطلقوا عليها - والله أعلم بالسبب - اسم «جذر ماري الحلو»، فراحوا ينتشرون في الحقول لجمع تلك النبتة الحلوة، التي كانت مرة المذاق جدا، فينبشون بسيوفهم الأرض بحثا عنها، ويأكلونها رغم الأوامر المحذرة الصادرة إليهم، فانتشر مرض جديد بسبب ذلك، علاماته تورم اليدين والأرجل والوجوه، عزاه الأطباء إلى تلك العشبة السامة التي يأكلها الجنود. أما كوكبة دينيسوف فإنها ظلت مثابرة على توزيع بقايا الأرزاق على الجنود، بمعدل ربع كيلو غرام يوميا من البسكويت للرجل الواحد. أما البطاطا التي وصلت مؤخرا فكانت مصابة بالصقيع فاسدة، وقد مضى على الخيول خمسة عشر يوما كان طعامها خلالها القش الذي تغطى به سقوف الأكواخ، وكانت أجسادها المهزولة الضعيفة تحمل شعرها الشتوي الذي لم يسقط بعد كتلا متلبدة.
وعلى الرغم من هذه الضائقات كلها، فإن الجنود والضباط ظلوا يعيشون حياتهم العادية، فالفرسان ظلوا يواظبون على التفقد وتفتيش النظافة، وتطمير الخيول، وتنظيف الأحذية والأعتدة وتلميعها، وعلى سخرة جمع العلف الذي أصبح جمع القش، بل وعلى الانتظام بانتظار الطعام الذي كانوا يعودون منه جياعا كما ذهبوا، لكنهم كانوا رغم ذلك يتندرون بجرايتهم الهزيلة، ويسخرون من بطونهم الخاوية، لقد ظلوا كعادتهم كلما فرغوا من العمل يشعلون النيران، ويصطلون دفأها وهم عراة الأجساد يدخنون، أو يجنون البطاطا التالفة والفاسدة، أو ينضجونها وهم يصغون إلى حكاياتهم الشعبية، أو يقصون على بعضهم مآثر بوتمكين وسوفوروف ومغامرات أليوشا الداهية (أشبه بحكاية الشاطر حسن)، أو ميكولكا عتيل الراهب، وهي من القصص الشعبي الروسي.
أما الضباط فقد ظلوا من جانبهم يعيشون مثنى وثلاث في بيوت نصف مهدمة مفتوحة لكل ريح، بينما كان كبار الضباط منصرفين بكليتهم إلى تأمين التبن والبطاطا؛ لأن غذاء رجالهم كان شغلهم الشاغل، وظل مرءوسوهم كعادتهم يلعبون الورق؛ لأن المال كان وفيرا رغم فقدان الأرزاق، أو يتسلون بألعاب بريئة كلعبة الأسطوانات ولعبة ال «شعايكا»، وهي عبارة عن وتد مغروز في الأرض يحاول اللاعبون إحاطته بحلقة يلقونها عليه من مسافة معينة. أما سير العمليات الحربية العام، فلم يكن أحد يتحدث عنه لسببين؛ الأول: أنهم ما كانوا يعرفون عنها شيئا إيجابيا، والثاني : أنهم كانوا يشعرون شعورا مبهما بأنها ليست على ما يرام.
كان روستوف يشاطر - كالماضي - دينيسوف مسكنه، ولقد أضحت صداقتهما منذ إجازتهما الأخيرة أكثر وثوقا. لم يكن دينيسوف يتكلم عن أسرة روستوف، لكن الود الرقيق الذي كان القائد يظهره لضابطه المساعد، كان يوحي إليه بجلاء بأن غرام الفارس العجوز بناتاشا لم يكن غريبا عن هذا الإفراط بالمعاملات الحسنة. كان واضحا أن دينيسوف يجنب نيكولا المهام الخطرة فلا يرسله إلى المخاطر إلا لماما، حتى إذا أرسله ورآه عائدا سليما، أو وقع اشتباك مع العدو ونجا منه نيكولا، كان دينيسوف لا يستطيع كتم سروره وابتهاجه بسلامة الضابط الشاب. وقد اكتشف روستوف - خلال إحدى مهامه إلى قرية مخلاة ظن أن فيها أرزاقا وعلفا - بولونيا عجوزا وابنته التي كانت ترعى ولدها الرضيع. كانت تلك الأسرة المنكودة متدثرة بالأطمار جائعة لا تستطيع المشي ومغادرة المكان؛ لأنها عجزت عن تدارك عربة تنقلها بعيدا لافتقارها إلى النقود، فأشفق روستوف على تلك الأسرة البائسة وقادها إلى معسكره وآواها في منزله، وظل أسابيع طويلة يقوم على إطعامها؛ انتظارا لشفاء العجوز المريض.
وذات مرة، كان أحد زملاء نيكولا يزوره مرة، فدار الحديث حول النساء، وهنا راح الزميل يمزح معه متهما إياه بأنه أخفى عن أصدقائه بمكر ودهاء البولونية الحسناء التي أنقذها، ولم ترق الدعابة لروستوف، فانفصل وثار وحمل على الضابط الزميل حملة بلغت من العنف أن دينيسوف وجد صعوبة كبيرة في حل المسألة ومنع الضابطين من التقاتل، ولما رحل الضابط المزاح أنب دينيسوف نيكولا على انفعاله، خصوصا وأنه شخصيا ما كان يعرف عن علاقة الضابط الشاب بالبولونية الحسناء شيئا، فأجاب روستوف: «ولكن ... إنني أنظر إليها نظرتي إلى أخت، ولا يمكنني أن أفصح لك إلى أي مدى شعرت بإيلام حديثه؛ لأنني ... لأن ...»
ربت دينيسوف على كتفه بإخاء وراح يذرع الحجرة دون أن ينظر إليه كعادته كلما كان منفعلا مضطربا، وأخيرا همهم قائلا: «إنكم جميعا بلهاء في أسرتكم.»
لكن روستوف لاحظ أن عيني دينيسوف كانتا مبللتين بالدموع.
الفصل السادس عشر
ورطة دينيسوف
أعادت عودة الإمبراطور في شهر نيسان الحياة والاندفاع إلى وحدات الجيش، لم يسعد روستوف بحضور العرض الذي أقيم على شرف العاهل في بارتنتشتن؛ لأن فرسان بافلوجراد كانوا معسكرين عند الخطوط الأمامية، وكان روستوف ودينيسوف يقطنان كوخا حفر في الأرض وغطي بالأغصان والحشائش. وفيما يلي الطريقة التي أصبحت شائعة في إقامة مثل هذه الأكواخ: كانوا يحفرون خندقا عرضه متر، وعمقه متر ونصف المتر، وطوله متران ونصف المتر، وفي أحد الجانبين كانوا يحفرون درجات متناسقة على قدر المستطاع لتكون مدخلا للغرفة التي هي الخندق نفسه، وكان المجدودون من الضباط - كقائد الكوكبة مثلا - يتمتعون بلوح من الخشب قائم على ركيزتين؛ ليقوم مقام الطاولة. وعلى جانبي الخندق، وعلى عمق ستين سنتيمترا، كانت الأرض تحفر، وبذلك يتهيأ للساكنين السرير والأرائك! وكان السقف يسمح لشاغل الحجرة بالوقوف في منتصفها، بل وفي الجلوس على السرير، وذلك في الجزء القريب من المائدة على الأقل. ولما كان فرسان دينيسوف يحبونه ويقدرونه، فإنهم بفضل ذلك التعلق منحوه شيئا من الترف في كوخه؛ إذ أقاموا له في مقدمة السقف قطعة من الخشب مزينة بقطعة زجاج للإنارة. صحيح أن الزجاج كان محطما، ولكن أجزاءه كانت ملصقة إلى بعضها بوسيلة ما. وإلى جانب ذلك، فإن جنوده كانوا يأتونه كلما اشتد البرد بقطعة من الصفيح يضعونها على الدرجات التي كان دينيسوف يدعوها البهو، ويملئون تلك القطعة من الصفيح بجمر متقد، يستخلصونه من نيران المهاجع، وبذلك كان الجو بديعا في كوخ الزميلين، حتى إن الضباط كانوا يجتمعون بكثرة في مسكنهما المترف، ويخلعون ستراتهم أحيانا بسبب رداءة جوه.
وذات صباح حوالي الساعة الثامنة، عاد روستوف من الحراسة بعد ليلة بيضاء، فأمر أن يأتوه بالجمر لأنه كان مبتل الثياب. أبدل ثيابه وأدى صلاته وشرب الشاي وتدفأ، ثم سوى أمتعته وأخلى ما كان على الطاولة، واستلقى على ظهره عليها بعد أن خلع سترته، ووضع ذراعيه تحت رأسه، كان وجهه ملتهبا من الريح الباردة. أخذ يفكر بسرور في أن مهمته الاستطلاعية الأخيرة المثمرة سترقيه رتبة، وكان ينتظر زميله دينيسوف بفارغ صبر ليثرثر معه، وفجأة دوى صوت دينيسوف الغاضب وراء الكوخ، فزحف روستوف إلى النافذة ليرى الشخص الذي يحدثه القائد، فتعرف على صف الضابط توبتشييانكو، كان دينيسوف يصيح به قائلا: «لقد أعطيت متعمدا الأمر بمنعهم من التهام جذر ماري ذاك! وها إنني أرى لازارتشوك يحمل هذه النبتة الخبيثة من الحقول.»
فأجاب صف الضابط: «لقد أصدرت إليهم الأوامر الصارمة يا صاحب النبالة، لكنهم لا يصغون إلي.»
عاد روستوف إلى استلقائه وهو يحدث نفسه: «ليجهد نفسه بدوره؛ لقد أنهيت خدمتي وليس علي الآن إلا أن أنام. هذا هو خير.» لكن صوت صف الضابط أخذ يختلط في تلك اللحظة بصوت آخر، عرف فيه روستوف صوت الخبيث لاقروشكا. تابع دينيسوف: «كان ذلك الفتى يزعم أنه رأى أثناء ذهابه إلى توزيع الأرزاق قوافل محملة بلحم البقر والبسكويت. وأعقب ذلك صوت دينيسوف المدوي وهو يصيح آمرا: «المفرزة الثانية؛ اسرجوا الخيول.»
تساءل روستوف: «إلى أين يمضون بحق الشيطان؟»
دخل دينيسوف إلى الكوخ بعد مضي خمس دقائق، فزحف بأحذيته الموحلة على السرير حيث دخن ملء غليونه وهو محنق، ثم قلب أمتعته رأسا على عقب وأخذ سوطه وسيفه وهم بالخروج. ولما سأله روستوف عما ينتويه، أجابه بلهجة غامضة ولكن مغضبة؛ أن عليه عملا يريد أداءه، وهرع خارجا وهو يقول: «ليحاكمني الله والإمبراطور العظيم.»
سمع روستوف وقع حوافر جياد وراء الكوخ تتخبط في الوحول، لكنه لم يكتئب أو يحاول استزادة الإيضاح لمعرفة المكان الذي كان صديقه يقصده. ولما كان الركن الذي انحشر فيه دافئا، فقد نام ملء جفونه ولم يخرج من الكوخ إلا عند المساء، ولم يكن دينيسوف قد عاد بعد من رحلته. أخذ الجو يتحسن، رأى روستوف قرب الكوخ المجاور ضابطين مع زميل لهما يلعبون وهم يغرسون في الوحل اللزج لفتا ويضحكون، فانضم إليهم، وبينما هم يلعبون شاهدوا عربات تقترب يتبعها خمسة عشر فارسا على خيول هزيلة. أخذت القافلة والموكب المحيط بها يقتربان من مرابط الخيل، وهب حشد من الفرسان يحيط بالعربات. هتف روستوف: «هه، ها هي الأرزاق قد وصلت . مع ذلك فإن دينيسوف لم يكن يكف عن التبرم والتوجع!»
فقال الضباط: «نعم، لعمرنا كم سيسر الجنود الآن!»
كان دينيسوف يتبع القافلة بين ضابطين من ضباط المشاة على خيولهم، وكان يتحدث معهما، فهرع روستوف إلى لقائه. كان أحد الضابطين وهو نحيل الجسم بادي الغضب، يقول: «إنني أنذرك يا كابتن ...»
فيجيبه دينيسوف: «لن أعيد شيئا.» - «أتدري ما أنت فاعله يا كابتن! إن اغتصاب أرزاق إخوان في السلاح يعتبر تمردا! إن رجالي لم يتناولوا طعاما منذ يومين.» - «أما رجالي فمنذ خمسة عشر يوما!»
فقال ضابط المشاة بصوت مرتفع: «لكن هذه لصوصية يا سيدي، ولسوف تسأل عنها.»
فصاح دينيسوف نافد الصبر: «هلا كففت عن مضايقتي وإزعاجي! سأسأل؟ حسنا، ليكن، لكنك لن تكون أنت المسئول! فاجهد في الصمت أو حذار، حذار لنفسك! اغرب عن وجهي.»
فقال ضابط المشاة دون أن يرتبك: «حسنا! إن هذه لصوصية وإني ...»
فزمجر دينيسوف ودفع حصانه نحو المتكلم وصاح: «اذهب إلى الشيطان، ولكن بأسرع من هذا الخطو.»
كرر الضابط بلهجة متوعدة: «حسنا، حسنا!»
ولوى عنان جواده وابتعد خببا يهتز على سرج الجواد.
هتف دينيسوف متعمدا إسماع الضابط المرتحل: «كلب على دائرة من الأوتاد!»
كانت هذه العبارة هي الجملة الشائعة التي يستعملها الفرسان للسخرية من جنود المشاة الذين يمتطون صهوات الجياد. اقترب من روستوف وانفجر ضاحكا وهو يقول: «لقد انتزعت منهم مئونتهم بالقوة، يا لقارعي الحصى! إنني لا أستطيع ترك رجالي يموتون جوعا.»
كانت المؤن التي أحضرها دينيسوف لفرسانه مرسلة إلى فيلق من المشاة، لكن لاقروشكا الماكر أبلغ دينيسوف أنها لم تكن محروسة من قبل الجنود، فانتهز هذه الفرصة وأخذ مفرزة من فرسانه وانتزع الأرزاق من الضابطين بالقوة. وزع البسكويت توزيعا عادلا وأعطي منه إلى الكوكبات الأخرى.
وفي اليوم التالي، استدعى الزعيم «دينيسوف» وقال له وهو يغمض عينيه بإصبعه: «إليك الطريقة التي سأرى بها هذا الموضوع: إنني لا أعرف شيئا ولا أتدخل في شيء، لكنني أوصيك بالذهاب إلى الأركان العامة دائرة التموين، وهناك حاول أن تدبر الأمر، وأن توقع على استلام كمية كذا وكذا من الأرزاق ، فإن المسألة ستدخل في نطاق جدي، وقد تنتهي نهاية سيئة.»
مضى دينيسوف فور خروجه من لدن الزعيم إلى الأركان العامة وهو يتوق بكل إخلاص إلى الأخذ بنصيحة رئيسه، ولم يعد إلا مساء وهو يلهث لفرط الغضب. ولم يكن روستوف قد رآه من قبل على مثل هذه الحال؛ لذلك فقد راح يسأله عما به عبثا. كان دينيسوف يكتفي بإرسال السباب والشتائم بصوت أجش ضعيف، ويشفعها بالتهديد والوعيد. ذعر روستوف فقام إلى صديقه يخلع عنه ثيابه ويعطيه ما يشربه، وأرسل يستدعي الطبيب. هتف دينيسوف أخيرا: «يحاكمونني بتهمة السلب. أنا ... أعطني مزيدا من الماء. حسنا ليحاكموني! إن ذلك لن يمنعني من سحق هؤلاء الأوباش! سوف أتحدث إلى الإمبراطور بهذا الشأن ... أعطني قطعة ثلج.»
قال الطبيب: «إنه يجب فصد دينيسوف.» فلما استقطروا من ذراعه المغطى بالشعر ملء صحفة من الدم الأسود؛ استطاع أخيرا أن يروي لهم ما وقع له، قال: «وصلت إلى هناك فسألت: «حسنا، أين رئيسكم؟» فدلوني عليه، وقال بعضهم: «انتظر قليلا.» فقلت: «لدي عملي، ولقد قطعت ثماني مراحل، فأعلمه بقدومي.» حسنا، ها إن رئيس اللصوص قد بدا. وراح حضرته يلقي علي درسا قال: «إنها لصوصية!» فقلت له: «اللص ليس الذي يستحوذ على الأرزاق لإطعام جنوده، بل الذي يحتكرها لمصلحة جيوبه.» فأمرني بالصمت، حسنا جدا، أخيرا قال: «اذهب ووقع على إفادتك لدى مفوض الأرزاق، وستتبع قضيتك الطريق القانوني.» ذهبت إلى هناك وعرفت في شخصي حضرة المفوض. خمن من الذي يجعلنا نموت جوعا؟»
وضرب على المائدة بقبضة يده المتوجعة بعنف حتى إن الطاولة كادت أن تنقلب، بينما ارتطمت الأقداح ببعضها، وقال: «أتدري من؟ تيليانين!» قلت له: «هه، أهو أنت الذي تتركنا نتضور جوعا وننفق من القحط؟ وطا... طا... على وجهه المنتفخ السمين! آه! أيها الوحش القذر!
وطا... طا...»
وصاح بصوت أقرب إلى الصراخ وهو يكشف بضحكته الوحشية عن أسنانه البيضاء أسفل شاربيه الأسودين: «لقد فثأت غضبي فقرت عيني وطابت نفسي، ولو لم ينتزعوه من بين يدي لقتلته.»
نيكولا يزور المستشفى.
قال له روستوف: «هيا ، لا تصرخ هكذا. هدئ روعك، ها هو الدم قد عاد ينزف من جديد. ابق هادئا ريثما أعيد تضميد جرحك.»
ضمدت ذراع دينيسوف وأودع السرير، وفي اليوم التالي استفاق وقد هدأت نفسه وصفا مزاجه، ولكن حوالي الظهر، جاء الضابط المرافق ووجهه مكتئب يحمل طابع الجد والحزن، فدخل كوخ الزميلين وسلم إلى الماجور دينيسوف ورقة رسمية من قبل الكولونيل، ورقة تحمل أسئلة حول مسألة الأمس، قال الضابط المساعد: «إن المسألة تدخل الآن في طور سيئ للغاية، وإن لجنة للتحقيق قد شكلت، وإن أقل ما ينتظر دينيسوف من عقاب هو نزع رتبته عملا شكليا بالأنظمة الجديدة القاسية المتعلقة بأعمال السلب والعصيان.»
زعم المشتكون أن دينيسوف بعد اغتصابه الأرزاق جاء إلى مفوض الإعاشة العام وهو في حالة سكر شديد دون أن يستدعيه أحد، وهناك هدد المفوض واتهمه باللصوصية، ولما طرد خارجا اندفع إلى مكتب من المكاتب فانهال على موظفين ضربا ولكما، وخلع ذراع أحدهما.
عاد روستوف يسأل زميله فاعترف هذا ضاحكا بأن شخصا آخر حشر نفسه في المعركة، لكنه كان يزعم أن كل هذه الأمور عديمة الأهمية، وكان يستخف بكل المحاكم ويقول إنه إذا تجرأ هؤلاء اللصوص على منازلته؛ فإنه سيتصرف حيالهم تصرفا يجعلهم يحتفظون بذكراه زمنا طويلا.
وبالرغم من أن دينيسوف كان يتظاهر باللامبالاة، فإن روستوف كان يعرفه تمام المعرفة، ويدرك أنه كان في أعماق نفسه متهيبا نتائج فعلته، رغم كل محاولاته في إخفاء شعوره عن زميله. استمرت أوراق التحقيق ترد كل يوم ليجيب دينيسوف عليها حتى مطلع شهر آيار؛ حيث تلقى أمرا رسميا حازما بإسناد قيادة الكوكبة إلى أقدم ضابط بعده، وأن يمثل أمام قيادة الفيلق الذي يتبعه للإجابة على ما قام به في دائرة التموين. وكان بلاتوف قد قام بالأمس بعملية استطلاع مع سريتين من الخيالة القوقازيين وكوكبتين من الفرسان، فاندفع دينيسوف كعادته إلى الخطوط الأمامية، وهناك أصابته رصاصة انطلقت من الجانب الفرنسي في ربلة ساقه، وانتهز دينيسوف تلك الفرصة - وهو الذي ما كان ليغادر السرية من أجل جرح تافه كهذا - فرفض المثول أمام قيادة فيلقه وطلب إرساله إلى المستشفى لمعالجته.
الفصل السابع عشر
زيارة للمستشفى
دارت معركة فريدلاند في حزيران؛ تلك المعركة التي لم يساهم فيها فرسان بافلوجراد بنصيب، وأعقب تلك المعركة هدنة بين الجانبين، فانتهز روستوف الفرصة طالبا الإذن بزيارة صديقه دينيسوف، الذي كان يشعر بفراغ عميق لغيابه. كان قد حرم من كل الأخبار حول صحة صديقه؛ لذلك فقد كان يشعر بقلق شديد عليه خصوصا فيما يتعلق بالنهاية التي بلغت إليها قضيته.
كان المستشفى واقعا في كفر بروسي. دمر مرتين من قبل الفرنسيين والروسيين على السواء، كانت تلك المدينة الصغيرة بمبانيها المتهدمة ودوائرها المتداعية وشوارعها المليئة بالأقذار والدنس، والتي كان سكانها يهيمون على وجوههم بأطمارهم المهلهلة، مختلطين بالجنود بين ثمل ومريض، تتناقض في مظهرها البائس مع صفاء الصيف، وروعته المتفجرة في كل مكان من السهول المحيطة بها، وتعطي لونا قاتما مكفهرا تنقبض له القلوب.
كان بيت من الحجر بنوافذه المحطمة إلا بعضها يستخدم كمستشفى للجنود الجرحى والمرضى، وفي فناء ذلك البيت بين حطام من الركام، كان بعض الجنود شاحبي الوجه هزيلين، يروحون ويغدون وهم في ضمادتهم القذرة ويستريحون تحت إشعاع الشمس.
لم يكد روستوف يتخطى العتبة حتى اندفعت إلى صدره رائحة العفن والأدوية، فغصت بها حنجرته، وعلى السلم التقى بطبيب روسي يضع سيجارا بين شفتيه. كان الطبيب يقول لمساعده الذي كان يصحبه: «لا أستطيع أن أنقسم إلى أربع. تعال هذا المساء عند ماكير إليكسييئفيتش؛ سأكون هناك.»
عرض عليه مساعده سؤالا آخر فأجابه: «آه! اعمل ما تراه مناسبا! على أن يعود ذلك عليهم بالخير.»
وفي تلك الأثناء، شاهد الطبيب روستوف فقال يسأله: «ماذا جئت تعمل هنا، نبالتك؟ ألئن المقذوفات النارية قد أخطأتك جئت تنشد إصابة بالتيفوس؟ إن هنا يا عزيزي بؤرة مرض حقيقية.» - «كيف ذلك؟» - «ذلك لأن التيفوس منتشر يا سيدي العزيز. الموت مصير كل من يدخل إلى هنا. لم يبق إلانا، ماكيئيف وأنا - وأشار إلى الممرض - وقد بقينا بعيدين عن التلف. لقد مات خمسة من زملائي هنا.»
وأردف برضا واضح: «عندما يأتي شخص جديد؛ فإن ثمانية أيام تكفي ليأخذ نصيبه. لقد طلبنا عددا من الأطباء البروسيين، لكن حلفاءنا الطيبين سدوا آذانهم عن سماع أصواتنا.»
أبلغه روستوف أنه راغب في رؤية ضابط الفرسان دينيسوف، فقال الطبيب: «دينيسوف؟ لا أعرفه. إن سبب ذلك يا عزيزي أنني مسئول لوحدي عن ثلاثة مستشفيات تضم أكثر من أربعمائة مريض، لكننا سعداء بعض الشيء لأن سيدات بروسيات من ذوات الروح المحسنة الطيبة يرسلن إلينا قهوة ونسيلا
1
بمقدار ليبرتين شهريا، ولولا ذلك لضعنا.»
وأردف الطبيب ضاحكا: «نعم، يا عزيزي، أربعمائة مريض، ثم يرسلون إلي كل يوم مرضى جددا، أليس لدينا أربعمائة مريض وأكثر؟ هم؟»
لكن مساعد الطبيب الذي وجه إليه الطبيب السؤال الأخير كان يبدو متعبا غير منكر من ثرثرة رئيسه إلا بمقدار، عاد روستوف يقول: «إنه الماجور دينيسوف الذي جرح في مولوتان.» - «أعتقد أنه مات، أليس كذلك يا ماكيئيف؟»
كان الطبيب يتحدث بلا مبالاة، فلما لم يؤيد مساعده ذلك الزعم، التفت إلى روستوف وسأله: «ألم يكن طويلا أحمر؟»
أعطاه روستوف أوصاف صاحبه، فقال الطبيب وهو شديد الابتهاج: «نعم، نعم، لقد كان لدي واحد مثله، لكنني أعتقد أنه مات، على كل حال سأعيد فحص قوائم الأسماء. هل هي عندك يا ماكيئيف؟»
فأجاب المساعد: «إنها عند ماكير أليكسييئفيتش.»
ثم أردف محدثا روستوف: «ولكن ادخل إلى قاعة الضباط وسترى بنفسك.»
لكن الطبيب اعترض قائلا: «لا تذهب إلى هناك يا عزيزي خشية أن تضطر إلى البقاء أبدا.»
غير أن روستوف أجابه بتحية قصيرة وطلب إلى المساعد أن يقوده إليها، فصاح الطبيب من أسفل السلم مشيعا: «لا تلمني بعد ذلك على الأقل.»
سار روستوف ودليله في دهليز معتم، كانت الرائحة شديدة حتى إن روستوف اضطر إلى سد منخريه والتوقف فترة ليستعيد نشاطه. فتح باب إلى اليمين وبدا في فتحته رجل معتمدا على عكازين وهو هزيل أصفر الوجه حافي القدمين، في ثياب النوم. كان متكئا على إطار الباب ينظر إلى القادمين بعينين ملتهبتين ملؤهما الرغبة والحسد . ألقى روستوف نظرة إلى الداخل فرأى الجرحى والمرضى هاجعين على الأرض فوق المعاطف أو كومات من التبن. سأل دليله: «هل أستطيع إلقاء نظرة؟»
فأجاب المساعد وهو عازف عن الدخول: «لا يوجد شيء يستحق المشاهدة.»
لكن نفوره دفع روستوف على عكس ما كان ينتظر؛ إلى ولوج الغرفة. كانت الرائحة التي اعتاد روستوف على استنشاقها أخيرا أشد نفاذا في تلك الغرفة، رغم أنها كانت مختلفة بعض الشيء عن رائحة الممشى، وكان واضحا أن تلك الغرفة كانت مبعث الرائحة المنتشرة في الخارج.
كانت الشمس تضيء تلك الغرفة الطويلة إضاءة عنيفة نافذة إليها خلال نوافذ مرتفعة، وكان المرضى مستقلين في صفين - بينهما ممشى - على الأرض، ورءوسهم لصق الجدار، وكان معظمهم في النزع الأخير؛ لذلك فإن دخول روستوف ودليله لم يثر في النفوس أي رد فعل. أما أولئك الذين كانوا محتفظين بوعيهم، فقد تناهضوا لينظروا إلى روستوف، أو اطلعوا عليه بوجوههم المصفرة المهزولة يلتهمونه بعيونهم بنظرة تكاد تكون متشابهة في كل العيون؛ نظرة اختلط فيها الأمل في نيل غوث عاجل ممكن، بالحسد الحقود على الصحة التي يتمتع بها الزائر. عبر روستوف الغرفة ووقف في منتصفها، وهناك أتيح له أن يرى خلال الأبواب الأخرى المفتوحة مشاهد مماثلة في الغرف المجاورة. أذهله ذلك المشهد الذي لم يكن يتوقع رؤيته، فوقف ساهما صامتا، وراح يجيل بصره فيما حوله. كان أحد المرضى مسجى على الأرض قرب قدميه، ممدود الساقين والذراعين، كان يبدو عليه أنه قوقازي، بدلالة شعره المحلوق على الطريقة الروسية. كان ذلك الرجل مصطبغ الوجه بحمرة الأقحوان، لا يبدو من عينيه الغاربتين إلا بياضهما، وكانت العضلات متصلبة على أطرافه العارية الحمراء أشبه بالحبال المشدودة. قرع الأرض بمؤخرة رأسه وأطلق نداء بصوت أجش راح يكرره بإلحاح، فأصغى روستوف إلى ندائه وتبين أنه يقول: «ماء، اسقوني ماء.» فأخذ يبحث بعينيه عمن يمكنه أن يعيد المريض إلى مكانه ويسقيه جرعة ماء. سأل المساعد: «من المكلف هنا بالعناية بالمرضى؟»
وفي تلك اللحظة دخل خادم القاعة - وهو جندي من صفوف الجيش - قادما من غرفة مجاورة، وجاء بخطوات متزنة حتى وصل إلى حيث كان روستوف، وهناك قرع الأرض واتخذ وضعية الاستعداد.
هتف وهو يظن روستوف أحد الرؤساء في المستشفى، فيحدق في وجهه بإلحاح: «صحة جيدة لنبالتكم السامية.»
فقال له روستوف وهو يشير إلى المريض: «أعد هذا إلى مكانه واسقه ماء.»
أجاب الجندي بحماس وسرور واضح وعيناه تزدادان اتساعا: «كما تأمرون نبالتكم العلية.»
لكنه لبث واقفا في وضعية الاستعداد لا يتحرك، فخفض روستوف عينيه وخاطب نفسه في سره قائلا: «لا شك أنه ليس هناك ما يعمل.» ولما هم بالخروج شعر إلى يمينه بنظرة ملحة عنيدة تتفحصه، فالتفت إلى تلك الناحية. كان الرجل الذي يتفحصه جنديا عجوزا ذا لحية شهباء، ووجه صارم أشبه بوجوه الموتى، وكان جالسا على معطفه في آخر الصف تقريبا، وكان أحد زملائه القريبين منه يهمس في أذنه شيئا وهو يشير إلى روستوف. أدرك روستوف أن العجوز يرغب في أن يقول له شيئا فاقترب منه، ورأى أنه قد فقد إحدى ساقيه من فوق الركبة، أما الأخرى فكانت مثنية تحته، وبالقرب منه رأى جسد جندي شاب مسجى على الأرض، مائل الرأس إلى الوراء ذي أنف أفطس، وعينين غاربتين، ووجه شمعي ملطخ ببقع الدم. فحص روستوف الجندي وعندئذ سرت قشعريرة في عموده الفقري، قال للمساعد: «لكنني أعتقد أن هذا ...» فقاطعه الجندي العجوز وقد سقط فكه من الانفعال: «هذه هي المرة العشرون التي نطلب إليهم فيها ذلك يا صاحب النبالة، لقد مات منذ الصباح. إننا رغم كل شيء لسنا كلابا.»
فقال مساعد الطبيب مسرعا: «فورا، فورا سوف أعمل على نقله من هنا. ولو تتفضلوا نبالتكم وتتبعوني ...»
فغمغم روستوف مبادرا: «هيا، لنذهب، لنذهب.»
وأطرق برأسه محاولا أن يمر دون أن تلتقي عيناه بتلك النيران المتقاطعة التي تنبعث من العيون الطافحة بالرغبة واللوم، هرع روستوف يغادر القاعة.
الفصل الثامن عشر
لقاء مع دينيسوف
أدخل المساعد روستوف إلى قاعة الضباط في أقصى الممر، كانت تلك القاعة مؤلفة من ثلاث غرف مفتوحة الأبواب مطلة على بعضها، وكان فيها أسرة جلس أو استلقى عليها الضباط المرضى أو الجرحى، وكان بعضهم مرتديا معاطف المستشفى يروح ويجيء على طول القاعة متنزها. كان أول شخص وقع بصر روستوف عليه رجلا قصير القامة، نحيل البنية، أبتر الذراع، يرتدي معطفا وقلنسوة من القطن، ويعض بين أسنانه غليونا قصيرا وهو يذرع الغرفة. تذكر روستوف بشكل غامض أنه رأى ذلك الوجه في مكان ما، قال الرجل القصير: «آه رباه! كيف التقينا؟ توشين، ألا تذكر توشين الذي أعادك إلى شوينجرابن؟ آه، إنك ترى أنهم اقتطعوا مني قطعة صغيرة.» وأشار إلى كم معطفه الخاوي وهو يبتسم.
أطلعه روستوف على غرضه من زيارة المستشفى، فقال هذا: «فاسيلي دميتريش دينيسوف؟ بالطبع إنه هنا، تعال، تعال.» واقتاده توشين إلى غرفة مجاورة كانت تنبعث الضحكات منها عالية.
فكر روستوف في نفسه: «كيف، أيضحكون! وأنا الذي كنت أتساءل كيف يمكن لهم أن يعيشوا في مثل هذا الجو!» كانت رائحة الجثة تلاحقه، والحاجز المزدوج من النظرات المشعة بالرغبة واللوم تطارده، ووجه الجندي الشاحب ذي العينين الغاربتين لا يزال يمثل في خاطره.
كان دينيسوف نائما وقد التحف أدثرته والتف بها، رغم أن الساعة كانت قد جاوزت الحادية عشرة.
هتف بمثل صوته الذي عرف به في السرية: «آه! روستوف! مرحبا مرحبا!»
لكن روستوف لاحظ بصعوبة أن شعورا بالمرارة يطفو على ذلك المظهر المرح، ويطبع وجه دينيسوف بطابعه الأليم، بل ويظهر حتى في لهجته، رغم طلاقته الطبيعية في الكلام.
لم يكن جرحه - رغم بساطته ومضي ستة أسابيع على إصابته به - قد التأم بعد، وكان وجهه شاحبا منتفخا لكل النازلين في المستشفى، غير أن ما زاد في دهشة روستوف كان مظهر صديقه وهيئته؛ كان يبدو قليل السرور بمشاهدته يبسم له ابتسامة شبه مغتصبة، لم يسأله عن أحوال الفيلق، ولا عن سير الأمور العام، ولما حاول روستوف طرق هذه الموضوعات تظاهر دينيسوف بأنه غير مصغ إليه.
لاحظ روستوف كذلك أن كل تلميح إلى الحياة الهانئة التي يحيونها خارج جدران المستشفى كانت تؤلمه وتمضه، كان يبدو بلا ريب راغبا في نسيان حياته السابقة، فلا يشغله إلا ما وقع له مع جماعة مفوضية التموين والإعاشة. ولما سأله روستوف عما آلت إليه تلك القضية، أخرج من تحت وسادته ورقة تلقاها مؤخرا من الهيئة، وأطلعه على مسودة جوابه عليها. اتقد انفعالا وهو يقرأ له الرد الذي أبرز فيه النقاط والطعنات التي كان يوجهها لأعدائه، وما إن شرع في القراءة حتى تفرق زملاؤه الذين كانوا قد التفوا حول روستوف في شبه حلقة محكمة حين مجيئه يدفعهم حب استطلاع ما في جعبة القادم الجديد. قرأ روستوف على وجوههم ما يشير إلى أن رءوسهم كانت متصدعة من هذه المسألة بالذات، فلم يبق من يصغي إليه إلا زميل له على سرير مجاور، وهو رماح ضخم الجثة كان يمضغ قصبة غليونه بوجه عابس مكفهر، وتوشين الأبتر كان يعلن استنكاره بهزات من رأسه.
قال الرماح الضخم قاطعا على دينيسوف قراءته فجأة: «في رأيي أن ما ينبغي عمله هو التماس رحمة الإمبراطور مباشرة. لقد سمعت أن مكافآت كثيرة ستوزع، وإذن فإن العفو ليس ببعيد.»
قال دينيسوف بلهجة حاول أن يودع فيها كل حيويته القديمة، لكنها بدت أشبه بالعويل اليائس: «التماس الصفح من الإمبراطور! ولم ذلك؟ لو أنني كنت لصا لطلبت الغفران، لكنهم إذا كانوا يلاحقونني فما ذلك إلا لأنني كشفت النقاب عن هؤلاء الأنذال! ليحاكموني، فلست أخشى أحدا. لقد خدمت دائما القيصر والوطن بكل شرف. إنني لست لصا. ثم إنهم يحاولون نزع رتبتي بينما ... اسمع، إنني أقول لهم بكل صراحة: لو أنني كنت مخالفا واجباتي حانثا ...»
فتدخل توشين قائلا: «إنها ليست عبارة رديئة ولا شك، لكن الأمر يتعلق بهذا ...»
وأردف مستشهدا بروستوف: «ينبغي على المرء أن يخضع بينما فاسيلي دميتريش يرفض ذلك. لقد أخطرك أمين لجنة التحقيق بأن مسألتك سيئة.» - «ليكن! لست أبالي.»
فألح توشين مردفا وهو يشير إلى روستوف: «لقد كتب لك ملتمسا فيجب أن توقعه، وأن ترسله بواسطة هذا السيد. إن لديه ولا شك بعض المعارف في الأركان. لن تجد مناسبة أفضل من هذه قط.»
فأجاب دينيسوف وهو يعود إلى تلاوته: «لقد أعلنت من قبل : لن أنحني وأتوسل.»
شعر روستوف بغريزته أن السبيل الذي أشار به توشين والآخرون كان أفضل كل شيء وأكثر سلامة، وكان يسعده أن يؤدي خدمة لصديقه، لكنه كان يعرف استقامته المخيفة وإرادته التي لا تتزعزع؛ لذلك فإنه لم يجرؤ على التدخل لإقناعه.
ولما انتهى دينيسوف بعد ساعة طويلة من قراءة مطاعنه السامة، لم يجد روستوف بدا من السكوت، أمضى بقية يومه في صحبة زملاء دينيسوف الذين عادوا يتجمهرون حوله، فقص عليهم ما كان يعرفه عن الموقف، وأصغى بدوره إلى أقاصيصهم وحكاياتهم، بينما كان دينيسوف محتفظا بصمت مدلهم.
استعد روستوف لمغادرة المستشفى في نهاية السهرة، سأل صديقه عن أية خدمة يرغب إليه أداءها، فأجاب دينيسوف: «بلى، انتظر.»
وبعد أن ألقى نظرة على الضباط المجتمعين، أخرج من تحت وسادته أوراقا ومضى إلى النافذة حيث كانت محبرته وراح يكتب، وبعد فترة عاد يقول وهو يسلم إلى روستوف مغلفا كبيرا: «إن الأدوية الكبيرة توصف للأدواء الوبيلة!»
كان الملتمس الذي كتبه له أمين لجنة التحقيق، والذي لم يذكر فيه شيء عن مساوئ مفوضية التموين، بل توسل إلى الإمبراطور فيه أن يتكرم بالصفح عنه فقط، هو ما ودعه دينيسوف في المغلف الكبير، قال: «ابعث بهذا طالما أن ذلك ...»
لكنه لم يتم جملته، بل تقلصت قسمات وجهه بتأثير ضحكة مغتصبة.
الفصل التاسع عشر
روستوف وبوريس
بعد أن أطلع روستوف الكولونيل قائد الفيلق على نتيجة ما وصلت إليه قضية دينيسوف، سافر إلى تيلسيت
1
حاملا الملتمس العتيد.
وفي الثالث عشر من حزيران، التقى الإمبراطوران في هذه المدينة الصغيرة، فطلب بوريس دروبيتسكوي من رئيسه المتنفذ أن يلحقه ذلك اليوم بحاشية جلالته، قال مبررا طلبه: «إنني أود من صميم قلبي أن أرى الرجل الكبير.»
وكان يعني بهذا الوصف نابليون الذي كان يطلق عليه حتى ذلك اليوم اسم بيونابرت استهزاء، كما كان يفعل الآخرون.
سأله الجنرال باسما: «هل تتحدث عن بيونابارت؟»
ألقى بوريس نظرة على رئيسه أدرك بعدها على الفور أن هذا كان يمازحه، وأنه كان يريد اختباره فحسب، فقال يجيبه: «يا أميري ، إنني أتحدث عن الإمبراطور نابليون.»
قال الجنرال وهو يربت على كتفه بود: «سوف تصعد بعيدا على سلم الترقي.» وصحبه معه، وبذلك كان بوريس من المجدودين القلائل الذين حضروا محادثة نييمن.
2
شاهد الأرمات مزينة بأحرف اسمي الإمبراطورين متداخلة بخط جميل، و«نابليون» على الضفة المقابلة يستعرض حرسه بينما كان ألكسندر صامتا ساهما ينتظر في مبنى على شاطئ النهر، رأى العاهلين ينزلان في زورقيهما ونابليون، وقد وصل الرمث قبل ألكسندر يقترب من ألكسندر بخطوات سريعة ويمد له يده، ثم رأى الإمبراطورين يختفيان تحت الرواق. كان بوريس منذ أن تسلل بين المتنفذين في المجتمع قد اعتاد مراقبة كل شيء بدقة، وتسجيل كل ما يدور حوله بعناية، وجه عنايته خلال مقابلة تيلسيت إلى الأشخاص الذين كانوا يرافقون «نابليون»، واستعلم عن أسمائهم وميزات أزيائهم العسكرية، والتقط بكل عناية كل ما كان يتفوه به المتنفذون من ذوي المكانة.
استشار ساعته في اللحظة التي دخل فيها العاهلان تحت الرواق، ولم ينس قط أن يعيد النظر إليها عندما خرج ألكسندر. تبين له أن المقابلة دامت ساعة وثلاثا وخمسين دقيقة، فسجل هذا التفصيل ذلك المساء بالذات بين عدد من التفاصيل الدقيقة الأخرى التي كان يشعر أنها ذات أهمية تاريخية. ولما كان ألكسندر لم يصطحب معه إلا حاشية قليلة العدد، فإن وجود بوريس في عداد تلك الحاشية في تيلسيت كان في حد ذاته حدثا هاما، وخطوة مرموقة في طريق مستقبله؛ مستقبل شاب طموح كبوريس، لمس بنفسه عقب ذلك أن مكانته ازدادت قوة ومتانة، فلم يعد معروفا فحسب، بل كان كذلك قبلة الأنظار يستهوي الأبصار، ويألفه الناس، وقد كلف مرتين بمهمات لدى الإمبراطور حتى إن هذا بات يعرفه للنظرة الأولى، وبات أفراد الحاشية يدهشون إذا انقطع عن الظهور بينهم على عكس ما كانت عليه الحال من قبل عندما كانوا يتحاشون النظر إلى ذلك الوجه الجديد.
كان بوريس يسكن مع أحد زملائه الكونت جيلنسكي، كان ذلك البولوني الفني الذي نشأ في باريس شديد الولع بالفرنسيين، وبذلك فإن ضباط الحرس وكبار ضباط الأركان العامة الفرنسيين، ظلوا طيلة مدة إقامتهم في تيلسيت يدعون كل يوم تقريبا إلى تناول الطعام ظهرا ومساء لدى الضابطين المساعدين.
وفي الرابع والعشرين من حزيران، أولم الكونت جيلنسكي حفلة عشاء لأصدقائه الفرنسيين، وكان في الوليمة مدعو على جانب من الخطورة؛ وهو مساعد الميدان لنابليون، وعدد من ضباط الحرس، وشاب سليل أسرة فرنسية قديمة كان وصيفا للإمبراطور. وفي ذلك المساء بالذات، انتهز روستوف فرصة الظلام المدلهم، وتسلل إلى تيلسيت في ثياب مدنية، ومضى إلى مسكن بوريس.
كان الجيش الذي جاء منه روستوف لم يبدل بعد عواطفه نحو الفرنسيين الذين انقلبوا فجأة من أعداء إلى أصدقاء؛ لأن ذلك التحول لم يحدث إلا في القيادة العامة. أما الجيش فقد ظل أفراده يشعرون نحو بونابرت وأتباعه بذلك الشعور بالذات، الذي كان مزيجا من الغضب والاحتقار والفزع. ومنذ وقت قصير، كان روستوف يتناقش مع ضابط من قوقازيي فيلق بلا خوف، وكان يؤكد أنه إذا وقع نابليون أسيرا؛ فإنهم لن يعاملوه معاملة إمبراطور بل معاملة مجرم، بل وإنه منذ أمد جد قصير، التقى روستوف بزعيم فرنسي جريح، فأفهمه عامدا أن من العبث قيام صلح بين عاهل شرعي كالقيصر وذلك المجرم بونابرت؛ لذلك فقد ذهل عندما رأى في منزل بوريس عسكريين كان يتوقع أن يراهم في كل مناسبة في الخطوط الأمامية، ولكن ليس هنا، فلما وقع بصره على ضابط فرنسي ظهر على عتبة الباب شعر فجأة بالكراهية العسكرية تتفجر في أعماق نفسه؛ تلك الكراهية التي تستحوذ على كل كيانه عند رؤيته العدو، توقف قبالته وسأله باللغة الروسية عما إذا كان دروبيتسكوي يقطن هنا. سمع روستوف صوتا غريبا يخرج للقائه، فلما عرف روستوف لم يستطع كتمان انزعاجه ونفوره، لكنه مع ذلك اقترب منه وهو يبتسم، قال: «آه! هذا أنت؟ أهلا أهلا، سرتني رؤيتك.»
فأجابه روستوف في شيء من البرود؛ لأن البادرة الأولى التي ارتسمت على وجه صديقه لم تفته: «يبدو لي أنني أزعجك؛ أليس كذلك؟ ما كنت أرغب في المجيء لكن هناك مسألة اضطرتني ...» - «أبدا البتة، إنك لا تزعجني، لكنني دهشت فقط عندما وجدتك بعيدا عن قطعتك.»
وأجاب على صوت كان يناديه من الداخل: «خلال لحظة أعود لأكون رهن تصرفكم.»
كرر روستوف قوله: «إنني أرى بوضوح أنني أزعجك.»
تبددت آثار الانزعاج التي ارتسمت لأول وهلة على وجه بوريس، لقد استعاد هدوءه بعد أن أتيح له وقت للتفكير في الأمر، فوصل إلى القرار اللازم. أمسك بيدي نيكولا بهدوء وقاده إلى غرفة مجاورة. أخذ ينظر إليه بسكون وجلد حتى خيل لروستوف أن صديقه بدأ يستعمل القناع المعروف عند الأشخاص الذين يشقون طريقهم في المجتمع الراقي؛ قناع الحياة الزائفة.
قال بوريس مجيبا: «أبدا، إنك لا تزعجني. ما هذا القول؟ هل يمكن أن تسبب لي أنت أي إزعاج؟»
وقاده بوريس إلى القاعة التي كان المدعوون منتظمين فيها بانتظار الطعام، فقدمه إليهم وبين لهم أنه ليس مدنيا بل ضابطا من سلاح الفرسان، وصديقا قديما له، ثم قدم إليه الموجودين: «الكونت جيلنسكي، الكونت ن. ن، الرئيس س. س ... إلخ.»
ألقى روستوف نظرة شرسة على الفرنسيين وحياهم بصلابة ثم لزم الصمت.
استقبل جيلنسكي هذا الدخيل من جانبه في شيء من الحفاوة، فلم يوجه إليه أية كلمة! أما بوريس فإنه تظاهر بأنه لم يشعر بالارتباك الذي أحدثه قدوم روستوف، وراح - شأن رجال المجتمع الراقي - يحاول إثارة الحديث بين الموجودين لإزالة الأثر الذي علق في النفوس، ورأى أحد الفرنسيين أن روستوف لا ينبس ببنت شفة، فقال بالأدب المعروف عن بني قومه: «إنه يعتقد بأنه جاء إلى تيلسيت ليرى الإمبراطور ولا ريب.» فأجابه روستوف بإيجاز: «كلا، بل جئت بصدد قضية.»
ساء مزاج نيكولا منذ اللحظة الأولى التي رأى فيها بوادر التبرم على وجه بوريس. أخذ يتصور - كما هي الحالة في مثل هذه المواقف - أن كل الموجودين. والحقيقة أنه كان يزعجهم. لقد كان وحده بعيدا عن دائرة الحديث العام، فبدت الأنظار كلها كأنها تقول: «ماذا جاء يفعل هنا؟» فنهض واقترب من بوريس وقال له بصوت منخفض: «إنني أشعر بأنني أزعجك، فهيا بنا نتحدث قليلا عن الموضوع الذي جئت من أجله، وسأنسحب بعدئذ.»
فأجابه بوريس: «إنني لا أشعر بأي انزعاج. مع ذلك، إذا كنت تعبا فهيا بنا إلى الغرفة المجاورة حيث يمكنك أن تستريح قليلا.» - «ذلك خير.»
انسحبا إلى الغرفة الصغيرة التي ينام فيها بوريس، فلما ولجاها شرع روستوف دون أن يجلس - وكأن بوريس أساء إليه في شيء ما - يتحدث بصوت خشن، عارضا عليه الأمر الذي دعاه إلى اللجوء إليه. سأله عما إذا كان يستطيع أو يريد أن يتدخل في هذا الموضوع بواسطة الجنرال الذي كان يشغل منصب الضابط المساعد عنده؛ ليرفع الملتمس عن طريقه إلى الإمبراطور؟ اقتنع نيكولا لأول مرة خلال تلك المقابلة الخاصة أنه لا يجرؤ على النظر إلى وجه بوريس نظرة صريحة. كان هذا جالسا واضعا ساقا على ساق يفرك يديه الجميلتين ويصغي إلى نيكولا وكأنه جنرال يصغي إلى تقرير أحد مرءوسيه، وكانت نظرته تشرد تارة في أحد الأركان، وطورا تنصب بقحة على روستوف. وكلما شعر روستوف بتلك النظرة المحجوبة بستار الرسميات والبروتوكول تنحط عليه كان يشيح بنظرته، قال بوريس: «لقد سمعت قصصا من هذا القبيل، وأعرف أن الإمبراطور يظهر قسوة في مثل هذه الأمور. وفي رأيي، أن من الأفضل عدم اللجوء إلى جلالته في هذه المسألة، بل التوجه بها مباشرة إلى قائد الفيلق. ثم إنني أعتقد ...»
قال نيكولا دون أن يرفع بصره إلى بوريس: «إذا كنت لا تريد المساهمة في هذا الأمر فقل ذلك بكل صراحة!»
فأجاب هذا باسما: «بل على العكس، سأعمل كل ما أستطيعه، لكن رأيي ...»
وفي تلك اللحظة، ارتفع صوت جيلنسكي يدعو بوريس من وراء الباب، فقال نيكولا: «هيا، اذهب، اذهب.»
ورفع مشاركة الضيوف في طعامهم، ولما أصبح لوحده راح يذرع الغرفة الصغيرة بعصبية، بينما كانت الضحكات المرحة وصدى أصوات الفرنسيين المرحة ترتفع من القاعة المجاورة.
الفصل العشرون
جواب الإمبراطور
أخطأ روستوف في انتقاء اللحظة المناسبة للمجيء إلى تيلسيت، لم يكن يستطيع مقابلة الجنرال آمر الخدمة؛ لأنه كان في ألبسة مدنية، وكان متغيبا عن قطعته دون إجازة رسمية . أما بوريس فإنه على فرض وجود النية الطيبة لديه، ورغبته في أداء هذه الخدمة؛ ما كان يستطيع الشروع بتنفيذها غداة اليوم التالي لوصول صديقه القديم. والواقع أن في ذلك اليوم السابع والعشرين من حزيران جرى التوقيع على البنود التمهيدية للصلح، وتبادل الإمبراطوران أرفع أوسمتهما، فتلقى ألكسندر الوشاح الأكبر لجوقة الشرف، وتقلد نابليون وشاح سان آندريه الرفيع، وكان عليهما بعد ذلك حضور حفلة كبرى يقيمها لواء من الحرس الإمبراطوري الفرنسي للواء من فيلق بريوبراجنسكي.
كان روستوف شديد الارتباك في حضرة بوريس حتى إنه تظاهر بالنوم عندما عاد هذا إليه بعد العشاء. وفي الصباح اختفى في ساعة جد مبكرة دون أن يودعه بكلمة. تاه في المدينة وهو في ثيابه المدنية وعلى رأسه قبعة مستديرة، وراح يعاين الفرنسيين في ألبستهم العسكرية، ويتفحص الشوارع والبيوت التي ينزل فيها الإمبراطوران. وفي ساحة المدينة، لاحظ أن عددا من الموائد قد أقيم استعدادا لحفلة كبيرة، رأى الشوارع مزدانة بالأعلام الفرنسية والروسية، والحرفين الأولين «أ» و«ن» اللذين يرمزان إلى اسمي الإمبراطورين، مرفوعين في كل مكان على النوافذ، فلم تكن العين لترى أكثر من الأعلام والأحرف.
أخذ نيكولا يفكر في سره: «إن بوريس لا يريد أن يعمل شيئا، ثم إنني ما عدت أتمسك بفكرة الركون إليه. لقد انتهى كل شيء بيننا، غير أنني لن أرتحل من هنا قبل أن أحاول المستحيل من أجل دينيسوف، وخصوصا قبل أن أوصل رسالته إلى الإمبراطور ... الإمبراطور؟ لكنه هنا!»
وعلى الرغم منه، اقترب من الدار التي ينزل فيها ألكسندر. كانت بعض الخيول المسرجة (خيول الركوب) تزدحم قرب الباب، وكان نفر من ضباط الحاشية يتقاطر حول المكان، فتأكد أن الأمير على وشك الخروج.
فكر روستوف: «إنني لا أستطيع أن أراه في كل لحظة، ليتني فقط أتمكن من تسليمه الملتمس يدا بيد؛ لأفسر له المسألة وأوضحها. لكنني في ثياب مدنية، ولعلهم سيوقفونني من أجل ذلك، ولكن كلا، لن يحصل ذلك. إن الإمبراطور سيعرف - ولا ريب - جهة الحق فيدعمها. إنه يفهم كل شيء، ويعرف كل شيء . من ذا الذي يستطيع أن يكون أكثر عدالة وأكثر كرما منه؟ وبفرض أنهم أوقفوني لأنني هنا، ماذا يهم ذلك!»
ولما رأى الضباط يدخلون إلى المقر الإمبراطوري دون عوائق قال لنفسه: «آه، لكنهم يدخلون بكل يسر وسهولة. هيا تشجع يا فتى، سوف أسلم الملتمس إلى الإمبراطور بنفسي. الحق على دروبيتسكوي الذي ألجأني إلى اتخاذ مثل هذا النهج.»
وفجأة، وبعزم لم يعهده في نفسه، توجه روستوف مباشرة إلى مدخل المسكن وهو يلمس الملتمس في جيبه.
قال يحدث نفسه: «لن أدع الفرصة تفوتني هذه المرة كما حدث في أوسترليتز.» كان يتوقع أن يرى نفسه بعد كل خطوة وجها إلى وجه مع الإمبراطور. وإزاء تلك الفكرة كان الدم يقفز من كل أطرافه ليطفح به قلبه: «سألقي بنفسي على قدميه مسترحما متوسلا، فيرفعني ويصغي إلي، بل إنه سيشكرني كذلك.» وأخذ خياله يسمع أذنه صوت الإمبراطور يقول له: «إنني سعيد إذ أستطيع عمل خير، وإن رفع حيف وظلم عن بعضهم هو غاية سعادتي.»
تجاوز الممشى تحت وابل من نظرات الضباط الفضولية، وهناك انتصب أمامه سلم عريض يقود إلى الطبقة الأولى مباشرة، وكان إلى اليمين باب مغلق، وفي أسفل السلم باب آخر يطل إلى البناء الأرضي، سأله بعضهم: «ماذا ترغب؟»
فأجاب نيكولا وفي صوته رعدة: «رفع ملتمس إلى جلالة الإمبراطور.» - «ملتمس؟ اذهب إلى ضابط الخدمة. من هنا من فضلك - وأشار له إلى الباب الذي في أسفل السلم - لكنه لن يستقبلك.»
لما سمع روستوف ذلك الصوت الجلي شعر بفداحة عمله. كانت فكرة استقبال الإمبراطور على ما فيها من فتنة للنفس ترعبه لدرجة أنه كان يرحب بالفرار من هذا المأزق لولا أن فتح له الضابط المنوب باب حجرة ضابط الخدمة، فاضطر إلى الدخول اضطرارا.
رأى رجلا ضخما سمينا في العقد الثالث من عمره يرتدي سراويل بيضاء، وينتعل أحذية الفرسان طويلة الساق واقفا في منتصف الغرفة. كان قد فرغ لتوه من ارتداء قميص رقيق من «الباتيستا» الفاخرة، وكان وصيفه يضع له حمالات السروال الجديدة كل الجدة، الموشاة بالحرير، وكان يتحدث مع شخص آخر في غرفة مجاورة. وقد لفتت هذه الملاحظة انتباه روستوف، كان الرجل الضخم يقول: «جيدة التكوين وبجمال الشيطان.»
لكنه لما وقع بصره على روستوف قطب حاجبيه وقطع حديثه، وقال له: «ماذا تريد؟ ملتمس؟»
وسمع الصوت الآخر يقول من داخل الغرفة: «ما هذا؟»
فأجابه الرجل ذو الحمالات الجديدة: «إنه مستدع جديد.» - «قل له أن يعود مرة أخرى؛ إنه على وشك الخروج فينبغي أن نمتطي خيولنا الآن.»
دار روستوف على أعقابه وهم بالخروج عندما استوقفه الرجل الضخم سائلا: «من أنت؟ والملتمس من طرف من؟» - «إنه من طرف الماجور دينيسوف.» - «وأنت من تكون؟ ضابط؟» - «الملازم الكونت روستوف.» - «يا للجرأة! أرسل الطلب عن طريق التسلسل. هيا، اذهب وأسرع، أسرع.» وارتدى ثوبه الذي جاء به الوصيف في تلك اللحظة.
عاد روستوف إلى الممشى فرأى عددا كبيرا من الجنرالات والضباط في ثياب الحفلات مجتمعين عند باب المسكن، فكان عليه أن يمر بينهم، تحت أنوفهم.
لعن جرأته، وخارت عزائمه لمجرد التفكير في أنه سيغمر بالخجل ويوقف ويسجن في حضرة الإمبراطور. أدرك سوء تصرفه في تلك اللحظة فراح يتسلل مطأطئ الرأس خارجا من ذلك البيت الذي كان عدد من الأتباع المرموقين محدقين به، وفجأة استوقفته يد أحدهم. سمع صوتا منخفض الطبقة خشنا يقول له: «هه أيها الباسل! ماذا تعمل هنا وفي ألبسة مدنية؟»
عرف صاحب الصوت؛ كان قائد فيلقه القديم، وهو جنرال استطاع خلال الحملة الأخيرة أن يحظى بعطف الإمبراطور وتقديره. ارتبك روستوف لأول وهلة ارتباكا شديدا، وهم بتبرير موقفه أمام الجنرال، لكنه اطمأن عندما رأى أمارات الطيبة مرتسمة على وجه هذا الأخير، فانتحى به جانبا وعرض عليه المسألة كلها، وتوسل إليه أن يتدخل لمصلحة صديقه. وكان الجنرال يعرف دينيسوف حق المعرفة، فهز رأسه بقلق وانشغال وقال: «إنها نهاية محزنة بالنسبة لهذا الباسل. أعطني الملتمس.»
لم يكد روستوف يسلمه الرسالة حتى علا قرع الماميز الدال على حركة الأقدام على السلم، فتركه الجنرال ليعود إلى مركزه، كان القادمون أفراد الحاشية وقد هرعوا إلى خيولهم يمتطونها. وجاء إينو ، وهو نفسه الذي كان في أوسترليتز، يقود جواد الإمبراطور. ارتفع وقع خطوات خفيفة على السلم، فلم يجد روستوف عناء في معرفة صاحبها، نسي الخطر الذي ينتظره إذا اكتشف أمره، فاقترب واختلط بين عدد من الفضوليين حتى وصل إلى الباب. استطاع أن يرى بعد فترة عامين طويلين تلك القسمات المعبودة، وتلك النظرة المعروفة والمشية إياها؛ ذلك المزيج من الجلال والدعة والحلم. استسلم مجددا للحماس الذي كان يتسلط عليه من قبل. كان ألكسندر يرتدي سراويل بيضاء وينتعل أحذية الفرسان، وقد بدا في زي فيلق بريوبراجنسكي وعلى صدره وسام كان روستوف يجهل نوعه، وكان هو وسام جوقة الشرف. كان يغيب يديه في قفازيه واضعا قبعته ذات الزاويتين تحت إبطه. توقف على المدخل وألقى نظرة حوله؛ نظرة أضاءت كل ما حوله. توجه بحديثه إلى بعض الجنرالات، وتعرف على الفور على قائد فيلق روستوف السابق، فابتسم له وأشار إليه أن يقترب.
ابتعد كل أفراد الحاشية، فرأى روستوف ذلك الجنرال يتحدث فترة غير قصيرة مع الإمبراطور الذي أجابه ببعض كلمات، واقترب خطوة نحو جواده. ومن جديد اقترب الفريقان: فريق الحاشية، وفريق الفضوليين الذي كان روستوف في عدادهم. ولما وصل الإمبراطور إلى حيث كان جواده، وضع يده على السرج واستدار نحو الجنرال، وقال له بصوت مرتفع؛ ساعيا ولا ريب أن يبلغ قوله مسامع المتجمهرين: «لا أستطيع يا جنرال؛ وذلك لأن القانون أرفع مني مقاما.»
ووضع قدمه في الركاب فانحنى له الجنرال باحترام. امتطى الإمبراطور جواده ومضى هدبا، وبلغ الحماس بروستوف مبلغ الهذيان فاندفع مع الجمهور في أعقاب ألكسندر.
الفصل الحادي والعشرون
منحة نابليون
في الساحة التي مضى إليها الإمبراطور، كان لواءان يقفان متقابلين؛ أولهما إلى اليمين لواء من فيلق بريوبراجنسكي، والثاني إلى اليسار لواء من الحرس المهاجم ذوي القلنسوات المصنوعة من الشعر.
وبينما كان ألكسندر يبلغ أحد الجانبين اللذين يمثلان كل أقسام أسلحة الجيش، كانت كوكبة من الفرسان تهدب نحو الجانب الآخر، عرف روستوف بغريزته أن السائر على رأس تلك الكوكبة الأخرى لم يكن إلا «نابليون»؛ إذ إنه لا يمكن أن يكون أحدا غيره. كانت قبعته الصغيرة على رأسه، وعلى صدره وشاح سان آندريه فوق ثوبه الأزرق الغامق الذي كان يكشف عند العنق عن صدارة بيضاء، وكان ممتطيا صهوة جواد عربي كريم رائع الجمال، وتحلي ثوبه الرمادي النظيف لبادة حمراء موشاة بالذهب. فلما أصبح بمحاذاة ألكسندر رفع قبعته. استطاعت عين الفارس روستوف أن تستشف، استنادا إلى تلك الحركة الخرقاء، أن نابليون لم يكن خاليا من الارتباك والانفعال. ارتفعت الهتافات من حناجر جنود الألوية: «هورا!» يعيش الإمبراطور! حدث نابليون ألكسندر بضع كلمات وترجل كلاهما وتصافحا. كان نابليون يبتسم ابتسامة باهتة منفرة. أما ألكسندر فقد توجه إليه يحدثه ببشاشة زائدة.
أخذ رجال الدرك الفرنسيين يحفظون النظام بين الجماهير رغم عدم استقرار جيادهم. راقب روستوف كل حركة من حركات الإمبراطورين، لكن ما زاده دهشة هو أن «ألكسندر» كان يعامل نابليون معاملة الند للند. أما بونابرت، فكان من جانبه يبدو وكأن علاقته وتآلفه مع ألكسندر أمر طبيعي جدا يرجع إلى زمن بعيد.
اقترب نابليون وألكسندر وأتباعهما المتعددون نحو لواء بريوبراجنسكي على الجانب الأيمن وهما يمشيان في خط مستقيم نحو الجموع المحتشدة، وبلغ من شدة اقتراب الإمبراطورين وأتباعهما من المتجمهرين أن خشي روستوف - وكان في الصفوف الأولى - أن يكتشف أمره.
ارتفع صوت واضح حازم يبرز كل حرف من أحرف الكلمات بوضوح يقول: «يا صاحب الجلالة، لازاروف من بريوبرأطلب إليكم السماح بتقليد أشجع جندي من جنودكم وسام جوقة الشرف.»
كان بونابرت هو الذي يتحدث وهو ينظر في عيني ألكسندر نظرة صريحة من أعلى قامته القصيرة، فأصغى ألكسندر إلى كلماته بانتباه كبير، وأيدها بهزة من رأسه، وابتسم بدعة ملاطفا. أردف نابليون محددا غرضه وهو يقرع كل مقطع من مقاطع كلماته، بينما كانت عيناه تتصفحان صفوف الروسيين بهدوء واعتداد ثارت لهما نفس روستوف، في حين كان هؤلاء ساكنين يقدمون التحية بالسلاح وعيونهم شاخصة إلى إمبراطورهم وحده، إلى ذلك الذي تصرف بأكثر بسالة وشجاعة خلال هذه الحرب الأخيرة.
فقال ألكسندر: «هل تسمح لي جلالتكم باستشارة الكولونيل وأخذ رأيه؟» واتجه مسرعا ببضع خطوات نحو الأمير كوزلوفسكي الذي كان آمر اللواء. وفي تلك اللحظة نزع بونابرت يده الصغيرة البيضاء من قفازها، فتمزق القفاز، فألقاه جانبا، وهرع أحد أفراد الحاشية يلتقطه.
سأل ألكسندر بصوته المنخفض الأمير كوزلوفسكي: «لمن نعطي الوسام؟» - «إلى ذلك الذي تتفضلون جلالتكم بانتقائه.»
قطب ألكسندر حاجبيه دلالة على عدم الرضا، وقال وهو يلقي نظرة إلى الوراء: «ينبغي إعطاؤه الجواب رغم ذلك.»
اعتزم كوزلوفسكي أمرا، فطاف بالصفوف بنظرة بلغت مكان روستوف نفسه، حتى إن هذا غمغم يحدث نفسه: «أأكون أنا؟» ولم يلبث أن صاح بصوت شرس: «لازاريف!»
فتقدم الجندي الأول من الصف بخطوات عسكرية منسقة.
هتفت بعض الأصوات تحدث ذلك الجندي الباسل الذي لم يكن يدري أين يمضي: «إلى أين تذهب؟ البث في مكانك!»
فتوقف لازاريف وهو يختلس نظرة مذعورة إلى وجه الكولونيل. كان وجهه متقلصا بعصبية شأن كل جندي يستدعى في عرض عسكري شامل.
التفت نابليون التفاتة خفيفة من رأسه، وحرك يده البيضاء السمينة وكأنه يتناول شيئا، فهرع رجال الحاشية وقد أدركوا غرضه من تلك الحركة، وماجت صفوفهم وهمسوا شيئا تناقلته الشفاه إلى الأذان، وعندئذ هرع تابع خاص - وهو الذي شاهده روستوف بالأمس عند بوريس - إلى حيث وقف سيده، فانحنى أمامه باحترام ووضع في اليد الممدودة وساما ذا شريط أحمر، فضغط نابليون بإصبعيه على الوسام دون أن ينظر إليه أو إلى قدمه، واقترب من لازاريف الذي كان شاخص البصر إلى إمبراطوره بعينين جاحظتين فيهما عناد وإصرار، ثم ألقى نظرة على ألكسندر وكأنه يقول: «إن ما يعمله الآن إنما يعمله من أجل حليفه لا أكثر.» ارتفعت اليد البيضاء السمينة حاملة الوسام فاحتكت بثوب الجندي الروسي لازاريف. كان نابليون يعتقد بلا ريب أنه لكي يجعل هذا الجندي سعيدا إلى الأبد، ولكي يجعل منه مخلوقا مغرقا بالرعاية والإحسان، خلافا لكل مخلوقات العالم الأخرى، يكفي أن تتنازل يده؛ هو نابليون، بلمس صدره لمسا؛ لذلك اكتفى بأن ضغط صليب الوسام على صدر لازاريف وسحب يده على الفور، والتفت إلى ألكسندر كما لو كان واثقا من أن الصليب سيبقى عالقا في مكانه هناك. والواقع أنه ظل في مكانه معلقا على صدر الجندي، ذلك أن يدا متلهفة فرنسية وروسية تناولت الوسام على الفور وثبتته على صدر الجندي المجدود.
كان لازاريف ينظر إلى الرجل القصير ذي اليدين البيضاوين الذي قام بتلك الحركة نظرة كئيبة، وهو مستمر في تقديم سلاحه بالتحية، ثم أشاح ببصره إلى ألكسندر وكأنه يسأل عما إذا كان يجب أن يبقى في مكانه، أو يبتعد، أو أن يعمل أي شيء آخر يطلب إليه. ولما لم يتلق أي أمر فقد ظل فترة طويلة منتصبا في مكانه ذاك في وضعيته تلك لا يبدلها.
اعتلى الإمبراطوران صهوتي جواديهما وابتعدا، فتفرقت صفوف لواء بريوبراجنسكي واختلط أفراده بجنود الحرس الفرنسيين الذين أقيمت الحفلة على شرفهم، وجلسوا إلى الموائد.
كان لازاريف يحتل مكان الشرف، وكان ضباط من الفرنسيين والروس يهنئونه ويعانقونه ويصافحونه بحرارة، وكان المدنيون والعسكريون على السواء يتدافعون ليحظوا بنظرة إلى وجهه. كانت الساحة كلها مدوية بأصداء الأحاديث والضحكات المرحة. مر ضابطان سعيدان هانئان تشرب وجهاهما بحمرة النشوة أمام روستوف. كان أحدهما يقول: «يا له من احتفال يا عزيزي! لقد أخرجوا الأطباق الفضية ونثروها على الموائد. هل رأيت لازاريف؟» - «نعم.» - «سوف يقيم لواء بريوبراجنسكي حفلة على شرف الفرنسيين غدا على ما نمي إلي.» - «يا له من مجدود لازاريف هذا! تصور أنه نال بذلك مائتي فرنك جراية سنوية.»
وهتف أحد الجنود الروسيين في تلك اللحظة وهو يضع على رأسه قلنسوة أحد جنود الحرس: «انظروا إلى هذه القلنسوة يا أولاد! عاينوها!» - «إنها جميلة جدا!»
وقال أحد ضباط بريوبراجنسكي لزميل له: «أتعرف كلمة السر؟ لقد كانت أول أمس: «نابليون، فرنسا، شجاعة»، وأمس: «ألكسندر، روسيا، عظمة». إن إمبراطورنا يعطي كلمة السر ثم يعطيها نابليون في اليوم التالي. سوف يعطي جلالته صليب سان جورج غدا إلى أشجع جنود الحرس الفرنسيين. يستحيل بغير ذلك أن نعيد إليهم بادرتهم المهذبة.»
جاء بوريس وصديقه جيلنسكي يعاينان الوليمة بدورهما، وبينما هو يلتفت عفويا شاهد روستوف واقفا عند زاوية أحد المنازل، قال له: «هه! مرحبا يا روستوف، إننا لم نكد نقابل بعضنا.»
ولما رأى سحنته المكفهرة المنقلبة لم يتمالك من سؤاله عن السبب، فقال روستوف: «لا شيء، لا يوجد شيء.» - «ألا تمر بي لتزورني؟» - «كيف لا، بلى.»
لبث فترة طويلة واقفا في زاويته يتأمل الحفل الصاخب، كان يشعر في أعماق نفسه بصراع عنيف لا يستطيع الوصول به إلى نتيجة مرضية. كانت شكوك مريعة تستولي على نفسه؛ فتارة يتذكر دينيسوف وتعابير وجهه غير المألوفة، وخضوعه غير المنتظر، فيرى ذلك في المستشفى القذر بمرضاه ورائحته التي تشبه رائحة جثث الموتى، فتلاحقه تلك الرائحة وتزكم خياشيمه حتى إنه كان يستدير ليرى مصدر تلك الرائحة القذرة الكريهة، وطورا يتمثل بونابرت، ذلك الرجل الرضي ذي اليد البيضاء، الذي أصبح الآن معترفا به كإمبراطور، والذي كان ألكسندر يظهر حياله احتراما وتوددا. وإذن لم هؤلاء الموتى وأولئك الذين فقدوا أطرافهم؟ وكان أحيانا يفكر في لازاريف والمكافأة التي منحت له، وفي دينيسوف وعقوبته التي لا ينتظر الصفح عنها. لقد راودته أفكار غريبة جدا حتى إنه شعر بخوف منها.
أثارت رائحة الوليمة شهيته إلى الطعام وأخرجته من أحلامه، كان مضطرا إلى تناول بعض الطعام قبل أن يعود إلى كوكبته. مضى إلى فندق مر به ذلك الصباح فوجد فيه جمعا غفيرا من الناس ومن الضباط في ثياب مدنية مثله، حتى إنه وجد صعوبة كثيرة في الحصول على الطعام، انضم إليه ضابطان من فيلقه ودار الحديث حول الصلح بالطبع. كان أولئك السادة أسوة بعدد كبير من مؤيديهم في الجيش، يستنكرون ذلك الصلح بعد معركة فريدلاند، كانوا يزعمون أن الجيش الروسي لو قاوم مدة أخرى لقضي على نابليون، وأن جنوده لم تعد تملك ذخيرة وعتادا ومئونة كافية. كان نيكولا يتناول طعامه ويكثر من الشراب دون أن ينبس ببنت شفة. ارتشف وحده زجاجتين من الخمر. كان لا يزال فريسة لذلك الصراع الداخلي المرير، يخشى الاستسلام لتفكيره وتأملاته دون أن يستطيع مع ذلك التخلص منها. وفجأة، وبعد أن قال أحد محدثيه : «إنه مخجل أن يرى المرء نفسه قبالة الفرنسيين.» تصاعد الدم إلى وجه روستوف وصاح بحرارة لم يكن يبررها ذلك القول؛ مما أثار دهشة المتكلم والضباط كلهم: «كيف يمكنك أن تعرف الأحسن؟ هل أنت الذي تحكم على تصرف الإمبراطور؟ من الذي يعطينا الحق في مناقشة ذلك؟ إننا لا نستطيع أن نعرف خططه وتصرفاته ولا أن نفهمها.»
فقال الضابط معترضا وهو يعزي اندفاع صديقه وثورته الفجائية إلى عامل الخمر: «لكنني لم أتفوه بكلمة واحدة عن جلالته.»
غير أن روستوف لم يلق بالا إلى أقوال الضابط وبياناته، بل استمر يقول بأشد حماسة وأكثر اندفاعا: «إننا لسنا سياسيين، بل جنودا ليس إلا، فإذا أمرنا أن نموت فما علينا إلا أن نموت، وإذا عوقبنا فما ذلك إلا لأننا مذنبون. ليس من حقنا أن نناقش، وإذا راق لجلالته الاعتراف ببونابرت كإمبراطور وعقد حلف معه، فإن معنى ذلك أنه ضرورة واجبة، فإذا رحنا نتدخل في الأمور ونناقشها، كان معنى ذلك انعدام كل شيء مقدس.»
وازداد انفعالا فضرب المائدة بقبضة يده وصاح متمما: «وإلا فإن بإمكاننا أن نقول إذن بأن الله غير موجود، وأنه لا يوجد شيء في الدنيا! إن دورنا في الحياة هو القيام بواجبنا، والطعن بالسيف دون التفكير في شيء.»
كان واضحا أن ذلك اللوم العنيف، رغم ما بدا عليه في نظر المستمعين من أنه في غير محله، يشغل ركنا متينا في سياق أفكار روستوف، فلما انتهى من حديثه بتلك الجملة؛ بادر أحد الضباط معقبا لتلافي كل نزاع أو قيام مشادة غير مرغوب فيها: «وأن نشرب!»
فأيده نيكولا قائلا: «نعم، وأن نشرب.»
وصاح بالنادل آمرا: «هه! يا من هناك! زجاجة أخرى.»
الجزء الثالث
سبيرانسكي سكرتير الدولة.
الفصل الأول
سيدا العالم
انتقل الإمبراطور ألكسندر عام 1808 إلى إيرفورت
1
حيث وقع له مع الإمبراطور نابليون مقابلة جليلة جديدة رائعة، ظلت حديث المنتديات الراقية في بيترسبورج زمنا طويلا.
وفي عام 1809، بلغ تفاهم سيدي العالم - كما كانوا يسمونهما - ذروة المنتهى. كان نابليون في تلك السنة قد أعلن الحرب على النمسا، فتوجه جيش روسي عبر الحدود للتعاون مع العدو القديم بونابرت ضد الحليف القديم إمبراطور النمسا، بل إن هناك شائعة راجت في الأوساط الخاصة العليا حول توقع زواج نابليون بإحدى أخوات الإمبراطور ألكسندر. وإلى جانب كل هذه الأحداث في السياسة الخارجية، فإن التبديلات والتجديدات التي أحدثت في كل أجزاء الجهاز الحكومي ظلت شغل المجتمعات الروسية الشاغل.
مع ذلك، فإن الحياة اليومية بكل خصائصها الجوهرية من صحة ومرض وعمل وبطالة، ومقوماتها الأخرى من أفكار وعلم وشعر وموسيقى وحب وصداقة وحقد ورغبات، ظلت تسير على نهجها السابق مستقلة كل الاستقلال، بعيدة كل البعد عن متناول التبديلات الجارية وتعاقب علاقات الروسيين بنابليون.
دفن الأمير آندريه نفسه في الريف طيلة عامين كاملين.
استطاع أن يدخل كل الإصلاحات التي أدخلها بيير في ممتلكاته، والتي لم تصل إحداها إلى نهايتها المرضية عنده؛ لأنه كان يتنقل دون توقف من إحداها إلى الأخرى، دون أن يبدو عليه شيء من العناء، أو أن يبدل رأيه إزاء أول معترض، ذلك أنه كان يمتلك ثباتا عمليا وجزما قويا يستطيعان أن يبلغانه ما يشتهي دون شديد عناء على عكس صاحبه بيير.
كان من أوائل الروسيين الذين سجلوا أسماء فلاحيهم العبيد في عداد «الزراع الأحرار» عندما منح هذه الصفة لثلاثمائة عبد من فلاحيه في إحدى مقاطعاته. أما في أراضيه الأخرى، فقد استبدل أعمال السخرة بالأعمال المأجورة، أقام قابلة على نفقته في بوجوتشاروفو، وقسيسا يتقاضى منه الأجر مهمته تعليم أولاد الفلاحين والخدم.
كان يمضي نصف وقته في ليسيا جوري مع أبيه وابنه - الذي كان لا يزال بين أيدي المربيات والخادمات - والنصف الآخر في صومعته في بوجوتشاروفو، كما كان يدعوها الأمير العجوز، وعلى الرغم مما أظهره من لا مبالاة حيال أحداث العالم أمام بيير، فإنه كان يتتبع كل الوقائع بانتباه، ويستحصل على كتب عديدة، حتى إنه كان يلاحظ بمزيد الدهشة أثر عودته من زياراته لبيترسبورج - وهي محور حياة البلاد - أن أولئك السكان الأدعياء يعرفون عن سياق السياسة الداخلية والخارجية أقل مما يعرفه هو، رغم أنه ما كان يغادر مكانه في الريف. وكانت إدارة أملاكه ومطالعاته الكتب المختلفة متباينة المرامي والأهداف، لا تستنفد كل وقته، وبذلك كان يستغرق في معاينة حملتي الجيش الروسي معاينة الناقد المتجرد، بكل ما فيها من بؤس وتعاسة، ويضع أسسا تنظيمية جديدة لقوانين روسيا العسكرية.
وفي ربيع عام 1809، مضى آندريه لزيارة أملاكه في ريازان، وهي أملاك تخص ابنه الذي نصب نفسه بحق وصيا عليه. كان مستلقيا في عربته معرضا نفسه لإشعاعات شمس الربيع الحانية، يتأمل العشب الطري الجديد وأوراق السندر الأولى، والغيوم البيضاء الأولى التي كانت ترسم في زرقة السماء الصافية أشكالا تشبه قطعان الغنم المتلاصقة. لم يكن يفكر في شيء معين، بل كانت نظراته تشمل كل شيء.
اجتاز الطوف الذي وقف عليه في العام الماضي يتحدث مع بيير، وتخطت عربته قرية حقيرة وعددا من البيادر، ثم أكواما من قمح الشتاء في حشائشه، وانحدر على رابية حيث ظل على جوانبها طيف من ركام الثلج قرب جسر هناك لم يتبدد بعد، ثم تسلقت العربة مرتفعا طينيا، وسارت على طول أكواخ متناثرة هنا وهناك تتخللها شجيرات مخضرة الأغصان، وأخيرا دخلت في حرج من أشجار السندر. كان الجو في الغابة حارا تقريبا، لا ترتفع فيها نسمة هواء، فكان السندر تزينه أوراق خضراء ندية جامدا لا يتحرك، ومن خلال بساط أوراق السنة الفائتة أطلت الأعشاب الجديدة الأولى مخضرة تحمل في رءوسها زهورا بنفسجية صغيرة. وهنا وهناك قامت بعض أشجار هزيلة من الصنوبر خلال أشجار السندر، تذكر بأس الشتاء القاسي بزرقتها القاسية الدائمة، وثارت الخيول عند دخولها الغابة، وازداد تعرقها غزارة.
قال بيير، الوصيف العجوز، شيئا للسائق الذي رد عليه إيجابا، فلم يكتف بذلك الجواب، بل استدار في مقعده، وقال لسيده وعلى شفتيه ابتسامة احترام: «كم الطقس جميل يا صاحب السعادة!» - «ماذا تقول؟» - «الطقس جميل يا صاحب السعادة!»
فكر الأمير في سره: «ماذا يقول هذا؟ آه! نعم، الربيع! صحيح، لعمري إن كل شيء قد أصبح مخضرا؛ السندر والقراصياء، وها هي أشجار الحور قد بسقت، ولكن ليس من شجر سنديان ! آه! بل ها هي ذي واحدة.»
على جانب الطريق، انتصبت سنديانة عجوز، لا شك أنها تفوق في قدمها أشجار السندر بعشر مرات، فكانت لذلك أضخم منها بعشرة أضعاف، وأعلى منها ارتفاعا بمثل هذه النسبة. كانت سنديانة ضخمة لا تحيط بها أربعة أذرع، ذات أغصان محطمة من عهد قديم، ولحاء متساقط مقعر، ممتلئة بالنتوءات والتصدعات. كانت أذرعها الرحبة المعقدة البشعة الممدودة في غير تناسق تغطيها، وهي في مكانها بين أشجار السندر الشابة مظهر حسن عجوز غاضب مكروه محتقر. كانت وحدها ترفض الاستسلام لفتنة العام الجديد، وتأبى رؤية الربيع والشمس.
كأن تلك السنديانة كانت تقول: «الربيع، الحب، السعادة! ألا تأنفون من هذا السخف الأبدي؟ ألا ترون أن كل هذا ليس إلا حماقة وسخفا؟ لا يوجد لا ربيع ولا شمس ولا سعادة، انظروا إلى هذه الصنوبرات؛ إنها ميتة مختنقة، متشابهة دائما، وانظروا إلي أنا. لقد حاولت طاقتي أن أمد أذرعي الملتوية المحطمة، فخرجت من ظهري وخاصرتي ومن كل مكان شاءت أن تخرج منه، بينما أنا هنا لا أستطيع حراكا، فلست أومن بآمالكم وأكاذيبكم.»
ظل الأمير آندريه يلتفت من حين إلى آخر ليرمق السنديانة بنظرة، بينما كانت عربته تتوغل في طريق الغابة، كان يلتفت إليها وكأنه ينتظر وقوع شيء ما، كان في ظلها حقل امتزج فيه العشب بالأزاهير، بينما ظلت هي؛ هي الوحش الجبار، تنصب بعناد قامتها الهائلة الكئيبة الشرسة.
السنديانة العجوز.
فكر آندريه: «نعم، إن لهذه السنديانة الحق كل الحق.» كم من الآخرين، الشباب، يستسلمون لهذه المخاتلة! أما نحن فإننا نعرف كيف نتصرف. لقد انتهت حياتنا، انتهت تماما.»
أحدثت رؤية تلك الشجرة انبثاق أفكار جديدة، أفكار يائسة، ولكن ملؤها الفتنة المغمة، أخضع أسلوبه في الحياة خلال هذه الرحلة لدراسة عميقة مثمرة، انتهت به من جديد إلى هذه النتيجة المؤلمة، ولكن المسكنة؛ إنه لا ينبغي له الشروع في شيء جديد، بل إنهاء حياته بكل وداعة دون أن يسيء إلى أحد، أو يتطلع إلى شيء، ودون أن ينكد عيشه.
الفصل الثاني
آندريه وروستوف
اضطر آندريه لرؤية الكونت روستوف، رئيس نبلاء المقاطعة، لأعمال تتعلق بوصاية على أملاك ريازان. ذهب للقائه حوالي النصف من آيار، وهو بدء موسم القيظ. كانت الغابات قد اكتست حينذاك بالأوراق، وانبعث الغبار، واشتد الهجير حتى إن المرء لتتوق نفسه إلى الاستحمام في أول بركة ماء يمر بها مهما بلغت ضآلة مياهها.
اخترق آندريه الممشى الرئيسي في حديقة «أوترادنواي»؛ بيت آل روستوف الصيفي، وهو عابس الوجه، مشغول الفكر؛ بسبب ألوف الأشياء التي كان عليه بحثها مع رئيس النبلاء، حينما تناهى إلى سمعه وقع أصوات جذلة آتية من ناحية اليمين، وخرجت زمرة من الفتيات من الدغل، وقطعت الطريق على العربة، تقودها سمراء ذات عينين سوداوين، رشيقة جدا، ترتدي ثوبا من القماش الهندي الأصفر، وتعصب رأسها بمنديل أبيض أفلتت منه خصلات مشعثة من شعرها. هتفت الصبية بقول للأمير، لكنها نفرت هاربة، وهي تنفجر ضاحكة عندما تبينت أنها إزاء غريب لا تعرفه.
شعر الأمير آندريه فجأة ببعض الامتعاض. لقد كان الطقس شديد البهاء، والشمس عنيفة الحرارة، والعالم كله مبتهج جذل. وهذه البنية اللطيفة لا تعترف ولا تريد الاعتراف بوجوده هو، آندريه! لقد كانت راضية عن وجودها هي، خرقاء ولا شك، غير مبالية ومسرورة. أخذ يتساءل بإلحاح: «ما الذي يجعلها على مثل هذه الحالة من صفو المزاج؟ في أي شيء تفكر إذن؟ لا شك أن تفكيرها لا ينصرف إلى التماثيل الحربية، ولا إلى تأجير الأراضي لفلاحي ريازان، في أي شيء تفكر؟ وما الذي يجعلها سعيدة كل هذه السعادة؟!»
كان الكونت إيليا آندريئيفيتش يعيش بأوترادنواي عام 1809 مثل الحياة التي كان يعيشها من قبل؛ أي إنه كان يشبع المقاطعة كلها تقريبا بطرائد صيده وبالحفلات والولائم والموسيقى، فكانت كل زيارة جديدة يقوم بها بعضهم لبيته تفتنه، وهكذا فقد استقبل الأمير آندريه استقبالا ملؤه الحفاوة، واستبقاه لقضاء الليل عنده بما يشبه القسر.
لم يستطع آندريه النوم ذلك المساء بسرعة عندما أوى إلى تلك الحجرة المجهولة منه، التي جعلت مصاريع نوافذها الداخلية الحرارة فيها لا تطاق. لبث وحيدا يطالع كتابا ثم أنطفأت الشمعة، لكنه عاد فأضاءها مرغما وهو يشتم ذلك الأحمق العجوز - بذلك كان يسمى روستوف - الذي استبقاه بحجة أن الأوراق الضرورية لم تصل بعد من المدينة. أحس بالنقمة على نفسه لأنه قبل الدعوة.
نهض ليفتح النافذة، ولم يكد يوارب مغاليقها حتى تسلل القمر إلى الغرفة وكأنه كان ينتظر هذه الإشارة منذ أمد طويل. فتحها على مصراعيها. كان الليل رطيبا هادئا مشعا، امتد قبالته تماما، صفا من الأشجار المشذبة، معتمة من جهة، ومضاءة بنور قوي من الجهة الأخرى، وتحت الأشجار ثوت من النبت الكثيف الندي الممتلئ بالرواء، برزت على سطحه هنا وهناك أوراق وسوق فضية، ومن وراء الأشجار المعتمة يشاهد سقف يلتمع بالندى، وأبعد منه إلى اليمين شجرة كبيرة كثيفة الأغصان ذات جذع وأغصان بيضاء ناصعة، ومن فوقها القمر بادرا في سماء ربيعية مشرقة نادرة النجوم. اتكأ آندريه على النافذة وشخص بأبصاره إلى السماء.
كانت غرفته في الطبقة الأولى، وسكان الشقة التي في الطبقة العليا لم يأووا بعد إلى مضاجعهم، بدلالة الأصوات النسائية التي كانت منبعثة من فوقه.
سمع آندريه صوتا عرفه من فوره يقول: «مرة أخرى، لا أكثر من مرة.»
فأجاب صوت آخر: «لقد حان وقت النوم هيا.» - «كلا لن أنام، لا أستطيع، إنها ليست خطيئتي. هيا، مرة أخيرة.»
ورتل الصوتان جملة موسيقية كانت نهاية مقطوعة. - «آه! كم هي جميلة! حسنا، والآن انتهينا، فإلى النوم.» - «نامي إذا شئت، أما أنا فلا أستطيع.»
ولا شك أن صاحبة الجملة الأخيرة اقتربت من النافذة، ولعلها كذلك أطلت منها وانحنت إلى الخارج؛ لأن حفيف ثوبها طرق أذن آندريه، حتى وصوت تنفسها. بدا القمر وضياؤه والظلال وكل شيء غارقا في الصمت، حتى آندريه نفسه بات يخاف أن يفضح وجوده حركة تصدر عنه.
هتف الصوت الأول: «سونيا، سونيا، يا للعجب! كيف يحلو النوم! انظري ما أبهى الجو! آه! كم هو جميل! لكن استيقظي، هيا.»
وأصبح الصوت متوسلا وكأنه مشفع بالدموع: «لم يسبق قط أبدا أن شوهدت ليلة بمثل هذا البهاء!»
غمغمت سونيا ببضع كلمات مبهمة. «انظري قليلا ، يا للبدر! آه! كم هو رائع! تعالي هنا، تعالي انظري. حسنا، ماذا ترتئين؟ إن هذا يهيب بالمرء أن ينطوي على نفسه هكذا، وأن يمسك بأسفل ركبتيه ويشد ويضغط بعنف شديد كأعنف ما يستطيع، وأن يحلق ويطير. انظري، هكذا ...» - «كفاك، هيا. سوف تسقطين.»
وسمعت جلبة تشبه العراك ثم صوت سونيا المتذمر يقول: «إن الساعة قد تجاوزت الواحدة.» - «آه! إنك تفسدين بهجتي. حسنا، اذهبي، اذهبي!»
واستغرق كل شيء في سبات من الصمت، لكن آندريه حدس أنها لا تزال هناك؛ لقد ظل يسمع الحفيف الخفيف والزفرات، وفجأة هتفت: «آه! رباه، رباه! ما معنى هذا؟ إلى النوم طالما يجب أن ننام!»
وأغلقت النافذة بجلبة.
فكر آندريه الذي انتظر عبثا خشية أن تكون الفتاة تتحدث عنه: «إنها لا تعبأ بوجودي بكل تأكيد! ثم لماذا قدر لي أن أراها من جديد تقتحم سبيلي؟ يمكن القول إنها بادرة مقصودة.»
تصاعد من أعماق قلبه إعصار مفاجئ من الأفكار والآمال الصبيانية التي تتنافى كليا مع واقع حياته، ولما لم يجد في نفسه القدرة على إيضاح الأمور نام لتوه.
الفصل الثالث
آراء آندريه
وفي اليوم التالي، استأذن الأمير آندريه من الكونت وعاد أدراجه دون أن ينتظر نزول السيدات إلى البهو.
عندما اخترق الأمير آندريه في طريق عودته إلى ليسيا جوري تلك الغابة من شجر السندر؛ حيث انتصبت تلك السنديانة العجوز الملتوية التي أوحت إليه ذلك الإحساس المفجع، كان شهر حزيران قد هل. رددت جلجلة عربته في تلك الغابة صدى مكتوما أكثر مما ندعها قبل ستة أسابيع. أصبحت الظلال والأدغال المتشابكة في كل مكان حتى إن أشجار الصنوبر الفتية لم تتخلف عن البهجة العامة. لقد سننتها في ذلك الحين فروع نضيرة خضراء ملساء تشبه الزغب تتوافق مع بهاء المجموعة كلها.
وكان النهار خانقا قائظا ينبئ بتكون عاصفة صيف في مكان ما، وإن لم تكن في السماء إلا سحابة واحدة ذرفت دموعها على غبار الطريق، وعلى الأوراق المثقلة بالعصارات، فأوغل جانب الغابة الأيسر في الظل بينما التمع الجانب الأيمن بقطرات المطر التي عكست إشعاعات الشمس في ذلك الجو الساكن، وكان كل شيء مزدهرا، والعنادل تشدو وتتناجى تارة قريبة، وأخرى بعيدة.
فكر آندريه: «هنا في هذه الغابة تقوم السنديانة التي كنت معها على وفاق متين، فأين هي الآن على الضبط؟» وبينما راحت عيناه تجوسان فيما حوله بافتتان توقفتا عند شجرة لم يتعرف عليها بادئ الأمر. بدت السنديانة العجوز أشبه بهرم من الخضرة الغزيرة التي فقدت شعورها تحت ملق المغيب وملاطفته، وكأنها أبدلت خلقا جديدا، اختفت الأطراف الملتوية والتضاريس والأخاديد، ونسي التهجم واليأس الهرم. انبعث من قلافتها القاسية المعمرة أوراق فتية منتفخة بماء الحياة تدعو المرء إلى التساؤل: «كيف استطاعت تلك العجوز الفانية التمخض بمثل هذه الأجنة وبعثها إلى النور؟» قال آندريه في نفسه: «نعم، إنها السنديانة إياها.» وشعر بنشاط فجائي وبحيوية جديدة، أخذت أفضل دقائق حياته تمر متلاحقة في خاطره: «أوسترليتز بسمائها العميقة، ووجه زوجته المتوفاة المتسم بأمارات اللوم، وبيير على المعبر، والصبية التي أثارتها محاسن الليل، وتلك الليلة بالذات وسنا القمر؛ كل ذلك انبعث دفعة واحدة في خياله.»
قرر دون تردد: «كلا، إن الحياة لم تنته في الواحدة والثلاثين. لا يكفي أن أعرف ما أنا قادر على صنعه، بل يجب أن يعرفه كل الناس كذلك؛ من بيير إلى هذه الصبية التي أرادت أن تطير. يجب أن يعرفني كل الناس، وأن لا تسير أيامي من أجلي فحسب، وأن لا تكون حياة الآخرين مستقلة كل الاستقلال عن حياتي، وأن تنعكس حياتي في حياتهم، وأن تختلط حياتهم بحياتي.»
قرر آندريه حال وصوله أن يسافر في الخريف إلى بيترسبورج، وأن يضطلع فيها بأعباء عمل ما، وراحت ألوف الأسباب الطيبة والمبررات، بعضها أقوى حجة من بعض، تؤيد في نظره ذلك القرار. لقد كانت فكرة مغادرة الريف تبدو سخيفة في نظره قبل شهر. أما الآن فإنه لم يكن يفهم كيف استطاع تجاهل الحاجة في عيش حياة فعلية عملية. أخذ يرى أن كل التجارب التي حصل عليها في حياته ستذهب بددا إذا لم يخرج نتائجها العملية إلى حيز الفعل ، بل إنه لم يفهم كيف ارتكز من قبل على حجج بمثل هذا الافتقار إلى المنطق لإقناع نفسه بأنه إنما يسف إذا ظل مؤمنا في إمكانية انتفاع الآخرين به، وفي الغرف على السعادة والحب بعد الدروس القاسية التي مر بها في حياته. أما الآن فإن المنطق بات يلقنه عكس ذلك تماما.
أصبح الريف يثقل عليه، وانشغالاته الأولى باتت لا تعنيه في شيء، وكثيرا ما نهض خلال اعتزاله في مكتبه ليقترب من المرآة يعاين فيها وجهه فترة طويلة، ثم ينتقل بنظرته إلى صورة ليز، التي كانت تبسم له بوداعة في إطارها المذهب وقد ازدهى وجهها بخصلات الشعر المصففة على الطريقة اليونانية. لم تحدق فيه بمثل ذلك اللوم الرهيب الذي كان يقرؤه في عينيها من قبل، بل اكتفت بالابتسام له وعلى وجهها أمارات التطلع والتفكه، وإذا ما فرغ آندريه من النظر إليها عقد يديه وراء ظهره، وراح يذرع الغرفة مقطبا حاجبيه تارة، ومبتسما تارة أخرى، مستعيدا في ذهنه تلك الأفكار المختنقة المستعصية على التعبير، الخفية كالجريمة، والتي يمتزج فيها بغموض بيير والمجد والصبية قرب النافذة والسنديانة والجمال والحب، والتي غيرت وجوده تغيرا كليا، فلو دخل عليه بعضهم خلال تلك الفترات، كان يتظاهر بالقسوة والجفاء والحزم، ويبدو منطقيا منفرا، وإذا جاءت أخته ماري مثلا تقول له بسلامة طوية: «يا عزيزي، لا يمكن الخروج بنيكولا إلى النزهة اليوم؛ لأن الجو بارد جدا.»
يجيبها بخشونة: «لو كان الطقس حارا، فإنه يستطيع الخروج بالقميص. أما وإن الدنيا باردة؛ فدثريه بثياب دافئة. إنها صنعت خصيصا من أجل ذلك، هكذا يجب أن تتصرفي عندما يكون الطقس باردا، ولكن لا يجوز ترك طفل في البيت عندما يكون في حاجة إلى الهواء.»
كان يبدو بهذا المنطق المتوافر كأنه يريد الانتقام من بعضهم لكل هذا التفاعل الغريب المكتوم الذي يعتلج في سره.
وفي مثل تلك الحالات تحدث أخته ماري نفسها قائلة: «إن الرجال لفرط التفكير يخشوشنون بشكل مفزع.»
الفصل الرابع
بولكونسكي وآراكتشييف
وصل الأمير آندريه إلى بيترسبورج في شهر آب (أغسطس) من عام 1809، عندما كان سبيرانسكي الشاب في أوج مجده يقوم بإجراء تعديلاته بحيوية ونشاط كبيرين. جنحت عربة الإمبراطور في ذلك الشهر، وأصيب ألكسندر بالتواء في قدمه اضطره إلى الحلول في بيتيروف طيلة ثلاثة أسابيع. كان سبيرانسكي وحده يستقبل يوميا من قبل العاهل، وفي هذه الفترة أنضجت إلى جانب المرسومين الإمبراطوريين الشهيرين، اللذين أثارا الرأي العام بشدة، المتعلقين بإلغاء رتب البلاط والفحوص الواجب اجتيازها للحصول على رتب الارتقاء في الكلية وفي مجلس الدولة الاستشاري، مجموعة قوانين كاملة تهدف إلى قلب النظام القضائي والإداري والمالي المعمول به حتى ذلك اليوم، اعتبارا من مجلس الإمبراطورية وحتى أصغر السلطات الإقليمية، وفي تلك الفترة بالذات اتخذت أحلام الإمبراطور ألكسندر التحريرية المبهمة - التي كان يهدهدها في سره عندما اعتلى العرش، والتي حاول حينذاك تحقيقها بمساعدة معاونيه آل كزارتوريسكي ونوفوسيلتسوف وكوتشوبيئي وستروجونوف، الذين كان يسميهم مازحا: مجلس الصيانة العامة - شكلا واضحا. لقد تنحى هؤلاء الآن عن مراكزهم لسبيرانسكي في القضايا المدنية ول «آراكتشييف» في القضايا العسكرية.
أظهر الأمير آندريه نفسه فور وصوله بوصفه من مرافقي الإمبراطور في البلاط، وعند مخارج الجناح الإمبراطوري ومداخله، ولقد لمحه الإمبراطور مرتين على طريقه فلم يتنازل بتشريفه بكلمة واحدة. وما كان آندريه أبدا يشعر أنه موضوع نفور الإمبراطور، وأن وجهه وكل شخصه مكروهان من العاهل. وقد أيد هذا الزعم النظرة الجافة المقصية التي رماه بها ألكسندر، وفسر له أتباع الإمبراطور سبب ذلك البرود بأن اعتزاله الخدمة منذ عام 1805 كان موضوع استياء الإمبراطور.
حدث الأمير نفسه قائلا: «إنني أعرف تماما أننا لسنا سادة ميولنا ونفورنا، فلا يجب إذن أن أفكر في تقديم مذكرتي حول النظام العسكري الجديد إلى جلالته يدا بيد، لكن الفكرة ستشق طريقها لوحدها.»
أبلغ مشروعه إلى ماريشال عجوز صديق لأبيه، فحدد له هذا الرجل الكبير موعدا واستقبله ببشاشة واعدا بالتحدث عن مشروعه إلى الإمبراطور، ولم تمض أيام قليلة حتى أخطر آندريه بوجوب المثول بين يدي الكونت آراكتشييف؛ وزير الحربية.
دخل الأمير آندريه قاعة استقبال الكونت آراكتشييف في الساعة التاسعة من صباح اليوم المحدد. لم يكن يعرفه من قبل كما لم يكن قد رآه أبدا، بيد أن معلوماته عنه لم تكن وافية لتقديره حق قدره.
فكر آندريه وهو ينضم إلى عدد من الأشخاص المتفاوتين في الأهمية في بهو الانتظار: «إن وزير الحربية، وهو حائز على ثقة الإمبراطور، ليس لأحد إذن التشاغل في صفاته الشخصية. لقد أنيط به أمر فحص مذكرتي؛ فهو بالتالي الوحيد الذي يستطيع إحلال مشروعي موضع الاعتبار.»
ساعدت مراكز الأمير آندريه المختلفة، وبصورة خاصة وظيفته كمساعد عسكري، على التعرف على عديد من الأبهاء في قصور الشخصيات الكبيرة، وتمييز الصفات الخاصة لكل منها، لكنه وجد قاعة انتظار الكونت آراكتشييف ذات طابع خاص، وجد أن الأشخاص ذوي المراكز المتواضعة ينتظرون حلول دورهم في المقابلة بوجوه يعلوها الخجل والارتباك، وأن من هم أرفع شأنا يخفون ارتباكهم وراء ضروب من الانطلاق، متخذين السخرية وسيلة، وإن كانت تشمل أشخاصهم بقدر ما تتصل بالشخصية التي سيمثلون أمامها. كان بعضهم يذرع القاعة بقلق، والبعض الآخر يبتسم ويتهامس أفراده فيما بينهم، حتى إن آندريه سمع خلال أحاديثهم الخافتة لقب سيلا آندريئيفيتش
1
وعبارة: «سوف يغسل الرجل الطيب لك رأسك.» ورأى جنرالا رفيع المركز والقدر يجلس عاقدا ساقيه، وعلى شفتيه ابتسامة احتقار يخفي بها استياءه من انتظاره الطويل.
لكن ما إن فتح باب المكتب حتى عبرت الوجوه كلها عن إحساس واحد: الخوف. طلب الأمير آندريه إلى الموظف المختص أن يعلن عن وجوده مرة ثانية، لكنهم نظروا إليه في سخرية معلنين أن دوره سيحين، وبعد أن أدخل عدد من الأشخاص إلى مكتب الوزير وخرجوا منه يشيعهم المساعد الملحق، أدخل من الباب الرهيب ضابط جذب أنظار بولكونسكي بأمارات الفزع والخنوع المرتسمة على أساريره. طالت المقابلة بعض الوقت، وفجأة ارتفعت من وراء الباب أصداء صوت منفر، وخرج الضابط ممتقع الوجه، مرتعد الشفاه، فاخترق قاعة الانتظار وهو ممسك برأسه بين يديه.
جاء دور الأمير آندريه وهمس الموظف: «إلى اليمين قرب النافذة.»
دخل آندريه إلى مكتب بسيط منسق، وشاهد رجلا في الأربعين من عمره فارع الجذع، طويل الرأس، ذا شعر قصير، وأخاديد عميقة، وأنف أحمر محدودب، وحاجبين مزويين فوق عينين ملونتين تبدو نظرتهما مطفأة، جالسا وراء المكتب.
التفت آراكتشييف نحوه دون أن ينظر إليه وقال: «ماذا تسأل؟»
فأجاب آندريه بهدوء عميق: «لست أسأل شيئا يا صاحب السعادة.»
استدارت عينا آراكتشييف نحوه: «خذ مقعدا. الأمير بولكونسكي؛ أليس كذلك؟» - «لست أسأل شيئا، لكن جلالته تفضل وأحال المذكرة التي رفعتها إليه سعادتكم.»
قاطعه آراكتشييف بلهجة بدأت متوددة، ثم أصبحت زاجرة، ثم أصبحت مشمئزة: «كما ترى يا عزيزي العزيز، لقد قرأت مذكرتك. إنك تعرض فيها نظما عسكرية جديدة؟ إن لدينا عددا وفيرا من النظم القديمة، تبلغ من الوفرة استحالة تطبيقها. واليوم يضع كل الناس مشاريع قوانين على الورق. إن الكتابة أسهل من التنفيذ.»
استأنف الأمير آندريه بلهجة مهذبة: «لقد جئت بناء على أمر جلالته لأطلع من سعادتكم على النتيجة التي أعطيت لمذكرتي.»
قال آراكتشييف: «لقد بينت رأيي على المذكرة نفسها وأحلتها إلى اللجنة.»
ثم نهض من وراء مكتبه وأخذ ورقة كانت أمامه وأضاف: «ها هي ذي!»
مد يده بالورقة إلى آندريه، فإذا بها تحمل السطور التالية المكتوبة دون مراعاة لاستقامة السطر، وقواعد الإملاء والتنقيط، وأحرف البدء: «غير منظم جديا، وعلى الرغم من أنه منقول عن النظام العسكري الفرنسي إلا أنه يختلف دون ما سبب عن المعمول به.»
سأل الأمير: «وإلى أية لجنة أحيلت مذكرتي؟» - «إلى لجنة النظام العسكري، وقد رشحت نبالتكم لتكونوا عضوا فيه، ولكن دون مرتب.»
فقال آندريه باسما: «لست أطلب مرتبا قط.»
كرر آراكتشييف: «دون مرتب. لقد حصل لي الشرف.»
ثم صاح بعد أن صرف الأمير آندريه: «هه، التالي! من بقي هنا؟»
الفصل الخامس
سبيرانسكي العظيم
بانتظار تسميته عضوا في اللجنة، عاد الأمير آندريه يوثق عرى الصداقة مع معارفه القدماء، وخصوصا ذوي السلطان منهم القادرين على إزجائه عونا ونفعا. سيطر عليه تطلع جامح غامض يشبه التطلع الذي أحس بمثله في أمسيات المعارك من قبل. أخذ يجذبه الآن نحو الأجواء العليا؛ حيث يبحث مستقبل ملايين الرجال. استدل من غضبة المسنين من الرجال، وفضول المستهترين، وتحفظ العارفين الملمين بالأمور وانشغالهم، وكثرة اللجان والمجالس التي أخذ عددها يتزايد كل يوم، على أن معركة داخلية كبرى يرأسها ويقودها ذلك الشخص الغامض، سبيرانسكي، الذي كان يعزو إليه دون أن يعرفه كل صفات العبقرية، تهيأ في ذلك العام نفسه. ولم تلبث مسألة الإصلاحات الكبرى، التي لم تكن لديه عنها إلا معلومات مبهمة، وصانعها الرئيس سبيرانسكي، أن استهوته لدرجة باتت معها أهمية النظام العسكري وغايته تشغل المرتبة التالية في مدرج تفكيره وانشغاله.
كان آندريه في مركز طيب يساعده على تلقي حفاوات قلبية في زياراته لمختلف المجتمعات الراقية في بيترسبورج؛ فحزب الإصلاحات كان يسلفه الاحترام؛ أولا: لما عرف عنه من ذكاء متقد وثقافة عالية، ولما اكتسبه إثر تحريره عبيده من شهرة في ميدان السخاء، وحزب الشيوخ المتذمرين الذي يفترض أن أفكار آندريه تتفق مع أفكار أبيه، كان يجد فيه حليفا له. أما النساء، وبعبارة أصح «المجتمع»، فقد كن يحتفين به على اعتباره زوجا منشودا غنيا ونبيلا، ويعتبرنه وجها جديدا تمام الجدة تحدق به هالة مغامرة موته المزعوم الخيالية، ونهاية زوجه المفجعة. أضف إلى ذلك أن كل من عرفنه من قبل بادرن إلى الاعتراف بصوت واحد بأنه تبدل تبدلا كبيرا في صالحه خلال الأعوام الخمسة المنصرمة؛ لانت عريكته، وتوطدت آراؤه، وحل الهدوء والتعديل اللذين يكتسبا مع الزمن محل الصلف والتصنع والهجاء. بات حديثه يشغل الأوساط، والناس يهتمون به ويبحثون عنه.
وفي اليوم التالي لزيارته لآراكتشييف، قصد منزله الكونت كوتشوبيئي لقضاء السهرة، وحدثه بمقابلته مع «سيلا آندريئيفيتش»، وكان كوتشوبيئي هو الآخر يطلق هذا اللقب على الوزير كلي النفوذ مشفوعا بذلك التنويه الغامض الساخر، الذي أظهره الملتمسون في قاعة الانتظار. - «يا عزيزي، لا غنى لك عن ميخائيل ميخائيلوفيتش حتى في قضيتك. إنه الصانع الأكبر. سوف أحدثه بالأمر. يجب أن يحضر هذا المساء.»
سأل آندريه: «ولكن ما علاقة القوانين العسكرية بسبيرانسكي؟»
بدا كأن سذاجة بولكونسكي قد أذهلت كوتشوبيئي وأدهشته، فابتسم وهز برأسه ثم استطرد: «لقد تحدثنا عنك في الأيام الأخيرة وعن مزارعيك الأحرار.»
وسأل عجوز من عصر كاتيرين وهو يلتفت نحو بولكونسكي في شيء من الازدراء: «آه! هذا أنت إذن أيها الأمير الذي حررت فلاحيك؟»
فقال بولكونسكي وهو يهدف إلى تخفيف حدة هذا الكهل وتهوين فعلته في نظره بدلا من استثارته، دون جدوى: «لقد كانت قطعة أرض لا تغل شيئا مذكورا.»
استطرد ذلك العجوز وهو يلقي نظرة إلى كوتشوبيئي: «كنت تخشى أن تصل متأخرا. هناك مسألة لا أستطيع فهمها: من الذي سيحرث الأرض إذا نحن أعطينا الفلاحين حريتهم؟ إن وضع القوانين ليس عملا شاقا، ولكن الإدارة شيء آخر. خذ سؤالا آخر: من أين يأتون برؤساء للألوية إذا كان كل واحد مرغما على اجتياز فحص؟»
فأجاب كوتشوبيئي وهو يعقد ساقيه ويسرح الطرف حوله: «من عداد الذين يتقدمون لاجتياز الفحوص على ما أعتقد!» - «على هذا، فإن في مكاتبي رجلا ممتازا اسمه بريانيتشنيكوف، وهو إنسان ثمين، ولكن في الستين من عمره، فهل يجب عليه كذلك اجتياز فحوص؟» - «لا شك أنها صعوبة، خصوصا أن الثقافة غير منتشرة بكثرة، ولكن ...»
لم يكمل كوتشوبيئي جملته، بل نهض وأخذ آندريه من ذراعه، ومضى يستقبل ضيفا جديدا طويل القامة، أشقر، أصلع، في الأربعين من العمر، عريض الجبهة، مستطيل الوجه، ناصع البياض بشكل غريب. كان الزائر مرتديا ثوبا رسميا «فراك» أزرق تزينه شارة على الجانب الأيسر، ويتدلى من عنقه وسام آخر، ذاك كان سبيرانسكي. حدس الأمير آندريه ذلك من فوره، وشعر بذلك الاضطراب الداخلي الذي يعتري المرء في اللحظات الرهيبة الجليلة من حياته. هل كان مبعث ذلك الشعور الاحترام أو الحسد أو الفضول؟ ذلك ما لم يكن يستطيع تبيانه، كانت شخصية سبيرانسكي كلها تبرز طابعا بديعيا ينم عنه لفوره ويدل عليه. لم يجد آندريه لدى كل من اختلط بهم من الشخصيات أكثر من هدوء سبيرانسكي وثقته بنفسه المتوفرين إلى جانب الحزق في الحركات، كما لم يجد في أحد قط مثل تلك النظرة الحية الأنيسة تنبعث من عينين نصف مغمضتين وكأنهما غارقتين، ومثل ذلك الحزم في ابتسامة جوفاء، أو ذلك الصوت الدقيق المتناسق، ولا مثل ذلك البياض الناصع النضير في الوجه، وتينك اليدين العريضتين بعض الشيء، ولكن الناعمتين السمينتين. إن مثل تلك النعومة في الجلد وذلك البياض الناصع في الوجه لم يجدهما آندريه إلا عند الجنود الخارجين من المشافي بعد إقامة طويلة فيها، كذلك كان سبيرانسكي؛ سكرتير الدولة ومشير الإمبراطور ورفيقه في إيرفورت؛ حيث تحدث أكثر من مرة هناك مع نابليون.
لم تكن نظرة سبيرانسكي تنطلق من رجل إلى آخر كما هي عادة المرء إثر دخوله مكانا حافلا بالناس، ولم يكن كذلك يتعجل الحديث، وكان صوته الهادئ ينم عن ثقته العظيمة في أن محدثه يصغي إليه، وما كان ينظر إلى الشخص الذي يخاطبه.
راح الأمير آندريه يسجل في ذاكرته بعناية خاصة كل كلمة وحركة تصدر عن سبيرانسكي، وككثير من الناس، وبصورة خاصة أولئك الذين ألفوا الحكم بصرامة على الآخرين، كان الأمير آندريه عند التقائه بشخصية جديدة، وخصوصا إذا كان لا يعرف صاحبها إلا عن طريق شهرته، يتوقع دائما أن يكتشف فيه موجزا لكل الفضائل الإنسانية.
قال سبيرانسكي لكوتشوبيئي: «إنه يأسف لتأخره بسبب استبقائه في القصر.» سجل آندريه كذلك ذلك التواضع المصطنع. وعندما قدم كوتشوبيئي الأمير إليه، وجه سبيرانسكي أنظاره إليه ببطء مشفوعة بتلك الابتسامة بالذات، ونظر إليه لحظة في صمت. أخيرا قال: «يفتني أن أتعرف عليك؛ لقد سمعتهم يتحدثون عنك كما سمع كل الناس بالطبع.»
ولما ألمح كوتشوبيئي إلى الاستقبال الذي تلقى به آراكتشييف الأمير آندريه، اتسعت ابتسامة سبيرانسكي، وقال وهو يبرز كل مقطع في كلماته: «إن السيد مانيتسكي - رئيس لجنة القوانين العسكرية - من أصدقائي الطيبين. إنني أستطيع إذا رغبت أن أقابلك به.»
ثم توقف برهة وأردف: «سوف تصادف لديه - على ما أرجو - انجذابا ورغبة في إخراج كل فكرة معقولة إلى حيز الوجود.»
تشكلت دائرة حول سبيرانسكي وطرح البوروقراطي العجوز الذي أطرى رجله بريانيتشنيكوف سؤالا هو الآخر.
راح آندريه يراقب كل حركات ذلك الرجل الذي كان بالأمس تلميذا مغمورا من طلبة اللاهوت، وأضحى اليوم يمسك بين يديه البضتين السمينتين كل مستقبل الروسيا دون أن يشترك في الحديث، أعجب بالطلاقة المحتقرة التي أجاب بها سبيرانسكي على سؤال العجوز. بدت كلمته المراعية وكأنها سقطت من علو لا تدرك رفعته. أعلن البوروقراطي وهو يرفع صوته قليلا ويبتسم أنه ليس الحاكم على المحاسن والمحاذير التي تترتب على قرارات جلالته.
لبث سبيرانسكي فترة ثم اخترق الحلقة وفضها، ومضى إلى الأمير آندريه واصطحبه إلى الجانب الآخر من البهو. قدر ولا شك أن الاهتمام بالأمير آندريه ضروري، قال له: «لم تسمح لي المحادثة الحامية التي ساقني إليها ذلك الكهل بالتحدث إليك أيها الأمير!»
أشفع قوله بابتسامة تدل على احتقار ضمني، أراد بها إفهام الأمير أنهما معا يعرفان كيف يقدران مثل تلك المحادثة التافهة، فأثر هذا الإطراء بالأمير آندريه، بينما استرسل سبيرانسكي: «إنني أعرفك منذ أمد: اعرف أولا تصرفك حيال فلاحيك، وهو مثال أول نود لو يحتذي به كثير من الآخرين، وبعد فإنك من المرافقين القلائل الذين لم يعتبروا القانون الجديد بمثابة إهانة لهم رغم الاستقبال السيئ الذي قوبل به هذا القانون من كافة المتصلين بالبلاط على اختلاف مناصبهم.»
قال الأمير آندريه: «نعم، إن أبي لم يرض أن أستغل هذا الحق وأفيد منه؛ لذلك فقد تتبعت السبل الرسمية.» - «لا شك أن السيد أباك رغم انتمائه إلى القرن الماضي أرفع بكثير من معاصريه الذين ينتقدون تدبيرا عادلا جدا، خصوصا وأنه يرفع ظلامة صارخة.»
أجاب بولكونسكي وهو يقاوم التأثير الذي أخذ سبيرانسكي يحدثه فيه: «الحق يقال إنني لا أعتقد أن كل الانتقادات لا ترتكز على أسس معينة.»
أزعجه أن يؤيده في شيء فأراد أن يناقضه، لكنه أخذ يعبر عن آرائه في شيء من الارتباك وهو الذي اعتاد على استعمال عبارات واضحة، والإفصاح عن آرائه بطلاقة ويسر. لقد كان شديد الانهماك آنئذ في مراقبة شخصية ذلك الرجل الشهير ودراستها.
اعترض سبيرانسكي بهدوء: «إن الأساس الوحيد لانتقادهم ليس إلا الكرامة فحسب.»
فأضاف الأمير آندريه: «ومصلحة الدولة أيضا.»
أخفض سبيرانسكي عينيه وسأل: «وكيف تفسر ذلك؟»
أجاب آندريه: «إنني من المعجبين بمونتيسكيو.»
1
إن نظريته القائلة أن مبدأ الملكية هو الشرف تبدو لي أرفع من كل نقاش، ويخيل إلي أن بعض الحقوق والامتيازات المعطاة للنبلاء إن هي إلا وسائل لدعم هذا التفكير.
اختفت الابتسامة من الوجه الشاحب فازدادت هيئة سبيرانسكي ملاحة، ولا شك أن الفكرة التي عرضها الأمير منذ حين بدت له جديرة بالاهتمام. شرع يقول بهدوء لا يتزعزع، رغم ما اعترى أسلوبه في التعبير عن أفكاره باللغة الفرنسية من ارتباك واضح، جعله أكثر تمهلا في حديثه مما كان عليه عندما كان يتحدث بالروسية: «إذا كنت تنظر إلى الأمر من الزاوية ...»
وراح يشرح بحجج بسيطة موجزة وواضحة أن الشرف لا يمكن أن يدعم بامتيازات تضر بسير الأمور المفيدة. إن الشرف ليس إلا الدراية السلبية للامتناع عن الأفعال الموجبة للزجر، أو بعبارة أخرى: حافز معين يحثنا على الحصول على الاستحسان أو على المكافآت التي هي دليل عليه، وخير ترتيب وضع في هذا الصدد كان ما وضعه الإمبراطور الأكبر نابليون، وأعني وسام جوقة الشرف. إن هذا الوسام أبعد ما يكون عن الإضرار بصالح الخدمة، لكنه يعاون فيها دون أن يشكل في حد ذاته امتيازا كبيرا لحامله في طائفته أو في البلاط.
أجاب آندريه على البديهة: «إنني لا أعترض على ذلك، لكن امتيازات البلاط تهدف كذلك إلى مثل هذه الغاية، وهو ولا شك فيه؛ إذ إن كل فرد من البطانة يعتبر نفسه شبه ملزم باحتلال مركزه بجدارة.»
فقال سبيرانسكي وهو يبتسم ابتسامة من يريد إنهاء ذلك السجال الذي بدأ يربك مخاطبه بعبارة لطيفة: «مع ذلك لم تشأ الإفادة من هذا الامتياز يا أمير.»
وأضاف: «شرفني بزيارة يوم الأربعاء، وسأكون قد التقيت بمانييتسكي خلال هذا الوقت، فأنقل إليك عند لقائنا أمورا مهمة، ثم إنني سأتمتع بالتحدث معك لفترة طويلة.»
ثم أغمض عينيه وحيا واختفى على الطريقة الفرنسية دون أن يستأذن من مصغيه.
الفصل السادس
مهمة بولكونسكي
لاحظ الأمير آندريه خلال الأيام الأولى من إقامته في بيترسبورج أن ألف شاعل صغير يعزل في الظل مجموعة أفكاره، التي نضجت في ذهنه خلال حياة الوحدة التي عاشها.
كان كلما عاد إلى مسكنه مساء سجل في مذكرته أربعا أو خمس زيارات أو مواعيد ضرورية محددة بالساعة كذا أو كذا. وكان ترتيب حياته على شكل يجعله موجودا في كل مكان في الوقت المحدد، يتطلب منه صرف حيوية كبيرة؛ لذلك لم يكن يعمل شيئا ولا يفكر في شيء. لم يكن وقته يكفي إلا للخطابة وإذاعة الآراء التي كونها لنفسه خلال عزلته في الريف، بنجاح مرموق. كان يلاحظ أحيانا باغتمام أنه كرر في يوم واحد أشياء بعينها في أوساط مختلفة، لكن أوقاته كانت مشغولة كلها، حتى إنه ما كان يجد فسحة من الوقت ليقول إنه لم يعد يفكر في شيء.
وكما وقع له عند كوتشوبيئي، أحدث سبيرانسكي على بولكونسكي تأثيرا قويا عندما استقبله يوم الأربعاء واختلى به وقتا طويلا أمضياه في حديث مطمئن.
كان آندريه يعتبر كثيرا من الناس عاجزين أو محتقرين، وكانت به رغبة عنيفة في العثور عند الآخرين على المثال الحي للكمال العقلي والأخلاقي الذي يصبو إليه، حتى إنه وجد نفسه على استعداد للتعرف على ذلك الكمال في شخص سبيرانسكي، فلو أن رجل الدولة ذاك كان من الوسط الذي نشأ آندريه فيه، أو على مثل ثقافته وتكوينه الخلقي، لاستطاع آندريه بسرعة اكتشاف نقائصه الإنسانية ومعايبه، لكن ذلك الفكر المنطقي كان يوحي إليه مزيدا من الاحترام لم يكن مستطيعا الإحاطة بكل فيضه. أضف إلى ذلك أن سبيرانسكي وإن كان يقدر كفاءات آندريه، ويجد ضرورة في اجتذابه إلى صفه؛ كان في حضرته يكشف عن كل ما للتفكير الهادئ من مصادر منزهة عن التحيز لوجهة دون أخرى، ويتملقه بذلك الإطراء الدقيق الممزوج بالزهو، الذي يقوم على أساس الاعتراف ضمنيا بأنه ومحدثه وحدهما قادران على تفهم كل سخافات الآخرين، والحكمة العميقة الكامنة في أفكارهما وحدهما.
استعمل سبيرانسكي أكثر من مرة خلال حديثهما المطول الذي دار بينهما مساء الأربعاء عبارات من هذا النوع: «إننا «نحن» نعتبر أن كل ما يتجاوز مستوى العادات المتأصلة ...» أو وهو يبتسم: «ولكننا «نحن أولاء» نريد أن تشبع الذئاب دون إضرار كبير بالغنم ...» أو أيضا: «إنهم لا يستطيعون فهم ذلك ...» وتنبئ لهجته أثناء ذلك: إننا «نحن»؛ أنت وأنا، نعرف تماما ما هي قيمتهم «هم»، وما هي قيمتنا «نحن».
مكنت هذه المقابلة الطويلة في نفس آندريه إحساسه الأول؛ كان يرى في سبيرانسكي منطقيا عميقا، ومفكرا كبيرا اكتسب السلطة بقوة حيويته ونشاطه، ولم يتصرف بها إلا لصالح روسيا. لقد كان سبيرانسكي بالدقة الرجل الذي ود لو كانه؛ ذلك الرجل الذي يلقي في غربال الفكر بكل بيانات الحياة، ولا يعترف على أهمية بينة منها إلا إذا اجتازت ذلك الاختيار. بدا له كل ما في آراء سبيرانسكي وعروضه من البساطة وشدة الوضوح، حتى إنه وجد نفسه يوافقه في كل شيء بديهيا. أما إذا كان قد أثار بعض الاعتراضات، فما ذلك إلا للبرهنة على استقلال الفكر وعدم الاستسلام دون بعض المقاومة. مع ذلك؛ فقد ظل أمر واحد يقلق آندريه؛ تلك النظرة الباردة عديمة الحساسية كالمرآة التي لا تسمح بالتغلغل إلى الروح، وتانك اليدان البضتان السمينتان اللتان كان ينظر إليهما رغما عنه كما يفعل المرء عادة عندما يكون في حضرة رجل متسنم السلطة؛ فالنظرة الشبيهة بانعكاسات المرآة، واليدان الناعمتان نعومة غريبة كانتا تزعجان بولكونسكي، كذلك كان يغيظه فيه الاحتقار المتناهي للرجال الذي كان سبيرانسكي يفضحه، والتنوع الكبير في الحجج التي يلجأ إليها لدعم آرائه وتأييدها. لقد كان يستعمل كل أنواع البرهنة باستثناء المقارنة، وينتقل بمزيد من الجرأة من أحدها إلى الآخر برضى بولكونسكي، فتارة يطرق الحقل العملي فيذم الحالمين، وأخرى يعمد إلى السخرية ويمطر خصومه بوابل من التجريح، أو يرتقي من أضيق مناحي المنطق إلى علم النظريات «الميتافيزيك» الأكثر ارتباطا بالفكر المجرد. وكان هذا الأسلوب الأخير في البرهنة سلاحه المفضل؛ إذ ينقل المسألة إلى الأجواء الميتافيزيكية العليا، معطيا تفسيرات للفضاء والفكر؛ ليخلص منها تفنيدا ثم يعود من جديد إلى بساط المناقشة.
على العموم، كان إيمانه الثابت في سلطة الفكر وحقوقه هو البادرة الرئيسية في ذكاء سبيرانسكي، التي كان لها تأثير شديد في نفس آندريه، وبالطبع فإن الشكوك المألوفة عند بولكونسكي لم تمس قط سبيرانسكي. إنه لم يقل مرة واحدة أن الإفصاح عن كل ما يفكر به المرء غير مجد، ولم يشك قط في أسس أفكاره ومعتقداته أو يبحث في قوامهما. ومن هنا كان سر افتتان بولكونسكي به.
أحس آندريه بإعجاب وشغف يشبه ما أحس به من قبل حيال بونابرت إزاء هذا الرجل منذ اللحظات الأولى. أما واقع انتماء سبيرانسكي إلى أسرة كنائسية؛ الأمر الذي سهل على الحمقى إيجاد نعوت مختلفة له ك «نسل خوري فاسد» أو «جريذ»، فإن هذا الواقع، رغم ما أتاحه لآندريه من أسباب لتخفيف حدة حماسه، كان يزيد في ذلك الحماس عفويا.
طرقا خلال خلوتهما الأولى موضوع اللجنة التشريعية، فشرع سبيرانسكي للأمير أن تلك اللجنة موجودة بالفعل منذ مائة وخمسين عاما، وأنها كلفت الدولة الملايين دون أن تعمل شيئا؛ لأن روزانكانف اقتصر في عمله على إلصاق عينان على كل مواد التشاريع المقارنة، قال: «ومن أجل هذه النتيجة الجميلة أنفقت الدولة الملايين! إننا نزعم إعطاء مجلس الشيوخ سلطة قضائية جديدة بينما لا قوانين لدينا! إنك ترى أيها الأمير أن الانزواء بالنسبة إلى أشخاص مثلك يعتبر خطيئة.»
اعترض الأمير آندريه بأن هذا النوع من النشاط يقتضي استعدادا فقهيا لا يملكه. - «لكن أحدا لا يملك مثل هذا الاستعداد، فماذا يجب أن نصنع إذن؟ إننا في دائرة فاسدة لا يمكن الخروج منها إلا بتحطيمها.»
وبعد ثمانية أيام، سمي آندريه عضوا في لجنة النظام العسكري، و(لدهشته البالغة) رئيسا للجنة فرعية في المجلس التشريعي، فوافق نزولا عند إلحاح سبيرانسكي على إعداد الجزء الأول من القانون المدني، وعمل في موضوع حقوق الإنسان، بالرجوع إلى قوانين نابليون وجوستينيان.
الفصل السابع
في المحفل الماسوني
قبل عامين؛ أي في سنة 1808، عندما عاد بيير من جولته الطويلة في أملاكه، وجد نفسه دون أن يتوقع على رأس الماسونية في بيترسبورج. أخذ ينظم مختلف المحافل، ويقبل الأعضاء الجدد، ويهتم بتوحيد مختلف المحافل والشرائع المتعلقة بها، ويبني بماله الخاص الهياكل الجديدة، ويتمم - في حدود إمكانياته - حصيلة التبرعات التي كان معظم الإخوان يظهرون حيالها بخلا وتمهلا، وأصبح يشرف وحده تقريبا على بيت الفقراء الذي أسسته الهيئة الماسونية في بيترسبورج.
وفيما عدا ذلك كانت حياته تسير على نهجها السابق من الفوضى وتنقل الفؤاد: ما زال يحب الطعام الجيد والشراب الطيب، لا يستطيع الامتناع عن المساهمة في فجور الأعزاب الذين كان يضمهم في بيئته، رغم اعتباره تلك الأمور مخزية ومنافية للأخلاق.
انتهى الأمير بيير بعد عام، رغم دوامة مسراته ومشاغله، إلى الشعور بأن بساط الماسونية الذي استقام فوقه بات ينسل من تحت أقدامه بقدر ما كان يتمسك به بكل قواه، ولكن كلما ازدادت تلك الأرض انزلاقا تحت قدميه، ازداد خلاصه منها استحالة. شعر عندما دخل في عداد الماسونيين أنه وضع قدما مطمئنة فوق سطح مستنقع سوي، لكنه ما كاد يضع قدمه حتى شعر بأنها تغوص، ولكي يختبر صلابة الأرض اختبارا أحسن، وضع قدمه الأخرى؛ فازداد غوصا وغرقا، وبات يخوض في وحل المستنقع حتى ركبتيه.
فترت همة جوزيف ألكسيئيفيتش منذ فترة من الزمن، فما عاد يهتم بمحافل بيترسبورج، ولم يعد يغادر موسكو. كان كل أعضاء المحافل أشخاصا من المجتمع الراقي يعرفهم بيير معرفة عميقة لا تسمح له اعتبارهم إخوان محفل فحسب، بصرف النظر عن كونهم الأمير ب... وإيفان فاسيلييفيتش د... أو غيرهما من الشخصيات المعروفة بضعفها، أو بفسادها وعدم نفعها. كان يرى تحت المآزر والشارات الماسونية الأخرى، الأوسمة والألبسة الرسمية التي تشكل وحدها سر حياة أصحابها.
وعندما كان يسطر في قوائم التبرعات - كلما شرع في جمعها - مبلغ عشرين أو ثلاثين روبلا في حقل «الداخل»، وغالبا في حقل «مدين»، أسماء عشرة من الأعضاء في مثل ثرائه، يذكر القسم الماسوني الذي يتعهد الإخوان المنتسبون بموجبه بتقديم كل ثرواتهم للغير، فترتفع في نفسه الشكوك التي يبذل كل جهد في سبيل كبتها ومحوها.
ينتظم الإخوان الذين يعرفهم بيير في أربع فئات، يضع في عداد الفئة الأولى أولئك الذين لا يساهمون قط في النشاط العملي، أو في أعمال المحافل والقضايا الإنسانية، بل يقصرون اهتمامهم على التعمق في أسرار النظام، وتسمية الله الثلاثية، والأسس الثلاثية لكل الأشياء: الكبريت والزئبق والملح، وعلى تفسير معنى المربع والرسوم التي على معبد سليمان. وكان بيير يكن لهذه الفئة من الإخوان التي تضم في عدادها أقدم الأعضاء وجوزيف ألكسيئيفيتش نفسه - كما كان يظن - احتراما عميقا، لكنه ما كان يشاطرهم مشاغلهم؛ لأن الناحية التصوفية في الماسونية ما كانت تجتذبه.
وفي الفئة الثانية، كان يضع نفسه وأولئك الذين يبحثون مثله ويترددون، والذين ما كانوا ييأسون من إيجاد الطريق المستقيمة ذات يوم، رغم أنهم لم يجدوا طريق الماسونية المستقيم بعد.
أما في الفئة الثالثة، وهي الأكثر عددا، فكان يضع الذين لا يرون في المذهب إلا أشكاله الخارجية وحفلاته، ويتمسكون بإنجاز طقوسه الشاقة دون الاهتمام بمضامينها ومعانيها الخفية. وهذا الوصف ينطبق على كل الأعضاء تقريبا، اعتبارا من فيلارسكي وحتى معلم المحفل الأكبر.
وتضم الفئة الرابعة كذلك عددا كبيرا من الإخوان معظمهم من الجدد، كانوا - كما لاحظ بيير - أناسا لا يؤمنون بشيء، ولا يرغبون في شيء، أناسا لم يدخلوا المحفل إلا ليتعرفوا على إخوان شبان وأغنياء من ذوي النفوذ والعلاقات وشرف المنشأ، الذين كانوا وافري العدد في المحفل.
لم يكن نشاط بيير يرضيه حقيقة؛ بدت له الماسونية أو - على الأقل - تلك التي عرفها مجرد شكليات، فراح يشك في النظم الماسونية الروسية دون أن يرقى به الشك إلى المبدأ نفسه، ويعتقد المحافل الروسية أخطأت النهج فانحرفت عن الأصول. قرر إذن أن يسافر في نهاية العام إلى الخارج ليطلع هناك على أهم أسرار النظام وأبعدها غورا.
عاد بيير إلى بيترسبورج في أول صيف 1809. عرف الإخوان الماسونيون في روسيا، استنادا إلى مراسليهم في الخارج، أن بيزوخوف قد اكتسب ثقة عدد من كبار ذوي المناصب المطلعين على الكثير من الأسرار الذين رشحوه لرتبة عليا، وأنه عائد ومعه الكثير من المشاريع النافعة للماسونية الروسية، فجاء الإخوان في بيترسبورج لزيارته ساعين إلى مرضاته، ولاحظوا أنه يخفي ويهيئ شيئا ما.
قرروا إقامة محفل من الدرجة الثانية، وعد بيير أن يطلع الإخوان فيه على الرسالة التي حمله إياها ذوو المناصب العليا في النظام إلى إخوانه، فكانت جلسة حافلة. نهض بيير بعد المراسيم المألوفة وفي يده خطابا مهيأ، قال وهو يلكن وقد احمر وجهه استحياء: «أيها الإخوان الأعزاء، لا يكفي أن ننجز أسرارنا في خفاء المحفل، بل يجب كذلك أن نعمل. نعم، نعمل. إننا نغط في النوم بينما يجب علينا أن نعمل.»
أخذ دفتره وشرع يقرأ:
لكي ننشر الحقيقة النقية، ونحصل على انتصار الفضيلة؛ يجب أن نستأصل من حولنا المعتقدات الفاسدة، وأن نعنى بتثقيف الناشئة، ونرتبط بصلات لا تحل عراها بالعقول المستنيرة، ونخذل الخرافة والإلحاد والحماقة بحكمة وجرأة، وأن نشكل من المخلصين لنا كتيبة تربط بين أفرادها وحدة الهدف، ونضع رهن إشارتهم النفوذ والقوة.
ولكي نبلغ هذه الغاية، يجب أن نعطي الفضيلة الغلبة على الرذيلة، وأن نعمل جاهدين على أن ينال الرجل الطيب مكافأته الأبدية على فضائله ابتداء من هذا العالم الفاني، غير أن عددا كبيرا من المؤسسات السياسية الخارجية تقف حائلا دون تحقيق أهدافنا العظمى. ماذا نعمل إذن في مثل هذا الحال؟ هل نشجع الثورات لنقلب كل شيء، ونستعمل القوة ضد القوة؟ إننا بعيدون كل البعد عن ذلك. إن كل إصلاح يفرض بالقوة يستوجب اللوم والمؤاخذة؛ لأنه لا يصلح السوء إذا ظل الأشخاص كما هم، ولأن الحكمة ليست في حاجة إلى العنف.
يجب أن يهدف نظامنا إلى تكوين أشخاص أقوياء ثابتي العقيدة صالحين، تربطهم وحدة العقيدة التي تقوم على الرغبة في مطاردة الرذيلة والسوء بكل قوة، وفي كل مكان، وعلى حماية المناقب والفضيلة، وتخليص المستحقين من حمأة الرذيلة، وربطهم بنا، وإشراكهم معنا. وبذلك يتمكن نظامنا من القدرة على شل أيدي المساعدين على الفوضى دون أن يشعروا بذلك، وتوجيههم الوجهة الصالحة دون أن يشعروا بذلك أيضا. وبالاختصار: يجب إقامة إدارة عالمية يمتد محور نشاطها إلى العالم كله، دون أن تصطدم مصالحها بمصالح الحكومات الأخرى. وستظل هذه الحكومات تعمل، وستبقى حرة في تصرفاتها، ما عدا ما يتعلق بمقاومتها لبرامج نظامنا التي تقوم على أساس نصرة الفضيلة على الرذيلة. لقد كان هذا البرنامج هو هدف النصرانية التي علمت الناس أن يكونوا عقلاء وطيبين، وأن يتبعوا في مصلحتهم الشخصية نهج وتعاليم الأفضل منهم، والأكثر حكمة وتعقلا.
عندما كان كل شيء غارقا في الظلمات كانت العظة وحدها تكفي، وكان إعلان الحقيقة يجد في جدته نفسها قوة خاصة. أما في أيامنا هذه فإننا في حاجة إلى وسائل أكثر قوة ونفوذا: يجب أن يجد الرجل الذي يخضع لسيطرة حواسه افتتانا عميقا بالفضيلة. ولما كان لا يمكن استئصال النزوات والميول، يجب توجيهها نحو هدف نبيل، وعلى ذلك يجب على كل منا أن يقدر على إرضائها في حدود الفضيلة، وعلى نظامنا أن يهيئ له الأسباب.
وعندما نحصل على عدد معين من المتشيعين الجديرين بنا في كل دولة، يعمل كل منهم على إيجاد اثنين آخرين يتحدان مع البقية، وهكذا حتى يصبح ميسورا لنظامنا الذي عمل حتى الآن في السر كثيرا من الأعمال النافعة للإنسانية، والسعي إلى غايتنا المنشودة.
أحدث الخطاب في المحفل تأثيرا قويا حتى واضطرابا، استقبلته الأكثرية ببرود أدهش بيير؛ لأنها ظنت أنه ينطوي على المبادئ الهرطقية الخطيرة. أثار المعلم الأكبر اعتراضات، وشرح بيير أفكاره بحماسة متزايدة. لم يشاهد أحد من الإخوان من قبل جلسة صاخبة كهذه، وتألفت كتل وأحزاب، بعضها يتهم بيير بالهرطقية، والبعض الآخر يدافع عنه. أدرك بيير لأول مرة أن تباين العقليات اللامحدود يحول دون كل حقيقة - مهما كان نوعها - والظهور بمظهر واحد في نظر شخصين مختلفين، حتى أولئك الذين اتخذوا موقف الدفاع عنه، لم يفهموا أقواله إلا على طريقتهم، فأدخلوا عليها قيودا وتعديلات ما كان يستطيع الموافقة عليها، وهو الذي ما أورد أفكاره كما أدركها وفهمها.
لفت المعلم الأكبر انتباهه في نهاية الجلسة بسخرية مقصودة إلى أنه تحمس أكثر مما ينبغي، ولا شك أن حب الكفاح قد سيره أكثر من حب الفضيلة. لم يجب بيير بشيء بل سأل بإيجاز عما إذا كان عرضه مقبولا، ولما تلقى جوابا سلبيا خرج دون أن ينتظر الشكليات المألوفة ومضى إلى منزله.
الفصل الثامن
عودة هيلين
عادت الكآبة العميقة التي يخشاها بيير أعظم الخشية تتسلط عليه. لبث طيلة الأيام الثلاثة التي تلت خطابه في المحفل متمددا على أريكته لا يريد مبارحتها، ولا يستقبل أحدا.
في هذه الفترة بالذات، تلقى رسالة من زوجته تلتمس منه موعدا لمقابلته: كانت تعرب له فيها عن رغبتها المتقدة في رؤيته؛ لتكرس له وجودها مختارة، وتعلمه في ختامها بقرب عودتها إلى بيترسبورج بعد مقام طويل في الخارج.
وبعد فترة من الزمن، اقتحم بابه أحد إخوانه الماسونيين، الذي كان يتمتع بأحقر نصيب من تقديره، ووجه الحديث نحو حياة بيير الزوجية، فصور له على شكل نصيحة أخوية أن الحزم الذي كان يبديه حيال زوجته غير عادل؛ لأن رفض السماح والصفح عن التائب يتنافى مع واحدة من القواعد الأساسية لنظامهم المقدس.
وبنفس الوقت، بعثت حماته؛ زوجة الأمير بازيل، تطلب إليه مقابلتها. كانت تتوسل إليه أن يمنحها بعض وقته؛ لأن لديها مسألة هامة تريد بحثها معه. أدرك بيير أنهم يتآمرون في الخفاء لمصالحته مع زوجته، لكن حالته المعنوية كانت بانحطاط كبير، حتى إنه لم يحفل بالأمر مطلقا. بات كل شيء في نظره عديم القيمة، واقتنع بأن لا شيء في الحياة يستوجب البحث في مضاعفاته. لقد كان فريسة الجمود وخمود الهمة، فما عاد استقلاله يشغل باله، وأحس بأن قراره الحازم القاضي بمعاقبة زوجته قد تخاذل.
فكر: «ليس هناك من هو على حق، وبالتالي من هو مذنب، فلا يمكنني إذن أن أتهمها بشيء.»
وإذا لم يبادر من فوره لإقامة الصلح مع هيلين، فما ذلك إلا لأن حالة الوهن التي كان عليها منعته من المباشرة بأي شيء، ولو جاءت زوجته تزوره لما صدها حتما. ماذا يهمه وهو على تلك الحال من المشاغل أن يعيش معها، أو يبقى وحيدا؟
ودون أن يجيب زوجته وحماته على رسالتيهما، قصد ذات يوم جميل إلى موسكو لاستشارة جوزيف ألكسيئيفيتش.
وفيما يلي ما دونه في مذكرته:
موسكو، 17 تشرين الثاني (نوفمبر)
إنني أخرج للتو من لدن «المحسن» وأبادر إلى إيراد مشاعري هنا. إن جوزيف ألكسيئيفيتش يعيش عيش كفاف، ويشكو منذ عما قريب ثلاث سنوات من مرض أليم في المثانة. لم يسمع من أحد قط صوته يجأر بالشكوى أو الأنين. إنه ينكب على الدراسة منذ الصباح وحتى ساعة متأخرة من الليل، باستثناء الساعات التي يتناول خلالها طعاما بسيطا شديد التقتير. استقبلني بمحبة وأجلسني على السرير حيث كان مستلقيا. حييته بإشارة فرسان الشرق والمقدس، فأجابني بإشارة مثلها وسألني عما تعلمته في محافل إيكوسيا وبروسيا. فسرت له على قدر طاقتي، وعرضت عليه الأفكار التي أدليت بها في المحفل في بيترسبورج، وبينت الاستقبال الرديء الذي لقيته تلك الآراء، ذلك الاستقبال الذي سبب انقطاعي عن الإخوان. وبعد أن فكر جوزيف ألكسيئيفيتش طويلا، شرح لي وجهة نظره التي أنارت لي من فورها كل الماضي، والسبيل الذي ينفتح أمامي في الحاضر. ولقد دهشت حينما سمعته يسألني عما إذا كنت لا زلت أذكر الهدف الثلاثي للنظام: (1) المحافظة على الأسرار والتعمق فيها. (2) تطهير الذات، ومعاقبة النفس وردعها؛ لإعدادها للاشتراك في تلك الأسرار. (3) إصلاح الجنس البشري عن طريق المجهودات المبذولة في سبيل ذلك الإصلاح؛ أي هدف من هذه الأهداف الثلاثة يعتبر أكثر أهمية؟ إنه دون أدنى شك إصلاح الذات؛ إنه الهدف الوحيد الذي نستطيع أبدا السعي لبلوغه رغم كل الاحتمالات، لكنه بنفس الوقت يتطلب منا أكبر الجهد والاجتهاد؛ لذلك فإننا نزوغ عنه، يخدعنا الكبرياء لنتعلق: إما بالتعمق في الأسرار الذي يمنعنا تدنسنا من الولوج فيها والتوغل في خفاياها، وإما بإصلاح الجنس البشري، في حين أننا نقدم أنفسنا مثالا لفساد الخلق والقباحة. إن الهرطقة على اختلاف أنواعها الملوثة بالكبرياء، الطامعة في لعب دور اجتماعي ليست إلا عقيدة رديئة. واستنادا إلى ذلك، لامني جوزيف ألكسيئيفيتش على ما تقدم مني وعلى خطابي، فوافقته من أعماق روحي.
وعندما تقدم مني شرعنا نتحدث في مشاكلي العائلية، قال لي: «إن واجب الماسوني الحقيقي الرئيسي يقوم - وأكرر لك - على إصلاح ذاته، لكننا غالبا نتوهم أن بمقدورنا بلوغ هذه الغاية بأعظم سرعة بابتعادنا عن كل متاعب الحياة وأثقالها، بينما الأمر على العكس يا عزيزي السيد الأعز. إننا لا نبلغ هذا الهدف إلا وسط مصائب الدهر وكروبه، وذلك للأسباب التالية: (1) معرفة ذاتنا؛ لأن الإنسان لا يمكنه التعرف على نفسه إلا بالمقارنة. (2) الإصلاح، وهذا لا يتم إلا بالجهاد والكفاح. (3) الفضيلة؛ أي حب الموت. إن صروف الحياة وحدها تستطيع إظهارنا على كل الزهو الباطل، وإلهامنا حب الموت؛ أي الرغبة في بعث في عالم آخر جديد.» إن هذه الكلمات على جانب كبير من الأهمية لا تضاهيها إلا أهمية صاحبها جوزيف ألكسيئيفيتش، الذي رغم آلامه الجسدية الخطيرة لا يشكو أبدا من عبء الحياة، وعلى الرغم من حبه للموت؛ فإنه يشعر بعدم إعداد نفسه إعدادا كافيا، رغم كل النقاء والنبل اللذين تتصف بهما حياته الخاصة.
ثم فسر لي المحسن المعنى العميق لمربع الخليقة الأكبر، وبين لي أن الأرقام ثلاثة وسبعة هي أساس كل شيء. نصحني كذلك أن لا أنقطع نهائيا عن الإخوان في بيترسبوج، ولكن أن أحذرهم من تبعات الكبرياء ونتائجه، وأعيدهم إلى طريق المعرفة الحقيقية وإصلاح الذات، بنفس الوقت الذي أتشاغل خلاله بالقيام بأعمال من الدرجة الثانية في المحفل. أما فيما يتعلق بي شخصيا، فقد قادني إلى مراقبة نفسي، وأعطاني لهذه الغاية دفترا هو هذا الذي أخط على صفحاته هذه المذكرات، والذي سأسجل فيه كل حركاتي في المستقبل.
بيترسبورج، 23 تشرين الثاني
تصالحت مع زوجتي؛ جاءت حماتي تذرف الدمع وتقول لي: «إن هيلين هنا.» واستحلفتني أن أصغي إليها. إنها بريئة أيأسها هجراني وأشياء أخرى أيضا. إنني أعرف تماما أنني إذا سمحت لنفسي بالذهاب لرؤيتها لن أستطيع رفض ملتمسها طويلا، وفي هذا التردد الذي وقعت فيه كنت أتساءل عمن ألجأ إليه. لو أن المحسن كان هنا؛ لكانت نصائحه جد ثمينة ومفيدة. تماسكت فترة طويلة وأعدت تلاوة رسائل جوزيف ألكسيئيفيتش، ثم تذكرت أحاديثنا وخرجت بنتيجة نهائية: ينبغي أن أتقبل من يبتهل إلي، وأن أمد إلى كل الناس يد العون، وخصوصا إلى ذلك الشخص الذي تربطه بي وشائج متينة. يجب علي إذن أن أحتمل عذابي ، لكنني إذا كنت أصفح عنها حبا في الفضيلة؛ فإنني أتوقع أن لا يكون لرابطتي معها إلا هدف روحي فحسب. أما زوجتي فقد رجوتها أن تنسى الماضي، وتصفح عن أخطائي التي قد أكون ارتكبتها حيالها. أما أنا فليس عندي شخصيا ما يستحق أن أصفح عنه. لقد سرني أن استطعت التحدث إليها على هذا النحو، وأن تظل جاهلة مقدار النصب الذي احتملته بموافقتي على رؤيتها. لقد أقمت في الطبقة العليا من مسكننا، وأتذوق الآن البهجة التي وفرها لي شعوري بالتجدد.
الفصل التاسع
عودة إلى المجتمع
وفي تلك الأثناء، على جري العادة، كان أفراد المجتمع الراقي الذين يتقابلون في البلاط أو في الحفلات الراقصة الكبرى ينقسمون إلى حلقات عديدة، تحتفظ كل منها بطابعها الخاص، وكانت الحلقة الأكثر عددا هي حلقة الفرنسيين، التي يميل أفرادها إلى التعاون مع نابليون، ويرأسها الكونت روميانتسيف والكونت دو كولنكور.
1
وما كادت هيلين تعود إلى الحياة مع زوجها حتى شغلت أرفع مقام مرموق في المجتمع. أخذ هؤلاء السادة الذين يمتون إلى السفارة الفرنسية وعدد كبير من الشخصيات ذوي الأذواق المتجانسة يرتادون أبهاءها.
صدف أن كانت هيلين في إيرفورت عندما تمت المقابلة العتيدة بين الإمبراطورين، فصادفت هناك نجاحا مرموقا، وارتبطت بعلاقات مع كل شخصيات أوروبا النابليونية المهمة. ولقد لاحظها الإمبراطور نفسه ذات مرة في المسارح فقال عنها: «إنها حيوان رائع.» ولما كانت محاسنها قد ازدادت؛ فقد بدا فوز هذه المرأة البديعة الأنيقة واجتذابها الأنظار أمرا طبيعيا في نظر بيير، لكنه كان يتساءل أبدا: كيف استطاعت خلال هذين العامين أن تكتسب شهرة «المرأة الفاتنة الجميلة بقدر ما هي ذكية». كان الأمير الشهير دولين
2
يكتب لها رسالات من ثماني صفحات، بينما كان بيليبين يدخر كلماته ليترك لهيلين الأولوية في الحديث. وعلى هذا، فإن ولوج بهو الكونتيس بيزوخوف كان بمثابة وسام فكري للداخل إليه. كان الشباب يتعمدون قراءة الكتب قبل الذهاب إلى ندوتها ليعدوا لأنفسهم مواضيع يطرقونها، بينما يأتمنها أمناء السر في السفارات والسفراء أنفسهم، على أسرارهم الدبلوماسية. وبالاختصار، كانت سلطة مستقلة من نوعها، وكان بيير - وهو الذي يعرف أنها حمقاء سخيفة - يحضر أحيانا مجالسها وهو فريسة لمزيج غريب من القلق والخوف من تلك الحفلات والسهرات والولائم، التي كانوا يتحدثون خلالها عن السياسة والشعر والفلسفة. كان يحس بشعور الحاوي الذي يخاف أن يرى خدعته تنكشف في كل لحظة، لكن شهرة الكونتيس بيزوخوف بوصفها امرأة فتانة متقدة الذكاء كانت وطيدة جدا، سواء أكانت الحماقة عاملا ضروريا لإدارة ندوة من هذا النوع، أم كان الأغرار يجدون متعة في أن يغرر بهم، حتى إن هيلين كانت تستطيع الإدلاء بكل الحماقات التي تخطر ببالها؛ ليهلل الحاضرون كلهم إعجابا بكل كلمة نطقت بها، يحاولون البحث عن معنى عميق فيها؛ معنى ما كانت تحمل نفسها مشقة الإفصاح عنه.
كان بيير الزوج المنشود لهذه الاجتماعية اللامعة، زوج «سيد عظيم»، ساهم الفكر، شاذ الطباع، لا يزعج أحدا ولا يتضايق من جلبة البهو، بل ويصلح بذات الوقت ليكون دافعا مبرزا لأناقة زوجته وظرفها. ساعدته اجتهاداته الأخرى المنافية لكل هذه المظاهر طيلة عامين كاملين، واحتقاره الكلي لكل ما عداها، على أن يتخذ في مثل هذه الندوات، التي لا تثير اهتمامه، موقف لامبالاة منطلقة عطوف على كل المجتمعين لا يمكن اكتسابها بالصنعة؛ الأمر الذي يوحي ببعض الاحترام. كان يدخل بهو زوجته وكأنه داخل إلى قاعة عرض يعرف فيها كل الموجودين، فيستقبل كلا منهم بمثل ما يستقبل الآخر، ثم يظل بعيدا عنهم جميعا بعدا متساويا. فإذا بدت له إحدى المناقشات مجدية هامة، اشترك فيها بكل رغبة، وحينئذ يعرب عن آرائه مدندنا بوجهات نظر كانت أحيانا تتنافى كليا مع الجو الذي تذاع فيه، دون أن يأبه لمعرفة ما إذا كان السادة أعضاء السفارة موجودين أم لا، لكن زبائن الندوة كانوا يعرفون تماما كيف يعاملون ذلك الزوج البسيط الشاذ؛ زوج «أبرز امرأة في بيترسبورج»، فلا يأبهون بحماقاته، ولا يحملونها على محمل الجد.
لم يكن بين العدد الكبير من الأشخاص الذين يحاصرون ندوات الكونتيس بيزوخوف يوميا، بعد عودتها من إيرفورت، من يلقي مثل العناية التي يلقاها بوريس دروبيتسكوي ، الذي حصل خلال تلك الفترة على مركز جيد. كانت هيلين تسميه «تابعي» وتعامله معاملة الطفل. صحيح أن البسمات التي كانت بها ما كانت تختلف عن بسماتها للآخرين، لكن بيير كان يغتم أحيانا اغتماما مؤسيا بسببها. وكان بوريس يظهر لبيير احتراما خاصا موسوما بوقار كئيب، لكن هذا الاحترام كان يقلقه بالمثل. لقد تألم بقسوة هائلة قبل ثلاثة أعوام للإهانة التي أصابته بها زوجته؛ لذلك فقد كان الآن يحاول تجنب إهانة مماثلة، فهو ليس زوجا لزوجته، وهو كذلك لا يسمح لنفسه بالارتياب في سلوكها. كان يقول في سره: «لقد أصبحت الآن «مشبوهة»؛ لذلك فإنها ولا شك قد عزفت عن كل تصرفاتها الشائنة السابقة.»
ويكرر لنفسه قائلا: «لم يسبق أن أصيبت «مشبوهة» بضعف عاطفي.»
والله وحده يعلم من أين أتى بهذا الزعم وأعطاه براءة المبدأ الثابت، مع ذلك، فإن وجود بوريس المستمر في بهو زوجته كان يحدث في مزاجه تأثيرا غريبا: يشل كل أعضائه، ويذهب بحرية حركاته وطبيعتها الغريزية.
كان يقول لنفسه: «يا للنفور العجيب! مع أنه كان من قبل يعجبني كل الإعجاب.»
وإذن فإن بيير كان في نظر الأوساط الراقية سيدا كبيرا، وزوجا كفيف البصر، شاذا لزوجة شهيرة، مبدعا، ولكن غير غبي، عاطلا عن العمل، ولكن غير مسيء إلى أحد. وبالاختصار، فتى طيبا باسلا، لكن في نفس بيير ظلت تقوم خلال هذه الفترة زوبعة مركبة عسيرة تصطخب في أعماقه، فتفتح له آفاقا كثيرة وتسلمه إلى الشكوك والريب، لكنها كذلك كانت تتيح له متعا روحية جمة.
الفصل العاشر
يوميات بيير
27 تشرين الثاني
استمر بيير يدون في مذكرته، وفيما يلي ما سجله فيها خلال تلك الفترة:
24 تشرين الثاني (نوفمبر)
نهضت في الساعة الثامنة وقرأت الكتاب المقدس ثم ذهبت إلى جمعيتي - ذلك أن بيير وافق نزولا عند نصح المحسن على المساهمة في جمعية - عدت لتناول الطعام فتناولته وحدي؛ لأن لدى الكونتيس عددا كبيرا من المدعوين الذين لا أميل إليهم. أكلت وشربت بمقدار ثم نسخت بعد الطعام مستندات للإخوان. وفي المساء، عندما نزلت إلى جناح الكونتيس رويت قصة مثيرة عن ب . لكنني تبينت بعد فوات الأوان، ومن جلجلة ضحكات الموجودين أنني أخطأت في سرد تلك القصة.
إنني أنام سعيدا مشرق النفس. اللهم يا قدير، ساعدني على السير في سبلك وأعني: (1) هزيمة نزعتي إلى الغضب بالصبر والدعة. (2) التفوق على المنكر بالتعنف والاشمئزاز. (3) إبعادي عن الزهو الدنيوي، ولكن دون أن تقصيني أو تبقيني في معزل عن: (أ) شئون الدولة. (ب) مصالح الأسرة. (ج) العلاقات الودية. (د) المشاغل ذات الطابع الاقتصادي.
نهضت متأخرا، وبعد أن استيقظت لبثت فترة طويلة في سريري فريسة الكسل. اللهم مد لي يد المساعدة، وأعطني القوة على السير في سبلك. قرأت في الكتاب المقدس، لكن بغير تركيز الحواس الكافي. جاء الأخ أوروسوف، فتحدثنا عن البطلان الذي يسيطر على الناس. أطلعني على مشاريع الإمبراطور الجديدة. كدت أبادر إلى نقدها عندما تذكرت فجأة قواعدي وكلمات محسننا القائلة: «إن الماسوني الحقيقي يجب أن يكون أداة ذات حمية وعزم في يد الدولة، عندما يطلب إليه المساهمة في شيء، ومتفرجا سلبيا عندما لا تدعو الحاجة إليه. إن لساني هو عدوي. جاء الإخوان «ج. ف» و«أو» لزيارتي؛ اتخذنا الإجراءات لاستقبال جديد في المحفل. أنا طالب دور الملقن للعضو الجديد. إنني أحس أنني غير جدير بذلك، وغير معد إعدادا طيبا. تناقشنا بعدئذ في المعنى الواجب إعطاؤه للأعمدة ودرجات الهيكل السبع، والعلوم السبعة، والفضائل السبع، والرذائل السبع، ومنح الروح القدس السبعة. كان الأخ «أو» لبقا طليا. أقيمت الحفلة مساء. ساهم ترتيب المحفل الجديد في إضفاء جو من البهاء على المشهد. إن من قبلناه هو بوريس دروبيتسكوي. لقد زكيته ولقنته. كنت طيلة الوقت الذي قضيته بصحبته في الحجرة المظلمة نهبا لشعور غريب. إنني أشعر نحوه بحقد أعمل عبثا على التغلب عليه، إنني أود بكل إخلاص أن أنقذه وأقوده في طريق الحقيقة، لكن الأفكار السيئة لا تغادرني. كنت أحدث نفسي بأنه لم ينضم إلى صفوفنا إلا للتقرب من بعض الشخصيات الهامة ذات النفوذ الواسع المتوفرة في محفلنا ليفوز بعطفها؛ ألم يسألني مرارا عما إذا كان «ن» و«س» أعضاء في محفلنا، وهو الأمر الذي لا حق لي في البوح به؟ أضف إلى ذلك ما يبدو لي من أنه غير قابل للشعور نحو نظامنا المقدس بالاحترام اللازم؛ لأنني أراه كثير التشاغل راضيا عن نفسه رضا لا ينتظر معه أن يرغب في تهذيب روحه. مع ذلك، لم تكن لدي أسباب خاصة للشك فيه، لكنني أشعر أنه غير مخلص، حتى خيل إلي طيلة الفترة التي قضيتها معه في الهيكل المعتم أنه كان يبتسم باحتقار لسماع نصائحي، فتمتلكني الرغبة في أن أخرق صدره العاري بالسيف الذي في يدي. لم أستطع إظهار بلاغتي، لكنني ما كنت أجد لشكوكي أسسا بينة لأطلع الإخوان والمعلم الأكبر عليها. آه يا مهندس الكون الأعظم! ساعدني على إيجاد الطريق الذي يقودني خارج متاهة الكذب.
وبعد ثلاث صفحات بيضاء، تعود كتابة المذكرات كما يلي:
وقعت لي مقابلة طويلة ومفيدة مع الأخ «ف»، الذي أوصاني بالتعلق بالأخ «أ». اطلعت على أشياء كثيرة رغم أنني لا أستحق الاطلاع عليها. إن آدانوي هو اسم خالق الكون، وأيلويم اسم الذي يريده. أما الاسم الثالث وهو يفوق حد الوصف، فيعني «الكل». دعمت فؤادي محادثاتي مع الأخ «ف»، وثبتت جناني وخطواتي في طريق الفضيلة «هو» موجود، وكل شيء يزول. إنني أرى بوضوح الفرق بين العلوم الفارغة التي يعلمونها في العالم، ومبادئنا المقدسة التي تحيط بكل شيء. إن العلوم البشرية تحطم كل شيء لتفهم، وتقتل كل شيء لتفحص. أما في مبادئ نظامنا، فعلى العكس، الكل وحدة، كل شيء يصبح مفهوما في تعقيده وفي حياته. إن الثلاثيات؛ عوامل الأشياء الثلاثة هي: الكبريت والزئبق والملح. أما الكبريت فيضم خصائص الزيت والنار ممتزجة، وباتحاده مع الملح يثير في نفسه بفعل النار التي يطويها بين جوانحه الرغبة التي يجتذب الزئبق بواسطتها، فيمسك به، ويحتفظ به، ويحدث - بالاتحاد معه - الأجساد الملموسة. أما الزئبق، فهو الجوهر الروحي في حالته السائلة، وفي حالة التصعيد: المسيح، الروح القدس، الكون.
3 كانون الأول (ديسمبر)
استيقظت متأخرا وقرأت في الكتاب المقدس، ولكنني لم أتحسس بما قرأت. أخذت أذرع البهو. كنت أريد التفكير، لكن خيالي راح بدلا من ذلك يدفع في ذاكرتي بمشهد مضى منذ أربعة أعوام. قال لي السيد دولوخوف عقب مبارزتنا وقد التقى بي في موسكو: «إنه يأمل أن أنعم الآن - رغم غياب زوجتي - باستقرار فكري كامل.» لم أجبه حينذاك، لكن ها إنني هذا الصباح وأنا أستعيد كل تفاصيل ذلك اللقاء، أوجه له الخطب الأكثر حنقا وهجاء لاذعا. بلغ غضبي مبلغ الهيجان عندما ثبت إلى نفسي؛ لقد طردت هذه الأفكار لكنني لم أجد في ذلك عزاء كافيا.
وبعدئذ جاء بوريس دروبيتسكوي وراح يقص أحدوثات. لم تعجبني زيارته منذ الوهلة الأولى؛ لذلك فقد بسطت أمامه موضوعات شحيحة الأنس. جاوبني على أقوالي. ثرت وكلت له عددا من الأشياء المقذية الخارجة عن حدود اللباقة، فصمت، وأسفت متأخرا على أقوالي. رباه! إنني لا أعرف مطلقا كيف أتصرف معه بسبب كبريائي وكرامتي. إنني أضع نفسي في مستوى أعلى من مستواه، ثم أهوى إلى درك أحط، والواقع أنه بينما يظهر تساهلا حيال سماجاتي لا أشعر حياله إلا بالكره. رباه! امنحني القدرة على أن أرى في حضرته عيبي أكثر مما أراه عادة، وأن أعدل سلوكي بشكل يصبح معه ملائما حتى بالنسبة إليه. رقدت قليلا بعد الغداء، وبينما أنا أفقد حواسي تدريجيا سمعت صوتا يهمس في أذني بوضوح: «لقد جاء يومك.»
حلمت أنني أسير في العتمة حتى وجدتني فجأة وسط كلاب تحيط بي، لكنني لبثت أسير دون أن أفرق، وفجأة أطبق كلب صغير بأسنانه على ربلة ساقي اليسرى، ولما لم يشأ التخلي عنها أخذت أخنقه، وما كدت أتخلص منه حتى ألقى كلب آخر أكبر من الأول بنفسه علي وعضني. رفعته بين يدي، وكلما رفعته ازداد كبرا وثقلا، وفجأة جاء الأخ «أ» وأمسك بيدي، ثم جرني إلى بناء لا يمكن الدخول إليه إلا بالعبور فوق لوح ضيق من الخشب، فلم أكد أطأ بقدمي ذلك المعبر حتى ترنح وانهار، وعندئذ تسلقت حاجزا دائريا كانت يداي لا تبلغانه إلا بصعوبة. وبعد جهود مضنية ، استطعت أن أرفع نفسي قليلا ، وأصبح جذعي متدليا في جهة، وساقاي في الجهة الأخرى. وفجأة لمحت الأخ «أ» واقفا فوق الحاجز يشير إلى ممشى في حديقة. وفي تلك الحديقة بناء فسيح جميل. رباه! يا مهندس الكون الأعظم، ساعدني على التخلص من كلابي، وأعني من رغباتي وشهواتي، وخصوصا من الأخيرة التي تتركز فيها سلطة كل الرغبات الأخرى وقوتها. ساعدني اللهم على الدخول إلى هيكل الفضيلة الذي شاهدته في الحلم.
7 كانون الأول (ديسمبر)
حلمت أن جوزيف ألكسيئيفيتش موجود عندي، فكنت سعيدا جدا بزيارته، راغبا في معاملته أحسن معاملة. مع ذلك، كنت أثرثر مع آخرين ثرثرة لا آخر لها. أدركت فجأة أن هذا التصرف لا يمكن أن يرضيه، واعتلجت في نفسي رغبة ضمه بين ذراعي. وبينما كنت أقترب منه، رأيت وجهه يتبدل فيعود إلى الشباب، وسمعته يحدثني ببعض كلمات عن مبادئ النظام، ولكن بصوت هامس شديد الخفوت، حتى إنني لم أستطع فهم أقواله، ثم خرجنا بعدئذ جميعا من الغرفة، فوقع أمر على جانب من الغرابة: كنا جالسين أو مستلقين على الأرض وهو يحدثني. أما أنا، فكنت أريد أن أكشف له عن حنوي، وبدون أن أصغي إلى أقواله، تصورت حالة نفسي الداخلية التي أمدها الله بعون من لدنه. تلألأت دموع في عيني، فكنت أغتبط أن يكون رآها، لكنه حدجني بنظرة متذمرة وتنحى عني - وبعنف فجأة - واضعا حدا للحديث. روعت وسألته عما إذا كان قد رغب في التحدث عني.
لم يجبني بشيء، لكنه مع ذلك رمقني بنظرة مؤنسة، وفجأة انتقلنا، دون أن أدري كيف، إلى حجرتي؛ حيث كان فيها سرير مزدوج. نام على حافة السرير وأنا - ألتهب برغبة إظهار حبي له ومودتي - نمت إلى جانبه. خيل إلي أنه سألني: «ما هي رغبتك المسيطرة؟ قلها لي دون مراوغة. هل توصلت إلى عزلها وحلها؟ نعم، لا شك أنك تعرفها الآن.» اضطربت لهذا السؤال فأجبته بأنها الكسل. هز رأسه بلهجة مكذبة، فقلت له: «إنني رغم سكناي مع زوجتي - كما أوصاني - لا أعاملها معاملة الزوج.» فاعترض على ذلك، وأفهمني أنه لا ينبغي لي حرمانها من ملاطفاتي، وأسمعني تنويها أنني مرغم على ذلك. أجبته بأن ذلك يخجلني، وفجأة اختفى كل شيء. استيقظت وفي رأسي هذا المقطع من الكتاب المقدس يدوي:
1 «والحياة كانت نور البشر، والنور يشع في الظلمات، والظلمات لم تتلق ذلك النور.» كان وجه جوزيف ألكسيئيفيتش فتيا ومضيئا. وفي نفس اليوم تلقيت رسالة من «المحسن» تبحث في الواجب الزوجي.
9 كانون الأول (ديسمبر)
حلم جديد دعاني عندما استيقظت خافق الفؤاد: كنت في موسكو في بيتي في القاعة الكبرى ذات الأرائك، وجوزيف ألكسيئيفيتش آتيا نحوي من جهة البهو. لمحت على الفور نشورا تم فيه، فهرعت إلى استقباله. قبلت يديه فقال لي: «هل لاحظت أن وجهي لم يعد كسابق عهده؟» رحت أنظر إليه بانتباه وأنا محتفظ به مضموما إلى صدري. كان وجهه أصفر، وتقاسيمه مختلفة كل الاختلاف، ورأسه مجردا من الشعر. قلت له حينئذ: «لو أنني لقيتك صدفة لما فاتني أن أعرفك.» لكنني كنت أقول في سري متسائلا: «هل تفوهت بالحقيقة حقا؟» وفجأة رأيته أمامي ممددا كالجثة، ثم عاد إلى رشده تدريجيا ودخل معي إلى حجرة كبيرة. كان ممسكا بيده كتابا كبيرا من أوراق البردي المدهون، قلت له: «إنني أنا الذي زوقت هذا الكتاب.» فأشار لي إشارة الاستحسان. فتحت الكتاب. كانت رسوم جميلة جدا تزين صفحاته. كنت أعرف أن تلك الرسوم تمثل مغامرات الروح مع حبيبها على صفحة منه. ظهرت عذراء في ثياب شفافة وجسد مرمري تحلق بين الغيوم. وكنت أعرف أن تلك العذراء هي صورة رمزية لنشيد الأناشيد. شعرت بأنني مخطئ في تأمل هذه الرسوم. لكنني ما كنت أقدر نزع أنظاري عنها. «اللهم هب إلى مساعدتي! أواه يا ربي! إذا كان الهجران الذي أنا فيه من صنعك؛ فلتكن مشيئتك! لكنني إذا صنعته بيدي وبخطأ مني علمني ما يجب أن أصنعه. سوف يقتلني الفساد إذا تخليت عني نهائيا.»
الفصل الحادي عشر
خطوبة بيرج
على الرغم من أن آل روستوف انسحبوا إلى الريف؛ حيث أمضوا فيه عامين كاملين، فإن وضعهم المالي لم يتحسن بقدر ما كانوا يتوقعون.
صحيح أن نيكولا ظل مخلصا لكلمته، بارا بعهده الذي قطعه على نفسه، يعيش في فيلقه عيشه متواضعة، وينفق بمقدار، لكن طراز الحياة في مركز الأسرة الريفي في أوترادنواي وإدارة ميتانكا، جعلا الديون تزداد تضخما من عام لآخر، فلم يجد الكونت العجوز وسيلة لدرء هذا الخطر إلا بالعودة إلى الخدمة؛ لذلك مضى إلى بيترسبورج باحثا عن عمل. وبنفس الوقت وعلى حسب تعبيره الخاص، إعطاء أوقات بديعة للفتيات الشابات للمرة الأخيرة للترفيه عنهن.
وبعد وصولهم إلى بيترسبورج بأمد قصير، طلب بيرج يد فيرا فقبل طلبه. كان آل روستوف في موسكو يعتبرون في عداد أرفع طبقة في المجتمع، دون أن يأبهوا في الحقيقة لمعرفة إلى أية طبقة ينتمون، لكنهم في بيترسبورج باتوا على العكس لا يحظون إلا بعلاقات مختلطة غير واضحة. ذلك أن عددا كبيرا من الذين كانوا في موسكو يعتبرون أنهم وإياهم يقومون على صعيد واحد. باتوا في بيترسبورج لا يوافقون على الظهور مع هؤلاء القرويين الآتين من الأقاليم، لكنهم ظلوا يعيشون على طريقتهم في موسكو، تجمع ولائمهم أشخاصا من مختلف الطبقات: وصيفة شرف، الآنسة بيترونسكي، تجار، وبعض القرويين الموسرين وفتياتهم، وبيير بيزوخوف، إلى جانب ابن رئيس البريد في منطقتهم الموظف في العاصمة. وكان أكثر الرجال ألفة في بيت آل روستوف: بوريس وبيير، الذي قابله الكونت العجوز في الشارع وقاده في شبه قسر إلى منزله، ثم «بيرج» الذي كان يقضي عندهم أياما كاملة، ويعرب لابنتهم البكر الكونتيس فيرا عن لهفته التي تفضح نواياه في الزواج منها.
لم يظهر بيرج ذراعه اليمنى التي أصيبت في معركة أوسترليتز لكل وافد عبثا، ولا أمسك بعناد بيده اليسرى سيفا لم يكن يفيده في شيء. لقد أقنعت لهجته الخطيرة التي كان يحدث بها كل وافد - أي وافد - عن شجاعته وجرحه، كل من حوله حتى إن وسامين جاءا أخيرا يشهدان ببسالته في أوسترليتز.
ولقد منحته حرب فنلندا كذلك فرصة للظهور؛ لقد التقط شظية قنبلة أصابت مساعدا عسكريا فقتلته قرب القائد الأعلى، وسلمها إلى رئيسه . وكما فعل عقب معركة أوسترليتز ، راح يروي القصة بإلحاح شديد مسحر حتى أعجب كل من حوله ببسالته من جديد، ومنح من أجل ذلك مكافأتين. وفي عام 1809، أصبح برتبة رئيس في الحرس، وبات يحتل مركزا خاصا عظيم النفع.
كان بعض المتشككين يبتسمون كلما دار البحث حول مواهب بيرج وشجاعته، لكنهم ما كانوا يستطيعون الإنكار بأنه ضابط أنيق، شجاع، مرموق جدا من قبل رؤسائه، وأنه شاب يعيش عيشة طيبة، ينتظره مستقبل لامع، وأنه بلغ حتى الآن مركزا متينا في المجتمع.
قبل أربعة أعوام، عندما قابل بيرج أحد رفاقه الألمان في موسكو في حديقة مسرح هناك، أشار إلى فيرا روستوف، وقال له بلغته: «ستكون هذه زوجتي.» ومنذ ذلك الحين اتخذ قراره. بدا له مركزه الآن معادلا لمركز آل روستوف، وإذن فقد أزفت اللحظة المناسبة؛ فتقدم بطلبه.
قوبل عرضه بادئ الأمر بتحفظ لا يبشر بخير عميم؛ اعتبروا أن من الغرابة أن يتقدم ابن سدليفوني المغمور بطلب الزواج من كونتيس روستوف، لكن أخلاق بيرج كانت تمتاز بطابع خاص من الأنانية الساذجة البريئة، حتى إن آل روستوف انتهى بهم الأمر إلى القول: «إن الأمر يجب أن يكون كذلك؛ لأنه هو نفسه كان شديد القناعة به.» أضف إلى ذلك أن الخطيب لا يمكن أن يجهل تشوش أوضاعهم المالية، ثم إن فيرا قد بلغت الرابعة والعشرين واختلطت كثيرا بالأوساط فلم يتقدم أحد لطلب يدها، رغم وفرة جمالها واتزانها واحتشامها، وعلى ذلك وافق آل روستوف على الطلب.
كان بيرج يقول لزميله الذي يسميه صديقه؛ لأن العادة تقضي بأن يكون للمرء صديق: «أصغ، لقد وزنت كل شيء، وحسبت كل شيء، وما كنت لأتزوج قط لو أن القضية تعرضت لأدنى الموانع، ولكن كما ترى لا يحتاج أبواي شيئا بعد أن أقطعتهم أراضي في أقاليم البلطيق. أما أنا فإنني أحسن الحساب لدرجة لا تجعل العيش في بيترسبورج متعذرا. إذا اجتمع مرتبي بثروتها هي، فسوف يمكننا أن نعيش على خير ما يرام. إنني لم أتزوجها بالطبع من أجل مالها؛ لأن ذلك لا يعتبر نبلا، ولكن يجب على الزوج والزوجة أن يتشاركا - كل في حدود طاقته - على إنشاء حياتهما. إن لي مركزي ولها علاقاتها وندوتها الصغيرة، وأعتقد أن مثل هذه الأمور في أيامنا هذه ليست ممجوجة على ما أظن. وأخيرا، وقبل كل شيء، إنها فتاة رائعة شريفة وتحبني.
ويبتسم بيرج لدى تفوهه بهذه الكلمات ويتخضب وجهه. - ثم إنني أحبها أنا الآخر؛ لأن لها عقلية ممتازة دائمة الجد. إن أختها الثانية تختلف عنها كل الاختلاف؛ إنها لعلى خلق رديء ينقصها الإرهاف، ولست أدري كذلك ما ينفرني منها. أما خطيبتي فسوف تأتي غالبا ...» وهم أن يقول «لتناول الطعام» لكنه استدرك وقال: «لنشرب الشاي عندنا.»
وبحركة خاصة من لسانه أطلق دائرة من الدخان مثالا كاملا لأحلامه في السعادة.
تلت لحظة الدهشة الأولى التي سببها طلب بيرج أجواء من الأفراح والسرور تفرضها الظروف في مثل هذه المناسبات، لكن هذا الفرح كان مصطنعا وسطحيا فحسب. كان الأبوان مرتبكين وعلى شيء من الخجل، وكأنهما يوبخان أنفسهما على قلة محبتهما لابنتهما، ورؤيتهما لها تذهب دون أسف. كان الكونت العجوز أكثر استياء من زوجته؛ لأن المسألة المادية كانت تؤرقه وإن لم يكن قد أعلن عن شعوره بصراحة. كان يجهل حالته المادية، ومجموع ديونه، والبائنة التي يستطيع بحكم مركزه المالي أن يمنحها لفيرا. لقد خصص لكل من بناته عند ميلادها بائنة قدرها ثلاثمائة عبد، لكن واحدة من قراه المخصصة لهذه الغاية بيعت، والثانية رهنت بكل ما فيها. وعلى ذلك، لم تعد أملاكه تدخل في حساب التغطية؛ فكان عليه والحالة هذه اللجوء إلى النقد، ولكن من أين يأتي بالمبالغ النقدية؟
أعلنت خطوبة بيرج منذ أكثر من شهر، وانتظر أن يحتفل بالزواج في غضون أسبوع. مع ذلك، فإن الكونت لم يكن بعد قد قرر شيئا بصدد البائنة، ولا أطلع زوجته على هذه القضية. كان يزمع أحيانا إقطاع ابنته فيرا أملاكه في ريازان، وحينا آخر يفكر في بيع غابة أو استقراض نقود لقاء صكوك نقدية. وقبل الحفلة بأيام معدودة، دخل بيرج في الصباح الباكر على الكونت في مكتبه، وسأل حماه المقبل باحترام والابتسامة على شفتيه أن يتفضل بإعطائه إحصاء دقيقا عن بائنة الكونتيس فيرا. وعلى الرغم من توقع الكونت مثل هذا السؤال منذ أمد بعيد، إلا أنه ارتبك لدى سماعه ارتباكا شديدا، حتى إنه أجاب غير عامد بأول ما جادت به قريحته: «إنني سعيد إذ أراك تشغل نفسك بهذا الموضوع. هذا حسن، حسن جدا، لن يكون في الأمر ما يستدعي تذمرك.»
وبعد أن ربت على كتف بيرج، نهض وكأنه يضع حدا للمحادثة، لكن بيرج الذي ظل محتفظا بابتسامته الوديعة أعلن أنه إذا لم يعرف قيمة البائنة على الضبط ولم يقبض منها جزءا على الأقل سلفا؛ فإنه سيضطر إلى سحب طلبه: «إنك تفهم يا كونت أنني إذا تزوجت دون أن أطمئن على قدرتي على إعالة زوجتي وتأمين طلباتها؛ فإن تصرفي لن يكون شريفا.»
ولكي يبرهن الكونت على كرمه، ويقطع الطرق في وجه طلبات جديدة، وعد بتقديم صك معتمد بقيمة ثمانين ألف روبل، فطافت بشفتي بيرج ابتسامة حانية، وقبل كتف الكونت معلنا له عن عظيم شكره، مؤكدا أنه لا يستطيع الشروع في إنشاء كيان أسرته دون أن يقبض ثلاثين ألف روبل بالعملة الدارجة، ثم صحح طلبه قائلا: «أو على الأقل عشرين ألف روبل يا كونت. وفي هذه الحال لن تكون قيمة الصك المعتمد أكثر من ستين ألف روبل.»
فوافق الكونت على الفور قائلا: «نعم، نعم، ولكن اعذرني يا صديقي، سوف تقبض عشرين ألف روبل نقدا، ويبقى الصك المعتمد بقيمة ثمانين ألف روبل. هيا قبلني.»
الفصل الثاني عشر
بوريس وناتاشا
بلغت ناتاشا السادسة عشرة من عمرها عام 1809، وهو العام الذي حددته ناتاشا لبوريس وهي تعد على أصابعها قبل أربعة أعوام عندما تعانقا وقبلها، ومنذ ذلك الحين لم تره مرة واحدة، فإذا جاء ذكره أمام سونيا وأمه، كانت تقول بكل طلاقة: «إن كل هذه القصص القديمة لم تكن إلا صبيانيات نسيت منذ طويل أمد.» لكنها في أعماق نفسها كانت تتساءل في شيء من القلق عما إذا كان عهدها لبوريس مجرد دعابة أم وعدا جديا.
لم يطأ بوريس بقدمه مسكن آل روستوف منذ أن التحق بالجيش عام 1805. مع ذلك، فقد حل مرارا في موسكو ومر على مقربة من أوترادنواي دون أن يعرج عليها، وكانت ناتاشا تتصور أحيانا أنه لا يرغب في رؤيتها، وتدعم هذا الاعتقاد في نفسها اللهجة الحزينة التي يتحدث بها المسنون في الأسرة كلما تطرقوا إلى ذكر الشاب.
كانت الكونتيس تقول إذا نوه أمامها بذكر بوريس: «لقد بات الناس في عصرنا هذا ينسون أصدقاءهم القدامى.»
وكانت آنا ميخائيلوفنا التي باتت قليلة التردد على الأسرة تحتفظ بعلاقات محدودة معها؛ تطري بحماس ملحوظ مواهب بوريس ونجاحه اللامع المرموق كلما ورد ذكره في حضرتها.
وعندما استقر آل روستوف في بيترسبورج، ذهب بوريس لزيارتهم وهو يشعر بالاضطراب. كانت ناتاشا ذكراه الأكثر شاعرية والأكثر عذوبة، وكان مزمعا إفهامها وذويها أن علاقة طفولتهما لا يجب أن تجر وراءها أية ارتباطات بالنسبة إليه، فصداقته الوثيقة مع الكونتيس بيزوخوف أتاحت له مركزا مرموقا في المجتمع، وحماية الشخصية المتنفذة الهامة التي كان يتمتع بثقتها المطلقة تؤمن له مستقبلا لامعا، فكان بمقدوره الآن أن يغذي في نفسه في غير زهو مشاريع زواج من أغنى فتيات أسر بيترسبورج.
عندما دخل بوريس بهو آل روستوف كانت ناتاشا في غرفتها، وما إن علمت بقدومه حتى تضرج وجهها وهرعت من فورها مشرقة الوجه بابتسامة فيها أكثر من معنى الود، وكان بوريس يحتفظ بذكرى بنية في أثواب قصيرة ذات عينين سوداوين لامعتين تحت خصلات من الشعر المتمرد، وضحكة مجنونة فضية، فلما رأى ناتاشا أخرى تدخل البهو اضطرب وفضح وجهه دهشة معجبة أسعدت الفتاة.
قالت له الكونتيس: «كيف، ألم تعد تعرف صديقتك الصغيرة الشيطانة؟»
قبل بوريس يد ناتاشا وأعلن دهشته للتغيير الذي طرأ عليها: «كم ازددت جمالا.»
فأجابت عينا ناتاشا: «إنني أعتقد ذلك.» بينما قال لسانها: «وأبي؛ هل هرم؟»
جلست وراحت تراقب بصمت خطيب طفولتها في أدق حركاته دون أن تشترك في الحديث الدائر بينه وبين الكونتيس. أما بوريس فكان يشعر بثقل تلك النظرة الودية العتيدة، فيكاد من حين إلى آخر يتورط في إجابتها عليها بمثلها. لاحظت ناتاشا أن ثوب بوريس، ومهمازيه، وربطة عنقه، وطريقة ترجيل شعره مطبوعة كلها بطابع الذوق المرهف وال «كما يجب». كان جالسا على ثلاثة أرباع مقعد إلى جانب الكونتيس يسوي بيده اليمنى القفاز الأنيق الذي يضم يده اليسرى، فكان حينا يسرد - وهو يمزر شفتيه بحركة مفضلة - مسرات الطبقة الراقية في بيترسبورج، ويستعيد حينا آخر في سخرية خفيفة ذكريات موسكو. وعندما كان يولج في كل خبر من أخبار الطبقة الراقية عن حضور سفير ما إلى حفلة راقصة، أو عن الدعوات التي تلقاها من «ن. ن»، أو من «س. س»، كانت ناتاشا تشعر أن قوله هذا بعيد عن الطيش والخفة.
ظلت صامتة مع ذلك تراقبه خلسة، ولما شوشت تلك النظرة بوريس، توقف فجأة عن متابعة الحديث والتفت إليها في مزيد من الإلحاح، ولم تمض عشر دقائق حتى نهض واستأذن منصرفا تشيعه تانك العينان المتطلعتان، نصف المتحديتين، ونصف الساخرتين، تحصيان عليه حركاته.
اعترف بوريس بعد هذه الزيارة الأولى بأنه لا زال يجد ناتاشا جذابة كسابق العهد، لكنه اعترف بنفس الوقت بأنه لا ينبغي له أن يستسلم لذلك الميل؛ إذ إن الزواج من فتاة شبه مفلسة يهدم كل مشاريعه المقبلة، بينما العودة إلى توثيق الصلات السابقة دون مقصد جدي تعتبر عملا غير شريف؛ لذلك قرر البقاء في معزل، لكنه رغم هذا القرار البديع عاد لزيارة آل روستوف بعد أيام قليلة، ثم كرر زياراته حتى انتهى به الأمر إلى قضاء أيام كاملة عندهم. كان يؤمن أن من واجبه التفاهم بصراحة مع ناتاشا، وإبلاغها بوجوب نسيان الماضي؛ لأنها لا يمكن - برغم كل شيء - أن تصبح زوجته وهو الذي لا مال لديه. أضف إلى ذلك أنهم لن يوافقوا مطلقا على تزويجها به، لكنه ما كان يعرف كيف يتصرف، بل كان يزداد كل يوم تدلها، وبدت ناتاشا من جانبها - كما لاحظت أمها وسونيا - تعود إلى غرامها السابق ببوريس: كانت تغني له الأغنيات التي يفضلها، وتطلب إليه أن يكتب شيئا في مجموعتها، وتمنعه من التفكير في الماضي ملمحة إلى أن الحاضر أفضل منه وأحسن. وفي كل يوم، كان بوريس يخرج من عندها كالمسحور دون أن يطرق التفاهم العتيد، ودون أن يدري لم جاء وكيف سينتهي كل ذلك. ولقد ظلت هيلين التي لم يعد بوريس يظهر في حفلاتها وأبهائها تسأل عنه كل يوم، وتمطره وابلا من بطاقاتها المليئة باللوم، دون أن يمنعه ذلك من قضاء أيامه عند آل روستوف.
الفصل الثالث عشر
خاتمة المطاف
كانت الكونتيس العجوز في قلنسوة الليل وجلباب النوم القصير تصلي صلاة المساء مدمدمة، وتسعل سعالا خفيفا وهي تكرر فوق النجد الركوع والانحناءات، عندما ارتفع صرير الباب وظهرت ناتاشا في ثوب النوم كذلك واندفعت إلى الغرفة. وكانت الكونتيس قد نزعت شعرها المستعار وعصبت شعرها الطبيعي بقطعة قماش قطني، فلم يظهر منه إلا باقة صغيرة. أما ناتاشا فكانت تلف شعرها بغطاء خاص، وتلبس في قدميها العاريتين خفا منزليا. التفتت الكونتيس وقطبت حاجبيها بينما جرى لسانها بتتمة صلاتها: «هل سيصبح فراشي هذا تابوتي حقا.» وتبدى خشوعها على الفور. ولما رأت ناتاشا أمها مستغرقة في الصلاة توقفت في مكانها مضرجة الوجه، منتعشة الأسارير، وجلست القرفصاء وهي تظهر طرف لسانها وكأنها ضبطت مرتكبة خطيئة، وبينما استرسلت أمها في صلاتها حجلت نحو السرير ونزعت خفيها، ثم قفزت فوق ذلك الفراش الذي كانت الأم تشك في أن يصبح تابوتها. وكان المرقد عبارة عن سرير من الريش وضعت عليه خمس وسائد مختلفة بين صغيرة وكبيرة. دفنت ناتاشا نفسها وسط تلك الوسائد، وتدحرجت حتى استقرت في الفراغ القائم بينها، وربضت تحت الغطاء تضحك ضحكة مكتومة، وترتج وتتحرك وتلاعب ساقيها تارة، وترفع ركبتيها إلى أسفل ذقنها تارة أخرى، تخفي رأسها تارة، وتختلس النظر إلى وجه أمها تارة أخرى. وعندما انتهت هذه من أدعيتها، اقتربت من السرير بجدة وصرامة، لكنها ما إن رأت ناتاشا مخفية رأسها تحت اللحف حتى شعت ابتسامة طيبة على وجهها وقالت: «هيا، هيا!»
سألت البنت: «أماه، هل نستطيع التحدث معا؟ نعم، أليس كذلك ؟ هيا قبليني في عنقي قبلة أخرى، هل تريدين؟ حسنا، إن هذا جيد.»
طوقت الكونتيس وقبلتها أسفل ذقنها. لقد كان لها مع أمها أساليب عنيفة، ولكن على جانب كبير من المهارة، فإذا أخذتها بين ذراعيها كانت تتدبر الأمر دائما بحيث لا تكون مداعباتها قاسية ولا مزعجة.
قالت الكونتيس وهي متكئة على وسائدها، ويداها فوق الشراشف، ووجهها رزين، تطلب من ابنتها - بعد أن تدحرجت مرتين حول نفسها - الاستقرار بجانبها تحت لحاف واحد: «حسنا، ماذا لديك اليوم؟»
لقد كانت زيارات ناتاشا الليلية لأمها قبل عودة الكونت من النادي إحدى المتع الكبيرة لدى الأم والفتاة على السواء، كررت الكونتيس: «ماذا لديك اليوم؟ لقد كنت مزمعة التحدث إليك بدوري.»
وضعت ناتاشا يدها على فمها وقالت بلهجة جدية: «عن بوريس. نعم، إنني أعرف، ولقد جئت من أجل ذلك. لا تقولي شيئا، أعرف ...»
ثم رفعت يدها وأردفت: «بل تكلمي، إنه لطيف؛ أليس كذلك؟» - «ناتاشا، إن لك الآن ستة عشر عاما، ولقد كنت متزوجة لما كان لي مثل سنك، تقولين إن بوريس لطيف. نعم ولا شك، إنه لكذلك، وإنني أحبه كما أحب ولدي، ولكن ما هي مراميك؟ لقد سلبت عقله تماما، إنني أرى ذلك بوضوح.»
استدارت الكونتيس نحو ابنتها. كانت ناتاشا شاخصة بأبصارها إلى واحد من أهرامات خشب الكابلي المنقوشة في زوايا السرير، وهي جامدة ساكنة، حتى إن أمها لم تستطع رؤية وجهها إلا رؤية جانبية. مع ذلك، فإن أمارات الوجه الجدية المركزة لم تدهش الكونتيس.
قالت ناتاشا بعد فترة وجوم: «حسنا، وبعد؟» - «لقد سلبت لبه تماما، ولكن إلى أين يبلغ بك الأمر؟ ما هي غاياتك؟ إنك تعرفين تماما تعذر زواجك منه.»
سألت ناتاشا وهي في جمودها: «ولم يا الله؟» - «لأنه لا زال يافعا، ولأنه فقير، ولأنه قريبك ... وأخيرا لأنك لا تحبينه.» - «وماذا يدريك؟» - «إنني أعرف ذلك، وهو ليس بالأمر الحسن يا عزيزتي.» - «لكنني إذا كنت أريد ...» - «لا تتفوهي بالسخافات.» - «لكنني إذا كنت أريد ...» - «ناتاشا، إنني أكلمك جديا.»
ودون أن تدعها تكمل حديثها، جذبت ناتاشا بيد الكونتيس الضخمة إليها، فقبلتها في ظهرها، ثم في باطنها، ثم أدارتها من جديد وطبعت قبلة فوق مفصل إصبعها، ثم فوق الفراغ الذي يليه، ثم فوق مفصل الإصبع الآخر وهي تعد: «كانون الثاني، شباط، آذار، نيسان، آيار ... هيا تحدثي يا أماه، لم لا تتكلمي؟ تحدثي.»
ونظرت إلى أمها بعين مستفسرة فرأتها تسرح فيها نظرة حانية وكأنها نسيت في تأملها ذاك كل ما كانت تريد أن تقوله. - «إن هذا غير مناسب يا عزيزتي، إن كل الناس ليسوا على علم بزمالتكما أيام الطفولة، والألفة التي تظهرينها له اليوم يمكن أن تكون ذات ضرر بالنسبة إليك بين الشبان الآخرين الذين يرتادون بيتنا، ثم إنها عذاب عقيم بالنسبة إليه. لعله واجد أسرة نافعة غنية تناسبه، وها أنك الآن تسلبينه الرشاد.»
قالت ناتاشا: «حقا؟» - «أستطيع أن أخاطبك عن علم؛ لقد كان لي ابن عم ...» - «آه! نعم، سيريل ماتفييتش، لكنه كهل.» - «إنه لم يكن كهلا منذ ولادته. على ذلك يا ناتاشا، سوف أتحدث إلى بوريس. لا يجب أن يزورنا بمثل هذه المثابرة!» - «ولم تحدثينه إذا كان هذا يروق له؟» - «لأنني أعرف أن هذا لن يصل به إلى نتيجة.»
قالت ناتاشا بلهجة من يسلب ملكه: «وماذا يدريك؟ كلا يا أماه، لا تقولي له شيئا. يا لها من حماقات! لن أتزوجه، ليكن! ولكن لم لا يثابر على المجيء إلى هنا طالما أن ذلك يروح عنا كلينا؟ إنني لن أتزوجه، لكننا سنحب بعضنا «هكذا».» وانسابت نحو أمها باسمة. - «كيف هكذا؟!» - «نعم «هكذا»؛ إن الزواج لا يهمني. وإذن «هكذا».»
كررت الكونتيس بينما راح جسدها الضخم يهتز بشدة بفعل ضحكة عميقة: «هكذا، هكذا.»
هتفت ناتاشا: «لا تضحكي بهذه القوة؛ إنك تزلزلين السرير! إنك تشبهينني شبها مدهشا، إنك ضحاكة مثلي.»
وأمسكت بيدها وراحت تعد وهي تطبع قبلة على مفصل الإصبع الصغير: «حزيران.»
ثم انتقلت إلى اليد الأخرى واسترسلت: «تموز، آب ... أماه هل يحبني كثيرا؟ ما رأيك فيه؟ هل أحبوك بمثل هذا القدر؟ نعم، إنه لطيف، لطيف جدا جدا، لكنه لا يروق لي تماما. إنني أراه على شيء من الهزال ... أشبه بصندوق ساعة الجدار. إنه رقيق أشهب، ناصع.» - «ما هذا اللغو؟!» - «كيف؟ ألا تفهمينني؟ يفهمني نيكولا، هو ... بيزوخوف مثلا أزرق مشبع مموه بالأحمر، ثم إنه مربع كذلك.»
قالت الكونتيس ضاحكة: «يخيل إلي أنك تتطرفين مع هذا أيضا.» - «مطلقا، لقد علمت أنه من الإخوان الماسونيين. إنه فتى طيب، أزرق مشبع مموه بحمرة ... كيف أفسر لك هذا؟»
وارتفع صوت الكونت من وراء الباب: «ألست نائمة بعد أيتها الكونتيس الصغيرة؟»
قفزت ناتاشا إلى أسفل السرير وأمسكت بخفيها، ثم فرت حافية القدمين. لبثت تتقلب على فراشها زمنا طويلا. كانت تفكر في أن ما من أحد يفهم كل ما يخيل إليها أنه شديد الوضوح، وما يعتلج في أعماق نفسها.
حدثت نفسها وهي تنظر إلى القطة الصغيرة النائمة على شكل دائرة لا يظهر منها إلا الضفيرة الضخمة: «سونيا؟ أوه، كلا! إنها شديدة التعلق بالفضيلة، إنها تحب نيكولا «ها» ولا تريد التطلع إلى شيء آخر. إن أمي هي الأخرى لا تفهمني. رباه، كم أنا ذكية إذن!»
واستتلت تتحدث عن نفسها بصيغة الغائب المفرد وكأن الحديث صادر عن فم إنسان من الجنس الآخر يظهر لها كل ميزات جنسها الكاملة: «إن ناتاشا هذه لفتنة طاغية حقا! إن لديها كل شيء، كل شيء لها وحدها، إنها ذكية ولطيفة وجميلة وحاذقة ... إنها تسبح وتركب الخيل بمهارة فائقة، وتغني غناء ساحرا. نعم، يمكن القول بأنه غناء ساحر.»
ودندنت أحد أنغامها المفضلة جملة مستعارة من أوبرا شيروبيني،
1
وارتمت على سريرها وهي تضحك للفكرة التي واتتها من أنها ستنام لفورها، فنادت دونياشا لتطفئ الشمعة. ولم تكد هذه تخرج من الغرفة حتى كانت ناتاشا تحلق في دنيا الأحلام؛ دنيا أكثر سعادة من هذه؛ حيث كل شيء فيها جميل وسهل سهولة الحقيقة، ولكنه أفضل منها؛ لأنه يختلف عنها.
وفي اليوم التالي، استدعت الكونتيس بوريس وتحدثت معه، ومنذ ذلك اليوم لم يعد بوريس يرى عند آل روستوف.
الفصل الرابع عشر
دعوة
في الواحد والثلاثين من كانون الأول، ليلة بدء عام 1810 الجديد، أقيمت ليلة إحياء عند أحد كبار الشخصيات المتبقين من عهد كاتيرين، وكان الإمبراطور والسلك الدبلوماسي كله سيحضرها.
كان قصر ذلك السيد العظيم، درة «رصيف الإنجليز»، يلتمع بألوف المصابيح المتقدة، وقد فرشت أمام المدخل المنار بسخاء، سجادة حمراء ثمينة، وأقام رجال الدرك من أجسادهم حاجزا تحت إشراف مدير الشرطة بالذات، وعشرات من الضباط لمنع تكأكؤ المتفرجين، وأخذت العربات التي يواكبها وصفاء وتابعون بأثوابهم الحمراء وقبعاتهم المريشة، تغدو وتروح دون انقطاع حاملة سادة بثيابهم الرسمية، تزين صدرورهم الأوسمة والنياشين، وسيدات متدثرات بفراء السمور الأبيض، غارقات في الحرير، يهبطن في حذر على المواطئ المنزلة بصخب، وينزلقن رشيقات صامتات فوق سجادة المدخل.
وكلما وصلت عربة سرت تمتمة بين الحشود، وارتفعت القبعات، وتبودلت العبارات: «أهو الإمبراطور؟ كلا، بل وزير، أمير، سفير. ألا ترى الريش؟»
كان أحد البلهاء، وهو أفضل من غيره لباسا، يبدو كأنه يعرف كل الناس، ويميز كلا من كبار ذوي المناصب في ذلك العهد باسمه.
وبينما كان ثلث المدعوين قد وصل إلى مكان الحفلة، لم يكن آل روستوف - وقد وجهت إليهم الدعوة لحضور تلك الحفلة الراقصة أيضا - قد فرغوا من زينة الشعر بعد. لقد أثارت تلك الحفلة عندهم كثيرا من اللغو والاستعداد، بل ومن المخاوف أيضا: «ترى هل توجه إليهم الدعوة؟ هل تكون أزياؤهم جاهزة في الوقت المناسب؟ هل ينتهي كل شيء على ما يتمنون؟»
كانت ماري إينيا تييغنا بيرونسكي - وهي سيدة هزيلة صفراء وصيفة شرف سابقة في البلاط الفائت وصديقة وقريبة للكونتيس - قد وعدت بمرافقة هؤلاء الإقليميين، آل روستوف؛ لنكون لهم بمثابة الدليل في الأوساط الراقية في بيترسبورج، وكان على هؤلاء أن يمروا بمسكنها لاصطحابها في الساعة العاشرة، والمسكن واقع في «جاردان توريد»؛ وهو مقر الإمبراطور الأم، وكانت الساعة قد أشرفت على العاشرة إلا خمس دقائق والفتيات لم يرتدين بعد ثيابهن.
كانت هذه أول حفلة راقصة كبرى في حياة ناتاشا. استيقظت في الثامنة صباحا وأمضت نهارا في اضطراب محموم. بذلت كل قواها طيلة النهار لتكون أمها وسونيا وهي على أحسن هندام ممكن. ولقد استسلمت لها الكونتيس وسونيا استسلاما مطلقا . تقرر أن ترتدي الكونتيس ثوبا من المخمل الثمين، بينما تلبس الفتاتان أثوابا بيضاء هفهافة فوق «أجفن» من الحرير الوردي، وأن تزين الورود خصريهما، بينما يصفف شعر ثلاثتهن على الطريقة اليونانية.
أجريت الترتيبات واتخذت الاستعدادات الجوهرية، فالأذرع والسيقان والأعناق والقذل والوجوه والآذان غسلت كلها بعناية، وضمخت بالعطور ونثرت فوقها الذرور بما يتفق وحفلة راقصة، ولبست الجوارب الحريرية الجديدة، والأحذية المصنوعة من الساتان ذات الأشرطة، وانتهت إعدادات زينة الرأس تقريبا. كانت سونيا على وشك الفراغ من زينتها العامة والكونتيس كذلك، لكن ناتاشا لكثرة ما تشاغلت في زينة الأخريات تأخرت في إعداد زينتها، كانت حينذاك لا تزال جالسة أمام مرآتها تدثر كتفيها النحيلتين بمئزر. وفي وسط الغرفة وقفت سونيا تغرز دبوسا في شريط لتثبته في مكانه، فامتنع وبلغ بها الضغط مبلغ إيلام إصبعها.
قالت ناتاشا وهي تستدير ممسكة بشعرها بين يديها قبل أن تجد الوصيفة وقتا للتخلي عنه: «ليس على هذا الشكل يا سونيا، العقدة ليست هكذا، تعالي.»
وجلست سونيا قريبا منها، فغيرت ناتاشا وضع الشريط، وقالت الوصيفة وهي لا تزال ممسكة بشعرها: «اعذريني يا آنسة، لا سبيل أبدا ...» - «آه يا رب! تستطيعين الانتظار قليلا. هكذا يا سونيا، لقد استقام الأمر الآن.»
وقالت الكونتيس: «هل فرغتما؟ تكاد الساعة أن تقرع عشرا.» - «فورا، على الفور، وأنت يا أماه، هل أنت جاهزة؟» - «لم يبق علي إلا وضع قلنسوتي.»
هتفت ناتاشا: «لا تضعيها بدوني، لن تحسني وضعها!» - «ولكن الساعة قد بلغت العاشرة.»
كان مقررا أن يصل ركبهم إلى مكان الحفلة في العاشرة والنصف، مع ذلك لم تكن ناتاشا قد ارتدت ثيابها بعد، ثم كان عليهم المرور بقصر «التوريد» لأخذ قريبتهم.
فرغت ناتاشا أخيرا من شعرها، فهرعت مزملة بثوب داخلي لأمها فوق تنورة قصيرة تظهر تحتها أحذية الرقص تفحص سونيا، ثم انتقلت منها إلى الكونتيس. أدارت لها رأسها وأثبتت قلنسوتها بدبوس، وطبعت قبلة فوق شعرها الأشيب، وعادت تجري نحو الوصيفات اللاتي كن يسوين ثوبها.
كان عليهن تقصير ذلك الثوب الذي كان أطول من المطلوب. وصيفتان تعملان فيه بهمة وتقطعان الخيوط بأسنانهما، بينما راحت ثالثة وبين شفتيها كمية من الدبابيس تنتقل من الكونتيس إلى سونيا، ورابعة تحمل فوق ذراعها الثوب الهفهاف الخارجي. - «مافروشا، عجلي يا عزيزتي.» - «ناوليني القمع يا آنسة، هل تريدين؟»
ظهر الكونت على عتبة الباب، وقال: «هل ستفرغن قريبا؟ هاكن عطورا. لا شك أن الآنسة بيرونسكي تترقب وصولنا.»
قالت الوصيفة وهي ترفع على إصبعين الثوب الهفهاف الموشى، ثم تنفخ عليه وتنفضه لتبين - ولا شك - خفته الفائقة: «لقد فرغت يا آنسة.»
شرعت ناتاشا ترتديه وهتفت بأبيها الذي وارب الباب: «لحظة واحدة، لحظة واحدة، لا تدخل يا أبي.»
كان صوتها ينبعث خلال السحابة الحريرية التي تخفي وجهها. دفعت سونيا الباب بعنف، وبعد دقيقة، سمح للكونت بالدخول، فدخل معطرا مدهنا في ثوب أزرق وجوربين حريريين وخفين رشيقين.
هتفت ناتاشا وهي منتصبة وسط الحجرة تسوي ثنيات ثوبها: «آه! أبتاه، إنك جميل جمال القلب!»
قالت إحدى الوصيفات وهي جاثية على ركبتيها تجذب ذيول الثوب، بينما تنتقل الدبابيس من ركن فمها الأيمن إلى الركن الأيسر: «اسمحي لي يا آنسة، اسمحي لي.»
وأجابت سونيا على قولها في يأس: «قولي ما تريدين، ولكنني أؤكد لك أنه ما زال طويلا.»
ذهبت ناتاشا تعاين نفسها في المرآة الكبيرة. رأت أن الثوب طويل فعلا.
اعترضت مافروشا وهي تتبع سيدتها على أربع: «البتة! إنه مناسب تماما هكذا يا آنسة.»
وقالت دونياشا بلهجة حازمة: «إذا كان لا يزال طويلا؛ فإن تقصيره لن يستغرق أكثر من دقيقة.»
واستلت إبرة كانت مغروسة في منديلها، وراحت تعمل بلهفة وشوق، وفي تلك اللحظة دخلت الكونتيس بقلنسوتها وثوبها المخملي، واقتربت بخطوات صغيرة وجلة.
صاح الكونت: «أوه! أوه! كم هي جميلة! إنها تكسفكن جميعا.»
وهم يقبلها، لكنها أبعدته عنها متضرجة الوجه؛ خشية أن يفسد زينتها. قالت ناتاشا: «أميلي القلنسوة أكثر من ذلك يا أماه، انتظري سوف أسويها بنفسي.»
اندفعت فجأة وبعنف شديد حتى إن الوصيفات اللاتي كن يخطن ذيل الثوب لم يجدن متسعا من الوقت ليتبعنها، فاقتطعت أيديهن جانبا صغيرا من قماش الثوب. - «آه! رباه ! ماذا بعد؟ إنني لست مسئولة قط لعمري!»
أكدت دونياشا: «سوف أخيطه ولن يراه أحد.»
قالت المربية وهي تدخل الحجرة: «آه يا جميلتي، يا ملكتي الصغيرة! وسونيا، آه يا جميلاتي.»
وأخيرا احتوتهم العربة في العاشرة والربع ودرج الركب، ولكن كان عليهم الذهاب إلى «جاردان توريد».
كانت الآنسة بيرونسكي جاهزة، وعلى الرغم من بشاعتها وتقدمها في السن، فإن مثل هذا الهرج والمرج الذي وقع عند آل روستوف تكرر وقوعه عندها، ولكن باندفاع أقل؛ بفضل ممارستها الطويلة لهذا النوع من الحياة. كانت شخصيتها المنفرة معطرة كلها ومدهنة ومزوقة، ووجهها الهرم مجملا حتى وراء الأذنين، بل إن وصيفتها العجوز هللت هي الأخرى لدى رؤية سيدتها تدخل في البهو في ثوبها الأصفر المزين بشعار الإمبراطورة. تفضلت بالموافقة على زينة آل روستوف، فراح هؤلاء بالمقابل يطرون ذوقها الرفيع في انتخاب زينتها وانتقاء حليها. وعندما بلغت الساعة الحادية عشرة، كان ركب السيدات يتحرك، وصعدت السيدات إلى العربات وهن يولين أثوابهن وشعورهن عناية بالغة.
الفصل الخامس عشر
في الحفلة
كانت ناتاشا طيلة ذلك النهار منصرفة إلى مشاغلها الجمة حتى إنها لم تجد متسعا من الوقت للتفكير فيما ينتظرها.
تمثلت نفسها لأول مرة عندما لفح وجهها هواء الليل الرطيب البارد، واحتوتها العربة الضيقة المتهززة في ظلامها المطبق، في القاعات المضاءة المشعة، وفي غمرة الموسيقى وغمار الزهور والرقصات، والإمبراطور، وزهرة شباب بيترسبورج اللامعين. كان ما ينتظرها على درجة من الروعة متناقضة كل التناقض مع شعورها الحالي بالبرد والارتباك والظلام، حتى إن ناتاشا ما كانت تستطيع تصديق الواقع المنتظر. لم تؤمن إلا في اللحظة التي مرت بها فوق سجادة المدخل الحمراء ودخلت الدهليز؛ حيث نزعت فروتها، وتقدمت مع سونيا تسبقان أمهما، ترتقيان السلم العريض المشع بالأضواء، المزين بالزهور، وحينئذ فقط تذكرت الطابع الذي قررت اتخاذه خلال الحفلة الراقصة؛ وهو طابع جليل وقور يتلاءم - حسب أفكارها - مع كل فتاة شابة في مثل هذه المناسبة. عنيت لفورها باتخاذ تلك الأمارات، لكنها - لحسن الحظ - شعرت أن عينيها تترجرجان. لم تعد ترى شيئا بوضوح، وأخذ نبضها يضرب بعنف وقلبها يخفق؛ بذلك لم تستطع اتخاذ السمة المقررة التي لو اتخذتها لجعلت منها أضحوكة. تقدمت إذن يغشيها الاضطراب، لا تكاد تستر بلبالها. والحقيقة أنها ما كان يمكن لها أن تجد اتزانا. أما آل روستوف فقد غمرهم فيض المدعوين، وكلهم مثلهم في ثياب الحفلة يتحدثون مثلهم بصوت خافت، وكانت مرايا السلم تعكس صور السيدات في أثوابهن البيضاء والزرقاء والوردية، وسنا اللآلئ والماسات فوق أكتافهن وأذرعهن العالية.
أخذت ناتاشا تختلس النظر إلى المرايا دون أن تستطيع تمييز نفسها عن الأخريات، كن جميعا مختلطات في عرض مشرق بهي. وعندما دخلت البهو الأول أصمها ضجيج الأصوات المتناسقة والخطوات والتهاني المتبادلة، وأعماها إشعاع الأضواء وروعة الأثاث والرياش. استقبل أصحاب القصر - الذين لم يفتئوا منذ نصف ساعة يرددون وهم وقوف عند المدخل عبارتهم الخالدة لكل زائر جديد: «يسعدنا أن نراكم» - آل روستوف والآنسة بيرونسكي بهذه العبارة بالذات.
دخلت الفتاتان في ثيابهن البيضاء متشابهتين حتى بالورود التي تزين شعرهما الأسود، وانحنتا باحترام انحناءة واحدة، لكن نظرة ربة البيت توقفت عند ناتاشا الهيفاء أكثر من مألوف عادتها، وخصتها بابتسامة خاصة مختلفة عن ابتسامة الترحيب المبتذلة التي كانت تزجيها للضيوف. لا شك أنها استعادت بعيني خيالها حفلتها الراقصة الأولى وأيام شبابها الذهبية التي اختفت إلى الأبد، وأحياها اليوم ظهور ناتاشا المليحة. كذلك تبع رب البيت ناتاشا بعينيه وسأل الكونت عن أي الصبيتين ابنته، ثم قال وهو يلثم أطراف أصابعه: «رائعة!»
كان المدعوون في قاعة الرقص متكأكئين حول باب المدخل بانتظار الإمبراطور. استطاعت الكونتيس أن تجد لها مكانا في الصفوف الأولى. وسمعت ناتاشا بعض الأشخاص يتحدثون عنها، وأحست بهم ينظرون إليها، فحدست أنها أعجبتهم، وهدأ قلقها واضطرابها قليلا.
قالت تحدث نفسها: «هناك من هم مثلنا، وهناك من هم أسوأ منا.»
وفي هذه الأثناء شرعت الآنسة بيترونسكي تعدد للكونتيس أسماء الشخصيات البارزة، قالت وهي تشير إلى عجوز فضي الشعر أجعده مندمج بين فئة من السيدات يضحكن: «هذا هو وزير هولندا، هنا ذو الشعر الأبيض.»
وأضافت وهي تشير إلى هيلين التي كانت داخلة: «وهذه ملكة بيترسبورج الكونتيس بيزوخوف.» - «كم هي جميلة! إنها لا تنقص عن ماري أنتونوفنا ناريشكين (عشيقة الإمبراطور ألكسندر) جمالا! انظري كيف يتهافت الشباب والشيوخ حولها كالفراش. إنها جميلة وذكية! يقال إن الأمير «س» مجنون بها، لكن هاتين الأخريين رغم بشاعتهما محاطتين بلفيف أكبر من الرجال.»
وأشارت إلى سيدتين كانتا تخترقن القاعة: أم، وبنت ذات جمال مخيف حقا. استرسلت الآنسة بيرونسكي: «إنها صفقة ملايين، وهؤلاء هم المعجبون. انظري هذا هو أخو الكونتيس بيزوخوف آناتول كوراجين.»
وأشارت إلى فارس جميل من سلاح الحرس كان يخطر أمامها شامخ الرأس، شاخص البصر إلى الأمام. أردفت: «يا له من فتى جميل، أليس كذلك؟ يقال: إنهم سيزوجونه بكيس الملايين هذا، ثم ها هو ابن عمك دروبيتسكوي هو الآخر يغازلها.»
وأجابت على سؤال طرحته الكونتيس: «كيف! لكن هذا كولنكور؛ سفير فرانسا، بشحمه ودمه. ألا يشبه الملوك! إن هؤلاء الفرنسيين لطفاء ظرفاء رغم كل شيء. ما من أحد أكثر ظرفا منهم في المجتمع. آه! ها هي ذي أخيرا ماري أنتونوفنا! كلا بلا شك، لا مثيلة لها! ثم يا لبساطة مظهرها! معبودة حقا! وهذا الفتى الضخم ذو النظارتين. إنه ماسوني دولي، إنه يشبه الدمية القبيحة بجانب زوجته.»
وأشارت إلى بيزوخوت الذي كانت تقصده بهذا القول.
تقدم بيير يؤرجح جسمه الضخم يشق طريقه وسط الجماعة، يومئ برأسه ذات اليمين وذات الشمال بمثل ما يفعل الطفل الغرير عندما يجتاز ساحة أحد المعارض. كان يشق طريقه وكأنه يبحث عن بعضهم.
تأملت ناتاشا بسرور وجه تلك «الدمية القبيحة» كما سمته الآنسة بييرونسكي الذي تعرفه حق المعرفة. كانت تعرف أن بيير يبحث عنهم، وبصورة خاصة عنها: «ألم يعدها من قبل بحضور هذه الحفلة الراقصة ليقدم لها راقصين؟»
مع ذلك توقف بيزوخوف قبل أن يصل إليهم قرب رجل أسمر جميل معتدل القامة في بزة بيضاء كان يتحدث أمام إحدى النوافذ مع رجل مديد القامة تزين صدره الأوسمة التي يتدلى فوقها شريط الوسام الأكبر. ذلك الرجل بولكونسكي الذي بدا لها أنضر شبابا ، وأكثر جمالا، قالت ناتاشا: «إليك كذلك، يا أماه، أحد معارفنا بولكونسكي. انظري إليه ألا تذكرين؟ لقد قضى ليلة عندنا في أوترادنواي.»
قالت الآنسة بيرونسكي: «آه! أتعرفونه؟ إنني لا أطيق رؤيته. إنه اليوم يبعث المطر والصحو كما يقولون، ثم إنه على كبرياء لا حدود لها! إنها موروثة عن أبيه. لقد اتحد مع سبيرانسكي، وهما الآن يضعان مشروعات لا يعلم بها إلا الله. انظروا إليه كيف يعامل السيدات. وها هي ذي واحدة تحادثه وهو مدير. لو كنت أنا الذي أحدثه لعاملته كما يستحق!»
الفصل السادس عشر
وصول الإمبراطور
وفجأة عم الاضطراب في القاعة الكبرى وعلا الهمس، وتقدم المدعوون ثم تنحوا، وظهر الإمبراطور يتبعه أصحاب البيت وسط سياج من كبار الشخصيات، وصدحت الموسيقى. تقدم الإمبراطور وهو يوزع التحية ذات اليمين وذات الشمال وكأنه يتعجل الخلاص من هذه المجاملة المملة، وعزفت الموسيقى لحن «بولونيز»، الذي كان شائعا في ذلك العصر بسبب الكلمات التي ترافقه:
ألكسندر وأليزابيث،
إنكما مبعث نعيمنا ...
مضى الإمبراطور إلى البهو فتكالب الجمهور على الأبواب، وتسلل بعض ذوي الوجوه المتلونة حسب متطلبات الظرف إلى القاعة، ثم خرجوا منها بعد قليل، وانثنى الجمهور متراجعا فشوهد الإمبراطور يتحدث مع مضيفته. وهرع رجل في مقتبل العمر ذو قسيمات مضطربة يتوسل إلى السيدات أن يتنحين، انقض عليهن انقضاضا. كان بين السيدات من دلت قسمات وجوههن على أنهن لا يأبهن مطلقا لمتطلبات اللياقة الاجتماعية. مع ذلك، فقد كن يتهافتن على احتلال الصفوف الأولى عارضات زينتهن. واقترب «الفرسان» من الراقصات، وتشكلت الأزواج لمواكبة لحن «البولونيز».
وأخيرا تنحى كل الناس فظهر الإمبراطور باسما ترافقه المضيفة دون أن يعنى بمشية إيقاعية معها، وتبعهما المضيف ترافقه ماري أنتونوفنا ناريشكين، فالسفراء فالوزراء فالجنرالات، التي كانت الآنسة بيرونسكي لا يعييها تسميتهم. استدعي أكثر من نصف عدد السيدات للدخول في تلك الرقصة، وأخذت كل راقصة مكانها مع فارسها. وحينئذ تبينت ناتاشا أنها وأمها وسونيا كن في عداد القلة التي كتب لها أن تقف موقف المتفرج. لبثت واقفة في مكانها يتدلى ذراعاها الناحلين إلى جانبيها ، وتضطرب حنجرتها التي لم يكتمل نموها بعد، كاتمة أنفاسها حزينة ملتمعة العينين، تنظر أمامها بوجوم بينما كانت سحنتها القلقة تتلاءم مع انتظار فرحة غير منتظرة بقدر ما تتماشى مع توقع حزن كبير. لم يكن الإمبراطور ولا الشخصيات الكبيرة التي أشارت إليها الآنسة بيرونسكي يشغلون تفكيرها. لم تكن تفكر إلا في شيء واحد: «حقيقة لن يتقدم أحد لمراقصتي، ألن أرقص في عداد الأزواج الأولى؟ ألن أكون مرموقة من هؤلاء السادة الذين يبدون الآن وكأنهم لا يرونني، والذين إذا نظروا إلي بدا عليهم أنهم يحدثون أنفسهم بقولهم: «آه! ليست هي؛ فلنحول أبصارنا!» كلا، إن هذا لا يمكن أن يدوم. يجب أن يعلموا بأنني أريد أن أرقص، وأنني أرقص رقصا ساحرا، وأنهم سيجدون متعة من مراقصتي.»
أخذت أنغام البولونيز التي طال ترديدها تصل الآن إلى أذني ناتاشا أشبه بأصوات صاخبة مشوشة تبعث في نفسها الرغبة في البكاء. وكانت الآنسة بيرونسكي قد ابتعدت عن آل روستوف، والكونت قد أصبح في الجانب الآخر من القاعة. ولبثت الكونتيس وسونيا وهي نفسها في أمكنتهن أشبه بالتائهات وسط غابة، وسط ذلك الحشد من الغرباء الذين ما كانوا يأبهون بوجودهن. مر الأمير آندريه بصحبة سيدة بالقرب منهن دون أن يعرفهن، ومر آناتول الجميل بدوره باسما يتحدث مع مرافقته، وألقى على ناتاشا نظرة عابرة كتلك التي ينظر بها المرء إلى ستارة على جدار، وظهر بوريس مرتين، لكنه في كل مرة منهما كان يعنى بأن لا تلتقي أنظاره بنظراتهن. جاء بيرج وزوجته ولم يكونا يرقصان فانضما إلى الأسرة، لكن هذا الاجتماع العائلي جرح ناتاشا، ألم يكن هناك مكان أفضل من هذا للأحاديث العائلية؟ لم تعد فيها أي اهتمام وهي تتحدث عن ثوبها الأخضر.
وأخيرا، قاد الإمبراطور مراقصته بعد أن رقص مرتين أو ثلاث مرات، فتوقفت الموسيقى عن العزف. هرع مساعد مشدوه إلى السيدات من آل روستوف وسألهن أن يتنحين أكثر من ذلك، رغم أنهن كن لصق الجدار. ومن فوق السدة، شرعت الموسيقى تعزف ألحان الفالس البطيئة الجذابة المتناسقة. سرح الإمبراطور في القاعة نظرة باسمة، ومرت دقيقة طويلة قبل أن يتقدم زوج من الراقصين إلى الحلبة. جاء المساعد المرافق واقترب من الكونتيس بيزوخوف يطلب مراقصتها. وضعت يدها فوق كتفه دون أن تنظر إليه، فطوقها المساعد المرافق وهو ممتلئ بالثقة بنفسه في عنف غير متعجل، وقادته مراقصته منزلقة معه حتى نهاية الحلبة ثم أمسكت بيسراه، أدارته حول نفسه على إيقاع الموسيقى الآخذ بالإسراع، فلم يعد يسمع إلا صوت المهاميز في قدمي الراقص البارع تطن مع الإيقاع، بينما أخذ ثوب مراقصته في الخطوات الثلاثة يشع وكأنه يلتهب أو ينفث اللهب. شعرت ناتاشا وعيناها شاخصتان إلى هذا الزوج السعيد أنها على وشك البكاء: «لم لم تكن هي ترقص هذه الجولة الأولى من هذا الفالس؟»
كان الأمير آندريه، بثوبه الأبيض الذي يشير إلى رتبة زعيم في الفرسان وجوربيه الحريريين وخفيه، واقفا في الصف الأول وديع النفس، حي الروح. لم يكن بعيدا عن آل روستوف. كان البارون فيرهوف يتجاذب معه أطراف الحديث حول جلسة مجلس الدولة الأولى التي حدد موعدها غدا. ولما كان آندريه صديقا حميما لسبيرانسكي، وعضوا في اللجنة التشريعية، فقد كان في مقدوره إمداد البارون بمعلومات دقيقة حول تلك الجلسة التي فسر إعلانها على أشكال مختلفة متناقضة، لكنه لم يكن يعير البارون وأقواله كبير اهتمام، بل كان ينظر إلى الإمبراطور تارة، وإلى الراقصتين تارة أخرى، أولئك الراقصون الذين ما كانوا يجرءون، رغم ما في نفوسهم من شهوة للرقص على الدخول إلى الحلبة. وبينما كان يراقب أولئك الراقصين الذين روعهم وجود الإمبراطور، وأولئك الراقصات اللاتي كن يذبن حنينا إلى تقبل الدعوات، تقدم بيير منه وأمسك بذراعه وقال له: «أنت الذي تحب الرقص، هناك الفتاة التي أحميها؛ روستوف الشابة. ادعها وراقصها إذن.»
سأل بولكونسكي: «أين هي؟»
وقال للبارون معتذرا: «عفوك يا بارون؛ سوف نتابع حديثنا في مكان آخر. أما في هذه الحفلة فيجب أن نرقص.»
تقدم في الاتجاه الذي عينه بيير، وفجأة قفز أمام عينيه وجه ناتاشا اليائس. عرفها لفوره وحدس الشعور الذي يعتلج في نفسها، وأدرك أنها مبتدئة، فاقترب من الكونتيس روستوف هاشا باسما. قالت هذه ووجهها يتضرج خجلا: «اسمح لي أن أقدم لك ابنتي.»
قال آندريه وهو ينحني بتحية عميقة نقضت كل ما قالته الآنسة بيرونسكي عن خشونته وصلفه: «إننا معارف قدماء، ولعل الكونتيس تذكر ذلك.»
وقبل أن ينطق بعبارات دعوته المألوفة، قدم ذراعه ليطوق قوام ناتاشا عارضا عليها جولة فالس. أضاء وجه ناتاشا القلق الذي كان على استعداد للإعراب عن اليأس بقدر الاستعداد للتدليل على الفرح الطاغي، وأشرقت عليه فجأة تلك الابتسامة الطفولية السعيدة المليئة بالعرفان.
كانت بسمتها التي شعت خلال الدموع الوشيكة تعبر عن قول صاحبتها: «لقد كنت أنتظرك منذ أمد طويل.» بينما أسندت الفتاة يدها على كتف الأمير وهي وضاءة الوجه مروعة معا. ودخل زوج الراقصين الثاني إلى حلبة الرقص. كان الأمير من خيرة الراقصين في عصره، وبرهنت ناتاشا على أنها ترقص هي الأخرى بإبداع. كانت قدماها الصغيرتان في حذائيهما الحريريين الخفيفين يدرجان بسرعة وكأنهما يندفعان بحركة كامنة فيهما، وكان وجهها طافحا بالسعادة. كان عنقها وذراعاها العاريان إذا قيسا بعنق هيلين وذراعيها نحيلين وأقل جمالا. صحيح أن كتفيها لم يتم نموهما بعد، وحنجرتها لم تتكون، لكن هيلين كانت تنوء تحت نيران ألوف النظرات المنصبة على مجموع جسمها، بينما كانت ناتاشا مجرد طفلة عري جيدها لأول مرة، تشعر بالخجل الكبير لظهورها على هذا الشكل، لولا ما قيل لها من وجوب ارتداء هذا الزي توطئة لمجاراة المجتمع.
كان الأمير آندريه يحب الرقص، ويرغب في الخلاص من أحاديث السياسة والمداولات الجدية التي كان يبهظ بها، ثم إنه تعمد تبديد جو التحفظ والضيق الذي خلقه الإمبراطور بحضوره، فقرر الانشغال في الرقص، وانتقى ناتاشا ليدخل السرور على نفس بيير؛ لأنها كانت أول فتاة جميلة استوقفت أبصاره، لكنه ما إن طوق خصرها النحيل المرن، وشعر بها تتحرك قريبا منه، وما إن رآها تبتسم إليه عن مقربة حتى طفت فتنة الفتاة على روحه، وصعدت النشوة إلى رأسه؛ أحس بالشباب والحياة يكتسحان كيانه عندما قاد الفتاة إلى مكانها الأول، ووقف معها يراقبان الراقصين وهو مبهور الأنفاس.
الفصل السابع عشر
ناتاشا وآندريه
جاء بوريس بعد آندريه يراقص ناتاشا، وأعقبه المساعد المرافق الذي افتتح الرقص، ثم شبان آخرون أخذوا يتوافدون، حتى إن ناتاشا لوفرة طالبيها أتحفت سونيا بعدد كبير منهم. لم تتوقف عن الرقص طيلة تلك الليلة وهي مشرقة الوجه، أرجوانية الوجه، غير عابئة بما يستوقف الاهتمام العام، ولا مصغية إلى البحوث المتداولة؛ لذلك لم تلاحظ دخول الإمبراطور في حديث طويل مع سفير فرنسا، ومخاطبته هذه السيدة بإيناس خاص، ولم تنتبه إلى أن هذا الأمير أو ذاك عمل أو قال كذا وكذا، وأن هيلين أحرزت نجاحا كبيرا، وأن شخصية كبيرة مرموقة تفضلت بتوليتها عناية خاصة، بل إنها لم تر الإمبراطور ولم تشعر بمغادرته الحفل إلا بانتعاش الحركة العامة إثر مغادرته القاعة. رقص الأمير آندريه معها إحدى تلك الرقصات المرحة التي سبقت العشاء. ذكرها بلقائهما الأول في ممشى حديقة أوترادنواي بتلك الليلة القمراء التي لم يطرق النوم جفونها خلالها، وبالحديث الذي بلغ مسامعه عفوا ساعة أن كان قرب النافذة. تخضبت وجنتاها لتلك الذكرى، وحاولت إيجاد عذر لنفسها وكأنها خجلت للإحساسات التي اطلع عليها الأمير عفوا وهي تفثأ بركانها.
كان الأمير - ككل الذين نشئوا في المجتمعات الراقية - يحب لقاء أشخاص لا يحملون الطابع الاجتماعي المبتذل. كذلك ناتاشا في دهشتها واستغرابها، وفي وداعتها وقلة درايتها، كما في أخطائها في اللغة الفرنسية. وعليه أخذ يعاملها برفق ورقة نادرين، جلس بجانبها يحدثها عن أمور عادية جدا مغرقة في التفاهة، ويعجب ببريق نظرتها المرحة، وابتسامتها التي تعبر عن سرورها الداخلي أكثر مما تعبر عن منطوق أقوالها. كان يتأمل ظرفها البريء الساذج كلما راقصها أو خاصرها راقص آخر. وبينما عادت ناتاشا بعد حركة تصويرية رائعة تخللت الرقصة الخفيفة البهيجة مبهورة الأنفاس إلى مكانها، تقدم راقص جديد يطلب مخاصرتها، كادت ترفض لشعورها بالإعياء، لكنها فجأة اتكأت على كتف مراقصها وابتسمت للأمير آندريه. «كنت أشعر بسرور بالغ لو استرحت وجلست بقربك لأنني متعبة، لكنك ترى كيف يبحثون عني، وإنني لشديدة الاغتباط . نعم، إنني سعيدة وأحب كل الناس هذا المساء، ثم إننا متفاهمان تماما.» تلك كانت بعض ما تعبر عنه ابتسامتها إلى جانب أشياء أخرى، وعندما أعادها فارسها إلى مكانها جرت تخترق القاعة لتدعو سيدتين للقيام بالصورة الراقصة التالية.
قال آندريه في سره وهو يتابعها بعينيه دون عمد: «إذا مضت إلى ابنة عمها أولا ثم إلى السيدة الأخرى؛ فستكون زوجتي.» وجرت ناتاشا إلى ابنة عمها مباشرة. فكر آندريه: «يا للترهات التي تجول أحيانا في خاطرك! على كل حال، إن هذه الصبية جمة اللطف والسذاجة وسلامة الطوية، حتى إنه لن يمضي شهر واحد إلا وتكون قد أخذت؛ لا مثيل لها هنا حقا.» تلك كانت اتجاهات الأمير الفكرية عندما عادت ناتاشا تجلس إلى جانبه بعد أن أصلحت وضع الوردة في ثوبها.
أول حفلة لناتاشا.
انتهت الرقصة المرحة، فاقترب الكونت العجوز بثوبه الأزرق من الراقصين، دعا الأمير آندريه إلى زيارتهم وسأل ابنته عما إذا كانت سرت ذلك المساء، فلم تجب ناتاشا لفورها وتركت ابتسامتها تقول: «كيف يمكن طرح مثل هذا السؤال؟» ثم اعترفت أخيرا: «كما لم أسر في حياتي!»
ولاحظ الأمير آندريه أن ذراعيها النحيلتين قد تحركتا لتطويق أبيها، ثم عادا يسقطان إلى جانبيها بسرعة. والحقيقة أن ناتاشا لم تشعر قط بمثل هذه البهجة. كانت تتذوق تلك اللحظة من السعادة القصوى؛ حيث يشعر المرء أنه مفعم بالطيبة والكمال، ولا يؤمن بالسوء ولا بالفقر ولا بالألم.
للمرة الأولى في هذه الحفلة الراقصة، شعر بيير بألم للمركز الرائع الذي تحتله زوجته في الوسط الراقي. لبث واقفا قرب نافذة كئيبا ساهما يقطع جبينه غضون طويل، ينظر خلال نظارتيه دون أن يرى شيئا.
وبينما كانت ناتاشا تمر بالقرب منه في طريقها إلى قاعة المائدة لتناول العشاء، استوقف حزنه وكآبته انتباهها. وقفت وكلها رغبة في مساعدته وإملاء فؤاده بفيض السعادة التي تغمرها، فقالت: «كم يرفه المرء عن نفسه هنا يا كونت، أليس كذلك؟»
فابتسم بيير - الذي لم يفقه شيئا ولا شك من قولها - ابتسامة ساهمة وقال: «نعم، إنني سعيد جدا .»
فكرت ناتاشا: «كيف يمكن أن يكون المرء حزينا، وخصوصا بيزوخوف هذا؛ إنه جم اللطف والعذوبة والطيبة. كل واحد منهما يحب الآخر، لا يخلق بأحدهما إهانة الآخر وتجريحه، ومن أجل ذلك كانت السعادة عامة وواجبة.»
الفصل الثامن عشر
نقطة التحول
لم يعلق الأمير آندريه غداة اليوم التالي على حفلة الأمس إلا بذكرى عابرة: «نعم، لقد كانت حفلة لامعة جدا. ماذا بعد؟ آه نعم. روستوف الصغيرة فاتنة لعمري، فيها شيء ناضر لا أدري كنهه، وفيها شيء فريد يزيد في تمييزها عن نسائنا البيترسبورجيات.»
تلك كانت حدود أفكاره، وما إن تناول الشاي حتى عاد إلى العمل، لكنه ما شعر أنه على غير ما يرام، سواء أكان ذلك بسبب التعب أم الأرق، وهو شعور كثيرا ما أحس به من قبل وجعله يتذمر من عمله؛ لذلك فقد سره أن أعلن عن قدوم زائر.
كان الزائر - وهو يدعى بيتسكي - عضوا في لجان مختلفة، مواظبا على كل الحلقات، مناصرا متحمسا لسبيرانسكي والإصلاحات، ناقلا إشاعات مجد في كل العاصمة، وواحدا من أولئك الذين يسيرون في ركاب المجتمع الراقي بآرائه وأفكاره وأزيائه، الأمر الذي يجعله ومن على شاكلته في عداد أشد المتحمسين للأفكار الحديثة. لم يكد الزائر يخلع قبعته حتى راح هارعا نحو آندريه يتبسط معه في موضوعات مطولة متصنعا الاهتمام. صرح بأنه اطلع على تفاصيل عديدة تتعلق بجلسة مجلس الدولة التي افتتحها الإمبراطور نفسه هذا الصباح، وتلا فيها خطابا رائعا. لقد تحدث الإمبراطور كما لا يحسن التحدث مثله إلا كل عاهل دستوري؛ لقد قال بكل صراحة: «إن مجلس الدولة والشيوخ هما أجزاء الدولة، وإن الحكومة يجب أن ترتكز على أسس متينة، وليس على الارتجال.» وقال: «إن النظم المالية ينبغي أن يعاد تنظيمها، وكذلك الموارد العامة.» كان بيتسكي يقص هذه التفاصيل وهو يظهر كلمات معينة، ويجيل حوله عينين كبيرتين، وأخيرا خلص إلى القول: «نعم، إنه حدث يفتح أفقا جديدا، أعظم وأجل أفق في تاريخنا.»
ولدى سماع الأمير هذه القصة عن حفلة الافتتاح التي طالما ترقبها بصبر نافد، وعلق عليها مزيدا من الأهمية، أدهشه أن لم يشعر بأية استجابة لهذا الحديث بعد وقوعه، وأن يجد في ذلك أمرا أكثر من تافه، أظهر سخرية معادلة لتعلق بيتسكي وحماسه، وطافت في رأسه فكرة: «ماذا يهم بيتسكي ويهمني؟ بل ماذا يهمنا جميعا إن راق للإمبراطور التحدث على هذا المنوال في المجلس؟ هل يجعلنا هذا أفضل مما نحسن وأكثر سعادة؟»
وفجأة نزعت تلك الفكرة من رأسه كل اهتمامه بالإصلاحات التي كانت في طريق الصدور والتنفيذ، كان عليه أن يتناول العشاء ذلك اليوم بالذات عند سبيرانسكي في «لجنة صغيرة»، كما قال له مضيفه عندما دعاه، وكانت فكرة تناول الطعام في حدود عائلية، وبين أصدقاء رجل كان شديد الإعجاب به، قد فتنته أكثر مما افتتن من قبل في علاقاته الودية كلها، لكنه ها هو الآن لا يجد دافعا للذهاب إلى ذلك الحفل.
مع ذلك، فقد ولج باب المسكن الذي يملكه سبيرانسكي في «جاردان توريد» في الساعة المحددة. كان ذلك المسكن يمتاز بنظافة الأديرة. وجد آندريه - الذي وصل متأخرا قليلا - في قاعة الطعام المفروشة بألواخ خشبية كل المدعوين الذين يؤلفون «اللجنة الصغيرة» مجتمعين فيها منذ الساعة الخامسة، ولم يكن هناك من السيدات إلا ابنة الوزير، التي كانت ذات وجه طويل كأبيها ومربيتها، وكان المدعوون ثلاثة: جرفيس، ومانييتسكي، وستوليبين. سمع آندريه منذ أن دخل الردهة الخارجية صخب أصوات وضحكة مدوية نقية تشبه ضحكة الممثلين، وسمع بعضهم الذي كان صوته شبيها بصوت سبيرانسكي يطيل آهاته ويباعد بينها: «ها! ها! ها!» بشكل لم ير عليه سبيرانسكي من قبل، أحدثت تلك الضحكة المدوية الحادة الصادرة عن رجل الدولة وذلك الجذل الغريب تأثيرا شاذا في نفس آندريه.
دخل إلى قاعة الطعام، فرأى المجتمعين منتظمين حول مائدة الشراب ومقبلات مقامة بين النافذتين، وسبيرانسكي - بشارة الوسام الرفيع فوق سترته الرسمية الشهباء، والصدارة البيضاء نفسها، وربطة العنق البيضاء العالية التي كان يضعها عند افتتاح جلسة مجلس الدولة العتيد - جالسا قرب المائدة بوجه مشرق حبورا. وكان مانييتسكي ملتفتا إلى رب المنزل الذي كان يصغي إليه ضاحكا سلفا مما سيقوله، يروي له أحدوثة. فلما دخل الأمير آندريه عادت ضحكات عالية جديدة تعلو على صوت المحدث وتخنق كلماته، فستوليبين انطلق يقهقه بصوت أجش وهو يمضغ قطعة من الجبن. أما جرفيس فظل يضحك ضحكته المصفرة، وسبيرانسكي ضحكته الحادة المتقطعة. مد يده السمينة البيضاء إلى آندريه دون أن يكف عن ضحكته وقال: «يسعدني أن أراك يا أمير.»
ثم قطع على مانييتسكي أحدوثته بقوله: «لحظة.» أضاف يخاطب الأمير آندريه: «إن عشاءنا مكرس للسرور؛ لذلك فقد اتفقنا على أن لا نتحدث في الأعمال.» ثم التفت إلى المتحدث اللبق وضحك.
ازدادت دهشة آندريه لدى سماعه ضحك سبيرانسكي، فراح ينظر إليه بخيبة أمل حزينة، هل كان هذا سبيرانسكي فعلا؟ لقد تبدد كل ما كان يظنه فيه من غموض فتان وسحر، فلم يعد يحس بشيء يربطه إليه.
استمرت الدعابات النارية تطوف بالمدعوين خلال فترة العشاء كلها. كان مانييتسكي إذا فرغ من فكاهته أو كاد، انبرى آخر يروي فكاهة أخرى أشد منها إضحاكا، وكانت هذه الدعابات - وإن كانت لا تدور على الإدارة بمعناها الصحيح - تمس الأشخاص الإداريين عن قرب، حتى ليقال إن تفاهة ملاك الإدارة لدى هؤلاء المجتمعين ما كانت تستوجب منهم إلا لونا من الرحمة والتسامح الساخرين. قص سبيرانسكي على ضيوفه أنه بينما كان يؤخذ رأي أحد كبار الموظفين المصاب بوقر في أذنيه، الذي كان حاضرا في افتتاح مجلس الدولة ذلك الصباح، أجاب هذا أنه موافق على الرأي دون أن يدرك كنهه، فراح جرفيس يقص بصورة مطولة حادثة تفتيش بالغة في السخف، الذي يطبعها بطابع مضحك يشمل أبطالها. أما ستوليبين فراح يهاجم بشدة وهو يتأتئ مفاسد العهد الفائت، الأمر الذي أعطى البحث صبغة جدية. سخر مانييتسكي من حماسة المتكلم الأخير وحماسه، وبرز جرفيس بدعابة تليق بالمقام، فعاد الحديث إلى صبغته المجونية الأولى.
من الطبيعي أن يحب سبيرانسكي الترفيه عن نفسه من وطأة أعماله في حلقة من الأصدقاء، وفهم أصدقاؤه، وهم مدعووه، رغبته فراحوا يسعون إلى الترفيه عنه بتسليته وتسلية أنفسهم بنفس الوقت، لكن ذلك الجذل بدا للأمير آندريه شاقا مغتصبا. أزعجته نبرة صوت سبيرانسكي الحادة؛ فقد بدت له ضحكة هذا الرجل الطويلة متكلفة أحدثت جرحا في أدق مشاعره. ولما كان وحده بينهم محتفظا برزانته وجديته، فقد خشي أن يعتبر متطفلا، لكن ما من أحد لاحظ أنه لم يكن متهللا مثلهم. بدا كل الموجودين في أوج الغبطة.
هم آندريه أن يتدخل مرارا في الحديث الدائر، لكنه في كل مرة كان يلاحظ أن أقواله تنبذ كما تنبذ الماء قطعة الفلين، وأخفق في مجاراتهم بأسلوب حديثهم. لم يكن في تلك الدعابات شيء يتنافى مع مقام الأشخاص وقواعد الأدب؛ فقد كانت كلها منتقاة تدل على بديهة ودقة فكرية تثير الضحك، لكنها مع ذلك كانت تفتفر إلى ذلك الشيء الخفي الذي يجعلها مستملحة بهيجة؛ لذلك ظلت وكأنها لم تكن.
انتهى العشاء فنهضت ابنة سبيرانسكي ومربيتها. قبل هذا ابنته وربت على خدها بيده البضة حتى إن تلك الحركة الحانية نفسها بدت لآندريه غير طبيعية.
ظل الرجال حول المائدة تبعا للأصول الإنجليزية يحتسون شراب «البورتو»، وانتهى بهم الحديث إلى طرق موضوع حرب إسبانيا، فأيدوا جميعا موقف نابليون. وهنا سمح الأمير آندريه لنفسه بمعارضتهم. ابتسم سبيرانسكي، ولكي يدير دفة ذلك الحديث الشائك إلى وجهة أخرى، قص أحدوثة خارجة عن الموضوع؛ فعم السكون، وصمت السامعون.
وبعد لحظة، سد سبيرانسكي زجاجة الشراب وهو يقول: «إن الخمر الجيدة اليوم لا تطوف بالشوارع.» أعطى الزجاجة لخادم ونهض، فاقتدى به الآخرون واتجهوا نحو البهو وهم يصخبون. حمل البريد إلى سبيرانسكي غلافين أخذهما وانسحب إلى مكتبه، وما إن خرج حتى تبدل الصخب بالجد، وأخذ المدعوون يتداولون الحديث بصوت خافت حول موضوعات جدية تماما، بيد أن سبيرانسكي عاد بعد حين وقال: «والآن لننتقل إلى الأحاديث المفخمة!»
وأشار إلى مانييتسكي وقال يخاطب الأمير: «إن له باعا طويلة في هذا المضمار.»
اتخذ مانييتسكي لفوره وضعية مناسبة، وراح ينشد مقطوعة شعرية هزلية باللغة الفرنسية نظمها حول عدد من الشخصيات اللامعة في بيترسبورج. قوطع مرارا بالتصفيق، فلما انتهى تقدم الأمير من سبيرانسكي مستأذنا. سأله هذا: «إلى أين تذهب في مثل هذه الساعة المبكرة؟» - «لقد ارتبطت بموعد لقضاء السهرة.»
لم يتبادلا كلمة أخرى، نظر آندريه عن قرب إلى تينك العينين الملساوين الشبيهتين بالمرآة، اللتين لا تسمحان بالتعمق إلى ما وراءهما، فخيل إليه أنه من الغرابة والسخف أن يكون قد استملح الإصغاء إلى أي موضوع صادر عن هذا الرجل، كما شعر بغباء المجهود الذي يبذله بدافع منه. كيف يمكن النظر بعين الجد إلى ما كان يعمله سبيرانسكي؟ ظلت تلك الضحكة المتقطعة الخالية من الانشراح تلاحقه ردحا طويلا بعد أن انسحب من مجلس الوزير.
أعاد النظر فور عودته إلى منزله بكل الحياة الجديدة التي بدأها في بيترسبورج وكأنه سيشرع فيها لأول مرة. تذكر تصرفاته خلال الشهور الأربعة الأخيرة وملتمساته وكل قصة مشروع النظام العسكري الذي وضعه، والذي قبل للتدقيق وانتهى به الأمر إلى إحاطته بسياج كثيف من الصمت لمجرد أن مشروعا آخر لا يمكن أن يداني مشروعه في حال، قدم إلى الإمبراطور. تذكر جلسات اللجنة التي عين بيرج عضوا فيها؛ تلك الجلسات التي كان المجتمعون فيها يتحاشون بكل عناية البحث في جوهر الموضوع، بينما يتناقشون في الشكل الواجب إضفاؤه على الضبوط. تذكر أعماله التشريعية وترجماته الأمينة عن القانون الروماني وقانون نابليون، فاستبد به الخجل لدى تفكيره في كل هذه الأمور، ثم عاد يتصور نفسه في بوجوتشاروفو، ويتذكر مشاغله في الريف وسفره إلى ريازان وفلاحيه وما يتعلق بهم، وكيف أخذ يعمل على تطبيق مبادئ قانون الإنسان عليهم؛ ذلك القانون الذي وضعه بنفسه بكل عناية، فأدهشه أن رأى نفسه مكرسا وقتا طويلا من حياته لعمل عقيم من هذا النوع.
الفصل التاسع عشر
فجر بولكونسكي
مضى الأمير غداة اليوم التالي يقوم بزيارة لآل روستوف بين عديد من الأشخاص الذين يدين لهم برد زياراتهم. ولقد جدد آل روستوف معرفتهم به منذ ليلة الحفلة الراقصة، فكان من دواعي اللياقة أن يرد لهم زيارتهم، لكن تصرفه ذاك لم يكن مستوحى من روح القواعد المرعية فحسب، بل من رغبته في رؤية تلك الصبية الساذجة المندفعة التي خلقت في نفسه شعورا دقيقا مرهفا.
كانت ناتاشا إحدى أوليات المستقبلات، بدت له في ثوبها المنزلي الأزرق أكثر جمالا مما كانت عليها وهي في زينتها الرسمية. استقبلت ناتاشا وكل آل روستوف بولكونسكي استقبال الصديق القديم ببساطة قلبية ودية. شعر أن تلك الأسرة التي قسا عليها بحكمه من قبل مؤلفة من أشخاص ممتازين بسطاء وطيبين. لم يستطع الصمود إزاء معاملة الكونت العجوز المضياف التي تختلف كل الاختلاف عن النهج الاحتمالي المعمول به في بيترسبورج، فقبل دعوته لتناول طعام العشاء على مائدته. قال يحدث نفسه: «نعم، إنهم أناس بواسل جدا، لا يلقون بالا مطلقا إلى الكنز الذي يمتلكونه مجسدا في شخص ناتاشا، ثم إنهم يقومون بدور الدافع غير عامدين لإظهار تلك الفتاة الرائعة المليئة بالشاعرية، المفعمة بالحياة.»
كان يشعر حيال هذه المخلوقة الشابة أنه أمام عالم مجهول خاص مليء بالمسرات غير المنتظرة، ذلك العالم الذي أزعجه كثيرا من قبل في ممشى حديقة أوترادنواي وقرب نافذة الجناح الأعلى، عندما كان القمر يغمر الحديقة بالضوء. لم يعد ذلك العالم غريبا عنه الآن. لقد وجد وهو يدخله مسرات جديدة.
وبعد العشاء، مضت ناتاشا - بناء على طلبها - إلى المعزف وشرعت تغني، وكان بولكونسكي يصغي إليها رغم انشغاله في الحديث مع السيدات في فراغ إحدى النوافذ. صمت فجأة في منتصف جملة وهو يشعر بأن الغصة تعمل في حلقه، غصة مليئة بالدموع؛ الأمر الذي كان يعتقد استحالة وقوعه من قبل. شخص بأبصاره إلى المغنية وهو يحس باضطراب غريب وسعادة ممتزجة بالحزن. كان على استعداد لذرف دموع سخية دون أن يكون هناك أي داع للبكاء، على أي شيء يبكي؟ على غرامه الأول؟ على الأميرة الصغيرة؟ على إخفاقه وتبدد أوهامه؟ على آماله وأحلامه؟ نعم ولا. نشأت تلك الرغبة في البكاء من إيحاء جديد تجلى له في الغالب. ظهر له التناقض الهائل المروع بين ما كان يحس به من إغراق في العظمة والرحب المطلق في أعماق نفسه، وبين الإنسان المحدود الضيق الجسدي الذي كان يملأ إهابه، والذي هي عليه كذلك. هذا ما كان يبعث عذابه وسروره معا خلال الفترة التي غنت فيها ناتاشا.
جاءت، بعد أن فرغت، تسأله عما إذا كان صوتها قد أعجبه، لكنها ما كادت تطرح السؤال حتى أدركت أنها أساءت التصرف فارتعدت. ابتسم لها وقال: «إن غناءها قد أعجبه كما يعجبه كل ما تعمله.»
عاد الأمير متأخرا جدا إلى مسكنه، فاستلقى على فراشه بحركة آلية، لكنه تبين بعد حين عبث محاولته النوم تلك الليلة. أضاء شمعة وأخذ ينهض ثم يعود إلى الاستلقاء دون أن يلعن ذلك الأرق الذي استبد به لشدة ما كان يحس به من فيض الإحساسات الجديدة الذي كان يحمله معه. خيل إليه أنه كمن كان في غرفة مغلقة ثم خرج منها فجأة يستنشق الهواء الطلق ملء رئتيه. لم تراوده فكرة إمكان وقوعه في غرام ناتاشا ولم تخطر له على بال. لم يكن يفكر فيها، لكنها كانت أبدا أمام عينيه، وبنتيجة ذلك كان يحس أن كل وجودها يطل عليه ويلهمه نهارا جديدا.
حدث نفسه: «لماذا أزعج نفسي بهذا المقدار في إطار ضيق مغلق بينما الحياة كل الحياة بمباهجها وأفراحها تتفتح أمامي؟» ولأول مرة منذ زمن طويل شرع يبني آمالا جميلة لمستقبله: قرر تسليم تثقيف ولده نيكولا إلى أحد المربين، بينما يقدم هو استقالته ويسافر إلى إنجلترا وسويسرا وإيطاليا. فكر في نفسه: «يجب أن أفيد من حريتي خلال الفترة التي أحس فيها أنني على حظ وافر من القوة والشباب. إن بيير على حق في قوله: إنه لكي نكون سعداء يجب أن نؤمن في إمكانية السعادة. والآن أراني مؤمنا. فلندع الأموات إذن يدفنون الأموات؛ إذ يجب أن نحيا وأن نكون سعداء طالما نحن على قيد الحياة.»
الفصل العشرون
حفلة بيرج
ذات صباح، دخل الزعيم آدولف بيرج، الذي كان بيير يعرفه كما يعرف كل أهالي موسكو وبيترسبورج، على بيير في ثوب جديد أنيق مضمخ الشعر مسدله على صدغيه على غرار الإمبراطور ألكسندر، قال له وهو يبتسم: «إنني خارج من لدن الكونتيس زوجتك وأنا شديد الأسف إذا لم أجب إلى ملتمسي؛ فآمل أن أكون أكثر حظا معك يا كونت.» - «ماذا ترغب يا «كولونيل»؟ إنني رهن أوامرك.»
قال بيرج وهو واثق سلفا من أن طلبه لن يقابل بارتياح بالغ: «لقد فرغت من إقامة بيت جديد لي يا كونت؛ لذلك فقد قررت أن أحيي حفلة صغيرة لأصدقائي ومعارفي وأصدقاء زوجتي - وابتسم هنا ابتسامة أكثر ملاحة - وكنت أرغب في التقدم إلى الكونتيس برجاء لتتفضل بتشريفنا بحضورها لتناول قدح من الشاي يعقبه عشاء متواضع.»
كانت الكونتيس هيلين فاسيلييفنا وحدها - وهي التي تقدر أن احتكاكها بآل بيرج أولاء يحط من قيمتها - قادرة على إظهار مثل هذه القسوة لرفض طلب من هذا النوع. أوضح بيرج بلباقة زائدة سبب إقامة هذه الوليمة، وجمع هذا العدد من كرام الناس وصفوتهم في بيته، وسبب شعوره بالسعادة عند استقباله هذا الحفل الكريم. وأخيرا سبب قيامه ببعض التضحيات - التي قد يأسف عليها - لتوفير الترفيه بالورق وغير ذلك من التسليات الأخرى لضيوفه. وبالخلاصة، ظل يلح على بيير ويقنعه حتى لم يجد هذا مانعا من قبول دعوته، فوعده بالحضور.
قال بيرج: «لكنني أرجوك أن لا تتأخر يا كونت، أتوسل إليك، ليكن حضورك في الثامنة إلا عشر دقائق إذا تفضلت. سوف نلعب الورق وسيكون قائدنا «الجنرال» هناك. إنه يظهر حيالي عطفا ساميا يا كونت، ولسوف نتعشى بعدئذ. موافق، أليس كذلك؟»
وصل بيير - خلافا لمألوف عادته بالوصول متأخرا أبدا - في الثامنة إلا ربعا إلى منزل آل بيرج ذلك المساء بدلا من الثامنة إلا عشر دقائق.
كان آل بيرج قد أنهوا استعداداتهم ووقفوا تحت السلاح استعدادا لاستقبال ضيوفهم، انتظروا قدومهم في المكتب الجديد المشع الأنيق المزين بالتماثيل الصغيرة واللوحات، المؤثث برياش جديد، وكان بيرج في ثوب عسكري أنيق جديد مزرر بعناية، يشرح لزوجته أن بالمستطاع إيجاد معارف من الطبقة الراقية التي تفوقهم في سمو المركز ووفرة النفوذ، بل ويجب توفير مثل هؤلاء المعارف؛ لأنه ينتظر من مثلهم دائما الخير: «هناك دائما شيء مفيد يكسبه الإنسان من مثل هؤلاء؛ قدم أو جناح على حد القول . خذي على سبيل المثال مركزي اعتبارا من رتبي الأولى - وبيرج لم يكن يحصي سني حياته العسكرية، بل ترقياتها - لا زال زملائي في مراكز تافهة، بينما أنا ارتقيت في الرتب حتى أصبحت على وشك بلوغ قيادة فيلق، وحصلت على سعادة التزوج منك - ونهض ليقبل يد فيرا، لكنه في طريقه إليها سوى جانب السجادة المرفوع - ولمن يعود الفضل في كل هذا؟ إنه يعود في الغالب إلى فن انتقاء الأصدقاء، الأمر الذي لا ينفي بلا شك الفضيلة والدقة اللتين أتحلى بهما.»
ابتسم بيرج لقناعته بتغلبه على امرأة ضعيفة، وصمت وهو يحدث نفسه بأنه إذا كانت هذه المرأة الفاتنة التي هي زوجته ضعيفة ككل الأخريات، فإنها لن تستطيع إدراك كل ما يشكل عظمة كونه رجلا مرموقا، لكن فيرا كانت تبتسم هي الأخرى خلال هذه الفترة لوثوقها من تفوقها على زوجها الفاضل، الرجل الممتاز بلا شك، ولكن الذي يفهم الحياة فهما خاطئا ككل الرجال على السواء. وكان بيرج - وهو الذي يحكم على النساء بحسب حكمه على زوجته - يعتبر النساء كلهن مخلوقات ضعيفة وسخيفة. أما فيرا فكانت تحكم على الرجال استنادا إلى شخصية زوجها وحده، فتقدر لدى تعميم ملاحظاتها أن الرجال كلهم يميلون إلى الاعتبار أنهم وحدهم يتمتعون برجاحة العقل، بينما هم في الحقيقة لا يفهمون شيئا؛ لأنهم متكبرون وأنانيون.
نهض بيرج وطوق زوجته بحذر شديد ليتفادى إفساد معطف «الدانتيلا» الصغير الذي ترتديه، والذي دفع ثمنه غاليا، وقبل شفتيها وقال تدفعه مجموعة من الأفكار العفوية: «المهم أن لا نرزق أطفالا بسرعة.»
فأجابت فيرا: «نعم، إنني لا أميل إلى ذلك قط؛ يجب أن نعيش للمجتمع.»
وفي تلك اللحظة، أعلن قدوم الكونت بيزوخوف. تبادل الزوجان ابتسامة رضا وكل منهما يعزو إلى نفسه شرف هذه الزيارة.
حدث بيرج نفسه: «هذا هو نتاج معرفة إيجاد علاقات، هذا هو حصاد حسن التصرف.» قالت فيرا: «كل ما أطلبه منك هو أن لا تقاطعني عندما أكون مع المدعوين. إنني أعرف تماما ما يجب أن أقوله لكل واحد منهم .»
فأجابها بيرج باسما: «ليس دائما ؛ يجب أن تثار أحاديث رجال بين الرجال.»
استقبل بيرج في البهو الجديد، حيث كان الجلوس على مقاعده متعذرا دون إفساد المسافات المتساوية بينها، فكان من الطبيعي جدا أن يعرض بخيلاء وتنازل أن تبدل أوضاع المقاعد والأريكة إكراما لهذا الضيف العزيز، لكن قلقه من جراء ذلك كان بالغ الشدة، حتى إنه ترك أمر تقويض ترتيب تلك المقاعد لرغبة ضيفه نفسه، بيد أن هذا حطم من تلقاء نفسه نظام تقابل المقاعد بأن سحب كرسيا وجلس عليه، فشرع الزوجان من فورهما في تدشين سهرتهما يقاطع أحدهما الآخر وهما يحدثان ضيفهما.
قدرت فيرا بحكمتها أن سفارة فرنسا موضوع مهم مناسب جدا لاجتذاب اهتمام بيير؛ لذلك فقد شرعت تبني حديثها حول هذا الموضوع. أما بيرج فقدر على العكس أن حديثا خاصا بموضوعات الرجال يتطلب الإثارة، فقاطع زوجته ليضع على بساط البحث موضوع الحرب على النمسا. وبعد أن أعلن عن أفكار عامة في الموضوع، اندفع - دون وعي منه بلا شك - يتحدث في الاعتبارات الشخصية حول العرض الذي قدم إليه بالمساهمة في تلك الحرب، والأسباب التي بني عليها رفضه. فلما صار الحديث إلى هذا الحد أصبح حديثا متقطعا غير منسجم، حتى إن فيرا جدفت بشدة ضد هذا التدخل من جانب العنصر الرجالي. ومع ذلك، فقد لمس الزوجان بغبطة وارتياح أن سهرتهم، رغم أنها تقتصر في الوقت الحاضر على ضيف واحد، تسير على أحسن ما يكون، لا تختلف في شيء عن السهرات الأخرى التي يتبادل الحديث خلالها، ويحتسي المدعوون الشاي وهم إلى مائدة تنيرها الشموع، وكأنها قطرة ماء إلى جانب قطرة أخرى.
وصل بوريس بعد قليل، وهو رفيق بيرج القديم، فكان واضحا من تصرفه حيال الزوجين أنه يتخذ إزاءهما موقف من يبسط حمايته في لون من الترفع. جاء بعده «الكولونيل» بصحبة سيدة، ثم الجنرال نفسه، وأخيرا آل روستوف. وحينئذ فقط بلغت السهرة الشأو الذي تمتاز به كل السهرات الأخرى. لم يتمالك بيرج وفيرا من الإفراج عن ابتسامة راضية لدى رؤيتهما البهو يعج بالحياة ، وسماعهما الأحاديث المتقطعة وأصوات حفيف أثواب السيدات وسط التحيات المتبادلة. سار كل شيء في الطريق الذي تسير فيه الأمور في الحفلات الأخرى، حتى إن الجنرال لم يختلف في تصرفه عن الجنرالات الآخرين: يربت بصداقة على كتف بيرج ويهنئه بسلامة ذوقه، وشكل فرقة لعب الورق بأسلوب خاص ينطق برفع الكلفة. جلس قرب الكونت إيليا آندريئيفيتش معتبرا أنه الضيف الأرفع مكانة بعده هو بالطبع. وانسجم الشيوخ مع الشيوخ، والشبان مع الشبان، وربة البيت قرب المائدة التي قامت عليها سلة فضية تحمل المعجنات المشابهة تماما للمعجنات التي قدمت لدى آل بانين، وبذلك لم يعد هناك أي فارق بين هذه الحفلات والحفلات الأخرى.
الفصل الحادي والعشرون
ملاحظات بيير
اضطر بيير بوصفه ضيفا مرموقا إلى الجلوس إلى مائدة اللعب بجانب الكونت إيليا آندريئيفيتش والجنرال والكولونيل، ولما كان جالسا قبالة ناتاشا، فقد لاحظ بذهول أن تغييرا غريبا طرأ على الفتاة منذ ليلة الحفلة الساهرة الراقصة. كانت صامتة وأقل جمالا مما بدت حينذاك، بل يمكن القول إنها بدت بشعة لولا أمارات الشرود واللامبالاة التي كانت تكسو وجهها.
حدث بيير نفسه وهو يراقبها: «ماذا بها؟» كانت جالسة إلى مائدة الشاي قرب شقيقتها تجيب على حديث جارها بوريس بأطراف شفتيها دون أن تنظر إليه. وكان بيير - لمزيد اغتباط شريكه - قد ربح وحده خمسة أشواط، وأخذ يجمع أوراقه حينما تناهى إلى سمعه صوت خطوات وتبادل التهاني، فاختلس نظرة إلى وجه ناتاشا. تساءل: «ترى ماذا وقع لها؟»
كان الأمير آندريه منتصبا أمام ناتاشا يحدثها بحنو وعناية وعيناها شاخصتان إليه، ووجهها متخضب بالحمرة، لا تكاد تضبط أنفاسها المبهورة، وقد انبعثت من شخصها كله نار مستعرة كانت أضواؤها منذ حين خابية خامدة. لقد تبدلت تماما فلم تعد تبدو بشعة، بل أصبحت في مثل الإشراق الذي كانت عليه إبان الحفلة.
جاء آندريه يحيي بيير، فلاحظ هذا أن وجه صديقه اتخذ - هو الآخر - طابعا جديدا وكأنه عاد إلى الشباب.
أبدل بيير خلال الشوط - حسب مقتضيات اللعبة - مكانه أكثر من مرة، فكان تارة مدبرا إلى ناتاشا ، وتارة مقبلا إليها، فلم يكف خلال جولاته الستة عن مراقبة صديقه والفتاة الشابة.
حدث نفسه قائلا: «هناك شيء خطير يقوم بينهما.» وانتابه شعور امتزج فيه الأسف بالسرور، شعور حرك عواطفه لدرجة كاد معها أن ينسى اللعب.
نهض الجنرال بعد الشوط السادس معلنا استحالة اللعب في مثل هذه الشروط، فاستعاد بيير حريته. كانت ناتاشا تتحدث مع سونيا وبوريس، وفيرا تجاذب الأمير آندريه الكلام وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة. التحق بيير بصديقه وجلس بقربه وهو يتساءل عما إذا لم يكن متطفلا عليهما. كانت فيرا - وهي التي لاحظت عناية الأمير بأختها ناتاشا - تعتقد أن سهرتها تلك - باعتبارها سهرة مستوفية الشروط - صالحة للتنويه بالشئون العاطفية تنويها رقيقا ملزما؛ فانتهزت فرصة انفراد الأمير بنفسه، وراحت تثير معه حديثا حول الحب بصورة عامة، وأختها بصورة خاصة. قدرت أنه يجب عليها اللجوء إلى مرونتها كلها وكياستها للتحدث مع ضيف يمتاز بالذكاء المتوقد كما كان حال الأمير آندريه.
وعندما اقترب بيير، لاحظ أن فيرا شديدة الانفعال مسترسلة في قولها، ناعمة به، وأن الأمير ظاهر الخجل والارتباك؛ الأمر الذي يندر وقوعه له. كانت تقول من وراء ابتسامتها الناعمة: «ما هو رأيك؟ إنك دقيق الملاحظة إلى حد بعيد، عظيم الإدراك من النظرة الأولى لأخلاق الناس. ما رأيك في ناتالي؟ هل تستطيع أن تكون ثابتة في تعلقها؟ هل تستطيع كالنساء الأخريات - وهمت أن تقول مثلي - أن تحب رجلا لا تحول عن حبه، وأن تظل مخلصة لحبه؟ إن هذا هو الحب الحقيقي في نظري. ما رأيك أنت أيها الأمير؟»
فأجاب الأمير وهو يخفي اضطرابه وراء ابتسامة ساخرة: «إنني لا أعرف أختك تمام المعرفة لكي أستطيع الإجابة على سؤال دقيق كهذا.»
وأضاف وهو يلتفت نحو بيير الذي كان قادما إليها: «ثم إنني لاحظت أن المرأة يزداد إخلاصها كلما نقص الإعجاب بها.»
فاستأنفت فيرا تقول: «نعم، هذا صحيح يا أمير. أما في أيامنا - كانت فيرا تتحدث عن أيامها كما لا يحب التحدث عنها إلا ذوو العقول المحدودة، الذين يعتقدون أنهم اكتشفوا وحدهم وقدروا مميزات وقتهم حق قدرها، ويفترضون أن الطبيعة الإنسانية تتغير بحسب الأزمنة - أما في أيامنا فقد كانت الفتيات يتمتعن بحرية كبيرة متناهية، حتى إن اللذة التي كن يشعرن بها إذا أحطن بالمتغزلين كانت تخنق غالبا في نفوسهن الإحساس الحقيقي. وناتالي - والحق يقال - شديدة الحساسية.»
ازداد تقطيب الأمير لهذا التلميح الآخر وإقحام اسم ناتالي. أراد الانصراف لكن فيرا استرسلت وابتسامتها تزداد رقة وعذوبة: «إنني لا أظن أن فتاة «غوزلت» مثلها، لكن ما من أحد راق في عينيها جديا حتى الآن.»
وأردفت وهي تخاطب بيير: «إنك تعرف تماما يا كونت أن ابن عمنا الفتان بوريس نفسه الذي كان - والحديث بيننا - مشدوها ومفتونا بها، سادرا تائها في آفاق الإحساس الحاني.»
لم ينطق الأمير آندريه بكلمة وظل على تقطيبه وعبوسه. قالت فيرا: «إنك صديق بوريس، أليس كذلك؟» - «نعم، إنني أعرفه.» - «لا شك أنه حدثك عن غرام طفولته بناتاشا؟»
فسأل الأمير وقد تضرج وجهه بالحمرة فجأة: «آه! هل كان هناك غرام منذ الطفولة؟» - «نعم، إنك تعرف أن المودة بين ابن العم وابنة العم تقود أحيانا إلى الحب. إن قرابة العمومة جوار خطر كما يقولون، أليس كذلك؟»
فقال الأمير: «آه! بلا شك.»
وأخذ يداعب بيير مداعبة مغتصبة موصيا إياه بأن ينتبه ويأخذ حذره من ابنتي عمه الخمسينيتين اللتين تقطنان موسكو، ثم نهض وهو مسترسل في مداعبته وأخذ بذراع بيير وانتحيا ركنا. قال بيير الذي أدهشته دلائل الانفعال البادية على وجه صديقه، الذي لاحظ النظرة التي أرسلها هذا إلى ناتاشا: «حسنا! ماذا في الجو؟»
فأجاب آندريه وهو يلمح إلى القفازات التي يعطيها الإخوان الماسونيون لزملائهم الجدد ليقدموها إلى النساء اللاتي يحبونهن: «يجب أن أحدثك. إنك تعرف قفازاتنا النسائية ... حسنا ... كلا، سأحدثك بالأمر مستقلا.»
ومضى يجلس قرب ناتاشا في عينيه لهيب غريب، وفي حركاته انفعال. رآه بيير يطلب إلى الفتاة شيئا أجابته عليه مضرجة الوجه، لكن بيرج جاء في تلك اللحظة يرجو بيير أن يشترك في النقاش الذي يشترك فيه الجنرال والكولونيل حول مشاكل إسبانيا.
كان بيرج مرتاحا منشرح النفس تضيء وجهه ابتسامة راضية؛ لقد نجحت سهرته وشابهت في كل النقاط السهرات التي شهدها من قبل: أحاديث نسائية رقيقة، شوط من الورق مع جنرال مرتفع الصوت، سماور، حلويات، كل شيء تام باستثناء ملاحظة واحدة كان بيرج يحلها محل الاعتبار في تقديره للسهرات المثالية: حديث صاخب بين الرجال، ونقاش حاد حول موضوع خطير عظيم الأهمية، ولكن الجنرال تفضل بإثارة مثل هذا النقاش الذي هرع بيرج يجتذب بيير ليساهم فيه.
الفصل الثاني والعشرون
الحب الجامح
استجاب الأمير آندريه لدعوة الكونت إيليا آندريئيفيتش، فمضى غداة اليوم التالي لتناول طعام الغداء على مائدته، فأمضى عنده سحابة النهار.
حدس كل من آل روستوف ما حدث بين الأمير وناتاشا؛ ذلك أنه لم يكف عن مغازلة ناتاشا بشكل مكشوف، بينما كانت ناتاشا سعيدة ومروعة معا شأن أفراد الأسرة كلهم لما اعتراهم من قلق يسبق اللحظات الحاسمة الجليلة. كانت الكونتيس عندما تتحدث مع ابنتها تصوب نحو الأمير نظرات جدية حزينة، لكنها لا تكاد تعود بأنظارها إليها حتى يختفي القلق من عينيها بين طيات مواضيع تافهة. وسونيا ما كانت تجرؤ على الابتعاد عن ناتاشا، فكان وجهها يشحب من الرهبة والترقب كلما وجدت نفسها منفردة لفترة قصيرة مع الأمير آندريه، الذي أخذ يبلبل أفكاره بخجله وإحجامه. كانت تحس بأنه يريد الإفضاء إليها بشيء، لكنه لا يحزم أمره على الإفضاء به.
وعندما غادر منزل آل روستوف مساء، جاءت الكونتيس إلى ناتاشا وقالت لها بصوت خافت: «حسنا، ماذا؟»
أجابتها: «أماه، أتوسل إليك أن لا تسأليني شيئا في هذه اللحظة. إن هذه الأمور لا تقال.»
مع ذلك، فقد لبثت ناتاشا طيلة تلك الليلة فريسة للانفعال والخوار المتداولين، مستلقية على سرير أمها شاخصة البصر. روت لها أنه أطراها وامتدحها، وأنه أطلعها على رغبته في السفر إلى الخارج، وسألها عن المكان الذي يقضي ذووها فيه فصل الصيف، وأخيرا أنه حدثها مرة أخرى عن بوريس، ثم اعترفت قائلة: «لكنني لم أحس من قبل أبدا أبدا بمثل هذا الإحساس. إنني أشعر بحضرته بالخوف، دائما الخوف. ما معنى هذا ؟ إن معنى هذا أنه جد لا هزار؛ أليس كذلك؟ أماه، هل أنت نائمة؟» - «كلا يا عزيزتي، إنني أنا الأخرى خائفة. اذهبي ونامي.»
قالت وقد استنفرها اكتشافها شعورا جديدا في نفسها: «على كل حال لن أنام، أنام؟ كم هو سخيف النوم! أماه، يا أمي الصغيرة، إنني لم أشعر من قبل قط بمثل هذا الإحساس. ما كنا نفكر في مثل ذلك!»
اعتقدت ناتاشا أنها افتتنت بآندريه منذ لقائهما الأول في أوترادنواي. وعلى ذلك، فإن الرجل الذي فكرت فيه منذ تلك اللحظة - وكانت مقتنعة تماما بهذا الإيمان - عاد الآن يقتحم طريقها دون أن يكون هذه المرة مستخفا بشأنها! كانت تروعها تلك السعادة الغريبة غير المنتظرة: «وكان عليه بلا شك أن يكون في بيترسبورج في الوقت الذي حللنا فيه به وأن نتقابل في الحفلة الراقصة. إن كل هذا من عمل القدر. نعم، إنه واضح أن الأمر كان يجب أن يكون على هذا الشكل، ثم إنني ما كدت ألمحه حتى شعرت بشيء خاص يعتلج في نفسي.»
سألتها أمها وهي ساهمة عن الأشعار التي كتبتها في مذكرتها: ماذا قال لك كذلك؟ ما هي هذه الأبيات؟ اقرئيها علي لأرى ...» - «أماه، هل الزواج من أرمل أمر سيئ؟» - «اصمتي يا ناتاشا، صلي لربك الكريم. إن الزواج يعقد في السماوات.»
هتفت ناتاشا وهي تذرف دموع السعادة والاضطراب: «أماه العزيزة، كم أحبك! كم أنا سعيدة!» وارتمت على عنق أمها.
وفي نفس الوقت، كان آندريه يشرح لبيير في منزله غرامه بناتاشا وعزمه الأكيد على الزواج منها.
كانت الكونتيس هيلين فاسيلييفنا تقيم ذلك النهار وليمة عندها لكبار الشخصيات، وعلى رأسهم سفير فرنسا الذي أصبح سعادته من المواظبين على دخول البيت. واجتمع نفر من أرفع نساء المجتمع والشخصيات المرموقة. قام بيير بجولة في الأبهاء، فلاحظ المدعوون جميعا أنه ساهم منكمش محنق مكتئب.
أحس منذ ليلة الحفلة الراقصة بنوبة من السويداء تقترب منه، فراح يعمل جاهدا بيأس لردها، عين منذ أن ارتبطت زوجته بعلاقات مع سعادته مرافقا في البلاط على غير انتظار. ومنذ ذلك الحين وهو يشعر في المجتمعات شعور الارتباك والخجل، وعادت آراؤه القديمة حول نزوات البشر وتفاهة الأشياء الدنيوية تحاصره من جديد. أضف إلى ذلك أن العلاقة الودية التي رآها تقوى بين محميته ناتاشا وبين الأمير آندريه، والمقارنة بين موقف صديقه وموقفه هو نفسه، كل هذه الأشياء ساعدت على تعكير صفوه ومزاجه. راح يطرد كل فكرة تتعلق بزوجته بمثل العنف الذي يطرد به كل ما يتعلق بناتاشا والأمير من آراء. ومن جديد، خيل إليه أن كل شيء تافه لا شأن له إذا قيس بأزلية الله، ومن جديد عاد يتساءل: «ما الفائدة؟» وبسبب ذلك أخذ يغرق نفسه ليلا ونهارا بالعمل في الشئون الماسونية؛ آملا بذلك التغلب على الأفكار السيئة.
غادر أجنحة الكونتيس حوالي منتصف الليل، وانسحب إلى الدور الأول إلى غرفة منخفضة مسودة بالدخان، فجلس إلى منضدة العمل مرتديا ثوبا منزليا قديما، وراح ينسخ المواد الشرعية للمحافل الإيكوسية عندما دخل عليه بعضهم. كان الأمير آندريه هو الداخل، قال وهو سالم الفكر سئوم: «آه! هذا أنت.»
ثم أردف بلهجة أولئك التعساء الذين يبحثون في العمل عن السلوان ونسيان آلامهم: «إنني مشغول كما ترى، وها هو دفتري.»
ابتسم له الأمير آندريه بأنانية السعداء دون أن يلتف إلى حزن صديقه، وقال ووجهه مشرق بالسرور كأنه انقلب خلقا جديدا: «نعم يا عزيزي، ها أنا ذا. كنت أريد التحدث إليك بأمر بالأمس، ومن أجل ذلك جئت. إنني لم أشعر قط بمثل هذا الشعور. إنني عاشق يا صديقي.»
أطلق بيير فجأة زفرة عميقة وانهار متثاقلا على الأريكة بجانب آندريه، وقال: «ناتاشا روستوف؛ أليس كذلك؟» - «نعم، نعم، ومن سواها إذا لم تكن هي؟ إنني ما كنت لأصدق ذلك أبدا، لكن هذا الحب أقوى مني؛ بالأمس تألمت كما يتألم المتعذبون الشهداء. مع ذلك، فقد بدا لي ذلك العذاب أثمن من كل ما في الوجود. إنني ما كنت على قيد الحياة من قبل. إنني ولدت الآن وبدأت أعيش الآن، ولن أستطيع الحياة بدونها. ولكن هل تستطيع أن تحبني؟ إنني عجوز بالنسبة إليها. تكلم . إنك صامت!»
فقال بيير الذي نهض فجأة وراح يذرع الغرفة: «أنا، أنا؟ وماذا تريد مني أن أقول؟ لقد فكرت دائما في هذا. إن هذه الفتاة كنز حقيقي. نعم كنز، كنز، عصفور نادر. يا صديقي العزيز، أتوسل إليك أن لا تتردد ولا تناقش. تزوج وتزوج وتزوج ... ستكون أسعد الرجال وأنا واثق من ذلك.» - «ولكن هي؟» - «إنها تحبك!»
أعقب آندريه وهو يبتسم ويغرق نظره في عيني بيير: «لا تنطق بالغباء.»
هتف بيير نافد الصبر: «إنها تحبك، وأنا أعرف ذلك.»
عندئذ قال آندريه وهو يمسك بذراعه: «إذن أصغ إلي. هل تعرف في أية حالة معنوية أجد نفسي؟ يجب أن أفضي بمكنونات صدري لأحد.»
أجاب بيير الذي أشرق وجهه: «حسنا تكلم؛ إن ذلك يسعدني كل السعادة.»
زال الخط العرضي الذي يشوه جبهته وراح يصغي إلى آندريه وهو يبتسم. كان هذا قد أصبح بالفعل ذلك الرجل الجديد الذي بدت على وجهه آيات الابتهاج والشباب. أين ذهبت مرارته وإغفاله لشئون الحياة واحتقاره لها؟ كان بيير المخلوق الوحيد الذي وجد آندريه أن بالمستطاع التنفيس عما في خاطره أمامه، فراح يضع حينا مخططات بسيطة وجريئة لمستقبله الطويل قائلا إنه لا يستطيع تكريس حياته لنزوة أبيه، وإن هذا إذا رفض مشروع الزواج فإنه سيستغني عن موافقته، وحينا آخر يظهر دهشته البالغة لهذه العاطفة التي استبدت به كما يستغرب المرء أمرا شاذا لأهمية له عليه. وأخيرا قال مختتما مناجاته: «لو قال لي أحدهم إنني سأحب يوما بهذا الشكل لما صدقته. ليس هذا الإحساس هو ما شعرت به من قبل. إن العالم الآن ينقسم أمامي إلى شطرين؛ الأول: حيث يكون كل شيء مغمما بالسعادة والأمل والضياء، والثاني: حيث لا يكون شيء إلا الظلمات واليأس.»
كرر بيير: «ظلمات ويأس. نعم، نعم؛ إنني أفهم هذا.» - «لا أستطيع إلا أن أحب النور. إن هذا أقوى من طاقتي، وأنا سعيد جدا، هل تفهمني؟ إنني أعرف أنك تبتهج من أجلي.»
فقال بيير مؤيدا وهو يحيط صديقه بنظرة ودودة لا تخلو من تطير: «نعم، نعم.»
كان كلما لاح له مصير الأمير مشعا مضيئا، اتخذ مصيره في عينيه طابعا أكثر ظلمة واكفهرارا.
الفصل الثالث والعشرون
الخطوبة
لما كان الأمير آندريه لا يستطيع الزواج دون موافقة أبيه، فقد سفر منذ صباح اليوم التالي في طريقه إليه.
استقبل الأمير العجوز بيان ولده بهدوء ظاهري وغضب عاصف في داخله. ما كان يستطيع تقبل فكرة تبديل بعضهم لنمط حياته بإدخال عامل جديد عليها، بينما انتهت أيامه هو وانصرمت. كان يحدث نفسه: «ليتركوني على الأقل أنهي أيامي على هواي، وليفعلوا من بعدي ما يحلو لهم.» مع ذلك، فقد عمد إلى المرونة مع ابنه، مرونة أيامه الخوالي. درس الموضوع ببرود من كل وجوهه.
أولا: إن كل شيء في هذا الموضوع - المولد، الثروة، النسب - كله سيئ، ثم آندريه كان متقدما في السن ضعيف الصحة - وقد ألح العجوز على هذه الناحية بصورة خاصة - بينما الفتاة بنية في مقتبل العمر، ثالثا: إن لآندريه ابنا، وكان أمر العهدة به إلى أيدي بنية يستدر الشفقة حقا، رابعا - ونظر الأمير العجوز إلى ولده وهو مستغرق في تفكيره وشرحه، نظرة هازئة: إليك رغبتي: «أجل زواجك عاما واحدا وسافر إلى الخارج. اعتن بصحتك هناك وابحث عن مرب فاضل للأمير نيكولا، فإذا لم يتبدل غرامك أو شهوتك أو ولعك - سمه بما شئت - خلال هذه الفترة، بل ظل على كبره وعنفه؛ تزوج. إن هذه هي كلمتي الأخيرة. اعلم ذلك، كلمتي الأخيرة.»
كانت لهجة الأب وهو ينطق بقراره هذا تدل على أن أي حافز في الوجود لن يغير رأيه أبدا.
كان العجوز ولا شك يأمل أن تضعف عواطف آندريه خلال هذه المدة، أو أن تتبدد رغبة مخطوبته خلال هذه السنة وهي التي قد لا تقاوم هذا الاختبار. أما إذا لم يطرأ تبديل عليهما، فإنه هو قد يموت خلال هذه الفترة. فهم آندريه مقصد أبيه وقرر أن يمتثل لرغبته، فاعتزم طلب يد ناتاشا شريطة تأجيل الزواج عاما كاملا.
ومرت أسابيع ثلاثة منذ زيارة آندريه الأخيرة لآل روستوف قبل أن يعود إلى بيترسبورج.
انتظرت ناتاشا قدوم آندريه غداة اليوم التالي لاعترافاتها لأمها ، ولكن ذهب انتظارها عبثا، كذلك كان شأنها في الغد واليوم الذي تلاه. ولما ظل محتجبا كذلك، فإن ناتاشا ظلت جاهلة بأمر سفر آندريه؛ لذلك ما كانت تجد تفسيرا لغيبته.
مرت ثلاثة أسابيع على هذا النحو وناتاشا ترفض الخروج من البيت، تتيه كالطيف من حجرة إلى حجرة خائرة القوى عازفة عن المشاغل، فإذا ما حل المساء بكت السر، وانقطعت عن زياراتها الليلية لأمها. أصبحت تنفعل وتثور لأتفه الأشياء، وتتصور أن كل الناس على علم بإخفاقها؛ يسخرون منها، أو يرثون لحالها. وتلك الطعنة في كبريائها كانت تزيد مقدار يأسها.
ذهبت ذات يوم إلى أمها بغية التحدث معها، لكنها انخرطت فجأة في بكاء مرير. كانت تلك أحزان طفلة عوقبت فما عادت تدري ماذا يؤخذ عليها، وراحت الكونتيس تواسيها، فأصغت ناتاشا بادئ الأمر إلى أقوال أمها، ثم قاطعتها فجأة لتقول: «كفي عن الحديث حول هذا الموضوع يا أماه، إنني ما عدت أفكر فيه، ولا أريد العودة إلى التفكير! ثم إن كل شيء على غاية من البساطة. إنه كان يزورنا، ثم كف عن زيارتنا، نعم كف.»
وارتعد صوتها وعادت العبرات تخنقها، لكنها تماسكت وأردفت هادئة: «على كل حال، لا أريد أن أتزوج، ثم إنه يخيفني. إنني الآن هادئة تماما تماما.»
وفي اليوم التالي، ارتدت ناتاشا ثوبا قديما كان من خصائصه أن يبسط مزاجها، وشرعت منذ الصباح في حياتها المألوفة التي أهملتها منذ ليلة الحفلة الراقصة. شربت الشاي ومضت إلى البهو الكبير الذي كان يعجبها بصورة خاصة بسبب الشروط الصوتية المتوفرة فيه، وتمرنت على العزف فترة، فلما انتهت من الدرس الأول وقفت في منتصف القاعة لتكرر مقطعا حائزا على إعجابها أكثر من سواه. راحت تحس بلذة جديدة في الإصغاء إلى تلك الألحان المصطفاة التي تملأ فراغ القاعة لتتبدد لا شعوريا. وفجأة شعرت بمرح غامر، قالت: «ما فائدة التفكير في كل هذه الأمور؟ أليست الحياة هنيئة على هذا المنوال؟» شرعت تتنزه في طول البهو وعرضه ليس بخطاها الطبيعية، بل متكئة بادئ الأمر على كعبها، ثم رأس قدمها ، وكانت تلبس في قدميها الحذاءين الجديدين اللذين كانت تفضلهما على الأحذية الأخرى. أحدث في نفسها وقع الكعب المنتظم المتبوع بصرير مقدمة القدم بهجة تماثل في شدتها النشوة التي غمرتها عندما أصغت منذ حين إلى صوتها. مرت بمرآة كبيرة فألقت عليها نظرة رأت وجهها وكأنه يقول: «أي نعم، ها أنا ذا! إن هذا ممتاز كما هو ولست في حاجة إلى أحد.»
جاء خادم يعيد إلى القاعة بعض الترتيب، فصرفته ممانعة واستمرت في نزهتها. رجعت ذلك الصباح إلى حب نفسها والإعجاب بشخصها، وهما العاملان اللذان يشكلان حالتها النفسية المعتادة، قالت وهي تتحدث عن نفسها بصيغة الغائب وكأن المتحدث جمع من الذكور: «يا للفتنة التي في ناتاشا! إنها صبية جميلة ولها صوت عذب، لا تزعج أحدا؛ فدعوها إذن بسلام.» لكنها وإن تركت بسلام ما كانت تستطيع استعادة هدوئها، وها هي ذي قد مرت بالتجربة.
فتح باب المدخل عند أقصى الدهليز وارتفع صوت يسأل عما إذا كانت الكونتيس تسمح بمقابلتها، ثم ارتفعت أصوات الخطى المقتربة. ألقت ناتاشا من جديد نظرة إلى المرآة، لكنها لم تر فيها شيئا بادئ الأمر. احتكرت الخطوات الآتية من الدهليز كل اهتمامها، وعندما استطاعت تبيان صورتها في المرآة أذهلها شحوبها. كان «هو» القادم. إنها واثقة تماما رغم أن صوته لم يتناه إلى سمعها واضحا من وراء الباب المغلق.
امتقع وجهها فجرت دون وعي نحو البهو وهتفت: «أماه، إن بولكونسكي هنا! إنه أمر مريع يا أماه يتجاوز حد طاقتي وقواي. لا أريد هذا العذاب! ما العمل؟»
لم تجد الكونتيس متسعا من الوقت للإجابة عندما دخل الأمير آندريه وعلى وجهه أمارات القلق والخطورة، وما إن لمح ناتاشا حتى أشرق وجهه. قبل يدي السيدتين وجلس.
شرعت الكونتيس تقول: «لقد مضى زمن طويل لم نحظ فيه ...»
لكن الأمير لم يدع لها الفرصة لإتمام قولها، بل قال متعجلا الوصول إلى غاياته: «إنني لم أحضر لزيارتكم خلال الفترة الأخيرة لأنني كنت أبحث مع أبي موضوعا على جانب كبير من الخطورة، فلم أصل إلا أمس مساء.»
وألقى نظرة إلى ناتاشا واسترسل بعد فترة صمت: «إنني أريد التحدث إليك يا كونتيس.»
زفرت الكونتيس وغضت طرفها وقالت: «إنني مصغية إليك.»
فهمت ناتاشا أن عليها أن تنسحب، لكنها ما كادت تحزم أمرها حتى شعرت أن شيئا يضغط على حنجرتها، فراحت تتطلع إلى وجه الأمير بعينيها الكبيرتين المتسعتين دون أن تحسب حسابا لتقاليد اللباقة المرعية. أخذت تحدث نفسها: «كيف؟! سيقرر كل شيء! وفي لحظة؟ كلا، إن هذا غير معقول!»
عاد ينظر إليها من جديد، فأقنعتها تلك النظرة بأنها لم تكن مخطئة قط. نعم سوف يتقرر مصيرها في لحظة واحدة. قالت الكونتيس بصوت منخفض: «اذهبي يا ناتاشا، سوف أستدعيك.»
فألقت عليهما معا نظرة مروعة متوسلة وخرجت.
قال الأمير آندريه: «لقد جئت يا كونتيس أطلب يد ابنتك.»
اصطبغ وجه الكونتيس بحمرة قانية، وظلت فترة لا تستطيع الجواب. وأخيرا شرعت تقول بلهجة خطيرة بينما كان ينظر في عينيها: «إن عرضك ...» واضطرب صوتها فذكرت: «إن عرضك مقبول ... و... وإنني أتقبله بسرور ... وزوجي كذلك ... على ما أتأمل ... لكنه أمر منوط بها.»
قال آندريه: «سوف أتحدث إليها بالأمر عندما أحصل على موافقتك؛ هل تمنحيني موافقتك؟»
قالت وهي تمد له يدها: «نعم.»
ثم ضغطت شفتيها على جبين الأمير الذي انحنى على يدها بقبلة جمعت شعورا من الحنان والنفور. كانت تريد من صميم نفسها أن تحبه كابنها، لكنها كانت تشعر بأنه غريب، وأنه يخيفها. استرسلت تقول: «إنني لا أشك في موافقة زوجي، ولكن ماذا بشأن أبيك؟» - «لقد أطلعت أبي على نواياي، فوافق شريطة ألا يتم الزواج إلا بعد عام، ولقد أردت إطلاعك على هذا الأمر أيضا.» - «صحيح أن ناتاشا لا زالت صغيرة، لكن مثل هذه الفترة الطويلة ...»
قال آندريه وهو يزفر: «ما استطعت إقناعه بالعدول عن قراره.»
قالت الكونتيس وهي تخرج من البهو: «سوف أرسلها إليك.»
وبينما هي تبحث عن ابنتها ظلت تكرر: «رباه، أشفق علينا!»
قالت لها سونيا: «إن ناتاشا في غرفة نومها.» فمضت إليها الكونتيس لتجدها جالسة فوق سريرها شاحبة الوجه، شاخصة بعينين جافتين إلى الصور المقدسة ترسم إشارة الصليب على صدرها بحركة محمومة، وتدمدم بكلمات خافتة، فلما وقع بصرها على أمها قفزت من فوق السرير وهرعت للقائها: «حسنا يا أماه. ماذا؟»
قالت الكونتيس بلهجة لمست فيها ابنتها طابع البرود: «اذهبي، اذهبي؛ إنه ينتظرك. لقد طلب يدك.»
ولما رأت ابنتها تجري مسرعة كررت تشييعها بنبرة حزينة لائمة: «اذهبي، اذهبي.»
وأطلقت زفرة عميقة.
لم تستطع ناتاشا بعدئذ أن تتذكر كيف ولجت البهو. توقفت على العتبة عندما وقع بصرها عليه، وتساءلت: «هل يعقل أن يكون هذا الغريب قد أصبح لي بكليته؟» لتجيب نفسها بنفسها: «نعم، بكليته! إنه في الواقع أعز عندي من كل شيء في الوجود.»
اقترب منها آندريه خافض العينين وقال: «لقد أحببتك منذ أن رأيتك أول مرة، فهل لي آن آمل؟» ورفع عينيه إليها، فأذهله ما انطبع به وجهها من خطورة ووله، كأن ذلك الوجه ينطق قائلا: «لم هذا السؤال؟ لم الشك فيما يستحيل تعذر فهمه؟ لم الكلام بما لا تستطيع الكلمات الإعراب عما يشعر به المرء؟»
خطت بضع خطوات ووقفت بالقرب منه، فأخذ يدها وقبلها.
قالت ناتاشا وكأنها ترغم نفسها على القول: «نعم، نعم.»
واضطرب تنفسها وانفجرت باكية. - «لماذا؟ ماذا جرى لك؟»
أجابت وهي تضحك خلال دموعها: «آه! إنني سعيدة جدا.»
ومالت نحوه مترددة لحظة تتساءل - ولا شك - عما إذا كان يجوز لها أن تمنحه قبلة.
كان آندريه ممسكا بيديها بين يديه ينظر إلى وجهها دون أن يجد في قرارة نفسه ذلك الحب الذي أحس به نحوها من قبل، واصطخبت في نفسه ثورة. لقد تبددت الشاعرية والجاذبية الغامضة التي كانت تخلق في نفسه الرغبة، وحل محلها إشفاق على هذا الضعف الصبوي النسوي معا، وعلى ذلك الذهول الذي نجم عنه الاستسلام المطلق المشفوع بالثقة المطلقة. أخذ يشعر شعورا يمتزج فيه السرور بالكآبة بالواجب الذي يربطه إليها رباطا أبديا. بدا له ذلك الشعور أقل لمعانا وشاعرية من قبل، ولكن أشد قوة وأكثر جدية. استأنف آندريه وهو لا يزال ينظر في عينيها: «هل قالت لك أمك: إن زواجنا لا يمكن أن يتم قبل عام؟»
كانت ناتاشا تفكر في سرها: «هل حقيقة أصبحت أنا؛ أنا التي يعتبرني كل الناس بنية رعناء، أصبحت زوجة هذا الرجل المفرط في الذكاء والبهاء، الذي يحترمه حتى أبي، والذي لا زال غريبا عني؟ هل من المعقول؟ هل صحيح أن الحياة لم تعد الآن دعابة، وأنني أصبحت شخصية كبيرة مسئولة عن كل حركة من حركاتي، وكل كلمة من كلماتي؟ ولكن رباه، ماذا يسألني؟»
أجابت دون أن تفهم شيئا من السؤال: «كلا.»
قال آندريه: «اسمحي لي أن أقول إنك لا زلت شابة في مقتبل العمر بينما عركتني تجارب الحياة. إنني أخاف عليك لأنك قد تكونين جاهلة نفسك.»
كانت ناتاشا تصغي إليه بعناية مركزة محاولة تفهم معنى كلماته، بينما أردف الأمير: «مهما كان لهذه السنة التي تباعد بيني وبين سعادتي من إيلام لنفسي، فإنها فترة كافية تساعدك على التحقق من مشاعرك. إنني أطلب إليك أن تسعديني بعد عام. أما أنت فاحتفظي بحريتك. سوف تبقى خطوبتنا سرا حتى إذا اقتنعت خلال هذا الوقت أنك لا تحبيني، أو أنك على العكس مصممة على حبي.»
ابتسم ابتسامة مغتصبة عندما قاطعته ناتاشا قائلة: «لماذا نتحدث على هذا الشكل؟ أنت تعرف أنني أحببتك منذ زيارتك الأولى في أوترادنواي.» وكانت لهجتها مفعمة بالثقة، ونبرتها بالصدق. - «سوف تستطيعين التعرف على نفسك خلال عام.»
وهنا فقط توصلت ناتاشا إلى الفهم أن الزواج لن يتم قبل عام، فهتفت مندهشة: «عام كامل! ولكن لماذا عام؟ لم إذن عام؟»
شرع الأمير يفسر لها أسباب هذا التأجيل، لكنها لم تكن تصغي إليه، سألته: «ألا تستطيع إبدال شيء؟»
لم يجب آندريه، لكنها قرأت على صفحة وجهه أن القرار لا يقبل النقض، وفجأة قالت ناتاشا وهي تنخرط في البكاء من جديد: «إنه مريع، مريع! سأموت إذا وجب أن أنتظر عاما، يستحيل، إنه مريع!»
لكنها عندما رفعت عينيها إلى وجه خطيبها رأت أنه فريسة إشفاق أليم، فجففت دموعها على الفور، وقالت: «كلا، كلا، إنني أوافق على كل شيء . إنني سعيدة جدا.»
دخل الأب والأم في تلك اللحظة ومنحا بركتهما للشابين، ومنذ ذلك اليوم أخذ آندريه يزور بيت آل روستوف بوصفه من الأسرة.
الفصل الرابع والعشرون
سفر الأمير
لم تقم احتفالات رسمية بالخطوبة نظرا لإلحاح الأمير آندريه على إبقاء الأمر طي الكتمان. كان يقول إنه لما كان الموضوع خاضعا للإمهال، فإن عليه أن يحتمل النتائج. إن كلمته المعطاة تربطه إلى الأبد، لكنه لا يريد أن يربط ناتاشا، بل إنه يترك لها مطلق الحرية؛ فإذا تبينت خلال ستة أشهر أنها لا تحبه، فإن لها كل الحق في رفض طلبه. ومن البديهي أنه لا ناتاشا ولا ذووها كانوا يوافقون على مثل هذا التصرف، بيد أنه لم يتراجع عن رأيه. كان يذهب كل يوم إلى بيت آل روستوف، لكنه ما كان يعامل ناتاشا معاملة المخطوبة. ظل يخاطبها بصيغة الجمع ويكتفي بتقبيل يدها، بيد أن علاقتهما اتخذت خلال هذه الفترة طابعا جديدا لا توفز فيه، ولكنه عامر بالألفة، حتى ليقال إنهما لا يعرفان بعضهما حتى ذلك الحين.
كان كل منهما يحب أن يتذكر الطريقة التي كانا ينظران إلى بعضهما بها يوم أن كان أحدهما لا شيء بالنسبة إلى الآخر. شعرا أنهما أصبحا مخلوقين مختلفين كل الاختلاف؛ كانا من قبل يتواريان، أما الآن فقد أصبحا بسيطين مخلصين، والأسرة نفسها كانت في بداية الأمر تحس بلون من الارتباك في حضرة الأمير آندريه، الذي كانت تعتبره شخصية من عالم آخر؛ لذلك فقد أمضت ناتاشا زمنا طويلا حتى استطاعت إيجاد الألفة بين ذويها وآندريه. ظلت تؤكد لهم بفخار أن بديهته ليست إلا مظهرا، وأنه في أعماق نفسه يشبه كل الناس، وأنه لا يخيفها قط، وكذلك لا يجب أن يخشى منه أحد قط. ومضت أيام انطبع بعدها أفراد الأسرة وألفوا ذلك العنصر الجديد، فتبدد الارتباك وعادت الحياة سيرتها الأولى، بل وأكثر من ذلك؛ إذ راح آندريه يساهم في نهج حياتهم؛ كان يحسن الحديث في الزراعة مع الكونت، وفي الأزياء مع الكونتيس وناتاشا، وفي المجموعات والتحف واللوحات مع سونيا ، وأحيانا كان أفراد أسرة روستوف يبحثون، سواء بينهم أو أمام آندريه، في تطورات القدر وتدخله في كل هذه القضية؛ فسفر الأمير إلى أوترادنواي، ومجيئهم إلى بيترسبورج، والشبه بين ناتاشا وخطيبها الذي لاحظته الوصيفة العجوز منذ الزيارة الأولى، والخصومة التي وقعت بين آندريه ونيكولا عام 1805، وأشياء أخرى من هذا القبيل، كانت كلها بمثابة إشارات مسبقة لا ريب فيها.
عم البيت شعور بالسأم الشاعري الصامت الذي يحيط عادة بالمخطوبين. كان أفراد الأسرة يلتزمون الصمت غالبا إذا ما وجدوا مجتمعين في حجرة واحدة، وأحيانا كانوا ينسحبون تاركين المخطوبين وحدهما مطبقين في الصمت. لم يتحدثا عن مستقبلهما إلا نادرا؛ لأن آندريه كان يخشى التداول في هذا الموضوع، ويجد مسلكه شائكا. أما ناتاشا فكانت تشاطر الأمير هذا الشعور ككل مشاعره الأخرى التي كانت تخمنها فورا. وذات مرة، حزمت أمرها على التحدث معه عن ابنه. احمر وجه آندريه، وهو الأمر الذي بات كثير الوقوع له يغمر نفس ناتاشا بالسرور، وقال لها: «إن الطفل لن يساكنهما.» سألته ناتاشا مروعة: «ولماذا؟» - «لأني لا أستطيع انتزاعه من جده، ثم ...»
فحزرت ناتاشا فكرته على الفور وقالت: «كم سأحبه! لكنني أفهم ما تقصد. إنك تريد أن تجنبنا أنت وأنا مغبة النقد.»
كان الكونت العجوز يقترب من الأمير أحيانا ويعانقه سائلا إياه النصح في موضوع تثقيف بيتيا ومركز نيكولا، والكونتيس تزفر وهي تنظر إلى المخطوبين. أما سونيا فتخشى دائما أن تكون متطفلة، وتختلق الأعذار لتتركهما منفردين حتى ولو لم تكن تلك رغبتهما. وعندما يشرع آندريه في الكلام - وكان محدثا لبقا - كانت ناتاشا تصغي إليه بزهو. أما إذا تحدثت هي فكانت تلاحظ أنه يراقبها بعين فاحصة امتزج فيها الخوف بالسرور. كانت تتساءل في شيء من القلق: «عم يبحث في؟ ماذا يقصد بهذه النظرة؟ ماذا يحدث لو أنه لم يجد في ما يبحث عنه؟» كانت تستسلم للجذل المجنون الذي عرفت به، وتشعر بغبطة بالغة كلما رأت الأمير آندريه يضحك مسرورا بدوره. كان هذا قليل الضحك، لكنه إذا ما ضحك استسلم بكليته، الأمر الذي كان يجعل ناتاشا تشعر أنه أدنى إليها وأقرب، وكان يمكن لسرورها أن يتجاوز كل حد لولا رهبتها من الفراق القريب الذي كان يجر الشحوب إلى وجهه نفسه، وتتجمد أطرافه كلما خطر له ذلك الفراق على بال.
استدعى الكونت، في الأمسية التي سبقت رحيل الأمير، بيير الذي لم يكن قد زار آل روستوف منذ تلك الحفلة الراقصة. كان بيير تائه النظرات، مشوش الأفكار، وبينما كان يتحدث مع الكونتيس جلست ناتاشا وسونيا إلى رقعة الشطرنج داعيتين بذلك بولكونسكي إلى موافاتهما.
سألها: «إنك تعرفين بيزوخوف منذ زمن طويل، أليس كذلك؟ أتشعرين بالصداقة نحوه؟» - «نعم، إنه فتى باسل، لكنه شاذ قليلا.»
وكعادتها كلما تحدثت عن بيير راحت تقص النوادر حول شروده؛ نوادر كان كثير منها مختلقا أو مركبا من نبذ مختلفة. قال الأمير: «اعلمي أنني ائتمنته على سرنا. إنني أعرفه منذ الطفولة، إنه ذو قلب ذهبي.»
ثم أضاف فجأة بنبرة جدية: «أرجوك يا ناتالي، سوف أرتحل غدا، والله يعرف ما قد يحدث. لك أن تكفي عن حب... نعم، إنني أعرف أنه لا يجوز لي التحدث عن هذا الأمر، لكنني مهما وقع لك خلال غيبتي ...» - «ماذا يمكن أن يقع لي؟» - «أي مكروه يحدث، أرجو يا آنسة صوفي أن تسأليه وحده العون والنصح. صحيح أنه أكثر الناس سهوما وشذوذا، لكنه أحسنهم قلبا.»
لم يكن الأب ولا الأم ولا سونيا ولا آندريه نفسه يتوقع رد الفعل الذي وقع لناتاشا عند افتراقها عن خطيبها؛ كانت منفعلة ملتهبة الخدين، جافية العينين، تروح وتجيء في حجرات البيت تتشاغل بأتفه الأشياء وكأنها لا تعرف شيئا عما ينتظرها غداة ذلك اليوم، بل إنها لم تبك حينما قبل يدها لآخر مرة وهو يودعها. كل ما قالته كان عبارة: «لا تذهب.» وبصوت تساءل هو نفسه عما إذا كان سيعزف عن الذهاب. وقد ظل زمنا طويلا يذكر ذلك الصوت. ولما ذهب لم تبك كذلك، بيد أنها لبثت أياما عديدة مختلية في غرفتها لا تأبه بشيء، تهتف بين حين وآخر: «آه! لماذا ذهب؟»
مع ذلك، ولدهشة المحيطين بها العميقة، استيقظت من ذهولها بعد خمسة عشر يوما من رحيل الأمير، وعادت إلى سابق عهدها، ولكن باستعداد خلقي جديد كما يحدث للأطفال عندما يبلون من مرض طويل وتتغير طباعهم.
الفصل الخامس والعشرون
الأمير العجوز
خلال السنة التي أعقبت رحيل ولده، ساءت صحة الأمير بولكونسكي وأخلاقه، وتفاقم غضبه، أصبحت نوبات غضبه كثيرة لا مبرر لها، وكانت الأميرة ماري وحدها تقريبا تحتمل تلك النوبات ونتائجها، حتى ليخيل إلى المرء أنه ينتقي المواضع الحساسة في قلبها لينزل بها أقوى الأذى المعنوي. كان لماري هوايتان، وبالتالي بهجتان: ابن أخيها والدين، فوجد الأمير العجوز في هاتين الهوايتين موضوعه المفضل للسخرية، فكان يوجه الحديث دائما - مهما كان نوعه - نحو خرافات العانسات العجائز، ونوبات التسامح نحو الأطفال والرأفة بهم التي يصبن بها. كان يقول لابنته: «إنك تودين أن تجعلي من نيكولا الصغير فتاة عجوزا، بينما الأمير آندريه في حاجة إلى ولد وليس إلى بنت.» أو كان يوجه الحديث إلى الآنسة بوريين ويروح في سخرياته وتهكمه يسألها بحضور ماري عن رأيها في القساوسة ومسائل التقوى.
لكن الأميرة، مهما قسا في تجريحها، كانت تصفح عنه بطيبة خاطر؛ إذ هل يمكن أن يكون غير عادل، أو أن يخطئ نحوها وهو الأب الذي تعرف جيدا أنه يحبها رغم كل شيء؟ ثم ما هي العدالة؟ لم تطرح ماري على نفسها قط هذا السؤال. كانت لأنها تجهل معنى هذه الكلمة المتكبرة: العدالة، ما كانت قوانين البشرية المعقدة كلها إلا لتتلخص في نظرها بقانون واحد بسيط وواضح، وهو: قانون الحب والتضحية الذي علمه ذلك الذي تألم من أجل البشر حبا بالبشر، في حين كان هو الله نفسه، فماذا كان إذن يهم ماري من أمر عدالة الآخرين وظلمهم؟ لقد كانت مهمتها في الحياة أن تتألم وتحب وهي منصرفة إلى مهمتها.
زار آندريه ليسيا جوري خلال الشتاء، فوجدته ماري أنيسا وديعا حانيا كما لم تره قط من قبل. أحست أن تبدلا طرأ على أخيها، لكن هذا لم يحدثها بكلمة واحدة عن حبه، وقبل رحيله اختلى بأبيه فترة طويلة، فلاحظت ماري أن تلك الخلوة تركتهما غير مرتاحين كليهما.
أتيح لماري بعد رحيل أخيها ببعض الوقت أن تكتب إلى صديقتها جولي كاراجين في بيترسبورج - تلك الصديقة التي كانت تحلم، كما تحلم كل الفتيات، أن تزوجها أخاها - وقد تناهى إليها أن تلك الصديقة فقدت أخاها؛ لأنه قتل في تركيا:
إن الحزن كما أرى جيدا نصيبنا كلتينا، يا عزيزتي وصديقتي الحنون جولي.
إن خسارتك ضاربة في القسوة، لا أستطيع تفسيرها إلا على اعتبارها نعمة خاصة من الله، الذي يريد أن يبلوك أنت ويبلو أمك الطيبة لأنه يحبكما. آه يا صديقتي! لا يوجد إلا الدين ملجأ، ولا أقول لعزائنا، بل لإنقاذنا من اليأس. إن الدين وحده قادر على أن يفسر لنا ما لا يستطيع الإنسان بدونه أن يفهم السبب الذي من أجله يدعو الله إليه المخلوقات الطيبة النبيلة، التي تعرف كيف تجد السعادة في الحياة، والتي تهرع لإنقاذ الآخرين، وتتجنب إلحاق الأذى بالناس، بينما يترك المخلوقات الخبيثة الضارة عديمة النفع، التي تشبه الحمل الثقيل على أكتاف الآخرين، تعيش في الحياة طويلا. هذا هو الشعور الذي خلفته في نفسي الوفاة الأولى التي شهدتها، والتي لن أنساها قط، وأقصد بذلك وفاة زوجة أخي العزيزة.
وكما سألت القدرة عن السبب الذي سلبتك من أجله أخاك الممتاز، كذلك سألت أنا عن السبب الذي دعا ليز؛ ذلك الملك، إلى الموت وهي التي إلى جانب عدم إيذائها الآخرين، لم تكن روحها تضم إلا أطيب الفكر. مع ذلك، فما مضت خمسة أعوام، يا صديقتي العزيزة، حتى بدأت أفهم بذكائي الضعيف السبب الذي توجب من أجله الموت عليها. إن تلك الميتة كانت - بلا شك - دلالة الرحمة المتناهية التي أسبغها الخالق عليها؛ ذلك الخالق الذي لا يمكن لتصرفاته - رغم أننا لا نتوصل إلى فهم جلها معظم الوقت - أن تكون إلا دلائل الرحمة والحب غير المحدود الذي يشمل به المخلوق.
لا شك أنها - كذلك كنت أحدث نفسي - كانت على براءة إنجيلية يتعذر معها القيام بأعباء واجباتها كأم؛ فهي وإن كانت لا يرتقي إليها النقد كزوجة شابة، إلا أنها كان يمكن أن تعجز عن القيام بواجبات الأم. أما الآن فإنها على العكس تركت لنا جميعا، وبصورة خاصة للأمير آندريه، الأسف العميق، والذكريات الأكثر زخرا. وفوق ذلك، فإنها ولا شك بلغت هناك في السماء مركزا لا أجرؤ على التفكير فيه من أجل نفسي، ومن جهة أخرى، فإن تلك الميتة المبكرة الرهيبة تركت في نفس أخي، وفي نفسي، أجل الأثر وأحسنه، إلى جانب الحزن العظيم الذي سببته لنا. ولو أن مثل هذه الأفكار طافت بخاطري في فترة فقدها لطردتها مروعة مهولة. أما الآن، فعلى العكس؛ يبدو كل شيء لي شديد الوضوح لا يقبل النقض!
أكتب لك ذلك، يا صديقتي؛ لأقنعك فقط بالحقيقة الإنجيلية التي أصبحت قاعدة لحياتي: «لا تسقط شعرة من رأسنا بدون مشيئة الله، ومشيئته مستوحاة من حبه اللامتناهي لنا»، ولهذا السبب فإن كل ما يقع لنا لا يقع إلا لخيرنا.
تسألينني عما إذا كنا سنقضي الشتاء في موسكو! إنني رغم كل رغبتي في رؤيتك لا أظن ذلك ولا أتمناه. ولعلك تدهشين إذا علمت أن الخطأ في ذلك يرجع إلى بيونابارت. وإليك السبب: إن صحة أبي تعتل بشكل ظاهر؛ مما يجعله لا يحتمل أية معارضة؛ لأنه أصبح سهل العطب، سريع الثورة. وسرعة الغضب هذه مبعثها كما تعلمين السياسة بصورة خاصة؛ إنه لا يستطيع احتمال مجرد الفكرة أن بيونابارت هذا يقارع ويعامل ملوك أوروبا وسادتها معاملة الند للند، وخصوصا مليكنا حفيد كاتيرين العظيمة. إنني كما تعلمين لا أبالي مطلقا بالسياسة، لكنني أعرف من موضوعات أبي وأحاديثه مع ميخائيل إيفانوفيتش كل ما يدور في العالم، وخصوصا الولاء والخضوع اللذين يلاقيهما بيونابارت.
إن ليسيا جوري هي المكان الأوحد في العالم الذي يرفض فيه إعطاؤه لقب الرجل الكبير وإمبراطور الفرنسيين. وهذا هو الأمر الذي يخرج أبي عن طوره؛ فهو إذا كان لا ينظر إلى السفر إلى موسكو بعين الرضا، فإن سبب ذلك يرجع بصورة خاصة - كما يبدو لي - إلى آرائه السياسية. إنه يتصور سلفا وفرة المتاعب التي ستسببها له عادته في الإعراب عن رأيه بصراحة دون أن يحفل بأحد. وكل ما تكتسبه صحته من العلاج والرعاية الطبية لن يقاوم بلا شك النتائج المترتبة عن المناقشات التي لا بد منها حول موضوع بيونابارت. على كل حال، سوف يتخذ قرار قريب بشأن ذلك.
إن حياتنا في الأسرة تتبع نهجها المألوف إذا استثنينا أخي الذي ارتحل عنا. لقد طرأ عليه تبديل كبير في الآونة الأخيرة كما سبق وكتبت لك. إنه لم يعد إلى الحياة منذ تلك النازلة التي أصابته إلا في هذا العام، وقد شهدته أخيرا كما عرفته في طفولته: طيبا رءوفا ذا قلب ذهبي لا مثيل له، في علمي. لقد فهم - على ما أظن - أن الحياة لم تنته بالنسبة إليه، لكن ما كسبه فكريا أضاع مقابله جسديا؛ لقد أضحى أكثر نحولا وعصبية من السابق. إنه يقلقني، وإنني سعيدة جدا إذ أراه يسافر إلى الخارج نزولا عند رغبة الأطباء الذين كثيرا ما أشاروا عليه بذلك، وآمل أن يكون سفره ذا فائدة وخير له.
تقولين لي: «إنهم في بيترسبورج يتحدثون عنه حديثهم عن شاب من أكثر الشباب نشاطا، وأوفرهم ذكاء، وأغزرهم علما.» واصفحي عن كبريائي هذا كأخت حين أقول لك إنني ما شككت قط في مزاياه، ثم إن الخير الذي وفره لنا هنا، اعتبارا من الفلاحين وحتى جماعة النبلاء في المقاطعة أكثر من أن يحصى ويحصر. إنهم في بيترسبورج لا يدفعون له إلا ما يستحق. إن السرعة التي تنتشر فيها الشائعات من بيترسبورج إلى موسكو تغيظني، خصوصا إذا كانت تلك الشائعات على غرار النوع الذي حدثتني عنه، كيف يتزوج أخي أنا روستوف الصغيرة؟! لا أظن أن آندريه يفكر في الزواج من أية كانت، وبصورة خاصة من هذه. وإليك السبب: أولا: على الرغم من أنه لا يتحدث عن المرحومة العزيزة إلا نادرا، فإن الحزن الذي خلفه فقدها في نفسه بذر في قلبه ألما راسخا يستحيل معه أن يفكر في إحلال امرأة محلها، ورزء ملاكنا العزيز بزوجة أب، وفي المرتبة الثانية: ليست الفتاة المذكورة - على ما أعلم - من النوع الذي يروق له. وإنني لا أظن أن الأمير آندريه يقبل أن يتخذها زوجة، وبصراحة لا أتمنى ذلك.
لقد ثرثرت كثيرا حتى ملأت ورقتي الثانية، فوداعا يا صديقتي العزيزة، وليتعهدك الله بحمايته المقدسة القوية. إن رفيقتي العزيزة الآنسة بوريين تقبلك.
ماري
الفصل السادس والعشرون
محاولة آندريه
حوالي منتصف الصيف، تلقت ماري رسالة من أخيها في سويسرا يطلعها فيها على خبر غريب غير متوق؛ لقد أعلن لها فيها خطوبته إلى الآنسة روستوف. كانت تلك الرسالة تعلن عن حب بالغ لمخطوبته إلى جانب الحنان الوفير المطمئن حيال أخته. أعلن هذه أنه لم يحبب قط من قبل كما يحب الآن، وأنه فهم أخيرا معنى الحياة، ويعتذر عن كتمانه الأمر عنها، وعدم إطلاعها عليه عندما كان في ليسيا جوري، رغم أنه باح لأبيه بمكنونات صدره. ولقد اعتذر عن كتمانه بأنها كانت سترهق الأمير العجوز بالتماسها الموافقة منه، وعندئذ يصب جام غضبه كله عليها وحدها.
استتلى يكتب:
ثم إن الأمر لم يكن في مرحلة متقدمة كما هو عليه اليوم. لقد حدد أبي مهلة عام انقضت منه ستة أشهر وأنا أرسخ عزما وأشد إصرارا على عزمي. ولو أن الأطباء لم يؤخروني هنا حيث أستشفي بالمياه المعدنية؛ لعدت إلى روسيا لفوري، لكنني مضطر إلى إرجاء عودتي ثلاثة أشهر أخرى. إنك تعرفينني وتعرفين علاقاتي مع أبي. ليس لي ما أطلبه منه وأنا الآن مستقل، وسأكون مستقلا أبدا، لكن هنائي وسعادتي لن يكونا كاملين إذا تصرفت ضد رغبته وأثرت حفيظته في الوقت الذي لم يبق له وقت طويل يمضيه بيننا. لقد كتبت له في الموضوع نفسه، فأطلب إليك انتقاء الوقت المناسب لتسليمه رسالتي، كما أطلب إليك أن تتلطفي بإعلامي عن الطريقة التي سيتصرف بها حيال هذا الأمر: ترى هل من أمل في أن يوافق على اختصار المهلة بإنقاص أربعة أشهر منها؟
وبعد تردد طويل وصلوات حارة، سلمت ماري الرسالة لأبيها. وفي اليوم التالي، استدعاها الأمير العجوز وقال لها: «اكتبي لأخيك أن ينتظر موتي . ولن يطول الأمر لأنني سأخلصه قريبا.»
أرادت ماري الاعتراض بشيء على قوله، لكنه لم يسمح لها، بل راح صوته يرتفع ساخطا: «تزوج، تزوج يا فتاي الباسل. يا للمصاهرة الرائعة! أشخاص ذوو قيمة ومكانة، أليس كذلك؟ ذوو ثراء، أليس كذلك؟ ستكون زوجة أب جميلة يتحف بها الصغير نيكولا! اكتبي له أن يتزوج منذ الغد إذا كان هذا يروق له. إنه يريد إعطاء نيكولا خالة، حسنا! سأعطيه أنا الآخر واحدة: سأتزوج الآنسة بوريين! آه! آه! آه! ... إلا أنه لا مكان عندي لنساء أخريات. ليتزوج! ولكن ليذهب بعيدا وليحي مستقلا. لعلك تفضلين مشاطرته الحياة؟ إذن، سفرا سعيدا وليباركك الله!»
لم يعد الأمير يبحث في هذا الموضوع بعد تلك الثورة الجامحة، لكن السخط الذي سببه له ضعف ابنه كان يظهر بشكل مكتوم في كل علاقاته مع ماري. لقد أضاف موضوعا ثالثا للسخرية منها إلى جانب الموضوعين الآخرين: موضوع الزوجة الجديدة، والغزال الذي يفكر في توجيهه إلى الآنسة بوريين. كان يقول لابنته: «ولم لا أتزوجها؟ ستكون أميرة رائعة.»
ولشديد دهشة ماري وذهولها، لاحظت بعد حين أن أباها بات أكثر اندماجا مع الفرنسية، فكتبت إلى آندريه تنبئه بالأسلوب الذي تلقى الأمير به رسالته، لكنها تركت له المجال للأمل في أنها ستغير من رأي أبيها.
أصبح عزاء الأميرة ماري مقتصرا على تثقيف ابن أخيها، والتفكير في آندريه والدين، ولما كان كل إنسان في حاجة إلى إيحاءات شخصية بحتة، فإنها كانت تخفي في أعماق قلبها حلما وأملا كانا يشكلان نواة عزائها. إنها مدينة بهذا البلسم الشافي إلى «رجال الله» المجاذيب والحجاج الذين كانوا يفدون لزيارتها في غفلة من أبيها، وكلما لاحظت الحياة واكتسبت منها خبرة، ازدادت دهشتها لعمى البشر الذين يتبعون أهواءهم على الأرض، ويبحثون عن يمنهم، والذين ينصبون ويختصمون ويسيء بعضهم إلى بعض في سبيل بلوغ هذا السراب الخادع المجرم. لقد أحب الأمير آندريه امرأة فماتت، ولم يكفه هذا؛ لأنه يريد أن يرتبط ابنه بأسرة ذائعة الصيت واسعة الغنى. وعلى ذلك، فإن كل واحد يناضل ويتألم ويعذب روحه ويفقدها، روحه الخالدة، ليبلغ يمنا لا يدوم إلا لمحة. ولم يكفنا أننا عرفنا ذلك من تلقاء أنفسنا معرفة كافية، بل إن المسيح، ابن الله، نزل على الأرض ليقول لنا إن هذه الحياة ليست إلا اختبارا عابرا. مع ذلك، فإننا نتشبث بها ونأمل أن نجد فيها السعادة. كانت تحدث نفسها: «كيف لم يفهم هذا أحد؟ ما من أحد باستثناء رجال الله هؤلاء، الذين لا يلقون إلا كل احتقار، والذين يصلون إلى غرفتي عن طريق سلم الخدم حاملين خراجهم على أكتافهم خائفين التعرض لنظر الأمير. وليس مبعث الخوف تعرضهم للأذى إذا رآهم، بل رغبتهم في تجنيب الأمير احتمال وزر أخطاء جديدة. هؤلاء الذين يهجرون أسرهم ومساقط رءوسهم، ويحتقرون كل نعم الأرض فلا يتمسكون بشيء، يهيمون من مكان إلى آخر مرتدين أثمالا من الكتان الخشن بصفة استعارة، لا يفكرون في إيذاء أحد، يصلون من أجل الذين يسيئون إليهم كما يصلون من أجل من يحمونهم. أية حياة، وأية حقيقة تتفوق على هذا؟!»
كانت إحدى تلك التائهات فيدوسيوشكا، ولها من العمر قرابة خمسين عاما، قصيرة هزيلة وادعة. أمضت ثلاثين عاما ونيفا وهي تمشي حافية القدمين مثقلة بالسلاسل، تحتل مكانة مرموقة في نفسها. وذات يوم، بينما كانت في غرفتها المعتمة تستضيء بسراج ضئيل، قصت عليها فيدوسيوشكا قصة حياتها. وفجأة، قفزت الفكرة إلى رأس ماري بأن هذه المرأة وحدها وجدت الطريق السوي. كانت هذه الفكرة من القوة بحيث قررت هي الأخرى أن تشرع في المسير. ولما مضت السائحة لنيل قسط من الراحة، قررت ماري بعد تفكير ناضج أن تبدأ هي الأخرى حياة السياحة. لم تخطر أحدا بفكرتها باستثناء الأب هيراسانت الذي اعتادت الاعتراف على يديه، فأيد ما اعتزمت عليه. تذرعت بحجة تقديم هدية إلى متعبداتها، فاستحضرت زيا كاملا: قميصا وخفين وجلبابا ومنديلا أسود. وكانت غالبا كلما اقتربت من الدولاب الذي أودعت فيه سرها تتوقف حائرة مترددة وتتساءل عما إذا كانت ساعة تنفيذ خطتها قد أزفت.
وأحيانا عندما كانت تصغي إلى روايات المتعبدات، كانت تتحمس لتلك الأحاديث الساذجة التي ترويها أولئك النسوة بصورة آلية، والتي كان لها في نفسها أعمق الأثر. وتبلغ بها الحماسة مبلغا يجعلها تقرر أكثر من مرة أن تترك كل شيء لتفر من البيت، بل إنها كثيرا ما رأت نفسها بعين الخيال فيدوسيوشكا جديدة، مرتدية أطمارا خشنة تمشي حاملة خرجها وعصاها فوق الطرقات الغبراء، تتابع حجها دون حقد ولا حب بشري ولا رغبات، من معبد إلى آخر؛ لتصل أخيرا إلى المكان الذي لا تعرف فيه آلام ولا حسرات، والذي تسوده البهجة والغبطة الأبديتان: «سأذهب إلى مكان ما فأصلي، وإذا لم تألفه نفسي أو لم أشعر بالاغتباط؛ فسأمضي إلى مكان أقصي، وسأمشي حتى تخذلني ساقاي، وعندئذ سأستلقي وأموت في مكان ما، ثم أبلغ أخيرا ذلك الميناء الهادئ الذي ليس فيه حزن ولا حسرات.»
كذلك كانت تحلم ماري، لكنها كلما رأت أباها، وعلى الأخص كوكو الصغير، يضعف قرارها، فتشعر أنها تحب أباها وابن أخيها أكثر مما تحب الله. وعندئذ تذرف الدمع السخي في السر وتعتقد أنها خاطئة.
الجزء الرابع
الكونت نيكولا روستوف.
الفصل الأول
عودة نيكولا
يزعم التقليد الديني أن يمن الرجل الأول قبل سقطته كان في انعدام العمل من حياته؛ أي في البطالة، فقد احتفظ الرجل الساقط من مكانته بعادة البطالة، لكن لعنة الله تظله دائما، لا لأنه مرغم على كسب قوته بعرق جبينه فحسب، بل لأن طبيعته الفكرية أيضا تحرم عليه التلذذ بالسكون والجمود. هناك صوت سري في أعماقنا يقول لنا إننا نرتكب خطيئة إذا استسلمنا للكسل؛ فلو أن الرجل استطاع إيجاد حالة يشعر معها رغم بطالته بأنه نافع، وأنه ببطالته تلك يؤدي خدمة وواجبا، فإنه أوجد - ولا شك - في تلك الحالة كل السعادة الأولية. وعلى ذلك، فإن طبقة اجتماعية كاملة، هي طبقة العسكريين، تنعم بكل تأكيد بحالة البطالة تلك المفروضة عليها فرضا، البعيدة عن مضمار النقد واللوم. وذلك الجمود الملزم المشروع، كان دائما - وسيظل كذلك - النقطة الرئيسية التي تجتذب الناس إلى حمل السلاح.
كان نيكولا روستوف يتذوق مباهج هذه البطالة المشروعة منذ عام 1807 في فيلق بافلوجراد، الذي كان قائد الكوكبة - التي كان دينيسوف من قبل على رأسها فيه - أصبح الآن فتى قوي العود يقدره زملاؤه ورؤساؤه ومرءوسوه، ويحبونه رغم ما اتفق عليه معارفه في موسكو من اعتباره «من نوع رديء» بعض الشيء. وكان روستوف مغتبطا بنفسه، راضيا عن مصيره، لكنه في الآونة الأخيرة؛ أي في عام 1809، راح يتسلم من أمه رسائل تحوي على روح من الشكوى والتذمر آخذه بالازدياد. لقد كانت مساوئ ظروفهم المالية تتفاقم يوما بعد يوم، وقد حل الوقت الذي يجب عليه فيه أن يعود ليعزي أبويه ويسعدهما في شيخوختهما.
كان يخشى أن تكون الغاية من تلك الرسائل انتزاعه من الوسط الذي يشعر فيه أن أيامه تسير وديعة هادئة بعيدة عن المتاعب. كان يتوقع أن يعود آجلا أم عاجلا ليلقي بنفسه في غمار الحياة الصاخبة، يعيد النظام إلى مشاكل أسرته المتشابكة المعقدة، ويراجع الحسابات مع المسجلين، ويناقش ويناضل ويصل ما انقطع من علاقاته الاجتماعية، ويحسم قضية سونيا والوعود التي قطعها على نفسه لها. لقد كانت كل هذه الأمور معقدة بشكل مخيف، فكان يجيب على رسائل أمه بجمل مألوفة باردة تحمل في رأسها عبارة: أمي العزيزة، وتنتهي بعبارة: ابنك المطيع، دون أن ينوه بحرف واحد عن عودته. وفي عام 1810، طالعته رسالة جديدة على نبأ خطوبة ناتاشا وبولكونسكي والزواج الذي لن يتم إلا في غضون عام بسبب معارضة الأمير العجوز. أحزنه هذا النبأ وجرح كبرياءه. كان سبب آلامه ابتعاد ناتاشا عن البيت؛ تلك الأخت المفضلة، ثم أسفه لبعده عن البيت؛ لأنه كان يفضل معالجة هذه القضية على طريقة الفرسان، فيفهم بولكونسكي هذا أن اتحاد أخته به لا يشكل مثل هذا الشرف العظيم، وأنه إذا كان يحب ناتاشا بالفعل، فإنه يستطيع الاستغناء عن موافقة أبيه الخرف. تردد فترة قبل أن يفكر في الحصول على عطلة للتحدث إلى ناتاشا قبل الزواج. لكن المناورات كانت وشيكة، ففكر في سونيا وفي المتاعب التي تنتظره، فآثر التريث وأجل تنفيذ فكرته إلى ما بعد، لكنه في ربيع تلك السنة بالذات، حملته رسالة - وردت إليه من والدته كتبت في منجاة من رقابة الكونت - على تعجيل عودته. كانت تخطره في الرسالة بأنه إذا لم يعد ليمسك مقدرات أسرته بيديه، فإن أملاكهم الموروثة وإرثه المنتظر ستباع كلها في المزاد العلني، وستئول حالهم إلى أشد الفاقة؛ فالكونت شديد الضعف، جم الطيبة، عميق الثقة في ميتانكا، حتى إن كل الناس كانوا يخدعونه بكل وقاحة، والأمور تسير من سيئ إلى أسوأ: «إنني أستحلفك الله وأتوسل إليك يا ولدي أن تعود لفورك إذا لم تكن تريد تعاستي وشقاء كل أفراد الأسرة.»
أثرت تلك الرسالة على نيكولا التأثير المطلوب. لقد كان يملك ذلك الإحساس الطيب الذي يرسم للناس الأغبياء خط مسيرهم.
لم يعد عليه الآن إلا أن يقدم استقالته، أو - على الأقل - أن يطلب عطلة طويلة، ولكن لماذا يجب عليه أن يعود؟ هذا ما لم يكن واضحا في نظره. أمر بعد استراحة الغذاء أن يسرج جواده «مارس»، وهو مهر أشهب جامح لم يبارح الإسطبل منذ مدة طويلة. ولما عاد من نزهته وحصانه مغطى بالزبد، أعلن للافروشكا - تابع دينيسوف سابقا الذي أصبح تابعه - ولأصدقائه المجتمعين لقضاء السهرة، أنه سيطلب إحالته إلى الراحة ليعود إلى أسرته. كان بلا شك يأسف على رحيله قبل أن يتأكد من الأركان العامة - الأمر الذي كان على جانب من الأهمية بالنسبة إليه - عما إذا كان سيرشح لرتبة رئيس أو على الأقل سيحصل على وسام القديسة آن إثر المناورات الأخيرة. ويجد غريبا كذلك أن يسافر دون أن يبيع إلى الكونت جولوشووسكي زحافته الكبيرة التي تقطرها خيوله الملونة، التي دفع بها ذلك البولوني ألفي روبل عندما كان يفاوضه في بيعها، وبدا له أن تخلفه عن حفلة الفرسان الراقصة التي يحيونها في بانا بورزوزووسكا نكاية بالرماحة الذين يقيمون حفلة مماثلة في بانا بورزوزووسكا ضرب من المستحيل. مع ذلك، فقد كان واثقا بأنه مرغم على انتزاع نفسه من ذلك الجو الفتان الواضح البين؛ ليمضي إلى حيث يعلم الله وحده، ليجد حماقات وشظايا. وبعد ثمانية أيام، حصل على عطلته ، فقام زملاؤه الفرسان - ليس فرسان فيلقه فحسب، بل فرسان الحملة كلها - حفلة عشاء كبيرة على شرفه بنسبة خمسة عشر روبلا عن الفارس الواحد، واستحضروا جوقتين موسيقيتين وفرقتين للغناء. رقص روستوف رقصة «التريباك» مع الماجور باسوف، وأخذ الضباط وكل واحد منهم أشد ثملا من الآخر يعانقونه ويؤرجحونه، ثم يلقون به على الأرض، ولقي من جنود الكوكبة الثالثة مثل هذه المعاملة المجاملة، وهتفوا له: «هورا!» وأخيرا أركبوه في زحافته وواكبوه خلال المرحلة الأولى كلها.
خلال النصف الأول من الطريق؛ أي من كريمنتشوج وحتى كييف، ظل روستوف كما هي العادة يفكر في كوكبته، لكنه ما إن قطع نصف المسافة حتى شرع ينسى خيوله المرقشة ونائبه الرقيب دجوئيفيئيكو، وراح يتجه بتفكيره بقلق إلى ما ينتظره في أوترادنواي، وكلما ازداد قربا من نهاية الرحلة ازداد حنينه إلى المنزل الأبوي، وكأن الحس الروحي عنده خاضع لنظام سرعة سقوط الأجساد بالنسبة لمربع المسافات. وفي المرحلة الأخيرة قبل أوترادنواي منح السائق ثلاثة روبلات، واندفع مبهور الأنفاس يقفز كالغلام الشقي فوق مرقاة حدود أرضهم. وبعد الهرج والمرج اللذين يصاحبان وصول الغائب، أحس نيكولا بخيبة الأمل تلك التي تجعل المرء يقول في سره: «لكنهم ما زالوا كعهدي بهم، فأية حاجة إلى كل هذه العجلة؟!» ثم انطبع تدريجيا بحياة الأسرة. كان أبواه قد هرما بعض الشيء، وهو الأمر الوحيد الجديد عليه الذي أثار قلقه وجعله ينظر إلى ما أصابهم بوصفه نتيجة لسوء أحوالهم. كانت سونيا مشرفة على العشرين لا تستطيع الاستزادة من الجمال، لكنها محتفظة بما كان ينتظر لها منه، وكان نصيبها وافيا. ومنذ وصول نيكولا بات كل شيء فيها ينطق بالسعادة والحب، فكان تعلق هذه الفتاة المخلص الذي لا يتزعزع يملأ نيكولا بهجة. أما بيتيا وناتاشا فقد أدهشاه أكثر من الآخرين، أصبح بيتيا فتى جميلا مديد القامة في الثالثة عشرة من عمره، لائق المزاج، عظيم الحيوية، وقد أخذ صوته يخشوشن. أما ناتاشا، فقد نظر إليها طويلا في دهشة ضاحكة وقال: «لم تعودي كما أنت.» - «ماذا، هل تباشعت؟»
فقال لها بصوت خافت: «على العكس، ولكنك تبدين جدية الآن ... يا أميرة!»
فقالت وهي ممتلئة غبطة: «نعم، نعم.»
قصت عليه روايتها مع الأمير آندريه ووصوله إلى أوترادنواي، وأطلعته على رسالته الأخيرة ثم سألته: «هل أنت مسرور؟ أما أنا، فإنني عميقة السعادة هادئة كل الهدوء.» - «سعيد جدا. إنه رجل مرموق. هل تحبينه كثيرا؟»
أجابت: «ماذا أقول لك؟ لقد أحببت من قبل بوريس ومعلمي ودينيسوف، ولكن هذه المرة تختلف تماما عن سابقاتها. إنني مطمئنة لأنني أطأ أرضا صلبة، إنني أعرف أنه لا يمكن وجود رجل أفضل منه؛ لذلك أشعر أنني سعيدة جدا، هانئة جدا! كلا، إن الأمر ليس كالسابق مطلقا.»
أعرب نيكولا عن امتعاضه للمهلة الطويلة التي حدد الزواج بعدها، فاستاءت ناتاشا استياء شديدا، وراحت تبرهن له في شيء من الامتعاض على أنه ما كان يستطيع الإتيان بخير مما وقع؛ لأن الدخول إلى أسرة ضد رغبة الأب يعد إساءة لا تقبل هي نفسها السكوت عنها، ثم أعقبت: «إنك لا تفقه من الأمر شيئا، شيئا مطلقا.»
لم يجرؤ نيكولا على معارضتها فاعترف لها بصوابها.
ومنذ ذلك الحين، راح يراقبها خلسة فلاحظ بدهشة بالغة أنها لم تكن بادية الأسى شأن الشابات اللاتي بعدن عن رجالهن الموعودين. كانت تظهر متزنة المزاج هادئة مرحة كسابق عهدها؛ الأمر الذي جعل الشك يتسرب إلى نفسه حول نتائج الأمر مع بولكونسكي. لم يكن مؤمنا بأن مصير أخته قد تقرر نهائيا، خصوصا وأنه لم يرهما معا ليحكم بنفسه. بدا له في مشروع الزواج ذاك شيء يدعو إلى التمهل والتفكير.
كان يتساءل: «ما معنى هذه المهلة؟ لم لم تعلن الخطوبة رسميا؟» وذات يوم بينما كان يتحدث عن ناتاشا إلى أمه، تبين وهو مندهش أن أمه كانت في أعماق نفسها تشاركه تحفظه حيال تلك الرابطة المنتظرة، الأمر الذي بعث في نفسه الغبطة. قالت له وهي تريه رسالة من الأمير آندريه بتلك اللهجة العدائية المكتومة، التي تظهر في نبرات صوت الأمهات عندما يتصورن سعادة بناتهن الزوجية المقبلة: «إليك ما يكتب ها إنه يقول إنه لن يستطيع العودة قبل كانون الأول، فأية أعمال تؤخره هناك؟ المرض بلا شك. إن صحته ليست على ما يرام، ولكن لا تتحدث بشيء من هذا إلى ناتاشا. لا تنخدع بحبور أختك؛ إن هذا هو آخر وقت سعيد عند الفتيات، وأنا واثقة من أنها تتألم كلما كتب لها، ثم من يدري؟ عسى الله ينهي الأمر على خير وجه. إنه رجل جذاب.»
الفصل الثاني
مناقشة الحساب
ظل نيكولا خلال أيامه الأولى صموتا ضجورا، كانت الحاجة الملحة إلى معالجة المسائل المادية اللعينة التي استدعته أمه من أجلها تعكر مزاجه، ولكي يتخلص من ذلك الحمل الثقيل بأسرع وقت ممكن، اتجه منذ صبيحة اليوم التالي لوصوله مكفهر الوجه إلى جناح ميتانكا دون أن ينبئ أحدا بمقصده؛ ليسأل الرجل حسابا عن كل شيء. أما ما هو حساب كل شيء هذا، فإن نيكولا ما كان يعرفه خيرا من ميتانكا الذي أذهلته تلك الزيارة وروعته. لم تكن الشروحات والحسابات التي قدمها الرجل طويلة. سمع الوكلاء ومساعدوهم - الذين كانوا ينتظرون في الردهة - الكونت الشاب يصرخ بصوت مكتوم ازداد إرعادا، وأصغوا برعب يلطفه الارتياح إلى فيض الشتائم والسباب التي أمطرها عليه: «يا لص، يا عاق! سأمزقك بسيفي كالكلب. إنك لا تتعامل الآن مع أبي أيها المجرم!»
ورأى أولئك الوكلاء أنفسهم برعب وارتياح مماثلين الكونت الشاب مخضب الوجه بدماء الغضب، أحمر العينين، يجر ميتانكا من ياقته وينهال عليه خلال الكلام بضربات حاذقة من قدميه وركبته في ظهره وبين ساقيه، ويصرخ: «اخرج ولا تطأ بأقدامك أرض هذا البيت بعد اليوم أيها المجرم.»
تدحرج ميتانكا فوق الدرجات الست بسرعة فائقة، ومضى يختفي في دغل. كان ذلك الدغل يستعمل مأوى لكل أفراد أوترادنواي الذين يؤخذون بهفوة، بل إن ميتانكا نفسه كان يختبئ فيه كلما عاد ثملا من المدينة. أما أولئك الذين كانوا يختفون فيه للتواري عن أنظار ميتانكا نفسه، فكانوا يشهدون بملاءمته ووفائه للغرض.
أطلت زوجة ميتانكا وكنائنها برءوسهن، فظهرت وجوههن الوجلة خلال الباب الموارب الذي يسمح للناظرين برؤية «السماور» اللامع الذي يغلى الماء فيه، والسرير المرتفع الذي ينام عليه المسجل ، والذي فرش فوقه غطاء ثمينا. مر الكونت من أمامهن لاهث الأنفاس دون أن يعبأ بهن، وابتعد بخطوات ثابتة قاصدا غرفته.
وما إن علمت الكونتيس من الوصيفات بنبأ ما جرى للمسجل على يد ابنها، حتى سرى الاطمئنان إلى نفسها، وتأكدت من أن أحوالهم ستصلح بسرعة استنادا إلى هذه البداية الطيبة، لكنها من جهة أخرى قلقت على حالة ابنها المعنوية التي كان عليها ابنها بعد فراغه من تأديب ميتانكا. ذهبت مرارا بخطوات متلصصة إلى باب غرفته، فسمعته ينفث دخان غليونه بلا انقطاع.
وفي اليوم التالي، انتحى الكونت العجوز بابنه جانبا وقال له بابتسامة مرتبكة: «أتدري يا صديقي الطيب أنك انفعلت بالأمس خطأ؟ لقد قص علي ميتانكا كل شيء.»
فقال نيكولا في سره: «كنت أتوقع ذلك، وأعرف أنني لن أتوصل إلى فهم شيء في هذه الدنيا المقلوبة.» استمر الأب يقول: «لقد غضبت لأنه لم يسجل في دفاتره مبلغ سبعمائة روبل، لكن هذا المبلغ مسجل في الصفحة التالية نقلا عن الصفحة الأولى.» - «أبتاه، إنه مختلس دنيء ولص. إن ما عملته جيد ومفيد، ولكن إذا كان ذلك لا يروق لك؛ فلن أعترض له بعد اليوم بكلمة.»
لم يكن الكونت على خير ما يرام، فقد كان يشعر بذنبه وخطئه إزاء أولاده؛ لأنه لم يحسن استغلال ثروة أمهم، لكنه ما كان يعرف كيف يعالج هذا العجز، قال: «كلا يا صديقي الطيب، كلا. بل إنك لتسرني إذا اهتممت بأعمالنا بنفسك. لقد شخت و...» - «آه! اصفح عني يا أبتاه إذا كان اندفاعي لم يرق لك. إنني لا أفقه في هذه الشئون بقدر ما أنت عليم بها.»
وحدث نفسه: «ليحملهم الشيطان هم وخدمهم وكل الفلاحين والحسابات والمبالغ المنقولة إلى الصفحة التالية! لقد مرت بي فترة كنت أفقه خلالها الربح الذي يعود علي من مضاعفة البرهان ست مرات متتالية أما «النقليكون» هذا، فيا للأسف الشديد!»
ومنذ ذلك الحين لم يعد يتدخل في شيء. مع ذلك، فقد استقدمته الكونتيس ذات يوم، قالت له: «إن في حوزتها سندا معتمدا بتوقيع آنا ميخائيلوفنا بمبلغ ألفي روبل، فماذا يجدر بها أن تفعل به؟» أجابها: «حسنا، إليك رأيي: إنك تقولين إن الأمر متوقف علي. إنني لا أحب لا آنا ميخائيلوفنا ولا بوريس، لكنهما كانا على اتصال وثيق معنا وهما من الفقراء، وإذن يجب أن تتصرفي هكذا.» ومزق السند؛ الأمر الذي جعل الأم العجوز تجهش بالبكاء من الفرح.
ومنذ ذلك الحين، شغف روستوف الشاب بالصيد بالكلاب مغفلا كل الأمور الأخرى. كان يجهل ذلك اللون من الصيد، ولكن أباه العجوز - وكان من أقوى أنصاره - ينظم الحفلات الخاصة به بحماس واندفاع.
الفصل الثالث
الخطوة الأولى
أخذت موجات الصقيع الأولى تحاصر الأراضي المشبعة بأمطار الخريف، وشرعت زروع الحنطة الشتوية تنشط على سيقانها الخضراء الزاهية، وتعلو على بقايا حصاد الموسم السابقة رقاع مائلة إلى السمرة من القمح الخريفي وطئته أقدام الماشية، ورقاع صفراء فاتحة من القمح الصغير المخطط بخطوط حمراء من الحنطة السوداء. أما حزم الأشجار والحشائش الصغيرة التي تشكل حتى نهاية شهر آب جزرا صغيرة من الخضرة وسط بقايا القش والأراضي القمحية السوداء، فإنها أصبحت الآن جزرا ذهبية وأرجوانية بين الزروع زمردية اللون. أخذ الأرنب البري ينسل و«يوسخ نفسه» على قول الصيادين، وجموع الثعالب تتشتت، ونمت جراء الذئاب حتى فاقت على أحجام الكلاب، فكان ذلك أحسن الأوقات ملاءمة للصيد. مع ذلك، فإن مجموعة كلاب روستوف الشاب المتقد كانت على غير استعداد، حتى إنه تقرر في مجلس الصيادين العام إعطاؤها راحة ثلاثة أيام لتستطيع العودة إلى الصيد في السادس عشر من أيلول، وحينئذ يشرع بالتغيب في غابة السنديان؛ حيث نمى إليهم وجود فصيلة من الذئاب لم تمس بعد.
تلك كانت الحالة في الرابع عشر من أيلول، لم يستطع الصيادون الخروج طيلة النهار بسبب شدة وطأة الجمد، لكن الطقس اعتدل بعض الشيء عند المساء. وفي الخامس عشر صباحا، عندما وقف روستوف الشاب في ثوبه المنزلي إلى النافذة، أتيح لناظريه طقس لا يمكن أن يحلم المرء بأفضل منه للصيد؛ بدت السماء وكأنها تذوب لتغرق الأرض دون أن تتصدى لها نأمة ريح. أما سقوط أهباء الضباب غير الملموس، فكان الحركة الوحيدة التي تظهر في الفضاء. أخذت أغصان الحديقة المجردة تساقط لآلئ شفافة فوق الأوراق حديثة السقوط، والأرض التي ظهرت عند بستان الخضار، مزينة بسواد حبات الخشخاش اللامعة، أخذت تغيب تدريجيا على البعد تحت كنن الضباب الكامد المخضل. خرج نيكولا فوق المرقاة الرطبة المتسخة بآثار موحلة. كانت رائحة الأوراق الذابلة تمتزج برائحة الكلاب. نهضت «جراسيوز» لطيفة؛ كلبته ذات الإهاب الأسود والأبيض، والمؤخرة العريضة، والعينين السوداوين البارزتين، لدى رؤية سيدها، وتمطت ثم قبعت كما يفعل الأرنب، ووثبت فجأة حتى بلغت أنفه وشاربيه فلعقتهما. وهرع كلب صيد آخر من أحد المماشي، واندفع إلى المرقاة معطف الفقار منتصب الذيل، وجاء يدلك نفسه على ساقيه.
وفي تلك اللحظة دوى نداء الصيادين الذي لا يقلد: «هو ... هو ... هو ...!» يجمع بين أرفع الأصوات طبقة وأعمقها صدى، وانبعث قائد فصيلة الكلاب دانيلو من وراء زاوية البيت. كان أشهب الوجه والشعر مغضن القسمات، محلق الشعر على الطريقة الأوكرانية، يحمل في يده سوطا مطويا، وتحمل قسمات وجهه أمارات الاستقلال الأنوف، والاحتقار المتناهي الذي يبدو من خصائص قواد كلاب الصيد. رفع أمام السيد قلنسوته الصوفية، والتي عليه نظرة ازدراء لا تحمل في معناها شيئا مهينا. وكان نيكولا يعرف أن دانيلو ذاك، الذي يحتقر كل الناس ويضع نفسه فوق مصافهم جميعا، ليس أكثر من رجله هو وقائد كلابه.
صيد الذئاب.
صاح نيكولا الذي لدى رؤيته ذلك الطقس البديع المثالي، والكلاب وقائد فصيلة كلابه؛ لأن أمام جنون الصيد الذي يشبه جنون العشاق فينسيهم كل مشروعاتهم السابقة: «دانيلو!»
سأل الرجل بصوت خفيض جدير برئيس شمامسه، ولكن كثرة تحريضه الكلاب وإثارتهم جعله أجش، بينما راحت عيناه السوداوان اللامعتان تختلسان النظر إلى سيده الصامت وكأنهما تقولان: «آه! آه! إنك لا تستطيع المقاومة.» - «ما هي أوامركم يا صاحب السعادة؟»
قال نيكولا وهو يحك «لطيفة» وراء أذنيها: «يوم بديع، أليس كذلك؟ جميل للجري والكمين.»
غمز دانيلو بعينيه دون أن يجيب، وبعد لحظة عاد الصوت الخفيض يقول : «لقد أرسلت «أوفاركا» للترصد منذ أن بزغ الفجر. إنه يقول إنها انتقلت من مكانها إلى حرز أوترادنواي. لقد سمعها تعوي هناك.
كان معنى ذلك أن الذئبة - الذي يعرف الجميع بوجودها - قد انتقلت مع جرائها إلى غابة أوترادنواي المنعزلة بين الحقول على بعد نصف ميل من هنا.»
قال نيكولا: «إذن هل نذهب إلى هناك؟ تعال لترافقني أنت وأوفاركا.» - «حسب أوامرك.» - «وانتظر أن يعطي الطعام للكلاب.»
بعد خمس دقائق، كان دانيلو وأوفاركا في مكتب نيكولا الكبير. صحيح أن قامة دانيلو كانت قصيرة، لكن وجوده في حجرة مؤثثة كان له من الأثر مثل ما تخلفه رؤية حصان أو دب تائه فوق أرضية خشبية وسط قطع من الأثاث يعيشان في الشروط اللازمة لحياة الإنسان، ولم يكن دانيلو نفسه يجهل ذلك، فكان يقف على العتبة كعادته جاهدا أن يتحدث بصوت خافت، وأن لا يتحرك من مكانه خشية أن يحطم شيئا، وكان يسرع في الحديث فيفضي بما لديه ليخرج بسرعة إلى الهواء الطلق.
وبعد أن طرح نيكولا عدة أسئلة، وتلقى الأجوبة اللازمة من دانيلو، الذي لم يكن همه إلا الانصراف، تأكد الكونت الشاب أن الكلاب لا تتعرض لأي خطر، فنهض وأمر أن تسرج الجياد، وبينما كان دانيلو يتأهب للخروج، هرعت ناتاشا في ثياب المنزل متدثرة بشال وصيفتها العجوز الكبير فوق شعرها الأشعث يرافقها بيتيا، قالت: «إنك ذاهب إلى الصيد؟ كنت واثقة من ذلك! بينما كانت سونيا تؤكد العكس. يستحيل أن يقاوم الإنسان الرغبة في الذهاب إلى الصيد في مثل هذا الجو.»
أجاب نيكولا ممتعضا؛ لأنه كان يزمع الانهماك في صيد جدي يمنعه من اصطحاب ناتاشا وبيتيا: «نعم، نعم، لكننا سنطارد الذئب هذه المرة، ولن يكون الأمر مسليا بالنسبة إليك.» - «على العكس، إنها أقوى رغائبي. يا لعين! يذهب إلى الصيد دون أن يخطرنا!»
هتف بيتيا:
إلى الأمام! لا شيء يشكل عائقا في طريق الروسي
1 ... - «ولكن يا ناتاشا لا يمكنك أن تأتي معنا، إن أمنا تمانع ...»
بذلك اعترض نيكولا، لكن ناتاشا أصرت بلهجة حازمة: «بل سأذهب، سأذهب رغم كل شيء. دانيلو، مر أن تسرج لنا جياد، وقل لميخائيلو أن يأتي بمقود كلاب الصيد العائد لي.»
وإذا كان دانيلو يجد غضاضة وعناء في المكوث في حجرة ما، فقد كان كذلك لا يطيق مجرد التفكير في أن تكون له علاقة بالشباب؛ لذلك فقد أطرق برأسه وبادر إلى الانصراف وكأن كلمات الآنسة لم تكن موجهة إليه، لكنه عنى في خروجه أن يتجنب الاحتكاك بها أو إصابتها بحركة غير مقصودة من حركاته.
الفصل الرابع
الذئب
قرر الكونت العجوز الذي كان في حالة نفسية مشرقة ذلك اليوم، والذي كان يملك معدات كبيرة هامة للصيد، أسلم زمامها إلى ولده مؤخرا، أن ينضم إلى البعثة.
لم تمض ساعة حتى كان كل شيء جاهزا أمام المرقاة. سار نيكولا أمام ناتاشا وبيتيا دون أن يلقي بالا إلى ما يحدثانه عنه، مبينا بتصرفه ذاك أن الوقت لا يتسع للترهات، وبعد أن تفقد كل شيء حتى أتفه التفاصيل، وأرسل فصيلة من الكلاب مع كشافين تتقدمهم، اعتلى صهوة حصانه الأشقر «دونيتز»، وصفر ينادي كلاب موكبه الشخصي، واندفع عبر الحقول متجها صوب غابة أوترادنواي. وكان مرافق الكونت العجوز يقود حصانه «فيولان» (عنيف)؛ وهو حصان أشهب عاقر ذو ذؤابة بيضاء. أما الكونت نفسه فكان عليه بلوغ المركز المعين له للمراقبة مستعملا الزحافة.
أسلم زمام خمسين كلبا عداء إلى ستة من الخدم المختصين بالكلاب، وأطلق ثمانية آخرون من الخدم أكثر من أربعين كلبا سلوقيا، ولو جمعت فصائل كلاب السادة لبلغ عددها مائة وثلاثين كلبا يواكبها عشرون صيادا على خيولهم.
كان كل كلب يعرف اسمه وقائده، وكل صياد مركزه ودوره، وما إن خرج الجمع إلى الأرض الفراغ حتى تفرقوا جميعا بصمت وسكون، وبخطى هادئة متزنة في الدروب المؤدية إلى الغابة.
كانت الخيول تتقدم في البرية وكأنها تطأ بساطا مرنا، لكنها عند تلاقي الطرق كانت تخوض في برك من المياه، وكان الضباب مستمرا في الذوبان البطيء غير الملموس مع الأرض، والهواء ساخنا خفيفا، ومن حين إلى آخر كانت صفارة أحد الصيادين تدوي، أو يرتفع شخير حصان، أو فرقعة سوط، أو نباح أليم لكلب طلب إليه العودة إلى الصفوف والانتظام.
اجتاز الموكب ربع ميل تقريبا عندما انفصل عن الضباب خمسة فرسان آخرين على رأسهم عجوز جميل الطلعة لا يزال وافر النشاط، ذو شاربين أبيضين ضخمين.
قال نيكولا عندما اقترب العجوز منه: «مرحبا يا عماه.»
قال العم وهو قريب بعيد لآل روستوف غير واسع الغنى، يقطن في جوارهم: «إنه واضح تماما إلى الأمام سر! لقد كنت واثقا من خروجكم. كنت أعرف أنك لن تقاوم، وأنك لعلى حق. إنه واضح، إلى الأمام سر! وهذه عبارة العم المفضلة. هاجم الغابة فورا؛ لأن رجلي جيرتشيك أعلمني أن آل إيلاجين متمركزون بموكبهم في كورنيكي. لسوف ينتزعون منك أسرة جراء الذئاب، إنه واضح، إلى الأمام سر!» - «إننا ذاهبون إلى الغابة، هل نجمع فصائل الكلاب؟»
جمعت الفصائل ومضى العم ونيكولا ساقا إلى ساق. أما ناتاشا المتدثرة بشالات عديدة يبرز خلالها وجهها ذو العينين البراقتين المنفعلتين، فقد تبعتهما بصحبة بيتيا، يواكبهما قائد الكلاب ميخائيلو الذي أقامته خادمتها العجوز حارسا عليها، وكان بيتيا مبتهجا كل الابتهاج، يسوط حصانه ويثيره ليندفع به. أوقفت ناتاشا وهي كالطود الراسخ فوق سرجها، بحركة مدربة من يدها، حصانها الأدهم «نيجريون».
ألقى العم نظرة استياء إلى حيث وقف الشابان: «ما كان يجب أن يجتمع عبث الصبيان بالأمور الجدية.» هتف بيتيا: «صباح الخير يا عماه، إننا هنا نحن أيضا.» - «صباح الخير، صباح الخير، ولكن حاذرا أن تسحقا الكلاب.»
قالت ناتاشا وهي تتحدث عن كلبها العداء المفضل: «نيكولا، يا له من كلب لطيف «تاكان» مشاكس هذا. لقد عرفني!»
قال نيكولا في سره: «إن مشاكس ليس كلبا، بل كلب عدو.» وبنظرة صارمة أوضح لأخته المسافة التي يجب أن تحتفظ بها بينهما، فامتثلت ناتاشا وعملت بما يطلب.
استأنفت تقول: «لا تقلق يا عماه، لن نزعجكم في شيء، لن نتحرك من مكاننا.»
أجاب العم: «هذا أفضل، هذا أفضل أيتها الكونتيس الصغيرة، فقط لا تسقطي عن جوادك؛ ففي هذه الحالة إذن كل شيء واضح. إلى الأمام سر ! لن تبقى لديك وسيلة للحاقك بنا.»
كانت الجزيرة التي تشكلها غابة أوترادنواي تلوح على بضع مئات من الأمتار، وقد بلغها رؤساء فصائل الكلاب. درس نيكولا مطولا مع العم خير الأمكنة التي يشرع فيها بإطلاق الكلاب، وبعد أن حلا هذه المعضلة الخطيرة دل ناتاشا على المكان الذي يجب أن تقف فيه، مراعيا في ذلك النقطة التي لا يمكن لحيوان بلوغها، ثم دخل الغابة من أعلى الوادي.
قال العم: «انتبه يا ابن أخي. إنك إزاء ذئب ضخم؛ فلا تدعه يفلت.»
صاح نيكولا دلالة على أخذه العلم بملاحظات العم: «سوف نرى ... «رافاجور» مدمر، تعال هنا!»
كان رافاجور هذا أمغر اللون، قبيح الشكل، منتفخ الحنكين، عليه أن يهاجم الذئب الضخم وحده. مضى كل إلى مرقبه.
خشي الكونت العجوز - وهو الذي يعرف مدى حماس ابنه - أن يصل إلى مركزه متأخرا، لكن الصيادين لم يكونوا قد احتلوا أمكنتهم بعد عندما وصل إيليا آندريئيفيتش، مرحا قرمزي الخدين يرتج خداه من الانفعال، مارا بين سوق القمح الخضراء، تسابق خيول زحافته السوداء الريح، إلى المركز المعين له عند الغابة. وبعد أن أحكم كل أدوات الصيد فوق فروته النصفية، امتطى صهوة «فيفليانكا»؛ وهو حصان هادئ جيد التغذية، لامع الجلد وخطه المشيب كصاحبه. وعلى الرغم من أن الكونت لم يكن صيادا في روحه، فإنه كان يعرف قوانين الصيد كلها؛ لذلك فقد اتجه إلى مكانه عند حدود الغابة، وجمع الأعنة في يده، واستقام فوق سرج الحصان. ولما شعر بأنه على استعداد سرح حوله نظرة باسمة.
كان يرافقه وصيفه سيميون تشيكمار؛ وهو فارس هرم بدأ ينثني تحت ثقل السنين، وكان يمسك بيده مقاود ثلاثة كلاب قوية، ولكن كثيرة الشحم كالحصان وصاحبهما، بينما رقد قريبا منها كلبان آخران طليقان. وعلى بعد مائة خطوة، عند طرف الغابة، يربض ميتكا، وهو مرافق آخر للكونت، فارس ماهر وصياد دنف. تجرع الكونت وفاء منه لتقليد قديم جرعة كبيرة من العرق في كأس فضية، ثم التهم قطعة من التوابل بسرعة بعد أن أغرقها في نصف زجاجة من نبيذ بوردو المفضل عنده، فزادت تلك الوجبة من تضرج وجهه، وراحت عيناه اللتان يغرقهما الماء تلتمعان كالوميض المبهر. استوى فوق سرج الجواد متدثرا بفرائه القصير، فبدا أشبه بطفل أخرج إلى النزهة.
شرع تشيكمار النحيل ذو الخدين المتدليين، بعد أن فرغ من استعداداته، يسأل سيده الكبير الذي كان يعيش معه على أتم وفاق منذ ثلاثين عاما، والذي تبين له من انبساط أساريره ومزاجه الممتاز أنه على استعداد للدخول في حديث طلي. خرج شخص ثالث من الغابة باحتراس - والقط الذي حرقته المياه الحارة يخشى من الماء البارد - وجاء يتمركز وراء الكونت. كان هذا القادم هو «المهرج» العجوز ذا اللحية البيضاء المزمل بمعطف نسائي، وقلنسوة عالية جدا. وكان يجيب على الاسم النسائي المستعار: ناستاسيا إيفانوفنا. قال له الكونت بصوت خافت وهو يغمز له بعينيه: «آه يا ناستاسيا إيفانوفنا! حاول ألا ترهب الوحش وإلا. حذار من دانيلو!»
أجاب ناستاسيا إيفانوفنا: «إن لساني ليس في جيبي أنا الآخر!»
أهاب به الكونت. - «صه.» ثم استدار إلى سيميون وسأل: «هل رأيت ناتالي إيلينيتشنا؟ أين هي؟»
أجاب سيميون باسما: «إنها قائمة مع بيوتر إيليتش عند مخرج أدغال جاروف. إنها رغم كونها امرأة مولعة أشد الولع بالصيد.» - «ويا لها من فارسة ماهرة يا سيميون! إنها تتفوق على الرجل في الركوب!» - «نعم، إنها تركب الخيل بمهارة، إنها ذكية وجذابة!»
سأل الكونت بصوت خافت: «وابني نيكولا، أين هو؟ في وادي ليادوف بدون شك؟»
فأعلن سيميون الذي يعرف نقطة الضعف في سيده: «بالتأكيد. أوه! إنه يعرف المركز الجيد، ثم إنه فارس لا يشق له غبار! إننا دانيلو وأنا لا نصدق أعيننا كلما رأيناه على صهوة جواده.» - «هه، إنه يتقن الركوب، وبأية براعة!» - «إنه يصلح للتصوير! ذاك اليوم عندما اكتشف ثعلبا في آجام زافارزينو، قفز قفزة لله ما أروعها! إن حصانه يساوي حتما ألف روبل. أما الفارس فإنه لا يقدر بثمن. إن فتى مثل هذا - كما ترى - ليس من السهولة إيجاد شبيه له.»
ردد الكونت وكأنه يأسف لأن سيميون لم يجد عبارة أقوى من هذه لوصف ابنه: «شبيه له ... شبيه له.»
وعاد يكرر هذه العبارة بصورة آلية وهو يرفع أطراف فروته القصيرة ليأخذ علبة السعوط. - «وذلك اليوم بينما كان خارجا من الصلاة بأبهى منظر، ميخائيل سيدرويتش.» لم يتمم سيميون جملته؛ لأنه أحس في ذلك الهدوء بالمطاردة والعواء المكتوم الصادر عن كلبين عداءين أو ثلاثة كلاب، فأحنى رأسه وأصاخ السمع، ثم أشار بيده إلى سيده أن يلزم الصمت ودمدم: «لقد عثروا عليها، إنهم يطاردونها هابطين في الوادي.»
ظل الكونت محتفظا بالابتسامة على شفتيه ينظر أمامه إلى حيث توقع هجوم الكلاب، وعلبة السعوط في يده دون أن يستعملها، ولم يلبثا بعد سماعهما العواء أن تبينا نداء: إلى الذئب. ينطلق من حنجرة دانيلو ذي الصوت الغليظ الرنان. اتحدت فصائل الكلاب كلها واتحدت بالثلاثة الأول، وارتفعت زمجرة الكلاب السلوقية التي تظهر فيها اهتزازات خاصة تدل على أنها في إثر الذئب. ولم يعد الخدم يصرخون: «تايوت!» بل «هارلو!» وكان صوت دانيلو المنخفض الخطير حينا، والثاقب حينا آخر يطغي على الأصوات الأخرى، وكأنه يملأ الغابة كلها فيبلغ حدودها، ثم ينتشر بعد ذلك في أبعاد البرية.
وبعد أن أصغيا فترة صامتين، تأكد الكونت ومرافقه أن الصيد انقسم إلى قسمين؛ الأول - ويضم العدد الأوفر والصخب الأعلى والأشد: يبتعد عن جهتهما تدريجيا، والثاني - وهو الذي تنبعث فيه صيحات دانيلو «هارلو»: يمر عبر الغابة على مقربة من مكان الكونت. أخذت أصوات الفرقتين تختلط وتتجاوب، ولكن تمعن ابتعادا.
زفر سيميون وانحنى ليخلص كلبه الشاب من المقود الذي التف حوله، وكذلك زفر الكونت بدوره. ولما تبين أنه يحمل علبة سعوطه فتحها وأدخل فيها إبهامه وسبابته، وفجأة صاح سيميون بكلب خرج في تلك اللحظة من جانب الغابة: «إلى الوراء.» وانتفض الكونت وسقطت علبته من يده، فترجل ناستاسيا إيفانوفنا ليلتقطها تحت أنظار الكونت وسيميون اللذين لم يحركا ساكنا.
وفجأة، كما يحدث غالبا، اقترب صخب الصيد منهم حتى خيل إليهم أن رءوس الكلاب النابحة التي يشجعها دانيلو بصرخاته تبرز أمام أعينهم.
أدار الكونت رأسه، فرأى على يمينه ميتكا الذي كان ينظر إليه جاحظ العينين، وقلنسوته مرفوعة بيده يشير له بها إلى شيء ما في الناحية الأخرى إلى الأمام. صاح ميتكا بصوت شبه الانفجار: «حذار!»
وأطلق كلابه واندفع على حصانه باتجاه سيده. ابتعد الكونت وسيميون عن حدود الغابة فرأيا إلى يسارهما الذئب الذي كان يتجه نحو البقعة التي بارحاها بقفزات صغيرة من جسمه المرن، فثارت الكلاب وانتزعت مقاودها من يد قائدها، واندفعت نحو الذئب معرضة نفسها لخطر الدهس تحت حوافر الخيل.
توقف الذئب فجأة بغباء شأن المصاب بالخناق، وأدار رأسه باتجاه الكلاب المهاجمة، ثم قفز قفزتين أو ثلاثا بمثل حركته المتأرجحة، وتسلل عبر الآجام وهو يحرك ذؤابة ذيله. وفي ذات اللحظة، اندفع من الجانب المضاد وسط زمجرات شاكية، كلب ثم اثنان ثم ثلاثة من الكلاب العداءة، تتبعهم فصائل الكلاب كلها مندفعة كتلة واحدة في غير انتظام نحو المكان الذي اختفى فيه الذئب. وأخيرا، انشقت أدغال البندق عن دانيلو فوق حصانه الأصهب وقد سوده العرق. كان دانيلو متكورا فوق ظهر الحصان العريض منحنيا إلى الأمام، عاري الرأس، وشعره الأبيض مشعث مبعثر فوق وجهه القرمزي السابح في العرق. كان يصيح ملء حنجرته: «هارلو، هارلو ...» لكنه ما إن رأى الكونت حتى التمعت الصاعقة في نظره، وزمجر وهو يهدده بسوطه: «يا الله! لقد أفلت منهم الذئب. يا للصيادي النحس!»
ودون أن يتنازل بالتحدث أكثر من ذلك، ترك الكونت في مكانه مذهولا مشدوها، وانهال بالضربات التي أعدها لسيده على كشح حصانه الغارق في العرق، واندفع يتبع كلابه. أذهلت هذه البادرة الكونت، فالتفت نحو سيميون يستجدي عطفه بابتسامة، لكن هذا لم يكن في مكانه، كان يلف حول الأدغال ليرغم الذئب على الخروج من الغابة، كذلك كانت الكلاب السلوقية تطارد الحيوان من اليمين والشمال، لكنها ما كانت تستطيع التغلغل عبر الأدغال، وهكذا ولم يستطع أحد أن يقطع الطريق على الذئب.
الفصل الخامس
مقتل الذئب
ظل نيكولا روستوف خلال تلك الفترة ينتظر في مركزه ظهور الذئب، يستهدي بابتعاد الصيد أو اقترابه، واختلاف العواء وتردده ومسافات النداء، ويعتبر تلك البوادر نقاطا مضبوطة للاستهداء. كان يعرف أن في تلك الغابة جراء ذئاب وذئابا ضخمة، ويعرف أن فصائل الكلاب قد انقسمت إلى قسمين، وأن أحدهما قد تبع الحيوان المفترس حتى مكان ما، ثم وقع حادث معين؛ لذلك كان ينتظر في كل لحظة أن تنزاح الأغصان عن الذئب، ويعمل في نفسه ألف حساب عن الجهة التي قد يتجه الوحش فيها، وعن الطريقة التي سيعمد إليها لمهاجمته، وكان الأمل في نفسه يتناوب مع اليأس. طلب إلى ربه مرات عديدة أن يجعل الذئب يخرج من ناحيته، وراح يصلي بحرارة مخجلة بعض الشيء، كما يصلي المرء في مناسبات تجعل بعض الأسباب التافهة، الاضطراب يصعد من أعماق النفس إلى الألسنة. كان يقول: «رباه! ماذا يكلفك أن تفعل ذلك من أجلي؟ إنك ولا شك أرفع من هذه الصغائر، وإنها لخطيئة أن أتوجه إليك بمثل هذا الابتهال، لكنني أتوسل إليك: اعمل على أن يتجه ذئب ضخم نحوي، وأن يهرع كلبي مدمر إليه تحت أنظار عمي الذي أراه هناك يرقبني، فيعمل فيه بأنيابه في عضة قاتلة في حلقه.» أدار روستوف نظره حوله خلال نصف الساعة تلك، أكثر من ألف مرة بعناد وترقب وقلق وحدق في حدود الغابة، وتينك السنديانتين الهزيلتين اللتين تبرزان خلال غيضة من الحور، وذلك المنحدر ذي الجوانب المضرسة، وقلنسوة العم التي لا تكاد تظهر بوضوح عبر دغل صغير إلى اليمين.
كان يحدث نفسه: «كلا، لن يكون لي هذا الحظ السعيد! وماذا يكلف ذلك؟! كلا، لن يكون لي هذا الحظ. إنني دائما هكذا؛ في الحرب، في لعب الورق، لا أحصد إلا الخسران.» مرت في مخيلته ذكرى أوسترليتز ودولوخوف بسرعة، ولكن بوضوح شديد، وراح يفكر: «ليتني أستطيع مرة واحدة في حياتي أن أطارد ذئبا ضخما وأصرعه. إنني لا أطلب أكثر من ذلك.» استمر يبحث حوله مستطلعا مصيخا بسمعه إلى أضعف وأتفه أصوات الصيد.
وبينما هو ينظر إلى يمينه شاهد شيئا يجري نحوه عبر السهل الأجرد. حدث نفسه وهو يطلق زفرة ارتياح كالتي تنطلق من الصدور عندما يتحقق حلم جميل ظل زمنا طويلا يتهدهد في حناياها: «آه! هل يعقل ذلك؟» وتحققت سعادته القصوى وبكل بساطة دون ضجيج، ولا دوي، ولا إشارات، أو دلائل مسبقة. لم يصدق ما تراه عيناه، فظل فترة معينة فريسة الشك. لقد كان الذئب متجها نحوه على خط مستقيم، بعد أن عبر بتثاقل حفرة كانت تقطع عليه الطريق. كان ذئب هرم، مبيض الفقار، أشهب البطن غير خال من السوء، يجري دون تعجل لقناعته - ولا شك - بأن أحدا لا يراه. أمسك روستوف أنفاسه وألقى نظرة على كلابه التي كانت بين مستلقية وواقفة، ولا تشك في شيء. رأى «مدمر» العجوز مطأطئ الرأس مكشرا عن أنيابه الصفراء يقرعها على قفاه باحثا بحماسه عن برغوث يضايقه، قال روستوف بصوت خافت وهو يزم شفتيه: «هارلو! هارلو!»
هزت الكلاب مقاودها وقفزت ناصبة آذانها. كف مدمر عن حك جلده، ونهض ناصبا أذنيه يبصبص بذيله الذي تتدلى منه كتل من الوبر. تساءل نيكولا بينما كان الذئب مستمرا في تقدمه نحوه مبتعدا عن الغابة: «هل يجب أن أطلقها؟» وفجأة تبدل تصرف الحيوان؛ انتفض لأنه ولا شك أبصر عيونا آدمية ترقبه، وأدار رأسه ببطء نحو الصياد ثم توقف، بدا كأنه يتساءل: «ماذا أعمل الآن؟ هل أقدم أو أرجع؟ آه! ليكن. هيا.» ودون أن يتردد أكثر من ذلك استعاد جريه بقفزات مرنة واسعة غير متساوية ولكن ثابتة.
صرخ نيكولا بصوت مختلف: «هارلو!»
واندفع بأقصى سرعة على المنحدر يحمله حصانه الجبار قافزا به فوق الأغوار والمناقع ليقطع السبيل على الذئب. أما الكلاب فقد سبقته بسرعة أكبر وراء الطريدة. لم يعد نيكولا يشعر بنفسه وهو يصرخ، أو يرى القفزات الخطيرة التي كان يقوم بها، ولا الكلاب التي تجري مندفعة أمامه، ولا الأرض التي يطير فوقها. لم يكن يرى إلا الذئب الذي ازدادت سرعته على طول المنحدر دون أن يبدل وجهته. ظهرت كلبته المرقشة «لطيفة» ذات المؤخرة العريضة إلى جوار الوحش، بل إنها لحقت به عندما اختلس الذئب نظرة إليها، وحينئذ بدلا من أن تتقدمه «لطيفة» كما كانت تعمل عادة، اعتمدت على قائمتيها الأماميتين منتصبة الذنب وتسمرت في مكانها. صرخ نيكولا: «هارلو!»
اندفع الكلب الأشقر «مختار» الذي انبعث فجأة وراء «لطيفة» وأطبق على فخذي الذئب الخلفيتين، لكنه ألقى بنفسه جانبا وهو فريسة للهلع. سقط الذئب وصر على أسنانه، ثم نهض وعاد إلى العدو تتبعه الكلاب على بعد نصف متر دون أن تجرؤ على اللحاق به.
حدث نيكولا نفسه وهو يتابع صراخاته بصوته الأجش: «سوف يفلت مني! ولكن لا مستحيل!» زمجر وهو يبحث بعينيه عن كلبه العجوز أمله الوحيد: «مدمر! هارلو!»
رأى الكلب العجوز يركض بتثاقل مستعينا بكل قواه الهرمة متوفز الجسد منبسطه، شاخص العينين إلى الحيوان، يحاول أن يقطع عليه سبيل الفرار، لكن مرونة الذئب وبطء الكلب النسبي يظهران بوضوح أن خطط هذا الأخير لن تكون ناجحة. أخذ نيكولا يرى بأم عينه الغابة تقترب من الذئب الذي يهرع إليها ليختفي بين أدغالها، وكاد اليأس أن يتسرب إلى نفسه عندما شاهد فجأة صيادا آخر وكلابه يندفعون نحوه منجدين، وحينئذ تجدد أمله. اندفع كلب فتي أسمر أصهب متطاول الجسد - يجهله نيكولا - وألقى بنفسه باستماتة على الذئب فكاد أن يصرعه، لكن الوحش نهض بأسرع مما كان متوقعا، وارتمى على الكلب وهو يصك بأنيابه، فارتفع عواء الحيوان المسكين؛ عواء مخيف مؤلم، وسقط الكلب ممزق الكشح دامي الجسد على الأرض ورأسه تحته.
زمجر نيكولا بغضب: «مدمر! هيا يا صديقي!»
استطاع الكلب العجوز بفضل تلك الحادثة أن يسبق الذئب بخمس خطوات جاريا وكتل الوبر تتدلى على فخذيه. كان الآن يقطع الطريق على الذئب تماما. شعر الحيوان بالخطر، نظر إلى «مدمر» نظرة شاملة، وضم ذيله بين ساقيه وأسرع في عدوه، لكن «مدمر» أطبق على خصمه بمثل لمح البصر، وتدحرج معه رأسا على عقب في حفرة كانت أمامهما.
لم يفهم نيكولا بادئ الأمر ماذا وقع لكلبه مدمر، لكنه أحس بإحدى فرحات العمر الكبيرة عندما رأى الكلاب تتجاذب فروة الذئب السمراء في أعماق الحفرة، ورأى إحدى قوائمه الخلفية متصلبة، ورأسه ذا الأذنين المائلتين تبدو عليه آيات الذهول والهلع. وأخيرا، الكلب العجوز مدمر مطبقا على حنجرته . أمسك قربوس سرجه محاولا الترجل للإجهاز على الحيوان عندما برز رأس الحيوان خلال جمع الكلاب، وراحت قائمتاه الأماميتان تحاولان تسلق الحفرة، وقفز الذئب الذي تخلص من فكي مدمر إلى خارج الحفرة، وضم ذيله بين ساقيه وعدا متجاوزا مطارديه من جديد. خرج مدمر من الحفرة بصعوبة منثور الوبر، ولعله كان جريحا أو مرضوض الجسد. هتف نيكولا بيأس: «رباه! ماذا عملت لك حتى تعاقبني على هذا النحو؟»
في تلك اللحظة، وصل قائد كلاب العم مع كلابه مرخيا عنان جواده، وقطع الطريق على الذئب، ومن جديد أحيط بالحيوان.
أحاط نيكولا وقائد كلابه والعم وقائد كلابه كذلك بالدائرة التي يتوسطها الذئب ومن حوله الكلاب، وراحوا يصرخون معا «هارلو.» وكلما قعس الذئب على مؤخرته حاول نيكولا النزول، لكن الحيوان كان يشق طريقه بيأس نحو الغابة حيث السلام والخلاص.
خرج دانيلو منذ بدء المطاردة من مكان على حدود الغابة مستهديا بصرخات الصيادين، ولما رأى الكلب «مدمر» مطبقا بأنيابه على عنق الذئب أوقف حصانه معتقدا أن كل شيء قد انتهى، لكنه عندما رأى الصيادين في أمكنتهم على صهوات الجياد والذئب يتخلص من أعدائه، ويفر من مطاردتهم، أرخى لأدهمه العنان ليس باتجاه الحيوان، بل باتجاه الغابة على طريقة الكلب مدمر؛ ليقطع الطريق على الغار. وبفضل هذه المناورة البارعة، وصل هدبا باتجاه الذئب في الوقت الذي حاصرته فيه كلاب العم للمرة الثانية.
كان دانيلو يهدب بسكون وفي يسراه خنجر مجرد، بينما أخذت يمناه تسوط الأدهم الذي كان يجري بأقصى سرعة متوقعة. غابت حركاته عن عيني نيكولا فلم يشعر إلا بلهاث العقيم الثقيل عندما مر أمامه وسقطة جسد فجائية، وحينئذ رأى دانيلو مستلقيا بين الكلاب مطبقا على مؤخرة الذئب يحاول الإمساك بأذنيه، وحينئذ فقط أدرك الصيادون والكلاب والذئب نفسه أن كل شيء قد انتهى هذه المرة. حاول الحيوان لآخر مرة في غمرة رعبه وهوله أن يتخلص لينجو بنفسه، بيد أن الكلاب غمرته. نهض دانيلو وتقدم خطوة بتعثر، وكما يلقي المرء بنفسه على سريره، انهار بكل ثقله على الحيوان وأمسك بأذنيه . هم نيكولا أن يطعنه بخنجره، غير أن دانيلو همس له قائلا: «لا فائدة، سوف نشده.» وأبدل من وقفته، ووطئ عنق الذئب بقدمه. غرزوا له عصا في حلقه، ثم أوثقوه بمقود على طريقة الأنشوطة بعد أن ربطوا قوائمه، وعندئذ أدار دانيلو مرتين أو ثلاثا من جانب إلى الآخر.
حمل الصيادون الذئب على الحصان الذي كان يتراجع بذعر إلى الخلف، ويشخر بخوف، ووجوههم المبتسمة الضاحكة تنطق بالتعب، ثم اتجهوا إلى مكان الاجتماع ترافقهم فصائل الكلاب التي كانت تنبح الذئب المتدلي. اقترب كل الصيادين، الفرسان منهم والمشاة، لرؤية الذئب الذي كان رأسه الضخم متدليا، ينهش بأنيابه العصا المغروسة في حلقه، ويحدق في الجموع والكلاب التي تحيط به بعينين كبيرتين زجاجيتين. فإذا ما لمسه بعضهم ارتعد جسده وحرك قوائمه الموثقة، وألقى على المعتدين نظرات ساذجة ومتوحشة معا. جاء الكونت إيليا آندريئيفيتش بنفسه ولمس الحيوان كذلك، ثم سأل دانيلو الذي كان واقفا بالقرب منه: «آه! آه! إنه ذئب ضخم بديع! إنه كبير، أليس كذلك؟»
فأجاب هذا وهو يبادر إلى نزع قبعته: «تماما يا صاحب السعادة.»
تذكر الكونت الخطيئة التي ارتكبها حين ترك الذئب يفلت منه، والموقف الذي وقفه دانيلو منه، فقال له: «أتدري يا عزيزي، إنك لست لبقا!»
فاكتفى دانيلو بالابتسام؛ ابتسامة مرتبكة تحمل طيبة الأطفال، وكانت تلك الابتسامة وحدها هي الجواب.
الفصل السادس
الخصم إيلاجين
عاد الكونت العجوز إلى المنزل بعد أن وعده بيتيا وناتاشا بموافاته بعد قليل، واستمر الصيد لأن الوقت ما زال مبكرا. وحوالي الظهر، أطلق الصيادون الكلاب العداءة في الوادي الذي تغطيه أدغال وأعشاب نامية كثيفة، وقبع نيكولا بين سوق الحنطة المحصودة يراقب رجاله كلهم.
اختفى قائد كلابه في حفرة واقعة وسط بقعة من القمح الجديد، كائنه قبع مكانه، وراء باقة كثيفة من شجر البندق. لم يمض زمن طويل على انطلاق الكلاب حتى تناهى إلى سمع نيكولا صوت نباح أحدها المتقطع، فعرف فيه كلبه «فانفاران»، وانضمت كلاب أخرى إليه، بعضهم صامت والبعض الآخر يزمجر أو يعوي ، وبعد هنيهة علا صوت من الغابة ينبه إلى اكتشاف ثعلب، فتوقفت الفصائل كلها، ثم اندفعت معا في الأرض العراء مبتعدة عن نيكولا باتجاه القمح الأخضر.
شاهد نيكولا قواد الكلاب بقلنسواتهم الحمراء يطاردون على صهوات جيادهم فوق حافة الوادي، وتبين الكلاب كذلك، فانتظر أن يظهر الثعلب في أية لحظة من الجانب الآخر من حقل القمح.
شرع قائد الكلاب المختفي بالمسير وفرق كلابه، وحينئذ شاهد نيكولا ثعلبا عجيب المظهر بلون ناري محجل القوائم، مشرع الذنب، يجري بسرعة بين الحنطة الخضراء. كادت الكلاب أن تصل إليه، وعندئذ راح يرسم دوائر آخذة في الضيق وهو يكنس الأرض بذنبه الكث، وفجأة ارتمى عليه كلبان، أبيض مجهول الهوية وآخر أسود، ثم اختلط كل شيء، ورسم الكلاب نجمة حول الحيوان الذي ظل جامدا تقريبا يواجه خصومه، ووصل قائدان أحدهما ذو قلنسوة حمراء، والآخر مجهول بجلباب أخضر، يحسان فرسيهما.
تساءل نيكولا: «ما معنى هذا؟ من أين جاء هذا المجهول؟ إنه ليس قائد كلاب العم.»
قضيا على الثعلب ولبثا فترة طويلة في مكانهما دون أن يوثقاه، أو أن يعتليا ظهري جواديهما اللذين كان سرجاهما ذوا القربوسين العاليين ظاهرين خلال الدغل. كانت الكلاب راقدة حولهما. أما الرجلان فكانا يلوحان بأيديهما وكأنهما يتنافسان على الطريدة، دوى قرع طبل، وهي إشارة مصطلح عليها تدل على وقوع عراك، قال قائد كلاب نيكولا: «إنه قائد كلاب آل إيلاجين يتشاجر مع إيفاننا.»
أرسل نيكولا مكلبه يستقدم ناتاشا وبيتيا، واتجه متمهلا نحو المكان الذي فيه الخدم يجمعون الكلاب. بلغ بعضهم مكان المشاجرة.
ترجل ليتعرف إلى واقع الخلاف، وتوقف قرب الكلاب مع ناتاشا وبيتيا اللذين وصلا بدورهما. وجاء المكاتب الذي كان طرفا في النزاع ممتطيا صهوة جواده، معلقا الثعلب إلى السرج، قاصدا سيده الشاب. رفع عن بعد قلنسوته وجهد في اتخاذ لهجة محترمة، لكنه كان يغص بالغضب ويختنق، ووجهه شاحب ثائر، وكانت إحدى عينيه متورمة، لكنه لم يكن ملقيا بالا إليها. سأله نيكولا: «ماذا وقع بينكما؟» - «وكيف؟! هل سيسرقون الآن الطرائد منا؟ لم يكن ينقصنا إلا هذا ! ثم إنها الكلبة الرمادية بلون الفأر التي أمسكت به، ولكن لا مجال لإفهامه ذلك. أراد أن يتملك الثعلب، لكنني، أنا، انتزعت الحيوان ولكمته على خياشيمه. ها هو ذا معلق إلى سرج جوادي.»
ثم أضاف وهو يلوح بسكين الصيد الذي في يده، ولعله كان يعتقد أن خصمه لا يزال أمامه: «إذا كان ما فعلته بك لا يكفيك يا فتاي؛ فسيكون سكيني هذا في خدمتك.»
لم يجبه نيكولا، بل طلب إلى أخويه أن ينتظراه، وقصد إلى المكان الذي توقفت فيه جماعة صيد الخصم إيلاجين.
اندمج قائد كلابه المنتصر في غمار زملائه وراح يقص عليهم ما عمل مدفوعا بفضولهم المشجع وعطفهم الواضح.
هذا ما وقع: كان آل إيلاجين متخاصمين مع آل روستوف خصومة قضائية، وكان هذا يصطاد في أراض كان أولئك يعتبرونها من أملاكهم بحكم تصرفهم فيها زمنا طويلا. وفي ذلك اليوم بالذات، وكأنه أمر مقصود، اقترب إيلاجين من غابة آل روستوف، وسمح لقائد كلابه أن يتتبع صيدا اكتشفه كلاب خصمه.
كان نيكولا - وهو المتطرف في آرائه تطرفه في عواطفه - يكره إيلاجين كرها شديدا دون أن يراه، ويعتبره عدوا يستحق الموت. كان يحكم على ذلك السيد بحسب الشائعات التي تتناقلها الألسن حول أخلاقه واندفاعاته؛ تلك الشائعات التي لا تستند إلى أساس متين. مشى إليه وهو فريسة غضب عنيف ويده قابضة بعنف على سوطه، وفي نفسه عزم أكيد على اتخاذ أخطر الخطوات، وأشدها حزما حيال ذلك الخصم.
لم يبلغ حدود الغابة حتى رأى سيدا ضخما مقبلا نحوه على صهوة جواد رائع أسود يرافقه تابعان.
وبدلا من العدو الذي كان ينتظر، رأى نيكولا في شخص إيلاجين رجلا دمثا ذا وقار ومهابة، وتصرفات محمودة لبقة، يود من صميم قلبه أن يتعرف على الكونت الشاب، ما إن تقابلا حتى رفع القادم قبعته الوحيدة الحافة وأعلن أسفه الشديد لما حدث، قال: «إن الخادم المذنب قد لقي عقابه، وأنه ينتظر أن يرتبط بعلاقات طيبة مع الكونت الشاب، ويسمح له منذ الآن أن يصطاد في أراضيه.»
تبعت ناتاشا أخاها عن قرب خشية أن يتصرف تصرفا سيئا، وهي شديدة الاضطراب، فلما اطمأنت عند سماع عبارات التودد والإيناس التي تبادلها العدوان اقتربت منهما، رفع إيلاجين قبعته عاليا لدى اقترابها، وقال مؤكدا بأن الكونتيس ليست إلا صورة حية لديانا بحبها للصيد، كما بجمالها وبهائها الذي بلغ نبؤه إلى مسامعه.
ولكي يذهب إيلاجين بخطيئة قائد كلابه، رجا الكونت الشاب بإلحاح أن يرافقه إلى التلال الواقعة على بعد ربع ميل؛ حيث يحتفظ لنفسه بصيد سمين، وحيث الأرانب البرية متوفرة بكثرة - على حد قوله - وافق نيكولا على عرضه وعاد الصيد من جديد مزدوجا حماسيا.
كان على الصيادين أن يجتازوا الحقول للوصول إلى التلال، تفرق القادمون وراحوا يمشون معا، راح العم وروستوف وإيلاجين يفحصون خفية كلاب بعضهم بعضا، ويرتعدون لفكرة اكتشاف منافسين أكفاء لكلابهم.
لاحظ روستوف بين كلاب إيلاجين كلبة حمراء مرقشة أصيلة صغيرة الحجم، رقيقة الجسد، ولكن ذات عضلات فولاذية ولا شك، تبرز عيناها فوق بوزها الأملس الرقيق. ولما كان قد سمع الإطراءات الكثيرة التي يكيلها الناس لكلاب جاره الخصم، فقد وجد في تلك الكلبة الأصيلة المتينة خصما محترما لكلبته «لطيفة».
قال نيكولا لجاره خلال حديث هام جدي حول المحاصيل، أثاره هذا وهو يشير بطلاقة إلى الكلبة الحمراء المرقشة. - «إن لديك هنا كلبة رائعة، هل هي عنيفة؟»
أجاب إيلاجين بمثل لهجته: «هذه؟ نعم، إنها حيوان جيد وهي تصطاد صيدا حسنا.»
وكان إيلاجين هذا قد تنازل لأحد جيرانه في العام الماضي عن ثلاث أسر من الوعول الأليفة لقاء هذه الكلبة. استرسل مستأنفا حديثه الأول: «إذن يا كونت، إن محصول الحبوب عندكم لا يستوجب الإعجاب!»
ورغبة منه في مجاراة جاره الشاب، أشار إلى كلبته «لطيفة» التي استوقفت أبصاره بجمال شكلها، وقال: «إن لديك هنا حيوانا بديعا، إنها تبدو لي على خير ما يرام.»
أجاب نيكولا: «نعم، إنها لا بأس بها.» بينما فكر في سره مبتهلا: «آه! لو أن السيد أرنب تنازل في هذه اللحظة بعبور هذا الحقل لأريتك أية كلبة هي هذه.» ثم التفت إلى قائد كلابه وقال له إنه يمنح مكافأة قدرها روبل لكل من يكتشف أرنبا خارج حجاره. استأنف إيلاجين قائلا: «لست أفهم كيف يستطيع الصياد أن ينازع صيادا آخر طريدته أو كلابه ويحسده عليها. أما أنا يا كونت فإنني أؤكد لك أن ما أحبه في الصيد إنما هو النزهة؛ نزهة مع مثل هذا الصحب الكريم - وعاد يرفع قبعته احتراما لناتاشا - ماذا يمكن للمرء أن يحلم به خيرا من هذا الصحب؟ أما تعداد الجلود التي يحصل عليها آخر النهار، فإنني أسخر من هذا.» - «طبعا، طبعا!» - «هل أعتبر إهانة أن يمسك كلب الجار بالطريدة بدلا من كلبي؟ كلا، المهم في الأمر هو أن أتمتع بمشهد الصيد. أما ما تبقى فلا يهمني في كثير أو قليل. ألست على صواب يا كونت في نظري؟»
وفي تلك اللحظة، ارتفع صوت أحد الخدم المكلفين بالكلاب السلوقية، وكان واقفا فوق تل صغير في وسط سوق القمح المحصود والسوط مرفوع في يده: «فيلو! في... ي... لو!»
تكرر هذا النداء المتقطع فكان إيذانا باكتشاف أرنب. أما الصوت فكان يدل على مكان وجوده.
قال إيلاجين متصنعا اللامبالاة: «يظن أنه عثر على واحد، هيا يا كونت هل نطرده؟»
فأجاب نيكولا وهو يلقي نظرة على كلبته المسماة «تريبيدانت» وعلى كلب العم الأصهب «تاباجور» اللذين كانا خصمين مخيفين لم يوازنهما قط مع كلابه من قبل: «نعم، نعم. ولكن ماذا؟ معا!»
فكر في نفسه وهو يتجه نحو الأرنب بصحبة عمه وإيلاجين: «ماذا لو تفوقا على لطيفة؟» سأل إيلاجين الخادم عندما حاذاه: «أهو أرنب كبير؟»
ثم التفت في قلق وصفر ينادي تريبيدانت وأردف يخاطب العم: «حسنا يا ميخائيل نيكانوريتش، هل ترافقنا؟»
قال العم وهو يواكبه مكفهر الوجه: «ما الفائدة؟ إن كلابك - إنه واضح، إلى الأمام سر! - تساوي جبلا من النقود؛ إنها حيوانات يساوي كل منها ألف روبل. صفها وأنا سأكتفي بالنظر.»
ثم نادى كلبه بصوت جعل مبلغ محبته له واضحا في نبراته، معبرا عن أمله الذي يضعه فيه. - «يا تاباجور! أيها الجميل، أيها المدلل!»
حدست ناتاشا على الفور الشعور السائد بين الصيادين الثلاثة، فشاركت أخاها والعجوزين اضطرابهما المكتوم.
أما المكلب فقد ظل واقفا في مكانه على الأكمة والسوط في يده، بينما اقترب السادة على صهوات جيادهم متمهلين، وكانت الكلاب المنتشرة حتى الأفق مبتعدة كل الابتعاد عن مكان الأرنب، وقوادها متفرقون مبعثرون، لكنهم ما عتموا أن انتظموا واجتمعوا في نظام رائع.
سأل نيكولا عندما بلغ مسافة مائة متر من مكان الكشاف: «أين اتجاه رأسه؟»
لم يجد هذا متسعا من الوقت للإجابة عليه، ذلك أن الأرنب الذي كان يتحسس الجمد الذي سيتراكم في الغد، قفز فجأة خارج وكره. انحدر الكلبان العداءان فوق المنحدر مندفعين كالسهم، وتبعتهما من كل الجهات الكلاب السلوقية التي لم تكن مربوطة إلى مقاودها، ولم تلبث الجماعة التي كانت متمهلة حتى تلك اللحظة أن اندفعت إلى المعركة، وأخذ قواد الكلاب العداءة يكبحون جماحها بأوامرهم الداعية إلى الوقوف، بينما أطلق الخدم المعنيون بالكلاب السلوقية كلابهم وهم يهيبون بها صائحين: «تايوت!» بدلا من «هالت» (أي قف). أخذ إيلاجين الهادئ ونيكولا والعم يهدبون خيولهم دون وعي غير عابئين إلا بالكلاب والأرنب، خائفين أن يفوتهم ذلك المشهد الطريف. كان الأرنب كبير الجثة ثمينا. لم يبادر إلى الفرار حال خروجه من وكره، بل جمع أذنيه وأصغى إلى الصيحات ووقع الأقدام والحوافر التي كانت ترتفع من كل مكان. قفز بضع قفزات غير سريعة تاركا الكلاب تقترب منه، ثم انتقى الوجهة التي سيقصدها، وتأكد من الخطر الداهم، فأسبل أذنيه وفر بكل قواه. وكان عند حافة الأرض المغطاة بسوق الحنطة المحصودة؛ حيث كان يرقد، رقعة كبيرة من الأرض يغطيها القمح الأخضر والمستنقعات. تبع كلبا الصياد - الذي عثر على الطريدة - الأرنب قبل سواهما، لكنهما كانا على مسافة بعيدة منه عندما تخطتهما تريبيدانت، الكلبة الحمراء المرقشة التي يملكها إيلاجين، وباتت لا يفصلها عن الأرنب إلا طول كلب واحد، وعندئذ قفزت قفزة هائلة مستهدفة ذيل الحيوان، لكنها أخطأته فتدحرجت على الأرض. رفع الأرنب فقاره وضاعف سرعته، وكانت «لطيفة» القوية قد وصلت في تلك اللحظة وتساوت سرعتها مع سرعة الحيوان النافر ، فصاح نيكولا بصوت منتصر: «لطيفة ، يا جميلتي!»
كادت لطيفة أن تبلغ الأرنب وتمسك به، لكنها تجاوزته بسرعة اندفاعها فلم تستطع التوقف في الوقت المناسب، وهكذا أفلت الأرنب منها، عادت تريبيدانت من جديد تتعلق بالطريدة، بل إنها تعلقت فعلا بذيلها، وكأنها تتوقع أن تطبق على فترتين متعاقبتين عليه وتصرعه. صرخ إيلاجين بصوت تخنقه العبرات ولهجة متوسلة: «تريبيدانت يا جميلتي!» لكن تريبيدانت لم تبال بتوسلات سيدها، ذلك أنه في اللحظة التي ترقب الصيادون فيها رؤيتها ممسكة بالحيوان، زاغ هذا منها بانعطافة مفاجئة وراح يجري على طول الأخدود الذي يفرق بين القمح الأخضر والسوق المحصودة. راحت تريبيدانت ولطيفة - أشبه بحصانين مشدودين إلى عريش واحد - يجريان جنبا إلى جنب وراء الأرنب، لكن هذا كان في مكان يناسبه فعجزت الكلبتان عن اللحاق به.
وهنا علا صوت جديد صائحا: «تاباجور، أيها المدلل! إنه واضح، إلى الأمام سر!»
وظهر كلب العم الأشقر الأحدب مندفعا وكأنه يهم بالخروج من جلده حتى لحق بالكلبتين، ثم تجاوزهما وأطبق بتفان عجيب على الأرنب نفسه، مرغما إياه على الخروج عن اتجاهه الأول، وتبعه بعد ذلك بحمية متزايدة وضراوة وهو يغيب في الأرض الموحلة حتى بطنه. شوهد بعد ذلك يتعثر ويتدحرج مع الأرنب في الطين اللزج. وحينئذ انتظم الكلب حولهما على شكل نجمة، ولم يلبث الصيادون أن بلغوا مكان الطريدة. ترجل العم يستخفه الفرح فحرم الأرنب، وبينما هو يهزه ليسيل منه الدم ثلم عينيه، ثم راح ينظر حوله في قلق وهو في حيرة من أمره لا يدري ماذا يعمل بأطراف الحيوان ووفرة الكلاب. أخذ يدمدم بكلمات متلاحقة غير واضحة: «آه! إنه واضح. سر! يا له من كلب! لقد تفوق عليهم جميعا، على الأصيل وعلى الكديش معا! إنه واضح، إلى الأمام سر!» كان يغص بالانفعال ويدير حوله عينين وحشيتين، ويطلق كلماته أشبه بالسباب حتى ليقال إن الآخرين كانوا جميعا أعداء له، وإنهم أهانوه مجتمعين فأتيحت له الفرصة ليثأر منهم. «إن كلابك جميلة، تلك التي يساوي كل منها ألف روبل! إنه واضح، إلى الأمام سر !»
نادى كلبه وهو يلقي إليه بإحدى أرجل الأرنب الملطخة بالطين: «إلى الطعام يا تاباجور! إنك تستحقه عن جدارة. إنه واضح، إلى الأمام سر!»
وقال نيكولا الذي كان هو الآخر لا يصغي إلى أحد، ولا يهمه أأنصت إليه أحد أو لم ينصت: «إنها على آخر رمق؛ لقد قامت بثلاث مطاردات.»
ومن جانبه قال تابع إيلاجين: «لقد أمسكت به خلافا لما ينبغي. يا للمسألة الجميلة!»
بينما كان إيلاجين نفسه، الذي بهرت أنفاسه المطاردة وصير الاضطراب وجهه قرمزيا، يقول بنفس الوقت: «طالما أخطأته، فإن أي كلب يأتي بعدها يستطيع أن يجعل منه كسبا هينا.»
كانت ناتاشا خلال تلك الفترة تطلق صرخات ثاقبة أشبه بالنباح، تكاد تصم الآذان. تلك كانت طريقها للإفصاح عما كان يلهج به الآخرون معا، وكانت تلك الصرخات من الغرابة بمكان حتى إنها لو استمعت إليها أو أطلقت مثلها في غير تلك المناسبة، لما صدق السامعون آذانهم، ولذابت هي من الخجل.
علق العم بنفسه الأرنب إلى سرج جواده بحركات حاذقة عنيفة، وألقاه بشكل مشبع بالتحدي على ردف الحصان، ثم امتطى جواده الأشعل وابتعد وكأنه يأنف التحدث مع الآخرين. أما هؤلاء فقد تفرقوا مكتئبين وفي كرامة كل منهم وخزة، وظلوا فترة طويلة قبل أن يستعيدوا مرحهم، أو - على الأقل - قبل أن يستطيعوا التظاهر باللامبالاة. لبثوا وقتا طويلا يتابعون بأبصارهم تاباجور الأصهب الذي كان ملطخ الظهر بالطين يرنن مقوده متظاهرا بهدوء المنتصر يواكب حصان سيده. خيل إلى نيكولا أن في مظهر الكلب ما معناه: «هه، صحيح إن مظهري لا يدل على شيء، ولكن عندما يكون الأمر متعلقا بالصيد. أما في غير ذلك فحذار.»
ولما اقترب العم من نيكولا بعد فترة طويلة ووجه إليه الحديث، شعر نيكولا بتيه وفخار؛ لأن العم تنازل وتقرب منه بعد كل الذي حصل.
الفصل السابع
دعوة لطيفة
عندما استأذن إيلاجين من نيكولا عند المساء، وجد هذا نفسه بعيدا جدا عن مسكنه حتى إنه تقبل عرض العم القاضي بترك الخدم والكلاب يعودون وحدهم إلى المنزل، بينما يقضي هو وأخته وأخوه الليل في ميخائيلوفكا، وهو اسم المزرعة الصغيرة التي يملكها العم. - «حتى ولو جئتم جميعا عندي. إنه واضح، إلى الأمام سر! فإن ذلك سيكون أفضل. انظر، إن الوقت رطب، وسوف تستريحون ونعيد بعد ذلك الآنسة بالزحافة.»
قبل العرض وأرسل خادم إلى أوترادنواي للإتيان بزحافة، بينما رافق نيكولا وناتاشا وبيتيا العم إلى مسكنه.
هرع خمسة أو ستة من الخدم الذكور بين كبار وصغار إلى باب المدخل الكبير لاستقبال السيد، واجتمعت عشرات من النسوة بين هرمات فانيات وشابات وأطفال عند باب الخدم للتفرج على الضيوف، وقد أثار وجود ناتاشا، بوصفها امرأة وسيدة رفيعة الشأن، ممتطية جوادا فضولهن لدرجة كبيرة، حتى إنهن اقتربن منها دون رهبة، ورحن يتصفحن وجهها ويتبادلن الملاحظات وكأن الأمر متعلق بمنظر نادر في معرض، لا يستطيع أن يفهم أو يسمع ما يقلن عنه: «آربنكا. انظري، إنها تجثم فوق برميل! وتنورتها التي تنسدل ...! وبوفها كذلك ...!» - «آه، رباه! إن معها سكينا!»
وسألت إحداهن ناتاشا وقد استجمعت شجاعتها فكانت أشجع كل زميلاتها: «وكيف لم تسقطي عن ظهر الجواد؟»
ترجل العم أمام مرقاة بيته الصغير الخشبي الغارق وسط الخضرة، ثم سرح طرفه في خدمه وصرخ فيهما آمرا من كان منهم لا يقتضي الموقف وجوده بالانصراف، وأن يعملوا لاستقبال الضيوف في البيت وصيدهم ورجالهم.
هرعوا جميعا يركضون في كل اتجاه، بينما ساعد العم ناتاشا على النزول، وقدم لها ذراعه لترتقي درجات المرقاة الخشبية المتهززة. كان البيت ذو الجدران الخشبية السميكة غير المدهونة لا يعطي فكرة عن العناية. ولعل سكانه لم يراعوا إخفاء اللطخات المنتشرة فوق الأخشاب جريا مع الإهمال والترك السائدين في أرجائه. انبعثت من الدهليز رائحة تفاح ناضج، وشوهدت جلود الذئاب والثعالب معلقة على جدرانه.
قاد العم ضيوفه من الردهة إلى غرفة صغيرة مؤثثة قابلة للثني وكراس من خشب الكابلي، ومنها إلى بهو تجثم في وسطه مائدة مستديرة من خشب السرو، وبقربها أريكة. وأخيرا إلى غرفة مكتبه حيث شاهد الضيوف فيها أريكة بالية، وسجادة خلقة. أما على الجدار فكانت صورة سوفوروف معلقة إلى جانب صورة أبوي صاحب البيت، ثم صورته نفسه وهو في ثوب عسكري. كانت رائحة عنيفة، رائحة التبغ والكلاب، تملأ الغرفة التي ترك فيها العم ضيوفه راجيا منهم أن يتصرفوا كما لو كانوا في مسكنهم الخاص. ظهر تاباجور بدوره وظهره لا زال ملطخا بالوحل، وراح إلى الأريكة فجلس عليها، وشرع يعمل لسانه وأسنانه في زينه جدية لنفسه، فكانت غرفة المكتب تطل على ممشى يشاهد فيه حاجز من قماش ممزق، ومن وراء ذلك الحاجز ارتفعت ضحكات، وهمسات نسائية. اتخذ نيكولا وناتاشا وبيتيا التدابير الممكنة لراحتهم، فجلسوا على الأريكة. نام بيتيا على الفور بعد أن اتخذ ذراعه وسادة اتكأ عليها برأسه، بينما ظل نيكولا وأخته صامتين. كان وجه كل منهما ملتهبا، ومعدته خاوية، كما كانا جذلين مسرورين يتبادلان النظر. لم يعد هم نيكولا بعد أن انتهى الصيد أن يحافظ أمام أخته على تفوقه كرجل وامتيازه. وهكذا ما كادت تغمز له بعينيها حتى انفجرا ضاحكين ضحكة مجلجلة غريزية.
لم يلبث العم أن عاد مرتديا عباءة وسراويل زرقاء وأحذية قصيرة، فلاحظت ناتاشا أن ذلك الثوب الذي ليس فيه ما يضحك أكثر مما في «الرودنجوت» أو غيره. كان العم كذلك مسرورا منبسط الأسارير، ولما كان لا يرتاب في أن يكون طراز حياته باعثا على الضحك؛ فإن انشراح الأخوين لم يسئ إليه، بل على العكس دعاه إلى الاشتراك معهما فيه.
قال وهو يقدم لروستوف غليونا طويلا بينما راحت أصابعه تداعب بحركة أليفة غليونا قصيرا استبقاه لنفسه: «انظر إذن إلى الكونتيس الشابة. إنه واضح، إلى الأمام سر. لن يجد المرء مثيلا لها. إن قضاء يوم كامل على صهوة الجواد لا يكاد يحتمله الرجل. أما هي فلا يظهر عليها شيء من الإعياء.»
لم تمض فترة طويلة على عودة العم إلى الغرفة حتى شوهدت خادم، إذا حكم على خطاها غير المسموعة قدر أنها حافية القدمين، تحمل طبقا محملا، كانت جميلة قوية في الأربعين من عمرها، نضرة الوجنتين، ذات ذقن مزدوجة، وشفتين ممتلئتين. شملت المدعوين بنظرة وانحنت تحييهم باحترام بابتسامة أنيسة، فكانت أمارات وجهها وكل حركة من حركاتها مطبوعة بالأنس واللطف واللباقة. وعلى الرغم من أن ضخامة جسمها كانت ترغمها على إبراز صدرها ورفع رأسها إلى الوراء، فإن تلك المرأة التي كانت مدبرة شئون العم كانت رشيقة الحركات. وضعت الطبق على المائدة وراحت بيديها البضتين السمينتين ترفع عنه الزجاجات والصحاف التي كان محملا بها، فلما انتهت من عملها تنحت ووقفت على عتبة الباب وعلى شفتيها ابتسامة خيل لروستوف أنها تقول: «ها أنا ذا! هل تفهم عمك الآن؟» والواقع أنه بدأ يفهم العم، بل إن ناتاشا نفسها حزرت معنى الحاجبين المقطبين والابتسامة السعيدة الراضية التي ثنت شفتي العم، عندما دخلت أنيسيا فيدوروفنا. كان الطعام الخفيف الذي أتت به يحتوي على كحول وبصل مشطور، وكعك من القمح الأسود بالحليب، وعسل بشهده، ثم عسل ممزوج بالزبد، وتفاح، وثمار الجوز الطازجة مشوية، ومربى الجوز، إلى جانب العرق بالأعشاب. أضافت المدبرة إلى ذلك أنواعا من المربى المعقود بالعسل أو السكر، ولحم خنزير، ودجاجة مطهية سحبت للتو من الفرن.
كان كل هذا ثمار عناية أنيسيا فيدوروفنا. كل هذا يحمل رائحة أنيسيا فيدوروفنا، ويتسم بطابعها، كان كل هذا ينطق بدقتها ونظافتها ونصعها وابتسامتها المستحبة.
قالت وهي تقدم لناتاشا صحفة إثر أخرى: «كلي بشهية يا آنستي الكونتيس الصغيرة.»
تذوقت ناتاشا كل الأطعمة، وخيل إليها أنها لم تر من قبل قط ولم تأكل أبدا أفضل من لحم هذا الدجاج، وأطيب من هذا الكعك، وألذ من تلك الأنواع المعطرة من المربى والجوز المعقود.
خرجت أنيسيا فيدوروفنا، فراح العم ونيكولا يشربان كحول الكرم مع الطعام، ويتحدثان عن صيد ذلك النهار، وعما يتوقع لكلبه تاباجور ولكلاب إيلاجين. أما ناتاشا فكانت تصغي إليهما وهي منتصبة في جلستها على الأريكة وفي عينيها لهيب مشتعل. همت مرارا أن توقظ بيتيا لتطعمه شيئا، لكن هذا كان يغمغم في نومه بكلمات غير مفهومة ويستغرق في سباته. شعرت ناتاشا بسعادة غامرة في ذلك البيت الجديد عليها، حتى إنها باتت تخشى سرعة وصول العربة التي ستحملها إلى البيت. وبعد فترة صمت غير منتظرة كتلك التي تحدث دائما للأشخاص الذين يستقبلون الأصدقاء للمرة الأولى، قال العم وكأنه يجيب على أفكار ضيوفه الشخصية: «نعم، ها إنني أنهي وجودي ... وعندما يموت المرء - إنه واضح إلى الأمام سر! - لا يبقى شيء ... وإذن، ما فائدة الحرمان؟»
كان وجه العم وهو يتحدث على هذا النحو معبرا، بل ومتسما ببعض الجمال، تذكر روستوف المديح الذي يكيله أبوه والآخرون لهذا العم، والذي يعتبر استنادا إليه أفضل وأنبل السادة وأكثرهم كرما. كانوا يستدعونه لتحكيمه في المشاكل العائلية، وينتخبونه منفذا لوصايا الموتى، ويأتمنونه على الأسرار. ولقد عين مرة قاضيا، ثم عين في وظائف أخرى، لكنه كان أبدا يرفض بعناد الأعمال العامة، ويمضي الربيع والخريف متنقلا في الريف على صهوة أدهمه العقيم، ويقضي الشتاء قرب النار، والصيف في ظلال أشجاره الباسقة. - «لم لا تقبل وظيفة يا عماه؟» - «لقد شغلت وظيفة، لكنني سرعان ما تخليت عنها. إن هذا اللون من المهن لا يلائمني. إنه واضح، إلى الأمام سر. إنها وظائف تستهوي الآخرين، أما أنا فلا. آه! الصيد مسألة أخرى مختلفة كل الاختلاف. إنني في الصيد أشعر بأنني أعيش مع نفسي. إنه واضح، إلى الأمام سر!»
ثم صرخ: «افتحوا الباب، لماذا أغلقتموه؟»
كان الباب الذي في نهاية الممشى، والذي يسميه العم «منش» يؤدي إلى مسكن قواد الكلاب. هرعت أقدام عارية إلى ذلك الباب وفتحته يد غير منظورة، وحينئذ سمعت ألحان «البالالايكا» تؤديها يد خبيرة. خرجت ناتاشا إلى الممشى ليتسنى لها الإصغاء إلى تلك الموسيقى التي كانت منصتة إليها من قبل، فقال العم: «إنه ميتكا حوذي. لقد اشتريت له آلة ممتازة. إنني أحب ذلك.»
كان العم يحب إذا ما عاد من الصيد أن يصغي إلى ميتكا وهو يعزف قليلا من الموسيقى، فدخلت هذه التسلية في عداد أطباعه.
قال نيكولا بصوت منطلق وكأنه يخشى الإعراب عن متعته: «إنه جيد، في الحقيقة إنه جيد جدا.»
فقالت ناتاشا وقد نكدتها لهجة أخيها المصطنعة: «كيف، أهو جيد فحسب؟ بل إنه رائع. نعم!»
وكما أن البصل والعسل والكحول التي قدمها العم بدت لها أفضل ما في الوجود، كذلك وجدت في الأغنية اللطيفة أرفع فن موسيقي، فلما فرغ المغني من أغنيته هتفت: «أعد، أرجوك أعد!»
ضبط ميتكا آلته وعاد يعزف مقطوعة «بارينيا» (أي السيدة)؛ وهي أغنية شعبية عظيمة الشيوع في ذلك الحين، متصرفا فيها تصرفا بديعا. وكان العم يصغي وهو مائل الرأس وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة. أعيد عزف البالالايكا مرارا دون تعب ولا ملل، ودون أن يظهر على المستمعين شبح السآمة. دخلت أنيسيا فيدوروفنا وأسندت جسمها الثقيل إلى حافة الباب، وقالت لناتاشا وعلى شفتيها ابتسامة شبيهة بتلك التي تشرق على وجه سيدها: «أصغي يا آنسة. إنه يعزف عزفا جميلا، أليس كذلك؟» صرخ العم فجأة وهو يلوح بيده دلالة على نفاد الصبر: «آه! هذه قطعة سيئة العزف، كان يجب إظهارها أكثر من ذلك. نعم، إنه واضح، إلى الإمام سر! كان يجب إبرازها أكثر من ذلك.»
سألت ناتاشا: «هل تجيد العزف؟»
فابتسم العم دون أن يجيب ثم قال لأنيسيا: «اذهبي يا أنيسيا وتأكدي من تمام أوتار قيثارتي. لقد مضى وقت طويل لم أستعملها خلالها. إنه واضح، إلى الأمام سر».
مضت أنيسيا فيدوروفنا بخطواتها الخفيفة لتنفذ أمر سيدها.
لم يعبأ العم بأحد وهو ينفخ على آلاته ليزيل عنها الغبار، وبعدئذ قرع بأصابعه العظمية على صندوقها وشد بعض أوتارها، ثم جلس جلسة مريحة، أمسك القيثارة بحركة مسرحية تقريبا، وباعد مرفقه الأيسر عن جسمه، وغمز لأنيسيا بعينه. وبعد اختبار رائق مدو، شرع يعزف على إيقاع بطيء، وبيد ثابتة مدربة أغنية: «على طول الشارع، الشارع المعبد ...» وهي أغنية شهيرة شائعة جدا.
لم يلبث نيكولا وناتاشا أن استجابا لذلك اللحن الذي وجد صداه في نفسيهما، وخلف فيهما ذلك الجذل الوديع الذي نشرته شخصية أنيسيا فيدوروفنا. تضرج وجه هذه بالحمرة، فأخفت وجهها في شالها وخرجت من الغرفة ضاحكة. أما العم فقد استمر يعزف اللحن ببراعة، كان عزفه جميلا واضحا نشيطا، وكان يحدق في المكان الذي بارحته أنيسيا فيدوروفنا منذ حين بنظرة متبدلة، وتاهت ابتسامة غامضة على شاربيه الأشهبين، وأخذت تزداد اتساعا كلما أخذ اللحن في الإسراع، فظهرت عند المقاطع المختلفة أشبه بالابتسامة المنكرة النادمة.
وعندما فرغ من الأغنية قفزت ناتاشا من مكانها، وجرت إليه تقبله وقالت: «رائع، فتان يا عماه! أعد، أعد!»
والتفتت إلى نيكولا وكأنها تقول: «ولكن ماذا دهانا؟» وهتفت به: «نيكولا، يا نيكولاي الصغير!»
كان نيكولا مفتونا كذلك. كرر العم الأغنية فظهر وجه أنيسيا فيدوروفنا البسام ومن ورائه وجوه جديدة ظهرت عند المقطع:
انتظري، انتظري يا جميلتي.
ولنهرع معا إلى الجب
لنأتي بالماء المنعش.
وهنا أجرى العم تبديلا بارعا، وحطم قرارا، وعاد يضبط الإيقاع بحركة دائرية من كتفيه. قالت ناتاشا بصوت ضارع وكأن الأمر بالنسبة إليها أمر حياة أو موت: «عجل يا عماه، يا عزيزي عجل!»
نهض العم فبدا كأن فيه إنسانين؛ الأول: يبتسم بخطورة مستخفيا بجنون. الثاني: الذي شرع يتأهب للرقص بنغم بسيط بارع. هتف بها وهو يشير بيده محطما قرارا: «هل أنت مستعد؟ إلى الأمام يا ابنة أخي.»
ألقت ناتاشا بمنديلها، واندفعت قبالة العم ثم اتخذت وضعيتها بعد أن قامت بحركة دائرية من كتفيها، ووضعت قبضتيها فوق وركيها.
ولكن أين وكيف استطاعت هذه الكونتيس الصغيرة التي أنشأتها مهاجرة فرنسية أن تتشبع، بمجرد استنشاقها هواء البلاد، بالروح القومية إلى هذا الحد، فتقوم بإجراء الحركات البارعة التي تتفق مع رقصة الشال، رغم أنها لم تعد تظهر في هذه منذ زمن؟ ذلك أنها في مظهرها وحركاتها التي لا تجارى كانت مجبولة غريزيا بالطبع الروسي الصميم الذي كان العم يتوقعه فيها، وما إن اتخذت الوضع المناسب، وابتسمت ابتسامتها الماكرة المتغطرسة معا، حتى اطمأن نيكولا والمتفرجون الذين كانوا يتوقعون أن يظهر في حركات الفتاة هفوات مخجلة، وشرعوا يحيطونها بإعجابهم سلفا.
أدت رقصتها ببراعة حتى إن أنيسيا فيدوروفنا التي ناولتها على الفور المنديل الملائم للرقصة، أخذت تذرف دموع الفرح لرؤيتها تلك الكونتيس الشابة الرشيقة البديعة التي نشأت بين الحرير والمخمل، البعيدة كل البعد عن نفسها، تحتل مكانة في روحها هي أنيسيا، وتنفذ إلى أعماقها وأعماق أبيها وأمها وعمتها، وأي روسي يراها صدفة في تلك اللحظة.
ولما انتهت الرقصة قال العم ضاحكا: «حسنا أيتها الكونتيس الصغيرة. إنه واضح، إلى الأمام سر! مرحى يا ابنة أخي، لم يبق عليك الآن إلا انتقاء الفتى الجميل الذي سيكون زوجك. إنه واضح، إلى الأمام سر.»
قال نيكولا باسما: «لقد انتقت فتاها بالفعل.»
دهش العم وراح يسأل الفتاة بنظرة مستطلعة، فأومأت ناتاشا برأسها أن نعم، وهي سعيدة جدا، وقالت: «ويا له من زوج أيضا!»
لكنها لم تكد تنطق بهذه الكلمات حتى داهمتها موجة من الأفكار والعواطف: «ما معنى ابتسامة نيكولا عندما قال: «لقد انتقت فتاها بالفعل»؟ هل كان يوافق على هذا الزواج أم يشجبه؟ يخيل إلي أن أميري بولكونسكي لا يمكنه تفهم الحبور الذي يتلظى في نفوسنا في هذه اللحظة، ولكن بلى، إنه يستطيع فهمه. ولكن أين هو الآن؟ هيا لنكف الآن عن التفكير في هذه الأمور.» وعاد وجهها الذي اكتأب فترة إلى إشراقه. جلست قرب العم وسألته أن يعزف لها قطعة موسيقية جديدة.
عزف العم أغنية ثم رقصة فالس، ثم صمت وسعل وانطلق بصوته المدوي يغني أغنية الصيد المفضلة عنده:
عندما راح الثلج أمس
يتساقط فوق الضباب ...
كان العم يغني على طريقة أبناء الشعب مقتنعا بسذاجة أن الكلمات وحدها هي المهمة في اللحن، وأن النغم يبرز من تلقاء نفسه إذا أحسن الإيقاع، وعلى ذلك فقد كانت أغنيته البسيطة كشدو الطير على حظ قصي من الجمال، وانجذبت ناتاشا يهدهدها اللحن، وقررت ترك العود لترافق العم على القيثارة.
تجاوزت الساعة التاسعة عندما وصلت زحافة كبيرة وأخرى صغيرة يواكبها ثلاثة فرسان لحمل ناتاشا وبيتيا، قال القادمون: «إن الكونت والكونتيس شديدا القلق لجهلهما مكان أبنائهما.»
حملوا بيتيا دون أن يوقظوه وسجوه برفق في الزحافة الصغيرة، بينما ركب نيكولا وناتاشا في الثانية. دثر العم ناتاشا وودعها بحنان غير منتظر، ورافقهم حتى الجسر الذي يجب عليهم أن يدوروا حوله ليتسنى لهم المرور عبر المفازة، وهناك أمر خدمه أن يتقدموا الموكب حاملين المصابيح.
صاح في الظلام بصوت لم يكن مألوفا لديه، يشبه ذلك الذي غنى به «عندما راح الثلج أمس ...»: «وداعا يا ابنة أخي العزيزة.»
كانت أضواء حمراء تشع في القرية التي مر الموكب فيها، وامتزج الهواء برائحة دخان متصاعد، ولما بلغوا الطريق العمومية قالت ناتاشا: «يا له من رجل رائع هذا العم!»
قال نيكولا: «نعم، هل تشعرين بالبرد؟»
فأجابت وهي مدهوشة للانشراح الذي تحس به: «كلا، إنني على ما يرام، على خير ما يرام. آه! كم أشعر بالغبطة.»
أخلدا إلى الصمت فترة طويلة. كان الليل معتما رطيبا لا يرى الراكب الخيل، ولكنه يشعر بها وهي تخوض بالوحل غير المنظور.
ماذا كان يحدث في تلك الروح الصغيرة السهلة الانطباع بالعواطف على اختلاف أنواعها؟ كيف كانت كل هذه الأمور تنتظم في نفس ناتاشا؟ لقد كانت سعيدة على كل حال. ولما كادا أن يصلا إلى البيت جلجل صوتها مرددا أغنية: «عندما راح الثلج أمس ...» التي أمضت وقتا طويلا تبحث عن نغمها حتى ذكرته فجأة؛ إذ طاف بخيالها، قال نيكولا: «لقد وجدته أخيرا.»
سألت ناتاشا: «فيما كنت تفكر منذ حين يا نيكولا؟»
كان هذا السؤال هو الذي درج الإخوان على توجيهه لبعضهما في كل حين. أجاب نيكولا: «أنا؟ حسنا! إليك ما كنت أفكر فيه: كنت أفكر في أن تاباجور الكلب الأشقر يشبه العم، وكنت أقول لنفسي: إنه لو كان هو الإنسان، وكان العم هو الكلب؛ لاحتفظ به عنده لا لأجل الصيد، بل لمجرد التفاهم القائم بينهما. يا له من رجل تسهل الحياة معه هذا العم! أليس كذلك؟ وأنت، فيم كنت تفكرين؟» - «أنا؟ انتظر قليلا، فكرت أولا في أننا نتصور خطأ أننا في طريقنا إلى البيت، بينما نحن في الحقيقة نسير في اتجاه لا يعرفه إلا الله، في هذه الظلمات المدلهمة، وأننا لا نصل أخيرا إلى أوترادنواي، بل إلى بلاد الجان ... ثم ... ثم ... كلا، لم أفكر في شيء مطلقا.»
قال نيكولا: «بل إنك فكرت فيه، إنني واثق.»
أجابت ناتاشا رغم أنها فكرت جديا في الأمير، وتساءلت عما إذا كان العم سيروق في عينيه: «كلا، آه، نعم! إليك ما كنت أحدث نفسي به خلال الطريق: «كم إن موقف أنيسيا رائع!»»
تبين نيكولا من صوت أخته أنها تبتسم، ثم تبين في ذلك الظلام ضحكتها الفطرية الرنانة القوية، وفجأة استأنفت تقول: «أتدري، إنني أحس أن السعادة والهدوء اللذين تذوقتهما اليوم لا يمكن أن أحظى بمثلهما كل حياتي.»
اعترض نيكولا على قولها: «لا تتفوهي بالحماقات.»
بينما راح يفكر في نفسه: «يا للفتنة في ناتاشا هذه! ليس لدي ولن يكون في المستقبل صديق أفضل منها يحدو بها إلى الزواج، لولاه لظللنا نتسلى كما تسلينا اليوم.»
ومن جانبها، كانت ناتاشا تفكر: «يا له من لطيف نيكولا هذا!» ثم قالت وهي تشير إلى النوافذ التي كانت تشع وسط ظلام الليل الندي: «آه! لا يزال النور مضاء في البهو.»
الفصل الثامن
خطة الكونتيس
أعفى الكونت إيليا آندريئيفيتش نفسه من مهام مركزه المتعبة كنقيب للنبلاء، لكن أحواله المادية لم تتحسن بفضل هذا التدبير، وكثيرا ما داهم نيكولا وناتاشا أبويهما في مناجيات سرية مقلقة، كانا يتحدثان عن بيع قصرهم في موسكو ومزرعتهم الكبيرة في الضاحية، لم يعد الكونت في حاجة إلى إحياء حفلات سخية بعد اعتزاله مهام منصبه، فكانت الحياة في أوترادنواي إذن أكثر هدوءا من الأعوام السابقة. مع ذلك، فإن البيت الضخم وجناحيه ما كانا أقل ازدحاما من سابق عهدهما. كانت مائدة الطعام تضم أكثر من عشرين نوعا من الأكل دائما. إنهم أعضاء أسر حطت مرساتها في هذا البيت منذ أمد طويل، وآخرون وجدوا على ما يبدو أن الحياة في غير ذلك البيت مستحيلة. وهؤلاء هم الموسيقي ديملر وزوجته، ومعلم الرقص فوجل وأسرته، والعانس العجوز بييلوفا، وكثيرون آخرون، كمدرسي بيتيا، ومديرة سابقة لفتيات البيت أو غيرهم ممن وجدوا أن الحياة عند الكونت أفضل مما هي عليه في بيوتهم، وعلى الرغم من تقلص عدد زوار البيت؛ فإن سياق الحياة ظل كعهده السابق؛ لأن الكونت والكونتيس ما كانا يحسنان نمطا آخر يتبعانه في منزلهما. ظلت استعدادات الصيد قائمة، وقد زاد فيها فريق نيكولا، وبقيت الخيول الخمسون في الإصطبل يرعاها الخمسة عشر حوذيا المعهودين ، واستمرت الهدايا الثمينة تقدم في المناسبات والحفلات الكبيرة تقام في الأعياد، وكذلك حفلات لعب الورق على اختلاف أنواعه، التي كان الكونت خلالها يكشف أوراقه لخصومه سامحا لهم بذلك أن يخففوا بضع مئات من الروبلات عن كيس نقوده؛ لذلك فقد كان الكونت دائما موضع تنازع اللاعبين للحصول على دخل محترم من لعبة واحدة معه.
كان الكونت إذن يسير على غير هدى في شبكة متاعبه المالية المتشعبة، يريد بجدع الأنف أن يخدع نفسه بإقناعها بأنه على الطريق السوي، بينما يزداد ابتعادا وهياما، أصبح لا يجد في نفسه القدرة لا على تحطيم تلك الشبكة الهائلة، ولا على اتخاذ الإجراءات الحكيمة الكفيلة بتحطيمها، وباتت الكونتيس تشعر في أعماق نفسها أنها وأسرتها يسيرون إلى الدمار، كانت تحدث نفسها بأن الكونت غير مذنب؛ لأنه لا يستطيع أن يكون غير ما هو كائن، وأنه يتألم - رغم إخفائه ذلك الألم - من ذلك المركز المالي المزعزع الصعب الذي يهدده وذويه. راحت تبحث عن علاج لهذا الداء، ولأنها امرأة لم تجد علاجا أفضل من تزويج ابنها نيكولا بوارثة مجدودة غنية، وقدرت أن ذاك هو الأمل الأخير، فإذا رفض نيكولا الزواج الذي تدبره له، فإن الحالة المالية في الأسرة لن تنجو من الانهيار المحتوم. أما الوارثة الغنية التي شخصت إليها الكونتيس في أفكارها، فكانت الآنسة جولي كاراجين، وهي الفتاة التي تنحدر من أبوين ممتازين ورعين، ويعرفها آل روستوف منذ طفولتها، وقد جعلها موت أخيها الأخير الوريثة الوحيدة لثروة محترمة.
كتبت الكونتيس مباشرة إلى السيدة كاراجين تعرض عليها فكرتها، فتلقت منها جوابا مناسبا. لقد وافقت الأم على زواج ابنتها من نيكولا، ولكنها تركت الكلمة النهائية لابنتها، مع ذلك فقد دعت نيكولا إلى زيارتها في موسكو.
قالت الكونتيس لابنها مرارا والدموع تترقرق في عينيها: إنه بعد أن أصبحت ابنتاها في حرز زوجيهما، فإن رغبتهما الوحيدة أصبحت محصورة في أن تراه متزوجا، وبذلك تموت هانئة، وبعد أن سبرت غوره على هذا النحو ألمحت إلى أنها تشخص بأبصارها إلى فتاة فتانة جميلة. وفي مناسبات أخرى ، امتدحت جولي ونصحت لابنها أن يسافر إلى موسكو بمناسبة أعياد الميلاد ليرفه عن نفسه هناك. حدس نيكولا فورا الغاية التي تغذيها أمه، والوجهة التي تتجهها أفكارها، فاستدرجها ذات يوم إلى الإفضاء بمكنونات نفسها إليه، فاعترفت دون لف ولا دوران أن زواج ابنها من جولي كاراجين كفيل وحده أن ينقذ مركز الأسرة المالي.
سأل الفتى أمه دون أن يلحظ القسوة التي في سؤاله؛ لأن همه كان منصرفا إلى إظهار نبل روحه فحسب: «آه، ماذا؟ هل إذا كنت أحب فتاة غير ذات بائنة، ألحفت علي بالسؤال أن أضحي غرامي وشرفي في سبيل المال، يا أماه؟!»
أجابت الأم وهي لا تدري كيف تبرر موقفها: «إنك لم تفهمني يا صغيري نيكولا، إنني أبحث عن سعادتك.»
لكنها كانت تعرف أنها لم تنطق بالصدق في قولها؛ لذلك اشتد اضطرابها فأجهشت باكية: «أماه، لا تبكي، قولي فقط إنك ترغبين في ذلك وسترين أنني أقدم حياتي وكل شيء لكي تكوني راضية. نعم، سأضحي بكل شيء من أجلك حتى شعوري.»
لم تتوقع الكونتيس من ابنها ذلك؛ إنها كانت أبعد الناس عن مطالبة ابنها بتضحية نفسه من أجلها، بل كانت - على العكس - مستعدة هي نفسها لتضحية نفسها من أجله، قالت وهي تمسح دموعها: «كلا، إنك لم تفهمني، لنقف عند هذا الحد في الحديث.»
حدث نيكولا نفسه: «ولكن ألست أحب فتاة فقيرة في واقع الحال؟ إذن يجب أن أضحي بعواطفي وشرفي! إنني دهش لرؤية أمي وهي تقول لي مثل هذا الأمر، ألأن سونيا فقيرة لا يحق لي أن أحبها، وأن أجيب على غرامها المخلص الأمين، مع إنني سأكون معها أسعد مني مع جولي التي تشبه الدمية. إنني أستطيع التضحية بعواطفي من أجل أبوي. أما أن آمرهم، فذلك مستحيل. وإذا كنت أحب سونيا، فإن هذا الحب سيبقى عندي أقوى من كل شيء، وأرفع شأنا.»
لم يذهب نيكولا إلى موسكو، ولم تعد الكونتيس تتحدث معه في الزواج، لكنها لاحظت بحزن، بل وبغضب أحيانا أن ألفة قوية كانت تقوم بين ابنها وتلك الفتاة المحرومة من البائنة سونيا. وعلى الرغم من اللوم الذي كانت تصبه على نفسها، فإنها ما كانت تستطيع الإمساك عن الزمجرة ومحاولة مشاكسة سونيا كلما خاطبتها بصيغة الجمع، أو قالت لها: «يا عزيزتي، وكان ما يزيد في نقمة الكونتيس الطيبة ضد سونيا سلوك ابنة الأخت، تلك ذات العينين السوداوين التي كانت تظهر مزيدا من الدماثة والتفاني والعرفان نحو المحسنين إليها، ومن الإخلاص العميق المجرد المكين في حبها لنيكولا، حتى يتعذر إيجاد مأخذ على سلوكها.»
كان نيكولا ينهي عطلته عند ذويه الذين تلقوا رسالة رابعة من الأمير آندريه مرسلة من روما يقول فيها: «إنه لولا أن نكأ جرحه فجأة بسبب الطقس، الأمر الذي يجعل عودته تتأجل حتى مطلع العام المقبل، لكان الآن في طريق عودته. كانت ناتاشا لا تزال مفتونة بخطيبها بذلك الهدوء الذي عرف عنها، وظلت متفتحة القلب لكل مباهج الحياة، مع ذلك؛ فإنها حوالي نهاية الشهر الرابع الذي انقضى على رحيل آندريه. أخذت تشعر بسحابات من الحزن كان يستحيل عليها مقاومتها. أخذت تنظر إلى نفسها بإشفاق وتأسف على هذا الوقت الذي يذهب ضياعا، بينما تشعر في قرارة نفسها بأنها ما زالت قادرة على أن تحب وتحب.»
وعلى ذلك، فإن الحياة كما يرى لم تعد هانئة تماما عند آل روستوف.
الفصل التاسع
آلام ناتاشا
أقبلت أعياد الميلاد دون أن يكون فيها ما يميزها باستثناء الصلاة المهيبة وتهانئ الجوار والخدم المضجرة، والثياب الجديدة التي يرتديها كل الناس. مع ذلك، فإن العشرين درجة من البرد غير المشفوع بالريح والنهارات المشرقة المشمسة، وتلك الليالي ذات النجوم كانت تحفز المرء على إحياء تلك الفترة من السنة، والاحتفاء بها على لون آخر.
في اليوم الثالث بعد الغداء، انسحب كل إلى حجرته وبلغ الضجر منتهاه. نام نيكولا في المخدع بعد أن قام في صبيحة ذلك اليوم بعدد من الزيارات إلى الجيران، واستلقى الكونت العجوز في مكتبه. أما في البهو، فقد راحت سونيا تنقل رسما فوق مائدة مستديرة بينما كانت الكونتيس تتلهى بلعب الورق وحدها، مهملة المهرج نستاسيا أيفانوفنا ، الذي كان قرب النافذة في رفقة عجوزين طيبتين. دخلت ناتاشا وفحصت شغل سونيا، ثم اقتربت من أمها وانتصبت واقفة أمامها لا تريم.
سألتها أمها: «لماذا تتيهين هكذا كروح معذبة؟ ماذا ينبغي لك؟»
قالت ناتاشا بعينين متوهجتين ووجه خطير: «إنه «هو» ما أبغيه، على الفور، في هذه اللحظة بالذات.»
رفعت الكونتيس رأسها ونظرت في عيني ابنتها نظرة عميقة، فقالت هذه: «لا تنظري إلي هكذا يا أماه. لا تنظري إلي أو أبكي لفوري.» - «اجلسي واقتربي مني هنا.» - «أماه، إنه هو ما أريد. رباه، لم تفرض علي مثل هذا العذاب!»
تحطم صوتها وترقرقت الدموع في مآقيها، فاستدارت لتخفيها، ولم تجد غير الفرار سبيلا.
توقفت في المخدع، وبعد أن ترددت هنيهة مضت إلى غرفة الخادمات، وهناك وجدت امرأة عجوزا مهمتها العناية بالثياب والفضيات، توبخ وصيفة شابة كانت تلهث من البرد وهي قادمة جريا من ناحية المياه: «كفى تسلية. لكل شيء حينه.»
فتدخلت ناتاشا قائلة: «دعيها، اذهبي يا مافروشا، اذهبي.»
وبعد أن أنعمت عليها بتلك العطلة، اخترقت ناتاشا قاعة الرقص لتدخل إلى الردهة، وهناك وجدت ثلاثة خدم؛ عجوزا وشابين يلعبون الورق، كفوا عن لعبهم عندما دخلت، ونهضوا عند مقدمها، حدثت ناتاشا نفسها: «في أي شيء أستطيع إشغالهم؟ آه! لقد وجدت.» - «ميتكا، اذهب وآتني بديك، وأنت يا ميشا ائتني بقليل من الخرطال.»
قال ميشا بلهجة جذلة متواضعة: «من الخرطال؟ قليلا جدا، أليس كذلك؟» - «وأنت يا فيدور، ابحث لي عن بعض الحكك.»
ومرت بالقرب من المقلاد، فقالت لفوكا خادم المائدة أن يهيئ السماور، رغم أن الوقت لم يكن قد حان لمثل ذلك.
كان فوكا أكثر الرجال صمتا في البيت، فكانت ناتاشا تجد متعة خاصة في ممارسة سلطتها عليه. لم يصدق أذنيه ويعتبر الأمر جديا إلا عندما كررته وأيدته، وحينئذ قال يعرب عن امتعاضه لناتاشا: «أوه! يا لهذه الآنسة!»
لم يكن في البيت أحد يزعج الأشخاص ويقلق راحتهم بتشغيلهم مثل ناتاشا، فإذا وجدت أحدا وجب أن ترسله إلى مكان ما، ومهما كان من قول إنها إنما تحاول التأكد من عدم استياء الخدم منها وتسكعهم في تنفيذ أوامرها، فإنهم جميعا كانوا يتهافتون بحماس لإرضائها.
تساءلت وهي تذرع الممشى حائرة: «ماذا أستطيع أن أصنع؟ أين يمكنني أن أذهب؟» جاء المهرج العجوز للقائها وهو في ثياب داخلية نسائية: «يا نستاسيا إيفانوفنا، ماذا سألد؟» - «براغيث وصراصير وذباب المستنقعات ...» - «رباه، رباه! إنه نفس الشيء دائما! أين أحشر نفسي؟ في أي شيء أتشاغل؟»
ارتقت السلم الذي يؤدي إلى جناح فوجل وزوجته بضجة كبيرة، وجدت المدبرتان هناك أمام مائدة محملة بأطباق الزبيب واللوز والخروب وهما تقارنان غلاء المعيشة في موسكو بمثله في أوديسا، جلست ناتاشا وكأنها تعلق اهتماما على الحديث، ثم نهضت فجأة وقالت: «جزيرة مدغسكر، ما... دا... غاس... كر.
أخذت تكرر هذه الكلمة وهي تقطعها وانسحبت دون أن تعنى بالرد على السيدة شوص التي كانت تستوضحها ما تقول.
شاهدت بيتيا يهيئ بمساعدة مدربه العجوز سهاما نارية ليطلقها عندما يحل المساء، هتفت به: بيتيا! احملني إلى الأسفل.
فهرع بيتيا ومكنها من ظهره، فقفزت عليه، وطوقت عنقه بذراعيها، بينما راح بيتيا يقوم ببعض القفزات على طريقة الحصان، قالت وهي تقفز إلى الأرض وتنحدر على السلالم: «يكفي هكذا. جزيرة مدغسكر.»
وبعد أن تفقدت مرافق دولتها - على حد تعبيرها - واختبرت نفوذها، وعرفت أن كل من في البيت متضجر سئم رغم الخضوع العام. انسحبت ناتاشا إلى بهو الموسيقى، وجلست في ركن مظلم وراء خزانة صغيرة، ثم شرعت تداعب أوتار قيثارها محاولة تذكر مقطع من إحدى «الأوبيرات» التي سمعتها في بيترسبورج عندما كانت في صحبة الأمير آندريه، ما كان للمستمع العادي أن يجد أي معنى في عزفها. أما هي، فإن تلك الأصوات كانت توقظ في نفسها عالما من المشاعر، قبعت وراء خزانتها، وشخصت بأبصارها إلى إشعاع ضوئي كان يخترق باب المقلاد، وراحت تصغي إلى نفسها، وتستلم إلى نشوة الذكرى.
مرت سونيا بالقاعة حاملة قدحا في يدها متجهة نحو المقلاد، فألقت ناتاشا نظرة عليها ثم حولتها إلى الباب الموارب، وتصورت أن هذا المشهد كذلك يشكل جزءا من ذكرياتها، قالت تقنع نفسها : «نعم، لقد رأيت هذا من قبل خطا فخطا.» هتفت تخاطب سونيا وهي تضرب على حبل قيثارتها الخفيض: «سونيا، ماذا أعزف هنا؟»
اقتربت هذه منها لتصغي بانتباه أكثر وقالت: «آه! أنت هنا! لست أدري تماما.»
ثم أعقبت بخجل وكأنها تخشى أن تكون مخطئة: «أليست هذه موسيقى الإعصار؟»
لكن ناتاشا كانت تحدث نفسها: «أي نعم، إنها دائما هكذا، دائما هذه الانتفاضة والابتسامة الوجلة. لقد قلت دائما ما أقوله الآن: لا شك أنه ينقصها شيء ما.» ثم تنبهت وقالت: «كلا، إنها لازمة «حامل الماء» - وهي أوبرا لشيروبيني - أصغي إلي جيدا.»
ولكي تقنع سونيا، انبرت تغني اللحن حتى نهايته وقالت: «إلى أين تذهبين؟» - «لإبدال ماء القدح. إنني فرغت لتوي من الرسم.» - «إنك تعرفين دائما كيف تشغلين وقتك وليس مثلي. ونيكولا أين هو؟» - «إنه نائم على ما أظن.» - «اذهبي وأيقظيه. قولي له أن يأتي ليغني معي.»
عادت تنكمش في زاويتها وهي تتساءل: «كيف أمكن لكل هذا أن يحصل دون أن يستطيع إيجاد جواب هذا السؤال الذي لم تكن على أية حال تأسف على عدم إيجابه. حلقت من جديد في سماء الخيال وعادت إلى السويعات التي قضياها معا، والتي كان خلالها يتأملها بنظرة والهة.» «آه! ليعد بأسرع وقت. إنني شديدة الخوف من أن لا يتم زواجنا! ثم لا مجال للقول، إنني أهرم! لن أكون بعد قليل كما أنا الآن. ولكن من يدري لعله سيصل اليوم، وأخذ ينتظرني في البهو. لعله وصل البارحة ونسيت أنا ذلك.»
نهضت من مكانها ونبذت القيثارة ثم مضت إلى البهو. كان كل الناس فيه بين معلمين ومديرات وأقرباء وزوار يشربون الشاي، والخدم في ذهاب وإياب حول المائدة، كان كل شيء يجري على مألوف العادة، لكن الأمير آندريه لم يكن هناك. ولما رأى الكونت ابنته داخلة قال: «آه! ها هي ذي، تعالي واجلسي بقربي.»
لكن ناتاشا جاءت تنتصب أمام أمها وتنظر حولها وكأنها تبحث عن شيء ما. قالت مستعطفة: ومن جديد وجدت صعوبة في إيقاف عبراتها، جلست إلى المائدة وأصغت إلى أحاديث المسنين وأقوال نيكولا الذي ظهر في تلك اللحظة وانضم إليهم، «آه يا ربي، يا ربي! الوجوه نفسها دائما والأحاديث نفسها دائما، بل ودائما أسلوب أبي إياه في الإمساك بقدح الشاي والنفخ عليه!» أحست برعب عنيف وبكره شديد عميق لكل ساكني البيت يعتلج فجأة في نفسها؛ لأنهم كانوا هم هم لا يتبدلون.
وبعد الشاي، احتمى نيكولا وسونيا وناتاشا بالمخدع العتيد، مكانهم المفضل للإفصاح عن مكنونات نفوسهم لبعضهم.
الفصل العاشر
المقنعون
قالت ناتاشا لأخيها عندما استقر بهم المقام: «ألا يحدث لك أن تتصور أنه لم يعد ينتظرك شيء، وأن كل السعادة الممكنة قد حصلت عليها؟ وعندئذ لا تشعر بالحزن؟»
قال: «بكل تأكيد! أحيانا عندما يكون كل ما حولي جيدا والعالم من حولي جذل، يعتريني فجأة اشمئزاز بكل شيء، فأفكر في أننا يجب أن نموت كلنا. ذات مرة في الفيلق لم أذهب إلى النزهة، رغم أن الموسيقى كانت تصدح حيث كنت سأذهب؛ لكثرة ما كنت أشعر بالضجر.» - «آه! إنني أعرف هذا، إنني أعرف هذا. كنت لا أزال صغيرة جدا عندما وقع لي هذا. أتذكر يوم أن عوقبت من أجل قضية خوخ بينما كنتم ترقصون. لقد تركوني في قاعة الصف وحيدة، وكنت أذرف دموعا حرى. لن أنسى ذلك أبدا! كنت أرثي لنفسي ولكم جميعا. وكان أكثر ما يحزنني أنني لم أفعل شيئا سيئا، هل تذكر؟» - نعم، بل أذكر كذلك أنني ذهبت إليك أعزيك، وأنني ما كنت أعرف كيف أتصرف معك. لقد كنا كلانا على جانب مخيف من الشذوذ. كنت أملك مهرجا صغيرا من الورق المقوى، فأردت أن أهديكه. هل تذكرين؟»
استأنفت ناتاشا بابتسامة حالمة: «وهل تذكر قبل الحادث وكنا لا نزال صغارا، عندما دعانا عمنا ذات مرة إلى مكتبه، وكنا حينذاك في المنزل القديم، وكان الظلام حالكا، فلم نكد ندخل حتى رأينا فجأة ...»
فأكمل نيكولا قولها بانشراح: «عبدا أسود، كيف أنساه؟ لا زلت حتى الآن لا أعرف هل كان عبدا حقيقيا، أم كنا رأيناه في حلم، أم حدثنا بعضهم بأمره .» - «كان بلون الرماد ذا أسنان بيضاء. كان واقفا وهو يحدق فينا.»
سأل نيكولا: «هل تذكرين يا سونيا؟» - فأجابت سونيا بخجل: «نعم، نعم، بإبهام.»
قالت ناتاشا: «لقد تحدثت عن هذا العبد إلى أمي وأبي، فأكد إلي أنه لم يكن في بيتنا قط عبد، مع ذلك فإنك تذكره!» - «طبعا كما لو وقع ذلك بالأمس.» - «إنه يشبه الحلم، وهذا ما يروق لي في هذه القصة!» - «وذات يوم آخر، بينما كنا ندحرج بيضا في صالة الرقص، انبعثت عجوزتان فجأة وراحتا تبرمان دائريا. هل وقع هذا بالفعل؟ هل تذكرين كم كان ذلك رائعا؟» - «نعم، وأنت هل تذكر عندما كان «بابا» يطلق النار من بندقية وهو فوق المرقاة مرتديا فروته الزرقاء؟»
وراحت تلك الذكريات الزاهية الصبوية تمر أمامهم الواحدة تلو الأخرى، تتناقض بشدة مع عودة الشيخوخة الحزينة إلى الوراء، تلك الإحساسات عن الماضي التي تختلط فيها الحقيقة بالخيال، وراحوا يضحكون برقة وهم يشعرون بالسعادة.
كانت سونيا - كعادتها - منتحية جانبا مع أن تلك الذكريات كانت تجمعهم معا، لكنها كانت أكثر تشويشا في ذاكرتها. أما تلك التي لا زالت حية منها، فإنها ما كانت توقظ في نفسها مثل تلك الإحساسات الشاعرية. لم تتدخل في نداء الماضي ذاك، إلا عندما استعادا ذكر وصولها إلى البيت، وكان ذلك ليقصوا أنها خافت من نيكولا خوفا كبيرا وهو في سترته التي تزينها بالخرج. لقد روعتها خادمتها عندما أوهمتها بأنهم سوف يوثقونها بذلك الخرج.
قالت ناتاشا: «وقد رووا لي أنك ولدت تحت ملفوفة. كنت أعرف أن ذلك غير صحيح، لكنني ما كنت أجرؤ على عدم التصديق، وكنت شديدة الارتباك.»
وفي تلك اللحظة، برز رأس إحدى الوصيفات خلال الباب المقلاد الموارب. قالت الوصيفة بصوت خافت: «يا آنسة، لقد جاءوا بالديك.» - «لم تعد من حاجة إليه يا بوليا. قولي لهم أن يعيدوه.»
وفي تلك الأثناء، دخل ديملر إلى المخدع ومضى قدما إلى المعزف القائم في ركن منه، فنزع منه غطاءه، وانبعث منه صوت متنافر، وارتفع صوت الكونتيس من البهو قائلا: «يا إدوار كارليتش، اعزف أرجوك لحن «نوكتورن» (الليليات) لجون
1
فيلد ، الذي يلذ لي كثيرا.»
أمسك ديملر اللحن والتفت نحو ناتاشا ونيكولا وسونيا وقال لهم: «ما أنعم بال الشبيبة!»
أجابت ناتاشا وهي ترمقه بنظرة: «نعم، إننا نتفلسف.»
وعادت إلى الحديث الذي أصبح يدور حول الأحلام.
شرع ديملر في العزف، فاقتربت ناتاشا على أطراف قدمها من المائدة حيث أخذت الشمعة وعادت دون جلبة إلى مكانها. بدأ الظلام يخيم الآن على الحجرة، وخصوصا في الركن الذي جلسوا فيه، لكن البدر كان يلقي على الأرضية إشعاعا فضيا خلال النوافذ المرتفعة. قالت ناتاشا وهي تقترب من نيكولا وسونيا، بينما كان ديملر الذي فرغ من عزف المقطوعة، مترددا في الشروع في غيرها، يداعب أوتار معزفه بحركة ضعيفة: «هل تعرفان فيم أفكر؟ يخيل إلي أنه لكثرة ما يحرك رماد الماضي، يستطيع المرء أن يعيد إلى ذاكرته أشياء وقعت قبل ولادته في هذه الدنيا.»
قالت سونيا التي كانت مجتهدة دائما وتتمتع بذاكرة طيبة: «إنه علم التناسخ. لقد كان المصريون يعتقدون أن أرواحنا عاشت بادئ الأمر في الحيوانات، وأنها ستعود إليها بعد وفاتنا.»
ردت ناتاشا وبصوت خافت دائما رغم توقف الموسيقى: «حسنا! أنا - لو تعلمين - لا أعتقد أننا كنا من قبل في الحيوانات. أما ما أنا واثقة منه، فهو أننا كنا ملائكة هناك في كل مكان؛ ولهذا السبب نتذكر كل هذا القدر من الأشياء.»
سأل ديملر الذي اقترب منهم بخطوات متلصصة واتخذ لنفسه مكانا بالقرب منهم: «هل أستطيع الانضمام إليكم؟»
قال نيكولا: «لو أننا كنا ملائكة، فلماذا إذن سقطنا إلى هذا الدرك؟ إن هذا لا يمكن أن يكون.»
قالت ناتاشا بحرارة: «ولم إلى هذا الدرك؟ من قال لك إننا أدنى من مقامنا؟ إن الروح خالدة، أليس كذلك؟ وإذن إذا كان لا بد أن أعيش سرمديا، فلا شك أنني عشت من قبل دهرا كاملا.»
تدخل ديملر الذي عندما انضم إلى الشبيبة لم يستطع إخفاء ابتسامة على شيء من السخرية، والذي راح الآن يتبنى لهجتهم الخطيرة المسارة: «بلا شك، لكنه من الصعوبة أن يتصور المرء تلك الأبدية.»
قالت ناتاشا: «صعوبة؟ لماذا ؟ بعد اليوم سيكون الغد، ودائما هكذا. والأمس، وأمس الأول، كان نفس الشيء.»
تناهى صوت الكونتيس إلى الأسماع: «ناتاشا، لقد حان دورك، غني لي شيئا. ماذا تعملون هناك؟ لكأنكم متآمرون.»
قالت ناتاشا: «آه يا أماه! إنني لست منسجمة.»
ما من أحد حتى ولا ديملر - الذي لم يعد شابا - كان يميل إلى ترك ركن التسار، مع ذلك، فقد نهضت ناتاشا، ومضى نيكولا إلى المعزف، وبعد أن تمركزت وسط قاعة الرقص كعادتها، وهو المكان الذي كانت تقدر أنه أفضل للشروط السمعية. غنت ناتاشا المقطوعة المفضلة عند أمها. قالت قبل ذلك: «إنها لا تشعر بالانسجام.» لكنها لم تغن مثل ذلك المساء منذ زمن طويل، وما كانت من قبل لتغني أفضل من ذلك. سمعها الكونت من مكتبه؛ حيث كان في مقابلة مع ميتانكا، وكالطفل الذي لا يفكر عند انتهاء الدرس إلا بالفرصة المنتظرة. ارتبك الكونت في الأوامر التي أصدرها، وانتهى به الأمر إلى الصمت. أما ميتانكا الذي كان يصغي بدوره، فقد ظل منتصبا أمام سيده لا يريم، والابتسامة على شفتيه. لم يغفل نيكولا عن النظر إلى أخته، ونظم تنفسه الشخصي على غرار تنفسها، بينما كانت سونيا تقيس البون الشاسع الذي يفصلها عن ابنة عمها، وتحدث نفسها بأنها لن تستطيع قط أن تكتسب ولا جزءا واحدا من فتنة ناتاشا، وكانت الدموع تترقرق في عيني الكونتيس، تبتسم في غبطة وحزن معا، وتهز رأسها من حين إلى آخر. تصورت شبابها، وفكرت في ابنتها التي بدا ارتباطها مع الأمير آندريه غير طبيعي ومثقل بالخطر.
كان ديملر جالسا بقرب الكونتيس يصغي مغمض العينين، وأخيرا خلص إلى القول: حقيقة يا كونتيس، إن لها منقبة أوروبية. لم يعد أمامها ما تتعلمه. هذه النعومة، هذه القوة، هذه العذوبة.
قالت الكونتيس دون أن تلقي بالا إلى من تحدثه: «آه! كم أخاف من أجلها! كم أخاف!»
كانت غريزة الأمومة فيها تنبئها أن في ناتاشا شيئا مفرطا يمنعها من أن تكون سعيدة.
لم تكن ناتاشا قد انتهت بعد من الغناء حينما دخل بيتيا إلى الحجرة، وأعلن بحماس ابن أربعة عشر عاما وصول المقنعين، فتوقفت ناتاشا فجأة وصرخت في أخيها: «سخيف!»
واندفعت نحو كرسي حيث انهارت عليه، وانفجرت منشجة، وظلت فترة طويلة قبل أن تسيطر على أعصابها، قالت وهي تجهد في الابتسام: «لا بأس علي يا أماه، لا بأس! أؤكد لك أن بيتيا أخافني.»
لكن دموعها ظلت تنهمر وعبراتها تخنقها.
جاء الخدم وهم متنكرون على أشكال الدببة والأتراك والخمارين وسيدات المجتمع، بين مضحك ومخيف، يحملون معهم برد الخارج وبشاشته. اجتمعوا بخجل في الردهة، ثم اختبأ كل منهم وراء الآخر، ودخلوا إلى قاعة الرقص مغامرين، وهناك انتقلوا من حالة الخوف التي اعترتهم إلى الحيوية والانسجام، فراحوا يغنون ويرقصون ويدورون ويقومون بكل تسليات عيد الميلاد، وبعد أن كشفت الكونتيس حقيقة كل المقنعين، وضحكت من تنكرهم، انسحبت إلى البهو، بينما ظل الكونت في القاعة مشرق الوجه يشجعهم. أما الشبيبة فقد اختفت.
وبعد نصف ساعة، جاء متنكرون آخرون يختلطون بالأولين. جاءت عجوز تحمل سلالا (نيكولا)، وورائها تركي (بيتيا)، ثم مهرج (ديلمر). أما ناتاشا وسونيا فقد تنكرت الأولى على شكل فارس، والثانية على غرار الشراكسة، وقد رسمتا على وجهيهما الشوارب والحواجب اللازمة بالفحم.
وبعد أن استقبلهم غير المتنكرين بدهشة مصطنعة وتهانئ حارة، شعر الشبان الذين وجدوا أن أزياءهم كانت موفقة جدا بالرغبة في عرضها على آخرين. ولما كانت الطرق سالكة جيدة، ونيكولا يتحرق شوقا على نقل الجميع في زحافة كبيرة، فقد عرض أن يحملهم إلى مسكن العم وبصحبتهم حوالي عشرة من الخدم المتنكرين.
قالت الكونتيس: «ولكن لا، لا فائدة من إزعاج العجوز المسكين. اذهبوا على الأرجح إلى آل ميليوكوف.»
وكانت السيدة ميليوكوف - وهي أرملة - تقطن على مقربة من آل روستوف مع أولادها الكثيرين المختلفي الأعمار ومعلميهم ومربياتهم.
قال الكونت العجوز بصوت نشيط منشرح: «تلك يا عزيزتي فكرة بديعة التصوير، سأتنكر أنا الآخر وسأرافقكم. سأعرف جيدا كيف أنفس عن باشيت الباسلة (تصغير باشا على الطريقة الفرنسية).»
لكن الكونتيس ما كانت تصغي إلى الموضوع بتلك الأذن. لقد كان إيليا آندريئيفيتش يشكو ألما في ساقه في الأيام الأخيرة، فما كان يستطيع السماح لنفسه بمثل تلك الفعلة. وبالمقابل إذا كانت لويز إيفانوفنا؛ أي السيدة شوص، تريد مرافقتهم، فإن الفتيات سيسافرن. ابتهل إلى السيدة شوص أن توافق، وكان إلحاح سونيا التي عرفت بالتحفظ أكثرهن إلحافا في هذه المرة. والواقع أن زيها كان أكثر الأزياء التنكرية نجاحا، وشاربيها وحاجبيها تلائم وجهها ملاءمة خارقة. راح كل يهنئها غابطا، فكانت تشعر على خلاف عادتها أنها ممتلئة بالثقة والاستعداد، يهيب بها صوت داخلي أن مصيرها إذا لم يتقرر اليوم لن يتقرر أبدا. وقد كانت في ثياب الرجال تختلف كل الاختلاف عن حقيقتها.
أعطت السيدة شوص موافقتها، فلم تنقض نصف ساعة حتى كانت أربع زحافات كبيرة، وعليها الأجراس والجلاجل تشق مزالقها الثلج المتجلد، تنتظم أمام المرقاة.
أطلقت ناتاشا الدلالة الأولى التي تتفق وسهرة عيد الميلاد الجنونية تلك، وسرى مرحها إلى الآخرين فردا فردا، وتعاظم فبلغ أقصاه عندما ظهر المقنعون كلهم في الهواء الطلق يضحكون ويصرخون ويتنادون، ثم انتظموا في فرق مختلفة.
كانت اثنتان من الزحافات الأربعة معدتين للجري السريع، والثالثة ذات الجواد المفرد والنقالة كانت خاصة بالكونت العجوز. أما الرابعة - وهي زحافة نيكولا - فكان يقطرها حصان صغير أدهم طويل الشعر. أخذ نيكولا في تنكره على شكل أرملة مرحة يجمع أعنة الحصان وهو واقف وسط زحافته متدثرا بمعطف الفرسان فوق ثوبه التنكري. وكان القمر يرسل ضياء عنيفا قويا، حتى إنه كان يرى صفائح عدة الفرس النحاسية تلتمع، وعيون الخيل التي كانت تدير رأسها بوجل نحو الطنف المعتم الذي كان الجمع الهائج يتحرك تحته.
اتخذت ناتاشا وسونيا والسيدة شوص وخادمتان مكانا لهن في زحافة نيكولا وديملر وزوجه وبيتيا في زحافة الكونت، بينما توزع الخدم المتنكرون في العربتين الأخيرتين.
صاح نيكولا بسائق عربة أبيه لتتاح له فرصة اجتيازه أثناء الطريق: «سر في المقدمة يا زاخار!»
اهتزت زحافة الكونت ورافقه صرير مزالقها فترة؛ دندنة الحرس الرصينة، وراح حصانا الطرفين يترصان على الحاملين، ويغوصان في ثلج جامد لامع كالسكر حتى لكأن الصقيع قد ألصقها على الثلج، وسار نيكولا وراءها، ثم تبعه الآخرون في هرج ومرج عظيم.
رحلة إلى ميليوكوف.
انزلقت الزحافات الهوينى أولا على الطريق الضيق، وظلت ظلال الأشجار العارية تتطاول على عرض الطريق طيلة الوقت الذي قضاه الراحلون في محاذاة البستان، حاجبة ضوء القمر العنيف، ولكن ما إن اجتازوا الحاجز حتى عرضت للأنظار فسحة لا يحدها البصر من الثلج الجامد المتلألئ كالماس ذي الإشعاعات الزرقاء. قفزت زحافة المقدمة مرة أو مرتين فوق حجرة، فحذت الأخريات حذوها معكرة سلام ذلك السهل العميق المسحور في غير ندم، ثم استوت كلها على خط واحد مباعدة بينها.
دوى صوت ناتاشا فجأة في الفضاء المتجمد: «موطأ أرانب، مواطئ كثيرة!»
وقالت سونيا بدورها: «كم يرى المرء بوضوح يا نيكولا!»
التفت نيكولا نحو سونيا واضطر إلى الانحناء ليميز وجهها. انبعث أمام ناظريه وجه وسيم لطيف بشاربين وحاجبين مرسومين بالفحم، قريب وبعيد معا من اللياقة المصنوعة من السمور.
تساءل نيكولا وهو يتفحصها بإلحاح باسم: «أين إذن سونيا الزمن الأول؟» - «ماذا ترغب يا نيكولا؟»
أجاب وهو يستدير نحو الخيول: «لا شيء.»
ولما وصلوا إلى الطريق الكبيرة التي سوتها مزالق الزحافات ووسمتها المشابك الحديدية التي كانت آثارها واضحة في ضياء القمر، اندفعت الخيول من تلقاء نفسها على الأثر وضاعفت سرعتها. كان الحصان الأيسر يجذب سيور أعنته بحركات متهززة ورأسه مائل إلى الخارج. أما حصان المقدمة فكان يتأرجح وهو ناصب أذنيه وكأنه يتساءل: «هل حان الوقت أم لا زال في الوقت متسع؟» وكانت زحافة زاخار السوداء المتقدمة مسافة طيبة تنساب فوق غور الثلج الأبيض بظلها القاتم، تختلط الصيحات والضحكات وهتافات المقنعين فيها بصدى جرسها المكتوم الممعن في الابتعاد.
صاح نيكولا وهو يجذب الأعنة بإحدى يديه، ويلوح بالسوط في الثانية: «هيا يا فتياني الصغار!»
كان يمكن تقدير سرعة الزحافة الهائلة اعتمادا على الريح التي راحت تسوط الوجوه بعنف متزايد، أو توتر الجهد الواضح على خيول الجانبين التي كانت تضاعف أبدا انطلاقها. نظر نيكولا وراءه، فإذا بالفرق الأخرى تسرع في زحافاتها وسط التهليل وقرقعة الأسواط، وكان حصان الوسط يندفع ببسالة تحت قوس العريش دون أن يفكر قط في إبدال سرعته، ويبشر بانطلاقه إذا طلب إليه ذلك.
لحق نيكولا بالزحافة الأولى. كانوا يهبطون فوق منحدر ليلجوا طريقا عريضا فتح وسط الحقول على طول أحد الأنهار.
تساءل نيكولا: «ولكن أين نحن؟ في «الحقول الطويلة» ولا شك. ولكن لا، إنني لا أتعرف على الأرض. إنها ليست «الحقول الطويلة» ولا «شاطئ داميان». كل شيء جديد هنا، لكأنه مكان مسحور. ولكن ماذا يهم؟!» وراح يحرض خيوله عازما على تخطي الزحافة الأولى.
عاق زاخار خيوله فترة ليدير وجهه الذي بيضه الصقيع حتى حاجبيه نحو سيده الشاب، فأرخى نيكولا العنان لخيوله، وعندئذ مد زاخار ذراعيه، وصفق بلسانه، ودفع خيوله كذلك وهو يقول: «انتبه يا سيدنا!»
طارت الزحافتان جنبا إلى جنب، وازداد جري الخيول وطال قماصها. تقدم نيكولا نحو زاخار الذي ما فتئ مادا ذراعيه على المقودين، فرفع هذا أحدهما باتجاه سيده وصاح: «كلا يا سيدنا، لن تنالني!»
دفع نيكولا خيوله بأقصى سرعتها، فسبق زحافة زاخار، وكانت الخيول تعفر وجوه المسافرين بثلج دقيق جاف، بينما راحت ظلال الزحافة المنافسة تمر وسط أنغام الزئاط والتحدي، وكان صرير المزالق يختلط مع صيحات النساء الحادة.
عدل نيكولا للمرة الثانية سرعة خيوله، وأدار حوله نظرة فاحصة. كان المشهد يمثل أبدا ذاك السهل السحري الذي يغمره ضوء القمر، وتلتمع فيه هنا وهناك نجوم فضية.
حدث نفسه: «إن زاخار يهيب بي أن آخذ اليسار، فلماذا يا ترى؟ هل سنذهب حتما عند آل ميليوكوف؟ هل هنا ميليوكوف؟ الله يدري إلى أين نذهب، الله يعرف ماذا سيقع لنا. على كل حال فإن المغامرة على جانب من الفتنة والغرابة.» استدار نحو شاغلي الزحافة، قال واحد من هذه المخلوقات الغريبة المجهولة التي تعطيهم شواربهم وحواجبهم المرسومة بدقة فتنة خاصة: «انظروا إلى أهدابه وشاربيه. إنها بيضاء كلها.»
فكر نيكولا: «أظن أن هذا هو ناتاشا، وها هي السيدة شوص. كلا، يجوز أن تكون هي. وهذا الشركسي ذو الشاربين، لست أدري من يكون، ولكني أحبه .»
سألهن: «ألا تشعرن بالبرد؟»
فلم يجبنه، لكن رحن يضحكن. ومن الزحافة التالية هتف ديملر بشيء؛ شيء مضحك جدا ولا شك، ولكن لم يتوصلوا إلى تبيانه، أجابت أصوات مضحكة: «نعم، نعم.»
طلعوا في تلك اللحظة على غابة مسحورة ذات ظلال سوداء متداخلة، وبريق ماسي، ثم سياق درجات رخامية وسقوف فضية تأوي منزلا سحريا، وسمع نباح حيوانات، فقال نيكولا لنفسه: «إذا كانت هذه هي ميليوكوف، فإن من الغرابة المتناهية حقا أن تقودنا رحلتنا هذه التي قمنا بها إلى المجهول، إلى ميناء جيدة رغم ذلك.»
كانت تلك ميليوكوف بالفعل. هرع الخدم والوصيفات إلى المرقاة بوجوه مستبشرة يحملون المصابيح، وسأل صوت من أعلى المرقاة: «من القادمون هنا؟»
فأجابت أصوات أخرى: «مقنعو الكونت. إنني أعرف الخيول.»
الفصل الحادي عشر
المتحابان
بيلاجي دانيلوفنا ميليوكوف سيدة قوية تضع نظارتين على عينيها، وترتدي معطفا رماديا. كانت في البهو مع بناتها اللواتي كانت تحاول تسليتهن وهن يذبن الشمع ويتأملن الصور التي تتكون منه، عندما ترددت في الدهليز أصوات القادمين وخطواتهم.
دخل الفرسان والأرامل المرحات والساحرات والمهرجون والدببة يسعلون ويمسحون وجوههم المغطاة بالصقيع إلى القاعة الكبيرة؛ حيث كان المستقبلون يضيئون الأنوار مسرعين. افتتح المهرج ديملر الحفل الراقص مع الأرملة الطروب نيكولا. مضى المقنعون بين صيحات الأولاد الفرحة يخفون وجوههم، ويسلمون على سيدة البيت مبدلين أصواتهم، ثم انتظموا في القاعة. - «آه! يستحيل معرفتهم. آه، هذه «الناتاشا»! من تشبه بالله؟ حقا إنها تذكرني ببعضهم ... إدوار كارليتش. كم هو جيد! ما كنت لأعرفه! وكم يرقص ببراعة! آه يا للآلهة، شركسي! آه، لكن هذه سونيا! كم ينسجم معها هذا الزي! وهذا من هو! نيكيتا، فانيا، ارفعوا الموائد. يا للترفيه الجميل الذي جئتمونا به! نحن الذين كنا على غاية من الهدوء.»
وقالت بعض الأصوات: «آه! آه! آه! ... الفارس. انظر إلى الفارس ... فتى حقيقي ... وقدماه! لا أستطيع أن أرى ...»
اختفت ناتاشا - صفية الشابات من آل ميليوكوف - مع الفتيات في المخادع الداخلية المختلفة، التي كانت تتلقفها أذرع عارية خلال الباب الموارب من أيدي الخدم، وبعد عشر دقائق ، لحق كل شباب المسكن بالمقنعين الآخرين واختلطوا بهم.
كانت بيلاجي دانيلوفنا - التي هيأت أمكنة للضيوف، وطعاما خفيفا للسادة وللخدم على السواء - تروح وتجيء ونظارتاها فوق أنفها، والابتسامة الرصينة على شفتيها، بين المقنعين متصفحة وجوههم دون أن تميز منهم أحدا. ولم تعد تعرف لا آل روستوف ولا ديملر حتى، ولا بناتها أنفسهن وسط هذا الحشد من الأثواب المنزلية والألبسة المختلفة. أخذت تستعلم من المربية وهي تنظر من تحت نظارتيها إلى واحدة من بناتها متنكرة في زي تترية من قازان: «وهذه من تكون؟ يجب أن تكون واحدا من آل روستوف، وأنت يا سيدي الفارس، إلى أي فيلق تنتمي؟»
وبعد أن طرحت السؤال الأخير على ناتاشا، قالت لرئيس الخدم الذي كان يطوف على الضيوف حاملا طبقا من المربيات: «قدم للتركية كعكة بالفاكهة؛ إن دينها لا يحرمه عليها.»
ولما شاهدت الخطوات المضحكة الغريبة التي أخذ الراقصون يخطونها - يساعدهم تنكرهم الذي سلب منهم كل ارتباك - أخفت بيلاجي دانيلوفنا وجهها في منديلها، وراحت شخصيتها الضخمة تهتز كلها بمفعول ضحكة طيبة لا تحمد حدتها، هتفت: «شينيت، انظروا إلى ابنتي شينيت (تصغير ساشا على الطريقة الفرنسية).»
وبعد الرقصات والدبكات الروسية، شكلت بيلاجي دانيلوفنا حلقة كبيرة قوامها الخدم وسادتهم، وجاءت بخاتم وخيط وقطعة نقدية من ذات الروبل، فبدأت الألعاب المشتركة.
خلال ساعة من الزمن تهدلت الأزياء كلها، وذابت الشوارب والحواجب المصنوعة من الفحم على الوجوه المرحة المبللة بالعرق، فاستطاعت بيلاجي دانيلوفنا أن تتعرف أخيرا على الأشخاص، وراحت تهلل معجبة بنجاح الأزياء التنكرية، وبصورة خاصة أزياء الفتيات، وتشكر الجميع على المتعة الطيبة التي قدموها لها. دعي السادة إلى تناول العشاء في البهو بينما قدم العشاء للخدم في القاعة الكبيرة.
وبينما هم يتحدثون على مائدة العشاء عن استطلاع البخت في الحمام، قالت عانس عجوز من نديمات آل ميليوكوف: «كلا، إنه أمر مريع جدا!»
استفسرت البنت البكر: «ولم ذلك؟» - «آه! لن تذهبن. إن ذلك يستلزم شجاعة فائقة!»
أعلنت سونيا: «أنا سأذهب.»
قالت صغرى الأخوات ميليكوف: «قصي علينا ما وقع لإحدى الآنسات.»
قالت العانس العجوز: «حسنا، إليكن ما وقع: ذات مرة ذهبت آنسة إلى الحمام، أخذت معها ديكا وصحفتين وكل ما ينبغي، أخذت مكانها وظلت فترة طويلة مصيخة السمع تنتظر. وفجأة سمعت جلبة جلاجل وأجراس، كانت الزحافة تقترب. أرهفت أذنها. كان بعضهم قادما. دخل بعضهم ذاك، وجهه يشبه وجوه الرجال حتى ليقال إنه ضابط، وجاء يجلس بجانبها أمام الصحفة الثانية.»
هتفت ناتاشا وهي تدير عينين مذعورتين: «أوه! أوه!» - «وبعدئذ شرع يتحدث.» - «بالطبع، كالإنسان العادي تماما. وعندئذ راح يتوسل إليها. كان عليها أن تتابع الحديث معه حتى صياح الديك، لكن الخوف استحوذ عليها فأخفت وجهها بين يديها، وعندئذ أمسك بها الآخر. ولحسن الحظ، هرعت وصيفات إليها في تلك اللحظة.»
تدخلت بيلاجي دانيلوفنا: «يا لها من فكرة لإخافتهن!»
قالت إحدى بناتها: «ولكن يا أماه، ألم تستطلعي المستقبل بنفسك مرة؟»
سألت سونيا: «هل يستطلعون الحظ في المكدس كذلك؟» - «بلا شك، ليس عليك إلا أن تذهبي إلى هناك على الفور إذا كانت شجاعتك تساعدك. يصغي المرء، فإذا سمع طرق مطرقة أو قرع ما؛ فإنه فأل سيئ. أما إذا نثر القمح فهو فأل حسن. وكل شيء يقع وكأنه نبوءة.» - «أماه، قصي علينا ما وقع لك يوما في المكدس.»
قالت: «أوه! إنكن تعرفن أنني نسيت كل شيء، ثم إن ما من واحدة منكن تفكر في الذهاب إلى هناك.»
استأنفت سونيا: «ولكن بلى يا بيلاجي دانيلوفنا، سأذهب إلا إذا اعترضت على ذلك.» - «حسنا! اذهبي إذا لم تكوني خائفة.»
سألت سونيا: «يا لويز إيفانوفنا، هل تسمحين لي؟»
وسواء لعبوا بالتخفية أو تحدثوا شأنهم في تلك اللحظة، فإن نيكولا لم يبتعد عن سونيا قيد أنملة، وراح ينظر إليها بعينين مختلفتين جديدتين. ظهرت له الفتاة أخيرا بفضل تنكرها وشاربيها الاصطناعيين على حقيقتها، بل إن هذا ما كان يظنه على الأقل، ثم إن ناتاشا نفسها ما كانت تتذكر يوما أنها رأت ابنة عمها على مثل هذا الجمال والاندفاع والوداعة يملؤها الفرح.
فكر وهو يراقب عيني سونيا الملتمعتين، وابتسامتها المتحمسة التي كانت تحفر غمازتين تحت شاربها المستعار، وهو الأمر الذي لم يلاحظه من قبل: «هذه هي إذن حقيقتها! كم كنت غبيا إذ لم ألاحظ هذا من قبل!»
قالت وهي تنهض: «لست أخاف شيئا، سأذهب من فوري إذا أردت.»
فسروا لها أين يوجد المكدس؛ كان عليها أن تمكث صامتة وأن تصيخ السمع، قدموا لها فروة ألقتها على رأسها وهي تصوب نظرة نحو نيكولا.
فكر هذا: «يا لها من طفلة رائعة! بأي شيء كنت أفكر حتى الآن؟»
لم تكد سونيا تلج الممشى حتى اختفى نيكولا عن طريق الباب الكبير، بحجة أن الطقس شديد الحرارة، والحقيقة أن الجماعة المحتشدة في الغرف جعلت جوها خانقا.
وفي الخارج لبثت تلك الإشراقة المتجمدة على حالها، وذلك القمر المنير بدا أكثر ضياء. كان الضياء عنيفا، وتلألؤ الثلج من الشدة بحيث لا يشعر المرء برغبة في النظر إلى السماء، وتفقد النجوم الحقيقية لمعانها، كانت السماء تبدو قاتمة مربدة بينما الأرض على العكس كلها بهجة.
ظل نيكولا يفكر: «يا للأحمق الذي كنته إذ انتظرت حتى الآن.» وهبط درجة المرقاة ودار حول البيت من الممشى الذي يقود إلى مدخل الخدم. كان يعرف أن سونيا ستمر - ولا شك - من هناك، وفي منتصف الطريق كانت أنضاد من الخشب المكسو بالثلج تشكل ظلالا تنضم إليها ظلال أشجار الزيزفون العارية الزوراء، وحواجز المكدس المصنوعة من هياكل الخشب وسقفه الأبيض من الثلج، الذي يجعل الناظر إليه يظن أنه منحوت في حجر كريم؛ تلتمع في ضوء القمر. فرقع غصن في الحديقة ثم ساد السكون، حتى كأن المرء لا يستنشق الهواء الطلق نفسه، بل قوة فتية ما أبدية، والحبور نفسه.
علا وقع أقدام على مرقاة الخدم، فكان لها وقع أشد على الدرجات الأخيرة المغطاة بقشرة من الثلج، وقال صوت العانس العجوز: «إلى الأمام باستقامة عن طريق هذا الممشى يا آنسة، ولكن لا تلتفتي.»
أجاب صوت سونيا التي أخذت خطواتها تصر فوق الطريق الذي وقف نيكولا ينتظرها عليه، وقدماها في حذاءين دقيقين: «لست خائفة.»
أخذت تتقدم متدثرة بالفروة، لم تكن على أكثر من خطوتين منه حينما رأته. رأته هي الأخرى بعينين تختلفان عن ذي قبل؛ لم يعد وهو في ثوبه النسوي، وشعره الأشعث، وابتسامة شفتيه السعيدة، ذلك الرجل الذي كانت سونيا تخشاه دائما. جرت نحوه.
حدث نيكولا نفسه وهو يعاين وجه الفتاة الذي كان ضياء القمر يغمره: «إنها مختلفة تماما. مع ذلك لم تتبدل.» أدخل يديه تحت الفروة التي تتدثر بها فطوقها وجذبها إليه ثم قبل شفتيها؛ حيث كان الشارب الاصطناعي مرسوما تنبعث منه رائحة الفحم المحروق. قبلته سونيا هي الأخرى ملء شفتيه، ثم مررت يديها وأمسكت بوجهه من الصدغين. - «سونيا!» - «نيكولا!» ولم يزيدا. جريا إلى المكدس ثم عادا بعد ذلك إلى البيت كل من مرقاة مختلفة.
الفصل الثاني عشر
أوهام العاشقة
عندما غادروا بيت بيلاجي دانيلوفنا، سوت ناتاشا أمرها، وهي التي ترى وتلاحظ دائما كل شيء؛ حيث ركبت لويز إيفانوفنا برفقتها في زحافة ديملر بينما ظلت سونيا وحدها مع الخادمات في زحافة نيكولا.
قاد نيكولا زحافته بسرعة عادية على طريق العودة دون أن يحاول تجاوز أحد. كان ينظر إلى ابنة عمه تحت ضياء القمر الغريب محاولا أن يكتشف في ذلك الضوء المبدل سونيا الأمس وسونيا اليوم، التي اعتزم نهائيا أن لا يفترق عنها قط. كان ينظر إليها، فإذا ما عرفها كما هي دائما ومختلفة مع ذلك، وتذكر طعم الفحم المحترق على شفتيها المختلط بإحساس القبلة، ثم ألقى نظره إلى المنظر المحيط به. ظن من جديد أنه في مملكة ما مسحورة. أخذ يسألها من حين إلى آخر ويخاطبها بصيغة المفرد: «سونيا، هل أنت على ما يرام؟»
فتجيبه بالمثل: «نعم، وأنت؟»
وفي منتصف الطريق، أعطى نيكولا المقود إلى الحوذي ونزل من زحافته وجرى نحو زحافة ناتاشا، واعتلى طرف المزلقين. قال لها بالفرنسية وبصوت خافت: «ناتاشا، أتعرفين؟ لقد اتخذت قرارا بصدد سونيا.»
سألت ناتاشا وقد أشرق وجهها بالسرور فجأة: «هل كلمتها؟» - «آه! كم أنت مضحكة بهذين الشاربين وهذين الحاجبين! هل أنت مسرورة؟» - «نعم، مسرورة جدا. أتدري أنني كنت حانقة عليك؟ ما كنت أحدثك بالأمر، ولكنك كنت تتصرف حيالها تصرفا سيئا . إن لها قلبا آية في الطيبة يا نيكولا. كم أنا مسرورة! إنني خبيثة أحيانا، لكنني كنت أخجل من أن أكون سعيدة وحدي بدونها. أما الآن ها أنا سعيدة. هيا، عد بسرعة إلى جانبها.»
كرر نيكولا وهو ينظر إليها دائما، ويكتشف في ملامحها كذلك شيئا خارقا للعادة فاتنا لم يلحظ مثله من قبل: «لحظة. آه! كم أنت مضحكة ناتاشا! إنه لون من السحر، أليس كذلك؟»
أجابت: «نعم، ولقد أحسنت التصرف جيدا.»
حدث نيكولا نفسه: «لو أنني رأيتها من قبل كما هي اليوم لسألتها النصح منذ زمن طويل، ولعملت كل ما تشير به علي، ولسار كل شيء على أفضل ما يمكن.» - «إذن أنت مسرورة، وقد أحسنت صنعا.» - «آه! نعم، كم أحسنت الصنع! لقد تناقشت مؤخرا مع «ماما» حول هذا الموضوع. كانت «ماما» تزعم أن سونيا تغريك وتلاحقك. كيف يمكن أن يقال مثل هذا القول؟ كدت أتنازع مع ماما، ولن أسمح لكائن من كان أن يسيء بالقول إلى سونيا، ولا أن يفكر بها بسوء؛ لأن كل شيء كامل فيها.»
سأل نيكولا مرة أخرى وهو يتفحص في تقاسيم وجه أخته ليتأكد من أنها تنطق بالصدق: «إذن، لقد أحسنت الصنع.»
ثم صفق بحذاءيه العاليين وقفز من زحافة ناتاشا ليلحق بزحافته. وجد فيها ذلك الشركسي السعيد الباسم نفسه ذا الشاربين والعينين اللامعتين، الذي ينظر إليه من تحت قلنسوة السمور. وكان ذك الشركسي هو سونيا؛ وسونيا تلك ستكون ذات يوم زوجته السعيدة المحبة حتما.
عندما بلغوا المنزل قصت الفتاتان على الكونتيس كيف أمضتا الوقت عند آل ميليوكوف، ثم انسحبتا إلى جناحهما، وبعد أن خلعتا أزياءهما وتركتا الشوارب، لبثتا فترة طويلة تتحدثان عن السعادة الزوجية المقبلة. سوف يتفاهم زوجاهما معا تفاهما كليا، وستكونان سعيدتين تماما. وعلى المائدة، كانت بعض المرايا التي هيأتها دونياشا خلال السهرة. قالت ناتاشا وهي تقترب منها: «متى سيقع كل هذا؟ لعله لن يقع أبدا، إنني شديدة الخوف من ذلك. سوف يكون منتهى الروعة!»
قالت لها سونيا: «اجلسي يا ناتاشا ، لعلك ترينه فعلا.»
أضاءت ناتاشا الشموع وجلست. قالت وهي ترى وجه نفسها: «إنني أرى بعضهم بشاربين.»
قالت دونياشا منبهة: «لا يجب أن تضحكي يا آنسة.»
وجدت ناتاشا بمساعدة سونيا والوصيفة الوضعية الملائمة للمرآة الأولى، فاتخذت سحنة جدية واستغرقت في صمت حازم. لبثت زمنا على تلك الحال تنظر إلى صف الشموع التي كانت تنأى متباعدة في المرايا، وتتصور - استنادا إلى الأقاصيص التي رويت لها - أنها سترى تابوتا حينا، و«هو» الأمير آندريه حينا آخر، في المربع الأخير حيث يختلط كل شيء فيه بشكل غريب، لكنها مهما بلغ استعدادها لاعتبار أصغر بقعة فوق المرآة تابوتا أو وجها بشريا، لم تر شيئا مطلقا. أخذ جفناها يضطربان فنهضت وقالت: «كيف يحدث أن الآخرين يرون بينما لا أرى أنا شيئا مطلقا؟ هيا يا سونيا، اجلسي مكاني، اليوم يومك، وإلا فلا، لكن انظري من أجلي. إنني شديد الخوف.»
جلست سونيا إلى المرآة وراحت تحدق فيها بعد أن أعطتها الزاوية الملائمة، قالت دونياشا بصوت خافت: «سترى صوفي ألكسندروفنا حتما شيئا ما، وإذا كنت لا ترين شيئا، فما ذلك إلا لأنك ضاحكة أبدا.»
سمعت سونيا تلك الكلمات وجواب ناتاشا المدمدم: «نعم، إنني أعرف تماما أنها سترى شيئا. لقد رأت شيئا ما في العام الفائت أيضا.»
استأنفت ناتاشا بصوت خافت بعد دقائق من الصمت: «بلا شك!»
لكنها لم تجد الوقت الكافي للاسترسال؛ لأن سونيا دفعت المرآة التي كانت تحملها فجأة وغطت عينيها بيدها. هتفت: «آه! ناتاشا!»
هتفت ناتاشا وهي تسند المرأة: «هل رأيت؟ هل رأيت؟ ماذا رأيت؟»
لم تر سونيا شيئا، فكانت تريد أن تريح نظرها فقط، بل إنها همت بالنهوض حينما تمتمت ناتاشا بكلمتها: «بلا شك.» ما كانت تريد أن تخدع ناتاشا ولا دونياشا، وكانت تحس بالتعب لطول جلوسها، بل إنها كانت تجهل سبب صيحتها تلك، وحجبها عينيها بيدها.
سألتها ناتاشا وهي تمسك بيديها: «أهو «هو» الذي رأيته؟»
أجابت سونيا مغامرة وهي لا تدري تماما من كانت تعنيه ناتاشا بكلمة «هو»؛ أكان آندريه أم نيكولا: «نعم ... انتظري. إنه هو الذي رأيته.»
فكرت في نفسها: «ثم، لم لا أقول إنني رأيت شيئا؟ إن ذلك يحدث لكثير من الآخرين، ثم من الذي يستطيع إقناعي بغشي؟»
قالت: «نعم، لقد رأيته.» - «وكيف رأيته؟ واقفا أم مستلقيا؟» - «انتظري. بادئ الأمر لم يكن هناك شيء، ثم رأيته مستلقيا فجأة.»
سألت ناتاشا وهي تحدق في ابنة عمها بعينين مذعورتين: «آندريه مستلقيا؟ أهو مريض؟»
أجابت سونيا التي أصبحت الآن تعتقد أنها رأت بالفعل ما تتحدث عنه: «كلا، على العكس، لقد كان بادي السرور، وقد التفت نحوي.» - «آه! وبعد؟» - «وبعد، لم أميز كل شيء. لقد كان هناك شيء أحمر وأزرق.» - «سونيا، متى يعود؟ متى أراه من جديد؟ رباه، كم أخشى من أجل نفسي! إن كل شيء ... كل شيء يخيفني.»
ودون أن تجيب على كلمات صديقتها المطمئنة، استلقت ناتاشا على سريرها. ظلت فترة طويلة بعد إطفاء الشموع جامدة في مكانها، مفتوحة العينين، تتأمل ضوء القمر البارد خلال النوافذ المغطاة بالصقيع.
الفصل الثالث عشر
اعتراف نيكولا
بعد انقضاء أعياد الميلاد بوقت قصير، أعلن نيكولا لأمه حبه لسونيا وعزمه الأكيد على الاقتران بها، أصغت إليه الكونتيس التي كانت تلاحظ حركاتهما منذ مدة طويلة، وتتوقع تلك المسارة بصمت حتى فرغ من حديثه، ثم صرحت له بأنه يستطيع الزواج ممن يشاء، لكنها لا هي ولا زوجها لن يؤيدا مثل هذا الزواج. ولأول مرة في حياته، رأى نيكولا أن أمه غير راضية عنه، وأنها رغم كل الحب الذي تكنه له في صدرها، ما كانت توافق أو تلين. أرسلت تستدعي الكونت بلهجة باردة، ودون أن تمنح ابنها نظرة، فلما وصل هذا حاولت أن تفسر له الأمر بإيجاز متصنعة الهدوء، لكنها لم تستطع تمالك نفسها، فذرفت الدمع من الغضب وانسحبت. راح الكونت يؤنب نيكولا بلهجة مترددة، ويضرع إليه أن يعزف عن مشروعه، فلما رفض هذا التنكر لوعده الذي قطعه، أمسك الأب عن الإلحاح، ومضى يلحق بالكونتيس وهو يزفر خجلا، بات الكونت عند أتفه نزاع يقع بينهما يشعر بأنه جنى على ولده بتبديده ثروته، فما كان يستطيع إذن أن يحقد عليه لأنه فضل فتاة دون بائنة على وارثة غنية. وكان يرى في تلك المناسبة بوضوح أكثر، أن ثروته لو لم تبذر كان يجد لابنه زوجة أفضل من سونيا، وأن المذنب الحقيقي بالتالي هو نفسه وميتانكا - وكيل خرجه - وعاداته التي لا يرجى لها تبديل.
لا الأب ولا الأم ما عادا منذ ذلك اليوم يلمحان بكلمة إلى موضوع الزواج أمام ابنهما، لكن الكونتيس استدعت سونيا بعد بضعة أيام، وراحت تأخذ عليها بقسوة ما كانت هذه أو تلك تنتظرها، أنها أغرت ابنها وعقت بذلك محسنيها. كانت سونيا تصغي صامتة مطرقة الرأس إلى توبيخ الكونتيس القاسي دون أن تفهم قصدها منه. كانت على استعداد للتضحية بكل شيء في سبيل المحسنين إليها؛ لأن فكرة التضحية كانت حاضرة أبدا في رأسها، لكنها في الوقت الحاضر ما كانت تدري من أجل من تضحي بنفسها. كانت تحب نيكولا كذلك، ولا تجهل أن سعادته تتوقف على هذا الحب؛ لذلك فقد حبست نفسها في صمت يائس. ولقد قدر نيكولا أن الموقف لا يحتمل؛ لذلك قرر التفاهم مع أمه حول هذا الموضوع؛ توسل إليها بادئ الأمر أن تصفح عنهما - عنه وسونيا - وأن تمنحهما رضاءها، ثم هددها بأنه سيتزوج سونيا على الفور وبالسر إذا عمدوا إلى تعذيبها.
أجابته الكونتيس ببرود لم يعهد مثله فيها من قبل بأنه بالغ رشده، وأنه يستطيع كالأمير آندريه أن يتزوج دون موافقة أبيه، لكنها لن تعتبر أبدا هذه العاقة ابنة لها.
أغضبته كلمة «العاقة»، فرفع نيكولا صوته وقال لأمه: «إنه ما كان ليظن قط بأنها تحرضها على بيع نفسها، ولما كان الأمر كذلك؛ فإنه يخطرها لآخر مرة أنه ...»
لكنه لم يجد الوقت الكافي للنطق بالكلمة الحاسمة التي كانت الأم - إذا حكم على تعبيرات وجهه - تنتظرها بهول، والتي كان يمكن أن تترك ذكرى مريعة في النفوس؛ ذلك أن ناتاشا ظهرت على عتبة الباب شاحبة الوجه، صارمة الأسارير، وقد سمعت من مكانها كل شيء، هتفت: «نيكولا، إنك تنطق بالحماقات، صه صه! أكرر القول: صه!»
ثم استرسلت بصوت أقرب إلى الصراخ لتخنق صوت أخيها: «أماه، يا أمي الصغيرة، أمي العزيزة، إن الأمر لا يتعلق أبدا ب...»
كانت الأم تنظر برعب إلى ابنها، وتشعر بقرب وقوع انفصال نهائي بينهما، لكن عنادها واستعدادها للفصال ما كانا يسمحان لها بالاستسلام، قالت ناتاشا لأخيها: «انسحب يا نيكولا، سأفسر لك كل شيء، وأنت يا أمي الصغيرة العزيزة، أصغي إلي ...»
وعلى الرغم من أن كلماتها لم تكن تحمل أي معنى، فإنها مع ذلك أصابت الهدف. أخفت الكونتيس رأسها في صدر ابنها وهي تجهش في البكاء، بينما نهض نيكولا منسحبا وهو ممسك برأسه بين يديه.
وجهت ناتاشا مشروع الصلح توجيها حسنا: وعدت الكونتيس ابنها أن لا تضطهد سونيا، فوعد بالمقابل ألا يعمل شيئا في السر دون أن يطلع أبويه عليه.
وفي أوائل كانون الثاني، التحق نيكولا - وهو شديد الندم على النزاع الذي بينه وبين أسرته - بفيلقه، وهو عازم عزما أكيدا على أن يصفي كل مشاكله، ثم يستقيل ويتزوج سونيا التي كان مدنفا بحبها فور عودته.
أغرق رحيل نيكولا بيت روستوف في حزن أشد كآبة، ومرضت الكونتيس على إثر انفعالها. كانت سونيا تتألم لفراقها عن نيكولا، وكذلك للهجة الكونتيس العدائية التي ما كانت هذه تستطيع كتمانها حيالها. أما الكونت فأصبح أشد قلقا لسوء أحوالها المادية التي كانت تتطلب مزيدا من التدابير الحازمة؛ فبيع قصر في موسكو أو الأراضي الزراعية المجاورة لهذه المدينة يقتضي السفر إلى مكان العقار نفسه، لكن صحة زوجه الرديئة كانت تلجئه إلى تأجيل السفر يوما بعد يوم.
أصبحت ناتاشا التي احتملت الأشهر الأولى لغياب خطيبها بسهولة، بل وبمرح؛ تزداد انفعالا ساعة بعد ساعة ونفاد صبر. كانت فكرة انقضاء أجمل أيامها التي يمكنها قضاؤها في حبه بنجاح هباء ودون جدوى لا تني تعذبها، وكانت رسائل آندريه يزيد معظمها في ثورتها. كانت تحدث نفسها بمرارة بأنها في حين لا تعيش إلا في ذكره والتفكير فيه، يحيا هو حياة كل الناس، فيرى بلدانا جديدة، ويرتبط بمعارف جدد، ويتسلى بصحبتهم ومخالطتهم، وكلما ازدادت رسائله في بيان اهتمامه، سببت له سخطا زائدا، ما كانت تحب كذلك أن تكتب إلى خطيبها؛ لأنها لا ترى في ذلك إلا عملا مبتذلا مملا؛ إذ كيف يمكن التعبير كتابة عما يمكن لفمها أن يقوله بكل يسر وإجادة، وأن تنبئ به ابتسامتها ونظرتها؛ لذلك فقد كانت تكتب له رسائل مملة جافة؛ رسائل «كلاسيكية» ما كانت تعلق عليها شخصيا أية أهمية. تصحح أمها أخطاء الإملاء الواردة فيها على المسودة.
لم تسترد الكونتيس صحتها رغم الوقت، بينما بات يستحيل إرجاء السفر إلى موسكو أكثر من ذلك؛ كان يجب تهيئة لوازم العرس وبيع البيت، وكان يتوقع أن يذهب الأمير آندريه إلى موسكو مباشرة؛ حيث يقضي أبوه العجوز الشتاء، بل إن ناتاشا كانت تعتقد جازمة بأنه وصل إلى موسكو بالفعل.
وهكذا ظلت الكونتيس في الريف، بينما سافر زوجها ترافقه سونيا وناتاشا إلى موسكو في أواخر كانون الثاني.
الجزء الخامس
الفصل الأول
متاعب بيير
بعد خطوبة الأمير آندريه على ناتاشا، شعر بيير فجأة دون سبب واضح باستحالة متابعة حياته كالسابق. على الرغم من تعلقه المتين بالحقائق التي أطلعه عليها المحسن إليه، ورغم المسرات العميقة التي سببها له بحثه المحموم عن الكمال الداخلي، فإن إعلان تلك الخطوبة - وعلى الأخص موت جوزيف ألكسيئيفيتش الذي بلغه في ذات الوقت تقريبا - سلبا كل بهجة الحياة التي كان يحياها. لم يعد يرى فيها إلا القشور: قصره، وزوجته دائمة الشهرة، المالكة لالتفاتات شخصية سامية، وعلاقاته في كل بيترسبورج، ثم منصبه في البلاط بكل إجراءاته المسئمة. استبد به اشمئزاز مفاجئ فكف عن التدوين في مذكراته، وتحاشى صحبة الإخوان، وعاد يرتاد النادي ويفرط في الشراب ويعاشر العزاب. وبالاختصار، أخذ يتصرف بشكل جعل الكونتيس ليكلين تعتقد بضرورة توجيه لوم عنيف إليه. اعترف بيير أنها على صواب، وانسحب إلى موسكو تفاديا لتعريضها للوم.
عندما وجد نفسه من جديد في قصره الرحب، الآهل بعدد وفير من الخدم، الذي تقطنه الأميرات اللواتي ازددن شبها بالمومياء على الزمن، وعندما رأى من جديد وهو يخترق المدينة كنيسة «عذراء أيبيريا» ذات الأضواء التي لا تحصى، والشموع التي تشع أمام التماثيل المقدسة المكسوة بالألبسة المذهبة، وساحة الكرملن بثلجها الناصع، وشارع «رافان سيفتسوف» بعرباته وأطلاله، وعندما جدد اتصالاته بأولئك الشيوخ الذين كانوا ينهون حيواتهم الطويلة بتمهل واطمئنان، وبسيدات موسكو الطيبات، وبالحفلات الراقصة، وبالنادي الإنجليزي. شعر أنه عاد أخيرا إلى قاعدته؛ كانت موسكو بالنسبة إليه المعطف المنزلي العتيق المريح الناعم القذر بعض الشيء، الذي أصبح ارتداؤه عادة أليفة لصاحبه غالية عليه.
استقبل مجتمع موسكو في بيير ابتداء من العجائز وحتى الأطفال استقبال الضيف المنتظر منذ أمد طويل، الذي لا يزال مكانه محفوظا. كان بيير في نظرهم أحن وأكرم وأكمل شخصية أصيلة، وأكثرها فتنة وذكاء ومرحا، ومثالا لشخصية الشريف الروسي عريق النسب الكاملة، الساهم الطيب. كان كيس نقوده خاويا دائما؛ لأنه مفتوح لكل الناس.
فإذا كان الأمر متعلقا بتمثيليات ذات ريع، أو بلوحات، أو بتماثيل مكروهة، أو بمدارس، أو حفلات لجمع التبرعات، أو بخلاعات، أو بتبرعات للمحافل الماسونية والكنائس، أو نشر مؤلفات، فإنه ما كان أبدا يجفو أحدا. ولولا ثلاثة أصدقاء كانوا يقترضون منه مبالغ كبيرة فارضين وصايتهم عليه؛ لوزع بيير كل شيء، ففي النادي ما كانت تقام حفلات ولا ولائم بدونه، فما إن يبتلع زجاجتين من خمرة «شاتو ماجو» حتى ينهار على أريكته المفضلة، فتعقد حوله حلقة، ويشرع في القصص والمناقشات والأحاديث المسلية، وإذا ما قامت منازعة هدأها بابتسامته الطيبة، أو بدعابة مستملحة. أما المحافل الماسونية، فكانت تفقد كل حيوية واهتمام إذا لم يكن حاضرا فيها.
وعندما كان ينصاع لإلحاح الجماعة المرحة في أعقاب عشاء خاص بالشباب، فينهض بابتسامته القلبية لمرافقتهم، كانت صيحات البهجة تدوي بين الشباب، وفي الحفلات الراقصة ما كان قط يرفض الرقص إذا كان هناك راقصة دون مراقص. كان يروق للفتيات وللسيدات الشابات لأنه كان يظهر حيالهن جميعا ودودا بشوشا، دون أن يغازل إحداهن، وخصوصا بعد العشاء، فكن يقلن عنه: «إنه فتان لا يميل إلى الجنس.»
وبالاختصار، كان بيير صورة حية لحجاب البلاط العاطلين الذين ينهون أيامهم بالمئات هانئين في موسكو.
لكم كان يرتعد سخطا لو أن بعضهم قال له قبل سبع سنين، عندما عاد من الخارج، أنه لا يرى شيئا يبحث فيه أو يتخيله، وأن طريقه قد سطر منذ الأزل، وأنه مهما عمل سيظل حتما ما يمكن لغيره أن يكون عليه لو كان في مثل مركزه! لو قالوا له مثل ذلك لما صدق أذنيه! أوليس هو الذي رغب تارة من صميم قلبه أن يقيم الجمهورية في روسيا، ورغب تارة أخرى أن يكون نابليونا، أو فيلسوفا، أو المفكر المدبر الذي سيهزم الإمبراطور؟ ألم يكن هو الذي اعتقد بإمكانية تجديد الجنس البشري الفاسد، وتمنى ذلك بكل شغف، وعمل على اكتساب الكمال التام لنفسه؟ أليس هو الذي أنشأ المدارس والمستشفيات وأعطى الحرية لفلاحيه؟
إلى أي شيء انتهى به كل هذا؟ لقد أفضى به الأمر بكل بساطة إلى أن يكون زوجا موثرا لامرأة غير مخلصة، وحاجب شرف، وهاويا للأطعمة الفاخرة يسخر عن طيب خاطر بعد الشراب بالدولة، وعضوا متنفذا في النادي الإنجليزي، وعضوا ملقى في المجتمع الموسكوفي. وبالاختصار، واحدا من أولئك الرجال الذين ما كان يجد في نفسه مزيدا من الاحتقار لهم منذ سبع سنين. ظل مدة طويلة لا يستطيع استساغة هذه الفكرة. كان أحيانا يعزي نفسه بقوله: إن هذا اللون من الحياة ليس إلا مؤقتا، لكنه بعدئذ يفكر بارتياع في عدد الناس الذين سلكوا مؤقتا في هذا المسلك مثله، وهووا في هذا النادي بكل شعورهم وأسنانهم ليخرجوا منه فيما بعد وقد فقدوا شعرهم وأسنانهم معا.
في ساعات الكبرياء كان يظن نفسه مختلفا كل الاختلاف عن أولئك الحجاب الذين كان يحتقرهم في الماضي، أولئك المخلوقات الحمقى المبتذلة الراضية عن نفسها بغباء، فيفكر حينئذ: «أنا، على العكس، لا زلت غير راض عن شيء، أرغب دائما في صنع شيء ما لخير الإنسانية.» لكنه في ساعات التواضع كان يقول لنفسه: «لكن من يدري؟ إنهم هم أيضا زملائي، قد ناضلوا مثلي بلا شك، وحاولوا أن يشقوا في الحياة طريقا خاصا بهم، ثم بلغوا إلى النقطة التي وصلت إليها أنا تحت ضغط الظروف والبيئة والمنشأ ، وهي تلك القوة البدائية التي لا يستطيع الإنسان لها دفعا.» وبعد زمن ما من إقامته في موسكو، أصبح يحب رفاقه في المحنة ويقدرهم ويرثى لهم، دون أن يفكر قط في احتقارهم.
صحيح إن بيير تحرر من نوبات اليأس العنيفة والسويداء واحتقار الحياة، لكن اضطرابه وبلباله المكبوتين في داخله كانا يعذبانه بشدة؛ كان يتساءل مرات عديدة في اليوم وهو يضطر بالرغم منه إلى تمحيص أحداث الحياة: «ما هو هدف كل هذا؟ أية مأساة تمثل على مسرح الحياة؟» ولما كان يعرف بالتجربة أن أسئلة كهذه تظل دون جواب، فقد كان يحول فكرته فورا، سواء بأخذ كتاب، أو بالنفور إلى النادي، أو باللجوء إلى جو من الثرثرة عند أبولون نيكولائيفنتش.
كان يحدث نفسه: «إن هيلين فاسيلييفنا التي ما أحبت قط إلا جسمها، والتي هي حمقاء تماما، تظهر في نظر الناس على صورة معجزة الفكر والخداعة، وإن نابليون بونابرت رأى نفسه محتقرا من كل الناس طوال الوقت الذي كان فيه رجلا عظيما، لكنه ما إن أصبح مشعبذا يثير الرثاء حتى سعى الإمبراطور فرانسوا وراء شرف منحه أخته على شكل سرية، والإسبانيون بواسطة رجال الكهنوت الكاثوليك يشكرون الله الذي منحهم النصر على الفرنسيين في الرابع عشر من حزيران، بينما الفرنسيون من جانبهم يعملون مثل هذا العمل، وبواسطة رجال الكهنوت أنفسهم؛ لأنهم هزموا الإسبانيين بالمثل في الرابع عشر من حزيران، وإخواني الماسونيون يقسمون على الدم أنهم على استعداد لتضحية كل شيء في سبيل أخيهم الإنسان، بينما لا يدفعون روبلا واحدا عند التبرعات. وبالمقابل، يساهمون في دسائس «آستره» ضد «الباحثين عن المن»، ويبذلون أقصى طاقتهم للحصول على البساط الإيكوسي الحقيقي الذي لا يعرف أحد عن معناه شيئا، حتى ولا واضعه. إننا جميعا ننشر القانون المسيحي بالصفح عن الإساءات وحب الغير. وتنفيذا لهذا القانون، أقمنا في موسكو وحدها أربعين كنيسة. مع ذلك، فإننا بالأمس فقط حكمنا على جندي تعس فار بالجلد بالسياط حتى تعقب الوفاة، فجاء القس، وزير هذا القانون القاضي بالحب والصفح ، وقدم الصليب لهذا الرجل ليقبله قبل نكلة الموت.»
وكلما فكر بيير على هذا النحو، أذهلته تلك المداهنة العامة المقبولة من كل الناس، رغم الاعتياد عليها، وكأنه يكتشفها للمرة الأولى. كان يحدث نفسه: «إنني أحس بهذا الرياء، هذه المضلة الخلقية التي نضيع فيها، ولكن كيف أفسر للآخرين كل ما أحس به؟ لقد حاولت ولاحظت دائما أنهم في أعماق نفوسهم يشاركونني الرأي، لكنهم يرفضون رؤية هذه الأكذوبة. لا شك أنه يجب أن يكون الأمر كذلك؟ ولكن أنا أين أجد لنفسي ملجأ؟»
وكما هو مألوف عند كثير من الناس، وبصورة خاصة الروسيين، كان يمتاز بالإيمان بالحق والخير، لكنه بنفس الوقت يمتاز كذلك بنفاذ البصيرة لرؤية الشر والكذب منتشرين حوله. وهذه الميزة كانت تحول دونه والاندفاع جديا في غمار الحياة. كان كل لون من ألوان النشاط ملطخا في نظره بالشر والكذب، وأي عمل شرع به لا يلبث الشر والكذب أن يرداه عن إتمامه، وهكذا كانت السبل كلها مغلقة أمامه على هذا الشكل. مع ذلك، كان يجب أن يعيش عيشا طيبا، وأن يشغل نفسه في شيء. لقد كانت تلك الأسئلة متعذرة الحل، شديدة التضييق على نفسه، حتى إنه عاد إلى مزاولة أعماله السابقة، لا لشيء إلا لنسيانها. أخذ يرتاد المحافل العقائدية والأندية، ويشرب بكثرة، ويجمع اللوحات، وينصرف إلى القراءة غالبا.
كان يقرأ كل ما يقع تحت يده، فإذا عاد إلى منزله لا يكاد خادمه يفرغ من نزع ثيابه حتى تكون يده قد حملت كتابا، ومن القراءة كان ينتقل إلى النوم، ومن النوم إلى هذر الأبهاء والأندية، ومن الثرثرات إلى الإفراط في الأكل، ومن هذا إلى الثرثرات فالقراءة فالخمر. أصبحت الخمرة ضرورة جسدية وفكرية تزداد قيمتها يوما بعد يوم. ظل يفرط في الشراب رغم أن الأطباء نصحوا له مرارا باجتنابه؛ لأنه خطر عليه بسبب متانة بنيانه، وما كان يشعر بالراحة الحقيقية إلا بعد أن يغيب في فمه الرحيب عدة أقداح من الخمر بصورة أقرب إلى اللاشعور، وحينئذ يحس بدفء لذيذ يعم كل جسمه، وبشعور من الحنان حيال أمثاله من بني الإنسان ، واستعداد للمس كل المسائل دون أن يتعمق في واحدة منها. وعندما يرتشف زجاجة أو زجاجتين، يرى بإبهام أن تلك العقدة شديدة التعقيد التي هي الحياة، التي تملؤه رعبا عادة ليست من الهول بالقدر الذي يتصوره؛ لأن تلك العقدة الرهيبة كانت تراود أفكاره أثناء الثرثرة، كما تراودها خلال القراءة بعد الطعام، وتدوي في رأسه باستمرار. فما كان غير تأثير الخمر يجعله يقول لنفسه: «إنه تافه. سأتدبره، بل إن عندي تفسيرا قائما، لكن اللحظة غير مناسبة. سأفكر في الأمر فيما بعد.» لكن «فيما بعد» هذا، ما كان يصل أبدا.
وفي اليوم التالي، بعد أن تتبدد أبخرة الخمر، تعود الأسئلة إلى ذاكرته من جديد أشد ما تكون تعقيدا واستحالة على الحل، مخيفة كعادتها، فيبادر من فوره إلى أخذ كتاب، ويظهر غبطة كبيرة إذا تلقى زيارة بعضهم.
أحيانا يخطر بباله أنه سمع بعضهم يقول إن الجنود في الخطوط الأمامية تحت النار يدأبون في إيجاد مشاغل لهم ليتسنى لهم نسيان الخطر بسهولة، وحينئذ يخيل إليه أن كل الناس يتصرفون تصرف أولئك الجنود. إنهم ينجون من الحياة بانصرافهم إلى حب الرفعة، أم المقامرة، أم النساء، أم التسلية، أم الخيول، أم الصيد، أم الخمر. هؤلاء بوضع القوانين، وهؤلاء بالاهتمام بالشئون العامة، فيفكر: «وبالنتيجة، لا شيء يهمل، ولا شيء يستحق الاهتمام كذلك، وكل شيء تافه. لو أنني استطعت فقط أن أنأى عن كذب الحياة وأتجنب هذه الرؤية الكريهة!»
الفصل الثاني
متاعب ماري
في بداية الشتاء، جاء الأمير نيكولا آندريئيفيتش بولكونسكي وابنته للإقامة في موسكو، وبفضل ماضيه وعقليته ومحتده، وبصورة خاصة بفضل هبوط الحماس الذي سببه جلوس ألكسندر، والشعور العدائي للفرنسيين الذي كان سائدا في المدينة حينذاك، لم يلبث أن أصبح موضع احترام خاص من الموسكوفيين ومركز المعارضة ضد الدولة.
هرم الأمير كثيرا تلك السنة، فالغفوات المفاجئة ونسيان حوادث حديثة العهد مع تذكر وقائع عريقة في القدم، والزهو الصبياني حقا الذي تقبل به دور رئيس المعارضة الموسكوفية، كانت كلها دلائل واضحة تشير إلى ضعف الشيخوخة. مع ذلك، فقد كان العجوز إذا ما ظهر مساء - وبصورة خاصة في وقت الشاي - مرتديا فروته وشعره المستعار المذرور، وأثير من قبل أحدهم، فإنه كان يحاضر بصوته الحازم عن وقائع العصر الماضي، ويخلص منها إلى الحكم على العهد الحاضر بأحكام أشد حزما، الأمر الذي كان يوحي إلى كل المدعوين بشعور مماثل من الاحترام. وهذا النزل القديم بمراياه الهائلة، وأثاثه الذي يعود إلى ما قبل «الثورة»، وخدمة ذوي الشعر المستعار، وهذا الكهل من القرن الماضي الخشن، ولكن محتدم الفكر الذي تملقه ابنته الوادعة، و«فرنسيته» الجميلة. كل هذا كان يتيح للزائرين مشهدا جذابا في جلاله، لكن الزوار ما كانوا يفكرون قط في أن هناك اثنتين وعشرين ساعة من الحياة الخاصة المكتومة إلى جانب الساعتين اللتين يقضونهما في المنزل.
أصبحت تلك الحياة الخاصة في الآونة الأخيرة شديدة النصب على الأميرة ماري، ففي موسكو ما كانت في الحقيقة تنعم بالامتيازات الكثيرة والمسرات التي تتيحها المدينة الكبيرة، بعد أن حرمت من أفضل مباهجها التي تقوم على علاقاتها مع «رجال الله»، وجمع حواسها في الوحدة، وهي المتع التي كانت تزكي شجاعتها في ليسيا جوري. ما كانت تختلط قط بالمجتمع. كانوا يعرفون أن أباها لا يسمح لها بالخروج وحيدة، وأنه بسبب سوء حالته الصحية لا يستطيع مرافقتها؛ لذلك سرعان ما كفوا عن دعوتها. وقد اضطرت إلى العزوف عن كل أمل في الزواج، بعد أن لاحظت البرود والعبوس اللذين كان أبوها يستقبل ويصرف بهما الشبان الذين يتوقع أن يطلبوا يدها، والذين كانوا أحيانا يغامرون بدخول المنزل، كذلك لم يعد لها صديقات؛ لأن في موسكو نزعت منها ما كانت تتوهمه بصدد شخصين كانت تعتبرهما حتى ذلك الحين مثالا للصداقة؛ فالآنسة بوريين التي لم تكن ماري تثق بها كل الثقة على أية حال، أصبحت الآن تثير نفورها، فراحت لأسباب معينة تقصيها أكثر فأكثر، وجولي التي كانت تقطن في موسكو، والتي ظلت تتراسل معها طيلة خمسة أعوام، أصبحت الآن غريبة عنها تماما منذ أن تقابلتا كلتاهما مقابلة مباشرة؛ لأن جولي التي جعلها موت إخوتها تصبح من أغنى وارثات موسكو، استسلمت بكليتها لإعصار المناهج العصرية؛ كانت محاطة دائما بزمرة من الشبان الذين فتحوا عيونهم فجأة على مختلف مواهبها كما كانت تظن. لقد كانت في تلك السن التي تشعر الأوانس الناضجات فيها أن الوقت قد حان ليجربن آخر سهم في جعبتهن، وأن مصيرهن يجب أن يقرر الآن، أو تفوت الفرصة إلى الأبد. وفي كل يوم خميس من الأسبوع، كانت الأميرة ماري تتذكر بابتسامة كئيبة أنه لم يعد لديها الآن من تكتب إليه؛ لأن جولي - جولي هذه التي أصبح وجودها لا يسبب لها أي فرح - كانت هنا، وأنهما تلتقيان كل أسبوع. كذلك المهاجر العجوز الذي رفض الزواج بالسيدة التي أمضى كل أمسياته عندها طيلة سنوات كاملة؛ لذلك أصبحت ماري الآن تأسف أن تكون جولي قريبة منها، الأمر الذي بات يحرمها كل تسار. مع من تستطيع الآن أن تتناجى؟ ومن تشاطره أحزانها التي طلب إليها أن تنجزها بتهيئة أبيه لتقبل زواجه؟ كانت أبعد من أن تنجز؛ لقد كان اسم الكونتيس روستوف وحده كفيلا بأن يخرج الأمير العجوز عن طوره، وهو الذي كان على أية حال على مزاج قاتل بصورة مستمرة تقريبا.
أضف إلى ذلك أن الدروس التي كانت تلقنها لابن أخيها، الذي بلغ السادسة من عمره، أخذت هي الأخرى تسبب لها هما جديدا. أخذت تلاحظ بهول أنها باتت سريعة الغضب على غرار أبيها، وكلما كانت تمسك بالحكك والألفبائية الفرنسية لتلقين ابن أخيها الدرس، كانت تقسم في سرها على أن لا تنفعل، خصوصا وأن الطفل كان يخاف سلفا أن يغضب عمته، لكنها في تعجلها المحموم في تعليم نيكولا وتلقينه كل ما تعرفه هي نفسها، كانت تثور لأتفه تغافل من الطفل، فتفقد الصبر وترفع الصوت، وأحيانا تجذبه من ذراعه وتضعه في الركن، لكنها ما تكاد تنجز تلك العقوبة حتى تغرق في دموعها حزينة على خبثها. وحينئذ ينشج نيكولا بدوره لمجرد المحاكاة، ويترك الركن دون إذن، ويأتي إلى جوار عمته، فيزيح عن وجهها يديها المبللتين بالدموع ويعزيها.
وأخيرا، وهنا أشد أحزانها وطأة، كان الأمير العجوز يصب عليها جام غضبه دائما. أصبحت قسوته المألوفة لونا من الوحشية، فلو أنه أرغمها على السجود كل الليل أمام الصور المقدسة، وأن تنقل الخشب والماء، فإنها ما كانت تجد ذلك عسيرا عليها، لكن ذلك الجلاد المحب أشد الجلادين قسوة؛ لأنه يحبها ويؤلم نفسه بالمثل في تعذيبها. ما كان يكتفي بإغاظتها وإذلالها، بل راح يقنعها بأنها مخطئة دائما وفي كل شيء. ومنذ وقت ما، أخذ حادث جديد؛ وهو اهتمام أبيها المتزايد بالآنسة بوريين، يزيد في عذاب ماري وإيلامها. أعلن الأمير مازحا، بعد أن اطلع على نوايا ولده، أنه سيتزوج بالآنسة بوريين، فبات الآن يتلذذ بذلك الاحتداد لمجرد إزعاج ماري وتجريحها، أو أن هذا - على الأقل - ما كانت تظنه وهي تراه يظهر نحوها مزيدا من الانفعال لقاء المزيد من التودد الظريف إلى الفرنسية.
وذات يوم في موسكو، وبحضور ماري التي فهمت أن أباها إنما يتعمد ما فعل، قبل الأمير العجوز يد الآنسة بوريين وجذبها إليه، ثم طوقها وراح يمطرها بملقه. تضرج وجه ماري ونفرت إلى غرفتها، وبعد برهة وجيزة، جاءت الآنسة بوريين إليها مشرقة الأسارير، باسمة الوجه، وظنت أنها ستشغلها بثرثرتها المتدخلة. لكن ماري سارعت تمسح دموعها، ومشت إليها بخطوة حازمة، ودون أن تدرك ما تصنع، صاحت في وجهها وهي ترتجف من الغضب: «إنها بشاعة.» صاحت في وجهها: «إنها دناءة، إنها مخزية أن ينتهز ضعف ...» لكنها لم تكمل جملتها، بل صاحت آمرة خلال دموعها: «اخرجي من هنا، اخرجي!»
وفي اليوم التالي، لم يحدثها الأمير بكلمة، لكنها لاحظت أنه أعطى الأمر على المائدة بأن تقدم الأطعمة إلى الآنسة بوريين قبل غيرها. وعند انتهاء الطعام، صب خادم المائدة القهوة بادئا بسيدته الشابة تماشيا مع مألوف عادته، وعندئذ دخل الأمير غاضبا وألقى بعكازه على رأس فيليب، وأعطى لساعته أمرا بإدخاله في الجندية. صاح وهو في أعنف الغضب: «ألم تسمع؟ لقد قلت ذلك مرتين! آه! إنك لم تسمع؟ إن الآنسة هنا تأتي في المقام الأول. إنها خير صديقة لي.»
وأضاف يخاطب ابنته التي وجه إليها الحديث لأول مرة منذ الأمس: «أما أنت، إذا سمحت لنفسك مرة أخرى أن تفقدي اتزانك أمامها؛ فسأريك من هو السيد هنا. اخرجي من هنا، واعملي على ألا أراك بعد الآن. واسأليها الصفح!»
قدمت ماري اعتذارها للآنسة بوريين ولأبيها، ثم حصلت منه على صفحه عن الخادم فيليب، الذي توسل إليها أن تتوسط من أجله.
ففي حالات كهذه، كانت ماري تشعر بإحساس يعتلج في نفسها يمكن تسميته بكبرياء التضحية. ذلك الأب الذي سمحت لنفسها بذمه، كان يبحث الآن عن نظارتيه مستعينا باللمس دون أن يراهما إلى جانبه، وينسى ما وقع منذ لحظة قصيرة، ويخطو خطوة متعثرة ثم يستفسر بنظرة قلقة عما إذا كانوا قد لاحظوا بوادر ضعفه، بل وأكثر من ذلك - وهو الأكثر سوءا - لقد كان يغفو فجأة على المائدة، عندما لا يكون هناك مدعوون يثيرونه ويحثونه، أو يسقط منشفته ويحني فوق المائدة رأسه المرتج. وعندئذ تقول ماري لنفسها: «إنه عجوز وضعيف. مع ذلك، أجد القحة لذمه!» فتروعها هذه الفكرة وتخيفها.
الفصل الثالث
أصفياء الأمير
في عام 1810، كان الطبيب العصري في موسكو فرنسيا اسمه الدكتور ميتيفيه، كان ذا قامة هائلة ودودا ككل مواطنيه، وبارعا براعة خارقة إذا آمن المرء بأقوال الناس، يستقبل من قبل العظماء وفي المجتمع الراقي استقبال الند أكثر مما يحتفون به كطبيب.
بناء على توصيات الآنسة بوريين، وافق الأمير نيكولا آندريئيفيتش الذي كان يسخر عادة من الطب، على أن ينهل من معلومات هذا الشخص، فألفه لدرجة أنه بات يستقبله مرتين كل أسبوع.
في عيد القديس نيكولا، جاءت موسكو بأسرها إلى باب الأمير لزيارته، لكنه ما كان يريد استقبال أحد باستثناء بعض خلصائه الذين أعطى ابنته قائمة بأسمائهم، مع أمر يقضي بأن تستبقيهم لتناول الطعام.
ظن ميتيفيه، الذي جاء في الصباح يقدم تهانيه، أن من المناسب أن «يخرق الأمر» بوصفه طبيبا، كما قال للأميرة ماري. وكأنه كان أمرا متعمدا، كان الأمير في يوم من أسوأ أيامه، دأبه الذهاب والمجيء في النزل، موبخا كل الأشخاص، متصنعا عدم فهم ما يقال له وعدم فهم الآخرين ما يقول، وكانت ماري أدرى الناس بذلك المزاج المتبرم المشاكس الذي ينتهي عادة بانفجار غاضب؛ لذلك فقد شعرت طيلة ذلك الصباح وكأنها أمام بندقية محشوة مرفوعة الزناد، تنتظر الضربة التي لا مفر منها. مع ذلك، فإن أي انفجار لم يحدث قبل وصول الطبيب. وبعد أن أدخلته، ذهبت تجلس في البهو قرب الباب حاملة كتابا في يدها، تستطيع من مكانها أن تسمع كل ما يحدث في المكتب.
لم تسمع بادئ الأمر إلا صوت ميتيفيه، ثم صوت أبيها، ثم الصوتين يتكلمان معا، وعندئذ فتح الباب على مصراعيه وظهر جسم الطبيب الضخم بناصيته السوداء مروع الأسارير، ثم الأمير وعلى رأسه قلنسوة من القطن، مرتديا ثوبا منزليا، وقد شوه الغضب وجهه، وجحظت عيناه خارج محجريهما، كان يزمجر: «ألا تفهم؟ لكنني أنا أفهم جيدا. جاسوس فرنسي، خادم بونابرت! اخرج من هنا يا جاسوس، اخرج من هنا أقول لك!» ثم صفق الباب وراءه.
هز ميتيفيه كتفيه واقترب من الآنسة بوريين التي استنفرتها الصيحات وأتت بها إلى هناك من الغرفة المجاورة. قال لها وهو يشير إليها أن تصمت: «إن الأمير في حالة غير جيدة. إنها الصفراء والانتقال إلى المخ. هدئي من روعك.» ثم أسرع خارجا.
وفي تلك الأثناء، كانت تسمع من وراء الباب أصوات خطوات في خفين مصحوبة بهتافات: «جواسيس! خونة! خونة في كل مكان! لا وسيلة لهدوء المرء في منزله!»
استدعى الأمير ابنته بعد رحيل ميتيفيه، وصب جام غضبه كله عليها. أخذ عليها سماحها لجاسوس بالدخول عليه. مع ذلك، فقد أوعز إليها، إليها شخصيا، بأن تغلق الباب في وجه كل من لم يسجل اسمه في القائمة. لم إذن أدخلت ذلك الحقير؟ لقد كانت هي سبب كل شيء. ما كان يستطيع إيجاد لحظة راحة معها، ما كان يستطيع أن يموت بهدوء. أعلن وهو يتجه نحو الباب: «نعم يا عزيزتي، يجب أن نفترق. اعلمي ذلك، نعم، اعلمي ذلك. إنني في أقصى درجات الإنهاك.»
وخشي بلا شك ألا تعتبر الأمر جديا، فعاد أدراجه وأضاف وهو يجهد في تمالك هدوئه: «لا تظني أنني أقول لك هذا في فترة غضب، إنني هادئ كل الهدوء. لقد فكرت طويلا واتخذت قراري لنفترق. ابحثي لك عن مأوى!»
لم يتمالك نفسه أكثر من ذلك، فرفع قبضتيه باتجاه ابنته بحركة غاضبة قد لا تتوفر إلا في الرجل الذي يحب في أعماق نفسه، وصاح وهو نفسه فريسة ألم عميق: «لو أن بعض الحمقى يتزوجها فيريحني منها!»
ثم صفق الباب واختلى مع الآنسة بوريين في مكتبه؛ حيث عاد تدريجيا إلى هدوئه.
وفي الساعة الثانية، وصل الأشخاص الذين دعاهم إلى مائدته وهم ستة.
كانوا الكونت روستوبتشين الشهير، والأمير لوبوخين، وابن أخيه الجنرال تشاتروف، وهو صديق سلاح قديم للأمير، وبيير بيزوخوف، وبوريس دروبيتسكوي، ممثلين عن الشباب، وكانوا جميعا ينتظرونه في البهو.
وكان بوريس خلال عطلته في موسكو قد نجح في تقديم نفسه مؤخرا للأمير نيكولا آندريئيفيتش، وحصل على رضاه بحذاقة، حتى إن هذا استثناه فدعاه خلافا لعادته باستبعاد الشباب غير المتزوجين.
لم يكن بيت الأمير يدخل في عداد ما يسمونه «بالمجتمع العصري» تماما؛ إذ لم يكن أحد يتحدث عن هذه الدائرة الصغيرة. مع ذلك، فإن ما من شيء كان أكثر فتنة من أن يقبل المرء فيه. وقد فهم بوريس هذه الحقيقة تمام الفهم عندما سمع الكونت روستوبتشين منذ ثمانية أيام مضت يرفض دعوة الجنرال - الحاكم - بمناسبة عيد القديس نيكولا، بالعبارة التالية: «إنني في مثل هذا اليوم أذهب دائما لتكريم بقايا الأمير آندريئيفيتش.»
فأجابه الجنرال: «آه! نعم، هذا صحيح وكيف حاله؟»
كان المدعوون المجتمعون قبل الغداء في البهو الأعلى على الطريقة القديمة، ذي الأثاث الأثري، يذكرون الناظر بمقام محكمة جليلة. كان الجميع صامتين، وإذا خرق بعضهم حجاب الصمت فإنما كان يتحدث بصوت منخفض. ظهر الأمير نيكولا آندريئيفيتش رزينا رصينا، وبدت الأميرة ماري أكثر خجلا، وأكثر شرودا من عادتها. ولم يكن المدعوون ليوجهون إليها الحديث؛ لأنهم كانوا يعرفون أنها ليست على مستوى ما يتحدثون به. كان الكونت روستوبتشين يمسك وحده بدفة الحديث شابكا الثرثرات المحلية بالأخبار السياسية الأخيرة. أما لوبوخين والجنرال العجوز فكانا يدليان بعبارة بين حين وآخر.
كان الأمير نيكولا آندريئيفيتش يصغي كما يصغي الحاكم الأعلى لتقرير ما، دون أن يظهر استيعابه لما يعرض عليه إلا بصمته، أو بتفوهه ببضع كلمات مقتضبة. كانت لهجة المحادثة توحي بسخط وتبرم عامين. كانوا يستشهدون ببعض الوقائع الخاصة ولا شك بتأييد النظرية القائلة أن كل شيء يسير من سيئ إلى أسوأ، ولكن - وهذا ما يدهش ويذهل - كان المتحدث يتوقف أو يجد نفسه متوقفا عند الحد الذي إذا تجاوزه دخلت شخصية الإمبراطور في مجرى البحث.
دار الحديث خلال الطعام حول الحادثة التي كانت حديث اليوم، وهي احتلال نابليون لدوقية أولدنبورج
1
الكبيرة، والمذكرة العدائية للإمبراطور، التي طوفتها الحكومة الروسية في تلك المناسبة على كل بلاطات أوروبا.
قال الكونت روستوبتشين الذي كان منذ بعض الوقت ينقل جملته تلك في كل مكان: «إن بونابرت يعامل أوروبا كما يعامل القرصان سفينة كسبها. إن ما يذهل هو طول الأناة والتعامي من جانب رؤساء الدول. ها إن الباب مهدد: يزعم بونابرت الذي لم يعد يرتبك بشيء أنه خلع رئيس الكثلكة عن كرسيه. مع ذلك، فإن كل الناس صامتون! إن الإمبراطور وحده احتج على اغتصاب دوقية أولدنبورج الكبرى. وهذا أيضا ...»
ما كان روستوبتشين ليوغل في الحديث أكثر من ذلك. لقد بلغ الحد الأقصى الذي لا يجوز تخطيه.
وقال الأمير العجوز: «لقد عرضوا على الغراندوق أملاكا أخرى لقاء أولدنبورج. إنه يتصرف مع الدوقات كما أتصرف مع فلاحي حينما أنقلهم من ليسيا جوري إلى بورتشارفو أو إلى أملاكي في ريازان.»
سمح بوريس لنفسه أن يقول بالفرنسية بلهجة محترمة: «إن الدوق أولدنبورج يحتمل مصابه بقوة شخصية وامتثال يستحقان الإعجاب.»
وفي الواقع أنه تشرف بتقديمه إلى الدوق خلال سفره من بيترسبورج إلى موسكو. نظر إليه نيكولا آندريئيفيتش وكأنه يريد الإجابة عليه، لكنه أمسك وقد قدر ولا شك أنه لا زال يافعا.
قال روستوبتشين بلهجة منطلقة شأن الرجل الذي يحيط تماما بالمسألة التي يتحدث عنها: «لقد قرأت اعتراضنا بصدد هذه القضية، وإنني أرثي للترجمة الهزيلة التي سطرت بها المذكرة.»
أمعن بيير النظر فيه بدهشة ساذجة: «بأي شيء يمكن أن تقلق الترجمة الهزيلة نفس الكونت؟» قال: «ما أهمية الأسلوب يا كونت إذا كان الأساس حازما؟»
فقال روستوبتشين بالفرنسية: «يا عزيزي، إنه من السهل أن يكون لنا أسلوب جميل بالخمسمائة ألف رجل الذين يشكلون جيشنا.»
وحينئذ فقط، فهم بيير لماذا كانت تلك الترجمة تثقل على الكونت. قال الأمير العجوز: «يخيل إلي مع ذلك أن الكتبة متوفرون. إنهم لا يعملون شيئا في بيترسبورج أكثر من الكتابة. ليس كتابة المذكرات فحسب، بل والمجلدات كذلك والقوانين الجديدة. إن «آندريوشاي» - يقصد ابنه آندريه - ألف منها مجلدا كاملا.»
وكرر وهو يضحك ضحكة مغتصبة: «نعم، إنهم الآن لا هم لهم إلا الكتابة.»
أعقب ذلك فترات صمت، ثم اجتذب الجنرال العجوز الأنظار إليه بسعال خفيف: «هل اطلعتم على الحادث الأخير الذي وقع في بيترسبورج خلال الاستعراض الأخير؟ لقد أظهر سفير فرنسا الجديد نفسه على شكل بديع!» - «موضوع المسألة على الضبط؟ لقد حدثوني عنها بإبهام. يقال إنه ارتكب هفوة في حضرة جلالته.» - «بينما كان جلالته يلفت انتباهه إلى فيلق قاذفي القنابل الذي كان يمر في العرض بخطوات الاحتفالات، ظل السفير على ما يبدو جامدا تماما حيال هذا المشهد، بل وسمح لنفسه كذلك بأن يقول إنهم في فرنسا لا يهتمون بهذه التفاهات، فلم يعقب الإمبراطور بشيء، لكنه في الاستعراض التالي أمسك عن توجيه الحديث إليه.»
عم السكون، بما أن الأمر يتعلق بالإمبراطور، فإنه لم يكن ممكنا أن يعلق أحد بحكم عليه، وأخيرا صخب الأمير العجوز: «إنهم سفهاء وقحون! هل تعرفون ميتيفيه؟ لقد طردته من منزلي هذا الصباح.»
ثم أضاف وهو يلقي نظرة غاضبة إلى ابنته: «لقد سمحوا له بالدخول رغم أنني أعطيت الأمر بألا يستقبل أحد.»
روى كل ما دار بينه وبين ميتيفيه، وبين الأسباب التي من أجلها يرى فيه أنه جاسوس، وعلى الرغم من أن حججه لم تكن على جانب كبير من الإقناع؛ فإن ما من أحد أبدى اعتراضا.
قدمت الشامبانيا بعد الشواء ونهض المدعوون لتهنئة الأمير، فاقتربت ماري كذلك. ألقى عليها الأمير نظرة باردة زوراء ومد لها خده المغضن الحليق. كانت أساريره تنطق بأنه لم ينس محاورتهما الصباحية، وأن قراره لا زال لا يقبل الإلغاء، لكنه إذا كان لم يتحدث في الموضوع قط، فما ذلك إلا على سبيل المجاملة في حضرة ضيوفه.
وعندما انتقل المدعوون إلى البهو لتناول القهوة عقد الشيوخ حلقة، احتد الأمير فيها قليلا واندفع في ملاحظاته عن الحرب المتوقعة.
كانت حملاتنا ضد بونابرت لا يمكن إلا أن تكون فاشلة - على زعمه - طالما كنا نبحث عن الاتحاد مع الخارج، ونشرك أنفسنا في مشاكل أوروبا، وهي السياسة التي جرت علينا معاهدة الصلح في تيلسيت. ما كان يجب علينا أن نحارب لا مع النمسا ولا ضدها، لقد كانت مصالحنا كلها مركزة في الشرق، وإن موقفنا الوحيد المحتمل حيال بونابرت كان في تسليح حدودنا ودعمها وإظهار حزمنا. بهذه الطريقة ما كان يجرؤ أبدا على الدخول في أراضينا كما سمح لنفسه بذلك عام 1807.
حينئذ قال الكونت روستوبتشين: «وكيف يا أميري نحارب الفرنسيين؟ هل نستطيع حقا أن نثور على أسيادنا وآلهتنا؟ انظر إلى شبيبتنا، انظر إلى نسائنا. إن آلهتنا هم الفرنسيون، وجنتنا هي باريس.»
رفع صوته قاصدا ولا شك أن يبلغ قوله كل المسامع: «الأزياء فرنسية، والأفكار فرنسية، والعواطف فرنسية، كل شيء فرنسي! لقد طردت منذ حين ميتيفيه؛ لأنه فرنسي، ولأنه حقير، لكن سيداتنا يفكرون على غير هذا النحو؛ إنهن يتهافتن على ركبتيه: كنت البارحة في سهرة، وكان ثلاث من السيدات الخمسة الموجودات في السهرة كاثوليكيات يطرزن في يوم الأحد بإذن خاص من البابا. أضف إلى ذلك أنهن عاريات تماما تقريبا، ويصلحن - حاشا احترامكم - إعلانا لحماقات عامة. آه يا أميري! إنني عندما أرى شبيبتنا تستبد بي رغبة انتزاع هراوة بطرس الأكبر من المتحف، وتحطيم أضلاعهم جميعا بها على الطريقة الروسية القديمة. كان ذلك سيشفيهم من جنونهم.»
لم يجبه أحد. كان الأمير ينظر إلى روستوبتشين باسما ويؤيده بهز رأسه.
أردف روستوبتشين وهو ينهض ويمد يده إلى العجوز بخشونة طبائعه المألوفة التي كان يمتاز بها: «هيا، وداعا يا أميري، حافظ على صحتك.»
فقال الأمير وهو يستبقي يد روستوبتشين بين يديه: «الوداع يا عزيزي الأعز، إنني لا أتعب من سماع أغنياتك.»
ثم مد له خده ليقبله.
وحذا كل المدعوين حذو روستوبتشين، فانصرفوا جميعا.
الفصل الرابع
حيرة ماري
أصاخت ماري السمع إلى ثرثرة الكهول دون أن تفقه منها كلمة واحدة. كان شيء واحد يشغل بالها، وهو أن المدعوين لم يلاحظوا الموجدة التي كان أبوها يظهرها حيالها، بل إنها لم تنتبه قط إلى العناية التي أحاطها دروبيتسكوي بها خلال فترة الطعام، وهو الذي كان يزورهم للمرة الثالثة.
نظرت بإبهام إلى بيير نظرة استفهام، وكان هذا يحمل قبعته في يده والابتسامة على شفتيه. اقترب منها بعد أن انسحب الأمير وظلا وحيدين في البهو، وقال وهو يهوي بكل ثقله على أريكة هناك: «هل يستطاع البقاء فترة أخرى؟»
أجابت: «ولكن بلى.» بينما كانت نظرتها تقول: «ألم تلاحظ شيئا؟»
وكعادته بعد كل طعام جيد، أحس بيير أن مزاجه على خير ما يرام. أخذ يبتسم وهو شارد البصر ثم سأل: «هل مضى على معرفتك لهذا الشاب وقت طويل يا أميرة؟» - «أي شاب؟» - «دروبيتسكوي.» - «كلا، إنني أعرفه منذ حين.» - «وهل يروق لك؟»
قالت وهي مشغولة البال دائما بالحوار الذي دار بينها وبين أبيها صباح ذلك اليوم: «نعم، إنه فتى جذاب. ولكن لم هذا السؤال؟» - «لأنني لاحظت شيئا: لقد جرت العادة على أن الفتى إذا جاء في عطلة من بيترسبورج إلى موسكو، فما ذلك إلا بنية الزواج بوارثة غنية.» - «حقا؟»
استرسل بيير باسما: «نعم، وهذا الفتى لا يرود إلا الأمكنة التي ينتظر أن يجد فيها فتيات من هذا النوع. إنني أقرأ أفكاره كما أقرأ في كتاب. إنه الآن لا يعرف بمن يبدأ هجومه، متردد بينك وبين الآنسة جولي كاراجين. إنه شديد الدأب على زيارتها.» - «هل يرتاد هذا البيت؟»
فقال آندريه بوداعة مستسلما لطبعه الساخر في دماثة الذي يأخذه على نفسه في أكثر الأحيان في مذكراته: «لكن بلى، وهل تعرفين الطريقة الجديدة المتبعة في مغازلة الفتيات؟»
قالت ماري: «كلا.» - «لكي يروق المرء في عيون فتيات موسكو، يجب أن يكون الآن سوداويا، وهو سوداوي مع الآنسة كاراجين.»
قالت ماري: «حقا.»
وراحت تتأمل وجه بيير الطيب وهي مستغرقة في حزنها، فكرت: «إنه لمما يروح عن نفسي أن أستطيع الركون إلى أحد، وإنني بالتأكيد أميل إلى أن أصارح بيير بكل شيء. سيعرف هذا القلب النبيل كيف يمدني بالنصح. نعم، إن ذلك يحسن إلي.»
سأل بيير: «هل تقبلين الزواج به؟»
هتفت ماري بالرغم عنها تقريبا، وبصوت تنديه الدموع: «رباه يا كونت، هناك أوقات أراني فيها على استعداد للاقتران بأي كان. آه، يا له من عذاب أن تحب أحدا يمت إليك بصلة قريبة، وأن تشعر ... أنه لا يمكن أن تسبب له إلا الحزن!»
استرسلت تقول بصوت مرتعد: «كم هي تعاسة مستعصية العلاج! في مثل هذه الحالات، ليس على المرء إلا أن يذهب، ولكن أنا، إلى أين أمضى؟» - «ماذا تقولين هنا يا أميرة؟»
انخرطت ماري في البكاء دون أن تتابع حديثها، استأنفت: «لست أدري ما بي اليوم، لا تلق بالا إلى قولي، انس ما قلته لك.»
تبخر سرور بيير، راح يلح على الأميرة بمحبة أن تبوح له بأتراحها، لكنها توسلت إليه من جديد أن ينسى ما قالته. إنها ما عادت تذكر هي نفسها ما كانت تريد قوله، وليس في نفسها من المتاعب إلا ما يعرفه من قبل: ألا يهدد زواج آندريه بتعكير الصفو بين الأب والابن؟
سألت لتدير دفة الحديث: «هل لديك أخبار عن آل روستوف؟ لقد بلغني أنهم سينزلون موسكو قريبا، ثم إنني أنتظر عودة آندريه بين يوم وآخر، كم أود من صميم قلبي أن يرى بعضهم هنا.»
سأل آندريه مشيرا إلى الأمير العجوز بصيغة الغائب: «وكيف ينظر إلى الأمر الآن؟»
هزت ماري رأسها. - «ماذا يمكننا أن نصنع؟ لم تبق إلا أشهر قليلة على انتهاء المهلة المحدودة، مع ذلك لا أتفاءل بوقوع شيء جيد. كل ما أرغب فيه هو أن أخفف عن أخي اللحظات الأولى لعودته. وددت لو رأيتهم يصلون قبل ذلك. آمل أن أنسجم معها. أنت الذي تعرفهم منذ زمن بعيد، قل لي بكل إخلاص الحقيقة الصحيحة: أية فتاة هي؟ وكيف تجدها؟ ولكن قل لي كل الحقيقة؛ لأنك تعرف أن آندريه يتعرض للشيء الكثير بزواجه بها ضد مشيئة أبيه؛ ولذلك أريد أن أعرف ...»
نبهت حاسة غامضة بيير أن وراء تلك الدورات في الكلام، وتلك التنويهات المتكررة بأن يقول لها «كل الحقيقة»، تخفي تدبيرا سيئ القصد تعده الأميرة ماري ضد زوجة أخيها المقبلة، وأنها تتمنى ولا شك أن يسفه بيير انتقاء آندريه، لكن بيير عبر عما يشعر به أكثر مما يفكر فيه، قال وقد تضرج وجهه دون أن يدرك السبب: «لست أدري بما أجيبك على سؤالك، إنني لا أعرف أبدا أية فتاة هي، لا أقدر على تحليل عقليتها. إنها بلا شك فاتنة جدا، ولكن لماذا؟ لست أدري. هذا كل ما أستطيع أن أقوله عنها.»
أطلقت ماري زفرة، كانت أمارات وجهها تنطق بوضوح: «هذا ما كنت أتوقعه تماما، ما كنت أخشاه.» سألت: «أهي ذكية؟»
فكر بيير هنيهة: «لا أظن! مع ذلك، نعم، على كل حال إنها لا تفكر في أن تكون حاذقة ذكية إلا قليلا. أن تكون فاتنة ساحرة.»
هزت ماري رأسها من جديد. - «آه! كم أود أن أحبها حبا جما! قل ذلك لها إذا رأيتها قبلي.» - «قيل لي إنهم سيصلون خلال الأيام القريبة القادمة.»
شرحت ماري نياتها لبيير: إنها تتوقع أن تتحد مع زوجة أخيها المقبلة لتتصرفا معا بشكل يجعل الأمير العجوز يألف هذا الوجه الجديد.
الفصل الخامس
خطوبة بوريس
لم يستطع بوريس أن يعقد صفقة زواج مربحة في بيترسبورج، فجاء يجرب حظه في موسكو، كان مترددا بين أغنى جانبين في هذه المدينة: جولي كاراجين والأميرة ماري، وعلى الرغم من قلة جمالها، فإن ماري كانت تجتذبه أكثر من الأخرى، لكنه كان يشعر بلون من الارتباك في مغازلتها، خلال مقابلتها الأخيرة يوم عيد الأمير العجوز، أضفى عبثا على أحاديثه صبغة عاطفية، لكن محاولاته كلها أخفقت أمام أجوبة ماري المساهمة التي كان ذهنها متجها دون شك وجهة أخرى. أما جولي فعلى العكس، لقد تقبلت تكريمه بأسلوب شاذ حقا، ولكن مألوف لديها وحدها.
كانت جولي في السابعة والعشرين أصبحت واسعة الغنى بموت أخويها، وفقدت كذلك كل جمالها، لكنها ما كانت ترى ذلك قط، بل تظن أنها أكثر فتنة من ذي قبل. كانت ثروتها تقيمها في ذلك الخطأ، وكذلك واقع كونها كلما تقدمت بها السن ضعف خطرها على الرجال الذين كانوا استنادا إلى ذلك ينعمون بحريات أوسع معها، وينتفعون بولائمها وسهراتها، ويختلطون بالبيئة اللطيفة التي تشكلت حولها دون أن يرتبط أحد منهم بوعد معها، فذلك الذي منذ عشر سنوات مضت كان يخشى التردد بانتظام على بيت تقطنه فتاة في السابعة عشرة من عمرها؛ خشية تعريض سمعتها للخطر والسقوط بالتالي في الشرك، أصبح اليوم يقوم بزيارات يومية لها، ويتصرف معها تصرفه حيال صديقة لطيفة لا أثر للجنس في علاقتهما، بعيدا عن المعاملة التي تقتضيها ظروف فتاة في سن الزواج.
كان نزل آل كاراجين ذلك الشتاء أبهج وأكثر ترحيبا من كل نزل في موسكو، فإلى جانب السهرات والولائم الخاصة، كانت صحبة عديدة يغلب فيها الرجال تجتمع فيه كل يوم، فيتناول المجتمعون طعام العشاء حوالي منتصف الليل ليتفرقوا بعد ذلك في الثالثة صباحا. ما كانت جولي تفعل حفلة راقصة أو نزهة أو عرضا إلا وتحضره، وكانت تظهر أبدا في ملابس على أحدث طراز. مع ذلك، فقد كانت تتظاهر باللامبالاة وتقول لكل قادم إنها لم تعد تؤمن بالصداقة أو بالحب، ولا بأية بهجة من مباهج الحياة. إنها لا تتوقع أن تكون هادئة إلا هناك. تبنت لهجة الفتاة التي أصيبت بصدمة عنيفة، أو أضاعت أعز مخلوق لديها، أو خدعت بقسوة وحشية. وعلى الرغم من أن شيئا من هذا القبيل لم يقع بعد في حياتها، فإنهم كانوا يتظاهرون بتصديقها حتى انتهى بها الأمر شخصيا إلى الاعتقاد بأنها اجتازت محنا كبيرة بالفعل، بيد أن ذلك الطبع الضجر ما كان يمنعها قط من البحث عن التسلية، كما لم يكن يمنع الشبان الذين يترددون عليها من قضاء وقت جميل عندها، فبعد أن يقدم كل مدعو نصيبه لسويداء مضيفته، ينصرف بكليته إلى الأحاديث الاجتماعية والرقص، والألعاب الفكرية، والمساجلات والقوافي، التي كانت شائعة جدا في ذلك البيت، لكن فئة قليلة من أولئك الشبان، ومن بينهم بوريس، كانوا يشاطرون جولي حظا وافيا من طبيعتها القاتمة. كانت تدخل معهم في محاورات طويلة منعزلة حول بطلان مباهج هذا العالم، فتريهم مجموعاتها المليئة بالصور والأفكار والقصائد التي تنعكس منها أشد الأحزان وطأة.
كانت جولي تتظاهر بمودة خاصة حيال بوريس، كانت ترثي ليأسه الفتي، وتقدم له العزاء الذي لا يستطيع تقديمه إلا من تألم بشدة في الحياة، ولما قدمت له مجموعتها، رسم فيها شجرتين كتب تحتهما: أيتها الأشجار الجافية، إن أغصانك القاتمة تساقط علي الظلمات والسويداء. وعلى صفحة أخرى رسم قبرا، وكتب:
الموت نصير والموت هادئ.
آه! ليس من ملجأ آخر ضد الآلام.
وجدت جولي كل هذا لذيذا، قالت له: «هناك شيء عميق السحر في ابتسامة السويداء، إنه إشعاع نور في الظل، نقطة وسط بين الألم واليأس تظهر العزاء الممكن.»
وكانت قد اقتطفت تلك الكلمة المأثورة من كتاب، فأجابها بوريس بالأبيات التالية:
أيتها الغذاء المسموم لروح شديدة الحساسية،
أنت التي بدونك لا تصبح السعادة ممكنة.
أيتها السويداء الحانية، آه! تعالي لتعزيني،
تعالي هدئي آلام اعتكافي المظلم،
وامزجي حلاوة سرية
إلى هذه الدموع التي أشعر بانهمارها.
كانت جولي تعزف لبوريس على العود أكثر «الليليات» توجعا، وكان بوريس يقرأ لجولي «ليز المسكينة» - وهي قصة عاطفية لكارامزين ظهرت عام 1792 - فيغص بالانفعال والتأثر، ويضطر إلى التوقف عن القراءة، وإذا وجدا بين جماعة كبيرة العدد كانت نظراتهما تتحدث إلى بعضها بأنهما الوحيدان اللذان يفهم أحدهما الآخر، وأن روحيهما توءمين.
كانت آنا ميخائيلوفنا تزور آل كاراجين بكثرة، وتحاول وهي تتظاهر بولائها للأم أن تحصل على معلومات وثيقة عن بائنة جولي. كانت تلك البائنة تتألف من إقطاعيتين في مقاطعة بانزا، وغابات في مقاطعة نيجني -نوفجورود. كانت آنا ميخائيلوفنا تراقب بحنو وهي مفعمة النفس بالاستسلام لمشيئة القدر، الحزن الكاذب الذي يقوم مقام همزة الوصل بين ابنها وجولي الثرية.
كانت تقول للفتاة: «دائما فتانة وسويداوية جولي العزيزة هذه! إن بوريس يؤكد لي بأنه لا يجد راحة القلب إلا عندك.»
ثم تضيف مخاطبة أم جولي: «لقد لقي كثيرا من الصدمات وهو ذو روح شديدة التأثر.» - «آه يا صديقي! كم أصبحت متعلقة بجولي هذه الأيام الأخيرة! لا أستطيع التعبير عن تعلقي! ثم من ذا الذي لا يحبها؟ إنها مخلوقة سماوية حقا. آه بوريس، بوريس!»
ثم تتابع بعد سكتة قصيرة: «وكم أرثي لأمها؛ لقد أطلعتني مؤخرا على رسائل وحسابات أرسلت من بانزا. إن لهم هناك إقطاعية كبيرة. إن المرأة المسكينة مضطرة إلى إنجاز كل هذه الأمور بنفسها، وهم يخدعونها خداعا كبيرا.»
كان بوريس يبتسم ابتسامات غير ملحوظة؛ لأن حيل أمه البسيطة كانت تثير في نفسه جذلا لذيذا، لكنه كان يصغي إليها، بل ويسألها أحيانا بعض التفاصيل عن إقطاعيات بانزا ونيجني-نوفجورود.
كانت جولي تنتظر منذ أمد طويل أن يعلن سويداويها العاشق عن نفسه مقررة ألا ترفض طلبه. لكن دافعا غامضا سببه التصنع عند الفتاة ورغبتها العنيفة في إيجاد زوج، إلى جانب الخوف من أن يضطر بعد الآن إلى التخلي عن كل حب حقيقي، كان يجعل بوريس يمسك عن القيام بالخطوة الأخيرة. كانت نهاية عطلته تقترب وهو لا يني يمضي أيامه كلها عند آل كاراجين، لكنه كان دائما يرجئ عزمه إلى الغد بعد تفكير عميق. كان بوريس كلما رأى وجه جولي الزاهي، وذقنها المدهونة أبدا بطبقة من الذرور، وعينيها المبللتين، وأساريرها القادرة على إبدال قناع السوداوية بالحماس الاصطناعي كذلك، الذي لن يعدم مشهد السعادة الزوجية أن يبعثه فيها، يشعر بعجزه عن النطق بالكلمات الحاسمة، رغم أنه كان يرى نفسه بعين الخيال مالكا منذ زمن طويل لإقطاعيات بانزا ونيجني-نوفجورود، التي كان يصرف - في خياله كذلك - الموارد التي تأتيه منها. وكانت جولي تلاحظ تردد بوريس، وتخشى أحيانا أن تكون أبعد من أن تروق له، لكن زهوها النسوي الذي يسارع لنجدتها في مثل تلك الحالات. كان يوهمها بأن الحب هو الذي يجعله خجلا مترددا، رغم كل ذلك كانت سويداؤها تبلغ بها مبلغ السخط. ولما كان رحيل بوريس قد بات قريبا، فإنها اعتزمت أن تتصرف بحزم، ولكن في تلك الأثناء بالذات وصل آناتول كوراجين إلى موسكو، وجاء يتردد بالطبع على منزل آل كاراجين، فلم تلبث جولي أن أبدلت سويداءها ومزاجها القاتم ببشاشة مجنونة، وأعربت للقادم الجديد عن أقصى درجات حسن الالتفات.
قالت آنا ميخائيلوفنا لابنها: «يا عزيزي، إنني أعرف من مصدر موثوق أن الأمير بازيل ما أرسل ابنه إلى موسكو إلا ليزوجه جولي، وإنني أحب جولي حبا جما، وزواجها بآناتول يؤلمني كثيرا، فما رأيك يا صديقي؟»
ارتعد بوريس خشية أن يصح اعتماده على موارده وحدها، وأن يكون الشهر الذي قضاه بالقرب من جولي يمثل دور السويداوي الجميل الشاق قد ضاع هباء، وأن يزيد موارد الإقطاعيات العتيدة التي كم أحسن توزيعها في خياله والتصرف بها، تنتقل إلى أيد أخرى، وخصوصا أيدي ذلك السخيف آناتول. هرع إلى منزل آل كاراجين وفي نيته الإعلان عن رغبته دون تردد. استقبلته جولي بوجه باسم، وروت له بلهجة جذلة مبلغ التسلية التي حصلت عليها في حفلة الأمس الراقصة، ثم سألته عن موعد رحيله. ولما كان بوريس عازما عزما أكيدا على إعلان حبه لها، فقد قرر أن يكون عطوفا رقيقا، لكنه استسلم لانفعال معين، فراح يعيب على النساء تلونهن، والسهولة التي يتنقلن بها من الحزن إلى الفرح. إن طباعهن - على حد قوله - تتوقف على طبيعة ذلك الذي يغازلهن.
ردت عليه جولي - وقد انكشف أمرها - أن كل ما يقوله صحيح، وأن النساء يحببن التقلب، وأن ما من شيء أشد ملالة من السويداء.
شرع بوريس يقول وهو ينوي وخز كرامتها: «في هذه الحالة لا أستطيع إلا أن أوصيك ...»
لكنه في تلك اللحظة تمثل المشهد المهين الذي قد يصبح فيه إذا ما اضطر إلى مغادرة موسكو دون أن يبلغ غايته، وهو الذي لم يضيع قط من قبل لا جهوده ولا وقته.
لذلك توقف في منتصف جملته، وأطرق بعينيه ليتفادى الشعور الكريه الذي كان يثيره في نفسه وجه جولي النكد المتردد. استأنف قائلا: «إنني ما جئت لأتشاجر معك، بل على العكس ...»
واختلس نظرة نحو جولي ليرى ما إذا كان يجب عليه أن يسترسل، اختفى انفعال الفتاة فورا وراحت تشخص إليه. «سوف أتدبر الأمر دائما بحيث أراها أقل وقت ممكن. لقد شرعت في الأمر فيجب إنهاؤه.» احمر وجهه ونظر في عينيها هذه المرة وقال لها: «إنك تعرفين عواطفي نحوك.»
ما كانت هناك حاجة ليقول أكثر من ذلك. كان سرور الظفر مشرقا على وجه جولي، لكنها مع ذلك أرغمت بوريس على أن يقول كل ما يقال في مثل تلك المناسبات، بما في ذلك أنه يحبها، وأنه لم يشعر قط نحو امرأة من قبل بمثل الشغف الذي يحسه نحوها. لقد كانت إقطاعيات بانزا ونيجني تسمح لجولي أن تتطلب هذا القول على أقل تقدير، كانت تعرف ذلك، وها هي ذي قد بلغت ما كانت تريد.
ودون أن يعاود المخطوبة التفكير في «الأشجار التي تساقط عليهما الظلمات والسويداء»، شرعا يضعان المخططات لإقامة نزل فخم في بيترسبورج، وراحا يبادلان معارفهما الزيارات، وانصرفا إلى الاستعدادات اللازمة لعرسهما اللامع.
الفصل السادس
ماري دميترييفنا آخروسيموف
وصل الكونت إيليا آندريئيفيتش إلى موسكو تصحبه ناتاشا وسونيا في أواخر كانون الثاني، بعد أن حال رجوع الأمير آندريه المرتقب دون انتظار إبلاغ الكونتيس؛ إذ كان يجب شراء الجهاز وبيع الحقل الذي في الضواحي، وانتهاز فرصة وجود الأمير العجوز لتقديم كنته المقبلة إليه. ولما كان نزل آل روستوف غير مدفئ، وكانت إقامتهما قصيرة في موسكو؛ لأن الكونتيس لم تكن معهم، فقد قرر إيليا آندريئيفيتش قبول ضيافة ماري دميترييفنا آخروسيموف التي كانت منذ أمد طويل تعرب عن استعدادها لإضافته.
دخلت العربات الأربع ساحة المنزل الذي تشغله ماري دميترييفنا في شارع فيتي إيكوري (الإسطبلات القديمة) في ساعة متأخرة من الليل. وكانت هذه السيدة التي زوجت ابنتها ودخل أبناؤها الأربعة في خدمات حكومية مختلفة؛ تعيش بمفردها فيه.
كانت دائما منتصبة القامة تقول لكل الناس رأيها بلهجة حازمة حاسمة دائما، وتبدو أشبه باحتجاج حي على الضعف والأهواء ومباذل بني الإنسان الآخرين، الأمر الذي ما كانت تقره من جانبها. كانت تنهض مبكرة فترتدي عباءتها، وتقوم بأعباء بيتها، ثم تنجز مهامها الخارجية. وفي كل يوم أحد، تذهب إلى الكنيسة بادئ الأمر، ثم تزور مختلف السجون؛ حيث كانت لها أعمال لم تطلع إنسانا عليها قط. أما بقية أيام الأسبوع، فكانت بعد أن تصلح زينتها تستقبل مراجعين عديدين بعروض مختلفة كانوا يحاصرون ردهتها دائما. ويعقب ذلك طعام الغداء - وهو دائما طعام فاخر دسم - فتتناوله عادة مع ثلاثة أو أربعة من المدعوين، فإذا ما فرغوا منه انتظموا حول مائدة لعب الورق.
وفي السهرة، كانت تكلف بعضهم بقراءة الصحف والكتب الحديثة على مسامعها، بينما تنشغل هي في أشغال الإبرة. ما كانت تخرج من بيتها أبدا، وإذا خرقت هذه القاعدة فعلى شرف أكثر الشخصيات سموا ورفعة.
لم تكن قد أوت إلى فراشها بعد حينما أعلن لها صوت باب المدخل الذي كان ثقله المعدل يصرف تحت دفع آل روستوف وخدمهم، وصول الضيوف. ذهبت تنتصب على عتبة البهو الكبير ورأسها مائل إلى الوراء، ونظارتاها فوق أنفها، فكانت النظرة الغاضبة التي شرعت تتأمل القادمين بها تنبئ بأنها ساخطة لوجودهم هناك، تكاد أن تطردهم، لكنها على العكس أخذت تعطي الأوامر لإحلال المسافرين وأمتعتهم في الأمكنة المناسبة، قالت وهي تشير إلى الحقائب دون أن تلقي السلام على أحد: «هل هذه للكونت؟ من هنا، وهذه للأوانس؟ هنا، إلى اليسار.» ثم صرخت بالخادمات: «وأنتن، ماذا تصنعن هنا عاقدات أذرعكن؟ هيا، لتهيئن السماور!»
وهتفت وهي تمسك ناتاشا المقرورة من معطفها: «كم تطور جسمك! وكم ازددت جمالا! بر...ر... يا للصقيع!»
ثم قالت للكونت وهو يهم بتقبيل يديها: «ولكن انزع فروتك، لا شك أنك متجمد الأطراف!»
وأخيرا قالت بالفرنسية معربة عن ودها المطاوع قليلا الذي تكنه للفتاة: «آه! مرحبا يا سونيتي الصغيرة.»
ولما تخلص المسافرون من فرواتهم الثقيلة واستراحوا قليلا من وعثاء السفر ، جاءوا يحتسون الشاي، فقامت ماري دميترييفنا تقبلهم كلا بدوره، قالت لهم: «إنني أبتهج من صميم قلبي لرؤيتكم في موسكو وفي منزلي.»
وأضافت بعد أن ألقت نظرة معبرة على ناتاشا: «لقد حان وقت مجيئكم فعلا. إن العجوز هنا، وهم ينتظرون وصول ابنه بين لحظة وأخرى. يجب أن تتعرفوا عليه حتما.»
ثم أضافت وهي تنظر إلى سونيا نظرة معبرة تدل على أنها لا تريد طرق هذا الموضوع في حضورها: «بيير، إننا سنتحدث بذلك فيما بعد.»
استأنفت وهي تلتفت نحو الكونت: «والآن، أصغ إلي قليلا، من تريد لقاءه غدا؟ من ستستدعي؟ شينشين؟ واحد. تلك المتباكية آنا ميخائيلوفنا؟ اثنان. إنها هنا مع ابنها. إنه يتزوج. الغلام! من أيضا؟ بيزوخوف؟ إنه هو الآخر هنا مع زوجته؛ لقد فر منها، لكنها جاءت تطارده. لقد تغدى عندي يوم الأربعاء الفائت.»
واختتمت قولها مشيرة إلى الفتاتين: «أما هاتان فسأقودهما غدا لتقدما نسكهما في «نوتردام ديبيري»، ثم تمر بعد ذلك عند السيدة أوبير- شالميه.
1
إنكما تريدان آخر الابتكارات ولا شك! على كل حال لا تقيسا علي؛ إنهم الآن يلبسون أكماما فضفاضة هكذا. جاءت أمس الأميرة إيرين فاسيلييفنا الشابة لتراني، وفي كل ذراع برميلان. إنه شيء مخيف! على أية حال، إن الأزياء كل يوم في هذا الوقت ...»
ثم سألت الكونت بلهجة قاسية بعض الشيء: «وأنت شخصيا، أية أعمال أتت بك؟»
أجاب الكونت: «إن كل شيء حل دفعة واحدة. يجب شراء الخرق، ثم هناك مشتر لحقلي وللبيت في موسكو. إذا تفضلت بالموافقة، فسأنتهز الفرصة للذهاب إلى مارينسكواي لقضاء يوم فيها، وسأعهد إليك ببنتي.»
قالت ماري دميترييفنا وهي تداعب بيدها الضخمة وجنة ناتاشا؛ «فليونتها» وصفيتها: «حسنا، حسنا جدا. سيكونان هنا في أمان أفضل من وجودهما في مجلس الوصاية. سآخذهما إلى كل الأمكنة التي يجب أن ترتاداها، وسأزجرهما وأدللهما كذلك.»
وفي صبيحة اليوم التالي، قادت ماري دميترييفنا الفتاتين إلى نورتردام ديبيري، ثم إلى مخزن السيدة أوبير-شالميه، التي كانت تخافها كثيرا جدا، وتقدم لها لوازمها دائما بخسارة في الأثمان لتتخلص منها بأسرع ما يمكن، وهناك أوصت ماري دميترييفنا على جانب كبير من الجهاز. وعندما عاد الجميع إلى البيت، استبقت ناتاشا وحدها، وأجلستها على أريكة بجانبها بعد أن صرفت الآخرين. - «هيا، ولنتحدث الآن قليلا معا. كل تهانئي: ها أنت ذي مخطوبة، ولقد حصلت على شاب طيب. إنني مبتهجة من أجلك، إنني أعرفه منذ أن كان بهذا القد - ومدت يدها على ارتفاع نصف متر من الأرض بينما كانت ناتاشا يستخفها الفرح - وإنني أحبه كثيرا، وكذلك كل أسرته. أصغي لي جيدا. إنك تعرفين أن الأمير نيكولا لا يرغب كثيرا أن يتزوج ابنه. إنه من القدماء، عجوز عنيد. بالطبع إن الأمير آندريه ليس طفلا، ولسوف يستغني عن موافقته! ولكن لا يليق الدخول إلى أسرة ضد رغبة الأب. من الأفضل معالجة هذا الأمر برفق وهدوء؛ إنك لست حمقاء، وستعرفين كيف تتصرفين لضمان شرفك. قليل من الحذق والنعومة وسينتهي كل شيء على ما يرام.»
كانت ناتاشا صامتة لا بفعل الخجل كما كانت ماري دميترييفنا تعتقد، بل من السخط لرؤيتها بعضهم يتدخل في شئون غرامها بالأمير آندريه. لقد كان ذلك الحب أمرا خاصا جدا عن كل ما يشغل الآخرين، حتى إن ما من أحد - على زعمها - يستطيع فهمه. إنها لا تحب ولم تعد تعرف إلا الأمير آندريه، وهو يحبها بالمثل، وسوف يقترن بها حال عودته التي أصبحت قريبة، فما كانت ترغب في أكثر من ذلك. - «كما ترين، إنني أعرفه منذ مدة طويلة، وكذلك أخته ماري التي أحبها كثيرا، يزعم المثل أن الكنائن والسلايف خشونة وحقد، لكن ماري لا تسيء إلى ذبابة. إنها ترغب أن تتحد معك، لقد قالت لي ذلك. غدا ستذهبان إلى هناك - أبوك وأنت - فكوني بشوشة معها وابدئيها بالإكرام؛ فأنت الأصغر سنا. وعندما يصل خطيبك، تكونين أنت قد تعرفت على الأب والأخت، وستتبادلون المودة حتى ذلك الحين، ألن يكون هذا أفضل؟»
فأجابت ناتاشا مكرهة: «بلا شك.»
الفصل السابع
مقابلة الأمير العجوز
في ذلك الغد، عملا بنصيحة ماري دميترييفنا، ذهب الكونت روستوف مع ناتاشا إلى منزل الأمير نيكولا آندريئيفيتش . لم تكن تلك الخطوة تروق له؛ لأنه كان في أعماق نفسه يخاف تلك المقابلة، كانت ذكرى مقابلتهما الأخيرة إبان تشكيل فرق المتطوعين ماثلة في ذاكرته، عندما احتمل من الأمير جوابا على دعوته إياه لتناول الغداء تعنيفا قاسيا؛ لأنه لم يقدم العدد المطلوب. وبالمقابل، كانت ناتاشا على أفضل مزاج، وهي في أجمل ثوب عندها، كانت تخاطب نفسها: «لا يمكن ألا يحباني على الفور، كل الناس يحبونني، على أتم استعداد لصنع كل ما يريدان، وعلى أتم استعداد لمحبتهما؛ هو لأنه أبوه، وهي لأنها أخته، حتى إنني لا أرى سببا يحدوهما إلى عدم محبتي.»
توقفت العربة في شارع «إيكز التاسيون» أمام نزل قديم ذي منظر محزن، ودخلا في دهليز، قال الأمير نصف مازح نصف جاد. لاحظت ناتاشا أن أباها شديد الارتباك، وأن صوته مضطرب عندما سأل عما إذا كان الأمير وابنته يقبلان الزيارة.
ما إن أعلن قدومهما حتى اعترى الحجاب والخدم لون من التشوش. أوقف الذي كلف بالمهمة في البهو الكبير من قبل أحد زملائه وراحا يتهامسان معا، وهرعت وصيفة إليهما، وأسرت لهما ببضع كلمات متعجلة ورد فيها ذكر سيدتها. وأخيرا جاء خادم عجوز صارم القسمات يعلن لآل روستوف أن الأمير لا يستطيع استقبالهما، ولكن الأميرة الآنسة ترجوهما التفضل بزيارتها. ظهرت الآنسة بوريين، فاستقبلت القادمين بأدب جم، ورافقتهما إلى الأميرة التي هرعت بدورها للقائهما بخطوات ثقيلة، ووجهها قلق تعلوه لطخات حمراء. كانت تجهد عبثا في إعطاء قسماتها مسحة الإشراق. لم تقع ناتاشا في نفسها موقع الاستحسان منذ الوهلة الأولى؛ لقد وجدتها مفرطة في التأنق مزهوة طائشة، ولم تكن ماري تدرك أنها قبل أن ترى زوجة أخيها المقبلة كانت مجهزة بغيرة لا شعورية من جمالها، وشباب تلك الطفلة وسعادتها، والحب الذي يكنه لها أخوها، الأمر الذي جعلها أميل إلى كرهها. لقد انضم إلى ذلك النفور الذي لا يضاهى اضطراب عميق؛ ذلك أن الأمير حال إعلان حضور آل روستوف راح يصرخ قائلا إنه لا يأبه بلقائهم، وإن ماري تستطيع مقابلتهم إذا حلا لها ذلك، ولكن ليحاذروا جميعا من الإتيان بهم إليه، فاعتزمت ماري استقبالهم، لكنها كانت تخاف في كل لحظة سخط أبيها الذي أخرجته تلك الزيارة على ما يبدو عن طوره.
قال الكونت وهو ينحني احتراما ويلقي نظرة قلقة حوله وكأنه يخشى ظهور الأمير فجأة: «كما ترين يا عزيزتي الأميرة. لقد جئتك بمغنيتي الصغيرة. كم أنا مسرور إذ تتعارفان! إنه مؤسف جدا أن يكون الأمير في صحة سيئة!»
وبعد بضع عبارات من هذا النوع، نهض وقال: «إذا سمحت لي، يا أميرة، تركت لك ناتاشا لربع ساعة قصيرة؛ ريثما أقوم بزيارة قريبة من هنا، إلى آنا سيميونوفنا، وسأعود لآخذها.»
ابتكر إيليا آندريئيفيتش تلك الخدعة اللبقة ليسمح للكنة المقبلة وابنة حميها أن تتعارفا وتتناجيا بإخلاص، وقد اعترف بذلك لابنته فيما بعد، لكنه لم يصرح لها بأنه وفر على نفسه كذلك عناء مقابلة - ربما هائجة - مع الأمير، لكن ناتاشا خمنت قلق أبيها وبلباله فاغتمت للأمر. تضرج وجهها بالحمرة من أجله، وازداد سخطها على خجلها. شخصت إلى الأميرة بنظرة جريئة ومثيرة. كانت تعني أنها لا تخاف من أحد، وأجابت ماري الكونت بأنها سعيدة بذلك، وأنها ترجو الكونت أن يتأخر إلى أقصى وقت ممكن. وانسحب إيليا آندريئيفيتش.
على الرغم من النظرات الجزعة التي كانت ماري تسوقها إلى الآنسة بوريين؛ رغبة منها في البقاء منفردة مع ناتاشا، فإن هذه لم تتحرك قط، بل ظلت تدير دفة الحديث بإصرار حول المسرات وحفلات موسكو، وكان حادث الدهليز والخوف الذي أظهره أبوها، ولهجة الأميرة القسرية التي تظن أنها إنما تنعم عليها باستقبالها، كل ذلك جعل ناتاشا في حالة نفسانية سيئة. انطوت على نفسها إذن، واتخذت برغمها لهجة لامبالية جعلتها تزداد كراهة في نظر الأميرة. وبعد خمس دقائق من حديث عسير قسري، سمعت خطوات سريعة لرجل يحتذي خفين. ارتسم الرعب على أسارير ماري، بينما فتح الباب عن الأمير في معطفه المنزلي وقلنسوته القطنية، قال: «آه يا آنسة! يا آنسة ... الكونتيس روستوف إذا لم أكن مخطئا، تفضلي بمعذرتي. كنت أجهل يا آنسة. الله شهيد على قولي ، إنني أجهل أنك شرفتنا بزيارتك. ما كنت أتوقع رؤية أحد غير ابنتي. تفضلي بمعذرتي على ثوبي. الله شهيد على قولي، كنت أجهل ...»
وقد كرر قوله وهو يبرز كلمة «الله» بلهجة غير طبيعية وشديدة الكراهية، حتى إن ماري ظلت جامدة لا تجرؤ على رفع عينيها إلى أبيها، أو تحويلهما إلى ناتاشا.
وكانت هذه بعد أن وقفت ثم جلست لا تعرف كذلك أي سلوك تتبع، بينما كانت الآنسة بوريين وحدها تبتسم ببشاشة.
غمغم العجوز مرة أخرى: «تفضلي بمعذرتي، الله شهيد على أنني كنت أجهل.»
وبعد أن صعق ناتاشا بنظره من رأسها إلى قدميها، انصرف.
كانت الآنسة بوريين أول من ثاب إلى رشده بعد هذا المشهد، وبينما اندفعت في حديث حول صحة الأمير السيئة، ظلت ناتاشا وماري تتبادلان النظر، وكلما طال ذلك التفحص المتبادل دون أن تعتزم إحداهما التفوه بما يناسب المقام؛ ازداد نفورهما وكرههما لبعضهما.
ولما عاد الكونت لم تخف ناتاشا سرورها بعودته، وبادرت إلى الاستئذان، بلغ بها الحد مبلغ الحقد على تلك المخلوقة الهرمة الجافة. كانت تحقد عليها حقدا هائلا؛ لأنها وضعتها في مثل ذلك الموقف المغلوط، وقضت معها نصف ساعة دون أن تهمس بكلمة واحدة عن الأمير آندريه. راحت تحدث نفسها: «هل كان بمقدوري حقا أن أبدأها الحديث عنه، وأمام هذه الفرنسية أيضا.» وبنفس الوقت كانت أفكار مشابهة لهذه تعذب ماري، كانت تعرف تماما ماذا يجب عليها قوله لناتاشا. مع ذلك، فقد صمتت؛ أولا لأن وجود الآنسة بوريين كان يرعبها، ومن ثم لأنها كانت تحس بارتباك غريزي في التحدث عن هذا الزواج، وفي اللحظة التي غادر الكونت الحجرة فيها لحقت ماري بناتاشا بخطوات واسعة، وأمسكت بيديها ثم قالت لها وهي تزفر زفرة عميقة: «انتظري، كنت أريد ...»
نظرت إليها ناتاشا نظرة ساخرة غير متعمدة. استأنفت ماري: يا عزيزتي ناتالي، دعيني أقول لك: «كم أنا سعيدة إذ يجد أخي السعادة!»
توقفت لأنها شعرت بأنها لا تقول الصدق، ولاحظت ناتاشا ذلك التردد وخمنت السبب، قالت بوقار وبرود ظاهريين ، بينما كانت الزفرات تخنقها: «يخيل إلي يا أميرة أن الوقت غير مناسب للتحدث في هذا.»
وما كادت تخرج حتى فكرت: «ماذا فعلت؟ ماذا قلت؟»
تأخر ظهور ناتاشا على مائدة الطعام ظهر ذلك اليوم. حبست نفسها في غرفتها يخنقها الحزن وراحت تنشج بصوت مرتفع كالطفلة الصغيرة، بينما كانت سونيا منحنية فوقها تقبل شعرها وتقول لها: «ناتاشا، لم البكاء؟ ماذا يهمك هؤلاء؟ سوف ينتظم كل شيء، هيا!» - «آه! لو كنت تعلمين كم هو لاذع هذا الأمر. لقد استقبلوني كما تستقبل ...» - «كفي عن التفكير في ذلك يا ناتاشا. إنها ليست خطيئتك، أليس كذلك؟ إذن، لم تشغلين نفسك بذلك؟ قبليني، خذي ...»
رفعت ناتاشا رأسها وقبلت صديقتها في شفتيها، ثم أسندت وجهها المبلل بالدموع إلى كتفها. - «لا أستطيع القول، لست أدري. إنها ليست خطيئة أحد. بلى، إنها على الأرجح خطيئتي. ولكن كم هو مخيف كل هذا! آه لم لا يأتي؟!»
وعندما نزلت لتناول طعام الغداء كانت عيناها حمراوين. تظاهرت ماري دميترييفنا - التي كانت تعرف كيف استقبل الأمير الكونت - بأنها لا ترى وجه الفتاة المنكر، وظلت طيلة فترة الغداء تمزح بصوتها القوي الضخم مع الكونت والمدعوين الآخرين.
الفصل الثامن
حفلة الأوبرا
ذلك المساء ذهب آل روستوف إلى الأوبرا؛ حيث حصلت لهم ماري دميترييفنا على مقصورة. ما كانت ناتاشا ترغب في الذهاب، لكنها لم تستطع رفض دعوة موجهة بصورة خاصة إليها، وعندما ولجت البهو وهي في أبهى زينة لانتظار أبيها، وألقت نظرات على المرآة الكبيرة أقنعتها بأنها جميلة وجميلة جدا، شعرت بحزن متزايد، لكنه كان حزنا حانيا ضعيفا.
فكرت: «رباه! لو أنه كان هنا، فإنني لن أكون خجولة بغباء كالسابق، سأضمه بين ذراعي بكل بساطة، وأشد نفسي إلى صدره؛ فينظر إلي بتينك العينين المستطلعتين المستفسرتين اللتين طالما صوبهما إلي، ثم سأضحك حينذاك. وعيناه، آه، عيناه! كم أراهما الآن! وماذا يهمني بعد ذلك أبوه وأخته! إنه هو الذي أحبه، هو وحده؛ وجهه وعيناه وابتسامته التي تجمع بين الرجولة والصبوية بآن واحد. لكن الأفضل على أية حال ألا أفكر فيه أبدا، ألا أفكر في شيء، أن أنسى على الأقل لوقت ما. إن هذا الغياب سيقتلني، ها أنا ذا من جديد على استعداد للانتخاب.» أدبرت للمرآة وهي تصد دموعها بصعوبة شديدة. حدثت نفسها وهي تنظر إلى سونيا التي دخلت في تلك اللحظة مرتدية ثياب الخروج هي الأخرى وفي يدها مروحة: «كيف تعمل سونيا لتحب نيكولا بمثل هذا الهدوء، ولتنتظره كل هذا الوقت! وبمثل هذه الأناة، لا شك أنها تختلف عني كل الاختلاف. إنني لن أستطيع أنا صبرا.»
أخذت حاجة ملحة إلى الحنان تعذب في تلك اللحظة ناتاشا التي لم تكن تكتفي أن تحب وترى نفسها محبوبة: كانت تحس بالرغبة المهيمنة في تطويق المحبوب بذراعيها على الفور، وفي أن تقول له وتسمعه يهمس في أذنها كلمات الحب التي يمتلئ قلبها بها. أحست خلال الطريق وهي جالسة جنبا إلى جنب مع أبيها تنظر بعين متطيرة إلى انعكاسات أضواء المصابيح السريعة على زجاج باب العربة المغطى بالصقيع، بأن كلالها العاشق ينمو مضطردا. لم تعد تعرف مع من هي الآن، وإلى أي مكان تؤخذ، تبعت العربة أخيرا العربات الأخرى وعجلاتها تئن شاكية فوق الثلج، حتى بلغت مدخل المسرح، فقفزت ناتاشا وسونيا برشاقة منها، ثم نزل الكونت يساعده الخدم، واختلطوا جميعا بالمتفرجين الوافدين، وببائعي البرامج، حتى بلغ ثلاثتهم مدخل المقاصير في الوقت الذي كانت أصوات الآلات الموسيقية وهي تضبط، تتناهى إلى أسماعهم خلال الأبواب نصف المغلقة. همست سونيا: «ناتالي، شعرك ...»
هرع فاتح المقاصير باحترام وتقدم السيدتين ثم فتح المقصورة، فأصبحت الألحان الموسيقية أكثر وضوحا، وظهرت للناظرين خلال إطار الباب مجموعة المقاصير المضاءة بسخاء، تحتلها سيدات في أثوابهن الحاسرة عن أعناقهن، ثم القاعة الكبرى الصاخبة المزخرفة بمختلف أزياء الألبسة. أحاطت سيدة - كانت تدخل مقصورة مجاورة - ناتاشا بنظرة غير نسوية. لم يكن الستار قد رفع بعد، والموسيقى تعزف لحن الافتتاح. سوت ناتاشا ثوبها وتقدمت مع سونيا إلى مقدمة المقصورة، وسرحت ناظريها في المقاصير المقابلة. استبد بها شعور فجائي لم تشعر بمثله منذ زمن طويل؛ شعور تركز مئات من العيون على جيدها وكتفيها العاريين، فأيقظ في نفسها ثولا من الذكريات والرغائب والانفعالات، وأحدث تأثيرا لذيذا وأليما معا.
اجتذبت هاتان الفتاتان الجميلتان جمالا ملحوظا الانتباه العام، وكذلك الكونت إيليا آندريئيفيتش الذي احتجب زمنا طويلا عن الظهور في موسكو، ثم إن كل الناس كانوا يعرفون خبر خطوبة الأمير آندريه وناتاشا على شكل ما، ويعلمون أن آل روستوف يقطنون في الريف منذ ذلك الوقت، فراحوا يتفحصون تلك التي ستتزوج واحدا من أفضل المرموقين في روسيا.
زادت الإقامة في الريف ناتاشا جمالا، وكل الناس كانوا يعلنون ذلك، لكن الانفعال الذي كان يضيق عليها ذلك المساء زادها فتنة. كان ما يلفت النظر فيها ذلك الجمال والحيوية الكاملين المجتمعين إلى لامبالاة واضحة بكل ما يحيط بها، فعيناها السوداوان تنظران إلى الجموع دون أن تبحثا عن شخص معين. أسندت ذراعها العارية حتى ما فوق المفرق إلى حاجز المقصورة المخملي، وراحت يدها الدقيقة تتقلص وتنشر بصورة لاشعورية، وبإيقاع أثناء الافتتاحية وهي تدعك البرنامج، قالت سونيا: «انظري، هذه الآنسة آلينين مع أمها على ما أظن.»
وقال الكونت من جانبه: «يا إلهي، لقد ازداد ميخائيل كيريليتش سمنة. انظري إلى آنا ميخائيلوفنا إياها، يا للقلنسوة التي على رأسها! إن آل كاراجين وجولي وبوريس معهن. إنهما مخطوبان. وهذا يرى على الفور. لقد قدم دروبيتسكوي طلبه إذن؟»
وقال شينشين الذي دخل مقصورة آل روستوف: «بلى، لقد بلغني ذلك منذ حين.»
تبعت ناتاشا اتجاه نظرة أبيها، فرأت جولي جالسة إلى جانب أمها مشرقة الوجه، يثقل عنقها الضخم الأحمر، الذي كانت ناتاشا تعرف أنه مغطى بطبقة من الذرور، عقد ثقيل من اللآلئ، ومن ورائهما برز رأس بوريس الجميل ذو الشعر المصفف بعناية وهو يبتسم وينحني لسماع ما تقوله جولي. اختلس نظرة إلى آل روستوف، وهمس في أذن مخطوبته ببضع كلمات. - «إنهما يتحدثان عنا وعن العلاقات التي كانت لي معه؛ إنه يطمئن غيرة مخطوبته حتما مني. إنهما مخطئان ولا شك بقلقهما! ليتهما يعرفان إلى أي حد لا يشغلان تفكيري!»
وإلى ورائهما تربعت آنا ميخائيلوفنا بقلنسوتها الخضراء، وأساريرها المنتصرة، ولكن الخاضعة لمشيئة الله على عادتها. كان ذلك الجو الخاص بالمخطوبين الذي تعرفه ناتاشا حق المعرفة وتجله كل الإجلال يخفق في مقصورتهم. أشاحت ناتاشا البصر، وفجأة عادت إلى ذاكرتها مذلة زيارة بعد الظهر كلها.
حدثت نفسها: «بأي حق لا يريدني في أسرته؟ آه! من الأفضل ألا أفكر في الموضوع حتى عودته.» وراحت تتصفح الوجوه المعروفة والمجهولة التي تقع عيناها عليها في القاعة. كان دولوخوف جالسا في منتصف الصف الأول مسندا ظهره إلى الحاجز، وهو في ثياب فارسية، وشعره الأجعد مرفوع إلى الأعلى. كان يعرف أنه محط أنظار القاعة كلها، فيظهر من الارتياح كما لو كان في منزله، والتفت حوله شبيبة موسكو الذهبية، فأصبحت تشكل حرس شرف له.
لكز إيليا آندريئيفيتش سونيا بمرفقه، وأشار إلى المتيم السابق بهواها وهو يضحك، وقال لها: «هل عرفته؟»
ثم سأل شينشين: «من أين انبعث الآن؟ لقد افتقد تماما منذ زمن طويل.»
فأجاب شينشين: «صحيح، لقد كان في القوقاز، ومن هناك فر إلى إيران. يقال إنه أصبح هناك وزيرا. لست أدري لأي أمير مالك، بل ويزعمون أيضا أنه قتل أخا الشاه. وها إن نساء موسكو كلهن مجنونات به! دولوخوف الفارسي! إنهن لا يتحدثن إلا عنه، ولا يقسمن إلا به، ويتنادين لرؤيته وكأنهن بصدد تذوق أفخر أنواع السمك!»
وأضاف: «نعم، إن دولوخوف وآناتول كوراجين قد فتنا كل سيداتنا.»
وفي تلك اللحظة، دخلت سيدة طويلة القامة، جميلة، ذات ضفيرة ضخمة وكتفين عاريين رائعين، تحيط عنقها بصفين من اللآلئ الكبيرة، وجلست في المقصورة المجاورة ببطء يدل على نبالتها وسط حفيف ثوبها الحريري.
ألقت ناتاشا بالرغم منها نظرة إعجاب إلى ذلك الجيد، وذينك الكتفين، وتلك اللآلئ، وتلك الزينة، وبينما هي تتأملها للمرة الثانية، التفتت السيدة فتلاقت نظرتها بنظرة الكونت، وحينئذ أومأت له إيماءة خفيفة برأسها وهي تبتسم. تلك كانت الكونتيس بيزوخوف. مال الكونت نحوها، وهو الذي يعرف كل الناس، ودخل معها في الحديث: «لقد مضى زمن طويل لم أرك خلاله يا كونتيس؟ نعم، نعم، سأحضر لأقبل يدك، إنني في موسكو لأعمال ، وقد اصطحبت معي بنياتي، يقال إن السيمينوفا تمثل بشكل يدعو إلى الإعجاب. لقد كان الكونت بيير كيريلوفيتش دائما من خلصائنا، هل هو هنا؟»
قالت هيلين وهي تنظر إلى ناتاشا بعناية ملحوظة: «نعم، وكان يزمع المجيء.»
عاد الكونت إلى مكانه وقال لابنته بصوت خافت: «إنها جميلة، أليس كذلك؟» - «رائعة! إنني أفهم عشق الناس لها!»
وفي تلك الأثناء، انتهى عزف الافتتاحية، فقرع رئيس الجوقة قمطره بعصاه الدقيقة. هرع المتفرجون المتأخرون إلى احتلال أماكنهم في القاعة ورفع الستار.
ران سكون عميق في القاعة كلها، وأدار المتفرجون الشيوخ والشبان على السواء في ألبستهم الرسمية أو العادية، والسيدات كاشفات النحور والصدور، المتزينات بالحلي، عيونهم بتطلع نحو المسرح، فحذت ناتاشا حذوهم.
الفصل التاسع
كوراجين الفاتن
أقيمت في وسط المسرح «أرضية»، وزينت جنباته بمشاهد أشجار. أما الأفق فكانت تشكله قطعة قماش مدهونة. اجتمعت في الوسط فتيات شابات بأحزمة حمراء، وتنورات بيضاء، جلست إحداهن منتحية جانبا على موطئ تعلوه قطعة من الورق المقوى الأخضر ملصقة من الوراء وهي في ثوب حريري أبيض. راحت الفتيات ينشدن معا، فلما فرغن تقدمت ذات الثوب الأبيض نحو الفتحة التي يختفي فيها الملقن، وعندئذ اقترب منها رجل كانت سراويله الحريرية الملتصقة بجسده تبرز ضخامة ساقيه، وراح يغني وهو يحرك يديه، وقد رشقت ريشة في قبعته، وتمنطق بخنجر.
غنى ذو السراويل الملتصقة منفردا بادئ الأمر، ثم حان دور زميلته، وبعدئذ صمتا كلاهما واستأنفت الجوقة العزف، بينما راح الرجل يربت على يد زميلته ضابطا الإيقاع، منتظرا اللحظة الفنية للشروع في غناء ثنائي. وبعد أن غنيا صفق كل من في القاعة لهما واستزادوهما، بينما راح الممثلان اللذان كانا في دور زوج من العشاق ينحنيان باسمين ذات اليمين وذات الشمال.
ولما كانت ناتاشا قادمة من الريف، وفي حالة فكرية جدية، فإن ذلك المشهد بدا لها بلا شك غريبا، بل ومضحكا. كان يستحيل عليها أن تتتبع سير الحوادث، بل وأن تصغي إلى الموسيقى. ما كانت ترى غير قماش مصبوغ، ورجال ونساء مرقشين بشكل سخري يتحركون ويتكلمون ويغنون تحت ضوء عنيف. وبالطبع لم تكن تجهل معنى التمثيلية، لكن المجموع كان يبدو لها شديد التصنع والارتجال، حتى إنها راحت تشعر بخجل للممثلين حينا، وبرغبة قوية في الضحك حينا آخر. أجالت عينيها حولها محاولة أن تكتشف على أسارير المتفرجين آثار حالة نفسية مماثلة، لكن الوجوه المنتبهة كلها إلى ما يدور على المسرح كانت تعبر عن حماس مشكوك في إخلاصه، على ما بدا لها. حدثت نفسها: «ينبغي أن يكون الأمر كذلك بلا ريب.» راحت تفحص دوريا الرءوس المضمخة في القاعة، والنساء الحاسرات في المقاصير، وبصورة خاصة جارتها هيلين التي كانت شبه عارية تنظر إلى المسرح بابتسامة هادئة، دون أن تخفض عينيها متمتعة بالنور العنيف وجو القاعة الدافئ. استسلمت ناتاشا رويدا رويدا إلى لون من الثمل لم تحسه منذ أمد طويل، لم تعد تدرك ما تفعل وتعرف أين هي، ولا ما يدور تحت أبصارها؛ كانت تنظر دون أن ترى بينما كانت الأفكار الأكثر رعونة تمر في رأسها. استبدت بها رغبة بتسلق الحاجز وغناء المقطوعة التي غنتها الممثلة تارة، وبمضايقة كهل قصير جالس على مقربة منها بمروحتها، أو الانحناء نحو هيلين ودغدغتها حينا آخر.
خلال فترة توقف بين قطعتين غنائيتين، صر باب القاعة المجاور لمقصورة آل روستوف، وارتفعت خطوات متفرج متأخر، همس شينشين: «آه! هو ذا كوراجين.» التفتت الكونتيس بيزوخوف وابتسمت للقادم الجديد. تبعت ناتاشا نظرتها فشاهدت مساعدا عسكريا ذا جمال خارق يتجه نحو مقصورتهم وعلى وجه أمارات الترفع والبشاشة. ذاك كان آناتول كوراجين الذي لمحته من قبل في الحفلة الراقصة في بيترسبورج؛ كان يرتدي الآن ثوب المساعد العسكري تتدلى الشارات على «كتافته» الوحيدة. أخذ يقترب بمهابة واتزان كان يمكن أن يكونا مضحكين لو لم يكن على جانب كبير من الجمال، ولم يعرب وجهه المتناسق عن قناعة وجودة كاملة. وعلى الرغم من أن الفصل كان في سياقه، فإنه أخذ يمشي فوق سجادة الممشى وهو يدق بمهمازيه وحسامه دقا خفيفا، ويسير متمهلا شامخا برأسه الجميل المعطر، ولما وقع بصره على ناتاشا اقترب من أخته، وأسند يده المغيبة في قفاز إلى حافة المقصورة، ثم أومأ لها برأسه، ومال على أذنها وأخذ يهمس فيها وهو يشير إلى جارتها، قال: «ولكن فتانة!»
خمنت ناتاشا تلك الكلمات من حركة شفتيه أكثر مما سمعتها، وعرفت بما لا يقبل الشك أنها قيلت عنها. مضى بعدئذ إلى الصف الأول من المقاعد وجلس بجانب دولوخوف، بعد أن وكز ذلك الشخص الذي يحاول كل الناس الحصول على رضاه وكزة تدل على الألفة، خصه بغمزة مرحة من عينه ثم أسند ساقه إلى الحاجز.
قال الكونت: «كم يتشابه الأخ والأخت! وكم هما جميلان!»
قص عليه شينشين بصوت خافت فضيحة جديدة لكوراجين في موسكو، فأصغت ناتاشا إلى تلك القصة لمجرد أنه قال عنها إنها فاتنة.
انتهى الفصل الأول فنهض كل من القاعة واختلط الحابل بالنابل بين خارج وداخل.
جاء بوريس يحيي آل روستوف في مقصورتهم، فتلقى منهم تهانيهم بأقصى ما في الطاقة من بساطة، ثم دعا ناتاشا وسونيا نيابة بدلا عن مخطوبته لحضور زواجهما وهو رافع حاجبيه قليلا تطوف على شفتيه ابتسامة ساهمة، ثم انسحب. استقبلت ناتاشا بوريس ذاك الذي كانت مفتونة به في الماضي، وهنأته بزواجه بجذل باسمة، وبشيء من التظرف. كان كل شيء في نظرها بسيطا وطبيعيا بفضل حالة الثمل التي كانت عليها.
كانت هيلين نصف العارية الجالسة بالقرب منها تبتسم لكل الناس بطريقة موحدة، فمنحت ناتاشا بوريس ابتسامة من ذلك النوع.
لم تلبث مقصورة هيلين أن امتلأت وحوصرت بلفيف من الرجال المرموقين، الذين بدا من تصرفهم أنهم يفاخرون باطلاع كل الناس على معرفتهم بها.
ظل كوراجين مع دولوخوف طيلة الوقت الذي استغرقته الاستراحة وظهره إلى الحاجز، وعيناه شاخصتان إلى مقصورة آل روستوف. فهمت ناتاشا بسرور أنه يتحدث عنها، فجلست بشكل يسمح له برؤيتها من الجانب، وهي وضعية كانت - على ما تعتقد - تزيد من إبراز مفاتنها، وقبل بدء الفصل الثاني بقليل ظهر في القاعة بيير بيزوخوف الذي لم يره آل روستوف منذ أن وصلوا موسكو. بدا حزينا أكثر سمنة مما رأته عليه ناتاشا في المرة الأخيرة، مضى إلى الصفوف الأولى دون أن يلاحظ أحدا. استوقفه آناتول وقال له شيئا وهو يسير إلى مقصورة آل روستوف، ولما وقع بصره على ناتاشا انبسطت أساريره وسارع الخطو خلال صفوف المقاعد متجها نحوها. اتكأ بمرفقيه إلى المقصورة ودخل في حديث طويل مع ناتاشا.
وفي تلك الأثناء، بلغ مسامع الفتاة صوت رجل في مقصورة الكونتيس، وعرفت بغريزتها أنه صوت كوراجين. أدارت رأسها وقابلت نظرته، تصفحها وهو يبتسم بعينين غاية في الإعجاب والملق، حتى إنها شعرت بمزيد من الخجل لوجودها على هذا القرب منه، ولاحتمالها نظرته، وثقتها من أنها أعجبته دون أن تكون قد تعرفت به حتى تلك اللحظة.
مثلت مناظر الفصل الثاني أبنية مقبضة مأتمية، وصور القمر بواسطة ثغرة في الشاشة، ورفعت عاكسات الضوء عن الحاجز، وشرعت الطبول والكمانات الضخمة (كونترباس) تردد أصواتا خافتة مكتومة، بينما تقدمت من يمين المسرح ويساره فئة من الأشخاص في ملابس سوداء. راح هؤلاء يكثرون من الحركات، ويهزون في أيديهم أشياء تشبه الخناجر، ثم هرعت فرقة أخرى تنوي أخذ الفتاة التي شوهدت في الفصل الأول في ثياب بيضاء، والتي كانت الآن ترتدي ثوبا أزرق، لكنهم لم يأخذوها لفورهم على أية حال، بل غنوا طويلا معها. وعندما اصطحبوها أخيرا، ارتفع صوت معدني ثلاث مرات في الكواليس، وحينئذ سقط الممثلون جميعا على ركبهم، ودوت أصواتهم بصلاة. ولقد قوطعت هذه المشاهد المختلفة مرارا بصيحات الإعجاب من جانب المتفرجين.
أثناء العرض، كلما سرحت ناتاشا بصرها في القاعة؛ كانت تجد آناتول كوراجين مستندا بذراعه إلى مسند مقعده يلتهمها بنظره. كانت تشعر بلذة في رؤيته صريع فتنتها دون أن ترتاب في أن ينطوي ذلك على أي سوء.
عندما انتهى الفصل الثاني، نهضت الكونتيس بيزوخوف واستدارت نحو آل روستوف - وجيدها عار تماما - فاستدعت الكونت العجوز بإشارة من إصبعها الصغير المستتر في القفاز، ودون أن تعير الأشخاص الذين كانوا يدخلون مقصورتها التفاتا. دخلت معه في حديث جملته بأعذب ابتساماتها، قالت له: «قدم إلي فتاتيك الفاتنتين. كل المدينة تتحدث عنهما وأنا وحدي لا أعرفهما .»
نهضت ناتاشا وانحنت احتراما للكونتيس الجليلة. كانت إطراءات ذلك الجمال الشهير يلذ له لدرجة أن الدماء تصعدت إلى وجهه من الاغتباط.
استأنفت هيلين: «إنني أعتزم كذلك أن أصبح موسكوفية حقيقية، ألا تخجل من دفن مثل هذه اللآلئ في الريف؟»
كانت في الحقيقة تستحق لقب ساحرة؛ لقد كانت تنعم بمزية قول ما لا تفكر فيه، وإطراء الناس دون أن تتظاهر بذلك: «يجب أن تسمح لي يا عزيزي الكونت بالاهتمام بابنتيك. رغم أنني لست هنا لمدة طويلة، كما هو شأنك كذلك، فإنني سأعمل جاهدة على تسليتهما.»
وأضافت تخاطب ناتاشا وابتسامتها ثابتة على شفتيها: «لقد سمعتهم يتحدثون عنك كثيرا في بيترسبورج، وكنت في شوق كبير إلى التعرف عليك. نعم، لقد سمعت بك أولا عن طريق وصيفي دروبيتسكوي. هل تعرفين أنه سيتزوج؟ ثم عن طريق صديق لزوجي، بولكونسكي؛ الأمير آندريه بولكونسكي.»
أبرزت هذا الاسم بشكل يفهم معه أنها لا تجهل الرباط الذي يجمع بينهما، ثم طلبت إلى الكونت أن يسمح لواحدة من الفتاتين بقضاء الوقت حتى نهاية العرض في مقصورتها؛ لتزداد تعمقا في معرفتها، فانتقلت ناتاشا إلى مقصورتها.
صور المشهد الثالث قصرا سابحا في النور تزينه لوحات تمثل فرسانا ملتحين، وفي الوسط وقف شخصان؛ ملك وملكة بلا شك. قام الملك بحركة بيده اليمنى. غنى لحنا أميل إلى الرداءة والرعب ظاهر عليه، ثم اعتلى عرشا من القطيفة. أما الفتاة التي شوهدت أول مرة في ثوب أبيض ثم في ثوب أزرق، فلم تكن الآن مرتدية إلا قميصا وهي واقفة قرب العرش مشعثة الشعر. شرعت تغني قصيدة كئيبة وهي مستديرة نحو الملكة، لكن الملك استوقفها بإشارة صارمة، واندفعت زمرة من الرجال والنساء عاري السيقان من الكواليس وشرعوا يرقصون معا، ثم عزفت «الكمانات» لحنا هادئا خفيفا، فانفصلت إحدى النساء التي كان ذراعاها النحيلان يتنافيان مع ساقيها الضخمين عن الآخرين. وبعد أن اختفت فترة وراء الكواليس لتسوي حزامها، اقتربت إلى منتصف المسرح وراحت تقفز في الهواء وهي تضرب قدميها ببعضهما، وعندئذ انفجر كل من في القاعة مصفقين هاتفين: «مرحى !» ثم استقر رجل في ثوب سباحة في أحد أركان المسرح، وراح يقوم بقفزات ودورات كثيرة على دوي الطبول والصنوج. كان ذلك الرجل هو دوبور، الذي كانت تلك الحركات تعود عليه بستين ألف روبل في العام. صفق المتفرجون جميعا، أولئك الذين في القاعة وفي المقاصير وفي الأروقة العليا، وهتفوا له وحيوه بكل قواهم. توقف الرجل لتحيتهم وتوزيع الابتسامات كل صوب. أعقبه راقصون وراقصات آخرون، ثم صاح أحد العاهلين بكلمات على إيقاع الموسيقى، فدوت أصوات الممثلين جميعا في غناء جماعي. وفجأة هبت عاصفة وراح الموسيقيون يقرعون أعلى الطبقات على مختلف آلاتهم، واندفع الممثلون يجرون، ومن جديد سحب أحد الممثلين إلى الكواليس ثم أسدل الستار. عاد الصخب إلى أشده في القاعة، وفاض الحماس، وراح كل متفرج يهتف: «دوبور! دوبور! دوبور!» ولم تعد ناتاشا ترى شيئا غريبا في كل هذا، بل إنها أحست بلذة في التفرج وهي باسمة على ما حولها. سألتها هيلين: «إنه مدهش دوبور هذا، أليس كذلك؟»
فأجابت: «أوه! نعم.»
الفصل العاشر
في طريق الانهيار
سرى إلى المقصورة تيار هواء بارد خلال الاستراحة. كان آناتول وهو منحن محاذرا أن يصطدم بأحد.
قالت هيلين وهي تنقل طرفا قلقا من واحد إلى الآخر: «اسمحي لي أن أقدم لك أخي.»
أدارت ناتاشا رأسها البديع نحو ذلك الشاب الجميل، وابتسمت له من فوق منكبها العاري. جلس آناتول، الذي كان عن قرب على مثل جماله عن بعد، بجانب الفتاة وقال إنه ظل يرغب في أن يقدم إليها منذ ذلك اليوم الذي لن ينساه؛ يوم أن أسعده الحظ برؤيتها في حفلة ناريشكين الراقصة. كان آناتول يتظاهر أمام النساء أكثر بساطة وأحد ذكاء مما يظهر به أمام الرجال، تحدث إذن باندفاع واسترسال، فأحست ناتاشا بدهشة لطيفة حين لم تجد في هذا الرجل شيئا مرعبا، رغم ما يروى عنه من أشياء، وأن ترى له على العكس ابتسامة ساذجة هادئة وقلبية.
سألها عما تظن بصدد الرواية، وقص عليها أن «السيمينوفا» سقطت خلال العرض الفائت على الأرض أثناء قيامها بحركاتها، وفجأة قال بصوت منطلق وكأنه يعرفها منذ أمد طويل: «أتعرفين ماذا يا كونتيس؟ إننا ننظم حفلا تنكريا. يجب أن تشتركي فيه. سيكون مسليا جدا. الاجتماع العام لدى آل كاراجين، ستحضرين؛ أليس كذلك؟
لم يشح بعينيه عن وجهها طيلة الحديث، ولم يفتأ يتأمل جيد ناتاشا وذراعيها العاريين. كانت واثقة من أنه يتأملها بإعجاب، لكن ارتباكا متزايدا أخذ يمتزج بالبهجة التي كانت تحس بها، وعندما تحول أبصارها كانت تشعر بثقل نظرة آناتول على كتفيها، وحينئذ تعود دون شعور إلى البحث عن نظرته لتحول تأمله إلى وجهها، لكنها وهي تنظر إليه على ذلك النحو كانت تشعر بهول أن الحواجز التي أقامتها العفة بينها وبين الرجال الآخرين تنهار. ما كانت تستطيع أن تفسر لنفسها كيف غدت في غضون خمس دقائق على مثل هذا التقرب من هذا الرجل، فإذا أدارت رأسها ارتعدت خوفا من أن يمسك بيدها، أو يطبع قبلة على قذالها. ومهما بلغ حديثهما من الابتذال، فإنها كانت تفهم أنهما أضحيا أليفين ألفة لم تسمح لنفسها بمثلها مع أي رجل آخر. أخذت تستفسر هيلين والكونت بعينيها تسألهما عن معنى كل هذا، لكن هيلين التي كانت تتحدث مع جنرال لم تلحظ ذلك النداء. أما نظرة أبيها فكانت تقول لها: «إنك تتسلين، وأنا راض ومغتبط جدا.»
في إحدى تلك اللحظات من الصمت المرتبك التي ما كان آناتول خلالها يكف عن التحديق في ناتاشا بعناد بعينيه البارزتين، سألته هذه - لتحطم الصمت - عما إذا كانت موسكو تروق له، لكن هذا السؤال ما كاد يفلت من بين شفتيها حتى تضرج وجهها لطرحه؛ كان يخيل إليها أنها بالتحدث إلى هذا الرجل إنما ترتكب مخالفة وعيبا. ابتسم آناتول وكأنه يشجعها: «لم تكن موسكو تعجبني حتى اليوم؛ لأن النساء الجميلات هن اللواتي يجعلن المدينة جميلة؛ أليس كذلك؟ أما الآن فعلى العكس، إنني مغتبط جدا.»
ونظر إليها نظرة معبرة: «ستأتين لحضور الحفل، أليس كذلك يا كونتيس؟ تعالي.»
ومد يده نحو باقة ناتاشا وأردف وهو يخفت صوته: «ستكونين أجمل الموجودات، تعالي يا عزيزتي الكونتيس، وأعطني هذه الزهرة عربونا على مجيئك.»
شعرت ناتاشا بخجل معيب دون أن تفهم تماما الغاية المستترة وراء كلماته. لما لم تدر بم تجيب، أشاحت عنه متصنعة عدم سماع قوله، ولكن لم تلبث فكرة وجوده هنا، شديد القرب منها، أن أضجرتها من جديد.
تساءلت: «ماذا يعمل؟ هل هو غاضب ساخط علي؟ يجب تسوية هذا الأمر.» لم تستطع الإمساك عن إدارة رأسها ونظرت مباشرة في عينيه. تسلط عليها وجود آناتول القريب واطمئنانه، وجودة نفسه الحكيمة. ابتسمت ابتسامة شبيهة بابتسامته، وفكرت أنه لم يعد من حاجز يقوم بينهما.
ارتفع الستار من جديد، فخرج آناتول من المقصورة هادئا مبتهجا. عادت ناتاشا إلى مقصورة أبيها وهي خاضعة تماما لهذا العالم الجديد الذي ولجته. أصبح كل ما يدور حولها منذ ذلك الحين طبيعيا، لم تعد مقابل ذلك تفكر قط في قلقها وبلبالها من أجل خطيبها، والأميرة ماري، والحياة الريفية التي أمضتها. بدا أن كل هذا ملك للماضي، لماض عريق في القدم.
في الفصل الرابع، انبعث شخص يشبه الشيطان، وراح يفرط في الحركات ويغني حتى فتحت فتحة اختفى فيها، بل لعل هذا كان ما استطاعت ناتاشا أن تراه لشدة ما كانت مضطربة. أما سبب هذا الانفعال، فكان آناتول كوراجين الذي ما انفكت رغما عنها تلاحقه بعينيها، وعندما خرجوا من المسرح جاء واستقدم عربتهم وساعدهم على الركوب، وبينما هو يساعد ناتاشا على الصعود ضغط على ذراعها فوق المرفق. خجلت وتضرج وجهها، وغامرت بالنظر إليه: كان آناتول يتأملها بعينيه البراقتين وهو يبتسم ابتسامة حانية.
عندما وصلت ناتاشا إلى البيت فقط، شعرت بما حدث في أعماقها، وفجأة روعت عندما تذكرت الأمير آندريه، وبينما هم يتناولون الشاي بعد العرض، أطلقت صرخة ونفرت إلى غرفتها ووجهها قان.
حدثت نفسها: «رباه! لقد ضعت! كيف أمكنني أن أسمح له بذلك؟» ظلت فترة طويلة جالسة في مكانها تخفي وجهها القرمزي بين يديها، محاولة عبثا تنظيم مشاعرها الثائرة. بدا لها كل شيء معتما مريعا. هناك، في تلك القاعة الكبيرة المضاءة؛ حيث كان دوبور يقفز فوق ألواح ندية من الخشب على ألحان الجوقة، وهو في ثياب السباحة وفوقها سترة خفيفة، تلاحقه «المرحات» المتحمسة من أفواه الفتيات والشيوخ، ومن هيلين الجليلة ذات الابتسامة الهادئة؛ هناك في ظل هيلين تلك، كان كل شيء واضحا وبسيطا. أما الآن فعلى العكس، عندما أصبحت وحيدة منفردة مع نفسها، لم تعد تفقه شيئا. تساءلت: «ما معنى كل هذا؟ ما معنى ذلك الرعب الذي ألهمنيه؟ ما معنى هذا التقريع والتبكيت الذي أنا فريسة له؟»
ما كانت تستطيع الإفضاء بمكنونات قلبها إلا للكونتيس العجوز خلال إحدى زياراتها الليلية إلى غرفتها وفي سريرها. ما كانت تستطيع الإفصاح عن شعورها إلى سونيا التي لا يمكن أن تفهم شيئا من هذا الاعتراف، وهي التي لها أسلوبها الزاهد الشامل في النظر إلى الأمور، بل إن مثل هذا الاعتراف كفيل بترويعها. وعلى هذا، ما كان على ناتاشا إلا أن تعتمد على نفسها لتتعرف على حقائق الأمور في أعماقها.
تساءلت قلقة: «هل فقدت الإحساس بغرام آندريه أم لا؟» لكنها سرعان ما تطمئن نفسها بابتسامة وتفكر: «كم أنا حمقاء بطرح مثل هذا السؤال على نفسي! ماذا حدث بالفعل؟ لا شيء البتة. إنني لم أرتكب إثما، ولست مسئولة قط عما وقع. لن يعرف أحد بشيء، لن أراه بعد اليوم أبدا. نعم، إنه واضح، لم يحدث شيء، إنني لا أحس بوجوب الندم على خطأ ارتكبه. يمكن للأمير آندريه أن يحبني كما أنا، ولكن ماذا أصبحت أنا؟ آه يا رب! لم لا يكون هنا؟» استعادت ناتاشا السكينة برهة، ولكن لم يلبث شعور غامض أن قال لها إن طهر غرامها السابق لآندريه ونقاءه قد تكدر، طالما أن الأمر وقع على هذا النحو، وعندئذ عادت إلى ذاكرتها قسرا كل تفاصيل مداولتها مع كوراجين. عادت ترى وجهه؛ ذلك الفتي الجميل، وحركاته وابتسامته الحانية عندما ضغط على ذراعها.
الفصل الحادي عشر
نوايا كوراجين
استقام آناتول كوراجين في موسكو نزولا عند أمر والده الذي أرهقه أن يراه ينفق في بيترسبورج أكثر من عشرين ألف روبل في العام ، ويستدين مثلها من دائنين كانوا يطالبون الأمير العجوز بسداد دين ابنه.
وافق هذا للمرة الأخيرة على تسديد نصف ديون ولده بشرط واحد: أن يذهب آناتول من فوره إلى موسكو؛ حيث جعل الجنرال الأعلى يقبله برتبة مساعد، وأن يسعى جهده للزواج من وارثة غنية، الأميرة ماري مثلا، أو على الأقل جولي كاراجين.
قبل آناتول وسافر إلى موسكو. أقام عند بيير الذي استقبله بادئ الأمر في غير ترحاب، ثم لم يلبث أن ألفه وساهم معه في بعض مباذله، بل وأعطاه بعض المال بصفة قرض.
لقد نطق شينشين بالحقيقة: منذ أن وصل آناتول إلى موسكو، شده النساء فيها وبصورة خاصة؛ لأنه كان يهملهن ويلتفت إلى البوهيميات والممثلات الفرنسيات اللاتي كانت مقدمتهم الآنسة جورج عشيقة له. ما كان يتغيب عن حفلة من حفلات دانيلو وغيره من المرحين الصاخبين في موسكو، ويبارز خلال ليال طويلة أصلب السكيرين عودا، يحضر الحفلات الراقصة وكل السهرات التي تحييها الطبقة الراقية. وكان يغازل النساء أثناءها وهم يسردون عددا من مغامراته الناجحة، لكنه ما كان يقرب الفتيات، وخصوصا الوارثات الغنيات، اللاتي يمتاز معظمهن بالبشاعة. وكان الدافع إلى هذا التحفظ سبب حازم لا يعرفه إلا خلصاؤه: لقد كان متزوجا منذ عامين.
وفي الواقع أنه حينذاك، عندما كان في الفيلق المعسكر في بولونيا، أقنعه أحد أثرياء الريف أن يتزوج ابنته، ولم تمض فترة وجيزة حتى هجر آناتول زوجته لقاء دخل تعهد بتقديمه لحميه، فحصل بذلك على امتياز بالتظاهر بمظهر العزب.
كان آناتول دائم الرضا عن مصيره وعن نفسه وعن الآخرين، مقتنعا بغريزته بأنه إنما يعيش الحياة الوحيدة التي تلائم طبيعته، وأنه لم يسئ قط إلى أحد. كان عاجزا تماما عن إدراك ما ينجم من أسواء عن كذا أو كذا من تصرفاته، وما قد يسبب بعضها من انطباعات في نفوس الآخرين. كان يؤمن بقوة بأنه خلق في هذه الدنيا لينفق ثلاثين ألف روبل في العام، ويشغل مركزا مرموقا في المجتمع كما خلق البط ليعيش عائما على الماء. ولقد كان شديد القناعة بذلك، حتى إن الآخرين إذا ما رأوه أقنعوا أنفسهم بصحة رأيه، فلا يرفضون منحه الرتبة أو المنزلة التي يطلب، ولا يبخلون عليه بالقروض التي كان يجريها مع كل من تسنح له الفرصة بالاقتراض منه، دون أن يفكر طبعا بإعادة ما يقترض.
لم يكن مقامرا، أو - على الأقل - ما كان يبحث عن الربح، ولم يكن مزهوا ولا يأبه أبدا لما يقال عنه، كذلك كان نصيب اتهامه بالطمع أقل نجاحا. لقد أسخط أباه أكثر من مرة معرضا مركزه للخطر، مستهترا بكل القيم، ولم يكن بخيلا، بل كان يفتح كيس نقوده لكل مقترض. كان همه منصرفا إلى النساء والمسرات، ولما كان لا يجد شيئا دنيئا في أذواقه تلك، ولا يتصور قط أن يسبب تصرفه إرضاء لرغباته تلك أضرارا لسواه، فإنه كان يقدر نفسه بكل إخلاص وإيمان، ويحتقر الصعاليك والأنذال. والخلاصة أنه كان يشمخ برأسه وهو قانع الوجدان.
يعتقد أنصار المسرات في الحياة دائما بأنهم غير مذنبين، وهذه القناعة الساذجة عند مثل هؤلاء تركز على الصفح، شأنها عند النساء العابثات. «لسوف يصفح عنه كثيرا؛ لأنه كان أحب كثيرا، سوف يصفح عنه كثيرا؛ لأنه كان تسلى كثيرا.»
عاد دولوخوف الذي ظهر في موسكو بعد نفيه ومغامراته في العجم، وراح يعيش عن سعة؛ يجدد علاقاته مع كوراجين - صديقه القديم في بيترسبورج - ويستخدمه في أغراضه، وكان آناتول يعجب بعقلية صديقه واستهتاره، وكان دولوخوف - وهو في مسيس الحاجة إلى اسم كوراجين وعلاقاته ليجتذب الشبان إلى شباكه كمقامر - يفيد من آناتول فائدة كبيرة، ويسخر منه في أعماق نفسه. ثم إنه ما كان يخضع لغاية واحدة. لقد كان مجرد تسخير مشيئة آخر وإرادته وفق هواه متعة قائمة بذاتها وعادة، بل وحاجة.
أحدثت ناتاشا على آناتول تأثيرا قويا. وبينما هو يتناول العشاء بعد العرض راح يصف لدولوخوف وصف الخبير محاسن ناتاشا، ويطري ذراعيها وكتفيها وقدميها وشعرها، وأعلن له عن عزمه على ملاحقتها ملاحقة عنيدة. أما إلى أي غاية تقوده تلك الملاحقة؟ هذا ما لم يكن آناتول يفكر فيه. لم تكن نتائج تصرفاته المرتقبة تقلق باله قط.
قال له دولوخوف: «إنها جميلة يا عزيزي، لكنه جمال ليس لنا.» - «سأقول لأختي أن تدعوها لتناول الغداء. ماذا تقول؟» - «بل انتظر ريثما تصبح متزوجة.» - «إنك تعلم أنني أعبد الفتيات الصغيرات. إنهن يفقدن إحساسهن فورا.»
أجاب دولوخوف الذي كان يعرف زواج آناتول القسري: «لقد سقطت من قبل في حفرة حفرتها فتاة صغيرة؛ فحذار.»
استأنف كوراجين بضحكة مرحة: «لا يدع المرء نفسه يهزم مرتين.»
الفصل الثاني عشر
الخطوة الأولى
في اليوم التالي للعرض، لم يخرج آل روستوف ولم يأت أحد لزيارتهم. تداولت ماري دميترييفنا سرا مع إيليا آندريئيفيتش، فخمنت ناتاشا أنهما تحدثا عن الأمير العجوز ودبرا معا مشروعا معينا، الأمر الذي أقلقها وأسخطها معا. كانت تنتظر الأمير آندريه في كل لحظة، وقد أرسلت البواب استجابة لنفاد صبرها إلى شارع إيكزالتاسيون مرتين للاستطلاع. وفي كل مرة كان ذلك الرجل يعود ليقول لها إن الأمير آندريه لم يصل بعد. أبهظت ناتاشا شدة متزايدة؛ جاءت ذكرى مقابلتها مع ماري والأمير العجوز تنضم إلى نفاد صبرها واكتئابها بسبب غيابه «هو» إلى جانب قلق آخر ما كانت توفق في تبيان سببه. كانت تتصور دون انقطاع أنه إما أن لا يعود، وإما أن يحدث شيء ما قبل عودته. لم تعد تستطيع كسابق عهدها أن تفكر فيه بهدوء خلال فترات تأملاتها الطويلة في وحدتها، فلا تكاد صورة آندريه تنبعث في خيالها إلا وترافقها صورة الأمير العجوز وماري وكوراجين والعرض. ومن جديد تتساءل عما إذا لم تكن مذنبة، وهل لم تخن الموثوقة التي قطعتها للأمير آندريه. ومن جديد تعود إلى تصور أدق التفاصيل، وأتفه الكلمات والحركات، وتبدل قسمات ذلك الرجل الذي عرف كيف يوقظ في نفسها شعورا غامضا مخيفا. كانت تبدو لعيون المقربين إليها أكثر حيوية من عادتها، لكنها كانت أبعد ما تكون عن الهدوء والسعادة السابقين.
عرضت ماري دميترييفنا على ضيوفها صباح الأحد سماع القداس في كنيسة «دورميسيون أو تومبو»، قالت لهم وهي بادية الزهو لاستقلالها: «إنني لا أحب الكنائس العصرية. إن الله هو هو في كل مكان، لدينا قس ممتاز يقوم بالطقوس بشكل لائق، وكذلك الشماس؛ إنه قدوة. أما تلك الحفلات الموسيقية التي تقام في الأماكن المقدسة؛ فإنني أمقتها، إنها تدنيس ...»
كانت ماري دميترييفنا تحب يوم الرب حبا كبيرا، وتتهيأ للاحتفاء به، كان خدمها يغسلون الدار وينظفونها منذ يوم السبت تنظيفا تاما، فإذا جاء الأحد مضت هي وخدمها إلى الصلاة راضين، فلا يعملون عملا ذلك النهار. وكانت تضيف ألوانا جديدة من الأطعمة للسادة، وتسمح للخدم بشرب العرق إلى جانب الطعام المؤلف من أوزة مشوية وخنزير صغير، لكن ما من شيء في البيت ينبئ بالعيد أكثر من وجه ماري دميترييفنا العريض الصارم الذي تعلوه في مثل ذلك اليوم أمارات الجلال الراسخ.
بعد أن شربوا القهوة بعد القداس في البهو الذي نزعت منه اللبد، جاء خادم يعلن لماري دميترييفنا أن عربتها قد قربت، فنهضت السيدة الطيبة التي كانت مرتدية شالها الفاخر وأعلنت بلهجة صارمة أنها ذاهبة عند الأمير نيكولا آندريئيفيتش بولكونسكي؛ لتتفاهم معه حول موضوع ناتاشا.
وجاءت حائكة ثياب من قبل مدام شالميه بعد ذهابها، فمضت ناتاشا معها إلى الحجرة المجاورة وهي سعيدة بهذه التسلية. أغلقت الباب وراحت تستعد لتجربة أثوابها الجديدة. بدأت بحزام داخلي مشرج دون أكمام. وبينما كانت ناتاشا مائلة الرأس إلى الوراء تنظر في المرآة الكبيرة معاينة ظهر الحزام، تناهى إلى سمعها صوت محاورة محتدمة في البهو بين أبيها وشخص آخر ما لبث صوته أن صعد الدماء إلى خديها. كان ذلك الصوت هو صوت هيلين. لم تكن ناتاشا قد خلعت حزامها بعد عندما فتح الباب وظهرت الكونتيس بيزوخوف مشرقة الوجه، بابتسامتها البريئة الأنيسة، في ثوب من المخمل البنفسجي مرتفع الياقة.
قالت لناتاشا التي غدت أرجوانية اللون: «آه! يا لذيذتي! فتانة!»
ثم أضافت وهي تلتفت إلى الكونت إيليا آندريئيفيتش الذي كان داخلا في أعقابها: «حقا يا عزيزي الكونت، إن هذا لا اسم له: أن تكونوا في موسكو ثم لا تذهبوا إلى أي مكان! كلا، لا أريد أعذارا. إنني أستقبل هذا المساء بعض الأصدقاء. وستروي الآنسة جورج بعض الأشعار. فإذا لم تأتني بفتاتيك اللتين هما ولا شك أجمل من الآنسة جورج، فإنني لا أرغب بعد اليوم في معرفتك. إن زوجي غائب؛ لقد ذهب إلى تفير،
1
ولولا ذلك لأرسلته ليصحبكم. تعالوا حتما، هل تسمعون حتما، اعتبارا من الساعة الثامنة.»
حيت الحائكة التي كانت تعرفها بإشارة من رأسها، والتي انحنت أمامها باحترام كبير، ثم جلست في مقعد قرب المرآة الكبيرة وهي تنشر ثنيات ثوبها المخملي بحركة كيسة. استمرت تثرثر بطيبة نفس عميقة، وتكثر من تمجيد جمال ناتاشا وفتنتها. فحصت أثواب الفتاة فوجدتها مناسبة ذوقها، وراحت تطري بهذه المناسبة ثوبها الذي تلقته من باريز؛ إنه على أحدث طراز، ومن أفخر الأقمشة، ونصحت ناتاشا بأن تستقدم لنفسها واحدا مثله، واختتمت قولها: «على أية حال، إن كل شيء ينسجم معك يا فاتنتي.»
استخف الفرح ناتاشا فأشرق وجهها وانبسطت أساريرها بتأثير إطراء تلك الكونتيس بيزوخوف الفاتنة، التي بدت لها لأول وهلة عظيمة الجلال، منيعة الجانب، والتي راحت الآن تعرب لها عن كل هذه الطيبة. كانت على استعداد للافتتان بهذه المرأة المستحبة بقدر ما هي جميلة. أما هيلين فقد كانت من جانبها كلفة بناتاشا، ومن أجل ذلك جاءت ذلك اليوم إلى حيث ينزل آل روستوف. بدت لها فكرة التقريب بين هذين الشابين مستحبة مستملحة.
وعلى الرغم من السخط الذي أحست به مرة من قبل، حينما انتزعت ناتاشا في بيترسبورج بوريس منها، فإنها لم تعد تفكر في ذلك قط، بل راحت من صميم قلبها تتمنى لها الخير على طريقتها، وقبل أن تنصرف نأت «بمحميتها» جانبا: «لقد تغدى أخي بالأمس في البيت فأماتنا من الضحك؛ إنه لا يأكل شيئا في الآونة الأخيرة، ويتنهد دون انقطاع حسرة عليك، يا فاتنتي. إنه مجنون بك يا عزيزتي.»
اصطبغ وجه ناتاشا بلون قرمزي. - «آه! كيف يتضرج وجهها؟ كيف يتضرج وجهها؟ يا لذيذتي! إذن لقد اتفقنا، ستأتين، أليس كذلك؟ إذا كنت تحبين أحدا يا لذيذتي، فليس ذلك مبررا لتحبسي نفسك، حتى ولو كنت مخطوبة، فإنني واثقة من أن خطيبك سيسره أن تندفعي في المجتمع في غيابه بدلا من أن تذوي هكذا من الضجر.»
حدثت ناتاشا نفسها: «وهكذا، إنها تعرف أنني مخطوبة. لا شك أنهم تحدثوا في الأمر هي وزوجها بيير، هذا الذي هو الاستقامة نفسها، وضحكوا للمغامرة. وإذن لا يوجد في الأمر أي سوء.» ومن جديد أصبح كل ما كان يبدو لها رهيبا، شديد البساطة طبيعيا تماما بتأثير هيلين. فكرت وهي تحدق في هيلين بعينيها البريئتين المتسعتين: «كم هي مستحبة هذه السيدة الرفيعة! إنها تحبني من كل قلبها، بالتأكيد! ثم لماذا لا أرفه عن نفسي؟»
عادت ماري دميترييفنا في وقت الغداء، كانت أماراتها الكئيبة العابسة تدل على أنها منيت بهزيمة على يدي الأمير العجوز. لم يسمح لها انفعالها بأن تروي بهدوء تفاصيل الواقعة. أجابت على سؤال من أسئلة الكونت أن كل شيء على ما يرام، وأنها ستروي له كل شيء غدا، ولما اطلعت على دعوة هيلين أعلنت: «إنني لا أحب هذه ال «بيزوخوف»، ولا أنصحكم بمخالطتها.»
وأضافت تخاطب ناتاشا: «الآن وقد عدت، اذهبي؛ سوف يرفه عنك ذلك.»
الفصل الثالث عشر
حفلة هيلين
رافق الكونت إيليا آندريئيفيتش الفتاتين إلى منزل الكونتيس بيزوخوف. كان المدعوون - وهم كثرة - مجهولين كلهم تقريبا من ناتاشا. لاحظ أبوها باستياء أن الجانب الأكبر منهم كانوا ممن اشتهروا باستهتارهم. كان الشبان يشكلون حلقة في أحد الأركان حول الآنسة جورج، كان هناك بعض الفرنسيين، ومن بينهم ميتيفيه، الذي منذ مجيء هيلين إلى موسكو، أصبح من المترددين على بيتها، قرر الكونت البقاء مع فتاتيه مستغنيا عن اللعب، وأن ينصرف منذ أن ينتهي التمثيل.
كان آناتول واقفا قرب الباب مترقبا ولا شك وصولهم، وبعد أن حيا الكونت، اقترب من ناتاشا وتبعها، فما كادت تراه حتى أحست بذلك الإحساس الغريب، كما وقع لها في المسرح، الذي يناضل فيه الزهو القانع ضد الرعب الذي يحدثه في نفسها انهيار كل الحواجز الأخلاقية بين هذا الرجل وبينها.
استقبلت هيلين ناتاشا بمبادرة جذلة، وأكبرت جمالها وزينتها بصوت مرتفع، وبعد حين خرجت الآنسة جورج لارتداء ثيابها، فرصفت المقاعد لجلوس المدعوين وشغل كل مكانه. قدم آناتول كرسيا إلى ناتاشا وأراد أن يجلس بقربها، لكن الكونت الذي لم يكن يبتعد عن ابنته احتل المقعد المجاور، فجلس آناتول وراءها.
وقفت الآنسة جورج بذراعيها الضخمين العاريين ذوي «الغمازات»، وعلى أحد كتفيها شال أحمر، في الفراغ المخصص لها وسط المقاعد وقفة متأهبة، فاستقبلتها همهمة إعجاب. وبعد أن تصفحت الوجوه بنظرة قاتمة محزنة، راحت تستظهر أشعارا موضوعها: حبها المجرم لابنها. كانت ترفع صوتها في بعض المقاطع وتخفضه في مقاطع أخرى وهي تشمخ برأسها باعتداد، وأحيانا كانت تتوقف وترسل حشرجات وهي تدير في الموجودين عينين كبيرتين. هتف المدعوون من كل جانب: «معبودة، سماوية، لذيذة!»
لم تكن ناتاشا تسمع شيئا أو ترى شيئا وهي شاخصة بأبصارها إلى جورج الضخمة. شعرت من جديد أنها محولة نهائيا من ذلك العالم السحري، المختلف كليا عن الذي عاشت فيه من قبل، عالم لا يمكن تمييز الخير من الشر فيه، ولا العقل من الجنون. كان آناتول جالسا وراءها. ولما كانت تشعر به قريبا منها، فقد ظلت متشنجة في ترقب مغموم.
وبعد رواية الشعر، أحاط كل المتفرجين بالآنسة جورج مطلقين الأعنة لحماسهم. قالت ناتاشا لأبيها الذي نهض كالآخرين ومضى نحو الممثلة مع الجماعة: «كم هي جميلة!»
وقال آناتول الذي تبع ناتاشا: «عندما أراك أكون على رأي آخر.»
ثم انتهز فرصة وجد أنها ستسمعه وحدها وقال: «إنك لذيذة! منذ اللحظة التي ظهرت فيها لي لم أكف ...»
قال الكونت وهو يعود نحو ابنته: «تعالي يا ناتاشا، كم هي جميلة!»
لحقت ناتاشا بأبيها صامتة وهي تتفحصه بنظرة ذاهلة.
وبعد أن مثلت مشاهد أخرى، انسحبت الآنسة جورج، فدعت الكونتيس بيزوخوف ضيوفها إلى قاعة الرقص.
أراد الكونت أن ينصرف، لكن هيلين توسلت إليه ألا يفسد روعة الحفلة غير المنتظرة، وبقي آل روستوف. راقص آناتول ناتاشا على أنغام الفالس، وأعلن لها وهو يضغط على يديها وقدها أنه يحبها، وأنها رائعة. وخلال رقصة الإيكوسيز التي رقصاها معا كذلك، اكتفى آناتول خلال اللحظات التي كانا فيها وحيدين بالنظر إلى وجهها دون أن يتفوه بكلمة . تساءلت ناتاشا حينئذ عما إذا لم تكن حلمت أنها سمعت ما قاله خلال رقصة الفالس. وعند انتهاء الحركة التصويرية الأولى، عاد يضغط يدها من جديد. رفعت ناتاشا إليه عينين مروعتين، لكن نظرة آناتول وابتسامته كانتا مطبوعتين بحنان شديد الثقة، حتى إنها ما استطاعت أن تقول له كل ما أرادت قوله. أطرقت بعينيها وتمتمت: «لا تقل لي مثل هذه الأشياء؛ إنني مخطوبة، وأحب شخصا آخر.»
وبينما هي تغامر بنظرة أخرى إليه، رأت أن اعترافها لم يحزن آناتول ولم يزعجه. قال لها همسا: «لا تحدثيني عن هذا، ماذا يهمني؟ أقول لك إنني مجنون، عاشق مدنف بحبك. هل هي خطيئتي إذا كنت على مثل هذا السحر؟ حان دورنا.»
أخذت ناتاشا تنظر دون أن ترى بعينيها الجاحظتين الوحشيتين مرتبكة ساخطة، فبدت أكثر جذلا من مألوف عادتها. ما كانت تحس بما يدور حولها إلا لماما. بعد رقصة الإيكوسيز، شرع في رقصة «الجد» - وهي رقصة تصويرية ألمانية المنشأ كانوا ينهون بها حفلات العرس الراقصة، كانت شائعة في روسيا - أراد أبوها أن يعود بها، لكنها طلبت إليه البقاء. تنقلت كثيرا وأبدلت مكانها، وتحدثت إلى هذا وذاك، لكنها ظلت تشعر بنظرة آناتول تلاحقها. تذكرت فيما بعد أنها طلبت إلى أبيها أن يسمح لها بالذهاب إلى غرفة الزينة لتسوية ثوبها، وأن هيلين تبعتها إلى هناك وحدثتها وهي ضاحكة عن حب أخيها. وفجأة رأت نفسها في مخدع صغير مع آناتول. لقد تركتهما هيلين منفردين: آناتول وهي، فأمسك هذا بيديها وقال لها بصوت ملق: «لا أستطيع المجيء إليك، ولكن هل يمكن ألا أراك بعد اليوم؟ إنني أحبك كالمجنون. هل أبدأ ...؟»
وسد عليها السبيل وأمال وجهه عليها؛ كانت عيناه اللامعتان شديدتي القرب من عينيها حتى إنها لم تعد ترى سواهما. همس صوت ملح: «ناتالي!»
وأمسك معصمي يديها حتى كاد يسحقهما: «ناتالي!»
وبدت نظرتها التائهة وكأنها تقول: «لست أفهم، ليس عندي ما أقوله لك.»
أطبقت شفاه ملتهبة على شفتيها، لكنها بنفس الوقت شعرت أنها أنقذت: ارتفع صوت خطوات واقترب حفيف ثوب، عرفت ناتاشا هيلين. ألقت على الشاب نظرة مروعة واتجهت نحو الباب مرتعدة قرمزية الوجه.
قال لها آناتول: «كلمة، كلمة واحدة بحق الله.»
توقفت؛ كانت في لهفة إلى سماعه ينطق بتلك الكلمة التي تفسر لها كل ما وقع، تلك الكلمة التي تستطيع أخيرا أن تجيب عليها.
غمغم وهو لا يدري ماذا يقول ولا شك: «ناتالي، كلمة، كلمة واحدة.»
وراح يكرر هذه العبارة حتى اللحظة التي بلغت هيلين مكانهما.
عادت هيلين وناتاشا إلى البهو، ومضى آل روستوف عائدين قبل تناول العشاء. لم تنم ناتاشا قط تلك الليلة؛ كانت مسألة مستعصية الحل تعذبها بإلحاح: أيهما تحب، آناتول أو الأمير آندريه؟ كانت تحب الأمير آندريه. تذكرت شدة حبها له، لكنها كانت تحب آناتول أيضا. حدثت نفسها: «وإلا هل كان يمكن أن يحدث كل هذا؟ إذا كنت استطعت بعد كل ما حدث أن أجيب بابتسامة على ابتسامته، إذا كنت بلغت هذه المرحلة، فإن معنى ذلك أنني أحببته منذ اللحظة الأولى. معنى ذلك أنه طيب ونبيل وكامل، يتعذر علي ألا أحبه. فماذا أعمل إذا كنت أحب هذا وذاك؟» تلك كانت المسألة المقلقة التي لم تجد لها جوابا.
الفصل الرابع عشر
رسالة آناتول
أقبل الغد بهرجه وأشغاله العادية. نهضوا جميعا وسعوا وثرثروا، وعادت الحائكات، ثم أقبلت ماري دميترييفنا، والتأم الشمل حول مائدة الشاي. كانت ناتاشا تطالع من حولها بهيئة كئيبة محاولة الظهور كمألوف عادتها وعيناها متسعتان، وكأنها تريد الإحاطة بأتفه نظرة توجه إليها.
وبعد الإفطار، وهو الوقت المفضل عندها، جلست ماري دميترييفنا على مقعدها، واستدعت ناتاشا وأباها الكونت العجوز إلى جانبها، وشرعت تقول: «حسنا يا أصدقائي، لقد فكرت في المسألة تفكيرا جديا، وإليكما نصيحتي: لقد كنت البارحة - كما تعلمان - في منزل الأمير نيكولا وتحدثت إليه. صحيح أنه رفع صوته متوهما! ولكن لا يمكن أن يغلق فمي أنا. لقد حدثته بكل صراحة عن وجهة نظري.»
سأل الكونت: «وماذا قرر؟» - «هو؟ إنه مأفون. إنه لا يريد الإصغاء إلى حرف واحد، ثم ما فائدة كل هذه المفاوضات ؟ لقد تعذبت تلك البنية الصغيرة حتى الآن بما فيه الكفاية. نصيحتي أن تنهيا أعمالكما هنا، وأن تعودا إلى مسكنكم في أوترادنواي، وأن ينتظروا جميعا بصبر.»
هتفت ناتاشا: «آه، كلا!» - «بلى، بلى، يجب العودة والانتظار بصبر. إن الخطيب إذا جاء إلى هنا؛ فإن الأمر لن ينتهي دون خصام. أما إذا كان وحيدا مع العجوز، فإنه قادر على الانتصار عليه بإقناعه، ثم يلحق بكم بعد ذلك.»
اقتنع إيليا آندريئيفيتش بحكمة تلك النظرية على الفور فأيدها، ذلك أن العجوز إذا أبدل رأيه، فإن من السهولة الذهاب لرؤيته، سواء في موسكو أو في ليسيا جوري، وفي الحالة العكسية، فإن زواجا خارجا عن رغبته لا يمكن أن يحتفل به إلا في أوترادنواي، قال: «إنك على حق تماما، إنني آسف لذهابي إلى منزله واصطحابي ناتاشا إلى هناك.» - «ليس هناك ما يستوجب الأسف، ما كان يمكنكم وأنتم في موسكو إلا أن تقوموا نحوه بتلك المجاملة مرغمين.»
وأضافت ماري دميترييفنا وهي تبحث في حقيبة يدها: «إذا أمعن في رفضه فذلك شأنه، وبما أن الجهاز حاضر فمن العبث الانتظار أكثر من ذلك. أما ما ينقص بعد، فإنني على استعداد لتأمينه لكم. إنني آسف لرؤيتكم تغادرونني، لكن ذلك أفضل، فاذهبوا يا أصدقائي. أتمنى لكم سفرا سعيدا.»
ولما عثرت أخيرا على ما كانت تبحث عنه في حقيبة يدها، قدمته إلى ناتاشا: كانت رسالة من الأميرة ماري: «إنها كتبت إليك. المسكينة! إنها تزعج نفسها كثيرا، إنها تخاف من أن تتوهمي أنها لا تحبك.»
أجابت ناتاشا بجرأة وهي تأخذ الرسالة: «مهما قيل، فإنني أعرف أنها لا تحبني.»
كان وجهها يعبر عن عناد بالغ في القسوة، حتى إن ماري دميترييفنا لم تتمالك أن قطبت حاجبيها وشخصت إليها بعينيها تتفحصها، قالت لها ناصحة: «لا تخاطبيني بمثل هذه اللهجة يا صغيرتي. إن ما أقوله هو الحق. اذهبي وأجيبي على رسالتها.»
مضت ناتاشا إلى غرفتها دون أن ترد لتقرأ الرسالة.
كانت الأميرة ماري تنبئها بأنها في حالة يائسة لسوء التفاهم الذي حدث بينهما، ومهما كانت عواطف أبيها ، فإنها كانت تتوسل إلى ناتاشا أن تصدق أنها لا تستطيع إلا أن تخص مودتها تلك التي اختارها أخوها. إنها مستعدة للتضحية بكل شيء في سبيل سعادة آندريه.
استرسلت: «على كل حال، لا تظني أن أبي يبيت لك العداء؛ إنه شيخ عجوز مريض يجب معذرته، إنه طيب وكريم، وسينتهي به الأمر إلى محبة تلك التي ستبني سعادة ابنه.»
ثم كانت ماري تسألها أن تتفضل بتحديد الوقت الذي يمكنها أن تراها فيه مرة أخرى.
وبعد أن قرأت هذه الرسالة، انصرفت ناتاشا إلى كتابة الجواب. سطرت بصورة آلية «عزيزتي الأميرة.» ثم توقفت، حدثت نفسها أمام الرسالة التي شرعت في كتابتها: «ماذا يمكنها أن تكتب بعدما حدث بالأمس؟ كلا كلا، إن الأمر لم يعد يتعلق بهذا الآن. لقد اتخذت الأمور شكلا آخر، يجب علي حتما أن أحرره هو من وعده، بلا شك! هل هذا أكيد؟ إنه مريع!» ولكي تفلت من تلك الأفكار المخيفة، دخلت إلى غرفة سونيا حيث راحتا معا تفحصان رسوما للوشي.
انسحبت ناتاشا إلى غرفتها بعد الغداء، وعادت تمسك برسالة ماري، تساءلت: «هل حقيقة انتهى كل شيء؟ كيف وقع كل هذا بمثل هذه السرعة ودمر كل الماضي؟» أخذ غرامها بالأمير آندريه ينبعث في مخيلتها بكل قوته الماضية، لكنها ما كانت تستطيع إلا أن تعترف بنفس الوقت بأنها تحب كذلك كوراجين. راحت ترى نفسها زوجة للأمير آندريه، وشرع خيالها يرسم لها السعادة التي تنتظرها معه، لكنها بنفس الوقت، كان كل كيانها يلتهب لذكرى خلوتها مع آناتول.
حدثت نفسها في بعض اللحظات التي يهجرها خلالها تفكيرها المتزن: «لم لا أستطيع محبتهما كليهما معا؟ حينئذ، وحينئذ فقط أكون سعيدة جدا. أما الآن، فعلى العكس يجب أن أختار، ولن أجد السعادة إذا حرمت أحدهما. على كل حال، يستحيل علي أن أعترف للأمير آندريه بكل ما وقع، ولا أن أخفيه عليه، بينما الآخر لا يوجد شيء يخشى فساده، لكن هل يمكن أن أتخلى إلى الأبد عن غرام الأمير آندريه، وعن السعادة التي عشت فيها كل هذا الوقت ؟»
قالت لها إحدى الوصيفات بصوت خافت ولهجة غامضة وهي تدخل عليها: «يا آنسة، هذا ما أوصاني رجل بأن أحمله إليك.»
ومدت إليها يدها برسالة، أرادت الوصيفة أن تقول: «ولكن بحق السماء ...»
لكن ناتاشا فضت الخاتم بحركة آلية، واستغرقت في قراءة تلك الورقة اللذيذة التي لم تكن تفهم منها كلمة واحدة، إلا أنها مرسلة من قبله، من قبل الرجل الذي تحبه: «نعم، إنها تحبه، وإلا كيف كان يمكن أن يحدث كل هذا؟ كيف كان يمكن لهذه الرسالة الغرامية أن تكون في حوزتها؟»
كانت ناتاشا تمسك بين يديها المرتعدتين بتلك الرسالة التي تتحرك بالشوق، والتي دبجها دولوخوف لآناتول، فجاءت عباراتها صدى للعواطف التي ظنت أنها تحس بها: «منذ أمس مساء تقرر مصيري: إما أن أكون محبوبا منك، وإما أن أموت، وليس لدي مخرج آخر.» وبعد هذه المقدمة، قال آناتول إنه يعرف أن ذوي ناتالي لن يوافقوا على تزويجه بها، ولديه أسباب سرية تؤيد هذا المذهب لا يستطيع الكشف عنها إلا لها وحدها، فإذا كانت تحبه يكفي أن تقول له كلمة نعم، وحينئذ لن تستطيع قوة بشرية أن تعترض سبيل سعادتهما. إن الحب ينتصر على كل شيء، سوف يختطفها ويفر بها إلى أقصى العالم.
حدثت ناتاشا نفسها وهي تعيد قراءة تلك الرسالة للمرة العشرين: «نعم، نعم، إنني أحبه!» باتت تظن أنها تكتشف وراء كل كلمة منها معنى عميقا.
كانت ماري ميترييفنا معتزمة زيارة آل آرخاروف ذلك المساء، فعرضت على الفتاتين مرافقتها، لكن ناتاشا ظلت في البيت بحجة صداع في رأسها.
الفصل الخامس عشر
على شفا الهاوية
عندما عادت سونيا في ساعة متأخرة، ذهبت إلى غرفة ناتاشا فوجدتها - لمزيد دهشتها - نائمة في كامل ثيابها على أريكة، وعلى نضد بجانبها رسالة ملقاة هناك - كانت تلك رسالة آناتول - فأخذتها سونيا وراحت تقرؤها.
وفي تلك الأثناء كانت تنظر إلى ناتاشا النائمة محاولة إيجاد تفسير لما تقرأ على قسماتها، لم تكتشف إلا الهدوء والسرور والإشراق. سقطت سونيا فوق مقعدها شاحبة ترتعد من الانفعال وهي ممسكة بصدرها المثقل بيديها وانخرطت في البكاء.
تساءلت: «كيف لم أر شيئا؟ كيف ذهبت الأمور إلى هذا الحد؟ ألم تعد تحب الأمير آندريه إذن؟! ثم كيف استطاعت أن تسمح لكوراجين هذا بمثل هذا الشيء؟ إنه بلا شك ماكر خائن. وماذا سيقول نيكولا الرائع؛ نيكولا النبيل عندما يعلم بكل هذا؟ هذا إذن معنى ذلك الوجه الغريب المنقلب المعتزم كل شيء الذي ظهرت به خلال الأيام الأخيرة! ولكن لا؛ إنها لا تحبه، مستحيل! لا شك أنها فضت هذه الرسالة دون أن تعرف مصدرها، لا شك أنها شعرت بإهانة بسببها، إنها لا تستطيع التصرف على هذا النحو.»
مسحت سونيا دموعها، وعادت إلى ناتاشا وراحت تتفحص وجهها من جديد، نادت بنعومة زائدة: «ناتاشا!»
استيقظت ناتاشا فرأت سونيا: «ها أنت قد عدت؟»
وفي واحدة من حالات الحنان تلك التي يشعر بها المرء عند الاستيقاظ، اندفعت ناتاشا تعانق صديقتها، لكنها ما إن رأت اضطراب سونيا حتى أحست بدورها بالقلق والتحفظ ينتابانها، سألتها: «سونيا، هل قرأت الرسالة؟»
تمتمت سونيا: «نعم.»
طافت على شفتي ناتاشا ابتسامة ذاهلة: «آه! سونيا، لا أستطيع، كلا، لا أستطيع أن أستمر في إخفاء الأمر عنك، إننا نحب بعضنا! سونيا، يا عزيزتي، إنه يكتب إلي ... سونيا ...»
لم تصدق سونيا أذنيها، فراحت تنظر إليها جاحظة العينين، قالت: «وبولكونسكي؟» - «آه! سونيا، ليتك تعرفين مبلغ سعادتي! لكنك تجهلين معنى الحب.» - «والثاني يا ناتاشا؟ لقد انتهى كل شيء إذن بينكما؟»
نظرت إليها ناتاشا بعينين متسعتين وكأنها لا تفهمها.
استرسلت سونيا: «إذن، إنك تقطعين علاقتك بالأمير آندريه؟»
ردت ناتاشا بنفاد صبر: «آه! إنك لا تفهمين شيئا، لا تنطقي بحماقات، أصغي إلي جيدا.»
استأنفت سونيا: «ذلك أنني لا أستطيع تصديق ما أرى. أعترف بأنني لا أفقه شيئا. كيف؟! أحببت رجلا طيلة عام كامل ثم فجأة ... وهذا، إنك لم تريه إلا مرتين أو ثلاث مرات! ناتاشا لا أصدق! هل تمزحين؟! في ثلاثة أيام تنسين كل شيء و...»
قالت ناتاشا: «ثلاثة أيام فقط؟ وأنا التي أعتقد أنني أحبه منذ مائة عام! يخيل إلي أنني لم أحبب قط أحدا قبله. إنك لا تقدرين على فهم هذا. هيا يا سونيا، تعالي إلي هنا، اجلسي بالقرب مني - وعانقتها وجذبتها نحوها - لقد قيل لي إن ذلك يحدث ولا شك. إنهم قالوا لك مثل ذلك أيضا، ولكن هذه هي المرة الأولى التي أحس بها بمثل هذا الشيء. إنها ليست كالسابق، ما كدت أراه حتى عرفت سيدي. لقد شعرت أنني عبد رقيق له، فهمت أنه يستحيل علي ألا أحبه. نعم، إنني عبد رقيق له، إنني على استعداد لإطاعة أمره أيا كان نوعه. إنك لا تفهمين هذا، ولكن ماذا أستطيع يا سونيا، ماذا أقدر؟»
اختتمت قولها بهذه العبارة وعلى سيمائها مزيج من السعادة والرعب. هتفت سونيا بسخط وهي تجد صعوبة في إخفاء اشمئزازها: «فكري قليلا فيما تعملين! لا يمكنني أن أدع هذا الأمر يمر هكذا. هذه الرسائل السرية ... كيف استطعت السماح له بها؟» - «لقد قلت لك إنني كنت مسلوبة الإرادة، كيف لا تفقهين ذلك؟ إنني أحبه.»
صرخت سونيا خلال نشيجها: «حسنا، لن أدعك تفعلين ذلك، سوف أقص كل شيء!» - «ماذا تقولين؟ رباه! إذا نطقت بكلمة كنت عدوتي. معنى ذلك أنك تريدين تعاستي، وأنك تريدين أن يفصلوا بيننا!»
ولما رأت رعب ناتاشا، سكبت سونيا دموع الخجل والإشفاق على صديقتها، سألت: «ولكن، ماذا بينكما؟ ماذا قال لك؟ لم لا يأتي إلى هنا؟»
توسلت ناتاشا دون أن تجيب على أسئلة سونيا: «بحق السماء يا سونيا، لا تتحدثي إلى أحد عن الموضوع، لا تعذبيني. تذكري أنه لا يجب أن يتدخل أحد في هذه المواضيع. لقد صرحت لك ...» - «لم كل هذه الأسرار؟ لم لا يأتي إلى البيت؟ لماذا لا يطلب يدك بكل بساطة؟ أعطاك الأمير آندريه كل الحرية في أن تتصرفي وفق رأيك، فإذا كانت الأمور حقيقة قد توقفت عند هذا الحد ... ولكن لا، إنني أرفض تصديق هذا! ناتاشا، هل فكرت فيما يمكن أن تكونه تلك الأسباب السرية؟»
ساءلتها ناتاشا بنظرة ذاهلة - لا شك أن السؤال قد أربكها؛ لأنها لم تطرحه بعد على نفسها: «هذه الأسباب أجهلها، لكن يجب التصديق بأن لديه أسبابا !»
زفرت سونيا وهزت رأسها، همت أن تقول: «إذا كانت لديه أسباب ...»
لكن ناتاشا روعت للشكوك التي ظهرت على صديقتها فلم تتركها تتم قولها، صرخت: «سونيا، لا يجب الاسترابة به! لا يجب، لا يجب، هل تفهمين؟» - «هل يحبك؟»
ردت ناتاشا التي انتزع غباء صديقتها منها ابتسامة إشفاق: «إذا كان يحبني؟ لكنك قرأت رسالته!» - «ولكن ماذا إذا لم يكن رجلا نبيلا؟» - «هو! ليتك تعرفينه!»
استأنفت سونيا بعزم: «إذا كان رجلا نبيلا، يجب عليه أن يعلن عن نواياه أو يكف عن رؤيتك، وإذا كنت لا تريدين القيام بذلك بنفسك، كتبت له نيابة عنك وأبلغت «بابا» بالأمر.»
هتفت ناتاشا: «لكني لا أستطيع أن أعيش بدونه!» - «ناتاشا، لست أفهمك، ماذا تقولين؟ فكري في أبيك، في نيكولا.» - «لست في حاجة إلى أحد، لست أحب أحدا سواه، كيف يمكنك القول بأنه ليس رجلا نبيلا؟ ألا تعرفين أنني أحبه؟ اذهبي يا سونيا! لا أريد أن أخاصمك، اذهبي أتوسل إليك، اذهبي، إنك ترين كم أتألم.»
ألقت ناتاشا بتلك العبارات بلهجة شديدة العنف، وبغضب غير مكظوم، حتى إن سونيا ذرفت دمعا سخيا وفرت.
جلست ناتاشا إلى منضدتها، ودون أن تفكر لحظة واحدة، كتبت للأميرة ماري الجواب الذي لم تستطع إنجازه طيلة يومها، أنبأتها ببضع كلمات أن سوء التفاهم الذي قام بينهما قد انتهى، انتهازا منها لكرم الأمير آندريه الذي سمح لها قبل رحيله بالتمتع بكل حريتها، فإنها تحله من وعده الآن، وبالتالي، لتتفضل ماري بنسيان مقابلتهما، والصفح عن كل ما يمكن أن تكون قد أظهرته من إساءات حيالها.
بدا كل ذلك في تلك اللحظة آية في السهولة والبساطة والوضوح.
كان على آل روستوف أن يعودوا إلى بيتهم يوم الجمعة. وفي يوم الأربعاء، ذهب الكونت مع المشتري إلى حقله في الضاحية.
ذلك اليوم بالذات، كانت سونيا وناتاشا مدعوتين إلى حفلة غداء كبرى في دار آل كاراجين، فصحبتهما ماري دميترييفنا، قابلت ناتاشا آناتول من جديد هناك. لاحظت سونيا أنهما تحدثا معا بطريقة لا تجعل سواهما ينصت إلى أقوالهما، وأنها ظهرت أكثر اضطرابا أثناء الطعام من ذي قبل، وعندما عادتا إلى البيت توقعت ناتاشا أسئلة صديقتها، شرعت تقول بتلك اللهجة الماكرة التي يعمد إليها الأطفال الطامعين في الإطراء: «أرأيت يا سونيا، لقد حدثتني بحماقات بصدده. إن كل ذلك خطأ. لقد تفاهمنا حول هذا الموضوع منذ حين.» - «آه! وماذا قال لك؟ كم أنا سعيدة يا ناتاشا لأنك لم تحنقي علي، قولي لي كل شيء وبصراحة تامة، ماذا قال لك؟»
فكرت ناتاشا برهة: «آه سونيا! ليتك تعرفينه كما أعرفه! لقد قال لي ... سألني عن طبيعة وعدي لبولكونسكي، وقد ابتهج حينما عرف أن الأمر يتوقف علي في فصم الخطوبة مع الأمير آندريه.»
أطلقت سونيا زفرة عميقة، قالت: «لكنك على ما أعلم لم تقطعي علاقتك ببولكونسكي؟» - «بل يجوز أن أكون قد قطعتها! يجوز تماما أن يكون كل شيء قد انقطع! لم تحملين مثل هذه الفكرة السيئة عني؟» - «ليست لدي أية فكرة سيئة، لكنني لا أفهم ...» - «انتظري يا سونيا، ستفهمين كل شيء، سترين أي رجل هو. لا تكوني فكرة سيئة لا عني ولا عنه.» - «إنني لا أفكر بسوء في أحد، إنني أحب وأعطف على كل الناس، ولكن ماذا أستطيع أن أعمل؟»
لم تستسلم سونيا للهجة الحاذقة التي كانت تصفها ناتاشا، أخذت تقابلها بوجه يزداد صرامة كلما أمعنت هذه في دلالها، قالت لها: «ناتاشا، لقد سألتني ألا أحدثك عن هذا، ولقد صمت، وإنك أنت التي بادرتني بالكلام الآن. إنني لا أثق فيه يا ناتاشا. ما معنى هذه الأسرار؟» - «عدنا إلى هذه النغمة!» - «إنني خائفة من أجلك يا ناتاشا.» - «ومن أي شيء تخافين؟»
أعلنت سونيا بصراحة ندمت عليها لفورها: «إنني أخاف أن تذهبي بنفسك إلى دمارك.»
اتخذ وجه ناتاشا من جديد طابعا خبيثا: «حسنا، نعم، سأخسر نفسي وبأسرع ما يمكن أيضا! إن هذا ليس شأنك، إنني أسيء إلى نفسي، إلينا نحن. دعيني، دعيني، أمقتك.»
هتفت سونيا مروعة: «ناتاشا!» - «نعم، أمقتك، أمقتك؛ إنك عدوتي إلى الأبد!»
وفرت ناتاشا.
لم تتحدث بعد ذلك إلى سونيا بكلمة واحدة ، بل كانت تتجنب لقاءها. ظلت تروح وتجيء في البيت بنفس تلك المسحة المذنبة المشدوهة، تشغل نفسها بمشاغل كثيرة توقفت عن الاهتمام بها منذ حين.
لم تترك سونيا ناتاشا تغيب عن عينيها رغم العناء الذي كانت تحس به. لاحظت في أمسية اليوم الذي سبق عودة الكونت أن ناتاشا تطيل الوقوف أمام نافذة البهو وكأنها تترقب حادثا معينا، ثم رأتها تشير إلى عسكري كان مارا هناك خيل لسونيا أنها عرفت فيه آناتول.
ضاعفت انتباهها ولاحظت أن ناتاشا كانت غريبة التصرف غير طبيعية خلال فترة الغداء والسهرة؛ كانت تجيب خطأ على الأسئلة، لا تتم جملها وتضحك لكل مناسبة.
وبعد الشاي، رأت سونيا عند عودتها إلى غرفتها أن وصيفة شديدة الارتباك كانت تترقب مرورها عند باب غرفة ناتاشا. مرت لكنها عادت على أعقابها وألصقت أذنها على الباب، فاقتنعت أن رسالة جديدة قد سلمت إليها.
وفجأة رأت سونيا بوضوح أن ناتاشا تدبر خطة مريعة تلك الليلة بالذات. قرعت باب صديقتها عبثا.
حدثت سونيا نفسها: «سوف تفر معه. إنها قادرة على مثل ذلك. لقد بدت اليوم شديدة الحزن، ولكن أكثر حزما من أي يوم. لقد بكت وهي تودع عمي. نعم، لا شك أنها ستفر معه. ماذا يجب علي أن أصنع؟»
تذكرت في تلك اللحظة بعض الوقائع التي تؤيد شكوكها الخطيرة: «إن الكونت ليس هنا. ماذا يجب أن أصنع؟ هل أكتب لكوراجين مطالبة إياه بتفسير عن كل هذا؟ لكن من يرغمه على الإجابة على رسالتي؟ أأكتب لبيير كما طلب الأمير آندريه أن نعمل في حالات الشؤم؟ لكن ألم تقطع رباطها ببولكونسكي. لقد رأيتها ترسل أمس مساء جوابها إلى الأميرة ماري. ثم إن عمي ليس هنا!»
أما أن تقول كل شيء لماري دميترييفنا التي كانت لها ثقة كبيرة بناتاشا، فإن سونيا ما كانت تقر هذا التصرف، فكرت وهي في الممشى المعتم: «على كل حال، لقد أزف الوقت لأبرهن عن عرفاني لهم جزاء إحسانهم ولقاء حبي لنيكولا؛ لن أتزحزح من هذا الممشى ولو أمضيت ثلاث ليال ساهرة، وسأمنعها من الخروج ولو اضطررت إلى استعمال القوة. كلا لن أترك وصمة العار تدخل إلى أسرتهم.»
الفصل السادس عشر
خطة الاختطاف
منذ بضعة أيام أقام آناتول عند دولوخوف، وكان هذا قد وضع خطة اختطاف وجب تنفيذها في ذلك المساء بالذات، الذي قررت سونيا التي تراقب باب ناتاشا أن تقاوم فرارها. كانت ناتاشا قد وعدت بموافاة كوراجين في الساعة العاشرة عن طريق سلم الخدم؛ حيث سيضعها في زحافة سريعة جاهزة ليحملها إلى خمس عشرة مرحلة بعيدا عن موسكو؛ حيث ضاحية كامانكا، وهناك سيعقد قسيس مطرود قرانهما، وستحملها خيول المراحل على طريق فارسوفيا، ومن هناك إلى الخارج عن طريق عربة البريد.
كان آناتول قد تدبر جواز سفر وإذن بالركوب في عربة البريد، وكانت أخته قد أعطته عشرة آلاف روبل، واقترض مبلغا مماثلا عن طريق دولوخوف، وكان الشاهدان: خفوستيكوف - وهو أحد موظفي المستشارية السابقين، الذي كان دولوخوف يستخدمه بأعماله المتعلقة بالمقامرة - وماكارين؛ وهو من الفرسان المتقاعدين، طيب، ضعيف الإرادة، يؤمن بكوراجين إيمانا حقيقيا؛ يشربان الشاي في الحجرة الأولى من الشقة.
وفي مكتبه الكبير المزين كله بالسجاد العجمي وجلود الدببة ومجموعات الأسلحة، جلس دولوخوف قرب مكتبه المفتوح وهو في سترة السفر ينقل حذاءين عاليين، وأمامه عداد ورزم من الأوراق النقدية. أما آناتول فكان ينتقل محلول أزرار الثوب بين حجرة الشهود مخترقا المكتب والغرفة، التي يشرف خادمه الفرنسي فيها على معدات السفر الأخيرة. كان دولوخوف يقوم بإحصاء النقود، قال: «أتدرين، يجب إعطاء ألفي روبل لخفوستيكوف.» - «ليكن، أعطها له.»
قال دولوخوف وهو يريه قائمته: «إن هذا الباسل ماكارين لا يريد شيئا. إنه على استعداد لإلقاء نفسه في النار إرضاء لك. هيا، لقد انتهت الحسابات، هل ترضيك؟»
أجاب آناتول الذي لم يسمع شيئا، بل كان يحدق أمامه تائها وعلى شفتيه ابتسامته الخالدة: «بالطبع بكل تأكيد.»
أغلق دولوخوف مكتبه بجلبة، وخاطب صديقه بلهجة ساخرة قائلا: «اسمع، دع عنك كل هذه المسألة، لا يزال في الوقت متسع.»
هتف الآخر: «يا سخيف! لا تنطق بالحماقات. لو كنت تعلم ... هل يظن ...؟»
ألح دولوخوف : «حقا، دع عنك هذا، إنني أكلمك جديا. إن القضية غير مضمونة، أتدري ...؟»
قال آناتول وهو يعبس: «هيا، ها إنك تعاود الكرة! إنك تزعجني آخر الأمر. اذهب إلى كل الشياطين. هه! إنني لست في حالة تساعدني على الإصغاء إلى هذرك.»
اتجه نحو الباب، فشيعه دولوخوف بابتسامة مطاوعة ساخرة. هتف به: «انتظر قليلا! لست أمزح، إنني جاد كل الجد. تعال، هيا.»
عاد آناتول على أعقابه، واستجمع كل انتباهه وراح يتأمل دولوخوف الذي كان يخضع رغما عنه لنفوذه: «لآخر مرة، أرجوك أن تصغي إلي. لم أمزح، هل وضعت لك مرة العصي في العجلات؟ من الذي رتب كل شيء؟ من الذي اكتشف القس؟ من الذي حصل على جواز السفر؟ من الذي عرف كيف يتدبر المال؟ إنه أنا.»
أجاب آناتول: «صحيح، وإنني أشكرك من أجل كل هذا. هل تتصور مرة أنني لست لك شكورا؟» - «لقد ساعدتك. وهذا معترف به، لكن من واجبي أن أقول لك الحق: إن المغامرة خطيرة، بل وحمقاء إذا أمعنا فيها النظر. حسنا، إنك تخطفها، حسنا جدا. هل تظن أن الأمر سيقف عند هذا الحد؟ إذا عرفوا أنك متزوج قبل هذه المرة، سوف يرفعون أمرك إلى القضاء.»
قال آناتول وقد عاد مكتئبا: «حماقات كل هذه! لكنني فسرت لك من قبل.»
وراح آناتول بعناد الأشخاص المحدودين الذين حشو رءوسهم بشيء أقنعهم يكرر على دولوخوف الحجة التي كررها مائة مرة عدا: «لقد شرحت لك من قبل وجهة نظري في الموضوع.» وراح يعد على أصابعه: إذا كان هذا الزواج غير رسمي؛ فإنني لا أحتمل أية مسئولية، وإذا كان رسميا فماذا يهمني؟ لن يعرف أحد بأمره في الخارج. اثنان. هذا صحيح؛ أليس كذلك؟ إذن ولا كلمة بعد، ولا كلمة!» - «صدقني، اصرف النظر عن كل هذا! سوف يسوء المنقلب.»
قال آناتول: «اذهب إلى الشيطان!»
وأمسك برأسه بين يديه وخرج، ثم عاد بعد قليل وتربع على مقعد بجانب دولوخوف تماما. أمسك بيده ووضعها على قلبه وقال: «ألف رعد، ما معنى هذا؟ خذ، انظر كم يخفق؟ آه يا له من قدم يا عزيزي! يا لها من نظرة! آلهة! رهن؟»
راح دولوخوف يتمعن في آناتول وعلى شفتيه ابتسامة باردة، وفي عينيه لهيب مشتعل، وهو يجد لذة كبيرة في مشاكسته دون ريب: «وعندما تنفق المال كله، ماذا تعمل؟»
هدت هذه النظرية التي لم يفكر فيها آناتول قط قواه. كرر: «ماذا سأعمل؟ ماذا سأعمل؟ لعمري لست أدري ... إلى الشيطان كل هذه الخزعبلات!»
واختتم قوله وهو ينظر إلى ساعته: «لقد حان وقت الذهاب.»
ومضى إلى الحجرة الخلفية وصاح بالخدم: «هولا، يا زمرة المتوانين، ألم تنتهوا بعد؟»
حزم دولوخوف المال وأمر خادمه أن يهيئ شيئا يأكلونه قبل الرحيل، ثم ذهب إلى الغرفة التي كان خفوستيكوف وماكارين فيها.
كان آناتول مستلقيا على أريكة المكتب يبتسم بشرود وحنان، ويغمغم ببضع كلمات بين شفتيه الجميلتين. هتف به دولوخوف من الحجرة المجاورة: «تعال كل شيئا. اشرب قدحا على الأقل.»
فأجاب آناتول دون أن يكف عن الابتسام: «كلا، شكرا.» - «تعال؛ إن بلاجا هنا.»
نهض آناتول ومضى إلى غرفة الطعام. كان بلاجا - وهو مؤجر زحافات مشهور - يعرف الصديقين اللذين كثيرا ما احتاجا إلى خدماته منذ خمس أو ست سنين. لقد حمل آناتول أكثر من مرة من «تفير» مساء عندما كان فيلقه مخيما هناك، ليصل به إلى موسكو عند الفجر ويعيده في الليلة التالية إلى مركزه، وهو الذي أفلت دولوخوف أكثر من مرة من مطاردات مزعجة، ونقل الصديقين أكثر من مرة عبر المدينة بصحبة بوهيميين و«سيدات صغيرات»، كما كان يقول، وكثيرا ما دعس بعض المارة أو قلب عربات خلال تلك الجولات الهوجاء، فكان أولئك «السادة»، كما كان يسميهما، ينقذانه من محنته. كم من مرة ضرباه! وكثيرا ما أسقياه شامبانيا ونبيذ مادير، نبيذه المفضل. إنه يعرف عن كل منهما أكثر من مغامرة تقضي أقلها بهما إلى منافي سيبيريا. كانا يدعوان بلاجا غالبا إلى مائدتهما الحافلة ويرغماه على الشراب والرقص مع البوهيميين، وينقلان بواسطة ورقة من ذات الألف روبل أكثر من مرة. لقد غامر بحياته في خدمتهما عشرين مرة للخطر كل عام ، أو غامر بجلد ظهره على الأقل، وأضاع عددا من الخيول أكبر من أن تفي الأموال التي تقاضاها منهما بثمنها. مع ذلك، فقد كان يحبهما. كان يحب تلك الرحلات المجنونة بسرعة خمسة فراسخ في الساعة. يحب أن يخرق شوارع موسكو ويدهس المشاة ويقلب العربات، يحب أن يسمع وراءه أصواتا سكرى تزمجر به: بسرعة أكثر! بسرعة أكثر! بينما يكون مستحيلا عليه أن يزيد في اندفاع خيوله. كان يحب أن يضرب بسوطه قذال عاشق يبتعد بسرعة عن طريق ذلك الإعصار وهو ميت أكثر منه حي. «إنهم سادة حقيقيون.» ذلك كان رأي بلاجا عن آناتول ودولوخوف اللذين من جانبهما أحلاه محلا في مودتهما؛ لأنه كان أمهر سائق، ولأن له أذواقا متجانسة مع أذواقهما، كان مع غيرهما من الزبائن يساوم ويطلب خمسة وعشرين روبلا أجرا لرحلة مدتها ساعتان، ويحل أحد غلمانه محله غالبا، ولكن مع هؤلاء «السادة» كان يقود العربة بنفسه، ولا يسألهما قط دانقا، وعندما يبلغه عن طريق وصيفيهما أنهما يملكان مالا، مرة كل ثلاثة أو أربعة شهور، كان يزورهما صباحا قبل أن يشرب شيئا، ويسألهما بعد أن يحييهما بصوت خافت، أن ينقذاه من محنة مالية، فكان «سادته» يجلسانه دائما. كان يقول: «يا فيدور إيفانيتش، يا سيدي الطيب، أو يا صاحب السعادة، لا تبخل علي بكتفك: لم يبق عندي حصان واحد، ويجب مع ذلك أن أمضي إلى سوق العرض؛ أقرضني ما تستطيع.»
وحينئذ يعطيه آناتول ودولوخوف - إذا كانا موسرين - ورقة أو ورقتين من ذات الألف روبل.
كان بلاجا فتى أشقر في السابعة والعشرين من عمره تقريبا، مربوع القامة، ملون الوجه، غليظ العنق، أشد احمرارا من وجهه، قصير اللحية، لامع العينين صغيرهما. كان يرتدي فوق فروته القصيرة جلبابا أزرق من قماش ناعم مبطن بالحرير.
رسم إشارة الصليب أمام الصور المقدسة وتقدم نحو دولوخوف ومد له يده الصغيرة الداكنة، وقال وهو ينحني: «احتراماتي لفيدور إيفانوفيتش!» - «مرحبا يا عزيزي. آه! ها هو!»
وقال لآناتول الذي دخل في تلك اللحظة وهو يمد له يده: «احتراماتي لسعادتك!»
قال آناتول وهو يضع يده على كتفه : «اسمع يا بلاجا. هل تحبني حقيقة. هن؟ الأمر يتعلق بخدمة تؤديها لي. أية خيل جئت بها؟ هن؟» - «تلك التي أمرتني بقطرها؛ الحيوانات المتوحشة.» - «إذن انتبه يا بلاجا! اقتل خيولك إذا وجب الأمر، ولكن اقطع الطريق في ثلاث ساعات. هن!»
اعترض بلاجا وهو يغمز بعينيه بمكر: «إذا تركتها تنفق، كيف نصل؟»
زمجر آناتول فجأة وهو يدير عينيه الكبيرتين: «لا تمزح أو أحطم «بوزك».»
قال الحوذي ضاحكا: «المزاح لا يسيء أبدا. هل أرفض شيئا لسادتي؟ سنمضي بأقصى سرعة بالطبع.»
قال آناتول: «حسنا! والآن اجلس.»
وألح دولوخوف: «اجلس، هيا!» - «إنني مستريح هكذا يا فيدور إيفانوفيتش.»
قال آناتول وهو يصب له قدحا كبيرا من خمرة ماديرا: «لا حاجة إلى الرسميات، هن! اجلس وابلع.»
التمعت عينا الحوذي لدى رؤية النبيذ، وبعد أن رفض تأدبا تجرع القدح ومسح شفتيه بوشاح أحمر كان يخفيه في قلنسوته. - «إذن متى تذهب يا صاحب السعادة؟»
قال آناتول بعد أن نظر إلى ساعته: «ولكن فورا، ولكن اعلم يا بلاجا، انتبه هن! يجب أن نصل في الوقت المناسب.»
قال بلاجا: «هذا يتوقف على الرحيل، فإذا تم على ما يرام ... وبعد، لم لا نصل في الوقت المعين؟! لقد ذهبنا مرة في سبع ساعات إلى تفير، إنك تتذكر ولا شك يا صاحب السعادة.»
قال آناتول وهو يبتسم لهذه الذكرى ويلتفت نحو ماكارين الذي كان يلتهمه بنظراته بغباء: «نعم. أتعلم، ذات مرة في عيد الميلاد، جئت من تفير. نعم، تصور يا عزيزي إن السرعة كانت تقطع أنفاسنا. وبلحظة واحدة، بينما كانت قافلة تقطع علينا الطريق، قفزنا فوق عربتين. هن! ماذا تقول؟»
فأعقب بلاجا محدثا دولوخوف: «ولكن يا لها من خيول تلك! لقد وضعت إلى جانبي أدهمي، مهرين جميلين ليكونا حصاني الجانبين. هل تصدق يا فيدور إيفانوفيتش: لقد قطعت هذه الحيوانات الصغيرة خمس عشرة مرحلة دون توقف، كان الصقيع شديدا وكانت أيدينا مخدرة لا يمكننا إمساك الأعنة بها وتركت أعنة؟ قلت: امسكها يا صاحب السعادة. وسقطت كتلة واحدة داخل الزحافة. آه ! لقد أثرت تلك الحيوانات تماما ! لكنني لم أستطع الإمساك بالأعنة حتى النهاية. لقد قطعوا المسافة في ثلاث ساعات؛ الشياطين، لكن الحصان الأيسر نفق عقب ذلك.»
الفصل السابع عشر
فشل الخطة
خرج آناتول وعاد بعد قليل مرتديا فروة تلف جسمه، ربطها بنطاق مزين بالفضة عند وسطه، وقلنسوة من السمور مائلة على أذنه تتفق تماما مع وجهه الجميل، وبعد أن درس وضعيته أمام المرآة، انتصب أمام دولوخوف وقال وهو يمسك قدحا في يده: «هيا، الوداع يا فيديا. أشكرك لكل خدماتك، الوداع.»
وأضاف بعد أن بحث فترة طيبة عن الكلمة المناسبة: «هيا يا زملائي، أصدقاء ال... أصدقاء صباي، الوداع!»
كانت تلك الجملة الأخيرة موجهة إلى ماكارين والآخرين، وعلى الرغم من أنهم جميعا كانوا سيرافقونه، فإن آناتول كان يتعمد إعطاء وداعه لهجة مؤثرة. كان يحدث بصوت مرتفع متناسق مبرزا صدره، متأرجحا على ساقيه. - «تعالوا جميعا واقرعوا أقداحكم، وأنت يا بلاجا، يا زملائي وأصدقاء صباي، لقد أمضينا زمنا جميلا. لقد قمنا بكثير من الجنون معا. والآن: متى نلتقي من جديد؟ إنني ماض إلى الخارج. وداعا أيها السرور، وداعا يا أصدقائي البواسل، نخب صحتكم. هورا!»
أفرغ كأسه دفعة واحدة وحطمها. قال بلاجا الذي تجرع كأسه كذلك ومسح يديه بوشاحه: «ضم ماكارين آناتول إلى صدره وعيناه سابحتان في الدموع.» - «آه! يا أمير، إنني عظيم الألم لافتراقي عنك!»
هتف آناتول: «هيا! إلى المسير!»
استعد بلاجا للخروج، فقال آناتول: «لحظة واحدة! أوصد الباب ولنجلس. هكذا، هنا.»
أغلقوا الباب وجلسوا جميعا (من عادة الروسيين قبل سفر، وخصوصا في المناسبات الجليلة، أن يجلسوا ويستجمعوا أنفسهم فترة).
استأنف آناتول وهو ينهض: «والآن إلى الأمام سر، أيها البواسل!»
قدم له جوزيف، الوصيف، سيفه وجعبته الجلدية.
استفسر دولوخوف: «ولكن أين الفروة؟ هولا! إينياس! امض فورا إلى ماترون ماتفيئيفنا واطلب منها معطفا من الفراء؛ المعطف المصنوع من فراء السمور. هل سمعت ...؟»
وأضاف وهو يغمز بعينه: «إنني أعرف كيف تجري الاختطافات، سوف تلقي بنفسها إلى الخارج ميتة أكثر منها حية، دون أن تكون متدثرة بشيء. وإذا وقع أدنى تأخير سالت الدموع على الفور، فتنادي «بابا وماما» وسترتعد وتطلب العودة. أما إذا كانت معك فروة، فستزملها بها وتقودها حتى الزحافة.»
جاء الخادم بفروة من جلد الثعلب. - «معطف السمور أيها الحيوان! ألم أقل لك، نعم أو لا؟»
وصرخ بصوت دوى حتى بلغ أقصى الشقة: «آه! ما ترون، معطفك السمور!»
هرعت بوهيمية جميلة، نحيلة وشاحبة، تلبس شالا أحمر، حاملة معطف السمور. كانت عيناها السوداوان تلتمعان وخصلات شعرها الأسود تعكس لونا أزرق. قالت وهي تخاف ولا شك غضبة سيدها ومالكها، وتأسف بنفس الوقت على فروتها: «خذ، خذها، سيان عندي.»
ودون أن يجيبها، ألقى دولوخوف بالفروة على كتفيها، ولفها حول قدها، وقال وهو يرفع الياقة بشكل لا يترك معه إلا فتحة صغيرة للوجه: «أترين هكذا ... ثم هكذا، وأخيرا هكذا، أرأيت؟»
وأجبر آناتول على أن يميل فوق الفتحة التي كانت ابتسامة البوهيمية تلتمع خلالها. قال آناتول وهو يقبلها: «هيا، الوداع، الوداع يا ماترون. انتهت الحياة الطيبة! تهانئي إلى ستيفاني! هيا، الوداع، الوداع يا ماترون. تمني لي حظا سعيدا.»
قالت ماترون بلكنة بوهيمية: «ليمنحك الله كل السعادات الممكنة يا أميري.»
وقفت زحافتان قرب المرقاة يقودهما فتيان متينا البنيان. صعد بلاجا إلى الأولى، ورفع مرفقيه إلى الأعلى وراح يجمع السيور بتؤدة في يديه. جلس ماكارين وخفوستيكوف والوصيف في الزحافة الثانية. سأل بلاجا: «هل نحن على استعداد؟»
وصرخ وهو يلف الأعنة حول ذراعه: «إذن، إلى الأمام سر!»
وانحدر الموكب بأقصى سرعة جادة القديس نيكولا. أخذ بلاجا وغلاماه الجالسان على المقعد يصيحون: «هو! آواه! ... هو! آوه!»
اقتحموا عربة في ساحة «أربات»، فارتفعت فرقعة ثم صيحة، لكن الزحافة كانت تطوي في تلك اللحظة شارع «أربات».
وبعد أن صعدوا ثم هبطوا جادة بودنوفيتسكي على كل طولها، استمهل بلاجا خيوله ثم عاد إلى الوراء وأوقفها في زاوية شارع «فيي إيكوري» الإسطبلات القديمة، قفز الغلام من المقعد ليمسك بالخيول من أعنتها، وصعد آناتول ودولوخوف الرصيف. وعندما اقتربا من البوابة، صفر دولوخوف. أجابه صفير آخر على صفيره، وظهرت وصيفة هرعت إليه تقول: «ادخلوا الفناء وإلا رأوكما . إنها قادمة على الفور.»
ظل دولوخوف قرب البوابة بينما تبع آناتول الوصيفة ودار حول ركن الفناء، ثم تسلق درجات المرقاة ليجد نفسه وجها لوجه مع جافريل؛ الخادم المرافق العملاق لماري دميترييفنا، قال له الخادم بصوت خفيض وهو يقطع عليه طريقه: «إن سيدتي تطلبك. تفضل واتبعني.»
غمغم آناتول بصوت متقطع: «أية سيدة؟ من أنت؟» - «تفضل واتبعني. إن لدي أمرا باصطحابك.»
صرخ دولوخوف: «كوراجين، عد! لقد خانونا! لنفر!»
كان دولوخوف يتعارك مع البواب الذي حاول إغلاق البوابة وراء آناتول. استطاع أن يتخلص من تلك المضايق بمجهود جبار، ثم أمسك بذراع آناتول الذي كان قادما بسرعة وجذبه بقوة حتى تخطيا المدخل، ثم جريا بكل قوة حتى وصلا إلى زحافتهما.
الفصل الثامن عشر
رد الفعل
فاجأت ماري دميترييفنا في الممشى سونيا غارقة في دموعها، فلم تدعها إلا بعد أن انتزعت منها اعترافا كاملا. احتجزت رسالة ناتاشا وقرأتها، ثم دخلت على «فليونتها» والورقة في يدها. قالت لها: «أيتها الخائنة! يا خالعة العذار! لا أريد أن أسمع شيئا.»
دفعت ناتاشا التي كانت تحدق فيها بعينين ذاهلتين، ولكن حادتين، وأغلقت الباب بالمفتاح. وبعد أن أوعزت للبواب أن يسمح بالدخول لكل من يحضر، ويمنع خروج أي كان، ولخادمها المرافق أن يأتيها بالقادمين، جلست في البهو تنتظر المغررين.
وعندما جاء جافريل ينبئها أن الأشخاص لاذوا بالفرار، زوت حاجبيها ونهضت، وراحت تذرع البهو طويلا ويداها وراء ظهرها؛ تفكر فيما يجب عليها صنعه. عادت إلى غرفة سونيا حوالي منتصف الليل بعد أن لمست المفتاح في جيبها. كانت سونيا لا تزال تنشج في الممشى، توسلت إليها: «يا ماري دميترييفنا، دعيني أدخل معك.»
فتحت ماري دميترييفنا الباب دون أن تجيبها، حدثت نفسها وهي تحاول السيطرة على غضبها: «إنه مخجل، إنه مرذول! تحت سقفي! يا للفتاة الرديئة الفاجرة! لكنني أشفق على أبيها، وعلى الرغم من صعوبة الامتثال للأمر، فسآمر كل الناس أن يصمتوا، وسأخفي الأمر عن الكونت.» دخلت الحجرة بخطوة ثابتة. كانت ناتاشا ممسكة رأسها بين يديها مسترخية الجسد ، ممددة على الأريكة في مثل الوضع الذي تركتها عرابتها عليه، قالت هذه: «حسنا! إن هذا شريف! إعطاء المواعيد للعشاق تحت سقف بيتي! لا تتصنعي الطهر والسذاجة. أصغي عندما يحدثونك.»
كررت وهي تلمس ذراعها: «ألا تسمعين؟ لقد جللت نفسك بالعار كأسوأ الفتيات. إنني أعرف تماما ما يجب أن أصنعه، لكنني أشفق على أبيك، لن أقول له شيئا.»
ظلت ناتاشا ساكتة، لكن نشيجا خافتا كان يخنقها، ولم يلبث جسمها كله أن تقلص متشنجا. تبادلت ماري دميترييفنا نظرة مع سونيا، ثم جاءت تجلس على الأريكة بجانب «فليونتها».
قالت بصوتها القاسي: «لقد استطاع الإفلات مني! لكنني سأجده. حسنا! هل تسمعين ما أقوله لك؟»
أدخلت يدها الضخمة تحت رأس ناتاشا وأدارته نحوها. روعت ماري دميترييفنا وسونيا لمرأى ذلك الوجه ذي العينين اللامعتين الجافتين، والشفتين المضمومتين، والخدين الهضيمين.
قالت: «دعوني. ماذا يهمني؟ أريد أن أموت.»
انتزعت نفسها بغضب من يدي ماري دميترييفنا وعادت تستغرق في وهنها.
قالت ماري دميترييفنا: «ناتالي! إنني لا أريد إلا صالحك. امكثي هكذا إذا كنت تفضلين. لن أمسك، ولكن أصغي إلي. لا أريد أن أقول إلى أية درجة بلغت في ذنبك. إنك تعرفين ذلك مثلما أعرفه. نعم، تماما. لكن أباك يعود غدا، فماذا أقول له؟ هن؟»
لم تجب ناتاشا إلا بالنحيب. - «وإذا علم بالأمر من آخرين، وإذا اطلع أخوك أو خطيبك على الأمر؟»
صرخت ناتاشا فجأة: «لم يعد لي خطيب، لقد قطعت صلتي به.»
استرسلت ماري دميترييفنا تقول: «هذا لا يهم. لنفرض أنهم عرفوا خطيئتك، هل تظنين أنهم يتركون الأمور هكذا؟ أنا أعرف أباك، إنه قادر على الدخول في مبارزة، سيكون الأمر جميلا، هن؟»
هتفت ناتاشا وهي تنهض وتلقي على ماري دميترييفنا نظرة حقد: «آه! دعيني. لم شوشت كل شيء؟ لماذا؟ لماذا؟ من الذي رجاك؟»
صرخت هذه وقد استبد بها الغضب: «وماذا كنت تريدين أن تعملي؟ هل كنا نحبك من قبل عرضا؟ ماذا كان يمنعه من المجيء إلى البيت؟ لم يخطفك كالبوهيمية؟ وإذا كان نجح في خطفك، فهل تعتقدين أنهم ما كانوا ليقبضوا عليه؟ سواء أكان أبوك أم أخوك أم خطيبك؟ إنه حقير صعلوك، هذا كل شيء!»
صرخت ناتاشا وهي تنهض من جديد: «إنه خير منكم جميعا! لو أنك لم تمنعوني ... آه يا ربي! لماذا؟ لماذا؟ سونيا، ماذا عملت؟ دعوني.»
واستسلمت لذلك اليأس الذي لا يحس به إلا كل من يعرف أنه نفسه سبب تعاسة نفسه، وانفجرت تبكي بكاء عنيفا. همت ماري دميترييفنا أن تسترسل، لكن ناتاشا عادت إلى الصراخ: «اذهبوا عني، اذهبوا عني! إنكم تكرهونني جميعا، إنكم تحقدون علي!»
وانهارت من جديد على الأريكة.
استمرت ماري دميترييفنا تقرعها بعض الوقت أيضا: «كان يجب قبل كل شيء إخفاء المغامرة عن الكونت. ما كان أحد ليعرف شيئا شريطة أن تتعهد ناتاشا بنسيانه، وأن تتحاشى إظهار اضطرابها أمام أي مخلوق كان.» لم تجب ناتاشا، كفت عن النشيج، لكن قشعريرات محمومة كانت تجتاح كل كيانها. وضعت ماري دميترييفنا وسادة تحت رأسها برفق وغطتها بغطاءين وجاءتها بنفسها بنقيع الزيزفون، لكن ناتاشا ظلت محتفظة بسكون وحشي.
قالت ماري دميترييفنا وقد ظنت أن النوم استولى عليها: «هيا، لندعها تنام.»
وانسحبت، لكن ناتاشا لم تنم قط؛ ظلت هكذا خائرة القوى وهنة طول الليل لا تنام، ولا تبكي، ولا تخاطب سونيا بكلمة، وهي التي نهضت مرات خلال الليل وجاءت تطمئن عليها.
وفي اليوم التالي، وقت الغداء، عاد الكونت إيليا آندريئيفيتش من حقله كما كان متفقا، كان جذلا فرحا؛ لأن المسألة قد نجحت، فلم يعد هناك ما يبقيه في موسكو. بات يستطيع العودة إلى كونتيسته العزيزة، لكن ماري دميترييفنا شرحت له على الفور أن ناتاشا سقطت مريضة مرضا جديا أمس، وأن الطبيب قد استدعي، لكنها الآن أحسن حالا. لبثت ناتاشا ذلك الصباح في حجرتها تعض شفتيها المنسلعتين، وعيناها شاخصتان جافتان. ظلت جالسة قرب النافذة تراقب المارة في غدوهم ورواحهم، وتلتفت منتفضة كلما دخل بعضهم إلى غرفتها. كانت ولا شك تنتظر أخبارا «عنه»؛ ظنا منها أنه سيأتي، أو أنه سيكتب إليها على الأقل.
وعندما دخل الكونت، انتفضت لدى سمعها خطوات رجل، لكنها عندما رأت أباها عاد وجهها جامدا خبيثا حتى إنها لم تنهض لمقدمه، سألها: «ما بالك يا ملاكي؟ أأنت مريضة؟»
أجابت بعد سكوت طويل: «نعم.»
قلق الكونت أشد القلق لحالة الوهن التي رآها عليها، فسألها عما إذا لم يقع شيء في علاقاتها مع خطيبها. أكدت له عكس ذلك، ورجته ألا يعذب نفسه. أكدت له ماري دميترييفنا صدق توكيداتها، لكن اضطراب ناتاشا ومرضها المصطنع، وأمارات سونيا وماري دميترييفنا الدالة على الارتباك، جعلت الكونت يشك بوقوع حدث خطير، لكن مجرد الفكرة في مس شرف ابنته العزيزة كان يجفله، ثم إنه كان شديد الحرص على هدوئه البسام، حتى إنه تحاشى طرح الأسئلة مفضلا الاعتقاد بأن ريبه لا يستند على أساس، لكنه كان يأسف لأن ذلك المرض سبب تأخيره عن السفر إلى الريف.
الفصل التاسع عشر
تدخل بيير
منذ أن وصلت زوجته إلى موسكو، فكر بيير في الرحيل إلى أي مكان بقصد الخلاص من وجودها معه، وبعد وصول آل روستوف بقليل، عجل الأثر العنيف الذي خلفته ناتاشا في نفسه في رحيله، فذهب إلى تفير عند أرملة جوزيف ألكسيئيفيتش، التي وعدت منذ زمن طويل أن تعهد إليه بأوراق المرحوم.
ما إن وصل عائدا إلى موسكو حتى سلمت إليه رسالة من ماري دميترييفنا، ترجوه فيها أن يعرج على مسكنها قليلا؛ لتبحث معه في مسألة صغيرة هامة تتعلق بآندريه بولكونسكي وبمخطوبته. كان بيير يتجنب ناتاشا؛ لأنها توحي إليه على ما يبدو شعورا أعنف مما يجب أن يحس به رجل متزوج إزاء مخطوبة صديقه. مع ذلك، فقد بدا كأن القدر يتصرف بمكر لذيذ فيتعمد الجمع بينهما.
فكر وهو يرتدي ثيابه ليذهب إلى مسكن ماري دميترييفنا: «ماذا حدث إذن؟ كيف يمكنني أن أكون نافعا لهم؟»
وبينما هو في الطريق حدث نفسه: «ليعد آندريه بسرعة وليتزوجها بأسرع ما يمكن!»
وفي جادة تفير، استوقفه بعضهم. هتف به صوت معروف: «بيير! هل عدت منذ زمن طويل؟»
ومر «رهوانان» أشهبان يعدوان وهما يثيران في عدوهما زوبعة من الثلج على مقدمة الزحافة الأنيقة التي يقطرانها . كان آناتول قابعا في تلك الزحافة مع ماكارين الخالد. جلس آناتول فيها جلسة العسكريين المرحين الكلاسيكية وهو منصب الظهر، يخفي أسفل وجهه في ياقته المصنوعة من فراء كلب الماء، ورأسه مائل قليلا، كان نضير الوجه، وردي اللون، تتيح قبعته ذات الريشة البيضاء المائلة إلى الجانب، لجانب من شعره الأجعد المضمخ الذي انتثرت عليه طبقة خفيفة من الثلج بالظهور.
حدث بيير نفسه: «آه! هو ذا عاقل حقيقي! إنه لا ينظر إلى أبعد من بهجته الآنية، ولما كان لا يعرف الغم والهم، فإنه جذل أبدا سعيد وهادئ. إنني أتخلى عن الشيء الكثير لأصبح مثله!» وكان في اعترافه هذا لون من الغبطة.
في دهليز مسكن السيدة أخروسيموف، قال الخادم الذي نزع عن بيير فروته: «إن ماري دميترييفنا ترجوه أن يتفضل إلى حجرة نومها.»
وبينما هو يفتح باب البهو الكبير، شاهد ناتاشا جالسة إلى نافذة ووجهها ممتقع مهزول شرس. قطبت حاجبيها لدى رؤيته وانسحبت وهي تتصنع تحفظا باردا.
سأل بيير وهو يدخل حجرة ماري دميترييفنا: «ماذا حدث؟» - «أشياء مريعة! إنني في الحياة منذ ثمانية وخمسين عاما، ولم أر مثل هذا الشيء الفاضح.»
وبعد أن استحلفته كتمان السر، أخبرت بيير أن ناتاشا قطعت علاقتها بخطيبها دون موافقة أبويها، وأن ذلك من جراء خطأ آناتول كوراجين الذي قدمته إليها زوجة بيير، والذي تواطأت معه على الفرار أثناء غياب أبيها لتتزوج به سرا.
ظل بيير محدودب الظهر، فاغر الفم، لا يصدق أذنيه. كيف؟! ناتاشا مخطوبة الأمير آندريه التي يحبها أعمق الحب، روستوف اللذيذة تفضل عليه ذلك السفيه آناتول المتزوج من قبل - لأن بيير كان يعرف قصة زواجه السري - وتتدله بذلك الأحمق لدرجة موافقتها على أن يختطفها! كلا، ما كان بيير يطيق فهم ذلك حتى ولا تقبله.
ما كان يمكن للدناءة والغباء والقسوة أن تجتمع في عقله مع ذكرى تلك المخلوقة الرائعة التي يعرفها منذ طفولتها. فكر حينئذ بزوجته بالذات، وحدث نفسه وهو يفكر في أنه ليس الوحيد الذي يمتاز بالزواج من امرأة رديئة: «كلهن سواء!» خلال ذلك ، شعر بغصص الدمع في حلقه لفرط انفعاله واضطرابه على مصير الأمير آندريه: «كم سيجرح كبرياؤه ويتألم!» وبقدر ما كان إشفاقه على صديقه يتزايد، كان شعور الاحتقار بل والحقد على ناتاشا هذه، التي مرت منذ حين أمامه متصنعة الكبرياء والترفع، لكنه كان يجهل أن روح ناتاشا كانت غارقة في تلك اللحظة في أعماق الخجل واليأس، وأن تلك البرودة القاسية ما كانت إلا قناعا يختفي وجهها وراءه دون أن يكون لإرادتها دخل في الموضوع.
هتف عندما بلغت ماري دميترييفنا هذا الحد: «يتزوجها؟! لكن هذا مستحيل؛ إنه متزوج من قبل.» - «خير! إنه كامل، الفتى! إنه سافل كامل! وهي تنتظره، منذ يومين وهي تنتظره. على الأقل سوف تكف عن الانتظار؛ ينبغي إخطارها.»
وبعد أن اطلعت على تفاصيل زواج آناتول وفثأت غضبها بسباب عنيف، قالت ماري دميترييفنا لبيير السبب الذي دعته من أجله. إنها تخشى أن يطلع الكونت أو بولكونسكي الذي باتت عودته قريبة منتظرة، على المغامرة التي قررت إخفاء أمرها، فيدعوان آناتول إلى المبارزة؛ لذلك ترجو بيير أن يطلب - باسمه إلى - كوراجين هذا أن يغادر موسكو، وألا يعود إلى الظهور أمامها. وبعد أن وعى بيير الخطر الذي يهدد الكونت العجوز ونيكولا والأمير آندريه معا، وعدها بأن يعمل وفق إرشاداتها. وبعد أن شرحت له ماري دميترييفنا بكلمات موجزة مختصرة ما تنتظره منه، أرسلته إلى البهو، قالت له: «ولكن انتبه جيدا؛ إن الكونت لا يعلم شيئا. تظاهر بالجهل. خلال ذلك سأخطرها أنه ليس لديها ما تنتظره.»
وبعد أن انصرف، هتفت في أعقابه متممة: «وابق لتناول الغداء إذا راق لك ذلك.»
رأى بيير في البهو الكونت العجوز منقلب السحنة. لقد أطلعته ناتاشا منذ حين على أنها فصمت خطوبتها إلى بولكونسكي، قال له: «آه يا عزيزي! إنها مصيبة حقيقية عندما تكون البنية بعيدة عن أمها! كم أنا نادم على رحلتي هذه! سأكون صريحا معك، هل تصدق؟ لقد قطعت علاقتها ببولكونسكي دون أن تستشير أحدا. والحقيقة أن هذا الزواج لم يفتني قط: إنه بكل تأكيد شاب مستقيم، لكنه لا يمكن أن يكون سعيدا إذا تجاوز مشيئة أبيه، ثم إن ناتاشا لا تشكو قلة الراغبين في زواجها، لكن هذا طال منذ أمد بعيد، ثم كيف استطاعت أن تتصرف مثل هذا التصرف دون أن تتفوه بكلمة لأبيها أو لأمها! وها هي الآن مريضة، والله يعلم ما بها! آه! يا للتعاسة يا كونت، عندما تكون الفتيات بعيدات عن أمهن!»
ولما لاحظ بيير اضطراب الكونت، حاول عبثا أن يدير دفة الحديث. كان العجوز يرجع أبدا إلى مشاغله.
ظهرت سونيا على عتبة البهو مغتمة، قالت: «إن ناتاشا في صحة سيئة، وهي في غرفتها تريد رؤيتك. إن ماري دميترييفنا هناك معها، وهي ترجوك كذلك أن تحضر.»
قال الكونت: «صحيح، إنك صديق حميم لبولكونسكي. لعلها تريد أن تحملك رسالة ما إليه. آه يا إلهي! يا الهي! لقد كان كل شيء على ما يرام!»
وانسحب الكونت وهو يجذب شعيراته الشهباء النادرة.
كانت ماري دميترييفنا قد أطلعت ناتاشا على قصة زواج آناتول، فلم تصدق ناتاشا وسألت الكونت أن يؤكد لها ذلك. هذا ما أطلعت سونيا بيير عليه أثناء مرافقتها له عبر المماشي.
كانت ناتاشا جالسة بجانب ماري دميترييفنا وهي دائمة الامتقاع والشراسة: «وما إن ظهر بيير على عتبة الباب حتى سألته بنظرة محمومة. لم تبتسم له ولم تومئ برأسها، لم تبد نحوه إلا تلك النظرة، وتلك النظرة كانت تعنى: «هل هو صديق لآناتول أم عدو له كالآخرين؟ أما بيير نفسه، فلا شك أنه ما كان يشغل حيزا في تفكيرها.»
قالت ماري دميترييفنا لناتاشا وهي تشير إلى بيير: «إنه يعرف كل شيء.»
أجالت ناتاشا الطرف من وجه إلى آخر أشبه بالحيوان الحبيس الذي يرى الكلاب والصيادين محيقين به يقتربون.
شرع بيير يقول وهو مطرق برأسه؛ لأنه كان يحس بحنان عميق عليها وباشمئزاز عنيف للعمل التي قامت به: «ناتالي إيلينيتشنا، ناتالي إيلينيتشنا، لا يهمك أن يكون ذلك صحيحا أم لا طالما أن ...» - «إذن، إنه ليس صحيحا أنه متزوج؟» - «بل إنه متزوج.» - «إنه متزوج. ومنذ متى؟ أتقسم بشرفك؟»
أقسم لها بيير بشرفه. سألته بعنف: «ألا يزال هنا؟» - «نعم، لقد رأيته منذ حين.»
لم تقو على متابعة الحديث فأشارت لهم بيدها أن يخرجوا.
الفصل العشرون
تصرف بيير
انسحب بيير لفوره دون أن يوافق على البقاء لتناول طعام الغداء. مضى يبحث عن آناتول كوراجين الذي بات اسمه وحده يكفي لرد الدماء إلى قلبه وبهر أنفاسه، وبعد أن بحث عنه عبثا في «الجبال» وعند البوهيميين وعند جومونينو، ذهب إلى النادي. وهناك كان كل شيء يسير وفق مألوف العادة، والأعضاء الذين توافدوا لتناول الغداء كانوا جالسين جماعات جماعات يتحدثون فيما بينهم، فتبادلوا مع بيير التحية المناسبة، جاء خادم عليم بطبائعه. يعلمه وهو ينحني أمامه أن مكانه محجوز في قاعة الطعام الصغرى، وأن الأمير «ن. ن» موجود في المكتبة، وأن «ت. ت» لم يصل بعد. سألته إحدى معارفه أثناء حديثها عن المطر والطقس الجميل، عما إذا كان بلغه شيء عن اختطاف الآنسة روستوف من قبل كوراجين، وهل هذه الشائعة التي باتت تسري في المدينة حقيقية أم لا؟ أجابها بيير وهو يضحك: «إنها محض اختلاق؛ لأنه خرج لتوه من لدن آل روستوف.» ولما راح يستفسر عن آناتول من زملائه، أخبره أحدهم بأنه لم يحضر بعد، وأكد له آخر أنه سيأتي لتناول الغداء. أخذ بيير يتأمل هذه الجماعة من الأشخاص الهادئين اللامبالين الذين ما كانوا يخمنون ما يدور في خلده بشعور غريب. تنزه بعض الوقت في الأبهاء، لكنه لما رأى أن كل المواظبين على النادي قد حضروا ما عدا آناتول، أمسك عن تناول الطعام وعاد إلى مسكنه.
أما آناتول الذي كان بيير يبحث عنه، فقد كان يتناول طعامه ذلك اليوم عند دولوخوف ويستشيره عن الوسائل الكفيلة بمعالجة الأمر الفاشل، خيل إليه أن مقابلة جديدة مع الآنسة روستوف ضرورية لازمة. وعلى ذلك، فقد مضى ذلك المساء إلى نزل أخته ليسألها تدخلها. ولما عاد بيير إلى مسكنه، بعد أن جاب نواحي موسكو عبثا، أعلمه الخادم أن الأمير آناتول فاسيلييفيتش عند الكونتيس. وكان بهو هذه غاصا بالناس.
ودون أن يحيي زوجته التي لم يرها منذ عودته ؛ لأنها أصبحت في تلك اللحظة مكروهة منه أكثر من أي وقت مضى، دخل بيير إلى البهو؛ فلمح آناتول ومضى إليه مباشرة.
قالت الكونتيس وهي تقترب: «آه! بيير، إنك لا تدري في أي موقف ألقى آناتول بنفسه فيه!»
قطعت جملتها وهي ترى في رأس زوجها المطرق، وعينيه الملتمعتين، ومشيته الحازمة إشارات مخيفة تدل على الغضب الذي خبرت نتائجه بعد المبارزة مع دولوخوف.
قال بيير لزوجته: «أينما تكونين لا تكون إلا الجرائم والعجوز.»
وأضاف بالفرنسية محدثا آناتول: «آناتول، تعال؛ يجب أن أكلمك.»
وبعد أن ألقى آناتول نظرة إلى أخته نهض بوداعة وتبع بيير، أمسكه هذا بذراعه وجره خارج البهو. همت هيلين أن تدخل، غمغمت: «إذا سمحت لنفسك في بهو مسكني ...»
لكن بيير خرج دون أن يدعها تتم كلامها.
تبعه آناتول بخطواته المتينة، لكن تقاسيم وجهه اكتست بالقلق.
أغلق بيير باب مكتبه وراءه وقال له فجأة دون أن ينظر إليه: «لقد وعدت الكونتيس روستوف أن تتزوجها وكنت تريد اختطافها؟»
أجاب آناتول بالفرنسية - وهي اللغة التي دار كل هذا الحديث بها: «يا عزيزي، لا أظنني مضطرا إلى الإجابة على أسئلة تطرح علي بهذه اللهجة.»
شوه الغضب وجه بيير الممتقع من قبل، فأمسك بيده العريضة آناتول من ياقته وهزه في كل اتجاهات حتى اكتسى وجهه برعب كاف. كرر بيير: «أقول لك إنه «يجب» أن أكلمك.»
قال آناتول وهو يتلمس على ياقته زرا اقتلعه بيير مع قطعة من القماش: «ولكن، إن هذا مخالف للصواب!»
هتف بيير بلهجة تعظيم اضطره إليها استعمال اللغة الفرنسية: «إنك أحط الصعاليك. لست أدري ماذا يوقفني عن تحطيم رأسك بهذه!»
وأمسك بالثقل الذي يضعه على أوراق فوق المكتب ورفعه مهددا ثم عاد فوضعه: «هل وعدتها بالزواج؟» - «كلا على ما أعلم، ثم كيف يمكنني صرف مثل هذا الوعد طالما ...»
كرر بيير وهو يسير إليه: «ألديك رسائل منها؟ هل لديك رسائل؟»
نظر إليه آناتول ثم بحث على الفور في جيبه وأخرج حافظة أوراقه.
أخذ بيير الرسالة التي قدمها آناتول إليه ودفع مائدة كانت تعوق طريقه ثم انهار على الأريكة.
قال جوابا على حركة جزعة من آناتول: «لن أكون قاسيا، لا تخش شيئا.»
وتابع وكأنه يتذكر درسا حفظه: «الرسائل و...» وبعد سكتة قصيرة استأنف وهو يذرع الحجرة: «والشيء الآخر: يجب أن تغادر موسكو منذ الغد.» - «ولكن كيف أستطيع؟»
أردف بيير دون أن يصغي إليه: «وفي المقام الثالث: يجب ألا تنبس بكلمة واحدة إلى كائن من كان عما وقع بين الكونتيس وبينك. إن هذا لا أستطيع أن أمنعك عنه، وأنا أعرف ذلك. لكنه إذا بقي لديك بصيص من الوجدان.»
توقف عن الحديث واستمر في تجواله صامتا، بينما جلس آناتول إلى المائدة وقطب حاجبيه وراح يعض شفتيه: «لقد آن الوقت لتعرف أن خارج حدود لذائذك المفضلة يقوم شرف الآخرين وراحتهم، وأنك تدمر وجودا بكامله في غمار تسليتك. تسل ما شئت مع النساء اللواتي من نوع زوجتي؛ إنهن يعرفن ما تريده منهن وهن مسلحات ضدك بتجارب العجوز نفسها التي أنت متسلح بها. أما أن تعد فتاة بالزواج، أن تخدعها، أن تغرر بها ... ألا تفهم أنها نذالة أن يضرب المرء كهلا أو طفلا؟»
توقف بيير وراح يسأل آناتول بنظرة اختفى منها الغضب، قال آناتول وهو يستعيد جرأته كلما استعاد بيير هدوئه: «هذا ما لا أعرفه، هذا ما لا أعرفه ولا أريد معرفته.»
ثم ألمح وهو يتصفحه وقد صدرت عن ذقنه حركة عصبية: «لكنك قلت لي أشياء مهينة، واستعملت كلمة «نذل» وكلمات أخرى تجعلني بوصفي رجلا شريفا لا أسمح لأحد بقولها.»
لم يفقه بيير إلى أي هدف يرمي أخو زوجته، فراح يتأمله بدهشة. استرسل آناتول: «وعلى الرغم من أن هذا قيل في خلوة، فإنني لا أستطيع مع ذلك ...»
قال بيير بلهجة ساخرة: «أظن أنك تطلب ترضية مني؟» - «يمكنك على الأقل أن تصحح عباراتك - على ما أظن - إذا شئت أن أتصرف وفق رغباتك، هن؟»
قال بيير وهو ينظر بالرغم عنه إلى الزر المنزوع: «ليكن، إنني أسحب أقوالي، وأرجوك أن تعذرني، بل حتى إذا كنت في حاجة إلى المال للسفر ...»
علت شفتي آناتول ابتسامة أسخط تعبيرها الوضيع الوجل بيير. لقد شاهد مثلها على شفتي زوجته، هتف: «يا للعنصر الدنيء عديم القلب!»
وترك آناتول الذي سافر في اليوم التالي إلى بيترسبورج مشدوها في مكانه.
الفصل الحادي والعشرون
عودة الأمير آندريه
عاد بيير عند ماري دميترييفنا ليبلغها أن رغبتها قد نفذت: لقد ترك كوراجين موسكو. وجد في البيت حركة غير طبيعية: كانت ناتاشا مريضة جدا. أطلعته ماري دميترييفنا - بشرط أن يكتم السر - على أن ناتاشا شربت «الأرسنيك»، الذي حصلت عليه بالسر، في ذات اليوم الذي أحيطت فيه علما بنبأ زواج آناتول. مع ذلك، فإنها لم تكد تبتلع السم بكمية قليلة حتى أيقظت سونيا واعترفت لها بفعلتها. اتخذت إجراءات حاسمة في حينها فأنقذت حياتها، لكنها لا تزال في حالة من الضعف لا يمكن معها أن تنقل إلى الريف؛ لذلك فقد أرسلوا يطلبون الكونتيس. قدم بيير واجباته للكونت الذي كان في منتهى الوهن، ولسونيا التي كانت غارقة في دموعها، لكنه لم يستطع رؤية ناتاشا.
تغدى ذلك اليوم في النادي، ولما كان اختطاف الآنسة روستوف الذي لم يتم موضوع كل الأحاديث، فقد أعلن تكذيب النبأ بشدة، مؤكدا أن هذه الإشاعات مبعثها طلب زواج سخيف تقدم به أخو زوجته. قدر بيير أن من واجبه أن ينقذ سمعة الآنسة روستوف بهذه الأكذوبة.
انتظر بهول وصول الأمير آندريه، فكان يمضي كل يوم يتزود بالأخبار عنه من الأمير العجوز. وكانت الآنسة بوريين قد أطلعت هذا على كل الشائعات التي راجت مؤخرا في المدينة، وكذلك كان قد اطلع على الكلمة التي كتبتها ناتاشا إلى ماري تحل الأمير آندريه من وعده، فكان أكثر ابتهاجا من عادته يتلهف إلى عودة ابنه بنفاد صبر.
وبعد أيام قليلة على رحيل آناتول، تلقى بيير كلمة من الأمير آندريه يعلمه فيها بنبأ عودته، ويرجوه أن يزوره في منزله.
سرقت الآنسة بوريين رسالة ناتاشا إلى ماري من هذه الأخيرة، وأعطتها للأمير العجوز، فبادر هذا إلى إطلاع ابنه عليها وهو لما يصل بعد، وقص عليه بالتفصيل كل الشائعات الرائجة حول اختطاف ناتاشا.
هرع بيير منذ صباح اليوم التالي إلى منزل صديقه. كان يتوقع أن يجده في حال قريب من حال ناتاشا، لكنه - لدهشته - سمع من البهو صوت آندريه المجلجل ينبعث من مكتب أبيه وهو يقص بحماس دسيسة بيترسبورجية. كان الأمير العجوز وشخص آخر يقاطعانه من حين إلى آخر. جاءت الأميرة ماري تستقبل بيير، أطلقت زفرة وهي تشير بنظرها إلى باب المكتب، ولا شك أنها أرادت بتلك النظرة أن تعبر عن مدى رثائها لأخيها، لكن بيير لاحظ بوضوح أنها راضية تماما عن خيانة ناتاشا. وعن الطريقة التي استقبل بها أخوها النبأ، أكدت: «لقد قال إنه كان يتوقع ذلك. لا شك أن كبرياءه لا يسمح له أن يطلق العنان لعواطفه، لكنه على كل حال يحتمل الأمر أفضل، أفضل بكثير مما كنت أظن.»
قال بيير: «ولكن، هل الانفصام حقيقي كامل حقا؟»
نظرت إليه ماري بذهول؛ ما كانت تعتقد أن مثل هذا السؤال جدير بأن يطرح.
دخل بيير إلى المكتب، رأى الأمير آندريه جالسا أمام أبيه والأمير ميشتشيرسكي في ثياب مدنية، يناقش بحرارة ويحرك ذراعيه بنشاط. تبدل تبدلا كبيرا، وبدا في صحة أفضل، لكن غضنا جديدا جاء يقطع جبينه بين حاجبيه. كانوا يتحدثون عن خبر الساعة: نفي سبيرانسكي وخيانته المزعومة.
كان آندريه يقول: «إن كل ما كان منذ شهر يرفعه فوق السحب، رجمه اليوم بالحجر الأول. إنهم الآن ينضمون إلى أولئك الذين كانوا عاجزين عن فهم خططه ومراميه. إن من السهل جدا الحكم على رجل مغضوب عليه وتحميله أخطاء الآخرين كلها. حسنا! إنني أزعم إذا حصل شيء نافع في هذا العهد؛ فإن الفضل فيه يعود إليه ...»
توقف لدى رؤية بيير وانتفض وجهه ثم اتخذ على الفور سمة خبيثة، أعقب: «ولسوف تنصفه الأجيال القادمة.»
ثم التفت إلى بيير وقال بحماس بينما ازداد غضن جبينه بروزا: «حسنا، كيف حالك؟ إنك تسمن باضطراد.»
وأجاب على سؤال لبيير حول صحته بابتسامة مريرة: «نعم، إن صحتي جيدة.»
فسر بيير تلك الابتسامة بما يلي: «نعم ، إن صحتي جيدة، ولكن ما من أحد يشغل باله بصحتي.»
وبعد أن تبادل مع صديقه بضع كلمات عن حالة الطرق المريعة اعتبارا من الحدود البولونية، وعن معارف بيير الذين التقى بهم في سويسرا، وعن المدعو السيد ديسال الذي جاء به من الخارج ليشرف على تثقيف ولده، عاد آندريه يتدخل بحماس جديد في المحادثة المستمرة بين الشيخين، قال بحمية عميقة: «إذا كانت هناك خيانة أو كانت هناك أدلة على تواطؤ سبيرانسكي مع نابليون، فإنها كانت ستعلن رسميا. إنني لا أحب سبيرانسكي ولم أحببه قط، ولكن يجب أن يكون المرء عادلا.»
تعرف بيير على بادرة لم يرها تظهر على صديقه غالبا من قبل؛ ألا وهي الحاجة إلى الحركة والاندفاع في مناقشات شائكة بقصد نسيان أفكار شخصية شديدة الإيلام.»
بعد ذهاب الأمير ميشتشيرسكي، أخذ آندريه صديقه بيير من ذراعه وقاده إلى الحجرة التي خصصت له. كان هناك سرير قائم وحقائب وصناديق مفتوحة تضيق بها الغرفة. انحنى آندريه على أحدها وأمسك بصندوق صغير أخرج منه حزمة ملفوفة بالورق، قام بذلك بسرعة كلية، ودون أن ينطق بكلمة، ثم استوى وهو يسعل سعالا خفيفا، ووجهه كالح، وشفتاه مضمومتان بعنف: «اعذرني لإزعاجي لك.»
فهم آندريه أنه يريد أن يحدثه عن ناتاشا، فازداد انفعاله خصوصا عندما رأى وجهه مطبوعا بالتحنن، قال بصوت قاس ومنفر: «إن الكونتيس روستوف قد سحبت كلمتها، بل إنني سمعت أن أخا زوجك طلب يدها أو شيئا من هذا القبيل.»
هم بيير أن يقول مفسرا: «هذا صحيح دون أن يكونه ...»
لكن آندريه قاطعه قائلا: «ها هي رسائلها وصورتها.»
وأخذ عن المائدة الحزمة الملفوفة ومدها إلى بيير، وقال: «أعد هذه إلى الكونتيس عندما تقابلها.» - «إنها مريضة جدا.»
فقال آندريه بحدة: «آه! إنها لا تزال هنا؟ والأمير كوراجين؟» - «لقد رحل منذ زمن؛ لقد كانت مشرفة على الموت.»
قال آندريه بابتسامة باردة خبيثة تذكر بابتسامة أبيه: «إن مرضها يؤلمني أشد الألم، ولا شك أن السيد كوراجين لم يجدها جديرة بالزواج منه؟»
قال بيير: «ما كان يستطيع الزواج منها ؛ لأنه متزوج من قبل.»
تهانف آندريه كأبيه تماما: «وهل أستطيع أن أعرف أين هو الآن السيد أخو زوجتك؟» - «لقد ذهب إلى بيتر. في الحقيقة لست أدري شيئا عن مكانه.»
استأنف آندريه: «ذلك غير مهم على كل حال. قل عن لساني للكونتيس روستوف: إنها كانت من قبل وستظل دائما، أتمنى لها كل السعادة الممكنة.»
أخذ بيير حزمة الرسائل، فسأله آندريه بنظره وكأنه تذكر أن لديه شيئا لم يقله بعد، أو كأنه كان ينتظر أن يقول بيير شيئا. قال هذا: «أصغ إلي، إنك ولا شك لم تنس نقاشنا في بيترسبورج. تذكر ...»
فبادر آندريه يجيب: «إنني أذكر، قلت لك حينذاك: إنه يجب أن يغفر للمرأة التي سقطت، لكنني لم أقل لك: إنني أستطيع أن أغفر لها؛ إنني لا أستطيع الصفح.»
قال بيير: «هل يمكننا المقارنة؟»
لكن آندريه قاطعه صائحا بلهجة حادة: «نعم، أليس أن أطلب يدها من جديد، وأن أبرهن عن مروءتي وشهامتي وأشياء أخرى من هذا القبيل. لا شك أن ذلك آية في النبل، لكنني لا أشعر بقدرتي على السير فوق بقايا حطام السيد ... إذا كنت تريد الإبقاء على صداقتي، فلا تحدثني بعد اليوم أبدا عن هذه ... عن كل هذا. والآن الوداع، لقد اتفقنا، سوف تعيد إليها ...»
عاد بيير ليقابل الأمير العجوز وابنته.
بدا العجوز أكثر تيقظا من عادته، لكن ماري كانت على حالها، بيد أن بيير لاحظ أنها رغم رثائها لحال أخيها، كانت مغتبطة لإخفاق الزواج، فهم وهو يراقبهما مبلغ الاشمئزاز الذي يعمر به قلبهما حيال آل روستوف، وأحس أنه لا يمكن بعد الآن أن ينطق باسمهم في حضرتهما؛ اسم تلك التي استطاعت - لأي دافع كان - أن تخون الأمير آندريه.
تحدثوا عن الحرب خلال تناول الطعام؛ الحرب التي بدت وشيكة الاندلاع. أمسك آندريه بدفة الحديث وراح يتناقش سواء كان مع أبيه أو ديسال مثقف ابنه السويسري. بدا أكثر نشاطا من عادته، وكان بيير يعرف أكثر من سواه سبب ذلك الحماس.
الفصل الثاني والعشرون
غفران وحب
في ذلك المساء بالذات، مضى بيير إلى منزل آل روستوف لينفذ مهمته، كانت ناتاشا في السرير والكونت في النادي. أعطى بيير الرسائل إلى سونيا وذهب إلى غرفة ماري دميترييفنا التي كانت تريد أن تعرف كيف استقبل الأمير آندريه النبأ. وبعد عشر دقائق، جاءت سونيا تلحق به، قالت: «إن ناتاشا تريد رؤية الكونت بيير دون تأخير.»
اعترضت ماري دميترييفنا قائلة: «هل يمكن حقا أخذه إلى غرفتها؟ إن كل شيء فوضى مخيفة.»
قالت سونيا: «إنها مرتدية ثيابها تنتظر في البهو.»
هزت ماري دميترييفنا كتفيها باستسلام، قالت توصي بيير: «متى ستصل الكونتيس أخيرا؟ إنني ما عدت أحتمل! حاذر أن تقول لها كلمة. لا يجد المرء الشجاعة على توبيخها؛ إنها تستدر الشفقة.»
وقفت ناتاشا وسط البهو جامدة وهي شاحبة الوجه مهزولة كئيبة، ولكن - ولدهشة بيير الكبيرة - في غير خجل، فلما ظهر على العتبة انتابها اضطراب معين؛ ترددت بين أن تتقدم نحوه وبين أن تنتظره.
أسرع بيير الخطى. ظن أنها ستمد إليه يدها كعادتها، لكنها بعد أن تقدمت نحوه، توقفت مقهورة متدلية الذراعين، واتخذت مثل تلك الوقعة التي اعتادت عليها من قبل، حينما كانت تتوسط قاعة الرقص لتغني. لم يتغير فيها إلا أمارات وجهها.
شرعت تقول بصوت لاهث: «بيير كريلوفيتش، إن الأمير بولكونسكي صديقك.»
ثم صححت قولها وقد بدا لها أن كل شيء يخص الماضي وحده: «إنه لا يزال صديقك، لقد قال لي من قبل أن أتصل بك.»
كان بيير يصغي إليها مبهور الأنفاس، لقد أثقلها حتى تلك اللحظة باللوم والتعنيف في سره، بل إنه قرر أن يحتقرها. أما الآن فعلى العكس، لقد أخذت الشفقة تتسرب إلى قلبه طاردة كل فكرة ذم. - «إنه هنا. قل له ... أن ي... يصفح عني.»
توقفت لاهثة ولكن جافة العينين، قال بيير: «نعم، سأقول له، لكن ...»
ولم يدر ماذا يضيف.
قالت ناتاشا بحدة وقد روعتها الفكرة التي قد تكون مرت برأس بيير: «أوه! إنني أعرف أن كل شيء قد انتهى؛ انتهى إلى الأبد. إن ما يعذبني هو الألم الذي سببته له. قل له فقط: إنني أتوسل إليه أن يغفر لي، أن يغفر لي كل شيء ...»
واكتسح كيانها كله رعدة عصبية فمضت تتهالك على كرسي.
اجتاحت الشفقة قلب بيير بكل تأكيد، لم يشعر قط من قبل بشيء من هذا القبيل. - «سأقول له ذلك، سأقول له كل شيء ذات مرة ... لكنني ... وددت أن أعرف شيئا.»
سألته نظرة سونيا: «أن تعرف ماذا؟» - «وددت أن أعرف ماذا كنت أحببت.» وارتج عليه فلم يعد يعرف كيف يصف آناتول، بل إن وجهه احمر لمجرد التفكير فيه «إذا كنت أحببت ذلك الرجل المنحط؟»
قالت ناتاشا: «لا تسمه هكذا. لست أدري شيئا، لم أعد أدري شيئا.»
وانخرطت في البكاء، اعتلج شعور بالإشفاق والحنو والحب في نفس بيير، وأحس بالدموع تنبثق تحت نظارتيه فراح يرجوها ألا تلاحظها، قال: «لنكف عن البحث في هذا يا صديقتي.»
أثر ذلك الصوت الرقيق الحاني المضطرب في نفس ناتاشا فجأة. - «لنكف عن البحث يا صديقتي. سوف أقول له شيئا. أطلب إليك فقط أن تعتبريني بعد الآن صديقك، فإذا احتجت إلى مساعدة، أو نصح، أو إذا أردت تنفثي عما في نفسك - ليس الآن، ولكن عندما تجدين أن كل شيء قد عاد واضحا في سريرتك - تذكريني.»
وأمسك بيدها وقبلها ثم قال: «إنني سعيد لأنني أستطيع ...»
واضطرب بيير، هتفت ناتاشا: «لا تحدثني هكذا؛ إنني لا أستحق ذلك.»
وأرادت أن تنصرف، لكن بيير استوقفها، كان يعرف أن في نفسه شيئا آخر يقوله، لكنه ما كاد ينطق بما أراد حتى أدهشته كلماته، قال لها: «لا تقولي هذا؛ إن أمامك عمرا كاملا.»
أجابت وهي تحاول أن تنقص من قيمة نفسها: «أنا؟ كلا، لقد ضاع كل شيء.» - «ضاع كل شيء؟ أتظنين؟ حسنا! لو أنني كنت ما أنا. لو كنت أجمل وأذكى وأفضل الرجال، لو كنت مالكا حريتي؛ لما ترددت لحظة عن الركوع أمامك طالبا يدك وحبك.»
ذرفت ناتاشا لأول مرة منذ أيام طويلة دموع التحنان والشكران. شكرته بنظرة وخرجت.
خرج بيير كذلك، أو على الأحرى فر حتى بلغ الدهليز وهو يمسك دموع السعادة التي كانت تخنقه. ارتدى فروته كيفما اتفق وصعد إلى زحافته. سأله الحوذي: «أين يجب الذهاب الآن؟»
تساءل بيير: «أين يمكنني أن أذهب؟ إلى النادي؟ عند أصدقاء؟ مستحيل.»
بدا له كل شيء شديد الحقارة والتفاهة بالنسبة إلى ذلك الشعور بالحنان والحب الذي استسلم له، بالنسبة لنظرة العرفان تلك التي منحتها له خلال دموعها! قال: «إلى البيت.»
وعلى الرغم من درجات البرد العشر، فقد أزاح فروته المصنوعة من جلد الدب عن صدره العريض وراح يتنفس بجذل.
كان وقت صقيع جميل والسماء الداكنة المزروعة بالنجوم تنبسط فوق الشوارع القذرة نصف المعتمة، وفوق السقوف المظلمة. ما كان غير تأمل هذا البهاء الرائق ينسي بيير دناءة الأشياء البشرية إذا قورنت بالسمو الذي بلغته روحه. وعندما وصل إلى ساحة «آربات»، انحسر أمام عينيه فراغ كبير من القبة المنجمة. وفي كبد السماء، فوق جادة بريتشيستنكي تماما، وسط موكب من النجوم امتاز عنها بضيائه الأبيض، وتجاوره الأكبر، وذيله الطويل المرتفع عند طرفه، ظهر المذنب الكبير اللامع، مذنب عام 1812، الذي زعموا أنه ينبئ بالأهوال الكثيرة، بل وبانتهاء العالم، لكن تلك النجمة الهائلة المشعة ذات الذنب المضيء لم توقظ في نفس بيير أي رعب، بل على العكس راح يتأملها فرحا بعينيه المخضلتين بالدموع. بدت كأنها بعد أن قطعت مسافة يستحيل قياسها بسرعة لا حد لها حسب خط المجاز. انغرست فجأة في المكان الذي انتقته في تلك السماء المعتمة كما يغرز السهم في الأرض، وظلت هناك تنفش ذنبها، وتذبذبت أضواء نورها الأبيض بين نجوم متألقة لا تحصى، فكان بيير يجد علاقة غامضة بين بهاء هذا الكوكب وبعث روحه المتعطفة المتفتحة لحياة جديدة.
الكتاب الثالث
الجزء الأول
1 - تحديد المسئولية
2 - أول الغيث
3 - النبأ
4 - الرسول
5 - العودة إلى فيلنا
6 - في حضرة الإمبراطور
7 - عودة الرسول
8 - عودة إلى ليسيا جوري
9 - حالة الجيش
10 - الجنرال بفويل1
11 - مجلس حربي
12 - الرئيس روستوف
13 - في المنزل
14 - الاشتباك الأول
15 - هجوم الفرسان
16 - مرض ناتاشا
17 - الشفاء
18 - دعاء سينود
19 - الروسي بيزوخوف
20 - النداء الإمبراطوري
21 - الإمبراطور في موسكو
22 - مناقشات النبلاء
23 - قرار نبلاء موسكو
الجزء الثاني
1 - تدابير مزعومة
2 - صفح الأمير العجوز
3 - ذكريات كاتيرين
4 - استسلام سمولنسك
5 - رسالة باجراسيون
6 - كوتوزوف يتسلم القيادة
7 - لافروشكا وبونابرت
8 - موت الأمير بولكونسكي
9 - فطنة ألباتيتش
10 - الأميرة ودرون
11 - قرار الفلاحين
12 - ذكريات ماري
13 - تدخل روستوف
14 - إخماد الفتنة
15 - كوتوزوف وآندريه
16 - طريقة كوتوزوف
17 - رياء موسكو
18 - قرار بيير الأخير
19 - معركة شيفاردينو وبورودينو
20 - رحلة بيير
21 - عذراء سمولنسك
22 - وجوه قديمة
23 - تصرف بينيجسن
24 - إحساس آندريه
25 - آراء جديدة
26 - ملك روما
27 - خطة نابليون
28 - آراء المؤرخين
29 - الطلقات الأولى
30 - بدء المعركة
31 - في جحيم المعركة
32 - استعدادة التل
33 - المعركة الرئيسية
34 - مخاوف نابليون
35 - السيد العجوز
36 - جرح الأمير آندريه
37 - لقاء الغريمين
38 - آراء نابليون
39 - نتائج المعركة
الجزء الثالث
1 - في قوانين التاريخ
2 - المغيب
3 - حالة كوتوزوف
4 - المجلس العسكري
5 - إعداد حريق موسكو
6 - خطة هيلين
7 - رسالة هيلين
8 - محنة بيير
9 - العودة إلى موسكو
10 - قصة النداء
11 - اختفاء بيزوخوف
12 - آل روستوف
13 - الضباط الجرحى
14 - الأمير آندريه
15 - عواطف الكونت
16 - نقل الجرحى
17 - رحيل آل روستوف
18 - قصة بيير
19 - نابليون على مشارف موسكو
20 - الحيلة الميتة
21 - أعمال السلب
22 - مافرا والضابط المجهول
23 - الغوغاء
24 - حالة روستوبتشين
25 - انسحاب روستوبتشين
26 - احتلال موسكو
27 - نفسية بيير
28 - حياة الضابط
29 - الرئيس رامبال
30 - المظاهر الأولى
31 - خطة ناتاشا
32 - لقاء الحبيبين
33 - الحريق
34 - اعتقال بيير
الكتاب الثالث
الجزء الأول
1 - تحديد المسئولية
2 - أول الغيث
3 - النبأ
4 - الرسول
5 - العودة إلى فيلنا
6 - في حضرة الإمبراطور
7 - عودة الرسول
8 - عودة إلى ليسيا جوري
9 - حالة الجيش
10 - الجنرال بفويل1
11 - مجلس حربي
12 - الرئيس روستوف
13 - في المنزل
14 - الاشتباك الأول
15 - هجوم الفرسان
16 - مرض ناتاشا
17 - الشفاء
18 - دعاء سينود
19 - الروسي بيزوخوف
20 - النداء الإمبراطوري
21 - الإمبراطور في موسكو
22 - مناقشات النبلاء
23 - قرار نبلاء موسكو
الجزء الثاني
1 - تدابير مزعومة
2 - صفح الأمير العجوز
3 - ذكريات كاتيرين
4 - استسلام سمولنسك
5 - رسالة باجراسيون
6 - كوتوزوف يتسلم القيادة
7 - لافروشكا وبونابرت
8 - موت الأمير بولكونسكي
9 - فطنة ألباتيتش
10 - الأميرة ودرون
11 - قرار الفلاحين
12 - ذكريات ماري
13 - تدخل روستوف
14 - إخماد الفتنة
15 - كوتوزوف وآندريه
16 - طريقة كوتوزوف
17 - رياء موسكو
18 - قرار بيير الأخير
19 - معركة شيفاردينو وبورودينو
20 - رحلة بيير
21 - عذراء سمولنسك
22 - وجوه قديمة
23 - تصرف بينيجسن
24 - إحساس آندريه
25 - آراء جديدة
26 - ملك روما
27 - خطة نابليون
28 - آراء المؤرخين
29 - الطلقات الأولى
30 - بدء المعركة
31 - في جحيم المعركة
32 - استعدادة التل
33 - المعركة الرئيسية
34 - مخاوف نابليون
35 - السيد العجوز
36 - جرح الأمير آندريه
37 - لقاء الغريمين
38 - آراء نابليون
39 - نتائج المعركة
الجزء الثالث
1 - في قوانين التاريخ
2 - المغيب
3 - حالة كوتوزوف
4 - المجلس العسكري
5 - إعداد حريق موسكو
6 - خطة هيلين
7 - رسالة هيلين
8 - محنة بيير
9 - العودة إلى موسكو
10 - قصة النداء
11 - اختفاء بيزوخوف
12 - آل روستوف
13 - الضباط الجرحى
14 - الأمير آندريه
15 - عواطف الكونت
16 - نقل الجرحى
17 - رحيل آل روستوف
18 - قصة بيير
19 - نابليون على مشارف موسكو
20 - الحيلة الميتة
21 - أعمال السلب
22 - مافرا والضابط المجهول
23 - الغوغاء
24 - حالة روستوبتشين
25 - انسحاب روستوبتشين
26 - احتلال موسكو
27 - نفسية بيير
28 - حياة الضابط
29 - الرئيس رامبال
30 - المظاهر الأولى
31 - خطة ناتاشا
32 - لقاء الحبيبين
33 - الحريق
34 - اعتقال بيير
الحرب والسلم (الكتاب الثالث)
الحرب والسلم (الكتاب الثالث)
إلياذة العصور الحديثة
تأليف
ليو تولستوي
الكتاب الثالث
نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية نخبة من أسرة «دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر بسورية» استنادا إلى الترجمتين الفرنسية والإنجليزية، وروجع النص الأخير على الأصل الروسي.
ليو تولستوي.
ليو تولستوي، عام 1910م.
الجزء الأول
الأمير نيقولاس.
الفصل الأول
تحديد المسئولية
في الأشهر الأخيرة من عام 1811م حشدت أوروبا وأعدت قوات عظيمة، وفي عام 1812م وجهت هذه القوات وتعدادها الملايين من الرجال، بما في ذلك رجال النقل والتموين، من الغرب إلى الشرق نحو الحدود الروسية؛ حيث كانت تتجمع بالمثل القوات الروسية منذ عام 1811م، وفي الثاني عشر من حزيران اجتازت جيوش أوروبا الغربية الحدود، وبدأت الحرب؛ أي إنه وقع حدث مخالف للعقل، مخالف لكل طبيعة الإنسان! ولقد ارتكبت هذه الملايين من الرجال بعضها في حق بعض عددا كبيرا من الكبائر والمخادعات والخيانات والسرقات وترويج النقد الزائف والنهب والحرائق والقتل، تعجز وثائق كل محاكم العالم عن تقديم أمثلة مماثلة خلال قرون. كل هذا دون أن يعتبر فاعلو هذه الرذائل خلال تلك الحقبة من الزمن أنها جرائم بشعة.
ما الذي سبب هذا الحدث الأعجوبي؟ وماذا كانت أسبابه؟ إن المؤرخين يظهرون بتأكيد خالص أنها إهانات الدوق أولدنبورج وخرق الحصار البري،
1
وطمع نابليون وعناد ألكسندر وأخطاء الدبلوماسية ... إلخ. أي إنه لو كان الأمر كذلك، كان يكفي لتفادي الحرب أن يجتهد ميترنيخ
2
أو روميانتسيف
3
أو تاليران
4
بين عشية وضحاها، فيحرر مخابرة سياسية بارعة، أو أن يكتب نابليون إلى ألكسندر بكل بساطة: «سيدي أخي، إنني أوافق على إعادة الدوقية للدوق أولدنبورج.»
5
يلاحظ أن هذه كانت وجهة نظر المعاصرين، ويلاحظ كذلك أن نابليون كان يعزو منشأ الوقيعة إلى دسائس بريطانيا، كما أعلن بذلك بكل صراحة في سانت هيلين.
6
ويلاحظ أن أعضاء مجلس النواب البريطاني ألقوا المسئولية على طمع الإمبراطور. فالدوق أولدنبورج لا بد وأن يستشهد بالقسوة التي كان ضحية لها، وبالمفاوضين والحصار الذي كان يجر الخراب على أوروبا والعسكريين القدماء، وضرورة تقديم ما يشغلهم والمشرعين وسرعة إقامة «المبادئ الطيبة» والدبلوماسيين وواقع أن التحالف المعقود عام 1809م بين النمسا وروسيا لم يخف بمهارة كافية على نابليون بسبب رداءة تدبيج المذكرة (ميوراندوم) رقم 178. يلاحظ أن المعاصرين وإن استعانوا بكل هذه الأسباب وبعدد آخر تبعا للتباين المتناهي في وجهات النظر، فإنها تبدو لنا - نحن الأعقاب الذين نقدر هذا الحدث الهائل على كل رحابته، ونتعمق في معناه البسيط بقدر ما هو رهيب - أقل كفاية. أن يكون الملايين من المسيحيين قد تألموا أو تذابحوا لأن نابليون كان طماعا وألكسندر عنيدا وسياسة بريطانيا ملتوية والدوق أولدنبورج مهانا، أمر يستغلق علينا فهمه! إننا لا نعقل أن هناك رباطا يمكن أن يجمع بين هذه الظروف وبين جرائم القتل أو أعمال العنف ولا نرى كيف أن الإهانة الموجهة إلى دوق قدرت على نقل الألوف من الرجال من جانب أوروبا إلى جانبها الآخر ليقتلوا وينهبوا سكان أقاليم سمولنسك
7
وموسكو، أو ليقتلوا من قبلهم.
إن الأسباب في نظرنا، نحن الذين نمثل الأجيال المتعاقبة، نحن الذين لسنا مؤرخين والذين لا نتيه في مصلحة الاستقصاءات، بل نستطيع أن نتفحص هذا الحدث بحس جلي أكثر من أن تحصى، وكلما ازددنا تعمقا في البحث عن هذه الأسباب، كلما تبدت لنا أكثر عددا، وكل سبب نأخذه على حدة، وكل مجموعة من الأسباب تبدو لنا بآن واحد عادلة في نفسها خاطئة بسبب تفاهتها ومقارنتها بجسامة الحدث، حتى لتعجز عن الإتيان به دون تدخل الأسباب المطابقة الأخرى كلها. فإذا كنا مثلا نستشهد برفض نابليون إيقاف قواته وراء الفيستول
8
وإعادة دوقية أولدنبورج، فلماذا لا نستعرض كذلك رغبة أي كان من العرفاء الفرنسيين في التطوع من جديد أو رفضه؟ لنفرض جدلا أن هذا الرجل ومن ورائه ألوف آخرون من العرفاء، رفضوا أن يعودوا إلى الخدمة، فإن جيش نابليون كان سيمنى بنقص، والحرب ما كانت لتقع.
لو أن نابليون لم يعتبر الانطواء وراء الفيستول مذلا لما تقدم بقواته، ولما وقعت الحرب. لكن لو أن رقباءه كلهم رفضوا الخدمة لما وقعت الحرب كذلك. كما أنه لولا دسائس الإنجليز ووجود الدوق أولدنبورج، ولو أن ألكسندر لم يكن سريع الغضب ولم تكن لروسيا حكومة أوتوقراطية، ولو لم تقع الثورة الفرنسية وحكومات «الإدارة»
9
و«المملكة»
10
وأي شيء؛ مما أدى إلى تلك الثورة ... إلخ. فإن العدوان كان مستحيل الوقوع. ما كان ليحدث شيء لولا سبب من هذه الأسباب؛ فالتقاؤها ومليارات أخرى مشابهة وضع النار في البارود، لا يمكن استبعاد أي سبب ولقد تأدى الحدث؛ لأنه كان لا بد وأن يكون هكذا فحسب. كان يجب أن يمضي الملايين من الرجال فاقدين التعقل مطلقين كل عاطفة إنسانية، ومن الغرب إلى الشرق ليقتلوا أشباههم كما انحدرت جماهير من الرجال قبل بضعة قرون من الشرق إلى الغرب ليقتلوا أمثالهم هناك.
وفي الواقع إن أفعال نابليون وألكسندر اللذين كان كلامهما وحده يستطيع في الظاهر إثارة الحدث أو حبسه، كانت تساوي بتفاهة وزنها قيمة أفعال الجندي البسيط الذي كان القدر أو التجنيد يرغمه على خوض الحرب. ما كان يمكن أن تكون غير ذلك؛ لأنه لكي تتم مشيئة نابليون أو ألكسندر المحكمين الظاهرين بالمقدر، كان لا بد من مساهمة الملابسات التي لا تحصى طالما أن الأمر ما كان ليقع لو استبعدت إحداها. كان لا بد لهذه الملايين من الرجال الذين كانت بين أيديهم القوة الفاعلة بوصفهم جنود القتال ونقل أرزاق المدافع أن يوافقوا جميعا على إمضاء مشيئة هذين الشخصين الضعيفين المنعزلين، وأن يكونوا مسترشدين بعدد لا يحصى من الأسباب المختلفة المركبة.
لا بد من اللجوء إلى مذهب الجبرية إزاء بعض الظواهر التاريخية العارية عن المعنى، أو التي يفوتنا معناها . والواقع أن عقلنا كلما اجتهد في تفسيرها كلما بدت لنا منافية للصواب ، متعذرة الفهم.
إن كل رجل يعيش من أجل نفسه ويستعمل حريته لبلوغ أهداف خاصة، ويشعر بكل كيانه أنه قادر أو عاجز على القيام بهذا أو ذاك من الأفعال، لكنه ما إن يعمل حتى يصبح عمله الذي أنجزه في لحظة ما من الديمومة لا رجعة فيه، وملكا منذ ذلك الحين للتاريخ؛ حيث لا يعود حرا، بل خاضعا للقدر.
إن للحياة البشرية وجهين؛ فهناك من الجانب الأول الحياة الشخصية التي تبلغ الحرية فيها مبلغ ما للغايات من تجرد، ومن الجانب الآخر الحياة البدائية الجماعية التي يجب على الإنسان فيها أن يخضع حتما للقوانين المعينة له.
والإنسان يعيش عامدا من أجل نفسه، لكنه يساهم دون عمد في أهداف الإنسانية جمعاء التاريخية. والفعل المنجز لا مرد له، وباتحاده مع ملايين الأفعال الأخرى المتممة من قبل الغير يأخذ قيمة تاريخية. وكلما ارتفعت مرتبة الرجل على السلم الاجتماعي، كلما كانت الشخصيات التي يعقد معها العلاقات أرفع شأنا، وكانت سلطته على الغير أوسع مدى، وكل من أعماله مرتديا طابعا واضحا من الضرورة والاصطفاء. «إن قلوب الملوك في يد الله.»
11
والملك عبد التاريخ.
والتاريخ، أي إن حياة الإنسانية العامة الجماعية غير العمدية تستخدم كل دقيقة من حياة الملوك لإنجاز مشاريعها.
وعلى الرغم من أن نابليون عام 1812م كان يعتقد أكثر من أي وقت مضى أنه عليه وحده يتوقف «إهراق دم شعوبه أو عدم إهراقه» كما قال له ألكسندر في رسالته الأخيرة التي كتبها إليه. فإنه كان أكثر من أي وقت مضى خاضعا لهذه القوانين الجبرية التي كانت تلزمه بتنفيذ عمل التاريخ العام الذي كان يجب حتما أن ينفذ وهي تترك لهم التوهم بأنه إنما يعمل وفقا لرغبته الشخصية.
تحرك رجال الغرب نحو رجال الشرق كي يقتل بعضهم بعضا، وتبعا لقانون توافق الأسباب كانت ألوف الأسباب الصغرى متفقة مع هذه الحركة: خرق الحصار البري، إهانات الدوق أولدنبورج، تسيير الجيوش في بروسيا الذي كان نابليون يفكر في الشروع فيه بغية تأمين سلام مسلح فحسب، غرام إمبراطور الفرنسيين المتأصل بالحرب متفقا مع استعداد خاص من جانب شعبه، الجاذبية المباشرة للتجهيزات الجسيمة والنفقات التي أوجبتها، حاجة الحصول على فوائد لتغطية هذه النفقات، استقبالات دريسد
12
المسكرة، المفاوضات الدبلوماسية التي كان المعاصرون يظنون أنها تجري برغبة مخلصة للحصول على السلم، والتي كانت في حقيقتها تسيء إلى أنانية هذا وذاك من الجانبين، وملايين من الأسباب الأخرى كانت تساهم في إتمام الحدث.
المذنب العظيم عام 1812م.
تسقط تفاحة عندما تكون ناضجة، فلماذا تسقط؟ هل يجذبها ثقلها إلى الأرض أم أن طرفها قد يبس، أم أن الشمس حمستها، أم هزتها الريح فأسقطتها؟ هل تستجيب بكل بساطة لنداء الغلام الخفي الذي اشتهاها؟
لا شيء من كل هذا هو السبب! ليس هنا إلا توافق أسباب مواتية لإنجاز أية تظاهرة أولية في الحياة العضوية. فعالم النبات يقول إن التفاحة تسقط نتيجة تملل النسيج النووي أو شيء آخر من هذا النوع. والفتى يزعم أن التفاحة سقطت لأنه يشتهيها فتوجه بصلاة لهذه الغاية. وكلاهما يكون على حق. هذا يؤكد أن نابليون جاء إلى موسكو لأنه كان يريد ذلك، وأنه وجد فيها خسرانه؛ لأن ألكسندر كان قد اعتزم على إلحاق الخسارة به. وذاك يؤكد أن جبلا زنته ألوف الأطنان قوض من قاعدته، فانهار نتيجة لضربة معول أخيرة من يد آخر حفار. كلاهما مخطئ ومصيب معا! إن الرجال العظام المزعومين ليسوا في الوقائع التاريخية إلا عناوين لا يربطها بالأحداث أي نوع من الصلات، رغم أنها تضفي أسماءها على تلك الأحداث.
وعلى الرغم من أن تصرفاتهما بدت لهما ناجمة عن محض اختيارهما، فليس بينهما واحد مخيرا بالمعنى التاريخي للكلمة، بل كل منهما مرتبط بسير التاريخ العام ومعين منذ الأزل.
الفصل الثاني
أول الغيث
في التاسع والعشرين من آيار، غادر نابليون دريسد التي أمضى فيها ثلاثة أسابيع محاطا ببطانة من الأمراء و«الدوقات» والملوك، بل ومعه حتى إمبراطور. لقد عامل قبل سفره الإمبراطور والملوك والأمراء الذين خدموه بإخلاص بمزيد من الإكرام، وعدل الأمراء والملوك الذين كان مستاء منهم، وقدم لإمبراطورة النمسا لآلئ وماسات أخذها من صندوقه الخاص؛ أي إنها جواهر مصادرة من ملوك آخرين. وبعد أن ضم بين ذراعيه ماري لويز بحنان تركها - كما يؤكد مؤرخه - محزونة جدا لهذا الرحيل الذي على ما يبدو لم تكن لماري لويز القوة على احتماله، وهي التي تعتبر وكأنها زوجته، رغم أن زوجته الشرعية موجودة في باريز. وعلى الرغم من أن الدبلوماسيين ظلوا مؤمنين بإقامة السلم، وعملوا بنشاط لهذه الغاية، وعلى الرغم من أن نابليون كتب لألكسندر رسالة بخط يده دعاه فيها «بسيدي أخي»، وأكد له فيها أنه لا يريد الحرب، ولن ينفك عن تقديره ومحبته، فإن الإمبراطور ما كان ذاهبا إلا للالتحاق بالجيش، فيعطي في كل مرحلة أوامر جديدة ترمي إلى الإسراع بالسير نحو الشرق. كان في عربة مقطورة إلى ست جياد، يحيط به التابعون ومساعدو الميدان والحرس، يسير في طريق بوزن
1
ثورن
2
دانتزيج
3
كونيجزبيرج
4
الكبرى، وفي كل مدينة من هذه المدن يستقبله ألوف من الناس بحماس ممتزج بالرعب.
كان الجيش يسير نحو الشرق، كما أن الجياد الستة التي تجر مركبته، والتي كانت تبدل في كل مرحلة، كانت تحمل نابليون نحو الجيش. لحق به في العاشر من حزيران، وأمضى الليل في صلب غابة فيلكوفيسزكي في أملاك «كونت» بولوني؛ حيث أعد له جناح خاص لحلوله.
وفي صبيحة اليوم التالي، تجاوز الجيش فبلغ نييمن
5
في عربة؛ حيث راح يتفحص الضفاف وهو في الزي البولوني بحثا عن مكان مناسب لعبور القطعات.
ولما رأى القوقازيين القائمين على الشاطئ الآخر والأقفار اللامتناهية التي تقوم في وسطها موسكو المدينة المقدسة، عاصمة هذه المملكة التي تذكر بمملكة يأجوج ومأجوج التي احتلها الإسكندر المقدوني، أمر نابليون بالسير إلى الأمام وسط الدهشة العامة والاستخفاف بكل العبارات الاستراتيجية أو السياسية. ومنذ صبيحة اليوم التالي اجتازت قواته النييمن.
وفي الثاني عشر، خرج مبكرا من خيمته التي نصبت ذلك اليوم عند منحدر من الضفة اليسرى، وراح يفحص بمنظاره تدفق جيوشه التي كانت تخرج من غابة فيلكوفيسزكي لتنتشر على الجسور الثلاثة المقامة على النييمن. وكان الجنود عارفين بوجود الإمبراطور، يبحثون عنه بأنظارهم، فإذا ما شاهدوا على المرتفع، أمام خيمته متنحيا عن حاشيته، شبحه وهو في «الرودنجوت» وعلى رأسه القبعة الصغيرة، ألقوا في الهواء بقلانسهم الوبرة وهم يصيحون: «عاش الإمبراطور!» وظلت القطعات تتدفق بلا انقطاع من الغابة التي كانت تخفيها وتمر منقسمة عن طريق الجسور الثلاثة إلى الضفة الأخرى. «سوف نصل هذه المرة. آه! عندما يتدخل بنفسه يحمي الوطيس ... باسم الله! ... ها هو ذا ... يحيا الإمبراطور ... ها نحن أولاء في أقفار آسيا! بلد رديء رغم كل شيء.» «وداعا يا بوشيه، سأحتفظ لك بأجمل قصر في موسكو.» «إلى اللقاء وحظا سعيدا! ...» «هل رأيته، الإمبراطور؟ يحيا الإمبراطور ... طور!» «إذا جعلوا مني حاكما للهند سأجعلك يا جيرار وزيرا لكشمير، هذا مقرر.» «يعيش الإمبراطور! يعيش! يعيش! يعيش!» «يا للقوقازيين الأنذال، كيف يفرون؟! يحيا الإمبراطور! ها هو ذا! هل تراه؟ لقد رأيته مرتين كما أراك. العريف الصغير ... لقد رأيته يعطي الصليب إلى واحد من الكهول ...» «يحيا الإمبراطور! ...»
تلك كانت العبارات التي يتبادلها الشبان والكهول، أشخاص من كل نوع ومن كل المراكز الاجتماعية. وكانت الوجوه كلها تعكس فرحة واحدة لرؤية بدء الحملة المنتظرة بفارغ الصبر، وحماسا واحدا وتفانيا واحدا للرجل ذي الرودنجوت الرمادي الذي كان يرى في الأعلى فوق المنحدر.
وفي الثالث عشر، جاءوا إلى نابليون بحصان عربي أصيل، فامتطاه وانتهى إلى واحد من جسور النييمن هربا، وقد أصمته خلال الطريق الهتافات بحياته التي احتملها؛ لأنه ما كان يستطيع أن يحرم على جنوده الإعراب عن محبتهم له بهذا الشكل، وكانت هذه الصيحات المسترسلة توقره، كانت تحرفه عن المشاغل ذات الصبغة العسكرية التي كان فريسة لها منذ أن لحق بالجيش. اجتاز النهر على واحد من الجسور المتهززة، وانحرف فجأة إلى اليسار، ثم جرى على حصانه في طريق كوفنو
6
يسبقه قناصة من الحرس الراكب يستخفهم الفرح كانوا يشقون له طريقا خلال القطعات. ولما وصل إلى شاطئ فيليا العريض؛ توقف قرب فيلق من الفرسان البولونيين الذين كانوا نازلين هناك.
هتف البولونيون بدورهم: «يحيا!»
وفي غمرة حماسهم أفسدوا نظام الصف، وتدافع بعضهم بعضا ليروه بشكل أفضل.
تأمل نابليون النهر ثم ترجل عن حصانه وجلس على لوح خشبي على جانب الشاطئ، ودون أن ينبس بكلمة حملوا له منظاره بإشارة منه؛ فأسنده على كتف واحد من أتباعه، الذي هرع تملؤه الغبطة، وراح يفحص الشاطئ المقابل، استغرق في دراسة الخريطة المنشورة على جذوع شجرة، ودون أن يرفع رأسه نطق ببضع كلمات، فحث اثنان من مساعدي الميدان جواديهما نحو الفرسان البولونيين. ولما وصل أحدهما إليهم، سرت همهمة بين الصفوف: «ماذا قال؟ ماذا قال؟»
كان الأمر ينص على البحث عن مخاضة وعبور النهر. سأل زعيم الفرسان - وكان رجلا مسنا أنيق اللباس وهو مضرج الوجه يتمتم من التأثر - المساعد عما إذا كان يسمح له بعبور النهر سباحة دون التفكير في المخاضة، ولقد التمس بذعر ظاهر خشية أن يرفض ملتمسه، شأن الصبي الذي يسأل الإذن بامتطاء صهوة جواد، أن يسمح له بتنفيذ هذه المأثرة تحت بصر الإمبراطور. فأجاب المساعد بأن هذا لن يكون - ولا ريب - مستاء من هذه الغيرة المفرطة.
وفي الحال هز الضابط المسن ذو الشاربين الطويلين سيفه، وهتف ملتمع العينين مشرق الأسارير: «فيفا! يحيا.» ثم أعطى الأمر لجنوده أن يتبعوه، وهمز حصانه واندفع نحو النهر. ولما جمح الحصان، شدد عليه بغضب وغاص في الماء متجها نحو موضع يكون التيار فيه قويا، وتبعه مئات من الفرسان، ولكن ما إن بلغوا منتصف النهر حتى استبد بهم البرد والخوف، فتعلق بعضهم ببعض وهم حيارى. غرقت بعض الجياد، وبعض الرجال كذلك، وحاول آخرون أن يسبحوا وهم متشبثون بعضهم بسروج الجياد وبعضهم بأعرافها. جاهدوا لبلوغ الشاطئ الآخر رغم أن هناك مخاضة على بعد خمسمائة متر من المكان، لكنهم كانوا فخورين بأن يسبحوا وأن يغرقوا تحت أبصار ذلك الرجل الجالس على جذع شجرة، الذي لم يكن ينظر حتى ما كانوا يفعلون. ولما عاد المساعد العسكري، انتهز فرصة مواتية ليلفت انتباه الإمبراطور إلى تفاني البولونيين في سبيل شخصه، وحينئذ نهض الرجل ذو «الرودنجوت » الرمادي واستدعى بيرتييه،
7
وراح يتنزه معه على طول النهر وهو يعطيه أوامره ويلقي نظرات ساهمة مستاءة على أولئك الفرسان الذين كانوا بغرقهم يحولون انتباهه عن الأعمال الجدية.
كان قانعا منذ زمن طويل أن وجوده في كل أركان العالم ابتداء من أفريقيا وحتى أقفار موسكوفا، يكهرب كل الرجال ويثير فيهم جنون التضحية؛ لذلك فقد استحضر جواده وعاد إلى مخيمه.
وعلى الرغم من القوارب التي أرسلت لإنقاذهم، فقد غرق حوالي أربعون فارسا وارتد معظمهم إلى الشاطئ. أما الزعيم وعدد من الرجال، فقد بلغوا بصعوبة الشاطئ الآخر، وما إن ظهروا هناك بثيابهم المبللة بالماء حتى هتفوا: «فيفا!» وهم ينظرون إلى المكان الذي كان فيه نابليون، والذي لم يعد فيه، شاعرين بالسعادة.
وفي المساء، بين قرارين: الأول يهدف إلى سرعة استقدام نقد زائف معد لإدخاله إلى روسيا. والثاني إعدام سكسوني عثر معه على رسالة تحوي معلومات عن حركات الجيش الفرنسي، اتخذ الإمبراطور قرارا ثالثا ينص على تسمية الزعيم البولوني الذي اندفع في النهر دون أية ضرورة ملحة، عضوا في جوقة الشرف التي كان هو رئيسها.
إن الذين يريدون الموت يتخلون عن تعقلهم أولا.
الفصل الثالث
النبأ
في تلك الأثناء كان إمبراطور روسيا في فيلنا
1
منذ أكثر من شهر؛ حيث كان يتفقد جيوشه ويشاهد مناورات عسكرية. كان الناس كلهم يتوقعون الحرب، ولقد غادر الإمبراطور بيترسبورج عامدا ليعد العدة للحرب، مع أنه لم يكن هناك شيء بعد. لم تكن لديه خطة عامة للعمليات، ولقد عرض عليه عدد منها ولكن دون أن يتبنى إحداها. وكلما أطال ألكسندر مقامه، ازداد البلبال في اتخاذ ما يجب اتخاذه. كان لكل جيش من الجيوش الثلاثة قائده الأعلى، ولكن لم يكن هناك قائد أعلى، وكان الإمبراطور يرفض الاضطلاع بهذا المنصب الرفيع.
كان الوقت يمر في انتظار غير مجد، والسأم يزيد في إعاقة الاستعدادات يوما بعد يوم، وحاشية جلالته تبدو صارفة كل عنايتها إلى تمضية وقته على أحسن وجه، ونسيان خطر الحرب الوشيكة.
وبعد عديد من الحفلات الراقصة والأعياد التي أقامها الأشراف البولونيون ورجال الحاشية والإمبراطور نفسه، واتت أحد المساعدين العسكريين من الجنرالات البولونيين في شهر حزيران فكرة إقامة مأدبة عشاء وحفلة راقصة على شرف جلالته باسم كل زملائه. وقد قبلت هذه الفكرة بحماس، وأبدى الإمبراطور قبوله، ففتح المساعدون العسكريون الجنرالات حملة اكتتاب، ووافقت التي كانت تتمتع بالتفاتة ألكسندر الخاصة على أن تقوم بدور ربة البيت. ولما كان الكونت بينيجسن،
2
الذي كانت أملاكه واقعة قرب إقليم فيلنا، قد وضع تحت تصرف المنظمين قصره في زاكرت؛ فقد تقرر أن يتم العيد، الذي يشتمل على العشاء والحفلة الراقصة والنزهة على الماء والنيران الاصطناعية، يوم الثالث عشر من حزيران.
فاليوم - إذن - الذي أعطى فيه نابليون الأمر باجتياز النييمن، والذي راحت طلائعه ترد القوقازيين فيه، وتنتهك حرمة الحدود الروسية، كان ألكسندر يمضي السهرة عند الكونت بينيجسن مدعوا من قبل مساعديه العسكريين.
كان الاحتفال مرحا رائعا، وقد أكد العارفون أنهم لم يروا من قبل قط هذا العدد من النساء الجميلات مجتمعات. وكانت الكونتيس بيزوخوف، التي تبعت الإمبراطور إلى فيلنا ترافقها سيدات روسيات أخريات، تكسف «بجمالها الروسي» المترف جمال البولونيات الأكثر رقة ولطفا، ولقد لفتت إليها الأنظار وشرفها الإمبراطور بمراقصتها.
وكان بوريس دروبتسكوي هناك أيضا عزبا - كما كان يقول - لأنه ترك زوجته في موسكو، وعلى الرغم من أنه لم يكن قط مساعدا عسكريا جنرالا فقد ساهم رغم ذلك بمبلغ كبير في الاكتتاب. كان حينذاك قد أضحى رجلا غنيا متقدما جدا في طريق المراتب والوظائف، بعيدا عن البحث عمن يحميه، يعامل أرفع معاصريه مكانة معاملة الند للند، ولقد وجد هيلين في فيلنا، وهو الذي فقد آثارها منذ بعض الوقت، وكان الماضي منسيا. ولكن، بما أن هيلين كانت تتمتع بالتفاتة شخصية سامية وأفضالها، وكان بوريس متزوجا منذ بعض الوقت، فقد أصبحا لفورهما أصدقاء قدماء.
حوالي نصف الليل كان الرقص لا يزال دائرا، ولما لم تجد هيلين فارسا جديرا بمراقصتها؛ فقد عرضت على بوريس أن ترقص «المازوركا» بصحبته، فشكلا الزوج الثالث. وبينما كانا يتسامران حول معارفهما القدماء، كان بوريس يلامس بنظرة لا مبالية كتفي هيلين العاريتين الباهرتين البارزتين فوق مشد من شف داكن موشى بالذهب. ولكن دون أن يشعر أحد - بل ولعله لم يشعر هو نفسه، كانت تلك النظرة لا تنفك تتابع الإمبراطور الذي كان موجودا في ذلك البهو نفسه. ما كان ألكسندر يرقص، كان واقفا قرب الأبواب يستوقف هذا تارة وذاك تارة أخرى، وينعم عليه بتلك الكلمات اللطيفة التي كان وحده يحسن النطق بها.
لاحظ بوريس عند بدء المازوركا أن الجنرال المساعد العسكري بالاشيف - وهو أحد المقربين إلى الإمبراطور - اقترب من سيدة وراح ينتظر - رغم آداب البروتوكول - أن يفرغ هذا من التحدث إلى سيدة بولونية. استفسره ألكسندر بالنظر، ولما أدرك أن لا بد من أسباب خطيرة أدت إلى تجاوز تابعه، خطا خطوة نحوه بعد أن صرف السيدة بإشارة من رأسه. وما كاد بالاشيف يدلي ببعض الكلمات حتى ارتسمت الدهشة العميقة على وجه ألكسندر. أمسك بمساعده العسكري من ذراعه واجتاز البهو معه دون أن يعير الجموع التي كانت تتنحى له عن فسحة عريضة لمروره، التفاتا. غير أن آراكتشييف وحده، الذي كان بادي الانفعال العميق، خرج من بين الجموع وكأنه توقع أن يوجه إليه ألكسندر الكلام، بعد أن ألقى نظرة على وجه سيده ونخر بخفة بأنفه الأحمر. أدرك بوريس الذي لم يغب عنه هذا التدبير، أن آراكتشييف غيران من بالاشيف، مستاء لأن نبأ لا بد وأنه هام لم ينقل إلى الإمبراطور عن طريقه، لكن الإمبراطور مر أمامه دون أن يرمقه، واقتاد بالاشيف إلى الحديقة المنارة، فأسند آراكتشييف سيفه بيده وألقى حوله نظرات غاضبة ثم تبعه على بعد عشرين خطوة.
ظل بوريس طيلة رقصة المازوركا مضطرب الخاطر لمعرفة النبأ الذي حمله بالاشيف، وكيف يستطيع الإحاطة به قبل كل الناس. وفي اللحظة التي كان عليه أن ينتقي سيدة غمغم في أذن هيلين أنه سيأخذ الكونتيس بوتوكا التي يظن أنها خرجت إلى الشرفة، ثم اندفع بخطواته المنزلقة نحو باب الحديقة وتوقف لدى رؤيته الإمبراطور وبالاشيف وهما عائدان إلى البهو. وبسرعة كلية، وكأنه لم يجد وقتا للانحراف ، توقف بوريس وقفة محترمة إلى جانب إطار الباب.
كان الإمبراطور ينهي محادثته مع بالاشيف بانفعال الرجل الذي تلقى إهانة بالعبارات التالية: «الدخول إلى روسيا دون إعلان الحرب! لن أعقد صلحا طالما بقي فوق أرضي عدو واحد مسلح.»
بدا لبوريس أن الإمبراطور يتفوه بهذه الكلمات بلون من الرضاء؛ لقد حلت له الصيغة التي أعطاها لفكرته. لكنه مع ذلك استاء؛ لأن بعضهم سمع قوله فأضاف وهو يقطب حاجبيه: «لا يجب أن يعلم أحد شيئا.»
أدرك بوريس أن هذه الملاحظة موجهة إليه، فخفض عينيه وأحنى رأسه، لكن الإمبراطور في تلك اللحظة كان يدخل إلى البهو؛ حيث لبث قرابة نصف ساعة أخرى.
كان بوريس على هذا النحو أول من علم بأن الفرنسيين اجتازوا النييمن، فاستطاع بذلك أن يظهر لبعض الشخصيات العالية أن ما هو خاف على غيره معلوم لديه، الأمر الذي زاده رفعة في نظر هؤلاء.
بدا هذا النبأ شديد الإذهال؛ لأنه جاء في غمار حفلة راقصة بعد شهر انتظار غير مجد. ولقد ألهم السخط والغضب الإمبراطور الصيغة التي أظهر رضاءه عنها؛ لأنها كانت تستجيب تماما لعواطفه، والتي أصبحت فيما بعد ذائعة الشهرة. وعندما عاد من الحفلة الراقصة في الساعة الثانية صباحا، أرسل يستدعي أمين سره شيشكوف، فأملى عليه أمرا يوميا لقطعاته وكتابا ملكيا إلى الماريشال الأمير سالتيكوف عني فيه بأن تظهر الجملة العتيدة التي يؤكد فيها أنه لن يعقد صلحا طالما كان فرنسي واحد مسلح يطأ الأرض الروسية.
وفي اليوم التالي، استكتب إلى نابليون الرسالة التالية:
سيدي أخي، لقد علمت أمس أنه رغم الإخلاص الذي حافظت به على تعهداتي حيال جلالتكم، فإن قطعاتكم قد اجتازت الحدود الروسية، وتلقيت الآن من بيترسبورج إشعارا يعلن فيه الكونت لوريستون - عطفا على هذا الاعتداء - أن جلالتكم اعتبرتم نفسكم في حالة حرب معي منذ أن طلب الأمير كوراكين أوراق اعتماده. إن الأسباب التي بنى عليها الدوق دوباسانو
3
رفضه إعادتها إليه ما كانت قط لتجعلني أتوقع أن هذا التصرف سيغدو ذريعة للاعتداء. والواقع أن هذا السفير لم يكن قط مجازا كما أعلن ذلك بنفسه، وإنني ما أنهي إلي النبأ حتى أعلمته مبلغ استنكاري ، وأمرته بالبقاء في مركزه. فإذا كنتم جلالتكم لا تنوون سفك دماء شعوبكم بسبب سوء تفاهم من هذا النوع، وتوافقون على سحب قواتكم من الأراضي الروسية، فإنني سأعتبر ما حدث كأنه لم يكن، وحينئذ يمكن إيجاد تسوية بيننا. وفي الحالة المعاكسة يا صاحب الجلالة، أجد نفسي مرغما على صد هجوم لم يثره قط شيء من جانبي، وأنه يتوقف على جلالتكم إنقاذ الإنسانية من مصائب حرب جديدة، وإنني ... إلخ.
التوقيع: «ألكسندر»
الفصل الرابع
الرسول
في الثالث عشر من حزيران، استدعى الإمبراطور بالاشيف الساعة الثانية صباحا، وبعد أن قرأ عليه رسالته إلى نابليون أعطاه الأمر بالذهاب بنفسه لتسليمها بالذات إلى الإمبراطور الفرنسي. ولما أذن له بالانصراف كرر مرة أخرى «أنه لن يعقد صلحا طالما ظل عدو واحد مسلح على الأرض الروسية»، وحتم عليه أن يعيد هذه الكلمات بأمانة على مسامع نابليون. أما إذا كان لم يضمنها رسالته، فلأنه كان يشعر بفطنته المألوفة أنها لا تتفق مع محاولة أخيرة بقصد التسوية، لكنه أمر بالاشيف أن ينقلها إليه شفهيا.
وصل بالاشيف فجر الرابع عشر من حزيران إلى قرية ريكونتي التي تحتلها الطلائع الفرنسية، مصحوبا بنافخ بوق وقوقازيين، فأوقفه حراس من الخيالة.
صاح به رقيب أول من الفرسان في بزة من القطيفة الحمراء وقلنسوة مزغبة يأمره بالوقوف، فلم يطع بالاشيف الأمر فورا، واستمر يمشي مترجلا، فقطب صف الضابط حاجبيه وتمتم بالسباب، ثم قطع الطريق على الجنرال الروسي بحصانه وامتشق حسامه، ثم استجوبه بغلظة: «هل هو أصم حتى لا يسمع ما يقال له؟!» أعلن بالاشيف اسمه فأرسل الرقيب الأول جنديا لاستقدام ضابط، وراح يثرثر مع رفاقه دون أن يلقي بالا إلى الرسول الروسي أو أن يمنحه مجرد نظرة.
أما بالاشيف الذي كان على علاقة دائمة مع السلطة العليا، وكان قبل ثلاث ساعات يتحادث مع الإمبراطور وقد ألف أساليب الحفاوة والترحيب بحكم منصبه، فقد دهش دهشة أليمة عندما رأى أنه يعامل معاملة العدو في أرض روسية، وأنه - إضافة إلى ذلك - محروم من كل اعتبار من قبل هذا الممثل عن القوة الوحشية.
كانت الشمس تخترق السحب، والهواء يرطبه الندى ويبرده، والقرويون يسوقون ماشيتهم إلى الحقول، والقبرات تنبعث الواحدة أثر الأخرى من القمح أشبه بالفقاعات فوق سطح الماء وهي تطلق لحنيها السريعين المتلاحقين.
راح بالاشيف، بانتظار الضابط الذي ذهبوا يستقدمونه من القرية، يتفحص ما حوله، وراح القوقازيان والبواق يتبادلون بين الحين والآخر نظرة مع الفرسان الفرنسيين.
جاء زعيم الفرسان، الذي فاجأوه حتما فور مغادرة سريره، على صهوة جواد أشهب جميل وهو في أحسن هندام، يتبعه اثنان من رجاله. بدا الضابط والجنود، بل وحتى جيادهم أيضا، بمظهر القرير الظريف. كان ذلك في بداية الحرب حينما كانت القطعات لا تزال شديدة التأنق، وكأنها في صبيحة عرض مع شيء ما أكثر «عسكرية» في تجهيزاتهم، وذلك اللون من البهجة والاندفاع الذي يصحب دائما الشروع في حملة ما.
وعلى الرغم من أن الزعيم كان يجد صعوبة في إخفاء تثاؤبه، فإنه بدا أنيسا ولم تفته قط أهمية المهمة التي جاء بالاشيف من أجلها. اجتاز معه الخط الأول وطمأنه بأنه، تبعا لرغبته، لن يلبث حتى يمثل بين يدي الإمبراطور الذي كان مقر قيادته على ما يعتقد في مكان مجاور.
اجتاز قرية ريكونتي ومر بحراس خيول ورقباء وفرسان كانوا يحيون زعيمهم وهم يتطلعون بفضول إلى الزي الروسي. وعند خروجهما من الضيعة قال الزعيم لبالاشيف إنهما سيجدان على بعد كيلومترين من هناك قيادة الفوج، وأن هذه القيادة سترسله إلى القيادة العامة.
وكانت الشمس قد بزغت وراحت تسطع بنشوة فوق الخضرة الزاهية.
تسلقا سفحا، وما كادا يجتازان حانا يتوجه حتى شاهد إقبالتهما كوكبة فرسان تظهر صاعدة السفح الآخر، وعلى رأسها يتقدم رجل مديد القامة ذو قبعة يزينها ريش، وشعر أسود تتساقط خصلاته على كتفيه، وساقين طويلتين مندفعتين إلى الأمام تبعا لعادة الفرنسيين الفرسان، على صهوة جواد أدهم كانت عدته تلتمع تحت وهج الشمس. فلما رأى هذا الرجل بالاشيف، اندفع بجواده وهو يماوج تحت شمس حزيران الحادة ، ويلألئ ريش قبعته ومجوهراته وشرائطه الذهبية.
ولم يكد بالاشيف يصبح على مسافة طولين من ذلك الفارس ذي المظهر المسرحي المغطى بالأساور والريش والقلائد والبهارج حتى همس الزعيم الفرنسي «أولز» في أذنه بغمغمة كلها احترام: «ملك نابولي!» والواقع أن ذلك الفارس كان مورا
1
الذي بات الآن يدعى ملك نابولي. وعلى الرغم من استحالة معرفة السبب الذي من أجله أعطي له هذا اللقب، فقد كانوا يسمونه كذلك، وكان هو نفسه مقتنعا بأنه ملك؛ الأمر الذي كان يعطيه مظهرا أكثر وقارا وأكثر عظمة من ذي قبل. ولقد كان مقتنعا بذلك، حتى إنه عشية يوم رحيله، بينما كان يتنزه مع زوجته في شوارع نابولي إذ حياهما بعض الإيطاليين بصيحة «يحيا الملك»، فالتفت إلى زوجته وقال لها بابتسامة حزينة: «التعساء، إنهم لا يدرون أنني سأغادرهم غدا.»
وبنفس الوقت الذي اعتبر نفسه فيه ملكا حقيقيا، وراح يرثي للألم الذي سيصيب رعيته بسبب غيابه، فإن مورا عندما تلقى الأمر بأن يعود إلى الخدمة، وعلى الأخص في دانتزيج عندما قال له صهره المبجل: «لقد جعلتك ملكا لتحكم على طريقتي وليس على طريقتك»، استعاد بدعة عمله المألوف أشبه بجواد حسن التغذية ولكن قليل الشحم، ما إن أحس بنفسه مقطورا إلى عربة حتى أكدف المحمل ومضى، وراح في أبهى حلة ودون أن يدرك السبب يتوثب بخفة على طرق بولونيا.
ولما شاهد الجنرال الروسي، ألقى رأسه المتوج بالشعر العكف إلى الوراء بحركة ملوكية، واستفسر الزعيم الفرنسي بنظرة، فعين هذا لجلالته بكل احترام صفة دو بالاشيف الذي لم يتوفق في النطق باسمه.
قال الملك وهو يحسم الصعوبة بعزمه المألوف: «دو بالماشيف.»
ثم أضاف بحركة تدل على تنازله الملوكي: «يسعدني أنني تعرفت إليك يا جنرال.»
وما إن راح يتحدث بسرعة وبصوت مرتفع حتى تبددت رفعته كلها، واتخذ دون أن يلاحظ هو نفسه لهجة سذاجة قلبية. وضع يده على حارك جواد بالاشيف وقال وكأنه يأسف لتوافق ظرفي ليس من اختصاصه الحكم عليه: «حسنا يا جنرال، إن كل شيء على ما يبدو راجع إلى الحرب .»
أجاب بالاشيف وهو يفرط في استعمال كلمة يا صاحب الجلالة - وهو تودد لا بد منه عندما يتحدث المرء إلى شخص لا يزال هذا اللقب جديدا عليه: «يا صاحب الجلالة، إن الإمبراطور مولاي لا يرغب قط في الحرب كما ترون جلالتكم.»
وبينما كان السيد «دو بالاشيف» يتحدث إليه، كان وجه ملك نابولي يطفح برضى سخيف، لكن الملك مرغم؛ لقد وجد أن من الضروري بوصفه ملكا وحليفا أن يدخل في محاورة سياسية مع مبعوث ألكسندر. وعليه، فقد ترجل عن جواده وأمسك بذارع بالاشيف، ونأى به بضع خطوات بعيدا عن حاشيته التي كانت تنتظره بامتثال، وراح وهو يتنزه معه عرضا وطولا يحدثه بمواضيع حرص على أن يعطيها بعض الوزن. وتبعا لقوله، فإن الطلب إلى الإمبراطور بسحب قواته من روسيا قد نكده بقدر ما جرحت علانية هذا المطلب الملحاح كرامة فرنسا.
ولما راح بالاشيف يعترض بأن هذا الطلب ليس فيه ما يهين بالنظر إلى ... قاطعه مورا قائلا بابتسامة بلهاء: «إذن، فإن المحرض ليس الإمبراطور ألكسندر في رأيك؟»
عرض بالاشيف الأسباب التي من أجلها كان يرى أن نابليون هو مثير الحرب، فقاطعه مورا من جديد قائلا باللهجة التي يتظاهر بها الخدم الحريصون على البقاء على وفاق وود رغم مشاحنات أسيادهم: «آه! يا عزيزي الجنرال، أتمنى من كل قلبي أن يسوي الإمبراطوران الأمر بينهما، وأن تنتهي الحرب التي بدأت رغما عني في أسرع وقت ممكن.»
استعلم بعدئذ عن صحة الغراندوق، واستعرض ذكرى الأويقات الطيبة التي قضياها معا في نابولي. وفجأة، وكأنه شعر فجأة بوقاره الملكي، انتصب بجلال واتخذ الوقفة التي وقفها ساعة تتويجه وقال مشفعا قوله بحركة فضفاضة: «لا أستبقيك أكثر من ذلك يا جنرال، أتمنى نجاح مهمتك.»
ولحق بحاشيته التي كانت لا تزال تنتظره بامتثال ظاهر وهو متشح بمعطفه الأحمر الموشى بالذهب ومزين بريش قبعته الذي يخفق مع الريح، ومجوهراته التي تلتمع تحت ضوء الشمس.
تابع بالاشيف طريقه، ولما كان مطمئنا إلى أقوال مورا، فقد كان يظن أنه لن يلبث حتى يجد نفسه في حضرة نابليون، لكن حراس فوج مدفعية دافو
2
استوقفوه في القرية التالية كما وقع له على خط الجبهة، واستدعي مساعد عسكري ليقوده إلى حضرة الماريشال.
الفصل الخامس
العودة إلى فيلنا
كان دافو آراكتشييف نابليون آراكتشييفا دون جبن، ولكن شديد التدقيق مثله، عاجزا مثله عن إثبات تفانيه لسيده عن طريق آخر غير قسوته.
إن رجالا كهؤلاء يعتبرون ضرورة في مجموعة دولة ما كضرورة الذئاب في الطبيعة؛ فهم موجودون وهم محافظون على وجودهم مهما بدت دالتهم على رئيس الدولة مستحيلة. إن هذه الضرورة الملحة وحدها تفسر كيف أن هذا الآراكتشييك القاسي الذي كان ينتزع بيديه شارب النخبة من جنوده دون أن يجرؤ، بسبب ضعف أعصابه، أن يواجه أدنى خطر، تفسر كيف أن ذلك الشخص معدوم الثقافة والتهذيب استطاع أن يمارس تأثيرا بعيدا على طبيعة ألكسندر النبيلة الحانية الأبية!
وجد بالاشيف دافو جالسا فوق برميل في مكدس منشغلا في تدقيق حسابات، وإلى جانبه مساعد عسكري واقف. كان المريشال يستطيع أن يجد مستقرا أفضل، لكنه كان من أولئك الذين يحبون أن يوفروا لأنفسهم أكثر الشروط الحياتية خشونة ليظهروا هم أكثر خشونة. ومن أجل ذلك هم مثقلون أبدا بالعمل ينوءون. كان المرء يقرأ على وجهه: «كيف يفكر المرء بمباهج الحياة عندما يكون - كما ترى - جالسا على برميل في مكدس حقير منكبا على العمل!» إن سرور هؤلاء الأشخاص البالغ ورغبتهم الفطرية تقتصر على إلقاء عملهم المستمر الضجر في وجوه الناس الذين يستسلمون لتيار الحياة، وهذا هو الذي أحس به دافو عندما رأى بالاشيف يصل. استغرق أكثر من أي وقت آخر في حساباته، وبعد أن ألقى نظرة خلال نظارتيه على وجه الجنرال الذي أعادت له رحلته المبكرة ومداولته مع مورا بشاشته، زاد تخديد حاجبيه دون أن ينهض أو حتى أن يشرع بحركة ما وابتسم ابتسامة قبيحة. ولما لاحظ الأثر غير المستحب الذي أحدثه استقباله هذا على الوافد الجديد، انتهى به الأمر إلى أن يرفع رأسه، وأن يسأله بلهجة جامدة عما يريد.
عزا بالاشيف هذا الاستقبال البارد إلى واقع جهل دافو بصفته المزدوجة كمساعد عسكري ومبعوث إلى نابليون من قبل الإمبراطور ألكسندر فقط؛ لذلك فقد بادر إلى الإدلاء بألقابه، ولكن خلافا لما كان ينتظر، لم يزد ذلك دافو إلا جفاء وتجهما. قال: «أين رسالتك وسأرسلها إلى الإمبراطور؟»
فاعترض بالاشيف بأن لديه أمرا بتسليم الرسالة إلى الإمبراطور بالذات. - «إن أوامر إمبراطوركم ذات قيمة في جيشكم، أما هنا، فعليك أن تعمل ما يقال لك أن تعمله.»
وكأنه أراد أن يشعر الجنرال الروسي بطريقة أفضل بأنه هناك رهن القوة القاهرة، فقد أرسل مساعده العسكري يستدعي الضابط المنوب.
وضع بالاشيف الرسالة على الطاولة التي كانت عبارة عن باب ركز على برميلين، كانت رزاته لا تزال تتدلى منه؛ فأخذها دافو وقرأ ما على الغلاف.
قال بالاشيف: «أنت مطلق الحرية في أن تعاملني باحترام أم لا، لكن من واجبي أن ألفت انتباهك إلى أنني أعتبر بين مساعدي جلالته العسكريين الجنرالات.»
نظر إليه دافو دون أن ينبس ببنت شفة.
لقد طاب له بشكل ظاهر أن يكتشف على تقاطيعه لونا من البلبال. قال: «سوف تعامل بما يحق لك من احترام.»
ثم وضع الرسالة في جيبه وغادر المكدس.
وفي غضون دقيقة واحدة جاء مساعد الماريشال العسكري السيد دوجاستري يأخذ بالاشيف ليدله على المسكن الذي أعد له.
ولقد تناول بالاشيف الطعام ذلك اليوم مع الماريشال في المكدس على الطاولة ذات البرميلين.
وفي صبيحة اليوم التالي، ذهب دافو منذ الصباح الباكر بعد أن استقدم بالاشيف، وحتم عليه بصرامة أن يمكث حيث هو، وأن يتنقل مع القوافل في حال صدور أوامر مماثلة إليها، وألا يتحدث إلا مع السيد دوجاستري.
وبعد أربعة أيام من الوحدة كان العدو خلالها يشتد في اختضاع منصب بقدر ما هو تابع للقدرة الكلية، وبعد مراحل عديدة اجتيزت مع متاع الماريشال والقطعات الفرنسية التي كانت تحتل المنطقة كلها، عاد بالاشيف إلى «فيلنا» التي باتت الآن في قبضة العدو، عن طريق الباب نفسه الذي خرج منه قبل بضعة أيام.
وفي اليوم الثاني، جاء أحد حجاب الإمبراطور السيد دوتورين يعلمه بأن نابليون قد منحه مقابلة.
قبل أربعة أيام، كان حراس فوج بريوبراجنسكي يقفون على باب المنزل الذي قادوا بالاشيف إليه. أما الآن، فكان في مكان أولئك جنديان فرنسيان ببزة زرقاء ذات «قلبات» كبيرة وقلنسوة مزغبة، وموكب من الفرسان الفرنسيين والألمان وحاشية أنيقة من المساعدين العسكريين والغلمان والجنرالات ينتظرون خروج نابليون، وحصانه المطهم والمملوك روستان واقفين قرب المرقاة، كان نابليون يستقبل بالاشيف في البيت نفسه الذي سلمه ألكسندر فيه رسالته إليه.
الفصل السادس
في حضرة الإمبراطور
على الرغم من أن بالاشيف كان معتادا على بهاء البلاطات، فإن الترف والبذخ في هذا البلاط أحدثا في نفسه أثرا قويا.
أدخله الكونت دوتورين إلى حجرة رحيبة، وكان عدد كبير من الجنرالات والحجاب والأشراف البولونيين - عرف بالاشيف كثيرا بينهم كانوا من قبل يحيطون بألكسندر - ينتظرون فيها. وأعلن دوروك
1
أن الإمبراطور سيستقبل الجنرال الروسي قبل نزهته.
وبعد دقائق من الانتظار، بدا الحاجب المنوب وانحنى بتأدب أمام بالاشيف ثم دعاه أن يتبعه.
دخل بالاشيف إلى بهو صغير يقود أحد أبوابه إلى المكتب؛ ذلك المكتب الذي تلقى فيه آخر أوامر ألكسندر، وانتظر دقيقتين أو ثلاث دقائق. تناهي إلى سمعه وقع خطوات متلاحقة وراء الباب الذي انفتحت ضلفتاه فجأة، وران الصمت ثم ارتفعت خطوات أخرى متزنة ونشيطة وراحت تقترب؛ ذاك كان نابليون، وكان قد فرغ من ارتداء ملابسه للركوب. كانت بزته الزرقاء تنفتح على صدرة بيضاء تنسجم مع استدارة بطنه، والسروال المصنوع من الجلد الأبيض يطبع فخذي ساقيه القصيرتين السمينتين المغيبتين في أحذية عالية، وكان شعره القصير قد رجل ولا ريب منذ حين. لكن خصلة منه كانت تقع على وسط جبينه العريض، في حين أن عنقه الأبيض السامن الذي تتضوع منه رائحة ماء «الكولونيا» كان يتباين كليا مع ياقة البزة السوداء، وكان وجهه الممتلئ الذي لا زال فتيا، ذو الذقن البارز، مطبوعا بلطف جليل إمبراطوري حقا.
اقترب بمشية سريعة وهو يتوثب مع كل خطوة ورأسه مائل قليلا إلى الوراء. كان لشخصه القصير الممتلئ ذي الكتفين العريضتين القويتين والبطن والصدر البارزين - رغما عنه إلى الأمام - مظهر جليل معبر، مظهر أبناء الأربعين الذين ألفوا الحياة الرغيدة ، كما كان يرى كذلك أنه على أفضل مزاج ذلك اليوم.
أجاب على تحية بالاشيف العميقة المفعمة بالاحترام بحركة من رأسه، وراح وهو يتجه نحوه مباشرة يتكلم شأن الرجل الذي تعتبر كل دقيقة من وقته ثمينة، والذي لا يتنازل قط إلى تحضير محاضراته لعلمه بأنه سيقول دائما وبكل إجادة ما يجب أن يقوله. - «مرحبا يا جنرال، لقد تلقيت رسالة الإمبراطور ألكسندر التي حملتها، وإنني مسرور جدا برؤيتك.»
حط لحظة عينيه الكبيرتين على وجه بالاشيف، ثم ما لبث أن أشاح بهما. لا ريب أن شخصية بالاشيف ما كانت تعنيه في شيء؛ لأن ما يدور في سريرته هو وحده الذي كان يثير اهتمامه، أما كل ما هو خارجي فلم تكن له أية أهمية؛ ألم يكن يعتقد بكل حزم أن كل ما في الكون يتوقف على مشيئته وحدها؟
قال: «إنني لا أرغب ولم أرغب قط في الحرب، لكنهم أجبروني على خوضها.»
ثم أضاف وهو يبرز الكلمة: «والآن أيضا، إنني على استعداد لتقبل كل المبررات التي تستطيع تقديمها إلي.»
شرح بطريقة واضحة وموجزة أسباب استيائه من الحكومة الروسية، ولقد اقتنع بالاشيف قناعة عميقة استنادا إلى لهجة إمبراطور الفرنسيين الهادئة المتزنة، بل والودية، أنه راغب في السلم، وأنه سيشرع في المفاوضات عن طيب خاطر.
هم بالاشيف أن يقول: «مولاي، إن مولاي الإمبراطور ...» عندما راح نابليون يستفسره بنظره بعد أن انتهى من جملته. ولقد أعد المبعوث الروسي محاضرته منذ وقت طويل، لكن تينك العينين المصوبتين إليه شوشتاه، وبدا نابليون وهو يفحص بابتسامة لا تكاد ترى بزة بالاشيف وسيفه كأنه يقول له: «إنك مضطرب، تماسك أعصابك.»
ولما استرد هذا روعه قال إن الإمبراطور ألكسندر لا يعتبر «حالة حرب» طلب استعادة الجوازات الذي قدمه كوراكين، الذي تصرف من تلقاء نفسه دون أن يقره في ذلك مولاه، وأن ألكسندر لا يريد الحرب، وليست له أية علاقات مع إنجلترا.
فرد نابليون: «ليست له «بعد» أية علاقات.»
لكنه قطب حاجبيه وأشار بإيماءة خفيفة من رأسه إلى بالاشيف أن يستتلي وكأنه خشي أن يسفر عن عواطفه.
وبعد أن عرض كل ما كانت تعليماته تحويه من أقوال، أكد بالاشيف أن الإمبراطور ألكسندر - مع رغبته في السلام - لن يشرع في مفاوضات إلا شريطة ...
وهنا تردد وتذكر الكلمات التي حذفها الإمبراطور من رسالته، والتي أمر أن تظهر في رسالته الملكية إلى سالتيكوف وكلفه هو - بالاشيف - أن يرددها حرفيا على مسامع نابليون. تذكر الجملة: «طالما بقي جندي عدو مسلح واحد على الأرض الروسية.» لكن شعورا شديد التعقيد استوقف الجملة على شفتيه، ومهما بلغت رغبته فإنه لم يستطع أن يتفوه بها، فاستبدلها وهو شديد الخجل بالعبارة التالية: «شريطة أن تعود القطعات الفرنسية عبر النييمن من جديد.»
لم يخف اضطراب بالاشيف على نابليون؛ فقد تقلص وجهه وراحت ربلة ساقه اليسرى تضطرب في حركة منظمة. استأنف الكلام دون أن يبدل مكانه بصوت أكثر ارتفاعا وتهافتا عن ذي قبل. وقد لاحظ بالاشيف رغما عنه كلما أطرق بعينيه خلال الوقت الذي استغرقته المحاضرة التي تلت، أن ارتعادة ربلة الساق اليسرى آخذة بالتزايد كلما ازداد صوت الإمبراطور ارتفاعا.
شرع يقول: «لست أقل رغبة في السلام من الإمبراطور ألكسندر، ألست أبذل كل ما في وسعي منذ ثمانية عشر شهرا في سبيل السلام؟ منذ ثمانية عشر شهرا وأنا أنتظر الإيضاحات.»
ثم أضاف وهو يعبس ويقوم بحركة عنيفة بيده الصغيرة البيضاء السمينة: «ولكن ماذا تراهم يتطلبون مني لقاء الدخول في مفاوضات؟»
قال بالاشيف: «انسحاب الجيوش إلى وراء النييمن يا صاحب الجلالة.»
استطرد نابليون: «وراء النييمن؟ إنكم إذن تريدونني الآن على أن أنطوي وراء النييمن.»
ثم كرر وهو يغرق نظراته في عيني بالاشيف: «وراء النييمن فقط؟»
فانحنى هذا إشارة بالموافقة.
إنهم لا يطلبون الآن بدلا من إخلاء بوميرانيا
2
التي أصروا عليه قبل أربعة أشهر إلا الانسحاب وراء النييمن. أدار نابليون ظهره فجأة وراح يذرع الحجرة بخطاه. - «تقول إنهم يطلبون مني التراجع وراء النييمن. لكنهم منذ شهرين طلبوا مني أيضا أن أتراجع وراء الأودر
3
والفيستول، ثم توافقون مع ذلك على إجراء مفاوضات.»
مشى دون أن ينطق بكلمة من جانب الحجرة إلى الجانب الآخر، ثم توقف فجأة قبالة بالاشيف. لاحظ هذا أن ربلة الإمبراطور تضطرب أكثر من ذي قبل، وأن وجهه يبدو كأنه تصلب في تعبير صارم. كان نابليون يعرف هذه الخاصة، وقد قال لحاشيته: «إن لاهتزاز ربلتي اليسرى إشارة كبيرة عندي.»
هتف فجأة بفوران دهش له بنفسه: «إن مثل هذه العروض، كإخلاء الأودر والفيستول، يمكن أن تسأل من غراندوق دو باد
4
ولكن ليس مني. إنني لا أقبل شروطكم ولو أعطيتموني بيترسبورج وموسكو. تقولون إنني بدأت الحرب؟! ولكن من الذي لحق بالجيش أولا؟ الإمبراطور ألكسندر وليس أنا. والآن تحدثونني عن التفاوض في حين أنني أنفقت الملايين، وأنكم حلفاء مع الإنجليز وموقفكم سيئ! تعرضون علي مفاوضات! ولكن ما هو هدفكم من التحالف مع إنجلترا؟ ماذا أعطتكم؟»
كان يلقي بجمله دون أن يتابع التفكير في إبراز محاسن السلم ومناقشة إمكانياته، بل لكي يبرهن حقه وقوته في الوقت نفسه الذي يدلل فيه على خطيئات ألكسندر وأضراره. لقد أراد بادئ ذي بدء أن يبرز ولا شك ميزات موقفه، وأن يلمح بأنه يقبل الشروع في مفاوضات رغم ذلك، لكنه كلما ازداد اندفاعا في الكلام تناقصت سلطته على كلماته حتى اقتصرت محاضرته على تعظيم نفسه، والحط من ألكسندر؛ أي على عكس ما كان يزمع السير فيه عند بدء المقابلة. - «إنهم يزعمون أنكم عقدتم الصلح مع الأتراك؟»
حرك بالاشيف رأسه إيجابا وشرع يقول: «عقد الصلح ...»
لكن نابليون قاطعه. كان ولا ريب يشعر بحاجة ماسة إلى الكلام، فتابع بتلك الثرثرة الغاضبة التي يمتاز بها الأشخاص الذين أفسدتهم النعماء: «نعم، إنني أعرف أنكم عقدتم الصلح مع الأتراك دون أن تحصلوا على مولدافيا
5
ولا فالاكي،
6
وأنا كنت سأقدم لإمبراطوركم هاتين المقاطعتين هدية كما أعطيته فنلندا.»
واسترسل بإصرار: «نعم، لقد وعدت الإمبراطور ألكسندر بمولدافيا ولافالاكي، وكنت سأعطيه هاتين المقاطعتين الجميلتين اللتين أفلتتا من يده. كان يستطيع أن يضمهما إلى مملكته، فكانت روسيا ستمتد تحت حكم من خليج بوتني
7
إلى مصب الدانوب،
8
إن كاتيرين
9
العظيمة ما كانت لتستطيع أن تعمل أفضل من ذلك.»
أخذ هياجه يزداد، وراح يتمشى داخل الحجرة ويردد كلمة كلمة تقريبا ما قاله لألكسندر إبان مقابلتهما في تيلسيت. - «كل هذا كان سيناله بصداقتي. آه! يا للملك الجميل! يا للملك الجميل! ...»
وكرر عدة مرات هذه الكلمات ثم أخرج من جيبه مسعطا من الذهب شم أخذة منه بنهم وأردف: «يا للملك الجميل الذي كان يمكن أن يكون عليه ملك الإمبراطور ألكسندر!»
ثم تأمل بالاشيف بعطف، فلما هم هذا أن يتقدم بملاحظة، قاطعه فورا وهو يقول مبينا دهشته برفع كتفيه: «ما الذي كان يمكن أن يرغب فيه أو أن يبحث عنه دون أن تنيله إياه صداقتي؟! ولكن لا، لقد فضل أن يخلق حوله لفيفا من أعدائي! وممن؟! لقد استقدم إلى جواره آل ستين وآل آرمفيلت وبينيجسن ووينتزنجيرود! إن ستين خائن مطرود من بلاده، وآرمفيلت فاجر ودساس، ووينتزنجيرود فرنسي ملتحق بخدمة العدو، وبينيجسن عسكري أكثر من الآخرين قليلا، ولكنه مع ذلك عاجز، ما استطاع أن يعمل شيئا عام 1807م، فكان يجب أن يوقظ في نفس الإمبراطور ألكسندر ذكريات رهيبة.»
واسترسل نابليون الذي لم يكن نطقه ليتماشى مع فكرته؛ لكثرة تهافت البراهين وسرعة تجمعها ليثبت حقه المشروع وقوته اللذين كانا في نظره بمعنى واحد: «لو أن هؤلاء كانوا على قيمة ما لأقنعني استخدامه لهم، ولكن لا، إنهم لا يصلحون لشيء؛ لا للسلم ولا للحرب! إن باركلي
10
على ما يزعمون أفضل منهم جميعا، لكن هذا ليس رأيي إذا حكمنا عليه تبعا لأول تصرفاته. ثم ماذا يعملون؟ ماذا يعمل كل هؤلاء الأتباع؟ إن بفويل يقترح وآرمفيلت يناقش وبينيجسن يتمعن، أما باركلي الذي استدعي ليعمل، فإنه لا يدري أي جانب يأخذ، ويمر الوقت دون أن يؤتى بجديد! إن باجراسيون وحده رجل حرب. إنه غبي، لكن لديه الخبرة والنظر الثاقب والعزم ... وأي دور يلعب إمبراطوركم الشاب بين هذا الخليط؟ إن هؤلاء الناس يرتكبون الإثم ثم يحملونه مسئولية أعمالهم. إن ملكا لا يجب أن يكون في الجيش إلا إذا كان جنرالا.»
ألقى بهذه الكلمات وكأنه تحد مباشر موجه إلى ألكسندر. ما كان يجهل أن هذا يشعر بضعف في ثقته بأنه رجل حرب. استرسل: «لقد بدأت الحملة منذ ثمانية أيام فلم تعرفوا كيف تدافعون عن فيلنا. لقد شطرتم إلى شطرين، وطردتم من الأقاليم البولونية. إن جيشكم يدمدم.»
قال بالاشيف وقد بهرته أضواء هذه الجمل الاصطناعية التي ما كان يتوصل إلى استيعابها: «على العكس يا صاحب الجلالة، إن القطعات تتحرق شوقا إلى القتال ...» قاطعه نابليون: «إنني أعرف كل شيء، أعرف كل شيء. إنني أعرف أعداد ألويتكم بمثل الدقة التي أعرف بها أعداد ألويتي. ليس لديكم مائة ألف رجل تحت السلاح، بينما لدي ثلاثة أضعاف هذا العدد.»
ثم أضاف ناسيا أن هذا القسم لم يكن ليعني شيئا أبدا. - «إنني أعدك بشرفي. أعطيك وعدا بشرفي أن لدي خمسمائة وثلاثين ألف رجل على هذه الضفة من الفيستول. لن يستطيع الأتراك مساعدتكم. إنهم لا يصلحون لشيء، وقد برهنوا على ذلك بعقد الصلح معكم، أما السويديون، فإنهم مصطفون لأن يحكموا من قبل مجانين. لقد كان ملكهم مجنونا فأبدلوه واتخذوا آخر؛ برنادوت
11
الذي سرعان ما فقد صوابه هو الآخر؛ لأنه يجب أن يكون المرء مجنونا حتى يعقد اتحادا مع روسيا وهو سويدي.»
انفرج فم نابليون قليلا وشم أخذة جديدة من السعوط.
كان لدى بالاشيف إثر كل جملة من جمل الإمبراطور اعتراض يقدمه، لكنه كلما حاول أن يفتح فمه مرة أغلقه له نابليون. أراد أن يقول بخصوص خبال السويديين أن السويد أصبحت بتحالفها مع روسيا أشبه بالجزيرة؛ لأن هذه تحميها من الخلف. لكن نابليون خنق صوته بصيحات الغضب. لقد كان في تلك الحالات من الإثارة التي يشعر المرء معها بحاجة إلى أن يتكلم ويتكلم ويتكلم لمجرد أن يثبت لنفسه أنه على حق، وكان بالاشيف كمن يقف على الأشواك؛ فهو كسفير، يخشى أن يسيء إلى كرامة نفسه بالامتناع عن أي اعتراض. أما كرجل، فقد أحنى ظهره تحت زوبعة هذه الغضبة الهوجاء. كان يعرف قلة أهمية هذا القدح الذي ما إن يستعيد الإمبراطور هدوءه حتى يكون أول من يخجل منه . لذلك فقد وقف في مكانه معلق الأبصار بساقي نابليون الضخمتين المنفعلتين يحاول جاهدا أن يتحاشى نظرته.
استرسل هذا: «ثم ماذا يهمني من حلفائكم بعد كل شيء؟ إن لدي حلفاء أنا الآخر، وحلفاء طيبين: البولونيين. إنهم ثمانون ألفا ويقاتلون كالأسود، وسوف يصبحون بعد قليل أكثر من مائتي ألف.»
ولقد أبلغ الشعور بأن هذا المزعم ليس إلا محض كذب، وموقف بالاشيف المتحفظ الذي ما كان ينبس ببنت شفة، غضب الإمبراطور إلى أوجه، فأتى بنصف دائرة فجأة واتجه رأسا إلى محدثه، فألقى في وجهه عباراته مشفوعة بحركات سريعة ونشيطة من يديه البيضاوين: «اعلموا تماما أنكم إذا أثرتم بروسيا ضدي فإنني سأمحوها من خريطة أوروبا ...»
وأيد هذا التهديد بأن كنس يده اليسرى بيده اليمنى ووجهه ممتقع متقلص. «نعم، سوف ألقي بكم إلى ما وراء دونا
12
وما وراء الدنييبر،
13
وسأقيم في وجهكم هذا السد الذي كانت أوروبا شديدة العمى، مجرمة كل الإجرام؛ إذ تركته ينهار. نعم، هذا ما ينتظركم، هذا ما تكونوا قد ربحتموه من ابتعادكم عني.»
مشى بضع خطوات بسكون وكتفاه العريضتان تهتزان بطفرات صغيرة. أعاد مسعطه إلى جيبه ثم أخرجه وحمله مرارا إلى أنفه، ثم عاد إلى بالاشيف ونظر باستهزاء في عينيه، ثم قال له بهدوء بعد فترة: «ومع ذلك، يا له من ملك جميل ذاك الذي كان يستطيع مولاك أن يحصل عليه.»
ولما كان يجب على بالاشيف أن يقول شيئا ما، فقد رد أنهم من الجانب الروسي لا يرون الموقف على مثل هذا التجهم. فلم يحر نابليون جوابا، بينما ظلت نظرته المستهزئة مصوبة إلى بالاشيف وكأنه لم يسمع ما قاله. ولما أضاف هذا بأنهم في روسيا يتوقعون من الحرب نتائج ممتازة، هز الإمبراطور رأسه بمراعاة وكأنه يقول له: «نعم، أعرف، إن من واجبك أن تقول هذا القول، لكنك أنت نفسك لا تصدق كلمة واحدة. لقد أقنعتك.»
ولما فرغ بالاشيف أخرج نابليون مسعطه من جديد وشم أخذة جديدة ، ثم قرع الأرض بقدمه مرتين متعاقبتين. فتح الباب إثر هذه الإشارة وظهر حاجب أعطى الإمبراطور قبعته وهو منطو إلى اثنين بكل احترام، ثم قفازيه، بينما قدم له آخر منديله. استدار نابليون نحو بالاشيف دون أن يعبأ بالحجاب، وقال وهو يأخذ قبعته: «طمئن الإمبراطور ألكسندر باسمي بأنني مخلص له كما في الماضي تماما. إنني أعرفه وأقدر صفاته الكبيرة حق قدرها. لا أستبقيك أكثر من ذلك يا جنرال، سوف تتلقى رسالتي إلى الإمبراطور.»
وتوجه نابليون بسرعة نحو المخرج، فاندفع كل أولئك الذين كانوا ينتظرونه بالردهة إلى السلم ليسبقوه.
الفصل السابع
عودة الرسول
بعد كل ما قاله له نابليون في سورة غضبه، وبعد كلماته الأخيرة البالغة في الجفوة: «لا أستبقيك أكثر من ذلك يا جنرال، سوف تتلقى رسالتي»، بات بالاشيف شديد القناعة بأن الإمبراطور ليس عازفا عن مقابلته بعد الآن فحسب، بل وأنه سيتجنب رؤيته؛ هو السفير المذل الذي شهد انفعاله غير اللائق. وهذا أسوأ ما في الأمر؛ لذلك لا تسل عن دهشته عندما وجد نفسه يدعوه دوروك إلى مائدة الإمبراطور ذلك اليوم بالذات.
كان بيسيير
1
وكولنكور
2
وبرتييه حاضرين ذلك الغداء.
استقبل نابليون بالاشيف ببشاشة مؤنسة. لم يترك في نفسه مشهد الصباح أي أثر من الارتباك أو الأسف، بل كان هو الذي راح يسعى إلى الترفيه عن ضيفه. لا ريب أنه كان مقتنعا منذ أمد طويل بأنه لا يمكن أن يخطئ، وأن كل ما يعمله إنما هو نعم العمل؛ ليس لأن عمله ينسجم مع تعريف الخير والشر الرائج، بل لأنه هو صاحب العمل ليس إلا.
لقد عاد شديد المرح من نزهته في شوارع فيلنا؛ حيث استقبلته الجماهير وتبعته بحماس. كانت النوافذ كلها على طول طريقه مفروشة بالسجاد مزينة بالأعلام وبالشعارات التي تحمل الأحرف الأولى من اسمه، وحيته النساء البولونيات ملوحات بمناديلهن.
وعلى المائدة، أجلس بالاشيف إلى جانبه وعامله ليس ببشاشة فحسب، بل وكأنه يرى فيه واحدا من بطانته، واحدا من أولئك الذين يؤيدون خططه ويسرون بنجاحه. تعمد التحدث عن موسكو، وراح يسأل ضيفه عن العاصمة بفضول المسافر الذي يجمع المعلومات عن البلد الذي يزمع زيارته وهو قانع بأن هذا التحري لا بد وأن يضاعف نشوة بالاشيف بوصفه روسيا.
سأله: «كم يبلغ عدد سكان موسكو وعدد البيوت؟ هل حقيقة أنهم يسمونها موسكو المقدسة؟ كم عدد الكنائس فيها؟»
وبينما هم يجيبونه بأن العدد يبلغ مائتين، بدا مندهشا. - «ولماذا كل هذا العدد من الكنائس؟»
فقال بالاشيف: «إن الروسيين شديدو الورع.»
استطرد نابليون وهو يستجدي بعينيه موافقة كولنكور: «ثم إن وفرة عدد الأديرة والكنائس كان دائما الدليل على مدينة متأخرة.»
سمح بالاشيف لنفسه أن يناقض الإمبراطور باحترام. قال معترضا: «إن لكل بلد تقاليده.» - «ولكن لم يعد في كل أوروبا شبيه لهذا.» - «لتتفضل جلالتكم بمعذرتي، لكن في إسبانيا - كما هو الحال في روسيا - عددا كبيرا من الأديرة والكنائس.»
وعندما حمل إلى بلاط روسيا هذا الجواب الذي يخفي بين طياته تلميحا عن هزيمة الفرنسيين الحديثة في إسبانيا، فإنه لقي فيه أرفع تقدير. أما على مائدة نابليون، فإنه لم يحدث أي أثر، بل إنه مر دون أن يؤبه له.
كانت وجوه السادة الماريشالات اللامبالية تدل بوضوح على أن هذا الجواب الماكر قد غاب عن أذهانهم رغم أن لهجة بالاشيف قد أبرزته. بدوا وكأنهم يقولون: «إذا كان في الأمر قصد ما، فإنه يفوتنا إدراكه.» ولقد خمنوا مؤداه بانتباه ضئيل جدا، حتى إن نابليون لم يأبه له، بل استرسل في طرح أسئلته، فسأل بالاشيف بسذاجة عن أقصر الطرق المباشرة للذهاب إلى موسكو، وعن المدن التي تحاذيها. فأجاب بالاشيف - الذي ظل طيلة الغداء مترقبا - بأنه لما كانت كل الطرق تؤدي إلى روما، فإن كل الطرق كذلك تؤدي إلى موسكو، وإن بين هذه الطرق العديدة واحدا يمر ببولتافا، وهو على التأكيد ذلك الذي انتقاه شارل
3
الثاني عشر. ولقد تضرج وجه بالاشيف بحمرة الفرح لما في رده من معنى لاذع، لكنه ما إن فاه باسم بولتافا حتى بادر كولنكور، لكي يضع حدا لهذه المحادثة الخطيرة، إلى وصف حالة طريق بيترسبورج-موسكو السيئة، ثم استرسل في سرد ذكرياته عن العاصمة.
وبعد الطعام، انتقلوا لتناول القهوة إلى مكتب نابليون، الذي كان قبل أربعة أيام مكتب ألكسندر. جلس نابليون وأشار إلى بالاشيف، وهو يحرك قهوته في قدح من خزف «سيفر» الشهيرة، أن يجلس على مقربة منه.
كان نابليون في تلك الحالة السعيدة التي تعد الإنسان الذي تناول طعاما طيبا أكثر من أي شيء آخر لأن يشعر بالرضى عن نفسه، ويرى الأصدقاء في كل مكان. فكان إذن يظن أنه المثل الأعلى للأشخاص المحيطين به بما فيهم بالاشيف الذي استوى الآن بلا ريب في صفوف المعجبين به. لذلك فقد قال له بابتسامة تحمل سخرية رقيقة: «لقد قالوا لي إن هذا هو المكتب الذي كان يشغله الإمبراطور ألكسندر. أليس ذلك مثيرا للفضول يا جنرال؟»
بدا قانعا أن هذه الملاحظة لا بد وأن تدخل السرور على نفس محدثه. أليست الدليل على تفوقه هو - نابليون - على ألكسندر؟
اكتفى بالاشيف، الذي ما كان يستطيع أن يجيب بشيء، بإحناء رأسه.
استرسل نابليون دون أن يكف عن ابتسامته الجوفاء المتهكمة: «نعم، في هذه الحجرة منذ بضعة أيام، كان وينتزنجيرود وستين يتشاوران. إن ما لا أستطيع فهمه هو أن الإمبراطور ألكسندر أحاط نفسه بكل أعدائي الشخصيين، كلا، الحق يقال إنني لا أستطيع فهمه. ألم يفكر إذن في أنني قد أتصرف تصرفا مماثلا؟»
كان وهو يلقي هذا السؤال يستسلم لبقية من سورة غضب الصباح التي لم تتبدد تماما. أضاف وهو ينهض ويدفع فنجانه عنه: «ليعلم جيدا أنني سأعمل مثله. سوف أطرد من ألمانيا كل أقربائه؛ آل «وورتمبرج» و«باد» و«ويمار» ... نعم، سوف أطردهم من هناك. فليهيئ لهم إذن مأوى في روسيا.»
أحنى بالاشيف رأسه وأماراته المتعبة توحي بأنه يرغب في الإذن له بالانصراف، وأنه لا يصغي إلى تلك الأقوال إلا مكرها. لم يلاحظ نابليون شيئا من كل هذا، لم يعد يعامل بالاشيف بوصفه رسولا للعدو، بل كرجل اكتسبه إلى جانبه عليه أن يبتهج للهجاء المكلل لسيده القديم. - «ولماذا أمسك الإمبراطور ألكسندر بزمام قيادة جيوشه؟ ما الفائدة؟ إن الحرب مهنتي، أما هو فإن مهنته أن يحكم لا أن يقود الجيوش! لماذا اضطلع بمثل هذه المسئولية؟»
أخرج نابليون مسعطه مرة أخرى، ثم سار بضع خطوات دون أن يتكلم، وفجأة توجه إلى بالاشيف ورفع يده إلى وجه ذلك الجنرال الروسي ذي السنوات الأربعين بحركة متزنة فجائية وبسيطة - وكأنه يقوم بعمل هام ومتملق - وجذب أذنه جذبا خفيفا وهو يرسم على شفتيه ابتسامة. «أن تجذب الأذن من قبل الإمبراطور» يعتبر في البلاط الفرنسي شرفا كبيرا، بل وحظوة عالية.
سأل وهو يعتبر - ولا ريب - أن من المضحك أن يكون امرؤ في حضرته «ممالقا» ومعجبا برجل آخر غيره هو، نابليون: «حسنا، لم لا تتكلم بشيء أيها المعجب بالإمبراطور ألكسندر الممالق له؟»
ثم أضاف وهو يجيب على تحية بالاشيف بإشارة من رأسه: «هل أعدت الجياد للجنرال؟ أعطوه جيادي، إن أمامه رحلة طويلة يقوم بها.»
وكانت الرسالة التي حملها بالاشيف، الأخيرة التي كتبها نابليون إلى ألكسندر. لقد نقلت كل تفاصيل المقابلة إلى إمبراطور روسيا وبدأت الحرب ...
الفصل الثامن
عودة إلى ليسيا جوري
بعد مقابلة مع بيير في موسكو، سافر الأمير آندريه إلى بيترسبورج لبعض الأعمال كما قال لأقربائه، ولكنه في الحقيقة كان يرمي من وراء ذلك إلى إجراء مقابلة مع الأمير آناتول كوراجين كان يراها ضرورية. بحث عنه فور وصوله ولكن دون جدوى؛ ذلك أن آناتول الذي أخطره أخو زوجته بأن آندريه يطارده، لم يلبث حتى التمس من وزير الحربية عملا في جيش مولدافيا، وحصل على ما أراد. قابل آندريه خلال إقامته في العاصمة، كوتوزوف؛ جنراله السابق دائم الاستعداد لأداء ما يحتاج إليه، فعرض عليه هذا أن يصحبه معه إلى مولدافيا؛ حيث عين قائدا أعلى. فقبل آندريه وذهب إلى تركيا بوصفه ملحقا في أركان حرب الجنرال.
ما كان إرسال طلب مبارزة إلى كوراجين ليلقى قبولا من جانب الأمير آندريه، الذي ما كان يريد المساس بسمعة الكونتيس روستوف بأي ثمن؛ لذلك كان يبحث عن مقابلة شخصية مع آناتول تسمح له أن يتحداه متخذا حجة أخرى، لكنه كان أملا ضائعا؛ ذلك أن آناتول، حال وصول الأمير إلى الجيش التركي، بادر بالعودة إلى روسيا . ولقد شعر آندريه في ذلك البلد الجديد ببعض الارتياح بفضل الشروط الحياتية الجديدة، ولقد وجهت إليه خيانة مخطوبته ضربة شديدة الإيلام، حتى إنه لمزيد ألمه كان مرغما على عدم التظاهر بمبلغ عذابه. ومنذ ذلك الحين بدت له المباهج التي كان يتذوقها في الحياة تافهة، وتلك الحرية وذلك الاستقلال اللذان طالما قدرهما من قبل أكثر تفاهة وسلاخة. وتلك الأفكار التي واتته تحت سماء أوسترليتز، والتي كان يحب تعميمها مع بيير، تلك الأفكار التي لشد ما فتنت وحدته في «بوجوتشاروفو» وسويسرا وروما، والتي كانت تفتح له آفاقا مضيئة لا متناهية، لم يعد يتوقف عندها، بل إنه كان يدفع عنه حتى مجرد ذكراها. لم يعد يهتم الآن إلا بالمصالح الدارجة الأكثر آنية دون رابطة مع المصالح السابقة، ويتعلق بحماس تزداد شدته كلما ابتعدت هذه عن مشاغله السالفة. وتلك القبة اللامتناهية التي كانت منتشرة من قبل فوق رأسه بدت وكأنها استبدلت بأخرى منخفضة محدودة أخذت تسحقه، قبة يبدو كل شيء تحتها جليا واضحا، ليس تحتها شيء غامض أو خالد.
كانت الخدمة العسكرية بين كل المشاغل التي تعرض له، أبسطها وأفضل ما يتقنه منها. ولقد أكب على واجباته كجنرال مساعد عسكري، فأنجزها بكثير من الغيرة والدقة، حتى إن كوتوزوف نفسه دهش لهما. ولما لم يعد يجد كوراجين في تركيا، فإنه لم يقدر أن من المناسب الجري وراءه إلى روسيا، ولكنه لم يكف عن الإسرار لنفسه بأنه رغم مرور الزمن والاحتقار الذي يشعر به حيال هذا الشخص، ورغم كل ما لديه من أسباب تجعله يجده غير جدير بمبارزة، يتحداه عند أول فرصة دون مراء، مثله في ذلك كمثل الرجل المتضور من الجوع، الذي يلقي بنفسه على الطعام بحكم غريزته. فكان إحساسه بأن إهانته لم ينتقم لها وأن الغضب لا يزال يغلي في أعماق قلبه، يسمم الهدوء الذي اصطنعه في تركيا بفضل فاعلية متحركة نوعا ما، كان الزهو، بل والطمع، يجدان فيها حسابهما.
عندما بلغ نبأ الحرب مع نابليون عام 1812م إلى بخارست؛
1
حيث كان كوتوزوف منذ شهرين يمضي الليل والنهار لدى خليلته «فالاك»، التمس الأمير آندريه تعيينه في جيش الغرب، فامتثل كوتوزوف، الذي كانت غيرة بولكونسكي تبدو له الآن لوما عنيفا على قلة مروءته الشخصية؛ لطلبه، وأسند إليه مهمة لدى باركلي دوتوللي.
وقبل أن يلحق بالجيش الذي كان يحتل معسكر دريسا في آيار، قرر آندريه أن يمر «بليسيا جوري»؛ إذ إن هذا الملك الذي يقع على بعد مرحلة صغيرة من طريق سمولنسك الكبيرة، كان كذلك على طريقه، ولقد استجد خلال هذه السنوات الثلاث الأخيرة كثير من التبدل في حياته، كثير من الانقلابات في طرق تفكيره وتحسسه، ورأي كثيرا من الأشياء خلال رحلاته في الغرب كما في الشرق، حتى إنه شعر بذهول حقيقي عندما وجد في ليسيا جوري نهج الحياة إياه الذي لم يتبدل حتى في أتفه تفاصيله. وعندما اجتاز الممشى وتخطى الباب الكبير، ظن أنه قد ولج قصرا مسكونا نائما؛ فالنظام والصمت والنظافة لا زالت سائدة في ذلك البيت، والأثاث لا زال إياه، والجدران نفسها والحركات ذاتها والرائحة بعينها والوجوه الوجلة نفسها، وإن كانت قد هرمت بعض الشيء. كانت الأميرة ماري لا زالت هي هي، دميمة وجلة متصاعدة في السن، أمضت أجمل سنيها دون أية فائدة ولا أية بهجة في مخاوف وآلام سرمدية. والآنسة بوريين لا زالت تلك المغناج شديدة الرضى عن شخصها الصغير، تعرف كيف تتمتع بأتفه اللحظات وتنسج لنفسها أكثر الآمال إشراقا. وديسال، المدرس الذي جاء به من سويسرا، كان الآن مرتديا «رودنجوتا» على الطريقة الروسية، ويتحدث روسية فاسدة عندما يخاطب الخدم، لكنه لا زال ذلك المربي الذي كان بذكائه القليل وثقافته وصلاحه على جانب من التحذلق. أما الأمير العجوز، فإن نقص سن في زاوية الفم كان التبدل الجسدي الوحيد الذي يلاحظ عليه، أما تبدله المعنوي فكان سرعة غضبه المتفاقمة و«شطقته» الآخذة في الازدياد حيال كل أحداث هذا العالم. إلا أنه نيكولا الصغير وحده هو الذي كبر وظهرت تقاسيمه. كان يضحك تحت شعره الفاحم العكف دون أن يدرك السبب، يسلبه كل شيء ويرفع الشفة العليا من فمه الجميل كما كانت تفعل الأميرة الصغيرة المتوفاة. كان وحده لا يخضع لنظام الاستقرار الذي بدا وكأنه يتحكم في ذلك القصر المسحور، ولكن على الرغم من أن المظاهر ظلت دون تبديل، فإن العلاقات الخاصة بين السكان قد تبدلت كثيرا منذ رحيل آندريه. كانوا الآن يؤلفون معسكرين معاديين غريبين أحدهما عن الآخر، أرغمهما وجوده على التقارب لبعض الوقت، فالأمير العجوز والآنسة بوريين والمهندس ينتمون إلى أحد المعسكرين، بينما يتألف المعسكر الآخر من ماري وديسال ونيكولا الصغير والخدم والمرضعات.
خلال إقامته، تناولوا جميعهم الطعام معا، لكن آندريه كان يرى أنهم يعاملونه معاملة الضيف الذي يقومون إكراما له باستثناء للقاعدة، والذي يزعجهم وجوده. ولقد شعر بغريزته بهذا الارتباك في اليوم الأول، فلم يتكلم إلا لماما، بينما تمسك الأمير العجوز الذي لمس مظهر ولده المصطنع بصمت عنيد، وانسحب فور الانتهاء من الطعام، وعندما دخل عليه آندريه حوالي المساء ليراه، راح يقص عليه حملة الكونت كامنسكي الشاب؛ ظنا منه أن هذا سيرد له طبيعته المألوفة، فكان أبوه يقاطعه متشكيا من ماري، متهما إياها بأنها تؤمن بالخرافات وتكره الآنسة بوريين؛ «الشخص الوحيد - كما أكد - المخلص لي إخلاصا حقيقيا.»
فإذا كان الأمير العجوز مريضا، فإنما الذنب - على دعواه - ذنب ماري وحدها التي تتعمد إيلامه وإثارة أعصابه، والتي تفسد نيكولا الصغير بفرط رحمتها وقصصها البلهاء. وكان في الواقع يعرف تماما أنه هو الذي يعذب ابنته، لكنه كان يعرف كذلك أنه لا يستطيع الامتناع عن ذلك، وأنها - على أية حال - تستحق مثل تلك المعاملة. كان يحدث نفسه: «لماذا لا يحدثني آندريه، الذي يرى كل هذا، عن ماري شيئا؟ هل يتصور اتفاقا أنني فاجر أو مجنون عجوز ابتعدت عن ابنتي لأكون على ما يرام مع الفرنسية؟! إنه لا يفهمني؛ لذلك يجب أن أشرح له كل شيء، يجب أن يفهمني.» وراح يشرح الأسباب التي تجعل عقلية ابنته المستحيلة غير محتملة.
قال آندريه دون أن ينظر إلى أبيه؛ لأنه كان للمرة الأولى سيسمح لنفسه بلوم أبيه: «لو أنك لم تثر هذه المسألة للبثت صامتا، لكنك وأنت تسألني رأيي فإنني سأقول لك بصراحة ما أراه في كل هذا. إذا كان هناك سوء تفاهم بين ماشا (تصغير ماري) وبينك فإنني لا أستطيع أن أجعلها مسئولة؛ لأنني أعرف مقدار ما تحبك وتحترمك.»
واستطرد آندريه وهو يستسلم لانفعال بات مألوفا لديه منذ بعض الوقت: «وطالما أنك تسألني الرأي، لن أقول لك إلا شيئا واحدا: إن الخلاف - إذا كان هناك خلاف - ناشئ عن هذه الامرأة الحقيرة وحدها التي ما كان يجب أن تكون مرافقة أختي.»
لبث العجوز بادئ الأمر مشدوها وعيناه تحدقان في ولده، ثم كشف بابتسامة مرغمة عن ذلك الفراغ الذي أحدثه فقدان السن في زاوية فمه، ذلك الفراغ الذي لم يكن آندريه ليألفه بعد. - «من هي هذه الرفيقة يا عزيزي؟ ... لقد أثاروك قبل أن تدخل إلي.»
استلقى آندريه بلهجة قاسية محتدة: «أبي، ما كنت أريد أن أقاضيك، ولكن طالما أنك أثرت هذا الإيضاح، فقد قلت لك وأكرر القول وسأظل مصرا على أن ماري ليست مذنبة ... كلا، إن المذنبين ... المذنبة، هي هذه الفرنسية.»
قال الأمير العجوز بصوت هادئ كانت تظهر فيه بادرة بلبلة: «آه! إنك تحكم علي! ... إنك تحكم علي! ...»
لكنه قفز فجأة وهتف: «اخرج من هنا! اخرج من هنا! لا تطأ بعد الآن هذا المكان! ...»
أراد آندريه أن يذهب لفوره، لكن ماري توسلت إليه أن يطيل بقاءه أربعا وعشرين ساعة أخرى. لم ير طيلة ذلك اليوم أباه الذي لم يخرج قط من جناحه، ولم يتقبل فيه إلا الآنسة بوريين وتيخون، والذي سأل مرات عديدة عما إذا كان ابنه قد رحل. وفي اليوم التالي، قبل سفره، ذهب آندريه لرؤية نيكولا الصغير. جاء الغلام قوي البنية الذي كان شعره العكف يذكر الناظر بشعر أمه، وجلس على ركبتيه، فراح آندريه يقص عليه حكاية بارب بلو
2 (ذي اللحية الزرقاء)، لكنه لم يكمل قصته، بل راح يفكر. نسي هذا المخلوق اللطيف الصغير الذي كان يجلسه على ركبتيه، وراح يفكر في نفسه. لقد أغضب أباه، وها هو يغادر بعد أن اختصم معه للمرة الأولى في حياته دون أن يشعر بندم أو بأسف، بل إنه راح يبحث في أعماقه عن ذلك الحنان الذي طالما أحس به حيال ابنه، والذي كان يأمل أن ينميه بملاطفة الصغير وحمله على ركبتيه، ولكن - وهذا أخطر من الأمر الأول - دون أن يجد له أثرا.
عائلة روستوف في دار الأوبرا.
قال الفتى: «حسنا، أنه قصتك، أنهها.»
فرفعه عن ركبتيه دون أن يجيبه وخرج.
ما كان الأمير آندريه يهجر مشاغله اليومية ويعود إلى شروطه الحياتية التي كان يعيش فيها عندما كان سعيدا حتى يستحوز عليه الاشمئزاز من الحياة بأكثر قوة من ذي قبل، فكان يتعجل الإفلات بأسرع ما يمكن من تلك الذكريات لينغمس في فاعلية ما.
قالت له أخته: «هل تذهب يا آندريه ولا بد؟»
فأجابها: «إنني أشكر الله على أنني أستطيع الذهاب، وأرثي لك؛ لأنك لا تستطيعين أن تحذين حذوي.»
هتفت ماري: «ماذا أنت قائل؟ لا تنس أنك ذاهب إلى هذه الحرب الرهيبة، وأنه عجوز هرم! لقد سأل عما إذا كنت لا تزال هنا. لقد أخبرتني الآنسة بوريين بذلك.»
ما كادت تطرق هذا الموضوع حتى ارتعدت شفتاها من التأثر، في حين انبعثت الدموع من عينيها، فأشاح آندريه بوجهه وراح يذرع الغرفة.
قال بسورة أذهلت أخته: «آه! رباه! رباه! عندما يفكر المرء في أن مخلوقات على هذا الدرك من الحقارة تستطيع أن تسبب تعاسة الآخرين!»
حدست أنه بحديثه عن المخلوقات الحقيرة لم يعن الآنسة بوريين وحدها التي سببت شقاءها هي، بل كذلك الرجل الذي دمر سعادته هو.
قالت له وهي تلمس مرفقه وترفع إليه عينيها اللتين كانتا تلتمعان خلال دموعها: «آندريه، إنني أفهمك، ولكن لا تعتقد أن الألم من صنع البشر. إن البشر ليس إلا أدوات للألم.»
وتجاوزت نظرتها رأس آندريه، إحدى تلك النظرات الواثقة من إيجاد صورة ممجدة في مكانها المألوف: «إنه هو وليس البشر الذي يرسل إلينا الألم، إن الرجال أدوات وهم ليسوا مذنبين، فإذا كنت تظن أن بعضهم أساء إليك، فانس واصفح؛ إذ ليس من حقنا أن نعاقب، وحينئذ ستتذوق بهجة الصفح.» - «لو كنت امرأة يا ماري لكان هذا ما أفعله. إن الصفح فضيلة النساء، أما الرجل فلا يجب، بل ولا يستطيع، أن ينسى وأن يصفح.»
وعلى الرغم من أنه لم يكن حتى ذلك الحين قد فكر في كوراجين، فإن كل غضبه الذي لم يشبع استيقظ فجأة في قلبه. حدث نفسه: «إذا كانت ماري أصبحت تجرؤ على أن تسألني الصفح عنه، فما ذلك إلا لأنه كان يجب أن أعاقبه منذ زمن طويل.» ودون أن يستمر في الرد على أخته، راح يفكر بفرح حقود في اللحظة التي سيقابل فيها كوراجين الذي يعرف أنه في الجيش.
توسلت ماري إلى أخيها مرة أخرى أن يمكث يوما آخر، ونبهته إلى مبلغ ما سيكون أبوه تعيسا إذا ذهب آندريه دون أن يتصالح معه، فرد آندريه بأنه يستطيع أن يعود قريبا من الجيش، وأنه لن يتخلف عن الكتابة إلى أبيه، بينما لن تكون إطالته مدة إقامته إلا تعقيدا للأمور. - «وداعا يا آندريه، تذكر أن الآلام تأتي من الله، وأن بني البشر ليسوا أبدا مذنبين.»
تلك كانت الكلمات الأخيرة التي قالتها له أخته في لحظات الوداع.
فكر آندريه وهو يغادر ممشى ليسيا جوري: «لا بد وأن الأمر يجب أن يكون كذلك! إن هذه المخلوقة المسكينة البريئة ستبقى فريسة هذا العجوز الذي لم يعد مالكا رشده. إنه يشعر تماما بأنه مذنب، لكنه لا يستطيع أن يصحح أخطاءه. إن فتاي الصغير يكبر ويبتسم للحياة وسيكون ككل الآخرين؛ إما خادعا وإما مخدوعا. إنني ذاهب إلى الجيش. لماذا؟ لست أدري. ثم إنني أرغب في لقاء هذا الرجل الذي أحتقره؛ لكي أمنحه فرصة قتلي أو الاستهزاء بي!» ظلت العوامل التي تؤلف حياته هي نفسها لكنها فقدت كل تناسق، فلم تعد تمر في رأسه إلا أخيلة متباعدة ليس بينها أي رباط.
الفصل التاسع
حالة الجيش
وصل الأمير آندريه إلى القيادة العامة في نهاية حزيران، وكان الجيش الأول الذي يقوده الإمبراطور يحتل معسكر دريسا المحصن، والجيش الثاني يتراجع محاولا أن يلحق بالأول الذي كانت تفصله عنه - على ما قيل - قوات فرنسية هائلة، وكان الناس كلهم غير راضين عن سير العمليات العام، ولكن ما من أحد كان يتوقع غزوا للأقاليم الروسية الحقيقية، كما أن ما من أحد كان يستطيع الافتراض أن الحرب ستنتقل إلى ما وراء الأقاليم البولونية.
وكان باركلي دوتوللي الذي أرسل إليه كوتوزوف الأمير آندريه يقيم في مشارف دريسا. ولما لم تكن هناك قرى صغيرة أو كبيرة قريبة، فإن الجنرالات العديدين الكثر من البطانة الذين كانوا في الجيش، كانوا يحتلون، على قطر ثلاث مراحل دائريا، أفضل المساكن في الضياع الواقعة على كلا شاطئي النهر. وكان باركلي دوتوللي يقطن على بعد مرحلة من الإمبراطور. استقبل بولكونسكي ببرود، وقال له بلهجته الأجنبية إنه قبل أن يعهد إليه بأي عمل سيعود إلى استشارة جلالته، ولكنه بانتظار ذلك يلحقه بهيئة أركانه. أما آناتول كوراجين الذي كان آندريه يفكر في إيجاده في الجيش، فكان قد عاد إلى بيترسبورج. ولقد وجد هذا النبأ وقعا حسنا في نفسه أكثر مما كان ينتظر أن يزعجه؛ لأنه عندما وصل إلى مركز العمليات التي كانت سعتها لا متناهية، شعر بمصلحته تستيقظ في أعماقه، فلم يسخط قط؛ لأنه تحرر لوقت ما من الانفعال الذي كان يثيره فيه التفكير في كوراجين.
طاف خلال الأربعة الأيام الأولى التي لم يلجأ أحد فيها إلى الانتفاع بخدماته بالمعسكر المحصن، وحاول أن يكون لنفسه فكرة صحيحة عنه بفضل معلوماته ومداولاته مع أشخاص ذوي نفوذ. كان يتساءل عما إذا كان لهذا المعسكر سبب لوجوده دون أن يصل قط إلى إيجاد الجواب، ولقد علمته تجاربه في الحرب، وخصوصا معركة أوسترليتز، أن أكثر الخطط إحاطة وأعمقها دراسة ليس لها إلا أهمية جد ضئيلة، وأن كل شيء يتوقف على الطريقة التي يرد بها على الضربات الفجائية غير المتكهن بها، التي يوجهها العدو، وعلى الأسلوب الذي تدار به العمليات وقيمة الرؤساء. ولكي يعرف كيف يرتكز حول هذه النقطة الأخيرة فقد اجتهد بفضل مركزه ومعارفه أن يتوغل في عقلية القيادة العليا والأشخاص والجماعات الذين يساهمون فيها، وتوصل أخيرا إلى تحضير اللوحة التالية من هذه المجموعة.
عندما كان الإمبراطور لا يزال في فيلنا، كانت قواتنا مقسمة إلى ثلاثة جيوش؛ يقود الأول باركلي دوتوللي، والثاني باجراسيون، والثالث تورماسوف. وكان الإمبراطور مع الجيش الأول، ولكن دون أن يشغل منصب القائد الأعلى. ولقد كانت البيانات الملكية تنص على أنه سيكون موجودا وليس على أنه سيكون قائدا. ولم تكن حوله أية هيئة أركان لقيادة عليا، ولكن هيئة أركانه العامة الشخصية التي كان يرأسها الجنرال الأول فولكونسكي،
1
وكان هناك جنرالات ومساعدون عسكريون ودبلوماسيون وطائفة من الغرباء، ولكن ليس من هيئة قيادة للجيش. وكان يرى كذلك إلى جانب الإمبراطور دون مهمة خاصة، وزير الحربية آراكتشييف والكونت بينيجسن أقدم الجنرالات رتبة وقريب القيصر كونستانتان بافلوفيتش والمستشار الكونت روميانتسيف والوزير البروسي السابق ستين والجنرال السويدي آرمفيلت وبفويل واضع مخطط الحملة الرئيسي واللاجئ السرديني (من سردينيا) «بولوكشي» والمساعد العسكري الجنرال فولزوجن وكثيرون آخرون، وعلى الرغم من انعدام المهمات الرسمية لهؤلاء الأشخاص، فإنهم كانوا يمارسون على أية حال سلطة ما. فكان غالبا ما لا يعرف قائد فوج أو حتى قائد عام بأية سلطة يسأله بينيجسن أو الغراندوق أو آراكتشييف أو الأمير فولكونسكي عن هذا أو ذاك من الأمور، وينصحه بتنفيذه، ويجهل ما إذا كان هذا الأمر أو ذاك ينقل إليه من عندياتهم أم مستمدا من الإمبراطور ومنقولا إليه على شكل نصيحة، وما إذا كان عليه تنفيذه أم لا. بيد أن كل هذا لم يكن أكثر من مجرد مظهر، فكل كان يعرف ما معنى بطانة - ومن ذا الذي ما كان يصبح مشايعا للإمبراطور في حضرته؟ - ومعنى وجود ألكسندر في الجيش، ووجود كل هذه الشخصيات. وإذا كان الإمبراطور لم يتخذ بالفعل لقب القائد الأعلى، فإن الجيوش كلها ما كانت أقل ائتمارا بأمره، أما كل من حوله فمساعدون له؛ فآراكتشييف هو الحارس الأمين للنظام والمرافق لجلالته، وبينيجسن - رغم كل تظاهره بالاكتفاء بحفاوات البلاد بوصفه مالكا كبيرا لإقطاعية مجاورة - جنرال ممتاز يصغى إلى رأيه بكل ارتياح ويحتفظ رهن الإشارة ليحل محل باركلي. وإذا كان الغراندوق هناك فلأن تلك كانت رغبته. أما الوزير السابق ستين، فكان بوصفه خير مشير ولأن الإمبراطور يتذوق صفاته الشخصية البارزة. بينما آرمفيلت أسوأ أعداء نابليون وجنرال معتد بنفسه، الأمر الذي كان له أثر قوي في نفس الإمبراطور، ووجود بولوكشي مرده إلى جرأة أحاديثه وأثرها، في حين أن المساعدين العسكريين الجنرالات ملزمون على مواكبة الإمبراطور دائما. وأخيرا، وهذه نقطة جوهرية، كان بفويل هناك؛ لأنه واضع مخطط حملة استطاع بفنه أن يجعل ألكسندر يوافق عليه، فكان في واقع الحال هو الذي يدير كل العمليات. وإلى جانب بفويل، وقف فولزوجن يترجم بشكل عملي أفكار هذا الرجل، العالم النظري الغضوب شديد الافتتان بنفسه، حتى ليظهر حيال كل شيء اشمئزازا مترفعا، وفيما عدا هؤلاء الأشخاص الروسيين والغرباء، وخصوصا الغرباء الذين كانوا يقترحون كل يوم خططا جديدة بالجرأة الطبيعية لكل شخص يمارس نشاطا في وسط غير وسطه، فيما عدا هؤلاء، كان كثيرون آخرون يتبعون في المرتبة التالية نجاح أسيادهم في الجيش.
لم يلبث آندريه أن ميز بين كل هذه الآراء المشرقة في هذا «العالم» الصاخب الزاهي المترفع، تيارات عديدة واضحة المعالم.
فالفريق الأول كان يتألف من بفويل ونظريين آخرين آمنوا بوجود علم للحرب، علم يرتكز على قوانين ثابتة أشبه بالحركة الزوراء والالتفاف حول العدو ... إلخ، فكان بفويل ومشايعوه يطالبون بانسحاب إلى داخل البلاد نزولا عند القواعد الدقيقة التي وضعتها نظرية الحرب المزعومة، ويعتبرون كل مخالفة لهذه النظرية دلالة على البربرية والجهل وقصر النظر. وكان الأمراء الألمان وفولزوجن ووينتزنجيرود وكثيرون معظمهم من الألمان يشايعون هذا الفريق.
والفريق الثاني يعارض الفريق الأول على طول الخط، ضد كلما استدعي سواه. وكان أتباع هذا الفريق يطالبون منذ «فيلنا» بهجوم في بولونيا وإغفال كل خطة مسبقة. وهم يمثلون الجرأة في العمل، ويجسدون العقلية القومية؛ ومن ثم يظهرون أكثر كمالا من كل أخصامهم. كان هؤلاء روسيين ؛ منهم باجراسيون وإيكروولوف الذي بدأ في التقدم، والذي تكللت إحدى هجماته بنجاح كبير، فقال للإمبراطور الذي ترك له أمر اختيار المكافأة: «أريد أن أرفع إلى مرتبة «ألماني».» كان أعضاء هذا الفريق يستعرضون ذكرى سوفوروف، ويرددون حيثما كانوا أن من العبث بناء نظريات وغرس دبابيس على الخرائط، وأنه يجب القتال وهزم العدو ومنعه من دخول روسيا، وعدم ترك المجال لقواتنا لتفقد معنوياتها.
والفريق الثالث، ذلك الذي يوحي إلى الإمبراطور بأكبر ثقة، كان يضم المشايعين من البطانة؛ ومن بينهم آراكتشييف. وكان هؤلاء ينادون بالتوفيق بين الجانبين المتنابذين، يفكرون ويقولون ما يقوله عادة أولئك الذين لا معتقدات لهم، بل يرغبون في الحصول على بعضها. كانوا يؤكدون أن الحرب، وخصوصا مع خصم عبقري كبونابرت - ذلك أنهم عادوا إلى تسميته ببونابرت من جديد - تتطلب ولا شك علما تاما وأكثر التدابير براعة؛ لذلك فإن بفويل عبقري حقا في هذا الصدد. ولما كان لا يمكن الإنكار بحال أن النظريين غالبا ما يكونون مانعين، فإنه لا بد - وهم الذين لا يمنحونهم ثقة تامة - من الإصغاء بنفس الوقت إلى خصم بفويل، وهم الرجال العمليون المجربون، واتخاذ حل وسط بينهم. وتبعا لذلك، فإنهم وهم يعترفون بضرورة إبقاء معسكر دريسا استجابة لخطة بفويل، يتطلعون إلى تعديل سير الجيشين الآخرين. وعلى الرغم من أنه بهذه الطريقة لا يمكن بلوغ أي من الأهداف المقترحة، فإن أعضاء هذا الفريق كانوا يزعمون أن ذلك أفضل الحلول.
أما تيار الآراء الرابع، فكان يرأسه التسيزاريفيتش، كان هذا لا يزال محتفظا في ذاكرته خيبته في أوسترليتز؛ حيث تقدم، وكأنه في عرض، بخوذته وسترته القصيرة على رأس الحرس وهو قانع بأنه سيسحق الفرنسيين بكل بسالة، ولكنه أخذ على حين غرة في الخط الأمامي، فأحاطت به الفوضى، ولم يتخلص إلا بشكل محزن. لقد كان لرجال هذا الفريق فضيلة الإخلاص وخطيئته. كانوا يخافون نابليون ويعرفون قوته وضعفهم، ثم لا يجدون غضاضة في التصريح بذلك. كانوا يرددون: «لن يلحق هذا كله إلا الضر والهزيمة والعار بنا، لقد تخلينا حتى الآن عن فيلنا ثم عن فيتيبسك، وسوف نتخلى كذلك عن دريسا. إن الحل المعقول الوحيد الذي بقي علينا أن نأخذ به هو التوصل إلى صلح بأسرع ما يمكن إذا كنا لا نريد أن نطرد من بيترسبورج!»
كان لهذا الرأي المنتشر في المقامات العالية من الجيش صدى في بيترسبورج، بل وحتى في نفس المستشار روميانتسيف، الذي كان ينشد الصلح ولكن لأسباب أخرى.
وكان هناك معسكر خامس يساند باركلي دوتوللي بسبب مركزه كوزير للحربية وقائد أعلى أكثر مما كان يسانده لقيمته الشخصية. وكان رجال هذا الفريق يقولون: «مهما بلغت أخطاؤه - وكانوا أبدا يبدءون بهذه العبارة - فإنه رجل نشيط ونبيل، وليس لدينا أفضل منه. أعطوه سلطة حقيقية؛ لأن وحدة القيادة في الحرب هي شرط النجاح، وسيريكم ما يستطيع صنعه كما أظهره من قبل في فنلندا، فإذا استطاع جيشنا أن ينسحب دون عوائق حتى دريسا، وإذا كان الآن قويا ومنظما، فإننا مدينون بذلك إلى باركلي وحده. فإذا استبدلناه ببينيجسن ضاع كل شيء. لقد برهن بينيجسن أكثر مما يجب عن عجزه عام 1807م.»
والفريق السادس، أنصار بينيجسن، كانوا على العكس يؤكدون أن ما من أحد أكثر نشاطا وأكثر خبرة من هذا الرجل، وأنه لا بد من الرجوع إليه إن عاجلا أو آجلا، وإن تراجعنا إلى دريسا ليس في الواقع إلا هزيمة مخزية سببتها سلسلة من الأخطاء، «وكلما اجتمعت أخطاء متشابهة كان ذلك أفضل؛ إذ يفهم بأكثر سرعة أن الأمر لا يمكن أن يسير على هذا النحو. إن ما يلزمنا ليس باركلي ما، بل رجل مثل بينيجسن الذي قدم براهينه من قبل عام 1807م، والذي اعترف له نابليون بالذات بجدارته، إنه الوحيد الذي سينحني كل الناس أمامه.»
أما التابعون للفريق السابع، فكانوا من الأشخاص الذين لا يعدم المرء مقابلة أمثالهم في محيط الأمراء والعظماء الشبان، والذين كانوا كثرا بصورة خاصة حول الإمبراطور ألكسندر، تعدادهم جنرالات ومساعدون عسكريون مخلصون أشد الإخلاص للرجل أكثر من إخلاصهم للعاهل، كانوا يعبدونه بتجرد نزيه كما كان يعبده روستوف عام 1805م، ويعزون إليه ليست الفضائل كلها فحسب، بل وكل الصفات الإنسانية. كان هؤلاء يمجدون ويذمون بالوقت نفسه تواضع مولاهم الذي رفض القيادة العليا، ويرغبون في أن يعلن مليكهم مسكه زمام قيادة الجيش نابذا قلة ثقته المفرطة في نفسه، وأن ينظم هيئة أركان كبرى. وبعد أن يستشير - عند الاقتضاء - رجال النظريات كما يستشير الرجال العمليين الأكثر خبرة، يقود بنفسه جيوشه إلى القتال؛ إذ إن وجوده وحده يملأ الرجال بحماسة جنونية.
بيد أن المعسكر الثامن والأهم، الذي تبلغ نسبته إلى السابقين تسعة وتسعين إلى واحد، فقد كان يضم الأشخاص الذين لا يريدون الحرب ولا السلم ولا المعسكر المحصن على دريسا أو في مكان آخر، ولا براكلي ولا الإمبراطور ولا بفويل ولا بينيجسن؛ لأن مصالحهم ومسراتهم كانت أكثر أهمية في نظرهم كما كانت الهدف الأوحد للذين يسيرون وراءه. وكان المستحيل يصبح ممكنا في هذه البلبلة من الدسائس التي تتقارع وتتشابك في المعسكر الإمبراطوري. فهذا أحدهم يشارك اليوم بفويل في الرأي خشية أن يفقد مركزا رابحا، وغدا يشارك خصومه ويؤكد بعد غد أنه لا رأي له حول نقطة الخلاف؛ كل ذلك دفعا للتعرض للخطر وحرصا على البقاء حول مليكه. وذاك راغب في بلوغ مركز مكين، يستلفت انتباه الإمبراطور بالمناداة برأي كان هذا قد ألمح به بالأمس، ويناقش ويصيح في المجلس ويكيل لنفسه ضربات قوية على صدره، ويطلب المعارضين له إلى المبارزة؛ ليثبت بذلك أنه على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل الصالح العام. وثالث بين مجلسين وفي غياب أعدائه يلتمس دون خجل عونا ماديا لقاء خدماته المخلصة وهو عارف أنه لن يكون هناك متسع من الوقت لرفض طلبه. ورابع مرهق دائما بالعمل، وكأنه بفعل متعمد كلما أراد سيده رؤيته. وخامس، بغية الحصول على بطاقة دعوة إلى المائدة الإمبراطورية طالما تاقت نفسه إليها، يبرهن بكثير من الحجج المتفاوتة بالقوة صحة نظرية شائعة رائجة أو بطلانها.
كان هذا الثول من الزنانير لا يفكر في امتصاص المال والأوسمة والمناصب، همه أن يسترشد باتجاه ميل الرعاية الإمبراطورية. فما إن تتجه إلى وجهة ما حتى ينفخ في ذلك الاتجاه بالذات بشكل يتعذر معه على الإمبراطور تحويل رعايته إلى ناحية أخرى. وكان هذا الفريق الثامن ، وسط قلق الساعة والبلبال الذي أحدثه الخطر الماثل، وبين كل هذا الإعصار من الدسائس والأنانيات والخصومات بين الاتجاهات المختلفة المتعارضة، بين كل هؤلاء الناس من مختلف الجنسيات، كان هذا الفريق الأكثر عددا، المنصرف إلى مصالحه الشخصية، يعقد سير الأمور بصورة خاصة. وأيا كان الموضوع المثار، كان هذا الثول من الزنانير الذي لم يفرغ بعد من التبويق في الموضوع الذي كان يشغله من قبله، يطير سباقا إلى الموضوع التالي فيكتم بطنينه الأصوات المخلصة التي تساهم في النقاش.
وفي اللحظة التي وصل فيها الأمير آندريه إلى المعسكر، بدأ فريق تاسع يرى النور. إنه فريق الأشخاص المسنين العاقلين الذين حطمتهم الأعمال، والذين ما كانوا يشاطرون أحدا بالآراء القائمة، بل يفحصون بتجرد ما يدور في البلاط الإمبراطوري، ويبحثون عن الوسيلة التي يضعون بها حدا للقلق والتردد والغموض والضعف.
كان هؤلاء يقولون ويفكرون في أن الضرر ناجم قبل كل شيء عن وجود الإمبراطور وحاشيته العسكرية في الجيش، وأن الجو الاتفاقي والتقلب السائدين في البلاط يضران أبلغ الضرر بالجيش، وأن دور الملك هو أن يحكم وليس أن يقود الجيوش، وأنه ليس هناك غير مخرج واحد للمأزق؛ ألا وهو رحيل الإمبراطور الذي يشل وجوده خمسمائة ألف جندي ضروريين لتأمين أمنه. وإن جنرالا قائدا أعلى رديئا ولكن مستقلا، أفضل من رئيس من المرتبة الأولى مرتبط بحضرة الإمبراطور ورغبته السامية.
وبينما الأمير آندريه يقيم في المعسكر دون أن يضطلع بأية أعباء، رفع أحد أعضاء هذا الفريق الأكثر نفوذا - وهو سكرتير الدولة شيخكوف - رسالة إلى الإمبراطور موقعة من بالاشيف وآراكتشييف. ولقد استغل الإذن الممنوح له بالحكم على سير الأمور، فألمح بعبارات محترمة إلى العاهل أن وجوده في العاصمة ضرورة لإنارة حماس الجماهير الحربي.
ولقد فهم ألكسندر ضرورة استفزاز الشعب للدفاع عن الوطن، فاتخذها حجة ليغادر الجيش، فكان الحماس القومي الذي ظل مستعرا طيلة وجوده في موسكو العامل الرئيسي في انتصارنا.
الفصل العاشر
الجنرال بفويل1
لم تكن تلك الرسالة قد سلمت إلى الإمبراطور بعد حينما أخطر باركلي ذات يوم، وقت الغداء، بولكونسكي أن جلالته يرغب في رؤيته ليستفسره عن تركيا، وأن على الأمير آندريه أن يمثل ذلك المساء في الساعة السادسة بين يديه في مسكن بينيجسن.
وكانت القيادة الإمبراطورية ذلك اليوم قد أخطرت بحركة جديدة لنابليون يمكن أن تصبح خطيرة على الجيش. بيد أن النبأ دحض فيما بعد، ولقد طاف الزعيم ميشو صبيحة ذلك اليوم مع ألكسندر بحصون دريسا، ودلل له على أن هذا المعسكر المحصن العتيد، إنتاج بفويل - هذه الطرفة في فن «التكتيك» - ليس في الحقيقة إلا شيئا تافها محضا، وأنه لن يسبب ضياع نابليون، بل ضياع الجيش الروسي.
عندما وصل الأمير آندريه إلى المسكن الأميري الصغير القائم على شاطئ النهر مباشرة، الذي كان بينيجسن يقيم فيه، لم يجد فيه لا هذا الجنرال ولا الإمبراطور. لكن أحد المساعدين العسكريين الجنرالات، واسمه تشيرنيشيف، استقبله وأنهى إليه أن جلالته يتفقد للمرة الثانية ذلك اليوم تحصينات المعسكر الذي بات الشك في جدواه يتسرب إلى النفوس، يرافقه بينيجسن والمركيز بولوكشي.
كان تشيرنيشيف جالسا إلى نافذة في الحجرة الأولى يقرأ رواية فرنسية، ولا بد أن تلك الحجرة كانت في الماضي قاعة رقص؛ لأن الأرغن كان لا يزال هناك، وقد رصفت فوقه النجاد. وفي إحدى الزوايا كان مساعد بينيجسن العسكري مرتميا فوق سريره القابل للانطواء يغط في النوم إثر غداء فاخر ولا ريب أو وفرة عمل. كان للقاعة بابان: الباب المقابل يقود إلى البهو القديم، والباب الأيمن إلى مكتب عمل. ومن وراء الباب الأول كانت أصوات ترتفع باللغة الألمانية وبالفرنسية بين حين وآخر. لم يكن هناك مجلس حربي مجتمع؛ لأن الإمبراطور ما كان يحب التعاريف الدقيقة، بل اجتماع بعض الشخصيات. كان يريد الاستئناس برأيهم في هذا الموقف العصيب. وبالاختصار؛ مجلس سري على نحو ما. وكان بين المستدعين الجنرال السويدي آرمفيلت وفولزوجن ووينتزنجيرود - هذا الفرنسي المشايع للعدو على حد تعبير نابليون - وميشو وتول والكونت ستين الذي لم يكن قط عسكريا، وأخيرا بفويل «نقطة جمع» المسألة كلها كما قيل للأمير آندريه. تسنى لهذا متسع من الوقت ليتفحص هذا الرجل ؛ لأن بفويل وصل بعده مباشرة وتحادث بعض الوقت مع تشيرنيشيف قبل أن يدخل البهو.
ومنذ النظرة الأولى - رغم أنه لم يكن قد رآه من قبل - بدا بفويل للأمير آندريه في زي جنرال روسي سيئ الحياكة، كان يعطيه شكل المتنكر كأنه يعرفه من قبل. كان بفويل يذكر المرء بشكل غامض بالجنرالات ويروذر وماك وشميت وطائفة أخرى من أمثالهم من النظريين الذين صادفهم عام 1805م، لكنه كان أكثرهم نموذجا كاملا. لم ير بولكونسكي قط من قبل ألمانيا يجمع إلى هذا الحد تقاسيم كل هؤلاء الألمانيين النظريين البارزة.
كان رجلا قصيرا شديد النحول، ولكن متين التركيب قوي البنيان ذا حوض عريض وراسلين بارزي العظام وغضون تخدد وجهه وعينين غائرتين بعمق في محجريهما، أما شعره المصقول من الأمام وعلى الصدغين بعجلة بالفرشاة، فقد كان منتصبا من الوراء في خصلات هوجاء. دخل وهو يلقي نظرات قلقة ذات اليمين وذات الشمال وكأن كل شيء في تلك القاعة الفسيحة يخيفه، سأل تشيرنيشيف بالألمانية وهو يمسك سيفه بشكل أخرق عن مكان وجود الإمبراطور. لا بد وأنه كان متعجلا اجتياز الحجرات وإرسال التحيات والتمنيات المناسبة الشكلية ليتمركز وراء خريطة ويعود إلى طبيعته. ولما أبلغه تشيرنيشيف أن جلالته يتفقد التحصينات التي أمر هو، بويفل، ببنائها تبعا لنظرياته الشخصية؛ هز رأسه هزات عنيفة وطافت على شفتيه ابتسامة ساخرة. غمغم في سره بذلك الصوت الخفيض الذي امتاز به الألمان الواثقون من أنفسهم: «غباء ... أو سينهار كل شيء ... أو يمكن توقع أشياء جميلة ...» ولم يميز الأمير آندريه تماما ما كان يقوله، فأراد أن يمر، لكن تشيرنيشيف قدمه لبفويل مشيرا إلى أن الأمير قادم من تركيا؛ حيث انتهت الحرب هناك نهاية سعيدة. وبالكاد تنازل بفويل أن يمنحه نظرة وغمغم وهو يضحك: «لا بد وأنها كانت حملة تكتيكية رائعة.» ثم ازداد تهافتا وهو يتجه صوب الحجرة التي ترتفع منها الأصوات.
ومما لا ريب فيه أن واقع التجرؤ على فحص وانتقاد معسكره دون وجوده، أثار غضبة بفويل المألوفة إلى أقصى حد، واستعداده الطبيعي للاستهزاء. ولقد أتاحت هذه المقابلة القصيرة للأمير آندريه أن يكون لنفسه - اعتمادا على ذكرياته عن أوسترليتز - فكرة واضحة عن الرجل. كان بفويل واحدا من أولئك الذين يمكن أن تقود الثقة اليائسة بأفكارهم إلى حد الاستشهاد، والذين لا يرى مثيل لهم إلا في ألمانيا؛ لأن الألمان وحدهم يركزون اطمئنانهم على فكرة مجردة على العلم؛ وأعني المعرفة المزعومة بالحقيقة المطلقة. إن الفرنسي واثق من نفسه؛ لأنه يتصور أنه يمارس - سواء أكان بفكره أو بجسمه - فتنة لا تقاوم على النساء كما على الرجال. والإنجليزي يثق بنفسه؛ لأنه يعتقد أنه مواطن في أفضل بلدان العالم مدنية؛ فهو بوصفه إنجليزيا يعرف دائما ما يجب أن يعمل، وبوصفه إنجليزيا يعرف أن كل ما يعمله إنما هو خير ما يعمل دون نقاش. والإيطالي يثق بنفسه؛ لأن طبيعته الاهتزازية تجعله ينسى نفسه والآخرين معه. أما الروسي، فإنه يثق بنفسه؛ لأنه لا يعرف شيئا ولا يريد أن يعرف شيئا، ولأنه لا يؤمن بأنه يمكن معرفة أي شيء كان. إن ادعاء الألماني أكثرها عنادا وبشاعة؛ لأنه يتصور أنه يعرف الحقيقة. وبعبارة أخرى: العلم الذي صنعه هو نفسه والذي يعتبره بمثابة الحقيقة المطلقة.
كذلك كانت - دون ريب - عقلية بفويل. كان يملك علما؛ أعني نظرية الحركة المنحرفة، تلك التي استلهمها من دراسته لحروب فريدريك
2
الأكبر. وتبعا لذلك فإن الحملات التي جاءت بعدها ليست في نظره إلا سلسلة من الالتحامات السخيفة البربرية الفارغة، ارتكبت أخطاء كثيرة من جانب ومن آخر حتى أصبحت تلك الحروب لا تستحق اسم الحروب. ولما كانت لا تتفق مع نظريته فإنه لم يكن يعتبرها جديرة بأن تدرس.
لقد كان عام 1806م واحدا من واضعي الخطة التي أفضت إلى إيينا وأويرستات، لكن هذه الهزائم لم تبرهن له قط على خطأ نظريته. على العكس، فإن المخالفات التي حدثت لهذه النظرية كانت في نظره الأسباب الوحيدة للهزيمة، ولقد قرر بلهجة التهكم الخاصة به قائلا: «لقد تنبأت تماما من قبل أن كل شيء سيذهب إلى الشيطان!» كان بفويل واحدا من هؤلاء النظريين شديدي الولع بنظرياتهم لدرجة ينسون معها الغاية وبالتالي التطبيق العملي. كان يحتقر كل ما هو تطبيقي لشدة حبه بالنظرية، بل إنه كان يبتهج للفشل؛ لأن الفشل الناجم عن خرق للنظرية في تطبيقها لا يبرهن له إلا على صحة أفكاره.
ولقد نطق بالكلمات القليلة التي تبادلها مع تشيرنيشيف والأمير آندريه حول الحملة الحاضرة بلهجة الرجل الذي يعرف سلفا أن كل شيء سيكون سيئا، وأنه على أية حال لا يشعر بأي أسف تجاه ذلك. ولقد كانت الخصلات المتمردة في مؤخرة رأسه، وصدغاه المصقولان بعجلة، تدل ببلاغة على هذه الطريقة بالنظر إلى الأمور.
ولم يكد يدخل الحجرة الأخرى حتى تعالت صيحات صوته الخفيض الجهم.
الفصل الحادي عشر
مجلس حربي
لم يكد الأمير آندريه يغادر بنظره بفويل حتى دخل الكونت بينيجسن مندفعا، ومضى إلى المكتب بعد أن حيا بولكونسكي بإشارة من رأسه، وأعطى بإيجاز تعليماته إلى مساعده العسكري. وكان الإمبراطور يتبعه ملازما إذا كان متعجلا اتخاذ بعض الاستعدادات قبل أن يستقبله. خرج تشيرنيشيف والأمير آندريه على المرقاة. ترجل الإمبراطور عن حصانه ظاهر الإعياء، وأمال رأسه إلى اليسار، وأصغى بأذن ساهمة إلى المواضيع الحادة التي كان المركيز بولوكشي يبحثها. تقدم الإمبراطور بضع خطوات إلى الأمام ظاهر الرغبة في قطع الحديث، لكن الإيطالي متضرج الوجه شديد الانفعال، اجتاز وراءه المرقاة متناسيا آداب اللياقة. وبينما كان الإمبراطور يحدق في بولكونسكي الذي ظل في وقفة الاحترام، تابع بولوكشي بشدة تقرب من الجنون: «أما فيما يختص بذلك الذي أشار بمعسكر دريسا، فإنني يا مولاي لا أجد له أفضل من الاختيار بين البيت الأصفر - وهو الاسم الذي يطلق في روسيا على مآوي العجزة التي كانت تطلى من قبل بهذا اللون - أو المشنقة.»
قال الإمبراطور لبولكونسكي برفق، وقد عرفه أخيرا دون أن يبدو عليه أنه مصغ إلى منظوم قول الإيطالي: «مفتتن برؤيتك. امض إلى الغرفة التي يجتمع فيها هؤلاء السادة وانتظرني هناك.»
دخل ألكسندر إلى المكتب فتبعه الأمير بيير ميخائيلوفيتش فولكونسكي والبارون ستين ثم أغلق الباب. دخل الأمير آندريه مع بولوكشي - الذي عرفه من قبل في تركيا - إلى البهو الذي عقد فيه الاجتماع تبعا لإذن الإمبراطور.
كان الأمير فولكونسكي حينذاك يشغل منصب رئيس هيئة أركان حرب لدى الإمبراطور بصورة غير رسمية. خرج من المكتب مزودا بخرائط نشرها على الطاولة في البهو، وعرض على المجتمعين المسائل التي يرغب في أخذ رأيهم حولها. لقد تلقوا خلال الليل النبأ الذي ثبت فيما بعد أنه غير صحيح، والذي يقول إن الفرنسيين عازمون على الالتفاف بعيدا عن معسكر دريسا.
استهل الجنرال آرمفيلت الكلام، وتقدم بغية تجنب متاعب الساعة بعرض ما كان قط منتظرا، لا يبرره إلا رغبته في أن يظهر أنه هو الآخر قادر على إبداء الرأي فحسب. وتبعا لقوله، كان على الجيش أن يحتل مركزا جديدا متنحيا عن طرق بيترسبورج وموسكو، وأن ينتظر هجوم العدو. وكان يرى أن آرمفيلت قد أعد هذه الخطة منذ أمد طويل، وأنها على أية حال ما كانت تجيب على المسائل المطروحة، وأنه انتهز هذه الفرصة ليتعرف على خطته فحسب. ولقد كانت الخطة واحدة من تلك الوساوس التي لا تحصى التي يمكن أن تكون نافعة كأية فكرة أخرى بالنسبة إلى أي ما كان على أي علم بالطابع الذي كانت تلك الحرب تتخذه. ولقد حاربها بعضهم ودافع عنها البعض الآخر. ولقد انتقد الزعيم الشاب تول بضراوة خاصة مشروع الجنرال السويدي، وأخرج من جيبه مخطوطا وسأل الإذن له بتلاوته. كان تول يعرض في مذكرته، شديدة الإسهاب تلك، خطة جديدة للحرب تناقض على طول الخط المشروع الذي تقدم به آرمفيلت، كما تناقض خطة بفويل. فاستبعدها بولوكشي بدوره وأوصى بالهجوم الذي يمكنه وحده إخراجنا من التردد ومن هذا الشرك الذي هو معسكر دريسا على حد زعمه. وفي تلك الأثناء كان بفويل وترجمانه لدى البلاط فولزوجن لا ينبسان بكلمة. استدار بفويل الذي كان ينخر باشمئزاز معربا بذلك عن ترفعه عن مناقشة مثل هذه الأضغاث. ولما دعاه الأمير فولكونسكي الذي كان يدير المناقشات إلى إبداء وجهة نظره، اكتفى بالقول: «ولماذا أسأل؟ إن الجنرال آرمفيلت يشير عليكم بوضعية رائعة مع مؤخرات عارية، ثم لديكم الاختيار بين الهجوم الذي يقدمه هذا السيد الإيطالي، وهو جيد، أو الانسحاب، وهذا رائع أيضا. لماذا تسألني رأيي؟ إنك تعرف كل شيء أفضل مني.»
نبهه بولكونسكي وهو متجهم أنه إنما يسأله باسم الإمبراطور، وحينئذ نهض بفويل وأعلن وهو يثور فجأة: «لقد أفسد كل شيء، لقد خلط كل شيء. كانوا جميعا يريدون معرفة أكثر مما أعرف، والآن يسألونني رأيي! كيف نصلح الأخطاء؟ ليس هناك ما يصلح. يجب تطبيق المبادئ التي حددتها بكل دقة.»
وختم كلامه - وهو يضرب الطاولة بأصابعه بارزة العظام: «صعوبة الموقف؟ عبث أطفال، ترهات.»
وجذب الخريطة إليه وأكد وهو يربت عليها بيده الضامرة أن أي عارض لا يمكن أن يضعف قوة معسكر دريسا. لقد درس كل شيء، فإذا شرع العدو كما يزعمون بحركة التفاف، فإنه سيباد دون أدنى ريب.
طرح عليه بولوكشي الذي كان يجهل الألمانية بضعة أسئلة بالفرنسية، فهب فولزوجن لنجدة سيده الذي يتكلم الفرنسية بعسر وترجم تفسيراته. ولقد كان يجد صعوبة كلية في متابعته؛ لأن بفويل كان يؤيد بطلاقة أن خطته محيطة بكل شيء إطلاقا؛ بما وقع بمثل الإحاطة بما سيقع. فإذا كانوا الآن يصطدمون بأشياء لم تكن في الحسبان، فإن الخطأ في ذلك يقع على الفجوات التي وقعت في تنفيذ الخطة المذكورة. وكان يشفع بيانه هذا بضحكة ساخرة، واستخف بالاستمرار فيه حتى النهاية، مثله في ذلك مثل عالم الرياضيات الذي يكف عن الإتيان ببراهين لدعم مسألة فرغ من حلها. فاستمر فولزوجن يشرح بالفرنسية أفكار بفويل بدلا عنه. وكان من حين إلى آخر يستنجد به بعبارة: «أليس كذلك يا صاحب السعادة؟» لكن بفويل كان يرد عليه بلهجة غاضبة أشبه بالرجل الذي يطلق في حميا القتال النار على جماعته. - «بالطبع نعم، أية فائدة من هذه الشروح؟»
وكان بولوكشي وميشو يدحضان معا أقوال فولزوجن بالفرنسية، وآرمفيلت يخاطب بفويل بالألمانية، وتول يشرح كل شيء بالروسية لفولكونسكي. أما الأمير آندريه فكان يصغي ويلاحظ بصمت.
كان ميله منصرفا كله إلى بفويل. كان هذا الرجل سريع الغضب ذو اللهجة الحاسمة، الواثق من نفسه لدرجة الجنون، الوحيد بين كل هؤلاء المستشارين الذي لا يرغب لنفسه شيئا ولا يحمل على أحد حقدا. ما كان يريد إلا شيئا واحدا: تنفيذ خطته الموضوعة تبعا للنظرية التي اقتضاه إنضاجها سنوات من الدراسة. ولا ريب أنه كان مضحكا، وأن ابتسامته المستهزئة منفرة، لكن تعلقه التعصبي بآرائه كان يوحي باحترام لا إرادي. أضف إلى ذلك أن كل الأبحاث - باستثناء أبحاثه - التي دارت خلال هذا الاجتماع، كان طابع مشترك لم يكن ظاهرا إبان المجلس الحربي عام 1805م: لقد كانت عبقرية نابليون تحدث في هؤلاء الفنيين رعبا مخيفا بلا ريب، ولكنه يؤثر على أتفه دليل. ذلك الرجل الذي لم يكن هناك شيء مستحيل في عرفه، كانوا يتوقعون انبعاثه من كل الجهات معا، ويستعملون اسمه المهاب ليحاربوا بعضهم بعضا، ما عدا بفويل الذي كان ينعته بالبربري لا أكثر ولا أقل من كل أعداء نظريته. وكان احترام الأمير آندريه يحمل في طياته على أية حال شيئا من العطف. لقد كان من السهل تبعا للهجة أفراد البطانة حيال بفويل، وتبعا لما سمح بولوكشي لنفسه أن يقوله للإمبراطور، وبصورة خاصة تبعا لاحتداد محاضراته الشخصية المكفهرة، أن يعرف المرء أنهم جميعا عالمون بقرب سقوط اعتبار بفويل الذي لم يكن نفسه يشك فيه. وعلى الرغم إذن من ثقته الرائعة وسخريته الكالحة كألماني، فإن ذلك الرجل ذا الشعر الأملس على الصدغين والخصلات الثائرة على مؤخرة الرأس كان يبدو جديرا بالرأفة، ورغم إخفائه عواطفه وراء مظهره المنزعج المستخف، فإنه كان يرى بوضوح أنه في يأس لرؤيته الفرصة الوحيدة التي تمكنه من اختبار نظريته على مدى واسع وتفجير صحتها في وجه العالم كله.
استمر النقاش طويلا، وحمي الوطيس حتى تجاوز الحد إلى الصيحات والمساس بالأشخاص. ولكن كلما طالت المناقشات ضعف الأمل في الخروج بنتيجة عملية، ولما سمع الأمير آندريه بلغات مختلفة وبالالتجاء إلى الصياح، كل هذا العدد من الآراء المتناقضة والمشاريع المعاكسة تدعم من قبل أصحابها، لم يصدق أذنيه. لقد حدث نفسه مرارا خلال سنوات خدمته وبحوثه الطويلة حول مهنة السلاح بأنه لا يوجد، ولا يمكن أن يوجد علم للحرب، وأن عبارة «عبقرية عسكرية» ليست بالتالي إلا عديمة المعنى، فإذا به الآن يجد في المناقشات الحالية تأييدا لامعا لوجهة نظره تلك. كيف يمكن التحدث عن نظرية وعلم في الموضع الذي لا يمكن تحديد الشروط والاتفاقات فيها، والذي تكون القوات العاملة فيه أقل تحديدا أيضا؟ لم يستطع أحد قط ولن يستطيع أبدا معرفة الوضع الذي سيكون عليه جيشنا أو جيش العدو في غضون الأربع والعشرين ساعة القادمة، وقيمة هذا الفوج أو ذاك، وأنه بدلا من جبان رعديد في الصفوف الأولى يلوذ بالفرار إثر صيحة: «لقد قطعنا!» يقف فتى مرح وباسل يصيح: «هورا!» إن فرقة قوامها خمسة آلاف رجل تعادل ثلاثين ألفا كما وقع في شوينجرابن، وبالمقابل يمكن أن ينهزم خمسون ألف رجل أمام ثمانية آلاف كما وقع في أوسترليتز. هل هناك علم ممكن في مادة لا يمكن - ككل شيء في الحياة العامة - أن يتكهن بشيء مسبقا، مادة يتوقف كل شيء فيها على ظروف لا تحصى ولا تظهر قيمتها إلا في دقيقة واحدة لا يعرف أحد متى تحين؟ إن آرمفيلت يزعم أن جيشنا قد شطر، وبولوكشي على العكس، يؤكد أننا وضعنا الجيش الفرنسي بين نارين، وميشو يرى معسكر دريسا خطرا؛ لأن النهر وراءه، وبفويل يرى خلافا لذلك أن النهر ضمانه للأمان. إن تول يقترح خطة وآرمفيلت أخرى وكلها رديئة وجيدة معا؛ لأن ميزات هذه أو تلك من الخطط لا يمكن أن تظهر إلا في الساعة التي يتم فيها الحدث. فكيف يتأتى أن يزعم كل هؤلاء بأرجحية العبقرية العسكرية؟ هل هناك من عبقرية في معرفة الوقت الملائم لتزويد الجيش «بالبقسماط» وإرسال هذا إلى اليمين وذاك إلى اليسار؟ كلا. لكن العسكريين متشحون بالسنى والسلطة، والجمهور الجبان يمتدح المتنفذين الأقوياء عازيا إليهم العبقرية خطأ. إن أفضل الجنرالات الذين عرفتهم بدوا لي أبعد ما يكونون عن الرجال المتفوقين، قليلي الذكاء أو ساهمين، وأولهم باجراسيون الذي يعتبره نابليون مع ذلك أكثر خصومه موهبة. ونابليون نفسه! إنني أذكر هيئته الراضية المحدودة على ساحة القتال في أوسترليتز، ليس الرئيس الجيد بحاجة إلى عبقرية أو إلى صفات خاصة، بل على العكس، يجب أن يكون محروما من أسمى خصائل الطبيعة البشرية: الحب، الشعر، الحنان والشك الفلسفي. يجب أن يكون محدودا، قانعا بأهمية تصرفاته، وإلا فإنه سيفقد الصبر «ولن يكون قائد جيش باسلا إلا لقاء الثمن، ولكن ليصنه الله من أن يتظاهر بالإنسانية أو أن يود أحدا أو يشفق على أحد، أن يفكر في ما هو عادل وما هو جائر. إن من الواضح أن نظرية العبقريات قد زورت في كل حين من قبل هؤلاء الرجال؛ لأنهم يمثلون القوة. فكسب معركة أو خسرانها يتوقف ليس عليهم، بل على الجندي الذي يصرخ في الصف: «لقد ضعنا!» أو الذي يهتف: «هورا!» نعم، في الصف، وفي الصف وحده يمكن أن يخدم المرء وهو قانع بأنه نافع.»
كذلك كان الأمير آندريه يفكر وهو يصغي إلى النقاش بأذن شاردة، وأخيرا سمع بولوكشي يناديه والمجتمعون كلهم ينسحبون.
وفي اليوم التالي، خلال العرض، سأل الإمبراطور بولكونسكي أين يرغب في الخدمة، فضاع هذا إلى الأبد في نظر البلاط حينما لم يطلب إلى جلالته أن يلحقه بخدمته، بل سأله الإذن بالخدمة في صفوف الجيش.
الفصل الثاني عشر
الرئيس روستوف
قبل أن تبدأ الحملة، تلقى روستوف من أسرته رسالة أعلنوا له فيها باختصار مرض أخته وفسخ خطوبتها مع الأمير آندريه؛ مفسرين ذلك برفض ناتاشا الاستمرار، ويرجونه مرة أخرى أن يقدم استقالته وأن يعود إليهم. ودون أن يفكر في الانسحاب من الجيش كتب نيكولا لذويه أن مرض ناتاشا وزواجها الذي لم يتم يحزنانه كثيرا، وأنه سيعمل كل ما في وسعه لينزل عند رغبتهم. وفي رسالة خاصة إلى سونيا فسر سلوكه كما يلي:
صديقة روحي المعبودة، ليس إلا الشرف ما يمنعني من العودة إلى قربك، ففي اللحظة التي فتحت فيها الحملة، أعتقد أنني سأخسر شرفي ليس أمام زملائي فحسب، بل وكذلك حيال نفسي إذا فضلت سعادتي على واجبي، وغرامي على وطني. لكن هذه ستكون آخر فراق لنا . كوني على ثقة أنه ما إن تنتهي الحرب وأبقى أنا في هذا العالم وتبقين أنت على حبي حتى أترك كل شيء وأطير إليك لأضمك إلى الأبد إلى قلبي المضطرم.
والحقيقة أن الشروع في الحملة وحده هو الذي استوقف روستوف ومنعه من العودة للزواج بسونيا كما وعد. لقد كان خريف «أوترادنواي» ورحلات الصيد فيه والشتاء بأعياد الميلاد المرحة وغرام سونيا، كل هذه الأمور كانت قد فتحت له أفقا جديدا من المباهج الريفية الهادئة يجذبه بقوة لا تقاوم. كان يحدث نفسه: «نعم، زوجة ممتازة وأطفال، فصيلة جيدة من كلاب العدو، وعشرة أو اثنا عشر زوجا من الكلاب السلوقية الباسلة، وتحسين مردود الأرض والزيارات بين الجيران ومركز ما يساعدني على انتقاء أقراني، هذا هو طراز الحياة الذي يروق لي.» لكن الحرب وقد نشبت أرغمته على البقاء في الكتيبة، وبفضل عقليته السهلة فإنه لم يكن أقل تقديرا لهذا النوع من الحياة التي كان يعرف كيف يستخلص منها كل ما يمكن من مباهج.
عند عودته إلى الكتيبة استقبل روستوف استقبالا وديا من قبل زملائه، وكلف بالذهاب إلى روسيا الصغيرة؛ حيث عاد منها بجياد ممتازة كانت مبعث بهجته وسببا في تهنئة رؤسائه له. ولقد رقي إلى رتبة رئيس أثناء غيابه، ولما أعدت الكتيبة للحرب وزيدت مرتباتها، ألحقوه بكوكبته السابقة.
نقلت الكتيبة في بدء الحرب إلى بولونيا؛ حيث التحق بها ضباط جدد ورجال جدد وجياد، وسادت فيها تلك الحيوية المرحة التي تسبق عادة الشروع في حملة. ولقد استسلم روستوف بكليته، وهو العارف بالميزات التي يوفرها له مركزه، إلى ملاذه وواجبات الخدمة، وإن كان عارفا أن عليه أن يتخلى عنها إن آجلا أو عاجلا.
أخلت الوحدات فيلنا لأسباب مختلفة: سياسية وفنية، وكانت كل خطوة إلى الوراء تثير في هيئة الأركان العامة مجموعة معقدة من الأهواء والترتيبات والدسائس، ولكن بالنسبة إلى فرسان بافلوجراد، كان ذلك التقهقر في أفضل مواسم السنة مع الزاد الكافي مجرد رحلة مرح، فكان بمقدور القيادة العامة أن تفقد شجاعتها وتسيء استخدام العقل وتتآمر كما يحلو لها، أما الجيش فما كان يسأل حتى إلى أين يرسل ولا سبب تراجعه! وإذا كان هناك من أسف للتقهقر فإن مرده مقتصر فقط على وجوب التخلي عن فتاة بولونية جميلة وتوديع مسكن كان شاغله قد ألف العيش فيه، وإذا كان أحدهم يرتئي أن الأمور تسير سيرا سيئا فإنه كان يجتهد للظهور بمظهر المرح، وينسى الموقف العام كله ليصرف انتباهه إلى خدمته المباشرة. كانوا في بادئ الأمر يعسكرون بمرح في ضواحي فيلنا، ويرتبطون بصداقات مع أثرياء ريفيين بولونيين، ويتأهبون للاستعراضات التي يشرفها الإمبراطور ورؤساء كبار آخرون. ثم جاء الأمر بالانسحاب نحو سوينسياني وإتلاف المؤن التي لا يستطيعون نقلها. ولقد احتفظ الفرسان بذكرى سوينسياني بوصفه: «معسكر الثمل»؛ إذ إن الجيش كله عمد هذا المعسكر بهذا الاسم، حيث كان للسكان كثير مما يشتكون منه من القطعات التي انتهزت فرصة الإذن لها بالتزود محليا، فراحت تصادر، إلى جانب الأرزاق، الخيول والعربات، بل وحتى النجد من بيوت السادة البولونيين. وكان روستوف يذكر سوينسياني؛ لأنه يوم وصوله إلى ذلك المكان اضطر أن يجهز الرقيب الأول، ولم ينجح في إعداد الكوكبة التي كان أفرادها سكارى كلهم بعد أن نهبوا خمسة براميل من الجعة المعتقة دون علمه، ثم تراجعوا من سوينسياني حتى دريسا، ثم إلى أبعد من ذلك، ودائما إلى الوراء باتجاه الحدود الروسية.
وفي الثالث عشر من تموز أتيح لكتيبة بافلوجراد عمل جدي لأول مرة.
نشط ليلة 12-13 إعصار من تلك الأعاصير الهائلة الذي سخا بها صيف 1812م زاخرا بالمطر والبرد.
كانت كوكبتان مخيمتين في حقل شيلم داسته الجياد والماشية فأتلفته كله، وكان المطر يهطل مدرارا، وروستوف يصحبه أحد مرءوسيه؛ إيلين الشاب الذي وضعه تحت حمايته، يأوي تحت كوخ صغير جدا بني على عجل. ولقد داهمت الأمطار ضابطا من الكتيبة كانت وجنتاه مدعومتين بشاربين لا نهاية لهما، فاحتمى بالكوخ. قال: «إنني خارج للتو من الأركان يا كونت، هل علمت شيئا عن مأثرة راييفسكي؟»
وقص عليه بالتفصيل معركة سالتاتوفكا.
كان روستوف يشنج عنقه الذي سال المطر إليه، ويدخن غليونه وهو يصغي بشرود إلى القصة، ويلقي نظرة بين الحين والآخر على إيلين الشاب الرابض بالقرب منه. كان نيكولا بالنسبة إلى هذا الفتى البالغ من العمر ستة عشر عاما، والذي وصل إلى الكتيبة منذ قليل، أشبه بما كان دينيسوف بالنسبة إليه قبل سبعة أعوام، وكان إيلين يجتهد في الاقتداء بروستوف ويحبه كما تحب المرأة.
راح زدرجينسكي، الضابط ذو الشاربين الطويلين، يؤكد أن سد سالتانوفكا أصبح بالنسبة إلى روسيا أشبه بتيرموبيل
1
بالنسبة إلى اليونان، وأن الجنرال راييفسكي قام هناك بمأثرة جديرة بمساواتها بالمفاخر الغابرة؛ لقد تقدم على السد مع ولديه تحت نار رهيبة وألجأ الرجال إلى الهجوم. لم يدعم روستوف رواية المتحدث بأية إشارة استحسان، بل إنه كان يبدو وكأنه خجل مما يروى له دون أن يسمح لنفسه على أية حال بإبداء أي اعتراض. كان يعرف من تجاربه الخاصة في أوسترليتز وفي عام 1807م أن الروايات من هذا النوع كاذبة دائما، ويعرف كذلك بفضل عمله في الحرب أنه ما من شيء يحدث كما يتخيله المرء أو كما يرى بعد حدوثه. لذلك فقد نفرت نفسه من قصة زدرجينسكي بقدر ما نفرت من الراوية نفسه الذي كانت عادته الكريهة أن ينحني بشاربيه اللامتناهيين على وجه محدثه، أضف إلى ذلك أنه كان يحتل فراغا كبيرا في ذلك الكوخ الصغير. نظر إليه روستوف دون أن ينطق بكلمة، حدث نفسه قائلا: «أولا، لا بد وأنه حدث على هذا السد العتيد بلبال عنيف، وحتى لو تقدم راييفسكي مع ولديه، فإن هذه الحركة لم تستطع التأثير إلا على العشرة أو الاثني عشر رجلا الذين كانوا يحيطون بهم. أما الآخرون، فإنهم لم يستطيعوا رؤية مع من ذهب راييسفكي إلى الهجوم، بل حتى الذين شاهدوه لم يتأثروا ولا ريب كل التأثر؛ لأنهم كانوا يفكرون في جلودهم أكثر من تفكيرهم في عواطف هذا الجنرال الأبوية. أضف إلى ذلك أن مصير البلاد لا يتوقف قط على هذا السد كما كان الحال بالنسبة إلى «تيرموبيل» إذا صدقنا رواية المؤرخين. فأية جدوى من هذه التضحية إذن؟ ثم أية فكرة هذه أن يقود ولديه إلى المعركة؟ إنني لن أعرض على هذا النحو لا أخي بيتيا ولا حتى إيلين الذي لا تربطه بي أية صلة والذي أعتبره فتى باسلا صغيرا فحسب، بل لا بد لي وأن أضعه في منجاة من الخطر.» ولقد حرص روستوف على أية حال على ألا يفصح عن آرائه الشخصية: إن هذه القصة تهدف إلى تمجيد جيشنا، فيجب إذن التظاهر بتصديقها. كان يعرف هذه الحقيقة منذ أمد طويل.
أخيرا، قال إيلين الذي لم يغب عنه استياء روستوف: «لا يمكننا الصمود أكثر من ذلك. إن جواربي وقميصي وكل ثيابي مبللة. سوف أبحث عن ملجأ في مكان آخر. أعتقد أن المطر قد خف.»
خرج إيلين بينما تابع زدرجينسكي طريقه.
وبعد خمس دقائق عاد إيلين راكضا وهو يجري في الوحل. - «هورا! روستوف، تعال بسرعة! لقد وجدت أن هناك نزلا على بعد مائتي خطوة من هنا، والرفاق فيه الآن، وكذلك ماري هنريخوفنا، إننا نستطيع على الأقل أن نجفف ثيابنا.»
كانت ماري هنريخوفنا ألمانية جميلة شابة، تزوجها طبيب الكوكبة في بولونيا، وكان الطبيب يصحب زوجته أينما ذهب بسبب حالته المالية ولا ريب، أو لعله ما كان يريد الانفصال عن زوجته في الفترات الأولى التي تلت زواجهما. ولقد كانت غيرة الماجور تتيح للفرسان مادة غزيرة للمزاح.
اتشح روستوف بمعطفه، وهتف مهيبا بلافروشكا أن يتبعه مع بعض الأمتعة، ثم ذهب مع إيلين يروغ هنا من الطين ويقع هناك في برك ماء تحت المطر الذي بدأ يسكن في ذلك الليل الحالك الذي كانت تخططه ومضات برق بعيد. كانا يتحادثان بينهما: «روستوف، أين أنت؟» - «هنا. أرأيت هذا البرق؟»
الفصل الثالث عشر
في المنزل
كان أربعة أو خمسة ضباط جالسين في المنزل، التي كانت عربة الطبيب واقفة على بابه، وكانت ماري هنريخوفنا - وهي ألمانية صغيرة شقراء وسمينة بصدار وقلنسوة نوم - جالسة في مكان الشرف على مقعد عريض وزوجها نائم وراءها. استقبلت روستوف وإيلين لدى دخولهما ضحكات وهتافات مرحة.
قال روستوف ضاحكا: «آه! لا يبدو عليكم أنكم برمون!» - «ولماذا لم تأت قبل الآن؟» - «كم أنتما مبتلان! ميازيب حقيقية! لا تغرقا بهونا على الأقل!» - «وعلى الأخص، لا توسخا ألبسة ماري هنريخوفنا.»
حاول روستوف وإيلين أن يكتشفا ركنا صغيرا ليبدلا فيه ثيابهما دون أن يخدشا عذار السيدة. صحيح أنه كانت هناك خلوة صغيرة وراء الحاجز، لكن الضباط الثلاثة الذين كانوا يلعبون الورق فيها على ضوء شمعة وضعوها على صندوق فارغ ويشغلون الفراغ كله، رفضوا بأي ثمن التخلي عن أماكنهم. لحسن الحظ، وافقت ماري هنريخوفنا على أن تتنازل لهما عن ثوب من أثوابها أقاماه حاجزا وراحا وراءه بمساعدة لافروشكا الذي حمل معه اللوازم الكاملة، يبدلان ثيابهما المبتلة بأخرى جافة.
أشعلوا النار في المدفأة نصف المدمرة، وركزوا لوحا من الخشب على سرجين وغطوه بلباد، ثم استحضروا «سماورا» صغيرا ونصف زجاجة روم، وبعد أن رجوا ماري هنريخوفنا أن تقوم بدور ربة البيت، التفوا حولها. قدم لها أحدهم منديلا نظيفا لتمسح به يديها الصغيرتين الفاتنتين، وألقى آخر على قدميها سترة عسكرية ليقيهما من الرطوبة، وعلق هذا معطفه على النافذة؛ كيلا يشعر رفاقه بالريح، وراح ذاك يطرد الذباب عن وجه الزوج خشية أن يستفيق.
قالت ماري هنريخوفنا وهي تجود بابتسامة مرحة: «دعوه هادئا. انظروا كيف ينام مستغرقا بعد ليلة بيضاء؟»
فأجاب الضابط: «ولكن لا يا ماري هنريخوفنا، يجب علي أن أعنى بسيدي الطبيب. لعله بذلك سيشفق علي عندما يبترون لي ذراعا أو ساقا.»
لم يكن هناك إلا ثلاثة أقداح، وكان الماء الكدر يمنعهم من معرفة ما إذا كان الشاي قويا جدا أم خفيفا جدا. ولم يكن السماور ليتسع لأكثر من ستة أقداح. مع ذلك، فقد كانت المتعة أعم أن يتلقى أحدهم كأسه دوريا وتبعا للقدم من يدي ماري هنريخوفنا العبلاوين ذواتي الأظافر القصيرة غير الظاهرة. لقد كان الضباط كلهم ذلك المساء عاشقين المرأة الشابة دون أي ريب، ولقد ألقى أولئك الذين كانوا يلعبون الورق وراء الحاجز بأوراقهم وهرعوا يلتفون حول السماور تدفعهم هم كذلك الرغبة في مغازلتها. وعلى الرغم من الذعر الذي كانت تشعر به لأتفه حركة من زوجها النائم وراءها، فإن ماري هنريخوفنا كانت مشرقة الوجه برضى لم تحسن إخفاءه وهي ترى نفسها محاطة بهذه الشبيبة اللامعة الأنيسة.
وإن كان السكر متوفرا فإنهم ما كانوا يتوصلون إلى إذابته بسرعة؛ لأنه لم يكن هناك إلا ملعقة واحدة؛ لذلك فقد تقرر أن تحرك بنفسها دوريا السكر في قدح كل منهم. ولما استحوذ روستوف على قدحه، اكتفى بأن صب فيه قليلا من الروم وقدمه إلى ماري هنريخوفنا لتحرك الشراب.
قالت له دون أن تكف عن الابتسام، وكأن كل ما كانت تقوله ويقوله الآخرون يبعث على التسلية، بل ويحمل معنى مزدوجا: «ولكن، أليس لديك سكر؟» - «إنني لا أبالي بالسكر! إن ما أريده هو أن أراك تحركين الشاي في قدحي بيدك الجميلة.»
أذعنت ماري هنريخوفنا، وراحت تبحث عن الملعقة التي استحوذ عليها بعضهم.
قال روستوف: «حركيه بإصبعك يا ماري هنريخوفنا. سيكون ذلك أفضل.»
قالت وهي تتضرج من الغبطة: «كم هو ساخن!»
أخذ إيليا دلو الماء وصب فيها قطرات من الروم، ثم اقترب من ماري هنريخوفنا وقال: «هذا قدحي، فاغمسي فيه إصبعك فقط وسأبتلعه كله.»
ولما أفرغوا السماور، أخذ روستوف الورق واقترح لعبة «الملوك» مع ماري هنريخوفنا، فاقترعوا لمعرفة من سيكون في صفها، واقترح روستوف كقاعدة للعب أن من يصبح «ملكا» يصبح من حقه تقبيل يد ماري هنريخوفنا، أما «الخادم» فعليه على العكس أن يعد «سماورا» جديدا للطبيب.
سأل إيلين: «وإذا خرجت ماري هنريخوفنا «ملك»؟» - «إنها حتى الآن ملكة، وأوامرها قوانين.»
لم يكد اللعب يبدأ حتى انتصب وراء ماري هنريخوفنا رأس الطبيب الأشعث. لم يكد منذ بعض الوقت نائما، بل كان يصيخ السمع إلى هذه الأحاديث المرحة، وكان واضحا على وجهه الشرس أنه لا يراها وديعة ولا مرحة، ودون أن يبادل أحدا التحية سأل وهو يحك رأسه أن يفسح له المجال للخروج. وما إن خرج حتى انطلق الجميع بضحكة صاخبة في حين كانت ماري متضرجة الوجه لدرجة أقرب إلى البكاء، الأمر الذي أعطاها جاذبية أقوى في نظر السادة الضباط . وعاد الماجور بعد قليل وأعلن لزوجته، التي غاضت ابتسامتها وباتت تنظر إليه بقلق وكأنها تنتظر صدور حكم عليها، أن المطر قد توقف، وأنه يجب أن تمضي إلى العربة لتنام وإلا فسوف ينهبون كل الأمتعة التي فيها.
قال روستوف: «لا تقلق يا دكتور، سوف أرسل تابعا إلى العربة ... أو تابعين إذا شئت.»
وقال إيلين: «سأقوم بحراستها بنفسي.»
غمغم الطبيب وهو يجلس بقرب زوجته بانتظار نتيجة الشوط وهو متجهم الوجه: «ذلك أنكم كما ترون أيها السادة نمتم نوما هنيئا. أما أنا فإنني لم أغمض جفني منذ ليلتين.»
ولقد حمل وجه الطبيب المكفهر الذي كان يقبل باتجاه زوجته المرح العام إلى الأوج، حتى إن بعضهم ما كانوا يستطيعون الإمساك عن القهقهة التي كانوا يتذرعون لإطلاقها بشتى المبررات المحتشمة. ولما انسحب الزوجان وأقاما في العربة، استلقى الضباط على الأرض والتفوا بمعاطفهم المبللة، لكنهم لبثوا وقتا طويلا لا ينامون. كانوا حينما يذكرون وجه الطبيب الهلع ومرح زوجته، ويجرون حينا آخر إلى العتبة، ويقصون على بعضهم ما يجري في العربة، حاول روستوف مرارا - وقد سحب معطفه إلى ما فوق رأسه - أن ينام، لكنه كان ينصرف إلى احتداد ما، فيشترك من جديد في الحوار الذي كانت تقطعه أجمل الضحكات المرحة الطفولية التي لا سبب لها ولا مبرر.
الفصل الرابع عشر
الاشتباك الأول
ما كان أحد ينام بعد حوالي الساعة الثالثة صباحا، عندما جاء الرقيب يحمل الأمر بالانثناء إلى أوسترفنيا.
أعد الضباط أمتعتهم وهم لا زالوا يضحكون ويثرثرون، وأشعلوا من جديد السماور ذا الماء العكر، لكن روستوف مضى يلتحق بكوكبته دون أن ينتظر إعداد الشاي. كان الصبح يبزغ والمطر منقطعا والغيوم تتبدد، والبرد والرطوبة يتسللان خلال الألبسة التي لم تجف بعد. وبخروجهما من المنزل ألقى روستوف وإيلين في ضياء الفجر الباهت نظرة على العربة التي يلتمع غطاؤها بالماء، فكانت ساقا الطبيب الطويلتان تبرزان من تحت المئزر الجلدي الذي في مقدمة العربة، وكانت ترى في الداخل قلنسوة المرأة الشابة، ويسمع تنفس بعضهم وهو نائم.
قال روستوف لإيلين: «إنها حقا لطيفة جدا.»
فأجاب إيلين بإيمان سنواته الست عشرة: «فتانة!»
وبعد نصف ساعة، كانت الكوكبة منتظمة على الطريق، وعند الإيعاز: «إلى السرج!» رسم الجنود شارة الصليب على صدورهم واعتلوا مطاياهم، واتخذ روستوف مكانه في المقدمة وصاح: «إلى الأمام سر!» وعندئذ اهتزت صفوف الفرسان بين قرقعة السيوف ووقع الحوافر في الوحل وهمس المحادثات المكتومة، وراحت تتقدم أربعة فأربعة على طول الطريق المحاط من الجانبين بأشجار السندر، تتبع قلب فرقة مشاة و«بطارية» مدفعية.
وكانت الغيوم التي يصطبغ لونها البنفسجي الداكن بحمرة المشرق تتناثر بفعل دفعة الريح العنيفة، والضياء يزداد امتدادا؛ فبدأت الأعشاب الصغيرة المجعدة التي تقوم عادة على طرق العبور والمطر لا يزال يبللها، تتميز للعيان، وأشجار السندر ترتعش تحت النسمة، فتساقط من أغصانها المتدلية اللآلئ الفضية. وباتت وجوه الفرسان تميز بعضها عن بعض أكثر فأكثر. وكان روستوف يرافقه إيلينا الذي لا يتركه، يتبع الجانب المنخفض من الطريق بين صفين من السندر.
كان روستوف يسمح لنفسه في الريف أن يتمتع بركوب جواد ليس على الطريقة النظامية، بل على طريقة القوقاز. ولقد استحضر لنفسه حديثا بوصفه هاويا وخبيرا، فرسا أشقر من «الدون» ذا عرف أبيض، فكان حيوانا قويا ضخما لا يسمح للجياد الأخرى أن تسبقه، كان يمتطيه بمتعة حقيقية. وكان يفكر في حصانه وفي الصبح البازغ وزوجة الطبيب، لكنه لم يفكر مرة واحدة في الخطر القريب.
كان روستوف يحس بالخوف قبل القتال من قبل، وإذا لم يعد الآن يشعر بأي ذعر فليس مرده إلى أنه تعود القتال؛ لأن المرء لا يمكن أن يألف الخطر، ولكن لأنه بات يستطيع السيطرة على نفسه. لقد ألف في مثل هذه الحالات أن يثير مختلف الأفكار باستثناء الفكرة التي كان يجب أن تثير انتباهه قبل كل شيء، وهي دنو الخطر. وفي الأيام السالفة، رغم مجهوداته، رغم اتهامه نفسه بالنذالة والجبن، فإنه ما كان يستطيع السيطرة على نفسه، لكن هذه السيطرة باتت مع السنين طبيعية جدا.
كان إذن يسير إلى جانب إيلين بين خطي السندر، يعري الأغصان التي تقع تحت امتداد يده، ويمس بطن جواده بمهارة، أو يمد غليونه المطفأ دون أن يلتفت إلى الفارس الذي يتبعه، ووجهه هادئ القسمات، خلي البال وكأنه في نزهة. لقد كان النظر إلى وجه إيلين المربد الذي كان يكثر الكلام؛ يؤلمه. كان يعرف بالتجربة هذا الانتظار المؤسي للموت الذي يقلق الفتى، ويعرف أيضا أن الزمن وحده يستطيع علاجه.
ما كادت الشمس تظهر بين طائفتين من السحب حتى سكنت الريح وكأنها خجلت أن تفسد ذلك الصبح البديع الذي أعقب تلك الليلة العاصفة. وسقطت بعض قطرات المطر كذلك، ولكن عموديا، ثم هدأ كل شيء. وكانت الشمس قد طلعت تماما، ظهرت عند الأفق لتختفي من فورها وراء عصابة طويلة من السحب التي كانت تحجبها. وبعد دقائق قليلة، عادت إلى الظهور فوق العصابة أكثر سطوعا، فجوفت جانبها. وأضاء كل شيء، وراح كل شيء يلتمع. ولقد دوى المدفع فجأة على البعد وكأنه يجيب على هذا السيل من الضياء.
لم يتسن لروستوف بعد أن يقدر المسافة التي انطلقت منها المدافع عندما وصل من جانب فيتيبسك مساعد عسكري يجري على جواده تابع للكونت أوسترمان تولستوي يحمل الأمر بالسير خببا على الطريق.
تجاوزت الكوكبة قطعة المشاة وبطارية المدفعية اللتين غذتا مشيتهما بالمثل وانحدرت على سفح واجتازت قرية مهجورة، ثم صعدت سفحا آخر، وبدأ الزبد يظهر على صدور الجياد، وأصبحت الوجوه شديدة الاحمرار.
أمر رئيس المفرزة من الأمام: «قف! انتظم، نصف دائرة إلى اليمين، سيرا عاديا، إلى الأمام سر!»
سار الفرسان على جناح القطعات الأيسر، وتجمعوا وراء رماحتنا المقامين في الخط الأول، وإلى اليمين كانت قطعة مزدحمة من المشاة تشكل احتياطينا، وعلى الهضبة التي تعلوها كانت مدافعنا تظهر على خط الأفق في ذلك الهواء شديد النقاء، وتحت ضياء الصباح المشرق. وإلى الأمام في المنخفض، كانت قطعات العدو ومدافعه ترى وقد اشتبكت معها طلائعنا وتبادلت معها الطلقات النارية بنشاط.
ابتهج روستوف من أزيز الرصاص الذي لم يسمعه منذ أمد طويل وكأنه النغمات الأولى من موسيقى بهيجة: «تراب-تا-تا-تاب!» انفجرت الطلقات تارة إفرادية وتارة أخرى مجموعة، ثم يصمت كل شيء ليسمع بعد ذلك أشبه بانفجار سلسلة من المفرقعات وضع بعضهم قدمه عليها.
ظل الفرسان في أمكنتهم ساعة كاملة، ثم ارتفع قصف المدافع بدورها، ومر الكونت أوسترمان مع حاشيته وراء الكوكبة، وتوقف ليتبادل بضع كلمات مع الزعيم، ثم ابتعد باتجاه المدافع.
وبعد ذهابه بقليل، علا صوت آمر يهيب بالرماحة: «بوضعية الهجوم! إلى الأمام!» وضاعفت فرق المشاة صفوفها لتسمح للخيالة بالمرور، وراحت ومضات الرماح تتماوج والرماحة ينحدرون تاركين لجيادهم الأعنة باتجاه سفح التل؛ حيث كان الفرسان الفرنسيون يظهرون إلى يساره.
وما إن بلغ الرماحة نهاية المنحدر حتى تلقى الفرسان الأمر بالصعود إلى المرتفع لتغطية بطارية المدفعية. وبينما هم ينفذون هذه الحركة راحت بعض الرصاصات الطائشة تصفر حول آذانهم.
أثارت هذه الضجة روستوف أكثر مما حفزته الطلقات الأولى. انتصب على سرجه وراح يفحص ساحة المعركة التي كانت تتكشف ابتداء من أول المرتفع، وشاركت روحه الرماحة في هجومهم. انحدر هؤلاء على الفرسان الفرنسيين، وحصل خليط بين الدخان، ثم بعد خمس دقائق عاد الرماحة فاحتلوا مركزا إلى يسار مركزهم الأول. وبين الرماحة ذوي الثياب برتقالية اللون والخيول الشهباء وراءهم، كان يرى حشد كثيف من الفرسان الفرنسيين الزرق على خيولهم الرمادية.
الفصل الخامس عشر
هجوم الفرسان
كان روستوف بعين الصياد الثاقبة، من الأوائل الذين شاهدوا هؤلاء الفرسان الفرنسيين الزرق يطاردون رماحتنا، وكان التابعون والمتبوعون يقتربون أكثر فأكثر، فبات يمكن رؤية هؤلاء الرجال الذين يبدون من الأعلى صغار الحجم، يتصادمون ويتصاولون ويحركون الأذرع والسيوف.
راح روستوف يتأمل هذا المنظر كما يتأمل رحلة صيد بالكلاب، وحدسه يقول له إنه إذا هبط في تلك اللحظة على الفرنسيين فإن هؤلاء لا يمكن أن يصمدوا، ولكن كان يجب العمل بسرعة في تلك اللحظة بالذات وإلا فسيفوت الوقت. ألقى نظرة حوله فرأى رئيس الكوكبة الذي وقف إلى جانبه لا يرفع عينيه عن المعركة. قال له: «يا آندريه سيفاستيانيتش، نستطيع أن نردهم.» - «آه! لعمري هذا صحيح، وستكون الضربة جميلة!»
ودون أن يسمع المزيد همز روستوف حصانه وانبرى إلى مقدمة الكوكبة، ولم يكد يأمر بالحركة حتى كان الرجال كلهم، وقد تأثروا بمثل شعوره، يندفعون وراءه. لقد تصرف كما يتصرف في الصيد دون تفكير ولا حساب. كان يرى الفرسان الفرنسيين يهدبون قريبا منتشرين، فكان واثقا من أنهم لن يستطيعوا الثبات، واثقا من أن الفرصة يتيمة لن تعود أبدا. ولقد أثاره صفير الرصاص لدرجة، وكان حصانه شديد اللهفة إلى الجري، حتى إنه لم يستطع الصمود. أرخى العنان للجواد وصرخ بالأمر، ثم عندما سمع كوكبته تهتز وراءه فورا انحدر بأقصى سرعة على العدو. وما إن بلغوا سفح التل حتى اندفعت الجياد دون عمد تعدو وتضاعف سرعتها كلما اقتربت من رماحتنا، والفرسان الفرنسيون على آثارهم. وكان الفرنسيون قريبين جدا، فلما رأوا الفرسان يصلون كر الذين في المقدمة على أعقابهم، بينما توقف الذين في الوراء. وبمثل النشاط الذي استحوذ عليه من قبل عندما قطع الطريق على الذئب؛ اندفع روستوف مرخيا الأعنة لجواده «الدوني» بين صفوف العدو المتضعضعة، وتوقف رماح وتمدد آخر على وجهه وقد فقد جواده؛ ليتحاشى الدهس، وجاء حصان دون فارسه يصطدم بالفرسان. وكان فرسان العدو كلهم تقريبا قد أدبروا، فانتقى روستوف واحدا منهم ممتطيا صهوة جواد رمادي، واندفع يطارده. ولما اعترضت سبيله دغلة، فقد تخطاها جواده الطيب واثبا. وجد نفسه وهو لا يكاد يتملك نفسه على السرج، أنه بات قريبا من خصمه، وكان هذا - وهو ضابط ولا ريب تبعا لبزته - يفر بأقصى سرعة وقد انحنى فوق مطيته وراح يمطر كشحها ضربا بعرض سيفه. وبمثل لمح البصر جاء حصان روستوف يصدم بملء صدره مؤخرة حصان الضابط حتى كاد يطرحه أرضا، بينما رفع روستوف سيفه دون وعي منه وضرب به الفرنسي.
خبا حماسه على الفور، وسقط الضابط بفعل صدمة الجوادين والخوف أكثر مما أثرت فيه الضربة التي سببت له قطعا بسيطا فوق مرفقه. وضبط روستوف جماح حصانه وراح يبحث بعينيه عن خصمه ليرى أي رجل على وجه الدقة ضرب. وكان ضابط الفرسان الفرنسي الذي علقت إحدى ساقيه بالركاب ينط على ساقه الأخرى ويقطب حاجبيه وينظر من الأسفل إلى الأعلى إلى الفارس الروسي مروعا وهو يترقب دون ريب أن تصيبه منه في أية لحظة طعنة أخرى. وكان وجهه الشاحب الفتي الملطخ بالوحل، وشعره الأشقر وعيناه الزرقاوان والغمازة التي وسط ذقنه، تتناسب مع مشهد عائلي وادع أكثر مما تنسجم مع ساحة قتال. وكان روستوف لا يزال يتساءل عما يجب أن يفعل حينما صاح الضابط: «إنني أستسلم!» وراح دون أن يستطيع أن يرفع عن روستوف نظرته المروعة، يحاول تخليص ساقه من الركاب. أنقذه بعض الفرسان الذين هرعوا وساعدوه على امتطاء الجواد. وكان فرساننا في صراع مع العدو في مواقع مختلفة، وكان أحد هؤلاء جريحا ملطخ الوجه بالدم، يرفض تسليم حصانه، وآخر يعانق أحد فرساننا وهو راكب وراءه على جواده، وثالث يمتطي جواده بمساعدة واحد من فرساننا. وهرع المشاة الفرنسيون وهم يطلقون النار لنجدة الفرسان، فبادر الفرسان إلى الارتداد مع أسرهم وتبعهم روستوف وهو فريسة انقباض غريب. لقد تبدى له شيء حالك معقد ما كان يستطيع فهمه بنتيجة أسره هذا الضابط الفرنسي والضربة التي وجهها إليه.
تقدم الكونت أوسترمان تولستوي للقاء الفرسان، واستدعى روستوف وشكره، وقال له إنه سينقل تصرفه البطولي إلى مسامع الإمبراطور، ويطلب له وسام صليب سان جورج. ولما استدعى روستوف تذكر أنه هاجم دون أن يتلقى أي أمر، فتوقع زجرا مرا؛ لذلك فإنه كان بالمقابل يجب أن يبدو أكثر حساسية إزاء كلمات أوسترمان المطرية والمكافأة المنتظرة، لكن ذلك الإحساس الأليم الغامض نفسه ظل يعتصر قلبه. تساءل وهو يغادر الجنرال: «هه! ما الذي يزعجني إذن؟ إيلين، كلا إنه صحيح معافى. هل أسأت التصرف؟ كلا، إن هذا ليس السبب.» لقد كان في قرارة نفسه شيء آخر يعذبه أشبه بتبكيت الضمير. «آه! نعم، إنه هذا الضابط الفرنسي ذو الغمازة وسط ذقنه، وذلك التردد الذي اعتراني عندما ارتفعت ذراعي لتضربه.»
ولما رأى قافلة الأسرى تبعها روستوف ليرى فرنسيه ذا الغمازة وسط ذقنه من جديد. كان ممتطيا حصان فارس روسي وهو في بزته الغريبة، يسرح حوله نظرات قلقة، وكان جرحه في ذراعه عديم القيمة. ابتسم لروستوف ابتسامة مغتصبة، وحياه بيده، وظلت وخزات ضمير روستوف وسوء حالته النفسية تلازمه.
ولقد لاحظ أصدقاؤه وزملاؤه ذلك اليوم واليوم التالي كذلك أنه يلبث صامتا منطويا على نفسه وإن لم يكن حزينا أو غاضبا. لم يعد يستطيب الشراب، بل راح يبحث عن الوحدة، ولا يني يقلب الأمر في ذهنه على كل وجوهه.
كان روستوف دائم التفكير في مأثرته العسكرية اللامعة التي - لدهشته البالغة - عادت عليه بصليب سان جورج، بل واكتسبت له صفة باسل، فكان فيها شيء لم يتوصل إلى فهمه. كان يحدث نفسه: «إنهم إذن أشد خوفا مني! هل هذا إذن هو ما يسمونه بطولة؟ ثم هل حقيقة أنني فعلته من أجل وطني؟ وهذا الآخر، بغمازته وعينيه الزرقاوين، ما هو ذنبه؟ كم كان خائفا! كان يظن أنني سأقتله. لماذا كنت سأقتله؟ ثم هم يعطونني صليب سان جورج. كلا، لا ريب أنني لا أفهم شيئا!»
ولكن، بينما كان روستوف يطرح على نفسه كل هذه الأسئلة، دون أن يصل إلى تكوين فكرة واضحة عما كان يمضه، دارت عملة السعادة لصالحه كما يحدث غالبا. لقد عينوه رئيس كوكبة بعد عجلة أوستروفينا، وأصبحوا يعهدون إليه بالمهمات التي تتطلب بسالة.
الفصل السادس عشر
مرض ناتاشا
على الرغم من أن الكونتيس لم تكن بعد قد أبلت من مرضها، فإنها ما إن علمت بمرض ناتاشا حتى ارتحلت رغم ضعفها إلى موسكو مع بيتيا وكل من يتبعها، واستأذنت الأسرة من ماري دميترييفنا لتقيم نهائيا في نزلها.
ولقد اتخذ مرضها شكلا جديا قويا، حتى إن سلوكها وفصم خطوبتها - وهما سبب مرضها - باتا، لحسن حظها وحظ الأسرة، في المرتبة الثانية. ما كانت حالتها تسمح بالتعمق حول أخطائها المسلكية؛ لم تعد تأكل ولا تنام، وتزداد نحولا بينا، وتسعل، وألمح الأطباء إلى أنها إنما تتعرض لخطر حقيقي. فلم يعد إذن بالإمكان التفكير إلا في معالجتها. وكان الرجال المختصون الذين يجيئون لزيارتها جماعات أو فرادى، يتناقشون كثيرا بالفرنسية والألمانية، وأحيانا باللاتينية، وينتقدون بعضهم بعضا، ويصفون العلاجات المختلفة الخاصة بمداواة كل الأمراض التي يعرفونها، «ولكن ما من أحد منهم خطرت بباله الفكرة البسيطة بأن المرض الذي تشكو منه ناتاشا لم يكن بالنسبة إليهم سهل المعالجة كأي من الآلام التي ترهق الإنسانية. وفي الواقع، إن كلا منا له بناؤه الخاص، يحمل في نفسه مرضا خاصا جديدا يستقل به، معقدا ومجهولا من الطب، لا يدخل في إصابات الرئتين المبوبة أو الكبد أو الجلد أو القلب أو الأعصاب ... إلخ، بل ينجم عن تأثيرات لا تحصى أحدثتها عيوب هذه الأجهزة كلها. إن هذه الفكرة لم تكن لتخطر على بال الأطباء، كما لا يمكن أن تطرأ على بال السحرة فكرة الكف عن سحرهم؛ ذلك أن المعالجة كانت مورد قوتهم وسر وجودهم ومهنة كرسوا لها أفضل سنواتهم. وأخيرا على الأخص، لقد كانوا واثقين من أنهم نافعون لشيء ما، والواقع أن وجودهم لدى آل روستوف لم يكن قليل الجدوى والأثر. وأية أهمية لفرضهم على ناتاشا عقاقير معظمها ضار خفف أثرها المؤذي بتخفيف الجرعات إلى أقل حد. لقد كان وجودهم ضروريا، بل ولا بد منه لمجرد أنهم كانوا يرضون حاجات ناتاشا الفكرية وحاجات من حولها. فلنقل إذن - بين معترضتين - إن هذا هو السبب الذي سيظل فيه معالجون مزيفون ومشعوذون، سواء من معالجي الداء بضده أو الذين يعالجونه بالتجانس. إنهم يرضون هذه الرغبة الأزلية عند الإنسان، رغبة الحصول على البرء ورؤية الناس يتدافعون حوله ويرثون لآلامه. إنهم يرضون هذه الحاجة الأزلية التي تلاحظ عند الطفل على شكله البدائي، حاجة تلك الجهة التي نحس بالألم فيها. والطفل إذا ما أصاب نفسه بصدمة ما يهرع بين ذراعي أمه أو مرضعته لتقبله وتدلك له مكان الألم، فتمنحه تلك الملاطفة راحة حقيقية. إنه لا يلاحظ أن أشخاصا أكثر قوة وحكمة يمكن ألا يستطيعوا العمل على نجدته؛ لذلك فإن الأمل في نيل الراحة والإشفاق اللذين تظهرهما الأم نحوه وهي تدلك له مكان الألم، يكفيانه للترفيه عنه، ولقد كان الأطباء إلى جانب ناتاشا يمثلون هذا الدور نفسه، دور «الماما» التي تعانق وتنفخ مكان «الواوا». كانوا يؤكدون لها أن مرضها سيزول حالما يعود الحوذي من صيدلي «الآربات» ومعه بعض المساحيق المحفوظة في علبة جميلة قيمتها روبل واحد وسبعون كوبيكا، فتأخذ منها بانتظام كل ساعتين قدرا مذابا في ماء مغلي.»
ترى ماذا كان سيقع لسونيا والكونت والكونتيس لو أنهم اضطروا إلى ضم أذرعهم على صدورهم بدلا من إعطاء ناتاشا تلك الحبات في الأوقات المعينة، وتلك المشروبات الساخنة، ومغلي الأرز بالدجاج، والسهر على تنفيذ مئات الإرشادات الأخرى التي أوصى بها الأطباء، والتي كانت تتيح لهم عملا يسري عن نفوسهم؟ هل كان الكونت يستطيع احتمال مرض ابنته العزيزة لو لم يعرف أن ذلك المرض كلفه حتى تلك اللحظة ألف روبل، وأنه ليعطي راضيا ألف روبل أخرى في سبيل شفائها، وإن ذلك إذا لم يكن كافيا فإنه سيضحي بورقة ثالثة من ذات الألف روبل ليأخذ ابنته إلى الخارج ويعرضها هناك على مشاهير النطاسيين، ولو أنه لم يجد الفرصة سانحة له ليحدث كل وافد بأن ميتيفييه وفيللير لم يفقها شيئا من مرضها، وأن «فريز» كان أوسع خبرة، وأن مودروت استطاع أخيرا أن يشخص حقيقة المرض؟
وماذا كانت الكونتيس لتعمل لو أنها لم تستطع التخاصم بين الحين والحين مع المريضة التي ما كانت تراعي بالدقة اللازمة تعليمات كلية الطب؟
كانت تقول بغضب كان ينسيها همها: «إذا كنت ستعصين الطبيب ولا تتناولين علاجاتك في حينها، فإنك لن تبرئي أبدا! ابذلي قليلا من الجد، وإلا فإن المرض سينقلب إلى ذات رئة.»
كانت تضيف هذه الكلمات وهي تجد سلوانا كبيرا في نطق هذا الاسم الذي لم يكن متعذرا فهمه عليها وحدها.
وماذا كانت سونيا لو أنها لم تجد القناعة في أن تحدث نفسها بأنها لم تخلع ثيابها طيلة الليالي الثلاث الأولى كي تكون مستعدة دائما لتنفيذ إرشادات الطبيب بحذافيرها، وأنها الآن لا تكاد تتذوق طعم النوم ؛ كيلا تسهو عن إعطائها الحبات البرئية الكامنة في العلبة الجميلة المذهبة؟
لقد زعمت ناتاشا نفسها ما راق لها أن ما من علاج يستطيع شفاءها، وأن كل هذه الأشياء إن هي إلا سخافات. مع ذلك فإنها ما كانت لتشعر بأقل من متعة النظر إلى ما يقدمون في سبيلها من تضحيات وتناول علاجاتها في ساعاتها المحددة، بل والتظاهر عن طريق إغفال تعليمات الأطباء بأنها لا تؤمن بشفائها ولا تتمسك بالحياة.
كان الطبيب يأتي كل يوم فيجس نبضها وينظر إلى لسانها ويمازحها دون أن يلقي بالا إلى وجهها المفتقر إلى العناية. وبالمقابل، كان عندما يمضي إلى الحجرة الأخرى حيث تهرع الكونتيس إلى اللحاق به، يطبع على وجهه سيماء الجد، ويهز رأسه بشرود فكر، ويعلن أنه رغم الخطر الذي لا يمكن إنكاره فإنه يعتمد على تأثير العلاج الأخير الجيد، وأنه يجب الانتظار والمشاهدة، وأن المرض نفسي على الغالب، ولكن ...
فكانت الكونتيس تدس في يده خفية قطعة ذهبية، وتعود إلى سرير المريضة وقلبها أكثر اطمئنانا.
كانت دلائل المرض ترتكز على ضعف في الشهية ونقص في النوم ونوبات سعال وبلادة عامة، وكان النطاسيون يؤكدون أنه لا يمكن ترك ناتاشا دون معالجات طبية؛ لذلك كانوا يحتفظون بها في جو المدينة الخانق، وعليه فقد أمضى آل روستوف صيف عام 1812م كله في موسكو.
وعلى الرغم من ابتلاع الحبات والقطرات والمساحيق الأكثر اختلافا، المعبأة في علب أو في زجاجات، كانت مدام شوسى التي تبحث عن مثلها قد جمعت منها مجموعة كاملة، وعلى الرغم من حرمانها من هواء الحقول، فإن الشباب تغلب. أخذت تأثيرات الحياة الجارية تخفف الغم عن ناتاشا رويدا رويدا وتلقيه بلطف في أعماق الماضي، وبدأت قواها الجسدية تعود تدريجيا.
الفصل السابع عشر
الشفاء
أصبحت ناتاشا أكثر اطمئنانا، ولكن ليس أكثر جذلا، لم تعد تتجنب كل مناسبات الترفيه عن نفسها والحفلات الموسيقية والراقصة والنزهات والمسارح فحسب، بل كانت كذلك لا تضحك إلا والدموع من وراء ضحكتها. ولم تعد تقدر على الغناء، وكلما حاولت أن تضحك أو أن تختبر صوتها في خلوة مع نفسها، كانت الدموع تخنقها؛ دموع الندم، دموع تسفح لذكرى ماضيها البريء الذي أتلف إلى الأبد، دموع الغيظ؛ لأنها حطمت بحماقة وجودها الفتي الذي كان يمكن أن يكون في أعمق مراتب السعادة. وكان الضحك، وبصورة خاصة الغناء، يبدوان لها تدنيسا لألمها، ولقد أغفلت كل مظاهر الدلال دون أن تشعر بأي حرمان منها. كانت تقول وتشعر أن كل الأشخاص باتوا في نظرها سواء أشبه بالمهرج ناستاسيا إيفانوفنا، وكان هاتف داخلي يحرم عليها كل متعة. لقد فقدت كل موجبات الحياة التي طالما زجرت من قبل وملأت شبابها الغافل بالآمال، وكان أكثر ما تذكره بأكثر أسى أشهر الخريف تلك، والصيد والعم وأعياد الميلاد التي جرت في أوترادنواي برفقة نيكولا. ما كانت لتبخل بشيء تهبه في سبيل بعث يوم واحد من تلك الأيام الرائعة! ولكن لا، لقد اختفت إلى الأبد. كان إحساس مسبق يقول لها إنها لن ترى بعد روحها المتحررة السابقة المتفتحة لكل المباهج. مع ذلك فكان يجب أن تعيش.
كانت تفكر - ليس دون ارتياح - خلافا لما كانت تظنه حتى ذلك الوقت من أنها خير من الأخريات، أنها أخبث كل المخلوقات في الوجود. وإنه لعزاء كاف! وكانت تتساءل دون جدوى: «ماذا يخبئ لي المستقبل؟» ما كانت الحياة لتدخر لها أية مسرة مع ذلك، فقد كانت الحياة تمر. لذلك فقد دأبت على ألا تكون عالة على أحد، وألا تطالب بشيء من أجلها، وراحت تتجنب كل أقربائها باستثناء أخيها بيتيا الذي كانت صحبته تسرها، بل إنها أحيانا كانت في خلوتها معه تستعيد مرحها. وكفت تقريبا عن الخروج، ولم تعد تشعر بأية رغبة في مشاهدة الذين ألفوا زيارة البيت باستثناء بيير. والواقع أنه كان يستحيل إيداع حنان ولياقة، بل وجد كذلك أكثر مما كان يودعه الكونت بيزوخوف في علاقاته مع ناتاشا، وكانت تشعر بذلك العطف بإبهام دون أن تعترف له بما يستحق من جميل. كان يخيل إليها أن هذا التصنع الدقيق من جانب بيير لا يكلفه مجهودا كبير، وأنه بطبيعته شديد الطيبة مع كل الناس حتى ليصبح تصرفه حياله خاليا من كل الميزات. وكانت ناتاشا أحيانا تلاحظ اضطرابه وخرقه في حضرتها، خصوصا عندما يخشى أن تذكرها المحادثة بذكريات أليمة ، فكانت تعزو ذلك إلى طيبة قلبه وخجله؛ لأنه - على حد زعمها - لا بد وأن يكون خجولا مع الناس كلهم كحاله معي. ومنذ ذلك اليوم الذي قال لها فيه دون وعي، إذ رآها شديدة الاضطراب، أنه لو كان حرا لسألها يدها وحبها وهو جاث على ركبتيه، لم يعد بيير يحدثها عن عواطفه، تلك الكلمات التي كانت لها حينذاك عونا كبيرا، وكانت ناتاشا تقدر أنه لا يجب بعد الآن أن تعلق أهمية إلا على الأحاديث التافهة التي يقصد بها مواساة طفل، ليس لأن بيير متزوج، بل لشعور ناتاشا بقيام تلك الحواجز الفكرية التي انخفضت أمام كوراجين منتصبة شديدة الارتفاع، فما كانت لتفكر قط في أن علاقاتهما الطيبة يمكن أن تتحول إلى حب، أو حتى إلى تلك الصداقة الحنون الشاعرية التي يمكن أن تتبادل بين رجل وامرأة، والتي عرفت أمثلة عنها.
بعد صوم القديس بطرس، جاءت أجرافينا إيفانوفنا بييلوفا - وهي إحدى جارات آل روستوف في الريف - إلى العاصمة لتحج، فعرضت على ناتاشا أن تنضم إليها لتمجيد القديسين الموسكوفيين، فقبلت هذه العرض بسرور. وعلى الرغم من أن الأطباء حرموا عليها الخروج مبكرة، فقد صممت على أن تظهر تعبدها، ليس على طريقة آل روستوف الذين يقيمون عادة ثلاث صلوات خاصة، بل على طريقة أجرافينا إيفانوفنا التي ظلت طيلة أسبوع كامل تحضر كل القداسات وصلوات السحر والغروب والنوم.
ولقد راق للكونتيس حماس ابنتها الديني، فكانت تأمل في أعماق قلبها أنه بعد المعالجة قليلة الجدوى التي أجراها النطاسيون يمكن أن تكون للصلاة فضيلة أقوى من الأدوية. لذلك فقد استسلمت لرغبة ابنتها وسلمتها للسيدة بييلوفا وهي تختفي مروعة من لقاء الطبيب. وكانت أجرافينا إيفانوفنا تحضر ابتداء من الساعة الثالثة صباحا لتصحب ناتاشا التي كثيرا ما وجدتها مستيقظة. وبعد أن تسوي شعرها بسرعة وترتدي على سبيل التواضع أبشع ثوب لديها ومعطفا قديما، ثم تطوف بالشوارع القاحلة التي يضيئها الفجر بإشعاعات شفافة وهي ترتعد، وكانت ناتاشا تبعا لنصيحة رفيقتها لا تذهب إلى كنيستها الخورنية، بل إلى كنيسة كان الراهب فيها يعيش حياة كلها تقشف وجدارة، على حد مزاعم السيدة بييلوفا الورعة. وكان المؤمنون في تلك الكنيسة قليلي العدد دائما، والمرأتان تتخذان عادة مكانا لهما في الجانب الأيسر أمام صورة للعذراء، فاستحوذ شعور مجهول، أوجده الخضوع والخشوع أمام ما لا يطال، على الفتاة كلما راحت تتأمل وجه أم الله المسود المضاء بالشموع وبنور الفجر الذي كان في تلك الساعة الخارقة يسقط عليها من إحدى النوافذ، وكلما أصاخت السمع إلى القداس مجتهدة أن تتتبعه وتتفهمه. وعندما كانت تفهمه كانت عواطفها الشخصية بمختلف مقوماتها تختلط بصلاتها. أما في الحالة العكسية فإن التفكير في أن رغبتها فهم كل شيء لون من الكبرياء، وأنه لا يمكن فهم كل شيء، بل يجب الإيمان فقط والاستسلام لرب تشعر في تلك اللحظات أنه سيد روحها، كان أكثر عذوبة في نفسها. وكانت ترسم الصليب على صدرها وتركع، وعندما يتعذر عليها الفهم تكتفي بالتوسل إلى المولى والخوف مستول عليها إزاء بغيها أن يغفر لها كل شيء وأن يرأف بحالها. وكانت أدعية الندم مفضلة عندها على كل الصلوات، وفي أوبتها في ساعة لا زالت شديدة الإبكار، حين لا يكون في الشوارع إلا البناءون الذاهبون إلى عملهم، والخادمات يكنسن أمام البيوت، ويكون الناس كلهم نياما، كانت ناتاشا تفاجئ نفسها متوقعة إمكانية نهضة وحياة جديدة نقية وسعيدة.
ظل شعورها ذاك بالبعث يزداد نموا خلال الأسبوع الذي أمضته كله في هذه الممارسات الورعة؛ فالمناولة أو المكالمة مع الله - كما كان يحلو لأجرافينا إيفانوفنا أن تحور الكلمة - كانت تبدو لها سعادة كبرى، حتى إنها كانت تخشى أن تموت قبل ذلك الأحد السعيد.
أخيرا، جاء ذلك اليوم السعيد، وعندما جاءت ناتاشا من التناول - ذلك الأحد الذي لا ينسى - مرتدية ثوبها القطني الأبيض، شعرت لأول مرة منذ أشهر طويلة أنها في حالة سلم مع نفسها؛ فلم تعد الحياة التي تنتظرها تبدو لها عسيرة مرهقة.
وبعد أن فحص الطبيب، الذي كان ذلك اليوم موعد زيارته، ناتاشا، أمر أن تكرر تناول المسحوق الذي أوصى لها به قبل خمسة عشر يوما، وقال وهو يتظاهر بسعادة مخلصة لتحسن حالتها: «صبحا ومساء دون خطأ وبكل دقة أرجوك.»
وبينما هو يقبض قطعته الذهبية في راحة يده، داعب الكونتيس قائلا: «كوني مطمئنة يا سيدتي الكونتيس، سوف ترينها بعد قليل تغني وتمرح من جديد، لقد أفادها العلاج الأخير إفادة كلية. إن مظهرها في تحسن.»
ولكي تطرد الكونتيس فأل السوء، فقد بصقت وهي تنظر إلى أظافرها، ثم مضت إلى البهو متهللة الأسارير.
الفصل الثامن عشر
دعاء سينود
في مطلع تموز، انتشرت في موسكو أنباء متفاقمة الخطورة: كانوا يتحدثون عن نداء يوجهه الإمبراطور إلى الشعب وعن أوبته القريبة، ولما لم يتلق أحد حتى الحادي عشر أي بلاغ أو إيذان، فإن أكثر الشائعات مبالغة راجت حول هذا الموضوع كما حول الموقف العام. كانوا يزعمون أن ألكسندر يترك الجيش لأن الجيش في خطر، وأن سمولنسك قد استسلمت، وأن لدى نابليون مليون رجل، وأن المعجزة وحدها يمكن أن تنقذ روسيا.
ويوم السبت الحادي عشر تلقوا البيان، ولكن كان لا يزال يجب طبعه، ولقد وعد بيير الذي كان ذلك اليوم لدى آل روستوف، أن يعود غدا الأحد لتناول الطعام، وأن يأتي بالبيان والغداء اللذين سيحصل عليهما عند الكونت روستوبتشين.
ذهب آل روستوف ذلك الأحد على جري عادتهم إلى كنيسة آل رازوموفسكي الخاصة لسماع القداس. ومنذ الساعة العاشرة، عندما ترجلوا من عربتهم أمام الكنيسة، كان الهواء شديد الحر وصيحات الشيالين والجمهور في ثيابه الفاتحة وأشجار الشارع المغطاة بالغبار وضوضاء الموسيقى والسراويل التي كان يرتديها جنود كتيبة ذاهبة إلى العرض، وهدير العربات على بلاط الشارع، وحرارة الشمس التي تعمي الأبصار، كل ذلك كان يضفي على الناس شعورا بالإرهاق والانزعاج بارزا خلال بهجة الحياة التي يلمسها المرء أبدا في مدينة كبيرة ذات يوم مفرط الحرارة. وكان أشراف موسكو كلهم وكل معارف آل روستوف مجتمعين في الكنيسة؛ ذلك أن كثيرا من العائلات الغنية لم تذهب ذلك العام إلى أراضيها الريفية بانتظار الأحداث الجارية. سمعت ناتاشا وهي تتبع مع أمها خادما في ثياب رسمية يفسح لهما الطريق بين الجماهير، شابا يقول لآخر بصوت أعلى من الطبقة الطبيعية: «هذه هي الآنسة روستوف، تلك التي ...» - «كم نحلت! مع ذلك، إنها لا تزال جميلة.»
خيل إليها أنها تبينت في حديثهما اسمي كوراجين وبولكونسكي. على أية حال كان هذا يقع لها باستمرار، كانت تتصور دائما أن كل من يراها يفكر في مغامرتها. أخذت ناتاشا تتقدم منقبضة الصدر كعادتها كلما وجدت نفسها في حفل، وهي مرتدية ثوبا حريريا ليلكي اللون موشى بالمخرم الأسود، متخذة ذلك المظهر الذي تحسن النساء اتخاذه، فيه كثير من الهدوء والجلال بقدر ما كان في أعماق قلبها ألم وخجل أكثر. كانت تعرف أنها جميلة بالفعل، لكن ذلك ما كان ليبهجها كسابق العهد، بل على العكس يعذبها، خصوصا في مثل ذلك الأحد المشرق القائظ. أخذت تحدث نفسها وهي تذكر أنها جاءت الأحد الفائت إلى هنا: «أحد آخر، أسبوع آخر ينقضي بينما تستمر الحياة هي هي، لا حياة في جو كان العيش فيه سابقا متعة حقيقية. إنني شابة وجميلة ولقد أصبحت جيدة. نعم، لقد كنت رديئة فيما مضى، أما الآن فأنا أعرف أنني طيبة رغم ذلك؛ فإن أفضل سنواتي تمر ضياع هباء دون فائدة لأحد.» أقامت إلى جانب أمها وتبادلت مع بعض معارفها إشارات برأسها. وبحكم عادتها المألوفة راحت تتفحص زينة النساء وتنتقد المظهر والأسلوب غير المحتشم الذي دأبت إحدى جاراتها ترسم به إشارات الصليب. وفكرت في غير قليل من السخط أنها ولا بد مدار أحكام متهورة، وأنها هي الأخرى تسمح لنفسها باتخاذ مثلها حيال الآخرين. وفجأة، بينما بدأ القداس، أحست بخجل لانحطاطها، وفكرت من جديد في أنها أضاعت نقاءها القديم.
كان عجوز قصير نبيل الأسارير يقدس بطلاقة جليلة تحدث في نفس المؤمنين أثرا مهدئا جدا، وفتحت الأبواب الملكية وأسدل ستار المحراب ببطء، وارتفع صوت غامض جميل تسلل إلى الأسماع، وراحت الدموع التي لم تكن تدرك لها سببا تنبجس في أعماقها، واستولى عليها ارتخاء سعيد.
راحت تصلي: «علمني ما يجب أن أفعل، وكيف يجب أن أتصرف في الحياة وأتصرف مرة إلى الأبد، إلى الأبد!»
تقدم الشماس إلى المنبر وحرر شعره الطويل العالق بثوبه الكهنوتي بحركة عريضة من إبهامه، وبعد أن ارتسم ردد بصوت عال جليل الصلاة: «لنصل إلى المولى بسلام.»
فكرت ناتاشا: «نعم، لنصل كلنا معا دون تباين في الطبقات، دون موجدة، يجمعنا حب أخوي.» - «لنبتهل إلى المولى من أجل السلام الأعلى والخلاص لأرواحنا.»
ففهمت ناتاشا أنه: «من أجل عالم الملائكة وكل الأرواح غير المتجسدة التي تعيش فوقنا.»
1
وعندما صلوا من أجل الجيوش تذكرت أخاها ودينيسوف، ولما صلوا من أجل البحارة والمسافرين تذكرت الأمير آندريه وصلت من أجله، وتوسلت إلى المولى أن يغفر لها الأذى الذي سببته لخطيبها. وعندما صلوا من أجل أولئك الذين يحبوننا، صلت من أجل أقاربها كلهم، من أجل أبيها وأمها وسونيا، وبانت لها للمرة الأولى خطورة الأخطاء التي وقعت فيها نحوهم، كما بانت لها قوة الحب الذي تكنه لهم. وعندما صلوا من أجل الذين يكرهوننا راحت تبحث عمن يمكن أن يكونوا أعداءها لتصلي من أجلهم؛ فلم تجد غير دائني أبيها وكل أولئك الذين لهم به صلات عمل. وفكرت في آناتول الذي سبب كثيرا من الأذى، وعلى الرغم من أنه لم يدرج في عداد أولئك الذين يكرهونها، فقد صلت من أجله وكأنه عدو. كانت في تلك اللحظات فقط تجد من نفسها القدرة الكافية على استعراض ذكرى آندريه وآناتول دون أن تضطرب؛ لأن عواطفها التي تحس بها حيالهما حينذاك كانت تختفي أمام خوفها من الله وحبها له، وعندما صلوا من أجل الأسرة والإمبراطور وسان سينود؛
2
رسمت إشارة الصليب من جديد، وانحنت بأكثر حمية وورع وهي تحدث نفسها أنه بعدم فهمها حقيقة ما يراد بذلك، فإنها يجب على أية حال أن تحب سينود هذا وتصلي من أجله.
ولما انتهت الجبوة، شبك الشماس «بطرشيله» على صدره وردد: «لنضع شخصنا وكل حياتنا بين يدي المسيح ربنا.»
فكررت ناتاشا في سرها: «لنضع شخصنا بين يدي الله. رباه، إنني أسلم نفسي لمشيئتك، لست أريد شيئا ولا أرغب شيئا. علمني ما يجب أن أعمل وكيف أستعمل الإرادة ...» وراحت تكرر بنفاد صبر وانجذاب من أعماق قلبها: «ولكن خذني، خذني!» ودون أن ترتسم من جديد، أسبلت ذراعيها وبدت كأنها تنتظر قوة غير مرئية تأتي فتمسك بها وتنتزعها من نفسها، من تحسراتها ورغباتها ونداماتها وآمالها وأسوائها.
وقد ألقت الكونتيس خلال القداس مرارا نظرات إلى وجه ابنتها المتأمل وعينيها اللامعتين، وابتهلت إلى الله أن يكون في عونها.
لاحظت ناتاشا عند منتصف القداس وقوع مخالفة للمألوف: لقد جاء قيم الكنيسة بالمقعد الصغير الذي يقرءون الصلوات ركوعا عليه يوم العنصرة، ووضعه قبالة الأبواب الملكية، وخرج القس وعلى رأسه قلنسوة من قطيفة بلون ليلكي من المحراب وسوى شعره ثم جثا بصعوبة، فحذا المصلون حذوه، ولكن ليس دون أن يتبادلوا نظرات قلقة. كان الموضوع متعلقا بصلاة أرسلها سينود للتوسل إلى الله أن ينقذ روسيا من الغزو الأجنبي.
شرع القس بصوته الواضح العذب الخالي من التفخيم الذي ينفرد به الكهان السلافيون، والذي له أقوى الأثر في القلوب الروسية:
أيها المولى القادر على كل شيء، رب خلاصنا تنازل برحمتك واخفض اليوم نظرتك إلى خدامك المتواضعين. أصغ إلى صلاتنا واحمنا وأشفق علينا. إن العدو الذي يقلب أرضك ويزمع أن يجعل من العالم كله صحراء قد نشط ضدنا، والزنادقة اجتمعوا ليدمروا ملكك ويهدموا أورشليمك المخلصة، روسياك الحبيبة، ويدنسوا معابدك ويقلبوا مذابحك ويحقروا أشياءنا المقدسة. إلى متى أيها المولى ينتصر الخاطئون؟ إلى متى يستطيعون استعمال قوتهم المجرمة؟
أيها المولى كلي القدرة، أصغ إلى صلواتنا، أعن بقوتك إمبراطورنا شديد التقوى مطلق السلطان ألكسندر بافلوفيتش. تذكر استقامته وحلمه، عامله بمثل الرفق الذي يعاملنا به نحن، شعبك المحبوب، بارك قراراته ومشاريعه ومكن ملكه بيمينك الشديدة القوة، وهب له النصر على العدو كما وهبته لموسى على آمالك
AMALEK (العمالقة)، ولجدعون على مدين، ولداود على جليات. واحفظ جيوشه وضع قوس الميديين في يد الذين يحاربون باسمك ، وأحط صدورهم بقوتك. خذ أسلحتك وترسك وتعال إلى نجدتنا، وليصب العار والبلبال أولئك الذين يريدون بنا الشر، وليكونوا أمام المخلصين لك أشبه بالغبار أمام الريح، وليلعنهم ملكك وليطاردهم، ليحط بهم شبكك دون أن يشعروا، وليقعوا في شباكهم نفسها، وليقعوا على أقدام خدامك، ولتطأهم جيوشك أيها المولى! إليك مرجع سلام الكبار والصغار. أنت الله، ولا يستطيع الإنسان حيالك شيئا.
يا رب آبائنا، تذكر رحمتك وشهامتك اللتين هما أزليتان. لا تبعدنا عن وجهك ولا تحقد علينا لفحشائنا. انظر إلى جرائمنا وخطيئاتنا بكل سعة رحمتك، اخلق فينا قلبا نقيا وجدد في صدرنا فكرة الحق. قونا جميعنا في الإيمان، ومكن آمالنا وأوح إلينا حبا حقيقيا بعضنا لبعض. سلمنا بروح واحدة للدفاع المشروع عن الميراث الذي أعطيته لنا ولآبائنا، وليمتنع صولجان الكفرة عن الارتفاع على قسم المصطفين.
أيها المولى، ربنا الذي نؤمن به، والذي وضعنا فيه ثقتنا، لا تخيب انتظارنا، قم بإشارة لصالحنا، ليبلى الذين يكرهوننا نحن وديننا الأورثوذوكسي المقدس بالبكم ولينفقوا، ولتعلم الأقوام كلها أن اسمك هو مولى وأننا أبناؤك. أيها المولى، أظهر لنا شفاعتك وامنحنا خلاصك وأبهج قلب خدامك واضرب أعداءنا واقلبهم بأسرع وقت تحت أقدام المؤمنين بك المخلصين؛ لأنك أنت السند والنجد والنصر لأولئك الذين يؤمنون بك. المجد للأب والابن والروح القدس الآن ودائما وفي قرون القرون.
كانت روح ناتاشا متفتحة لكل الأحاسيس حتى بات لهذه الصلاة أثر شديد عليها. والواقع أن انتصارات موسى على العمالقة هذه، وجدعون على مدين، وداود على جليات، وانهيار أورشليم أيضا، كانت تدفعها إلى الصلاة بكل الحمية الحانية التي كانت تفعم قلبها. مع ذلك، فإنها ما كانت تدرك كل ما تطلبه من الله، ولقد اتحدت اتحادا كليا مع البهلة؛ للحصول على عقلية مستقيمة وقلب يقويه الإيمان ويوقظه الأمل ويحييه الحب. ولكن كيف كانت تستطيع التماس إفناء أعدائها وهي التي كانت قبل دقائق ترغب في الحصول على عدد أكبر منهم لتصلي من أجلهم؟ مع ذلك، فإنها لم تكن لتضع الصلاة التي فرغوا من تلاوتها جاثين موضع الشك من حيث موضوعها. كانت تشعر في أعماقها بارتعاشة تقية وذعر مقدس وهي تفكر في العقاب الذي ينزل بالخاطئين، وعلى الأخص بذلك الذي بنفسها له. توسلت إلى الله أن تمنحهم الغفران جميعهم والراحة والسعادة في هذه الدار، وخيل إليها أن الله كان يصغي إلى صلاتها.
الفصل التاسع عشر
الروسي بيزوخوف
منذ ذلك اليوم الذي تأمل فيه بيير النجم المذنب حال عودته من لدن آل روستوف، وهو لا يزال تحت تأثير نظرة ناتاشا الشكور، وشعر بأفق جديد يفتح أمامه، كفت مسألة العدم والكبرياء بكل ما هو أرضي عن تعذيبه. والسؤال الأليم: «لماذا؟» الذي كان من قبل يتدخل في كل مشاغله، لم يترك مكانه لسؤال آخر ولا لأي حل كان، بل للصورة التي احتفظ بها «لها». فإذا تابع أو أثار هو نفسه مناقشة مبتذلة أو قرأ أو تعلم حماقة ما أو رذيلة ما، فإنه ما كان يسخط كسابق عهده، ولم يعد يتساءل عن سبب اضطراب البشر إلى هذا الحد، في حين أن كل شيء شديد القصر قبل القفزة إلى المجهول. ولكي تتبدد كل شكوكه كان يكفيه أن يتمثلها «هي» كما رآها آخر مرة، وعندئذ تختفي كل الشكوك، لا لأنها تجيب على الأسئلة التي تعرض له، ولكن لأن صورتها كانت تنقله فجأة إلى منطقة مشرقة من الروح؛ حيث لا يستطيع أن يرى هناك محقا ولا مذنبا، إلى منطقة الجمال والحب؛ هذين السببين الوحيدين للحياة. ومهما بلغت الأسواء الفكرية التي كانت الحياة توجدها أمامه، فإنه كان يحدث نفسه: «لا يهمني أن يكون ن. ن. قد سرق الدولة والقيصر، وأن يكون القيصر والدولة يغدقان عليه الأمجاد مكافأة له. لقد ابتسمت لي أمس ورجتني أن أعود لزيارتها. أحبها ولن يعرف أحد قط شيئا.» وحينئذ تحتفظ نفسه بكل إشراقها.
استمر بيير خلال ذلك على ارتياد المحافل، والإكثار من الشراب، والحياة في الفجور والعطالة؛ لأنه كان عليه - إضافة إلى الساعات التي يقضيها لدى آل روستوف - أن يقتل البقية من الوقت. ثم إن معارفه كعاداته كانوا يجرونه دون أي رادع إلى مثل هذه الحياة، ولكن في الأوقات الأخيرة عندما باتت أنباء الحرب أكثر إخافة، وعندما كفت ناتاشا - بعد أن أبلت قليلا - عن الإيحاء إليه بمثل ذلك الإشفاق المرهف؛ استحوذت عليه كآبة غامضة غير مفهومة أخذت تزداد قوة يوما بعد يوم. كان يشعر بأن مصيبة ما سوف تقلب حياته ظهرا لبطن، فكان يترقب بنفاد صبر الإشارات المنذرة، أطلعه أحد إخوانه الماسونيين عن النبوءة التالية المتعلقة بنابليون.
في الإصحاح الثالث عشر من رؤيا القديس يوحنا الإنجيلي الآية الثامنة عشرة، يقول: «ها هنا الحكمة ليحصي لديه ذكاء عدد الوحش؛ لأنه عدد إنسان، وهذا العدد هو ستمائة وستة وستون.»
وفي الإصحاح نفس الآية الخامسة: «ولقد أعطي له فم ينطق بكلمات متكبرة تجديفية، ولقد أعطي له أن يعمل خلال اثنين وأربعين شهرا.»
وإذا نقلت بالفرنسية الأعداد العبرية؛ حيث الأحرف العشرة الأولى تمثل تتابع الآحاد، والتي تليها تتابع العشرات؛ يحصل على الجدول التالي:
N
M
L
K
I
H
G
F
E
D
C
B
A
40
30
20
10
9
8
7
6
5
4
3
2
1
Z
Y
X
W
V
U
T
S
R
Q
O *
160
150
140
130
120
110
100
90
80
70
60
50 *
يتعذر إيجاد مرادفات لهذه الأحرف الأجنبية باللغة العربية؛ لذلك فقد أوردناها باللغة الفرنسية، وكذلك العبارتين: الإمبراطور نابليون واثنين وأربعين التي تختلف نحويا باللغة العربية على عكس ما هي عليه باللغة الفرنسية.
فإذا كتبت الأرقام تبعا لهذه الآية بجد الكلمات: «الإمبراطور نابليون
I’empreur Napoléon »، فإن مجموع هذه الأرقام يعطي بالتأكيد 666، وتبعا لذلك فإن نابليون هو الوحش الذي تنبأ به يوحنا! ومن جهة أخرى، إذا كتبنا تبعا لتلك الألفبائية كلمة اثنين وأربعين
Sparante-deuz ؛ أي الحد المقرر للوحش لكي «ينطق بكلمات متكبرة تجديفية»، فإن مجموع هذه الأرقام يكون 666 من جديد! وإذن، فإن حدود سلطان نابليون سينتهي عام 1812م الذي سيبلغ خلال الثانية والأربعين.
ولقد أدهشت هذه النبوءة بيير كثيرا، وراح يتساءل غالبا عمن سيضع حدا لسلطة الوحش. أو بعبارة أخرى: لنابليون. وأخذ يحاول إيجاد جواب على هذا السؤال بواسطة التعداد نفسه. جرب أولا عبارة: الإمبراطور ألكسندر، ثم الأمة الروسية، لكن المجموع كان إما أكثر أو أقل من رقم 666. وذات يوم واتته فكرة إحصاء اسم الكونت بيير بيزوخوف، لكنه لم يتوصل إلى الرقم المنشود. وضع حرف
Z
بدلا من حرف
S
في اسمه
Bézouk’hoff ، وأضاف إشارة
de
بدلا من «ال» التعريف، ولكن دون نتيجة مرضية، وحينئذ تبادر إلى ذهنه أنه إذا كان الجواب على السؤال كامنا في اسمه فيجب عليه إضافة قوميته إليه. كتب حينئذ: الروسي بيزوخوف، فجاءت نتيجة الجمع 671؛ أي بزيادة
o . ورقم
o
يمثل حسب هذا التعداد حرف
e ؛ أي الحرف نفسه المحذوف من «ال» التعريف
I’
التي تسبق كلمة إمبراطور.
1
وإذن فإن حذف هذا الحرف من اسمه - وهو حذف غير صحيح - يعطيه الرقم المنشود 666 (أي
l’russe Bésuhof
بدلا من
le russe Besuh’of - الروسي بيزوخوف). قلبه هذا الاكتشاف ظهرا لبطن. كيف، وبأي رباط يتصل هو بهذا الحدث الكبير الذي تعلنه رؤيا القديس يوحنا؟ ما كان يدري، لكنه لم يرتب قط في صحته. كان حبه للآنسة روستوف والدجال وغزو نابليون والنجم المذنب وهذا الرقم 666، الذي هو الإمبراطور نابليون والروسي بيزوخوف؛ كل هذه العوامل كان لا بد وأن تختلط في نفسه لتنفجر ذات يوم وتجره بعيدا عن دائرة العادة الموسكوفية الفاسدة التي كان يشعر أنه حبيس ضمنها لتأخذ بيده؛ كي يقوم بعمل بطولي ويبلغ بذلك سعادة قصوى.
كان بيير مساء ذلك الأحد الذي تليت فيه تلك الصلاة قد وعد آل روستوف بأن يأتيهم بالبيان وبآخر أنباء الجيش التي كان على روستوبتشين أن ينهيها إليه. وفيما هو يدخل صباح اليوم التالي عند هذا وجد عنده حامل بريد حديث الوصول من الجيش، كان بيير يعرفه منذ أمد طويل؛ إذ التقى به في حفلات موسكو الراقصة.
قال حامل البريد: «إنك لتكون شديد اللطف لو ساعدتني قليلا؛ إذ لدي ملء كيس من الرسائل إلى الأقارب.»
بين تلك الرسائل، وجد بيير واحدة من نيكولا روستوف إلى أبيه، فأخذها. أضف إلى ذلك أن الكونت روستوبتشين أعطاه نداء الإمبراطور إلى موسكو الذي فرغ من طبعه حديثا، والأوامر اليومية الجديدة الصادرة عن الجيش وآخر بيان عنه، وبينما بيير يمر ببصره على لائحة القتلى والجرحى والمكافآت الممنوحة، وجد اسم نيكولا روستوف حائزا على صليب سان جورج من الدرجة الرابعة للبسالة التي أبداها في مسألة أوستروفينا، وكان الأمر اليومي نفسه يحمل نبأ تعيين آندريه بولكونسكي لقيادة فوج من القناصة. ولما لم يكن يتعمد تذكير آل روستوف باسم بولكونسكي منذ ذلك الحين، فإنه لم يستطع الإمساك عن إبلاغهم بأسرع ما يمكن نبأ الامتياز الذي حصل عليه ابنهم، متحاشيا حمل الأوامر اليومية والنداء وبيان الجيش إليهم وقت الطعام، مكتفيا بإرسال النداء المطبوع والرسالة بأسرع ما يمكن.
ولقد ساهم حديثه مع الكونت روستوبتشين، وانشغال هذا وقلقه ولقاء حامل البريد الذي وصف له بلا مبالاة الحالة السيئة التي بلغت إليها أوضاعنا، والشائعة التي راجت باكتشاف جواسيس في موسكو كانوا يوزعون أوراقا جاء فيها أن نابليون يعد باحتلال العاصمتين قبل الخريف وانتظار وصول الإمبراطور في اليوم التالي، كل هذا ساهم في إنماء ذلك الاضطراب المحموم في نفس بيير الذي لم يفارقه منذ ظهور النجم المذنب، وبصورة خاصة منذ بدء الحرب.
كان بيير يغذي منذ أمد طويل فكرة الانتساب إلى الجيش، لكن يمينه كانت تربطه بالمحفل الماسوني الذي يبشر بالسلم الأبدي وإبطال الحروب، ثم إن رؤية كل هذه الكثرة من الموسكوفيين الذين يرتدون اللباس العسكري وهم يعرضون وطنيتهم، ما كان يحفزه كثيرا للقيام بمثل هذا، كان في أعماقه يخضع بشدة - دون أن يلتحق بالخدمة - لذلك الاعتقاد الغامض بأنه هو الروسي بيزوخوف الذي يمثل رقم الوحش 666، وأن مساهمته في العمل الكبير الرامي إلى إبادة الوحش مقررة منذ أبعد الأزل، فلم يكن عليه والحالة هذه أن يشرع بشيء من تلقاء نفسه، بل ينتظر ما سيقع دون أن يكون له مرد.
الفصل العشرون
النداء الإمبراطوري
كان آل روستوف يستقبلون - كعادتهم كل يوم أحد - بعض المقربين على مائدة الغداء، ولقد جاء بيير مبكرا لينفرد بهم.
ولقد ازدادت سمنته ذلك العام لدرجة كادت أن تكون مشوهة، لولا أن قامته المديدة وبنيانه المتين وتكوينه القوي كانت تساعده على احتمال وزن شخصه بيسر.
صعد السلم وهو يلهث ويدمدم بشيء بينه وبين نفسه، ولما كان حوذي بيير يعرف أن الكونت يتأخر عادة لدى آل روستوف حتى منتصف الليل، فإنه لم يسأله عما إذا كان عليه أن ينتظره، ولقد هرع الخدم يتنافسون لتخليصه من معطفه، وليأخذوا منه عصاه وقبعته التي درجت عادته في النادي على تركها في الدهليز.
وكان الشخص الأول الذي رآه، أو بالأحرى الذي سمعه، منذ أن دخل الردهة هو ناتاشا. كانت تتدرب على الألحان في قاعة الرقص، ولما كان يعرف أنها لم تغن خلال مدة مرضها كلها، فقد أحدث صوتها في نفسه مفاجأة سارة. فتح الباب بلطف، كانت ناتاشا مرتدية ذلك الثوب الخبازي الذي بدت فيه بمناسبة القداس، تروح وتجيء وهي تمرن صوتها. استدارت فجأة على صوت الباب، فشاهدت وجه بيير الضخم المروع. تضرج وجهها وتقدمت نحوه.
قالت وكأنها تعتذر: «إنني أحاول أن أعود إلى الغناء. إن ذلك يصرف الوقت.» - «إنك على كل الحق.»
تابعت بتلك الحيوية القديمة التي لم يرها بيير عليها منذ أمد طويل: «كم أنا مسرورة لمجيئك! إنني جد سعيدة اليوم! هل تعلم؟ لقد حصل نيكولا على صليب سان جورج. إنني فخورة به.» - «بلى، إنني أنا الذي أرسلت الأمر اليومي إليكم ...»
وأضاف وهو يتجه نحو البهو: «هيا، لا أريد أن أزعجك.»
استوقفته ناتاشا وسألته ووجهها يتخضب بالحمرة وهي تنظر في عينيه مباشرة: «كونت هل أخطئ إذ أغني؟» - «كلا ... كلا ... على العكس. لم هذا السؤال؟»
أجابت بحميا: «لست أدري، لكنني لا أريد أن أعمل شيئا تستقبحه. إنني أثق بك ثقة لا حدود لها.»
وأضافت بتلك اللهجة ذاتها دون أن تلاحظ أن بيير قد غدا متضرج الوجه: «إنك تعرف أي دور تلعبه في حياتي، وكم من الأشياء فعلتها من أجلي ... آه! لقد وجدت في ذلك الأمر اليومي نفسه «أنه» في روسيا ...»
واستتلت بإصرار وهي تخفض صوتها: «نعم، هو، بولكونسكي ... وإنه عاد إلى الخدمة. هل تظن أنه سيغفر لي ذات يوم؟ هل تفكر في أنه سيحقد علي دائما؟ قل لي، ماذا تفكر؟»
ألقت هذه الأسئلة بتلاحق خشية أن تخونها قواها، فقال بيير: «أظن ... أن لا شيء لديه يغفر لك. ولو أنني كنت مكانه ...»
حملت بيير دفعة من الذكريات فجأة إلى الفترة التي قال لها محاولا الترويح عن نفسها، أنه لو كان يملك حريته أو كان أفضل الرجال لسألها يدها وهو جاث على ركبتيه. فلم تلبث تلك الأحاسيس من الإشفاق والحنان والحب أن ملأت قلبه واندفعت إلى شفتيه الكلمات نفسها التي فاه بها حينذاك، لكنها لم تمهله حتى يلفظها.
هتفت وهي تبرز كلمة «أنت» بشيء من العجب: «أوه! أنت ... أنت
1 ... إنه أمر جد مختلف! إنني لا أعرف رجلا أفضل ولا أشد كرما منك، ثم إنه لا يمكن أن يكون أفضل منك. ولو أنني لم أكن أعرفك حينذاك، ولو أنني لم أكن أعرفك حتى الآن، لما عرفت ماذا كان سيكون من أمري؛ لأن ...»
وتلألأت الدموع في مآقيها، وأشاحت عنه وأخفت وجهها وراء دفتر الموسيقى، ثم استأنفت في غنائها ومشيها.
وبنفس الوقت هرع بيتيا إلى البهو. كان قد أصبح فتى جميلا في الخامسة عشرة، متورد الوجنتين، ضخم الشفتين قانيتي اللون، يشبه ناتاشا. وعلى الرغم من أنه كان يستعد لدخول الجامعة، فإنه كان يتآمر مع رفيقه أوبولنسكي منذ بعض الوقت لينخرط في سلك الفرسان.
اندفع بيتيا نحو سميه وسأله أن يبحث له عما إذا كان سيقبل في سلاح الفرسان، لكن بيير كان يخطر في البهو دون أن يكون قد سمعه؛ فجذبه بيتيا من ذراعه ليلفت انتباهه. - «حسنا! أين أصبحت قضيتي يا بيير كيريللوفيتش بحق السماء؟ إن كل أملي مركز عليك.» - «آه! نعم، قضيتك، الفرسان؟ سوف أتحدث عنها. سأتحدث عنها اليوم دون إرجاء.» - «حسنا يا «عزيزي»، حسنا! هل لديك النداء؟»
بذلك استقبله الكونت العجوز لأول وهلة، ثم أردف متمما: «لقد كانت كونتيستي الصغيرة في القداس مع آل رازوموفسكي، فسمعت هناك الصلاة الجديدة التي يروون أنها جميلة جدا.»
أجاب بيير: «نعم، لدي النداء. سيكون الإمبراطور هنا غدا، وسيكون اجتماع فوق العادة للنبلاء. كذلك يتحدثون عن جباية عشرة على كل ألف. وبالمناسبة، تهانئي الحارة.» - «نعم، نعم والحمد لله! ... أية أنباء عن الجيش؟» - «يبدو أننا تراجعنا من جديد حتى تحت سمولنسك.» - «رباه! رباه! ... وأين البيان؟» - «النداء؟ آه، نعم!»
فتش بيير عبثا في جيوبه، واستمر في التفتيش وهو يقبل يد الكونتيس التي دخلت في تلك اللحظة وهي تلقي حولها نظرات كئيبة بانتظار ناتاشا التي كفت عن الغناء دون أن تدخل إلى البهو .
اعترف أخيرا: «لعمري، ما عدت أعرف أين حشوته.»
قالت الكونتيس: «آه! إنه يضيع كل شيء دائما.»
وفي تلك اللحظة، دخلت ناتاشا متحننة، وجلست على مقربة من بيير، وحطت بأنظارها عليه دون أن تنبس بكلمة. ولقد أزال دخولها الغضون من وجه بيزوخوف الذي ظل كئيبا حتى تلك اللحظة؛ فراح يضاعف جهده في البحث ينظر مرات عديدة ناحية الفتاة. - «لا ريب أنني نسيته في مسكني. أنا ماض لإحضاره ...» - «لكنك ستتأخر عن موعد الطعام!» - «هه! صحيح، ثم إن حوذي قد ذهب!»
لكن سونيا التي راحت تبحث عن أوراق حتى بلغت الردهة، وجدتها أخيرا مطوية بعناية تحت بطانة قبعة بيير، فاستعد هذا لتلاوتها.
قال الكونت العجوز الذي كان ولا ريب يعد نفسه ببهجة كبرى بتلك التلاوة: «كلا، بعد الطعام.»
وعلى المائدة؛ حيث شربوا الشمبانيا على شرف فارس سان جورج الجديد، روى شينشين أنباء المدينة: مرض الأميرة العجوز جيئورجيين، اختفاء ميتيفيه، قصة ألماني عجوز جيء به إلى روستوبتشين وهم ينعتونه ب «فطر»،
2
وأن هذا أطلق سراحه مفسرا للشعب أن فطرا من هذا النوع غير سام، هذا على الأقل ما كان روستوبتشين نفسه يقوله.
قال الكونت: «نعم، نعم. إنهم يطبقون عليهم، إنهم يطبقون عليهم. كم من مرة توسلت إلى الكونتيس ألا تتكلم الفرنسية بهذه الكثرة! لم يعد الآن وقت التكلم بالفرنسية.»
استأنف شينشين: «هل تعرفون أن الأمير جوليتسين استخدم مربيا روسيا؟ نعم، إنه يعطي دروسه بالروسية، لقد بدأ التحدث بالفرنسية في الشوارع يصبح خطرا.»
قال الكونت العجوز: «آه، لكن يا بيير كيريللوفيتش، عندما يشكلون فرق الميليشيا سيتحتم عليك الركوب على الجياد.»
نظر بيير، الذي كان حتى تلك اللحظة مدفونا في أفكاره، إلى الكونت العجوز دون أن يبدو عليه أنه فهم. - «آه، نعم، لقد أزف الوقت للذهاب إلى الحرب. سأكون وجها جميلا فيها! على أية حال، إن كل شيء شديد الغرابة! إنني لم أعد أعرف نفسي، إنني لا أملك أي استعداد لاحتراف الجندية، ولكن في وقتنا اليوم لا يستطيع أحد أن يجيب بشيء.»
وبعد الطعام، تركز الكونت في أريكة مريحة، ورجا سونيا بوصفها قارئة مجيدة، أن تتلو النداء:
إلى موسكو عاصمتنا الأولى.
لقد اجتاز العدو الحدود الروسية بقوات ضخمة. لقد جاء يدمر وطننا الحبيب ...
كانت سونيا تقرأ بصوتها الرقيق واضعة كل عنايتها في القراءة، وكان الكونت يصغي مغمض العينين وهو ينطق بعض المقاطع بتنهدات عميقة. وكانت ناتاشا منتصبة الجذع تعاين بنظرة متفحصة تارة أباها وتارة بيير الذي كان يشعر بتلك النظرة تقع عليه فيتحاشى ملاقاتها، وكانت الكونتيس تهز رأسها بعد كل عبارة قريب مفخمة في النداء دلالة على عدم الموافقة، فالخطر الذي يتعرض له ابنها ليس الانتهاء، وهذا كل ما كانت تفهمه من تلك العبارات، أما شينشين فكان يمرز شفتيه في ضحكة ساخرة ويستعد للنقد لدى أول فرصة؛ سواء كان من حيث صوت سونيا أو حماس الكونت أو النداء نفسه إذا لم يجد شيئا آخر ينقد.
وبعد أن قرأت المقاطع المتعلقة بالأخطار التي تهدد روسيا والآمال التي يعلقها الإمبراطور على موسكو، وبصورة خاصة على مجموعة الأشراف الشهيرة فيها، انتهت سونيا التي كان صوتها يرتعد بنسبة الانتباه الذي يولونه لقراءتها إلى النتيجة:
سوف لن نتأخر بأنفسنا عن الظهور بين شعبنا في هذه العاصمة وفي الأماكن الأخرى من مملكتنا للتشاور ولقيادة كل فرق متطوعينا، تلك التي تقطع الطريق الآن على العدو، والتي سوف تتشكل من جديد لنضرب العدو في كل مكان يظهر فيه؛ ليسقط البلاء الذي يتأهب لإلقائنا فيه على رأسه، ولتلهج أوروبا المحررة من الرق باسم روسيا!
هتف الكونت: «هذا نداء رائع!»
ثم باعد بين جفنيه المبللين ونخر مرات متكررة وكأنهم نشقوه أملاحا، وأضاف: «ليس على الإمبراطور إلا أن يتكلم. لسوف نضحي بكل شيء دون أي أسف.»
قفزت ناتاشا وهرعت إلى أبيها دون أن تترك لشينشين الوقت لصرف دعايته التي أعدها حول وطنية الكونت، ثم عانقته أو قالت: «كم أنت لطيف يا أبي!»
ثم أرخت نظرة باتجاه بيير مستسلمة لذلك الدلال البريء الذي كان يعاودها مع مرحها.
قال شينشين: «مهلا قليلا أيتها المواطنة!»
فاحتجت ناتاشا ساخطة: «ولكن لا ، ويلاه ... إنك تستهزئ دائما، لكنني لا أمزح.»
واستأنف الكونت: «ليس الأمر دعاية! ليقل كلمة فقط فنذهب كلنا ... إننا - ويحك! - لسنا ألمانا!»
تدخل بيير قائلا: «هل لاحظت أن النداء يقول: «للتشاور»؟» - «آه، وأية أهمية؟! ...»
وفي تلك اللحظة، تقدم بيتيا الذي لم يكن يلتفت إليه أحد نحو أبيه، وقال له بصوت متقطع خطير تارة وحاد تارة أخرى: «حسنا يا أبي، أعلن لك الآن ... ولأمي أيضا، ولتحمله على أي محمل تشاء ... أعلن لكم أنه يجب أن تدعاني أذهب إلى الخدمة ... لأنني ما عدت أستطيع التريث. هذا كل شيء ...»
رفعت الكونتيس عينيها مروعة وضمت يديها، والتفتت إلى زوجها تقول: «هذا مكان ما يريد بلوغه!»
لكن الكونت لم يحمل المسألة على محمل الأسى. - «هيا، هيا! لا تنطق بالحماقات! انظر قليلا إلى هذا المحارب الجميل، الأفضل أن تنهي دراستك.» - «إنها ليست حماقات يا أبي، إن فيديا أوبولنسكي أصغر مني سنا، وهو سيذهب بالمثل ... على أية حال، لا أستطيع أن أدرس الآن وقد ...»
وهنا توقف واندفعت الدماء إلى وجهه حتى احمر بياض عينيه، ثم أنهى جملته مع ذلك: «... الآن وقد أصبح الوطن في خطر.» - «كفى، كفى، ويلاه! إن هي إلا حماقات ...» - «لكنك قلت بنفسك منذ حين أننا سنضحي بكل شيء.»
صرخ الكونت وهو ينظر إلى زوجته التي امتقع لونها وحدقت بأبصارها في وجه ابنها الأصغر: «بيتيا، هلا صمت!» - «دعوني أقل لكم، وسيؤيد بيير كيريللوفيتش قولي ...» - «اصمت، قلت لك! هذه حماقات. لا تزال نقطة الحليب في أنفه ثم يريد أن يجعل من نفسه جنديا. كفى، كفى، أليس كذلك؟ ...»
ثم أضاف وهو يأخذ النداء الذي كان يزمع إعادة قراءته ولا ريب في مكتبه قبل قيلولة الظهر: «يا بيير كيريللوفيتش، تعال ندخن غليونا.»
وكان بيير أشد اضطرابا من أي وقت مضى، لقد كانت عينا ناتاشا منذ بعض الوقت شاخصتين إليه بإلحاح مربك، وهما أشد التماعا وأكثر ممالقة من المألوف. - «اعذروني، سأعود إلى مسكني ...»
فقال الكونت بسلامة طوية وهو يشير إلى ناتاشا: «كيف؟! إلى مسكنك وأنت الذي كنت ستقضي السهرة هنا ! ... إنك في الآونة الأخيرة أصبحت قليل الظهور في حين أن صغيرتي ناتاشا لا تكون مرحة إلا في حضرتك.»
فأسرع بيير يقول: «نعم، لكنني نسيت ... يجب أن أعود بأي ثمن ... إنها الأعمال ...»
قال الكونت وهو ينسحب: «حسنا، إذن إلى اللقاء.»
سألت ناتاشا وهي تتفحص وجه بيير بنظرة جريئة: «لماذا تذهب؟ لماذا أنت مضطرب؟ لماذا؟»
ود بيير أن يجيب: «ذلك لأنني أحبك!» لكنه لم يقدر. تضرج وجهه وأخفض عينيه وتمتم: «ذلك أنه من الأفضل أن أقلل من زياراتي ... كلا، كل ما في الأمر أنها الأعمال ...» - «لماذا؟ هيا، قل لي السبب.»
ألحت ناتاشا، لكنها ما لبثت أن صمتت فجأة.
تبادلا النظر بذعر، وحاول هو أن يبتسم، لكنه لم يطلع إلا بإشارة تدل على الألم. قبل يد ناتاشا دون أن يقول كلمة واختفى.
ولقد اتخذ بيير قرارا حازما ألا يعود إلى بيت آل روستوف أبدا.
الفصل الحادي والعشرون
الإمبراطور في موسكو
بعد الرفض المطلق الذي مني به بيتيا، حبس نفسه في غرفته ليبكي بدموع حارة، ولما عاد إلى الظهور ساعة الشاي، كئيبا متجهما أحمر العينين، تظاهر كل من في البيت بأنهم لم يروا من هذه البوادر شيئا.
وصل الإمبراطور صباح اليوم التالي، فسأل كثير من خدم آل روستوف أن يسمح لهم بحضور دخوله إلى المدينة، ذلك الصباح، أطال بيتيا في ترجيل شعره وارتداء ثيابه ووضع الياقة على طريقة الأشخاص الكبار. راح يقطب حاجبيه أمام المرآة ويقوم بحركات تخص من هم أكبر منه سنا ويدير كتفيه. وأخيرا، وضع قبعته الوحيدة الجافة وخرج عن طريق مدخل الخدم دون أن يكلم أحدا محاولا أن يخفي خروجه عن الأنظار. قرر أن يذهب مباشرة إلى مستقر الإمبراطور، وأن يخاطب مباشرة واحدا من الحجاب الكثيرين بكل جرأة وهم على ما يظن كثيرون يحيطون دائما بجلالته. سوف يشرح له أنه الكونت روستوف، وأنه رغم صغر سنه يرغب في الاضطلاع بخدمة وطنه، وأن السن لا يمكن أن تؤجل التفاني، وأنه مستعد ... وبالاختصار، كان قد أعد أقوالا جميلة كثيرة اعتزم قولها للحاجب الإمبراطوري .
قدر بيتيا أن صغر سنه سيدهش الجميع، وأنهم - لهذا السبب بالذات - لن يتأخروا عن تقديمه إلى الإمبراطور. خلال ذلك، فإنه راح يحاول إضفاء سيماء الرجل الناضج على نفسه عن طريق تسوية ياقته وطريقة ترجيل شعره ومشيته البطيئة المتزنة، لكنه كلما أوغل في التقدم، كلما ترك لنفسه أن تتلهى بالجماهير التي كانت تفد من كل صوب فيبتعد عن ذلك الاتزان الخطير الذي انتهجه. ولما اقترب من الكريملين، اضطر أن يحترز كيلا يدفعه الناس، وراح يستعمل مرفقيه ليشق لنفسه الطريق بأسلوب تهديدي. وتحت باب «الثالوث»، رغم كل الجهود التي بذلها، فإن أشخاصا جاهلين - ولا ريب - نواياه الوطنية، دفعوه بشدة إلى الجدار الضخم حتى اضطر - مرغم أخاك لا بطل - أن يتوقف ليدع رتلا طويلا من العربات يمر في ضجيج زاد العقد في نشره. وكان إلى جانبه امرأة من الشعب وخادم واثنان من التجار وجندي متقاعد. أراد بيتيا أن يتابع طريقه دون أن ينتظر نهاية الرتل، فراح من جديد يعيد حركة مرفقيه النشيطة، لكن المرأة التي كانت أول من تعرض لحملاته أنبته بقوة: «هيه! يا أيها السيد الصغير، هلا كففت عن الدفع؟ لا بد وأنك ترى أنهم لا يتحركون، فالزم الهدوء إذن.»
وأضاف الخادم مؤيدا: «دون ريب، وإذا رحت تدفع فإن الناس كلهم سينهجون نهجك.»
وقرن القول بالفعل فدفع بيتيا حتى زاوية الباب كريهة الرائحة.
جفف بيتيا العرق الذي انثال على وجهه، وسوى على قدر ما يستطيع ياقته المبللة، تلك الياقة الجميلة التي ثبتها في البيت على طريقة الأشخاص الكبار.
بات يرى الآن أنه لم يعد ذا مظهر لائق، وأنه إذا تقدم على هذا الشكل إلى الحجاب فإنهم لن يدعوه يصل إلى الإمبراطور، لكن الازدحام الذي منعه عن إصلاح زينته، كان كذلك يمنعه من الخروج من ذلك المأزق. شاهد بين الجنرالات الذين كانوا يمرون واحدا ممن يعرفهم ذووه فكاد أن يطلب إليه العون، لكنه قدر أن ذلك غير جدير برجل مثله. ولما مرت العربات كلها جره الحشد في اندفاعه إلى الساحة التي أصبحت سوداء من الخلائق كما كان حال المرتفعات والسطوح المجاورة. فما كاد بيتيا يصل إلى هناك حتى سمع بوضوح قرع الأجراس المتناسق وهمهمة الجمهور المرح.
وفجأة ران فراغ على الساحة، وحسرت الرءوس كلها، وعمت اندفاعة جديدة إلى الأمام، فكان بيتيا محصورا بشدة حتى لقد تعذر عليه التنفس. وهتف الناس كلهم: «هورا! هورا! هورا!» ورغم أن بيتيا تطاول على أطراف قدميه ودفع جيرانه وتعلق بهم؛ فإنه لم ير إلا الجمهور المحيط به.
كانت الوجوه كلها تعكس تحنانا واحدا وحماسا موحدا، وكانت بائعة إلى جوار بيتيا تنتحب وتبكي بدموع سخية وتقول في شبه ترتيل وهي تجفف عينيها: «أبانا، ملكنا، أبانا!»
وتعالى الهتاف من كل حدب: «هورا!»
واندفعت الجماهير إلى الأمام بعد هذا التوقف القصير.
اندفع بيتيا في أوج الانفعال، شادا على أنيابه وعيناه خارج محجريهما، وهو يعمل مرفقيه بنشاط ويصيح: «هورا!» وكان يبدو أشبه بمن على استعداد لإفناء نفسه والآخرين. ومن حوله كل الوجوه على مثل وحشية مظهر وجهه تندفع إلى الأمام وتزمجر هي الأخرى: «هورا!»
حدث بيتيا نفسه: «إذن هذا هو الإمبراطور! يستحيل في مثل هذه الظروف أن أرفع إليه ملتمسي، سيكون تجاوزا في الاجتراء!» مع ذلك، فقد استمر يدفع بيأس، وبات يرى وراء الأكتاف التي أمامه رقعة فارغة رسم عليها طريق من النجد الحمراء، ولكن في اللحظة نفسها تقهقر الجمهور؛ لأن رجال الشرطة صدوا في ذلك الوقت أولئك الذين تجاوزوا في الاقتراب. كان الإمبراطور ينتقل من القصر إلى كاتدرائية أسومسيون (انتقال العذراء) وحينذاك تلقى بيتيا في جنبه ضربة بلغت من الشدة حدا دارت له عيناه وفقد الوعي، ولما استفاق وجد رجل كنيسة بجبة خلقة وذيل صغير من الشعر الأشيب على القذال، شماسا ولا ريب، يرفعه بإحدى يديه من تحت إبطه بينما يدفع عنه باليد الأخرى غائلة الضغط.
كان الشماس يقول: «لقد سحقوا السيد الصغير! ترفقوا ، هه، ترفقوا! ... لقد سحقوه، المسكين! ...»
وكان الإمبراطور قد دخل الكاتدرائية وكف اللجب، فاستطاع الشماس أن يقود بيتيا الممتقع الذي كان يتنفس بصعوبة نحو «ملك المدافع» (مدفع أقيم قرب باب القديس نيكولا وقد صنع في القرن السادس عشر، وزنته 196005 كيلوجرامات، وهذا سبب التسمية). ولقد تحنن بعض الأشخاص على مصيره، فاندفع الجمهور نحوه. هرع الأقرب إليه يفكون أزراره ويجلسونه على قاعدة المدفع، وكلهم يقذفون أقذع السباب بحق «الدهاسين» المجهولين. - «ذلك أنه كان يستطيع المرور بكل راحة. هل يتصور العقل هذا؟ قتل حقيقي! إنه أبيض كقطعة قماش، الظريف الصغير!»
لم يلبث بيتيا أن استعاد قواه وعادت الألوان إلى وجهه وزال الألم، ولقد حصل على مكان جيد فوق المدفع بفضل هذا الطارئ. ومن موضعه راح يأمل أن يرى الإمبراطور عند عودته. أما عن الملتمس فلم يعد البحث يتعلق به، لقد باتت رؤية الإمبراطور وحدها كافية لإسعاده!
وبينما كان يقام في الكاتدرائية قداس شكر لعودة الإمبراطور كما لإجراء الصلح مع الأتراك، فإن الجماهير أخذت تتفرق. وشوهد منادون على شراب «كفاس»
1
والحلوى والقنبز (حب الخشخاش) التي يعتبر بيتيا من كبار هواتها، يظهرون. وتبودلت حوله أحاديث مبتذلة. كانت بائعة تري شالها الممزق وتزعم أنه كلفها عيني رأسها، وأخرى تؤكد أن الأقمشة الحريرية باتت لا تحصر بثمن. والشماس الذي أنقذ بيتيا يقدم لأحد الموظفين معلومات ضافية عن الشخصيات التي تشارك عظمته في القداس، ويلفظ عدة مرات كلمة «حبري» الذي استغلق معناها على بيتيا؛ واثنان من أصحاب الحرف الشبان يمجنان مع خادمتين تقضمان بندقا. ولقد كانت كل هذه الأحاديث، وبصورة خاصة دعابات الشابين التي كان لا بد وأن تلفت انتباه من هو في سنه، أمرا لا يؤبه له، فكان وهو في جثومه على المدفع يذوب غراما وهو يفكر في الإمبراطور، وكانت ذكرى إغمائه ومخاوفه أثناء الازدحام ترفع من معنوياته وتجعل هذه اللحظة الرهيبة خالدة إلى الأبد في ذهنه.
وفجأة دوت طلقات المدافع على طول رصيف الميناء؛ حيث كانوا يطلقون المدافع احتفالا بالسلم مع تركيا. اندفعت الجماهير نحو ذلك الاتجاه ، وهم بيتيا أن يحذو حذوها، لكن الشماس الذي وضعه تحت حمايته منعه، وكانت الطلقات لا تزال تدوي حينما شوهد الجنرالات والضباط والحجاب يخرجون من الكاتدرائية على عجل ، وأعقبهم أشخاص آخرون أقل تعجلا، وانحسرت الرءوس من جديد، وارتد الفضوليون الذين اندفعوا نحو الرصيف إلى الساحة مرة أخرى. أخيرا ظهر أربعة من كبار الشخصيات بالأشرطة الطويلة والبزة الرسمية في فناء الكنيسة، فصاحت الجماهير مرة جديدة: «هورا!»
سأل بيتيا جيرانه بصوت منتحب: «أيهم هو؟ أيهم؟»
فلم يجبه أحد. كان الناس جميعهم في أوج الانشغال، انتخب واحد من الأربعة اعتباطا ما كان يستطيع تمييز تقاطيعه بعينيه اللتين تبللهما الدموع، وركز كل حماسته فيه رغم أنه لم يكن الإمبراطور. أطلق صيحة «هورا» مجنونة، وقرر فيما بينه وبين نفسه أن ينخرط منذ الغد في سلك الجندية مهما كلف الأمر.
وبعد أن جرت الجماهير حتى القصر وراء الإمبراطور، راحت تتفرق، وأصبح الوقت متأخرا وبيتيا لم يذق بعد طعاما، فكان العرق ينثال على جبينه، مع ذلك فإنه لم يفكر في العودة. انضم إلى المتسكعين الذين كانوا عددا وفيرا مجتمعين أمام القصر، ولبث هناك طيلة الوقت الذي استغرقه جلالته في تناول الطعام؛ منتظرا - الله يعلم - أي حدث وهو يحسد المدعوين إلى المائدة كما يحسد الخدم الذين كان يراهم من النوافذ.
قال فالوئييف أثناء الطعام وهو يلقي نظرة إلى الخارج: «لا زال الشعب يأمل رؤية جلالته.»
وعند النهوض عن المائدة، مضى الإمبراطور إلى الشرفة وهو لا يزال يمضغ قطعة من البسكويت؛ فهرع الحشد وبيتيا بينه إلى ناحيته.
راح الشعب يصيح وبيتيا معه: «يا ملكنا! يا أبانا! هورا! يا أبانا! ...»
ومن جديد، راحت النسوة كما راح الرجال الذين يستبد بهم الحنان سريعا - وبيتيا من هؤلاء - يذرفون دموع الفرح.
سقط جانب غير صغير من قطعة البسكويت التي كان الإمبراطور ممسكا بها من يده على حاجز الشرفة، وقفز منه إلى الأرض؛ فاندفع حوذي ذو معطف عريض كان أقرب الناس إلى مكان سقوط القطعة والتقطها بشدة، وارتمى البعض من جواره عليه، وحينئذ استقدم الإمبراطور طبقا من البسكويت، وراح يلقي محتوياته من أعلى الشرفة. احتقنت عينا بيتيا بالدم وقد أثارته جاذبية الخطر، فاندفع إلى الأمام. كان يريد - دون أن يعرف السبب - أن يحصل بأي ثمن على واحدة من قطع البسكويت تلك التي سقطت من يد القيصر، ولقد طرح في اندفاعه امرأة كهلة كانت على وشك التقاط قطعة. وعلى الرغم من سقوط هذه على الأرض فإنها لم تنهزم، لكن ذراعها كانت أقصر من أن تصل. دفعها بيتيا بضربة من ركبته وتناول القطعة، ثم أطلق هورا جديدة خشية أن يكون قد اقتصد في إظهار حقيقة مشاعره بدونها، لكنها جاءت بصوت أبح قليلا.
احتجب الإمبراطور فتفرق الناس كلهم تقريبا هذه المرة، وكانت أصوات مبتهجة تقول من كل صوب: «كنت متأكدا أنه يجب الانتظار ولم أخطئ في ظني.»
ولقد أفسد مزاج بيتيا البهيج فكرة انتهاء متعة النهار، ولما لم يكن مزمعا أن يعود بعد، فقد مر على صديقه أوبولنسكي - وهو في مثل سنه - الذي كان يتأهب للالتحاق بالفوج، ولما عاد إلى المنزل أعلن بعزم على أنهم إذا لم يدعوه يتصرف كما يريد، فسيفر من البيت. ومنذ صبيحة اليوم التالي، ذهب الكونت العجوز - وإن كان ضد مشيئته - يستعلم عن الوسائل التي تمكنه من إلحاق بيتيا بالخدمة دون أن يعرضه كثيرا للخطر.
الفصل الثاني والعشرون
مناقشات النبلاء
في اليوم التالي، الخامس عشر من تموز، وقف عدد كبير من العربات أمام قصر سلوبودسكي.
كان جمع غفير يملأ القاعات وقد اجتمع النبلاء في الأولى في أزيائهم الرسمية، وفي الثانية التجار ذوو اللحى الطويلة «وميدالياتهم» تتدلى فوق «قفاطينهم» الطويلة الزرقاء، وكانت قاعة النبلاء تعج بحيوية جياشة. ولقد كان أكثر الشخصيات أهمية يجلسون بجلال حول مائدة كبيرة، والآخرون يروحون ويجيئون.
كان هؤلاء النبلاء كلهم الذين كان بيير يختلط بهم كل يوم سواء في النادي أم في منازلهم، يرتدون بزات بعضها ترجع إلى أيام كاتيرين وبول وألكسندر أو البزة البسيطة المألوفة عند النبلاء، فكان هذا الطابع «الرسمي» يضفي شيئا غريبا خياليا على تلك الوجوه المسنة أو الفتية المختلفة والمألوفة. ولقد كان الكهول، وهم بين قصير بصر وأصلع وأدرد منتفخ بالدهن الأصفر أو نحيل مهزول، يثيرون الفضول بصورة خاصة. ما كانوا ينطقون بكلمة ولا يتحركون من أمكنتهم، وإذا نهضوا من أماكنهم فليحدثوا من هم أصغر سنا. وهنا، كما على الساحة حيث كان بيتيا، كانت الوجوه تنطق، إضافة إلى ترقب حدث جلل، بمشاغل شديدة الإسفاف كلعبة «الباصرة» ومواهب الطاهي بيتروشكا وصحة زينائيد دميترييفنا ... إلخ.
كان بيير الذي ارتدى منذ الصباح الباكر بزة النبلاء التي أصبحت ضيقة عليه، قائما في القاعة فريسة تأثر شديد جدا. لقد كان الاجتماع الخارق ليس للنبلاء بل للتجار كذلك، تلك الدعوة لطبقات مختلفة، وبالاختصار، تلك «الطبقات العامة» توقظ في نفسه كتلة من الأفكار أغفت منذ أمد طويل، ولكنها ظلت ملقية مرساتها في ذهنه أفكارا تدور حول «العقد الاجتماعي»
1
والثورة الفرنسية، وكان المقطع الذي جاء في النداء، والذي قال الإمبراطور فيه إنه آت إلى عاصمته «للتداول» مع شعبه، يحدث في نفسه أثرا قويا. ولما كان تبعا لهذا التسلسل من الأفكار يفترض جدلا أن هناك أمرا مهما في طور الإعداد، ينتظر صدوره عنه منذ أمد بعيد، فقد راح يتجول بين الجماعات وينظر حوله ويصيخ السمع إلى المحادثات دون أن يكتشف فيها على أية حال ما يستجيب لتخيلاته.
قرئ النداء الذي استفز الحماس، ثم استؤنفت المحادثات. ولقد سمع بيير، إضافة إلى المواضيع الاعتيادية، مناقشات حول الأمكنة التي سيحتلها رؤساء الأشراف لدى دخول جلالته، وحول تاريخ الحفلة الراقصة التي ستقام على شرفه والطريقة المفضلة للاجتماع: كل مقاطعة أو إقليم ... إلخ، ولكن ما إن يعود البحث إلى الحرب وموضوع الاجتماع نفسه حتى يدخلوا حدود الغموض والاستغلاق، فكانوا يفضلون الإصغاء على التكلم.
كان سيد في سن متأخرة، عسكري المظهر، جميل الصورة، في بزة البحار المتقاعد، يغط وسط جمع، فاقترب بيير ليصغي إليه، وكان الكونت إيليا آندريئيفيتش في «قفطان» حاكم مدينة يرجع زيه إلى عصر كاتيرين، يخطر والابتسامة على شفتيه بين هذه الوجوه من معارفه، فأصاخ هو الآخر السمع وعلى وجهه طابع العطف المألوف عنده في تلك المناسبات، وراح يشجع المحاضر بهزات رأسه المؤيدة. وكان يبدو أن البحار يتطرق إلى بحوث بالغة الجرأة، إذا حكمنا على الأقل على مظاهر التبدل التي كانت تطرأ على وجوه مستمعيه وواقع مناقضة بعضهم له، ممن يعرف بيير مزاجهم السلمي، بل وابتعادهم عنه استنكارا لأقواله، شق بيير لنفسه طريقا إلى وسط الجماعة، واستطاع أن يقنع نفسه أن المتحدث الجميل متحزب حقا للحرية المدنية والدينية، ولكن باتجاه يختلف كل الاختلاف عن اتجاهه. كان للبحار صوت خفيض رخيم، يلثغ بملاحة و«يبتلع» الأحرف الساكنة من تلك الأصوات الخاصة بالنبلاء الذين ألفوا الصراخ: «يا غلام، إلي بغليوني!» أو أي شيء آخر من هذا النوع: صوت مترف ألف إصدار الأوامر. - «لقد عرض نبلاء سمولنسك متطوعين على الإمبراطور! وماذا بعد؟ هل هم الذين يسنون لنا القانون؟ إذا وجدت طبقة النبلاء المبجلة في موسكو ضرورة لإظهار تفانيها لجلالته، فإنها تستطيع إظهارها على لون آخر. هل نسينا المتطوعين عام 807؟ لم يربح بينهم إلا أبناء القساوسة والمحتالون والمداجون ...»
وكان الكونت إيليا آندريئيفيتش يؤيد أقواله برأسه وعلى شفتيه ابتسامته الدمثة. «هل كان متطوعونا ذوي فائدة للبلاد؟ كلا على ما أعلم. لقد نكبونا بكل بساطة، بل إن التجنيد أفضل ... وإلا فإنهم لن يعودوا إلينا جنودا ولا فلاحين، بل فاسقين ليس إلا، إن النبلاء لا يساومون على حياتهم. سوف نذهب جميعنا وسنعود بمجندين.»
ثم أعقب باندفاع حماسي متمما: «ليوجه الإمبراطور إلينا النداء فقط، فنموت كلنا من أجله.»
كان إيليا آندريئيفيتش يبتلع لعابه من الرضى ويلكز بيير بمرفقه، لكن هذا كان يريد بدوره أن يقول كلمته. تقدم إلى الأمام مستسلما لاندفاع غامض دون أن يعرف على الضبط ما يريد أن يقول. ما كاد يفتح فمه حتى قاطعه عضو في مجلس الشيوخ، أدرد ذو وجه غاضب عليه مخايل الذكاء، كان واقفا قرب الخطيب. قال بلهجة واضحة هادئة، لهجة رجل خبير بالمناقشات: «افترض يا سيدي العزيز أننا لم نستدع إلى هنا لمناقشة الميراث التي يمكن أن تعطيها في الظروف الحاضرة طريقتا التطوع أو التجنيد. يجب أن نجيب على النداء الذي شرفنا به جلالته، أما الاختيار والتقرير بين التطوع والتجنيد فأمر يجب أن نتركه للسلطة العليا ...»
لم يلبث بيير أن وجد مخرجا للغليان الداخلي. كيف؟! إن هذا الشيخ يزمع فرض وجهات نظره الضيقة المتطرفة في الانسجام مع التشريع على مداولات النبلاء! تقدم خطوة إلى الأمام وراح يحاضر بحميا وقد قطع عليه الكلام، رغم أنه استعمل لغة روسية مدرسية محشوة بتعابير فرنسية.
شرع يقول: «اعذرني يا صاحب السعادة ...»
ذلك أنه رغم العلاقات الطيبة التي تجمعه بهذا الشيخ، فقد ارتأى أن من الأفضل منحه لقبه الرسمي. - «على الرغم من أنني لا أشارك رأي السيد ...»
وهم أن يضيف قوله: «المشرع كلي الاحترام»، لكنه أمسك وأضاف: «الذي لم يحصل لي شرف معرفته، فإنني أفترض أن طبقة النبلاء قد استدعيت إلى هذا المكان ليس لتعبر عن عواطفها وحماسها فحسب، بل لتناقش كذلك الوسائل التي يمكن أن تلجأ إليها لنجدة الوطن.»
ثم أردف وهو يزداد اندفاعا: «إنني أعتقد أن الإمبراطور نفسه سيكون مستاء إذا لم يجد فينا إلا مالكي قرويين ... للمدفع ... إذا لم يجد فينا ... مجلسا استشاريا.»
ولقد حفزت هذه اللغة الشديدة التحرر وابتسامة الشيخ المزدرية أناسا كثيرين على الابتعاد، فلم يؤيد خطاب بيير غير إيليا آندريئيفيتش، كما أيد من قبل خطاب البحار والشيخ، وكما كان على استعداد لتأييد كل شخص يكون آخر من يتكلم.
استرسل بيير: «أقدر أنه قبل مناقشة هذه المسائل، يجب علينا أن نسأل الإمبراطور. نعم، أن نسأل بكل احترام جلالته أن يعلمنا بعدد قواتنا ومركز جيوشنا، وعندئذ ...»
لم يستطع بيير أن يتمم؛ لأنهم هاجموه من ثلاث جهات معا. وكان أكثر خصومه قسوة من أقدم زملائه في لعبة «الباصرة» الذي لم يكن قط إلا مكنا كل استعداد لخدمته، ستيبان ستيبانوفيتش إدراكسين كان هذا السيد الآن يرتدي البزة الرسمية، وسواء كان لهذا السبب أو لسبب آخر، فإن بيير وجد أمامه رجلا آخر مختلفا كل الاختلاف. صرخ ستيبان ستيبانوفيتش وقد تقلصت تقاسيم وجهه بغضب الشيخوخة: «أولا ، لا حق لنا بطرح هذا السؤال على الإمبراطور، وفي المرحلة الثانية لو أن للأشراف الروسيين هذا الحق فإن الإمبراطور لا يستطيع أن يجيبنا. إن سير جيوشنا تابع لسير العدو، أما العدد فهو تارة منخفض وتارة مرتفع ...»
وارتفع صوت آخر، صوت رجل متوسط القامة في حوالي الأربعين من عمره، كان بيير قد عرفه من قبل عند البوهيميين، وكان غشاشا في اللعب. تحول هو الآخر في البزة، فتقدم من بيير وقاطع إدراكسين وهتف: «على أية حال، إن الوقت الآن ليس وقت النقاش، بل العمل. إن الحرب في بلدنا. إن العدو يقترب ليمحو روسيا؛ ليدنس أضرحة أبنائنا، ليحمل نساءنا وأولادنا. سوف ننهض جميعنا وسنعطي كل شيء من أنفسنا إلى أبينا القيصر!»
كان يصرخ ويضرب صدره ويدير عينيه المعكرتين بالدم، ولقد ارتفعت بضع كلمات مؤيدة بين الصفوف: «إننا روسيون، ولن ندخر دماءنا لندافع عن الدين وعن العرش والوطن. لندع جانبا كل هذه السخافات إذا كنا بالفعل أولادا حقيقيين لهذا الوطن. سوف نري أوروبا كيف تنهض روسيا من أجل روسيا.»
أراد بيير أن يجيب، لكنه اعترف بعجزه، كان يرى بوضوح أن كلماته، لولا المعنى الذي تحمله، أقل صدى من أقوال هؤلاء السادة الممجدين.
وكان إيليا آندريئيفيتش يؤيد وراء الجمع، ولقد جاء بعض السامعين يشدون أزر الخطيب ببسالة، وهم يؤيدون أقواله ب: «عظيم جدا! عظيم جدا! كامل! هو كذلك!»
وكان بيير يريد أن يقول إنه هو الآخر على استعداد لكل التضحيات بالرجال والمال، وأن يضحي بنفسه إذا اقتضى الأمر، ولكن لكي يمكن علاج الموقف يجب قبل كل شيء معرفته، لكنه لم يستطع. كانوا جميعا يصرخون ويتحدثون معا، لدرجة أن إيليا آندريئيفيتش كان لا يكف عن هز رأسه مؤيدا، وكان الجمع المتحمس ينمو عدديا تارة، وتارة يتفرق شمله ليعود إلى التشكل من جديد، ويتجه نحو المائدة الكبيرة عبر القاعة. لم يكن بيير عاجزا عن إبداء كلمة واحدة فحسب، بل كانوا كذلك يقاطعونه بغلظة ويصدونه أو يشيحون بوجوههم عنه، وكأنه العدو المشترك. غير أن خطابه لم يكن ذا أثر في هذا النبذ؛ إذ سرعان ما نسوه تماما بعد الخطابات التي تلته، لكن لا بد لذلك الجمهور المثار أن يعبر عن موجدته كما يعبر عن غرامه وحبه، فكان بيير كبش الفداء.
ولقد تحدث كل النبلاء الذين تعاقبوا بعد النبيل المستفز على تلك الوتيرة، فأجاد بعضهم، ولم يخرج البعض الآخر عن الطريقة المبتذلة. ولقد قال صاحب «الرسول الروسي» الذي استقبلوه بهتافات: «الكاتب! الكاتب!» وكان اسمه سيرج جلينكا: «يجب أن يصد الجحيم بالجحيم.» وأنه «رأى غلاما يبتسم على ضوء البروق وقصف الرعود»، ولكن «لن نكون نحن ذلك الغلام.»
وكرروا في الصفوف الخلفية دون أن يفهموا: «نعم، نعم، على قصف الرعد!»
اقترب الحشد من المائدة الكبيرة التي جلس وراءها كبار ذوي المقام متشحين بأوسمتهم، وكانوا كلهم سبعينيين؛ بعضهم أصلع وبعضهم عديم الشعر، كان بيير يعرفهم سواء في بيوتهم بين مهرجيهم أو في النادي حوالي موائد «الباصرة». مع ذلك فإن المحادثات لم تتوقف. راح الخطباء - واحد أثر الآخر، وأحيانا اثنان معا - يتكلمون، يضغطهم الجمهور فيلصقهم بمساند الكراسي العالية، وكان أولئك الذين في المؤخرة يسجلون ما لم يقله الخطباء ليقولوه بدورهم، وبعضهم يعصر دماغه وسط ذلك الازدحام وتلك الحرارة محاولين اكتشاف فكرة ما، لم يسبقهم أحد إلى إعلانها؛ علهم يذيعونها على الآخرين. وكان ذوو المقام جامدين في مقاعدهم، يلقون حولهم نظرات وجلة ووجوههم لا تعبر إلا عن شيء واحد؛ هو أنهم يشعرون بحرارة شديدة. وكان بيير خلال هذه الفترة يشعر بالتأثر، تلك الرغبة في البرهنة بأي ثمن على إخلاصه للوطن، التي كان يقرؤها على كل الوجوه، والتي كانت الأصوات تعبر عنها خيرا مما تعبر الخطابات نفسها، بدأت تغزو مخيلته. شعر شعورا غامضا بأنه مذنب دون أن ينكر جانبا من آرائه التي يؤمن بها، فأراد أن يبرر سلوكه.
صرخ محاولا أن يطغى على الأصوات كلها: «كل ما قلته هو أن تضحياتنا ستكون أكثر سهولة لو أننا عرفنا على الضبط الحاجات الداعية إليها.»
أدار عجوز - وهو أقرب الجوار إليه - نظره نحوه، لكنه لم يلبث أن مال به إلى الجانب الآخر من المائدة، حيث كان بعضهم يقول: «نعم، سوف تنقذ موسكو! سوف تكون منقذتنا!»
وصاح صوت آخر: «إنه عدو الجنس البشري! ... دعوني أتكلم ... أيها السادة، إنكم تخنقونني! ...»
الفصل الثالث والعشرون
قرار نبلاء موسكو
في تلك الأثناء، دخل القاعة الكونت روستوبتشين مرتديا بزة جنرال ومتقلدا الوشاح الأكبر، بارز الذقن متقد العينين، يسير بخطوات سريعة، فأفسحت له جمهرة النبلاء الطريق.
قال: «سوف يصل جلالته. لقد جئت لتوي من القصر. أظن أن في الموقف الذي نحن فيه، لا مجال للنقاش طويلا. لقد تفضل الإمبراطور فجمعنا كما جمع رجال التجارة.»
ثم أضاف وهو يشير إلى قاعة التجار: «سوف تأتي الملايين من هنا. إن دورنا نحن يقتصر على إعطاء المتطوعين وعدم توفير أنفسنا ... وهذا أقل ما نستطيع عمله.»
ولقد دارت مشاورة بصوت أكثر خفوتا بين السادة الجالسين وراء المائدة وحدهم، ولقد أحدث سماع تلك الأصوات المحطمة، بعد ذلك الصخب الأخير وهي تعطي برأيها الواحدة تلو الأخرى، لونا من الحزن. كان هذا يقول: «إنني أوافق!» وذلك ليبدل العبارة: «إنني من الرأي نفسه.»
تلقى أمين السر الأمر بتسجيل القرار التالي من النبلاء الروسيين: «إن نبلاء موسكو، أسوة بأمثالهم في سمولنسك، يعطون عشرة رجال على كل ألف رجل مع تجهيزاتهم الكاملة.» ثم نهض المرموقون براحة ظاهرة فدفعوا كراسيهم بجلبة وانتشروا في القاعة ممسكين بمعارفهم من سواعدهم، ومثرثرين معهم في شتى المواضيع وكأنهم بانتشارهم أرادوا أن يحركوا أطرافهم الساكنة.
صاح بعضهم فجأة: «الإمبراطور! الإمبراطور!»
ثم اندفع الجميع نحو المدخل.
على طول طريق عريض يحفه من الجانبين سياج مزدوج من النبلاء تقدم ألكسندر إلى القاعة. كانت الوجوه كلها معبرة عن فضول خاشع وجل معا. لم يميز بيير وهو في مكانه البعيد الكلمات التي فاه بها جلالته، لكنه فهم فقط أنه يتكلم عن الخطر الذي تتعرض البلاد له، وعن الآمال التي يبنيها على نبلاء موسكو. وأجاب صوت ينهي إلى جلالته القرار الذي اتخذ.
شرع الإمبراطور يقول بصوت متهدج: «أيها السادة!»
وسادت الجموع رعشة، ثم ران صمت عميق فسمع بيير بجلاء صوت ألكسندر العذب المتأثر يقول: «إنني لم أرتب قط في غيرة الأشراف الروسيين، لكن هذه الغيرة اليوم فاقت ما كنت أنتظر. أشكركم باسم الوطن. لنعمل أيها السادة؛ فالوقت ثمين.»
صمت الإمبراطور فتألبت الجموع حوله، وراحت أصوات التعجب المجنونة تنطلق من كل مكان، وكان إيليا آندريئيفيتش يقول في الصفوف الخلفية وهو ينتحب، رغم أنه لم يسمع شيئا، بل كان يفهم كل شيء على طريقته: «نعم، إن أثمن ما في الأمر هو كلمة القيصر.»
مضى الإمبراطور من قاعة الأشراف إلى قاعة التجار؛ حيث لبث قرابة عشر دقائق. ولقد رآه بيير ككثير غيره، وفي عينيه دموع التحنن. وكما نما إليهم فيما بعد، لم يكد ألكسندر يشرع في خطابه إلى رجال التجارة حتى انبثقت الدموع من عينيه، فلم يفرغ من أقواله إلا بصوت لاهث، وكان اثنان من الحاضرين يرافقانه: أحدهما - وكان بيير يعرفه - تاجر مشروبات روحية كبير، والآخر، ذو وجه أصفر هزيل ولحية ضعيفة، كان نقيب التجار. وكان كلاهما يبكيان، وكانت عينا الهزيل مبللة بالدموع، أما الآخر فكان ينتحب كالطفل ويكرر دون كلل: «خذ حياتي وثروتي يا صاحب الجلالة!»
باتت رغبة بيير الوحيدة الآن أن يظهر على الملأ أنه لا يأسف على أية تضحية، وأن يسخر من كل شيء آخر. كان يأسف لميوله التأسيسية التي أبداها في خطابه، وراح ينتهز الفرصة لإصلاح خطئه، ولما علم أن الكونت مامونوف يقدم فوجا كاملا، أعلن من فوره للكونت روستوبتشين أنه يقدم ألف رجل ويتحمل مسئولياتهم.
لم يستطع روستوف العجوز أن يمسك دموعه وهو يروي لزوجته كل ما حدث، وأذعن من فوره لإلحاح بيتيا، فذهب بنفسه يسجله في عداد المتطوعين.
وفي اليوم التالي، ذهب الإمبراطور وخلع كل أعضاء الجمعية أزياءهم الرسمية وعادوا إلى مألوف عاداتهم في بيوتهم وفي النادي، وراحوا يوعزون إلى مديري أعمالهم بالأوامر المتعلقة بالتطوع في شيء من الهمهمة وهم في دهشة من أنفسهم لما بذلوه وعملوه.
الجزء الثاني
مورات (ملك نابولي).
الفصل الأول
تدابير مزعومة
لقد حارب نابليون روسيا؛ لأنه لم يستطع إلا أن يجيء إلى دريسد، ولأنه لم يتجنب الاستسلام لثمل المجد والعز وارتداء بزة بولونية، والإذعان لمفاتن صباح جميل من حزيران المثير، وكذلك لأنه لم يعرف قط كيف يخمد لحظات غضب في حضرة كوراكين ثم بالاشيف.
ولقد رفض ألكسندر كل مفاوضات؛ لأنه كان يظن أنه أهين شخصيا، وكان باركلي دوتوللي يجتهد ليقود الجيش أفضل قيادة حتى يقوم بواجبه ويحصل على شهرة رئيس كبير. واندفع روستوف يهاجم الفرنسيين؛ لأنه لم يستطع الصمود لرغبة الجري على الحصان في الأرض البراح. وهكذا كان يتصرف الأشخاص الذين لا يحصر عددهم ممن ساهموا في الحرب؛ تبعا لاستعداداتهم الشخصية وعاداتهم وشروط حياتهم أو مقدراتهم. كانوا يشعرون بالخوف، ويتباهون ويبتهجون ويسخطون ويناقشون ويعتقدون أنهم عارفون ما هم فاعلون، وأنهم إنما يفعلونه لحسابهم الخاص، في حين كانوا الأدوات الصماء في يد التاريخ، يقومون بعمل يستغلق معناه عليهم؛ عمل نفهمه نحن الآن. كذلك هو مصير كل رجال العمل الذي لا يتبدل: إنهم أقل حرية كلما شغلوا منصبا أكبر في التسلسل الاجتماعي.
اختفى صانعو أحداث 1812م منذ أمد طويل، ولم تعد للمصالح التي جعلتهم ينشطون أي أثر، فلم تبق إلا النتائج التاريخية لتلك الحقبة من الزمن.
لكننا لو اعتبرنا أن سكان أوروبا كان عليهم أن يوغلوا على عهد نابليون في قلب روسيا ليهلكوا فيها، فإن سلوك المساهمين في الحرب كلهم، ذلك السلوك المعاكس الجامد الوحشي، يصبح غير مفهوم لدينا.
كان القدر يلجئ كل واحد من أولئك الرجال إلى المساهمة بنفس الوقت الذي يتتبع فيه أهدافا شخصية، في نتيجة واحدة هائلة، لم يكن لأحدهما، سواء كان نابليون أو ألكسندر - بل لم يكن لأي كان من الفاعلين - أية فكرة عنها.
إننا نرى اليوم بوضوح السبب الذي أدى إلى هلاك الجيش الفرنسي عام 1812م. ما من أحد يناقض القول إن ذلك البلاء العظيم كان أولا بسبب الدخول المتأخر إلى قلب روسيا دون استعدادات كافية لحملة شتوية؛ ومن ثم بسبب العقلية المتأثرة بالحرب التي دلت عليها حرائق المدن والموجدة المثارة في نفوس الشعب الروسي إزاء الغازي، ولكن ما من أحد كان يستطيع حينذاك أن يتنبأ بما يبدو لنا اليوم بديهيا، خصوصا إذا علمنا أن هذه الأسباب وحدها كانت السبب في انهيار جيش قوامه ثمانمائة ألف رجل، وأنه كان أفضل جيش في العالم يقوده أعظم القواد، في وجه جيش أضعف مرتين منه، محروم من كل خبرة، يقوده جنرالات غير مجربين كذلك. ليس فقط أنه ما من أحد كان يستطيع تخمين ذلك، بل كذلك أنه بينما كانوا من الجانب الروسي يحبطون تلك التدابير الآيلة إلى إنقاذ روسيا بجهد وكأنهم يجدون متعة فيه، كانوا من الجانب الفرنسي كذلك رغم خبرة نابليون وعبقريته المزعومة، يبذلون أقصى الجهد للوصول إلى موسكو حوالي نهاية الصيف، أو بعبارة أخرى: يعملون ذاك الذي كان عليه أن يسبب هلاكهم.
ففي المؤلفات التاريخية عن عام 1812م، يلح الفرنسيون بمجاملة حول واقع نابليون، كان يشعر بخطر إطالة خطه الحربي، وأنه كان يسعى إلى المعركة، وأن ماريشالاته كانوا يشيرون عليه بالتوقف في سمولنسك، وبالإيجاز، حول عدد من الحجج الرامية إلى الدلالة على أنهم كانوا يشعرون بالخطر. ومن جهة ثانية، يؤكد المؤرخون الروسيون بأكثر مجاملة أيضا وجود خطة «حرب يأجوجية» منذ البداية، غايتها استدراج نابليون إلى قلب روسيا، ويعزون هذه الخطة إلى بفويل تارة، وإلى تول تارة أخرى؛ بعضهم يعزوها إلى فرنسي والبعض الآخر إلى ألكسندر نفسه، مستندين في ذلك إلى المذكرات والمشاريع والرسائل التي ورد فيها بالفعل تنويهات عن هذا النوع من التصرف. ولكن كل هذه التلميحات إلى استقراء ما كان سيقع سواء من الجانب الروسي أو من الجانب الفرنسي، لم تستعرض إلا في هذا الوقت؛ لأن الحدث نفسه قد أيدها. فلو أن ما وقع كان العكس، لنسيت هي الأخرى اليوم كما نسيت ألوف الفرضيات التي درجت حينذاك، والتي ثبت بطلانها. إن نتيجة كل حدث تبيح كثيرا من الافتراضات، حتى إنك لن تعدم أشخاصا يقولون مؤكدين: «لقد قلت هذا من قبل!» متناسين أن بين هذه الافتراضات التي لا تحصى وقع عدد آخر مما يناقض هذه كل التناقض .
لذلك فإن شعور نابليون بالخطر لتوسيع خطه الحربي والخطة المدروسة الرامية إلى استدراج العدو إلى قلب روسيا، إنما هما من هذا النوع من الفرضيات، ولا بد وأن المؤرخين قد تجاوزوا الواقع كثيرا ليستطيعوا أن يعزوا وجهة النظر تلك إلى نابليون، وتلك الخطة إلى الرؤساء الروسيين؛ لأن الوقائع كلها تعطي تكذيبا واضحا لهذه الافتراضات المجانية. لقد عمل الروسيون كل ما في وسعهم - بعيدا عن فكرة استدراج الفرنسيين إلى جوف بلادهم - لتأخير العدو منذ أن شرع في التقدم. ونابليون، بعيدا عن التخوف من امتداد خط القتال، كان يبتهج ابتهاجه بنصر مبين بعد كل خطوة إلى الأمام، ولا يبحث عن المعركة إلا بتراخ خلافا لحملاته السابقة.
لقد شطرت جيوشنا منذ بدء الحرب، فلم يكن همنا إلا جمعها، في حين أن التقهقر واجتذاب العدو إلى داخل البلاد لم يكن حلا يبشر بأية أهمية، وإذا كان الإمبراطور موجودا حينذاك في صفوف الجيش فإنما كانت غايته لتشجيع قطعاته على الدفاع عن كل «بوصة» من الأرض، وليس ليرأس التقهقر، ولقد نظموا معسكر دريسا الهائل وفقا لخطة بفويل، ليس للتقهقر، بل للصمود فيه. ولقد وجه ألكسندر اللوم إلى القائد الأعلى على كل خطوة إلى الوراء، ولم يكن حرق موسكو ولا هجر سمولنسك من الأشياء المقبولة، ولما قامت الجيوش بحركة انضمام إلى بعضها سخط لرؤية هذه المدينة الأخيرة تسقط في أيدي العدو دون أن تدور تحت جدرانها معركة عامة.
والقواد العسكريون والشعب الروسي كله كانوا كالإمبراطور نفسه؛ محزونين حزنا أليما لتقدم العدو.
ونابليون بعد أن شطر جيوشنا راح يتوغل إلى الأمام وهو يتحاشى مناسبات كثيرة للالتحام في معركة؛ ففي شهر آب كان في سمولنسك، فلم يفكر إلا في استمراره في الهجوم الذي، كما نراه الآن، أصبح قاضيا عليه قضاء مبرما.
إن الوقائع تثبت بشكل جازم أن نابليون ما كان يتوقع أي خطر في سيره باتجاه موسكو، وأن ألكسندر - بعيدا عن تسهيل مثل هذه الحركة - راح مع جنرالاته يفكرون في وضع عائق لها، فالحادثة إذن وقعت ليست تبعا لخطة ما ؛ لأنه ما من أحد كان حتى يتوقع هذا الاحتمال، بل بفعل سلسلة شديدة التعقيد من الدسائس والأهواء والرغبات، كانت الخلاص الأوحد لروسيا، ولو أن صانعي الحرب لم يحدسوا ما كان سيقع تبعا لها، لقد وقع كل على حين غرة. كانت جيوشنا مشطورة منذ بدء الحملة، فحاولنا جهدنا أن نجمعها ونحن نرمي من وراء ذلك بديهيا إلى الدخول في معركة وإيقاف العدو. وفي سياق هذه المحاولة، وبينما نحن نتحاشى لقاء قوات أوفر منا عددا، قدنا الفرنسيين إلى سمولنسك ونحن نتراجع رغما عنا على زاوية حادة، ولكن لا يكفي القول إننا نتراجع مشكلين زاوية حادة؛ لأن الفرنسيين شكلوا زاوية بين الجيشين؛ فأصبحت الزاوية أكثر ضيقا، ونشطنا في التقهقر؛ لأن باركلي دوتوللي، ذلك الغريب معدوم الشعبية، كان مكروها من باجراسيون قائد الجيش الثاني الذي يجب أن يكون مرءوسا له، والذي يؤخر الالتقاء مع جيشه بقدر ما يستطيع كيلا يكون تحت أمره. وإذا كان باجراسيون قد رفض طويلا القيام بتلك الحركة وهي الغاية الرئيسية ككل قواد الجيوش، فما ذلك إلا لأنه كان يخشى تعريض جيشه للخطر ولا ريب؛ ولأنه يفضل أن يتراجع أكثر فأكثر إلى اليسار وإلى الجنوب، مشكلا خطرا على جناح جيش العدو ليتمم جيشه في أوكرانيا، ولكن يبدو كذلك أنه عمد إلى هذا التدبير؛ كي يتجنب مرءوسيته لباركلي الغريب الذي يعتبر هو أقدم منه في الرتبة، وهو الأمر الذي ما كان يحتمله.
والإمبراطور موجود في الجيش ليذكي الحماس بوجوده، لكن ذلك الوجود نفسه وذلك التردد في اتخاذ القرارات وعدد المستشارين والخطط الكبيرة، عكست قصد القوة الهجومية الكامنة في الجيش الأول وأرغمتها على التراجع.
لقد عزموا على التوقف في معسكر دريسا، لكن بولوكشي الذي كان يهدف إلى القيادة العليا استعمل نفوذه على ألكسندر، فأهملت خطة بفويل كلها، وعهد بكل شيء إلى باركلي. ولما كان هذا لا يوحي بثقة، فقد حدوا رغم ذلك من صلاحياته. إن الجيوش قد جزئت إذن، فلا وحدة قيادة ولا شعبية لباركلي. ومن هذه الفوضى، ومن هذا التجزؤ، ومن عدم شعبية القائد الأعلى الأجنبي هذه، نجم التردد من جهة، والامتناع عن خوض معركة ما كان يمكن الامتناع عنها لو أن الجيوش كانت موحدة ولم يكن باجراسيون يقود جيشا منها، ومن جهة ثانية، السخط المتزايد ضد الغرباء ويقظة الشعور الوطني.
وأخيرا ترك الإمبراطور الجيش فلا يرى لهذا الرحيل إلا تفسير واحد مقبول: ضرورة إثارة حماس العاصمتين لاحتمال خوض حرب قومية، فضاعف هذا الرحيل إلى موسكو قوات الجيش الروسي إلى ثلاثة أمثالها.
ترك الإمبراطور الجيش ليترك كل الحرية للقائد الأعلى، فليتوقع حينذاك صدور قرارات أكثر حزما، في حين أن العكس كان، لقد تعقد موقف القائد وازداد ضعفا. لقد ظل بينيجسن والغراندوق وثول كبير من المساعدين العسكريين في الجيش بقصد المراقبة والتعريض بالقائد الأعلى، فيضاعف باركلي تعقله ويتحاشى المعركة وهو يشعر بحريته في العمل آخذة بالتناقص تحت مراقبة كل هذا العدد من «عيون الإمبراطور».
وبينما باركلي متخذا حذره، يتحدث التسيزاريفيتش عن خيانة ويطالب بمعركة عامة، وينضم لوبوميرسكي وبرونيكي وولوكي وعدد آخر إلى صفه، ويجسمون هذه الشائعة حتى إن باركلي - متذرعا بحجة إرسال وثائق إلى الإمبراطور - اضطر إلى ترحيل المساعدين العسكريين البولونيين إلى بيترسبورج والدخول في نضال سافر ضد بينيجسن والغراندوق.
وأخيرا في سمولنسك، رغم عدم تعجل باجراسيون، تقوم الجيوش بحركة الالتقاء.
يصل باجراسيون إلى مسكن باركلي في عربة، فيندفع هذا للقائد متدثرا بوشاحه، ويقدم إليه تقريره كما يفعل مع من أقدم منه رتبة. ويظهر باجراسيون شهامة عالية بتقبله رئاسة باركلي، لكنه بذلك يزداد في الاختلاف معه. إنه يوجه تقاريره مباشرة إلى الإمبراطور كما أمره هذا أن يفعل ويكتب إلى آراكتشييف قائلا: «إنني رغم رغبة جلالته، يستحيل علي الاتفاق مع «الوزير» (باركلي). أرسلني بحق السماء إلى مكان ما، حتى ولو لقيادة فوج، لكنني لا أستطيع البقاء هنا ... إن القيادة العليا كلها مملوءة بالألمان، لدرجة أن الروسي لا يمكنه أن يعيش فيها وأنها فوضى حقيقية، كنت أظن أنني أخدم الإمبراطور والوطن، لكنني في الواقع إنما أخدم باركلي؛ لذلك أعترف لك أنني أرفض هذه الخدمة.» وينشط ثول برونيكي ووينتزبخيرود وآخرين في تسميم العلاقات بين الجنرالين أكثر فأكثر، فتصبح وحدة القيادة مجرد مظهر، وتقوم الاستعدادات لمهاجمة الفرنسيين أمام سمولنسك، فيرسل جنرال لدراسة الموقف، ولما كان هذا الجنرال من الحاقدين على باركلي، فإنه يمضي لزيارة قائد من جناح أصدقائه، فيمضي النهار عنده. وعند أوبته يندفع في نقد ساحة معركة لم يرها قط.
وبينما هم يدسون ويناقشون حول ساحة المعركة المقبلة هذه، وبينما هم يبحثون عن الفرنسيين ويخطئون في تحديد مواقعهم على الضبط، يصطدم العدو بجيش نيفييروفسكي ويقترب من جدران سمولنسك نفسها.
ولقد اضطررنا إلى خوض المعركة في سمولنسك لنمحي خطوط اتصالنا؛ فسقط من الجانبين ألوف من الرجال.
وهجرت سمولنسك برغبة الإمبراطور والشعب أجمع، لكن المدينة أحرقت من قبل السكان أنفسهم الذين خدعهم حاكم مدينتهم، وذهب هؤلاء المنكوبون إلى موسكو، فأضحوا مثالا للروسيين الآخرين وهم لا يفكرون إلا في الخسائر التي لحقت بهم، وفي إذكاء الموجدة على العدو. ويتابع هذا تقدمه فنتابع تقهقرنا، وهكذا دارت الأمور دورتها القاضية على نابليون.
الفصل الثاني
صفح الأمير العجوز
استدعى الأمير نيكولا آندريئيفيتش الأميرة ماري غداة يوم رحيل ابنه. قال لها: «حسنا! أنت سعيدة الآن. لقد خاصمتني مع ولدي! هذا ما كنت تريدينه تماما. ها أنت سعيدة الآن! ... بينما ذلك يؤلمني، ذلك يؤلمني كثيرا. إنني عجوز وضعيف ... أما أنت، فقد نلت ما كنت تشتهين ... هيا، قري عينا، قري عينا ...»
ثم لم تر ماري أباها طيلة الأسبوع؛ إذ كان مريضا لا يخرج من مكتبه. ولدهشة ماري العظيمة، لم يكن يستقبل الآنسة بوريين ولا يتقبل خدمات تيخون.
وفي غضون ثمانية أيام، عاد إلى مألوف عاداته تستفزه حمى الإنشاء والغرس، لكنه لم يستعد علاقاته مع الآنسة بوريين. وكانت أماراته ولهجته الباردة التي يخاطب ابنته بها أشبه بالقول: «هل ترين؟ لقد رويت لأخيك الأكاذيب حول علاقاتي مع هذه الفرنسية وخاصمتني معه مع أنك ترين أنني لست في حاجة إليك ولا إلى الفرنسية.»
كانت ماري تقضي نصف يومها قرب نيكولا الصغير تراقب تثقيفه وتعطيه بنفسها دروسا بالروسية والموسيقى ، وتتباحث مع ديسال. أما بقية وقتها، فكانت تمضيه بالقراءة أو بمحادثات مع المربية العجوز و«رجال الله» الذين كانوا أحيانا يغامرون بالمجيء إلى مدخل الخدم لرؤيتها.
كانت تفكر في الحرب ما يدور في تفكير النساء، وكانت تخشاها من أجل أخيها الذي يساهم فيها، وتلعن، دون أن تتوصل إلى فهمها، قسوة الرجال التي تجرهم إلى التذابح. لكنها ما كانت تعرف أهمية الحملة التي لم تكن تبدو في نظرها مختلفة عن الحملات الأخرى. مع ذلك، فإن ديسال، محدثها المألوف، الذي كان يتابع سير العمليات باهتمام كبير، كان يحاول أن يفتح عينيها، وكذلك «رجال الله» كانوا - كل وعلى طريقته - يفسرون في حضرتها الشائعات الرائجة بين الشعب حول مجيء المسيح الدجال، وأخيرا جولي، التي استعادت اتصالها الخطي معها منذ زواجها، كانت ترسل إليها من موسكو مراسلات مطبوعة بوطنية مضطرمة. كانت تنبئها:
إنني أكتب إليك يا صديقتي الطيبة بالروسية؛ لأنني بدأت أحقد على كل الفرنسيين حقدي على لغتهم التي ما عدت أطيق سماعها ... إننا جميعا في موسكو شعلة حماس في سبيل إمبراطورنا المعبود.
إن زوجي المسكين يحتمل الجوع وكل أنواع المزعجات في مختلف الخانات اليهودية القذرة، لكن الأنباء التي أملكها لا تعمل إلا على زيادة حماسنا.
لا بد وأنك علمت بصنيع راييفسكي البطولي الذي عانق ولديه وقال لهما: «سأموت معهم، لكننا لن نتراجع!» وهكذا كان. فعلى الرغم من أن العدو كان ضعفي قوتنا، فإننا لن ننثني، إننا نقضي الوقت كما نستطيع، ولكن في الحرب نمضيه كما تتطلب الحرب! إن الأميرة آلين وصوفي تكرسان من أجلي أياما بطولها. إننا ونحن أرامل أزواج أحياء، نتحادث في موضوعات جميلة ونحن نشتغل بالنسيل ولا ينقصنا إلا أنت يا صديقتي ...
وإذا كانت أهمية هذه الحرب تغيب عن ماري، فما ذلك إلا لأن الأمير العجوز ما كان يتحدث عنها أبدا، متظاهرا بأنه يجهلها، مستهزئا بديسال كلما أدار هذا الحديث نحو هذا الموضوع على المائدة، وكانت لهجته بالغة الهدوء والثقة، حتى إن ماري ما كانت تحاول التعمق في الأمور.
بدا الأمير شديد النشاط خلال شهر تموز كله، بل وجم المشاغل، أمر بتخطيط حديقة جديدة وجناح إضافي مخصص للخدم، بيد أن ماري لاحظت بقلق أنه ينام قليلا، وأنه خلافا لعاداته كان يبدل كل ليلة الغرفة التي يأوي إليها. كان حينا يأمر بنصب سرير الميدان الذي ينام عليه في الرواق، وينام حينا آخر بثيابه كاملة على أريكة البهو أو على مقعد من طراز فولتير، ولم تعد الآنسة بوريين هي التي تقرأ له، بل الخادم الصغير بيتروشكا الذي يقوم بهذه المهمة، وكان أحيانا يقضي الليل في قاعة الطعام.
وصلت في الأول من آب رسالة ثانية من الأمير آندريه، كان في الأولى التي وصلت بعد ذهابه بوقت قصير، يطلب بخشوع صفح أبيه عما سمح لنفسه بقوله له، ويرجوه أن يرضى عنه؛ فأجابه الأمير العجوز بتودد، ولم يلبث أن تباعد عن الفرنسية. أما الرسالة الثانية التي كتبت في ضواحي فيتيبسك بعد احتلال تلك المدينة، فقد كانت تحوي على وصف قصير للمعركة مع مخطط بياني وبعض الآراء حول توسيع العمليات المقبلة. كان آندريه يلفت أنظار أبيه إلى ما في مستقره الحالي من موانع، بوصفه واقعا على مقربة من مسرح الحرب، وعلى خط مسير الجيوش، ويشير عليه بالذهاب إلى موسكو.
وفي ذلك اليوم بالذات، أخطره ديسال خلال وقت الطعام أنه تبعا للشائعات الرائجة؛ أصبحت فيتيبسك يحتلها الفرنسيون، وحينئذ تذكر الأمير رسالة ابنه. قال لماري: «لقد تلقيت منذ حين رسالة من الأمير آندريه. ألم تقرأيها؟»
أجابت وهي شديدة الجزع: «كلا يا أبي.»
وفي الواقع كيف يتسنى لها قراءة هذه الرسالة وهي التي لم تعلم بوصولها؟
قال الأمير بتلك الابتسامة المحتقرة التي باتت مألوفة لديه كلما تكلم حول هذا الموضوع: «إنه يتكلم عن هذه الحرب.»
فقال ديسال: «لا ريب أنها شديدة الأهمية، لا بد وأن الأمير قادر على معرفة الحقيقة وهو في مركزه ...»
وأعقبت الآنسة بوريين مؤيدة: «نعم، نعم، شديدة الأهمية.»
قال الأمير لهذه: «اذهبي وجيئيني بها، إنك تعرفين، على النضد تحت المثقلة.»
كادت الآنسة بوريين أن تندفع لتنفيذ رغبته وقد استخفها الفرح، لكن الأمير اكفهر وجهه فجأة وهتف: «كلا، كلا. اذهب أنت يا ميخائيل إيفانوفيتش.»
نهض ميخائيل إيفانوفيتش وذهب إلى المكتب، فلم يكد يدخله حتى كان الأمير العجوز يدير حوله نظرات قلقة، ثم يلقي بمنشفته ويتبعه. - «إن هؤلاء الناس لا يعرفون عمل شيء. لسوف يفسد كل شيء.»
وبينما هو يخرج راح ديسال والأمير والآنسة بوريين ونيكولا الصغير يتبادلون النظر دون أن ينطقوا بكلمة. عاد بخطى متلاحقة يصحبه نيكولا إيفانوفيتش ومعه الرسالة والمخطط، فوضعها جانبا ولم يسلمها إلى أحد قبل الانتهاء من الطعام.
ولما انتقلوا إلى البهو قدم الرسالة إلى ماري، ورجاها أن تقرأها بصوت عال، في حين راح ينشر أمامه مخطط بنائه الجديد. وبعد أن قرأت ماري الرسالة سألت أباها بنظرة: كانت عينا الأمير العجوز شاخصتين إلى المخطط أمامه وكأنه مستغرق في تأملاته.
سمح ديسال لنفسه بالسؤال: «ما رأيك في كل هذا يا أمير؟»
أجاب دون أن يرفع عينيه وكأنه يستفيق من حلم: «أنا، أنا؟» - «من الجائز أن يقترب ميدان المعركة منا ...»
فقال الأمير: «ها! ها! مسرح الحرب! لقد قلت وأكرر إن مسرح الحرب هو بولونيا، وإن العدو لن يتوغل أبدا إلى الأمام أكثر من النييمن.»
نظر إليه ديسال بذهول؛ إنه يتكلم عن النييمن في حين أن العدو بلغ الدنييبر، لكن ماري التي نسيت موقع هذا النهر الجغرافي الصحيح أيدت أقوال أبيها مؤمنة.
أضاف وهو يفكر بلا ريب في حملة عام 1807م التي كانت في نظره قريبة جدا: «عند ذوبان الثلوج سوف يغرقون كلهم في مستنقعات بولونيا. إن ما لا يستطيعون رؤيته هو أن بينيجسن كان عليه أن يدخل إلى بروسيا بسرعة، وحينئذ كانت الأمور ستأخذ شكلا آخر.»
اعترض ديسال بفزع: «ولكن يا أمير، إن الرسالة تتحدث عن فيتيبسك ...»
زمجر: «الرسالة؟ ... آه! نعم ... نعم ... نعم ...»
وفجأة اربد وجهه ثم أعلن بعد فترة صمت: «نعم، إنه يقول إن الفرنسيين قد هزموا، قرب أي نهر كان؟»
خفض ديسال عينيه وقال بلطف: «لم يكتب الأمير شيئا من هذا القبيل.» - «كيف لم يكتب شيئا من هذا القبيل؟ هل ابتكرته أنا؟»
صمتوا جميعا فترة طويلة، وفجأة استأنف الأمير مشيرا إلى المخطط وقد رفع رأسه: «نعم ... نعم ... هيا يا ميخائيل إيفانوفيتش، قل لي كيف تريد أن تشرع في التجديد ...»
اقترب ميخائيل إيفانوفيتش، وبعد أن تحادث الأمير معه حول البناء، ألقى نظرة غاضبة على ماري وديسال ثم انسحب.
لاحظت الأميرة ماري صمت ديسال المرتبك والطريقة التي نظر بها إلى أبيها، ولقد ذهلت؛ إذ رأت أن هذا قد نسي على المائدة رسالة الأمير آندريه، لكنها لم تجرؤ على سؤال المدرس عن أسباب سكوته وتشوشه؛ لأنها كانت تخشى التفكير في هذه الأمور.
وحوالي المساء، جاء ميخائيل إيفانوفيتش يسأله عن الرسالة موفدا من قبل الأمير، فأعطتها له ماري وسألته رغم ارتباكها عما كان يعمله أبوها.
أجاب المهندس بابتسامة شحب وجه ماري للسخرية الكامنة فيها وراء مظاهر الاحترام: «إنه كعادته يزعج نفسه كثيرا، إن البناء الجديد يسبب له متاعب جديدة.»
وأضاف ميخائيل إيفانوفيتش وهو يخافت من صوته: «لقد قرأ فترة، وهو الآن وراء مكتبه يعمل في وصيته بلا ريب.»
سألت ماري: «يبدو أنه يرسل ألباتيتش إلى سمولنسك.» - «نعم. وألباتيتش ينتظر أوامر الأمير منذ وقت طويل.»
الفصل الثالث
ذكريات كاتيرين
عندما عاد ميخائيل إيفانوفيتش بالرسالة، وجد الأمير جالسا أمام مكتبه المفتوح ونظارتاه فوق أنفه، وعلى جبينه عاكس نور، كان يقرأ أوراقا في يده على ضوء الشموع بوضع مسرحي تقريبا، وقد جعلها بعيدة عن عينيه بمسافة ما، وكانت تلك الأوراق هي «ملاحظاته» - كما كان يدعوها - التي يجب تسليمها إلى الإمبراطور بعد موته، وكانت عيناه تنديان بالدموع لذكرى الوقت الذي كتب فيه ما يقرؤه الآن.
أخذ الأمير بالرسالة فوضعها في جيبه، ونظم أوراقه، ثم استدعى ألباتيتش الذي كان ينتظر منذ وقت طويل.
كان قد دون على وريقة الأشياء التي يجب شراؤها من سمولنسك؛ فراح وهو يذرع الغرفة يلقي بأوامره إلى ألباتيتش المسمر على العتبة. - «أولا ورقا للرسائل، هل تسمع؟ مئتي ورقة وإليك نوعها: مذهبة عند أطرافها، مماثلة للأنموذج تماما. ثم طلاء وشمعا للختم حسب ملاحظة ميخائيل إيفانوفيتش.»
استشار المذكرة وهو في تسياره: «ثم تقدم بنفسك إلى الحاكم الرسالة المتعلقة بمذكراتي.»
كان يجب كذلك أن يحضر مزاليج لأبواب البناء الجديد مطابقة للنموذج الذي ابتكره الأمير تماما ، ثم محفظة خاصة ليضع فيها وصيته.
استمرت المقابلة أكثر من ساعتين دون أن يترك الأمير ألباتيتش يرحل، وأخيرا جلس واستغرق في أفكاره وأغمض عينيه واستسلم للنعاس، وحينئذ قام ألباتيتش بحركة. - «هيا، يمكنك أن تذهب، وإذا كنت لا أزال أحتاج إلى شيء أبلغك ما أريد.»
خرج ألباتيتش فعاد الأمير إلى مكتبه ليلقي عليه نظرة أخيرة، ثم أغلقه وجلس إلى طاولته حيث راح يكتب إلى الحاكم.
كان الوقت متأخرا عندما نهض بعد أن ختم رسالته. كان يتوق إلى النوم، لكنه كان يعرف أنه لن يستطيع النوم، وأن الأفكار الأشد سوادا تحاصره وهو في السرير. استدعى تيخون، وتجول معه في حجرات كثيرة بحثا عن مكان ينصب فيه سريره، فكان يأخذ قياس كل زاوية.
لم يعجبه مكان. كان يشعر بفتور شديد من فراشه القديم بسبب نوبات الأرق القاسية التي أصيب بها وهو راقد عليه، قرر أخيرا قبول ركن من مخدع وراء المعزف، وهو مكان لم ينم فيه من قبل.
جاء تيخون بالسرير يساعده خادم المائدة؛ فأقاماه هناك. صرخ الأمير وهو يبعد سريره بضعة أصابع ليعيده من فوره إلى حيث كان. - «ليس هكذا، ليس هكذا!»
حدث نفسه وهو يترك أمر نزع ثيابه لتيخون: «هيا، لقد سوي كل شيء الآن، لسوف أستطيع أن أنام.»
اقتضاه المجهود الذي أبداه لخلع «قفطانه» وسراويله أن يعجو وجهه، وأخيرا تهالك بتثاقل على السرير وألقى على ساقيه الهزيلتين الصغراوين نظرة احتقار. بدا كأنه يفكر، لكنه كان في الحقيقة يتردد في رفع ساقيه والاستلقاء على سريره فحسب، كان يحدث نفسه: «أوه! كم هذا منصب! أوه! لو أن كل هذه المنغصات تنتهي بسرعة! لو «أنكم» تستطيعون أن تتركوني أذهب!» وللمرة العشرين ألفا في حياته تقريبا قام بالمجهود المطلوب وهو يصرف على أسنانه. لكنه ما كاد يستلقي حتى راح سريره يتماوج ويتأرجح. كذلك كان الحال كل ليلة تقريبا. عاد ففتح عينيه نصف المغمضتين.
زمجر يخاطب مضطهديه الوهميين: «ألن تتركوني أنام أيها الملاعين؟! ... ولكن ماذا؟ لقد احتفظت بشيء ما مهم لأفكر فيه في السرير، شيء مهم جدا، المزاليج؟ كلا، لقد فكرت فيها ... إن الموضوع يتعلق بشيء وقع في البهو ... هل هو هذيان ماري؟ أم هو هذر هذا التافه ديسال؟ شيء ما في جيبي؟ لم أعد أتذكر ... تيخون، عن أي شيء تكلموا على المائدة؟» - «عن الأمير ميخائيل ...»
صرخ الأمير وهو يضرب المائدة بكف يده: «اصمت، اصمت. لقد وجدتها! رسالة الأمير آندريه، لقد قرأتها ماري علينا، وروى ديسال ما لست أدري عن فيتيبسك. يجب أن أقرأها الآن.»
أمر أن تعطى إليه الرسالة، وقرب النضد الذي كان كأس الليمون عليه إلى جانب شمعة على هدب حلزوني، ثم أحكم نظارتيه وشرع يقرأ، وحينئذ فقط، في هدأة الليل وتحت النور الضعيف الذي كان يعكسه عاكس أخضر، أدرك فجأة أهمية الأنباء التي تحملها الرسالة. - «إن الفرنسيين في فيتيبسك وهم يستطيعون أن يكونوا في سمولنسك في أربع مراحل، بل ولعلهم هناك الآن! تيخون!»
وانتصب تيخون منتفضا: «كلا، لا جدوى ...»
دس الأمير الرسالة تحت الشمعدان، وأغلق عينيه. شاهد أمامه الدانوب ظهر يوم مشع والقصب والمعسكر الروسي ونفسه، وهو جنرال شاب حينذاك، دون غضن، متيقظ بهيج النفس نضر، يدخل في خيمة باتيومكين
1
المرقشة، وفجأة استبد به شعور بالغيرة من ذلك المفضل كاو ومحتدم كما كان حينذاك. تذكر الكلمات التي تبادلاها أثناء تلك المقابلة، وفجأة، انبعثت في ذاكراته، امرأة قصيرة القامة قوية ممتلئة الوجنتين صفراء اللون، هي أمنا الإمبراطورة، ومثلت أمام عينيه: إنه يراها من جديد وهي تبتسم له، ويسمعها من جديد توجه إليه كلمات ترحيب لطيفة، ثم راح يتذكر ذلك الوجه نفسه على النعش المزين والجدال الذي وقع بينه وبين زوبوف
2
حول حق تقبيل يد الإمبراطورة. - «آه! ليتني أستطيع العودة إلى ذلك الوقت، ليت الحاضر يمكن اختفاؤه بأقصى سرعة، وليتهم فقط يدعونني بسلام!»
الفصل الرابع
استسلام سمولنسك
كانت ليسيا جوري واقعة على مسافة خمسة عشر ميلا وراء سمولنسك وثلاثة أرباع الميل عن طريق موسكو.
مساء ذلك اليوم الذي أعطى فيه الأمير تعليماته إلى ألباتيتش سأل ديسال الأميرة ماري أن تمنحه مقابلة عرض عليها خلالها أن صحة الأميرة لا تسمح له بأن يتخذ التدابير لأمنهم، كما وأن رسالة الأمير آندريه من جهة ثانية تلمح إلى أن البقاء في ليسيا جوري يشكل خطرا ما. وطلب إليها باحترام أن يستفسر لدى حاكم المقاطعة عن الموقف الحقيقي وعن الخطر الذي يتعرضون له ببقائهم في الريف. ولقد كتب ديسال الرسالة التي وقعتها ماري وأعطيت إلى ألباتيتش مشفوعة بأمر تسليمها إلى الحاكم بالذات، والعودة بأسرع ما يمكن إذا اقتضت الضرورة الإسراع.
راح ألباتيتش وعلى رأسه قبعة من جلد كلب الماء كانت هدية من سيدة، وبيده عصا، على غرار الأمير كلما أراد الخروج، يستعد مع نفر من العاملين في البيت لركوب عربة صغيرة ذات غطاء من الجلد يجرها ثلاثة جياد أقوياء.
ولقد ربطوا الجريس ولفوا الجلاجل بالورق؛ لأن الأمير ما كان يسمح لأحد باستعمالها في أراضيه، وكان ألباتيتش يحب سماع أصواتها كلما ذهب برحلة طويلة، وكان مقربوه: المحاسب والكاتب والطاهية ومساعدها وامرأتان عجوزان والقوقازي الصغير وسائقو العربة وبعض الخدم الآخرين، يرافقونه.
ووضعت ابنته على مقعدها ومسنده وسائد مختلفة ودست أخت زوجه العجوز بينها رزمة خلسة، بينما ساعدها أحد السائقين على الصعود وهو يرفعها من تحت إبطها. زمجر ألباتيتش وهو يقلد لهجة سيده: «آه! آه من استعدادات النساء! آه! النساء، النساء!»
ثم اتخذ مكانه في العربة وهو ينفخ ويزمجر.
وبعد أن أرشد رئيس المكتب كما يجب إلى موضوع الأعمال الدارجة، نزع ألباتيتش قبعته عن رأسه الأصلع، ودون أن يقلد سيده هذه المرة رسم على صدره إشارة الصليب ثلاثا.
هتفت به زوجته وهي قلقة من الشائعات الرائجة حول اقتراب العدو: «إذا وقع شيء ما ... ستعودون فورا، أليس كذلك يا أياكوف ألباتيتش؟ ... بحق السماء أشفق علينا.»
غمغم ألباتيتش بينما راحت العربة تدرج: «آه! النساء! إن المرء لا ينتهي أبدا معهن.»
أخذ طوال الطريق يمنع الطرف تارة بالشيلم الآخذ بالنضوج، وطورا بالخرطال الأخضر الكثيف، وبالحقول التي لا زالت سوداء لم تفلح إلا للمرة الثانية تارة أخرى. كان يتأمل موسم حنطة الربيع المقبل، ويمعن النظر في خطوط الشيلم الذي حصد بعضه هنا وهناك، ويبدي ملاحظاته حول البذار والمواسم المقبلة، ويتساءل عما إذا لم ينس مطلبا لسيده.
وبعد أن علف خيوله مرتين في الطريق، وصل إلى المدينة مساء الرابع من آب.
كان قد تجاوز في طريقه بعض القوافل والقطعات، فلما اقترب من سمولنسك سمع طلقات بعيدة، لكنه لم يلق إليها بالا. بيد أن ما أدهشه أكثر فأكثر كان رؤيته حقلا بديعا من الخرطال كان الجنود يعسكرون فيه ويحصدون زروعه لإطعام خيولهم ولا ريب. على أية حال لقد كانت مهمته تشغل جل تفكيره؛ مما لم يجعله يتوقف عند هذه البادرة متأملا. كان ألباتيتش منذ ثلاثين عاما لا يعرف إلا إرادة الأمير، فلم يكن أفقه ليمتد إلى أبعد من تلك الإرادة، فكان كل ما ليس له علاقة بتنفيذ أوامر سيده لا يثير اهتمامه، بل إنه ما كان موجودا أصلا بالنسبة إليه.
ذهب ألباتيتش تبعا لعادة أصبحت ثلاثينية، ينام في ضاحية جاتشا على الجانب الآخر من الدنييبر في خان يديره من يدعى فيرابونتوف. قبل ثلاثين عاما مضت اشترى فيرابونتوف هذا - تبعا لمشورة ألباتيتش - أخشابا من الأمير راح يتجر بها، فأصبح يمتلك الآن بيتا وخانا ومخزنا لبيع الدقيق، وكان رجلا ضخم الجسم أحمر الوجه في نحو الخمسين من عمره ذا شعر أسود وشفتين غليظتين وأنف كأنه قطعة من البطاطا وحدبتين فوق حاجبيه الكثيفين الأشعثين وبطن عظيم.
كان ذلك المساء في دكانه يرتدي صدرة فوق ذراعيه من قماش هندي؛ فلما شاهد ألباتيتش تقدم لاستقباله وقال له: «أهلا وسهلا بأياكوف ألباتيتش. إن الناس يغادرون المدينة بينما أنت تدخلها.» - «يغادرونها؟ لماذا؟» - «لسخفهم، ماذا؟! إنهم جميعا خائفون من الفرنسيين.» - «ترهات نساء مسنات!» - «وهذا ما أظنه يا أياكوف ألباتيتش، طالما أن الأمر ينص على عدم السماح لهم بالدخول، فليس هناك ما يخيف، أليس كذلك؟ ... وها إن جماعتنا يندفعون في طلب ثلاثة روبلات لقاء العربة العادية، هؤلاء الملحدين، إنهم لا يخجلون!»
كان أياكوف ألباتيتش يصغي إليه بأذن ساهمة. طلب سماورا وعلفا لخيوله، وبعد أن شرب الشاي أوى إلى سريره.
ظلت قطعات تمر أمام الخان طيلة الليل. وفي الصباح، ارتدى ألباتيتش ثياب المدينة ومضى إلى أعماله، وكان الصباح مشمسا والحرارة مرتفعة في الثامنة صباحا. حدث ألباتيتش نفسه: «طقس جميل جدا للحصاد.»
تناهت إلى الأسماع طلقات بنادق كثيرة اتحد معها منذ الساعة الثامنة قصف المدفعية، وكانت الشوارع مليئة بالجنود والناس في حمى العجلة، لكن العربات كانت كعادتها تسير في الشوارع والدكاكين مفتوحة والقداس يقام في الكنائس، دخل ألباتيتش إلى بعض الدكاكين والمكاتب، ومضى إلى إدارة البريد فكانوا يتحدثون عن الحرب وعن العدو الذي يهاجم المدينة، والناس كلهم يتساءلون عما يجب عمله، وكل يحاول بعث الطمأنينة في نفس جاره.
اصطدم ألباتيتش أمام مقر الحاكم بعدد كبير من الناس، وكانت فرقة من القوقازيين تحيط بعربة سفر ذلك الموظف الكبير. وعلى المرقاة التقى باثنين من أثرياء الريف؛ كان أحدهما - وقد عرف فيه ألباتيتش رئيس بوليس منطقتهم سابقا - يتكلم بحرارة. - «لم يعد الموضوع يحتمل المزاح يا رجل! إن الأمر أكثر يسرا بالنسبة إلى من ليس لديه إلا نفسه ينقذها؛ فلو حط البلاء عليه لما تألم أحد غيره، ولكن عندما يكون لدى المرء ثلاثة عشر شخصا هم أعضاء أسرته، ويتوجب عليه كذلك أن ينقذ ما يستطيع إنقاذه! ... هل سمع الناس برؤساء مماثلين؟ لقد اتخذوا احتياطاتهم بكل دقة، حتى إننا قضي علينا جميعا ... كان يجب شنقهم هؤلاء الآثمين!»
وكان الآخر يقول: «هيا، هيا، استكن!» - «إيه! ليسمعني من يشاء، لست أبالي! إننا لسنا كلابا على أية حال!»
كان رئيس الشرطة السابق يتفوه بهذه الكلمات مستغربا، وبينما هو يلتفت شاهد ألباتيتش فهتف: «آه ياه! أياكوف ألباتيتش! ماذا تفعل هنا؟»
أجاب ألباتيتش وهو منتفخ الأوداج وإحدى يديه في فتحة ثوبه الخارجي، وهي وضعية يلجأ إليها كلما كان الكلام يدور حول سيده: «لقد جئت بناء على أمر سموه لرؤية سيدي الحاكم ... لقد تفضل سموه فأرسلني لأستفسر عن الوضع.»
صرخ الثري الريفي: «الوضع؟ إنه جميل! لقد تصرفوا بشكل لم يبق معه عربات ولا أي شيء.»
ثم استرسل وهو يشير إلى الاتجاه الذي تنبعث منه طلقات البنادق: «خذ، ها هم أولاء، هل تسمع؟ وبفضل هؤلاء السادة الرائعين سوف نذهب كلنا إلى الجحيم! ...»
وكرر وهو يهبط المرقاة: «عصابة سفاكين!»
هز ألباتيتش رأسه وصعد السلم. كان في الردهة جماعة من التجار والنساء والموظفين يتبادلون النظر صامتين، وفتح باب المكتب فنهض الموجودون كلهم وتقدموا. خرج موظف متعجلا وتبادل كلمات مع تاجر، ثم استدعى مستخدما ضخما كان يحمل وساما حول عنقه، وزاغ من فوره من دائرة نيران الأبصار المتقاطعة والأسئلة. دفع ألباتيتش نفسه إلى الصف الأول، ولما بدا الموظف مرة أخرى، مد له يدا بالرسالتين وهو يدفع بالثانية في شق ثوبه الخارجي، وقال بصوت بلغ من جلاله وتسلطه حدا لم ير الموظف بدا من أن يأخذ منه رسالتيه: «إلى سيدي البارون آسش، من قبل الجنرال الأعلى الأمير بولكونسكي.»
وفي غضون بضع دقائق، استقبل الحاكم ألباتيتش، وأعلن وهو يدندن: «قل للأمير والأميرة إنني لم أكن على علم بشيء، وإنني تصرفت حسب أوامر عليا ...»
وأضاف وهو يمد إليه ورقة: «خذ هذا، على أية حال، إنني أشير على الأمير أن يمضي إلى موسكو طالما أنه مريض. إنني ذاهب بنفسي في هذه اللحظة. قل له ...»
ولم يستطع الحاكم أن يتم جملته. دخل ضابط غارق في عرقه يغطيه الغبار، واندفع إلى الحجرة معلنا له بالفرنسية نبأ جعله يشحب من الفزع. قال لألباتيتش وهو يصرفه بإشارة من رأسه: «اذهب.»
وراح يستجوب الضابط.
راحت نظرات متعطشة إلى الأنباء يقلقها الفزع والعجز تستفسر ألباتيتش عند خروجه من المكتب. اندفع الرجل إلى الخان مسرعا وهو يصيخ السمع رغما عنه إلى طلقات الرصاص القريبة الآخذة بازدياد. كانت الورقة التي يحملها من الحاكم تحوي على الأسطر التالية:
أستطيع أن أؤكد أن مدينة سمولنسك لا تتعرض لأي خطر، وإن من المشكوك فيه أن تهدد أبدا. إن الأمير باجراسيون من جهة وأنا من الجهة الأخرى نمشي لنربط قواتنا ببعضها أمام سمولنسك، وسيقوم الاتصال في الثاني والعشرين من الشهر الحالي، وسيدافع الجيشان بعد ضم مجموع قواهما عن مواطنيهما في الإقليم الموكل إليك حتى تبعد جهودهما العدو عن الوطن، أو تبيد صفوفه وفيرة العدد إلى آخر جندي، فأنت إذن كما ترى مطلق الحق في طمأنة سكان سمولنسك؛ لأنهم عندما يكونون محميين من قبل جيشين على هذا الجانب من البسالة، فإنهم يستطيعون أن يكونوا واثقين من النصر.
أمر يومي من باركلي دوتوللي إلى حامل سمولنسك المدني البارون آسش 1812م
كان الشعب يتزاحم في الشوارع وهو فريسة القلق.
وكانت عربات محملة بالآنية والكراسي والصناديق تخرج في كل لحظة من أروقة المنازل، وأمام البيت الذي بالقرب من مسكن فيرابونتوف، وقفت عربات تحمل أثاثا ونساء يتوجعن وعبارات الوداع ترتفع مزمجرة، بينما راح كلب ينبح بين قوائم الخيول.
دخل ألباتيتش بخطوات أسرع من المألوف إلى المرآب الذي أودع فيه عربته وجياده، وكان الحوذي نائما فأيقظه وأمره بأن يجهز عربته، ثم مضى إلى البيت. تناهت إلى أسماعه من غرفة المدير أصوات بكاء أطفال ونحيب نساء يفتت الأكباد، وصوت فيرابونتوف الغاضب الأبح، وعندما دخل ألباتيتش كانت الطاهية تجري في الدهليز كالدجاجة المذعورة. - «لقد ضربها، السيدة، لقد ضربها حتى الموت! ... آه! المسكينة، كم ضربها وكم جرها!»
استفسرها ألباتيتش: «ولماذا؟» - «لأنها سألته الذهاب. إنها امرأة وهذا يفهم تماما. «خذني، لا تدعني أموت مع أطفالي؛ لأن كل الناس يذهبون، فماذا تنتظر؟» هذا كل ما قالته له، فراح يضربها. آه! كم ضربها وكم جرها!»
هز ألباتيتش رأسه بحركة نصف مؤيدة وتوجه نحو الغرفة المقابلة لغرفة المدير وهو قليل الرغبة في الاستزادة من المعلومات، وكان قد أودع مشترياته تلك الغرفة.
وفي اللحظة نفسها، أفلتت من الغرفة امرأة شاحبة ممتقعة تحمل طفلا على يديها وقد تمزق شالها، واندفعت نحو السلم المؤدي إلى الفناء وهي تصيح: «سفاك! قاتل!»
وخرج فيرابونتوف بدوره، فلما رأى ألباتيتش أعاد النظام إلى صدرته وشعره وتثاءب ثم راح يقفو أثره. سأله: «هل عزمت على الرحيل؟»
استفسره ألباتيتش دون أن يجيبه أو حتى أن ينظر إليه، عن المبلغ الذي يدين به إليه، واستمر يجمع مشترياته. - «لن نختلف ... ولكن قل لي: هل رأيت الحاكم؟ ماذا قرروا؟»
أجاب ألباتيتش أن الحاكم لم يجبه إجابة صريحة. - «هل يمكن نقل أشياء كأشيائي أنا؟ إنهم يسألون سبعة روبلات على كل عربة إلى دوروجوبوج فقط، يا للكفرة! لقد كان سيليفانوف مجدودا، لقد باع منذ يوم الخميس دقيقه إلى الجيش لقاء تسعة روبلات للكيس الواحد ... سوف تتناول الشاي على أية حال.»
وبينما كانوا يقطرون الخيول راح الصديقان يشربان الشاي وهما يحاضران عن أسعار الحنطة والحاصلات الزراعية والوقت المناسب للحصاد.
قال فيرابونتوف وقد نهض بعد أن احتسى أقداحه الثلاثة: «يعتقد أن الهدوء قد خيم، يظن أن الغلبة لرجالنا، لقد صدقونا القول عندما أكدوا أنهم لن يدعوهم يدخلون. إننا الأكثر قوة، أليس كذلك؟ ... يبدو لي أن ماتفي إيفانوفيتش بلاتوف قد ألقى بهم ذلك اليوم إلى مارينا، ولقد غرق على ما رووا ثمانية عشر ألفا في يوم واحد.»
جمع ألباتيتش مشترياته وأعطاها إلى الحوذي الذي دخل في تلك اللحظة، ثم سوى حسابه مع صاحب الخان، وأمام الباب الخارجي سمعت أصوات العجلات ووقع الحوافر ودندنة الجلاجل؛ إذ كانت العربة حينذاك تخرج من الفناء.
كان بعد الظهر قد أوغل في التقدم والظل يغمر نصف الشارع، وبينما النصف الآخر تضيئه الشمس بقوة، ألقى ألباتيتش نظرة من النافذة وخرج، وفجأة سمع على البعد صفير غريب لم يلبث بعده أن دوت زمجرة المدافع متطاولة حتى اهتز لها الزجاج.
وبينما كان ألباتيتش يصل إلى الشارع مر رجلان يركضان باتجاه الجسر، وراح الصفير ينبعث من نواح مختلفة وصوت القذائف المكتوم وانفجار القنابل. بيد أن هذا الضجيج ما كان يجتذب انتباه السكان بمثل ما يجتذبه قصف المدافع الذي بات مستشريا حول المدينة. لقد شرعت مائة وثلاثون قطعة مدفعية بقصف مدينة سمولنسك بناء على أمر نابليون منذ الساعة الخامسة، إلا أن سكان المدينة لم يدركوا للوهلة الأولى مدى الخطر .
أيقظ سقوط القنابل والقذائف بادئ الأمر فضول السكان، صمتت زوجة فيرابونتوف فجأة وهي التي ظلت حتى تلك اللحظة تتوجع في المرآب، ومضت إلى الباب الخارجي وطفلها على ذراعيها، ووقفت هناك لا تحير ولا تنظر إلى الجمهور بعينين شاخصتين، وتصيخ السمع إلى الضجيج.
وجاء مستخدم الدكان والطاهية يلحقان بها، وراحوا جميعا يحاولون رؤية المقذوفات التي كانت تمر فوق رءوسهم بفضول مفرط، وعند زاوية الشارع ظهر بعض الأشخاص يتداولون بحميا. كان أحدهم يقول: «كم هو قوي! فالسطح والسقف كل منهما أصبح حطاما.»
وكان الثاني يقول وهو يضحك: «إنه يحرث الأرض كالخنزير بخطمه، إنه عمل جميل يجعل القلب يهبط إلى البطن، لو أنك لم تقفز جانبا لسوى أمرك!»
راح هؤلاء يروون لأشخاص استوقفوهم كيف أن القنابل سقطت على دورهم قريبة منهم. وفي تلك الأثناء استمرت المقذوفات بوشوشة مقتضبة محزنة والقذائف بصفير مقبول تطير فوق الرءوس دون أن تسقط إحداها في الأمكنة المجاورة. صعد ألباتيتش إلى عربته يشيعه مضيفه.
صرخ هذا بالطاهية ذات «التنورة» الحمراء التي ذهبت إلى زاوية الشارع لتصغي إلى ما يقولون، وقد شمرت عن ساعديها، وأثبتت قبضتيها على وركيها: «ألم تفرغي من «البصبصة»؟ ألم تري بعد شيئا؟»
وكانت هذه تقول: «هل مثل هذه الأشياء ممكنة بالله؟»
لكنها عندما سمعت صوت سيدها عادت وهي تجر «تنورتها» المشمرة.
ومن جديد، سمع صفير قريب هذه المرة، ثم كالعصفور الذي يهوي فجأة انبعث بريق وسط الشارع أعقبه زمجرة انفجار وزوبعة دخان حجبت كل ما يجاورها.
وصرخ صاحب الخان وهو يهرع لنجدة الطاهية: «ألن تنتهي؟! يا للإجرام!»
وبنفس اللحظة، ارتفعت صيحات نساء معولة من جهات مختلفة، وراح الطفل الصغير يبكي مروعا، واجتمع حشد من الناس الصامتين ممتقعي الوجوه حول الطاهية التي كانت زمجراتها وصيحاتها تطغى على كل ضجيج: «أوه! أوه! يا أصدقائي الطيبين، يا حماماتي لدى الرب الكريم! لا تدعوني أموت! أوه! أوه! يا أصدقائي الطيبين! ...»
وفي غضون خمس دقائق، لم يبق أحد في الشارع، ونقلت الطاهية التي حطمت شظية القنبلة أحد أضلاعها إلى المطبخ، أما ألباتيتش وسائقه وزوجة فيرابونتوف وأولادها وخادم الإصطبل، فقد لجئوا إلى القبو وراحوا يصيخون السمع. وكانت صيحات الطاهية تطغى على دوي المدافع وصفير القنابل اللذين لم يتوقفا قط. وكانت زوجة صاحب المنزل تهدهد طفلها وتهدئه تارة، وطورا تسأل كل وافد بصوت من اعتاد الأنين، أنباء عن زوجها الذي بقي في الخارج؛ فأبلغها مستخدم الدكان أن زوجها اتبع الجمهور الذي ذهب إلى الكاتدرائية؛ حيث عمدوا إلى رفع عذراء سمولنسك صاحبة المعجزات.
صمتت المدافع عند الغسق، فخرج ألباتيتش من القبو ووقف على العتبة، كانت السماء المضيئة منذ حين قد أظلمت بفعل الدخان الكثيف الذي راح هلال القمر الجديد المرتفع عند الأفق يلقي خلاله ضياء غريبا. أعقب صمت حزين ورعود فوهات النار، لم تعكره إلا أصوات خطى مكتومة وزمجرات وصيحات بعيدة، والطقطقة التي تنجم عن الحرائق، وكفت الطاهية عن إرسال أناتها، وراحت أعمدة من الدخان الأسود تعصف ذات اليمين وذات الشمال، والجنود التابعون لمختلف الأسلحة يفرون في مختلف الاتجاهات، حتى ليقال إنهم مملكة نمل مدمرة. دخل بعضهم فناء بيت فيرابونتوف في حين مضى ألباتيتش إلى الباب الخارجي، فإذا بفوج كامل يتقهقر في فوضى شاملة.
صاح به ضابط لمح شبحه وهو في طريقه: «اذهب، اذهب بأكثر سرعة؛ فالمدينة تستسلم.»
وأضاف مخاطبا رجاله: «وأنتم، سأعلمكم كيف تدخلون الأفنية!»
عاد ألباتيتش إلى النزل وصرخ بحوذيه أن يتأهب للرحيل. ولقد غامر عدد من آل فيرابونتوف ومستخدميه فخرجوا في أعقاب الرجلين، ولما رأت النساء الدخان وألسنة اللهب التي باتت أكثر ظهورا في الليل، رحن يطلقن شكاواهن بعد أن لبثن صامتات حتى ذلك الحين، فردت نساء أخريات بالمثل من طرفي الشارع. وكان ألباتيتش وحوذيه يحاولان تحت الطنف أن يخلصا بأيديهما المرتعدة الصروع والمجار المتشابكة.
ولما خرجت العربة إلى الشارع، شاهد ألباتيتش في دكان فيرابونتوف المفتوحة حوالي عشرة جنود يتنادون بصوت مرتفع، ويملئون أكياسهم بالدقيق وحب دوار القمر. وفي تلك اللحظة بالذات عاد فيرابونتوف من الخارج، ولما شاهد الجنود كاد أن يطلق صرخات، لولا أنه فجأة أمسك بشعره بقبضتيه وراح يطلق ضحكة مشفوعة بالنحيب.
زمجر وهو يمسك بنفسه الأكياس ليلقي بها إلى الشارع: «خذوا كل شيء أيها الفتيان! لا تتركوا شيئا لهؤلاء الشياطين!»
لاذ بعض الجنود المذعورين بالفرار، بينما استمر الآخرون يملئون أكياسهم ، ولما شاهد ألباتيتش صاح فيرابونتوف: «ضاعت روسيا، ضاعت! ... سأضرم النار في كل مكان ...»
وأخذ يردد وهو يندفع في الفناء: «ضاعت روسيا! ...»
سدت موجات الجنود المستمرة الشارع في وجه ألباتيتش، فلم يستطع التقدم، وكانت زوجة فيرابونتوف محمولة فوق عربة مع أطفالها تنتظر أن يتسنى لها المرور.
كان الظلام قد خيم تماما، وهلال القمر يرى في السماء ذات النجوم خلال ستر من الدخان، وفي المنحدر إلى الدنييبر اضطرت العربتان اللتان كانتا تتبعان رتل العربات والجنود بمشية بطيئة؛ إلى التوقف من جديد. كانوا في ضاحية اشتعلت النيران في بيت ودكاكين غير بعيدة وراحت تحترق، وكان اللهب يخبو تارة ويضيع في سحابة سوداء من الدخان، وطورا يلمع من جديد فيضيء وجوه الأشخاص المتدافعين عند الناصية بوضوح خيالي. وراحت أشباح سوداء تمر أمام المحرق وصيحات وخطى وأصوات ترتفع خلال طقطقة الحريق المتواصلة. ترجل ألباتيتش، ولما رأى أن الطريق لن يخلو في برهة وجيزة؛ تسلل إلى الشارع ليتأمل الكارثة عن قرب. وكان الجنود يغدون ويروحون أمام المحرق، فشاهد اثنين منهم يساعدهم رجل ذو معطف من نسيج خشن، يجرون أعمدة محترقة إلى فناء مجاور، في حين راح آخرون يأتون «بأغمار» من القش.
اقترب ألباتيتش من جمهرة كبيرة وقفت أمام مستودع ضخم كانت النار فيه على أشدها، والجدران كلها تحترق، في حين أخذ الجدار الخلفي ينهار، وتهاوى السقف ذو الألواح الخشبية الرقيقة، وراحت الأخشاب تلتهب، بينما بدت الجماهير كأنها تنتظر أن يشمل الانهيار كل شيء، فانضم ألباتيتش إليها.
صاح به فجأة صوت معروف: «ألباتيتش!»
أجاب وقد عرف فجأة صوت سيده الشاب: «يا صاحب السعادة!»
كان الأمير آندريه متشحا بمعطف ممتطيا صهوة جواد أدهم، ينظر إليه من فوق رءوس الجماهير.
سأله: «ماذا تعمل هنا؟» - «صاحب ... صاحب ... السعادة ...»
وانخرط ألباتيتش في البكاء: «يا صاحب ... يا صاحب ... هل ضعنا حقا؟ آه! أبانا ...»
كرر الأمير آندريه: «ماذا تفعل هنا؟!»
كشف التماع مفاجئ من اللهب لعيني ألباتيتش وجه الأمير الشاب الشاحب المتقلص. روى له كيف أرسل إلى سمولنسك والعقبات التي صادفها في طريق العودة، ثم سأله مرة أخرى: «قل لي يا صاحب السعادة، هل ضعنا حقا؟»
ودون أن يجيبه أخرج الأمير آندريه دفيتره، فانتزع منه صفحة، وكتب مستندا إلى ركبته الكلمات التالية بالقلم الرصاص موجهة إلى أخته:
إن سمولنسك تستسلم، سوف يحتل العدو ليسيا جوري قبل ثمانية أيام. اذهبوا من فوركم إلى موسكو. أعلميني عن تاريخ رحيلكم بإرسال رسول سريع إلى «أوسفياج» فور استلامك هذه الأسطر.
وبعد أن سلم الرقعة إلى ألباتيتش أنهى إليه تعليماته شفهيا حول سفر الأمير وأخته وابنه والمدرس والطريقة التي ينهون إليه فيها جوابا سريعا. ولم يكد يفرغ من حديثه حتى اندفع نحوه ضابط من الأركان تصحبه حاشية، هتف القادم الذي عرفه آندريه من لهجته الألمانية: «أنت زعيم؟! إنهم يشعلون الحرائق بحضورك وتدعهم يفعلون! ما معنى هذا؟ سوف تسأل عن هذا ...»
كان ذاك هو بيرج، نائب القائد الأعلى للجناح الأيسر لمدفعية الجيش الأول، وهو «مركز مستحب جدا ومرموق» كما كان يقول.
نظر إليه الأمير، ودون أن يتنازل بالرد عليه، أنهى حديثه إلى ألباتيتش: «وهكذا إذن ستقول إنني أنتظر ردا حتى غاية العاشر من هذا الشهر، فإذا لم أتلق حتى ذلك التاريخ جوابا يشعر بأن كل من في ليسيا جوري قد ارتحلوا؛ فإنني سأترك كل شيء وأحضر بنفسي إلى هناك.»
قال بيرج، الذي عرفه حينذاك: «إذا كنت أحدثك على هذا النحو يا أمير، فما ذلك إلا لأن علي أن أنفذ الأوامر، وأنا أنفذها دائما بكل دقة ... اعذرني أرجوك.»
ارتفع صوت أشياء تتحطم بين اللهب الذي بدا وكأنه خبا، وراحت عواصف من الدخان الأسود من السقف، وبعد دوي فظيع انهار جانب كبير من البناء.
زمجر الجماهير مستقبلة انهيار سقف المخزن: «بو ... وم! ...»
وانتشرت رائحة خبز محروق، ثم انبعث اللهب فأضاء وجوه النظارة المنهكة ولكن القريرة.
هتف الرجل ذو المعطف الخشن وهو يرفع ذراعيه في الهواء: «مرحى، إنه يزداد اشتعالا. مرحى أيها الفتيان!»
وقالت الأصوات: «إنه المالك نفسه.»
سأل الأمير آندريه ألباتيتش: «إذن، مفهوم؟ كرر لهم هذا القول كما رويته لك ...»
ودون أن يعير بيرج الواقف إلى جانبه صامتا، التفاتا، دفع حصانه واختفى في الشارع الضيق.
الفصل الخامس
رسالة باجراسيون
بعد سمولنسك، ظلت قواتنا تتراجع تحت ضغط العدو. وفي العاشر من آب كان الفوج الذي يقوده الأمير آندريه يمر بالطريق الكبير قرب الممشى المؤدي إلى ليسيا جوري، وكان الجفاف والحرارة مستمران منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، والغيوم الكبيرة البيضاء تجري على أديم السماء نهارا أشبه بقطيع الخراف لتتبدد قبل المساء، وتختفي الشمس بين أبخرة سمراء تشوبها الحمرة، فكان ندى الليل السخي وحده يرطب الأرض، أما القمح الذي لا زال فوق سوقه، فكان يحترق وتنفرط سنابله، والمستنقعات تجف والقطعان تجأر من الجوع ولا تجد في المروج المتفحمة شيئا تأكله، وكانت الرطوبة تهبط ليلا في الغابة وتستمر ما استمر الندى. أما على الطريق الذي كان الجيش العرم يسلكه، فإن تلك الرطوبة لم يكن لها وجود حتى أثناء اجتياز الغابات؛ لأن الندى كان يختفي هناك وسط الغبار الذي تنشره الخطى عاصفا إلى ارتفاع أكثر من نصف قدم. كانوا يبدءون السير منذ الصباح الباكر والقوافل والمدفعية المتقدمة دون جلبة تغوص حتى محاور العجلات، والرجال حتى الكعاب في ذلك الغبار الرخو الخانق الذي ما كان يبرد حتى في الليل، والذي يرتفع ما لم يخف منه بالأقدام والعجلات على شكل سحابة كثيفة فوق القطعات، فيتخلل العيون والشعر والآذان والأنوف، وبصورة خاصة رئات الرجال والجياد. وكلما ازداد ارتفاع الشمس عن الأفق، ازداد هذا الستار كثافة حتى ليسمح للعين المجردة أن تحدق في الشمس التي تبدو خلاله أشبه بكتلة كبيرة قانية، ولم تكن نأمة ريح لتهب على ذلك الجو الساكن الذي يكاد الرجال أن يختنقوا فيه، فكان يتوجب السير والمنديل فوق الأنف والفم. وعندما يجتازون قرى كانوا يتهافتون إلى الآبار ويتدافعون للحصول على الماء الذي يمضون في نضحه حتى يخلفوا الطين وحده.
وكان الأمير آندريه مستغرقا بكليته في قيادة فوجه ومشاغل راحة رجاله وضرورة تلقي الأوامر وإصدارها، ولقد وسم حريق سمولنسك والانسحاب منها تلك الحقبة من حياته بميسم لا يبلى ، وأخذ شعور جديد بالحقد على العدو يعتلج في نفسه وينسيه همه، كان يستسلم إلى مشاغله بكليته، ويظهر حيال ضباطه وجنوده مفعم النفس بالأنس والترفق، فكانوا يسمونه «أميرنا»، ويحبونه ويفخرون به، وكان عطفه وحسن التفاتته مقتصرين على رجال فوجه ورجال تيموخين وغيرهم ممن هم جديدون كل الجدة عليه، تابعون لوسط آخر لا يقدرون على معرفته ولا فهم ماضيه، لكنه ما إن يلتقي بمن هم من وسط القديم أو بواحد من السادة التابعين للأركان، حتى ينفر فجأة ويصيح سريع الغضب مستهزئا متعاليا، كان كل ما يذكره بحياته السابقة ينفره. مع ذلك، فقد كان في علاقاته مع أشخاص عالمه يتحرى حدود الواجب والعدالة الأكثر دقة وتمحيصا.
والحق يقال، إن كل شيء بات يمثل لعينيه تحت أكثر الألوان حلكة، وبصورة خاصة منذ السادس من آب، يوم مغادرة سمولنسك التي - بحسب رأيه - كان يمكن ويجب الدفاع عنها، ومنذ أن اضطر أبوه المريض إلى الفرار إلى موسكو تاركا ليسيا جوري العزيزة عرضة للسلب والنهب، بعد أن نظمها وعني بها وأقام فيها الأبنية على أفضل وجه، لكن فوجه كان هذه المرة أيضا بمثابة محول لانشغالاته الكئيبة. وفي العاشر من آب وصل الرتل الذي كان فيه حذاء ليسيا جوري، وقد تلقى قبل يومين نبأ مفاده أن أباه وأخته وابنه غادروها إلى موسكو، وعلى الرغم من أنه لم يكن لديه ما يفعله هناك، فقد قرر أن يمر بالمكان؛ لأنه كان من أولئك الذين لا يتركون فرصة بعث أحزانهم وإذكائها تمر دون انتهازها.
أمر أن يسرج جواده، ومضى من نقطة الحلول إلى الأرض القديمة التي ولد فيها وأمضى صباه، وبينما هو يسير على طول المستنقع الذي درجت العادة على أن يجتمع حوله ثول من النساء بين غاسلات وضاربات بالمخياط ألبستهن وهن يثرثرن، لاحظ أن رمث الغسلات المفصول عن الشاطئ ونصف الغائص في الماء، عائم وسط المستنقع، وعندما وصل إلى بيت الحارس قرب المدخل الكبير لم ير أحدا، لكنه وجد البوابة مفتوحة، وكانت الأعشاب نابتة في مماشي الحديقة، والعجول والخيول تطوف بالحديقة الإنجليزية، وعدد من زجاج بستان البرتقال محطما، وبعض الشجيرات المغروسة في صناديق خاصة منقلبا، والبعض الآخر يابسا، نادى آندريه البستاني تاراس، لكنه لم يتلق ردا. دار حول حديقة البرتقال فبلغ الشرفة، ورأى أن دائرة الألواح الخشبية الرقيقة التي يعمل فيها كل يوم كانت محطمة، وأنهم كسروا أغصان أشجار الخوخ للحصول على الفاكهة. وكان كهل - تذكر آندريه أنه رآه في طفولته - قرب الباب الكبير، يضفر «قلشينا» وهو جالس فوق المقعد الأخضر الذي كان الأمير يفضله وكبب لحاء القنب معلقة إلى أغصان شجرة مانولية محطمة وجافة. كان العجوز أصما فلم يشعر قط باقتراب سيده.
أخيرا وصل الأمير آندريه إلى البيت. كانوا قد قطعوا بعض أشجار الزيزفون من الحديقة القديمة، وراحت فرس بلقاء ومهرها يطآن بقوائمهما مجموعة أشجار الورد، وكانوا قد أغلقوا النوافذ بتثبيت المصاريع، إلا واحدة في الدور الأسفل كانت مفتوحة، ولدى رؤية الأمير اندفع غلام إلى داخل البيت ليخطر ألباتيتش الذي ظل وحده في ليسيا جوري بعد أن رحل أسرته، وكان هذا جالسا يقرأ حياة القديسين، فلما علم بقدوم الأمير آندريه خرج من البيت وهو يزر سترته، واقترب من الأمير مسرعا ونظارتاه على أنفه، وانخرط باكيا وهو يقبل ركبتيه دون أن ينطق بكلمة.
ثم أشاح وهو شديد الندم على إظهار ضعفه، وراح ينهي إليه تقريره عن الوضع. لقد حملت كل الأشياء الثمينة إلى بوجوتشاروفو التي نقلوا إليها كذلك القمح حوالي مائتي كنتال،
1
أما العلف وقمح الربيع - وهو محصول رائع كما راح يؤكد ألباتيتش - فقد أخذ - وهو لا يزال غير ناضج - واحتشته القطعات، أما الفلاحون فقد نكبوا، ولقد نزح بعضهم إلى بوجوتشاروفو، أما العدد الأكبر فقد ظل في مكانه.
سأله آندريه دون أن يدعه يسترسل: «متى ذهب أبي وأختي؟»
وكان يعني بسؤاله: إلى موسكو، إلا أن ألباتيتش اعتبر أنه إنما يعني بوجوتشاروفو، فأجاب بأنهم ذهبوا يوم 7 آب، وراح من جديد يشرح مسائل الأرض ويسأله التعليمات. - «هل تأمر بأن أسلم القطعات لقاء إيصال العلف الذي بقي لدينا؟ لا يزال عندنا ألف ومائتا كنتال.»
تساءل آندريه: «ماذا يجب أن أقول له؟» وكان يتأمل جمجمة الكهل الأصلع وهي تلتمع تحت الشمس، ويقرأ على وجهه أنه رغم إدراكه عدم لياقة مثل هذه الأسئلة إنما يطرحها ليكبت ألمه. - «نعم، سلمهم.»
استرسل ألباتيتش: «لا بد وأنك لاحظت الفوضى الشاملة في الحديقة، لا سبيل إلى منعها، لقد أمضى الليل هنا جنود ثلاثة أفواج، ومعظمهم من الفرسان الفرنسيين، ولقد سجلت اسم قائدهم ورتبته لأتقدم بالشكوى.»
سأله الأمير آندريه: «وماذا أنت عازم عمله؟ هل ستبقى إذا جاء العدو؟»
التفت ألباتيتش إلى سيده ونظر إليه في عينيه، وفجأة رفع يده إلى السماء بحركة جليلة وقال: «إنه هو الذي يحميني، فلتكن مشيئته!»
أخذ فريق من الفلاحين والخدم حاسري الرءوس يتقدمون فوق الأرض المعشوشبة باتجاه الأمير آندريه. قال هذا وهو ينحني نحو ألباتيتش: «هيا، الوداع! اذهب أنت الآخر واحمل ما تستطيع حمله، وقل للقرويين أن يلجئوا إما في أرضنا في ريازان، وإما في البيت الريفي قرب موسكو.»
ضم ألباتيتش نفسه وهو ينتحب إلى ساق سيده، فأزاحه آندريه بلطف، وهمز حصانه وانحدر جاريا فوق الممشى.
وعلى فسحة حديقة البرتقال، وبمثل لا مبالاة الميت بذبابة سقطت فوق وجهه، استمر الكهل يربت على «قلشينه» المثبت فوق القالب. والتقت فتاتان صغيرتان شمرتا عن أذيال ثوبيهما اللذين ملأتاهما بالخوخ الذي جنتاه من أشجار بستان البرتقال وجها إلى وجهه مع سيدهما الصغير، فلما وقعت أبصارهما عليه أمسكت كبراهما سنا بيد رفيقتها وقد استبد بها الرعب، وجرتا تختبآن وراء شجرة سندر وقد تركتا الخوخ الفج يسقط منهما.
أسرع الأمير آندريه فأشاح بوجهه كيلا يشعرهما بأنه رآهما. كان يحس بالإشفاق على تلك البنية الصغيرة الجميلة ذات الأمارات المروعة، التي ما كان يجرؤ على النظر إليها رغم رغبته الملحة. استحوذ عليه شعور جديد مرح ومسكن لدى رؤيته تينك الطفلتين؛ ذلك أنه أدرك وجود مصالح في الحياة تختلف عن مصالحه، مصالح طبيعية جدا. لم يكن لهاتين الطفلتين إلا رغبة واحدة: حمل خوخهما الفج دون أن يمسكهما أحد والتهامه باطمئنان، فلم يكن الأمير آندريه أقل منهما رغبة في نجاح مشروعهما. لم يستطع أخيرا أن يتمالك نفسه، فنظر إليهما مرة أخرى. كانتا تعتبران أنهما خرجتا عن نطاق الخطر، فرفعتا ذيول ثوبيهما من جديد بعد أن خرجتا من مخبأيهما وراحتا تثبان فوق أسوقهما الدقيقة، وتظهران فوق الأرض المخضرة تزقزقان بصوتيهما العذبين.
كان آندريه قد ترطب قليلا بخروجه من غبار الطريق العام، لكنه عاد إلى طريق غير بعيد عن ليسيا جوري، ولحق بفوجه الذي كان قد توقف عند مستنقع صغير. وكانت الساعة الثانية بعد الظهر، والشمس دائرة حمراء خلال الغبار، تشوي الظهر بشكل لا يحتمل خلال قماش البزات الأسود والغبار، وهو أبدا - على كثافته المعروفة - يحوم فوق القطعات المتوقفة على شكل طبقة ساكنة تضم دوي الأحاديث المتبادلة والريح ساكنة لا تتحرك. وبينما الفوج يمر فوق السد أذكت الرطوبة ورائحة الوحل المترسب المتصاعدتان من المستنقع في نفس الأمير آندريه؛ الرغبة في الارتماء في المياه مهما كانت قذرة، وانبعثت من المستنقع ضحكات وصرخات. لقد بدا ذلك المستنقع المخضوضر وكأن مياهه ارتفعت ثلاثين سنتيمترا وكادت أن تغرق السد؛ لكثرة الأجساد البيضاء العارية التي امتلأ بها، والتي كانت الأعناق والأيدي والوجوه الحمراء بلون القرميد تظهر فوقها بوضوح لتنافر الألوان. وكانت هذه الأجساد كلها تتخبط بين الضحكات والأصوات، وسط تلك الحفرة الموحلة، أشبه بقبضة من السميكات احتجزت في مسقاة، وكان ذلك الحمام البهيج في تلك السعة يثير في النفوس أفكارا تمتاز بكآبتها.
تراجع جندي شاب أشقر كانت ربلته محاطة بإسار عرف فيه آندريه جنديا من الفصيلة الثالثة، ورسم على صدره إشارة الصليب ثم غطس، وراح صف ضابط شديد السمرة أزب غارق في الماء حتى وسطه، يدير جذعه العاضل ويغتسل مستعينا بذراعيه السوداوين حتى الرسغ في سفح الماء على رأسه. كان كل هؤلاء يصرخون ويتراشقون بالماء ويتبادلون الأقوال اللاذعة.
وعلى الشطآن وفوق السد وفي المستنقع وفي كل مكان، كانت الأجساد البيضاء السليمة العاضلة منتشرة، وكان تيموخين، الضابط ذو الأنف الصغير الأحمر، يجفف جسده بمنشفة رغم ارتباكه لدى رؤية الأمير ويقول له: «إن هذا ينشط يا صاحب السعادة. كان يجب أن تنتهز الفرصة.»
قال الأمير آندريه وهو يصعر خده: «إن الماء بالغ القذارة.»
فعرض تيموخين قائلا: «سوف ينظفون لك ركنا.»
وراح وهو في عريه الطبيعي يجري لإعطاء الأوامر للمستحمين: «إن الأمير يريد ...»
هتفت أصوات كثيرة: «أي أمير؟ أميرنا؟»
واندفعوا جميعهم متزاحمين، حتى إن آندريه وجد صعوبة كبيرة في تهدئتهم واستحضار ماء نظيف إلى المكادس؛ حيث يستطيع الاغتسال بأكثر راحة.
حدث نفسه وهو ينظر إلى جسمه العاري ويرتعد من البرد أقل من ارتعاده تحت وطأة شعور غامض بالاشمئزاز والهول، أثارته في نفسه رؤية تلك الأجساد المتخبطة في الماء الضحل: «هذا الجسد لحم للمدفع!» •••
في السابع من آب، كتب الأمير باجراسيون من مخيمه في ميخائيلوفكا إلى آراكتشييف رسالة كان متأكدا من أن الإمبراطور سيقرؤها؛ لذلك فقد وزن العبارات بالقدر الذي استطاعه على الأقل:
سيدي الكونت ألكسيس آندرييفيتش العزيز
أظن أن الوزير قد رفع إليك تقريره حول إخلاء سمولنسك وتركها للعدو. إنه حدث مؤلم شاق يأسف الجيش كله له أيما أسف؛ لأن أكثر مدننا أهمية قد سلمت دون أي مبرر. إنني من جانبي توسلت إليه بإلحاح شديد سواء عن طريق القلم أو الشفه، ولكن ما من شيء استطاع إقناعه. إنني أصرف لك كلمتي على أن نابليون كان محصورا وكأنه في كيس، وأنه كان سيضيع نصف جيشه دون أن يستطيع احتلال سمولنسك، ولقد قاتلت قواتنا ولا زالت تقاتل ببسالة نادرة. إنني شخصيا أوقفتهم بخمسة عشر ألف رجل أكثر من خمس وثلاثين ساعة ثم هزمتهم، أما هو، فإنه لم يشأ الصمود حتى ولا أربع عشرة ساعة. إنها وصمة وعار بالنسبة إلى جيشنا يخيل إلى بعد، وإذا أعلمكم بأن خسائرنا جسيمة فقوله ليس صحيحا؛ إنها تبلغ أربعة آلاف رجل على الأكثر، بل إنها ولو كانت عشرة آلاف، فأية أهمية؟ إنها الحرب. إن خسائر العدو بالمقابل جسيمة.
ماذا كان يكلف إلقاء يومين آخرين؟ كانوا سيتقهقرون على أقل تقدير؛ لأنه لم يكن ليتبقى لديهم ماء لهم ولا لخيولهم، لقد وعدني بأنه لن يتراجع به، فجأة يرسل إلي قرارا يقول فيه إنه راحل خلال الليل! إن الحرب لا تخاض على هذا النحو، إننا بهذا الشكل لن نلبث حتى نستقدم العدو إلى موسكو.
إن الإشاعات تروج حول تفكيركم في الصلح. ألا ليجنبكم الله هذا التفكير! أن نعقد الصلح بعد كل هذه التضحيات والتراجع السخيف! إنكم بذلك تتعرضون لروسيا كلها، وسيخجل كل منا أن يرتدي البزة، إننا في الوضع الذي نحن فيه يجب أن نقاتل ما استطاعت روسيا القتال وما بقي رجل على قيد الحياة.
يجب أن يقود رجل واحد وليس اثنان، لعل وزيركم ممتاز في وزارته، أما بوصفه جنرالا، فإنه غير ناجح أبدا. ولقد أودع مصير وطننا بين يدي رجل من هذا النوع ... إنني أثور وأكاد أجن، فأرجو أن تغفروا لي جرأة هذه الكلمات، إن ذلك الذي يشير بالصلح ويريد أن يقود الوزير الجيش، رجل لا يحب إمبراطوره ويرغب في خسراننا ... إنني أقول لك الحق: سلح المتطوعين بسرعة؛ لأن الوزير سوف يصحب ضيفه إلى العاصمة بشكل يناسب المقام ... إن السيد المساعد العسكري الجنرال فولزوجن يوحي بالشك في كل أوساط الجيش. إنه على ما يزعمون رجل نابليون أكثر من أن يكون رجلنا، وهو المستشار الأكبر للوزير. أما أنا، فإنني لا أكتفي بأن أكون مهذبا معه فقط، بل وأطيعه كذلك كما يطيع أي عريف رئيسه، رغم أنني أقدم منه. إن هذا مؤلم، لكنني أخضع حبا بمليكي والمحسن إلي، إلا أنني مشفق؛ إذ سلم الإمبراطور جيشنا الممجد إلى أشخاص من هذا النوع. تصوروا أن أكثر من خمسة عشر ألف رجل قد ماتوا من التعب أو في المستشفيات خلال تقهقرنا! فلو أننا سرنا إلى الأمام لما كان يمكن أن نقع في مثل هذه الخسائر. بحق السماء، ماذا ستقول روسيا، أمنا، عندما تعلم بأننا نخاف وأننا نسلم وطننا الباسل الطيب إلى أسافل، وأننا نثير في قلب كل مواطن الضغينة والسخط؟! هل هي خطيئتي إذا كان الوزير قلقا بطيئا غبيا ضعيف النفس، وإذا كان يجمع في نفسه كل الخطيئات الممكنة ؟ إن الجيش كله لا عمل له إلا البكاء وإرهاقه بالشتائم.
الفصل السادس
كوتوزوف يتسلم القيادة
بين وسائل الحياة التي لا تحصى، يمكن أن نميز الوسائل التي ينتصر فيها الكنه على الصيعة، وتلك التي على العكس تنتصر فيها الصيعة وتسيطر. وفي هذه الزمرة الأخيرة يمكن أن نضع مقابل حياة الريف والمراكز، حتى وموسكو، الحياة في بيترسبورج، وبصورة خاصة الحياة في مجتمعاتها. إنها حياة ثابتة لا تتغير، إننا منذ عام 1805م ما فتئنا نتصالح ثم نتخاصم مع بونابرت، ونقيم الأنظمة ونسقطها، مع ذلك فإن «صالوني» آنا بافلوفنا وهيلين ظلا كما كانا عليه: الأول منذ سبع سنين، والثاني منذ خمس. كانوا لدى آنا بافلوفنا يتحدثون دائما بذهول عن نجاح بونابرت، ويجدون في ذلك النجاح المتعاقب وفي مجاراة أمراء أوروبا له مؤامرة بشعة ضد أنس هذه الدائرة من البلاط التي تنتسب إليها ربة الدار وصفائها، أما لدى هيلين؛ حيث كان روميانتسيف نفسه يشرفها بزياراته ويعتبرها امرأة على جانب نادر من الذكاء، فقد كانوا مستمرين عام 1812م كما كانوا عام 1808م، في التحمس للرجل الكبير والأمة العظيمة، ويستنكرون قطع العلاقات مع فرنسا التي يجب أن تنتهي حسب مزاعمهم بصلح قريب: وعندما جاء الإمبراطور إلى بيترسبورج قامت حركة معينة في هذين الوسطين المعاكسين، ودارت فيهما بعض المشاهد العدائية من جانب نحو الجانب الآخر دون أن يتبدل في الواقع ميل أحد الجانبين بالمقابل. ظلت دائرة آنا بافلوفنا لا تستقبل من الفرنسيين إلا المدافعين عن حق الملك الشرعي المدعوين رسميا، وتعرب عن وطنيتها بالتعريض بالمسرحي الفرنسي الذي كانوا يزعمون أن تكاليفه تبلغ تكاليف تجهيز جناح من الجيش، وكانوا يتابعون في تلك الدائرة بحميا الأحداث العسكرية، وينشرون أفضل الشائعات حول موقف جيوشنا. أما في دائرة هيلين التي كانت دائرة روميانتسيف وأنصار فرنسا، فقد كانوا ينكرون وحشية العدو ، ويحاضرون حول محاولات نابليون العديدة في سبيل الصلح، ويغدقون الذم على أولئك الذين نصحوا بسرعة نقل البلاط ومؤسسات التعليم التابعة للإمبراطورة الأم إلى كازان. وكانت العمليات العسكرية تعتبرها مجرد مظاهر بسيطة يجب أن تنتهي بالصلح . ولقد غدا بيليبين من رواد هذا الوسط الاعتياديين الذين كان كل رجل فكر يلجأ إلى الانتساب إليه، وأصبح رأيه فيه قانونا، وهو أن المسألة لن تحسم بالبارود، بل عن طريق أولئك الذين خلقوها. وكانوا يسخرون بأقوال طريفة، ولكن بشيء من التحفظ، من حماس أهل موسكو؛ ذلك الحماس الذي بلغت أصداؤه بيترسبورج إبان عودة ألكسندر.
بيد أن العكس كان لدى آنا بافلوفنا؛ كانوا يمجدون هذه التظاهرات، ويتحدثون عنها حديث بلوتارك
1
عن القدماء. وكان الأمير بازيل الذي لا زال يحتل مراكزه المرموقة السابقة، يقوم بدور همزة الوصل بين الدائرتين، فكان يرود دوريا «صديقتي الطيبة» آنا بافلوفنا و«صالون ابنتي الدبلوماسي»، وهذه الحركة الانتقالية الدائمة كانت غالبا ما تعرضه للأخطاء، فيقع له مثلا أن يتحدث لدى هيلين ما كان عليه أن يقوله لدى آنا بافلوفنا، والعكس بالعكس.
بعد عودة ألكسندر بقليل، راح الأمير بازيل - وهو يتحدث لدى آنا بافلوفنا عن الموقف - يحكم على باركلي دوتوللي بقسوة، وتساءل عمن يمكن أن يحل محله، وروى واحد من أكثر الناس ارتيادا للوسط - ذلك الذي أطلق عليه اسم «الرجل ذي الميزات الكثيرة» - أنه رأى ذلك اليوم بالذات رئيس متطوعي بيترسبورج، كوتوزوف، يرأس في ديوان الخزينة استقبال المتطوعين، ثم أعرب بحكمه أن كوتوزوف هذا يمكن أن يكون على الضبط الرجل المطلوب.
فأظهرت آنا بافلوفنا بابتسامة سويداوية أن كوتوزوف لم يسبب للإمبراطور إلا المكاره.
أكد الأمير بازيل قائلا: «لقد قلت وكررت ذلك في جمعية النبلاء، لكنهم لم يصغوا إلي. لقد قلت إن تعيينه رئيسا لا يسر الإمبراطور، لكنهم لم يصغوا إلى قولي. إنها دائما عادة التراشق وتبادل اللوم، وأمام من؟ كل ذلك لأننا نريد الموافقة على حميات الموسكوفيين الرعناء.»
وشعر الأمير بازيل أنه خلط بين الأمور؛ ذلك أن حميات الموسكوفيين التي هي موضوع سخرية دائرة هيلين، يجب أن تحمل لدى آنا بافلوفنا على محمل الإطراء، فأصلح خرقه بسرعة. - «هل من المناسب أن يقيم الكونت كوتوزوف أقدم جنرالات روسيا هناك، وذلك إضافة إلى ما فيه من إيلام له؟! هل يعقل أن يعين قائدا أعلى رجل لا يستطيع امتطاء صهوة جواد، ينام في المجلس الاستشاري، رجل متهتك فوق كل هذا؟! لقد خلق لنفسه سمعة رائعة في بخارست! إنني أترك جانبا ميزاته كجنرال، ولكن هل يمكن حقا في هذه اللحظة الحرجة أن نضع على رأس جيشنا رجلا عاجزا وأعمى؟! نعم أعمى بكل معنى الكلمة. سيكون ذلك جميلا؛ جنرال أعمى! إنه لا يرى شيئا مطلقا أبدا ... ليذهب ويلعب «التغماية»!»
ولم يعترض على قوله أحد.
كان هذا الاتهام في الرابع والعشرين من تموز قائما على أساس، لكن كوتوزوف تلقى في التاسع والعشرين من الشهر ذاته لقب أمير. لعل منح هذه الرتبة لم يكن إلا كف يد بشكل مشرف، مع ذلك فإن الأمير بازيل، رغم اعتباره وجهة نظر مشروعة، أصبح أكثر تحفظا. وفي الثامن من آب، اجتمعت لجنة مؤلفة من الماريشال سالتيكوف، آراكتشييف، فيازميتينوف لوبوجين، وكوتشوبيي؛ للتداول في سير الحرب العام. عزت هذه اللجنة خسراننا إلى التناحر على القيادة، وعرضت - رغم ما تعرفه عن نفور الإمبراطور من كوتوزوف - أن يعين هذا قائدا أعلى بعد نقاش قصير. وفي ذلك اليوم بالذات عين كوتوزوف قائدا أعلى للجيوش وللمناطق التي نحتلها كلها.
وفي التاسع من آب، التقى الأمير بازيل من جديد لدى آنا بافلوفنا بالرجل ذي المواهب الجمة، وكان هذا يشغل منصب قيم في مؤسسة للفتيات، ويتملق آنا بافلوفنا دون كلال. دخل الأمير بازيل بأمارات الرجل المنتصر الذي تحققت رغباته أخيرا. - «حسنا! هل تعرفين النبأ العظيم؟ إن الأمير كوتوزوف الآن ماريشال، لقد انتهت الخلافات كلها الآن. إنني مسرور بذلك، شديد السرور! أخيرا، ها هو ذا رجل!»
كذلك كان يعلن وهو يدير بالموجودين نظرة ملؤها الصرامة والأهمية.
وعلى الرغم من أن الرجل ذا المواهب الجمة كان يرغب رغبة عنيفة في الهول على مركز ما ، فإنه لم يستطع إلا أن يلفت انتباه الأمير بازيل إلى أنه لم يتحدث دائما على هذا النحو، وكان ذلك صدمة موجهة إلى الأمير بازيل في بهو آنا بافلوفنا بقدر ما هي موجهة إلى المضيفة نفسها التي تلقت النبأ بسرور، لكنه لم يستطع أن يتمالك نفسه. قال وهو يذكر الأمير بتأكيد الحديث: «لكنهم يقولون يا أميري إنه أعمى!»
فأجاب الأمير بازيل بشدة بصوته الخفيض الخاص وهو يسعل سعالا خفيفا - وتلك وسيلته في استجماع أعصابه عندما يكون مرتبكا: «هيا، إنه يرى كفاية.»
ثم كرر: «هيا، إنه يرى كفاية، إن ما يسرني أكثر هو أن الإمبراطور أعطاه مطلق السلطة ليس على الجيوش فقط، بل وكذلك على الأراضي التي تحتلها. وهي سلطة لم يحصل على مثلها قط أي قائد أعلى.»
وأعقب مستنتجا وهو يبتسم ابتسامة المنتصر: «إنه حاكم ثان مطلق الصلاحية.»
وقالت آنا بافلوفنا: «ليساعدنا الله!»
فظن الرجل ذو المواهب الجمة، وهو الحديث في حياة البلاط، أن جملة آنا بافلوفنا تلك ليست إلا صدى لرأيها السابق، فاستأنف رغبة منه في امتداحها: «يزعمون أن الإمبراطور لم يمنحه هذه السلطة عن طيب خاطر، ولقد قالوا إن وجهه تضرج كوجه آنسة تليت عليها «جو كوندا» عندما قيل له: إن المليك والوطن يحيطانك بهذا الشرف.»
فقالت آنا بافلوفنا: «لعل القلب لم يكن له دور في المسألة.»
هتف الأمير بازيل الذي جعل من كوتوزوف رجله فأصبح لا يطيق ألا يحبه أحد: «مطلقا، أبدا! هذا مستحيل؛ لأن الإمبراطور عرف دائما كيف يقدر مواهبه.»
ألمحت آنا بافلوفنا موحية برفق: «عسى أن يتسلم الأمير كوتوزوف السلطة حقا، وألا يسمح «لأحد» أن يضع له العصي في العجلات.»
ولقد أدرك الأمير بازيل من فوره ما أرادت آنا بافلوفنا أن تقوله، فقال بصوت خافت: «إنني أعرف من مصدر موثوق أن كوتوزوف تقدم بشرط أساسي، هو استدعاء التسيزايفيتش، هل تعلمين ماذا قال للإمبراطور؟ «لا أستطيع أن أعاقبه إذا أساء التصرف، ولا أن أكافئه إذا أحسن العمل.» أوه! إنه رجل حاذق جدا هذا الأمير كوتوزوف، إنني أعرفه منذ أمد طويل.»
فأضاف الرجل ذو المواهب الجمة الذي كان أسلوب البلاط ينقصه ولا ريب: «بل إنهم يقولون أيضا إن شديد الرفعة تطلب من الإمبراطور ألا يلحق بالجيش شخصيا.»
وما كاد ينطق بهذه الجملة حتى أشاح الأمير بازيل وآنا بافلوفنا بحركة واحدة عنه ليتبادلا نظرة آسفة، وليعيبا على تلك السذاجة المنفرة بتنهدة حارة.
الفصل السابع
لافروشكا وبونابرت
بينما كانت هذه الأشياء تقع في بيترسبورج كان الفرنسيون يتجاوزون سمولنسك ويزدادون قربا من موسكو، ولقد عمد تيير، ككل مؤرخي سيرة نابليون على أية حال، إلى تبرير سلوك بطله، زاعما أنه اجتذب إلى جدران تلك المدينة رغما عنه. إنه محق ككل أولئك الذين يبحثون في إرادة رجل واحد تفسيرا للأحداث. إنه على حق لمثل الأسباب التي دفعت بعضا من كتابنا إلى الزعم أن نابليون اجتذب إلى الأمام ببراعة الجنرالات الروسيين. إن قانون الحكم على الماضي يظهر لهم الماضي كله على اعتباره تحضيرا لحادث وقع. أضف إلى ذلك أن توافقا ما بين الأحداث يزيد كذلك في تعقيد الأمور؛ فإذا خسر لاعب ماهر شوط شطرنج اعتقد بإخلاص أنه أضاعها بنتيجة خطأ من جانبه، فيعود إلى الشوط يعيد حركاته حتى البداية؛ ليظهر موطن الخطأ، متناسيا أنه ارتكب أخطاء أخرى، وأن ما من حركة من حركاته كاملة. فالخطيئة التي يلاحظها ما كانت لتلفت انتباهه لولا أن خصمه أفاد منها. فكم هي أكثر تعقيدا لعبة الحرب التي تدور خلال ظروف زمنية معينة، والتي لا علاقة لإرادة واحدة في إدارة الآلات الجامدة فيها، بل هي نتيجة التقاء عدد لا يحصى من الإرادات الخاصة.
بحث نابليون عن الاشتباك في معركة وراء دوروجوبوج قرب فيازما بعد سمولنسك، ثم في تساريفو-زائيميختشيه، ولكن لم يتقبل الروسيون خوض المعركة إلا في بورودينو على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا من موسكو بنتيجة ملابسات عديدة.
ولقد كانت موسكو، العاصمة الآسيوية لهذه المملكة الشاسعة، المدينة المقدسة لشعوب ألكسندر، موسكو بكنائسها الكثيرة التي تشبه في بنائها هياكل الصينيين تثير خيال نابليون دون هوادة، كان خلال المرحلة من فيازما إلى تساريفو- زائيميختشيه ممتطيا صهوة حصانه الأبيض المموه الإنجليزي يصحبه كوكبة الحرس وموكب من الغلمان والأتباع والمساعدين العسكريين. ولقد تخلف رئيس الأركان بيرتييه لاضطراره إلى استجواب روسي أسرته الخيالة، فلم يلبث أن لحق بالإمبراطور هدبا يصحبه المترجم ليلورم ديدفيل، ثم أوقف حصانه مشرق الأسارير، سأله نابليون: «حسنا؟» - «إنه قوقازي من بلاتوف، يقول إن أفواج بلاتوف سوف تجتمع مع مجموعة الجيش، وأن كوتوزوف قد عين قائدا أعلى. إنه شديد الذكاء وثرثار.»
ابتسم نابليون وأمر أن يعطى حصان إلى ذلك القوقازي، وأن يمثل بين يديه. لقد كان يرغب في استجوابه شخصيا. هدب عدد من المساعدين العسكريين خيولهم، وبعد ساعة اقترب المملوك لافروشكا الذي تخلى عنه دينيسوف لروستوف من نابليون مرتديا سترة، معتليا سرجا فرنسيا، بوجهه المرح الكيس الثمل. سمح له الإمبراطور أن يسير على قدميه بجانبه، وطرح عليه بعض الأسئلة. - «هل أنت قوقازي؟» - «قوقازي يا صاحب النبالة.»
قال تيير وهو يروي هذه الحادثة: «لم يكن القوقازي يعرف الشخصية التي كان يسير إلى ركابها؛ لأن بساطة نابليون لم يكن فيها ما يوقظ في خيال شرقي وجود مليك؛ لذلك فقد تحادث معه عن مشاكل الحرب الحاضرة بأقصى ما تبلغ إليه الألفة.»
والحقيقة أن لافروشكا الذي سكر بالأمس فترك سيده دون طعام، تعرض للضرب بالعصي، ثم أرسل بعد ذلك إلى إحدى القرى للبحث عن بعض الدجاج، فاستمر يتلكأ ويحوم حتى سقط بين يدي الفرنسيين، وكان واحدا من أولئك الخدم السفهاء الغلظاء الذين لا يستطيعون رغم ما رأوه من كل الألوان خلال حياتهم، أن يتصرفوا دون دناءة ومكر، والذين هم على استعداد دائم للقيام بكل الخدمات الممكنة لأسيادهم الذين يحدسون لأول نظرة آراءهم السيئة، وخصوصا تلك التي يوحي بها إليهم الزهو والحقارة.
ولما استقدم أمام نابليون الذي لم يلبث حتى أدرك حقيقته، لم يتأثر لافروشكا كما ينبغي، لكنه اجتهد ليجعل أسياده الجدد يستقبلونه أفضل استقبال.
كان يعرف تماما أن هذا هو نابليون، لكن وجود الإمبراطور ما كان يمكن أن يبعث في نفسه باضطراب أكثر من وجود روستوف أو الرقيب الأول المكلف بضربه بالعصي، ولما كان لا يملك شيئا، فإن نابليون ولا هذا الصف الضابط، يمكن أن يأخذوا منه شيئا.
روى إذن كل القصص التي تدور بين التابعين، والتي كان الجانب الأكبر منها صحيحا، ولكن عندما سأله نابليون عما إذا كان الروسيون يفكرون في التغلب على بونابرت أم لا، قطب لافروشكا حاجبيه وراح يفكر، خيل إليه أن السؤال يخفي شركا؛ لأن الأشخاص من نوعه يشمون رائحة الفخاخ في كل مكان.
قال بلهجة من يفكر: «أعني إذا وقعت المعركة على الفور كان الفوز بجانبكم، وهذا مؤكد، ولكن إذا مضت أيام ثلاثة فإن هذه المعركة نفسها يمكن أن تستطيل.»
أما ما ترجمه ليلورم ديدفيل باسما لنابليون فهو كما يلي: «إذا نشبت المعركة قبل ثلاثة أيام فإن الفرنسيين سيكسبونها، أما إذا نشبت فيما بعد فإن الله وحده يعرف ما سيحدث.» وعلى الرغم من حسن مزاجه، فإن نابليون لم يبتسم، بل أمر أن تعاد الجملة على مسامعه، فلاحظ لافروشكا ذلك، ولكي يبهجه تابع وهو يتظاهر بجهله حقيقة الشخص الذي يحدثه: «نعم، إننا نعرف أن لديكم من يدعى بونابرت، لقد هزم كل الناس في هذا العالم، لكن الأمر سيختلف بالنسبة إلينا ...»
ولقد أفلت منه هذا التبجح الوطني دون أن يدرك السبب.
وقام المترجم بالترجمة، فعني خلال ذلك بإخفاء الكلمات الأخيرة، وكتب تيير يقول: «لقد أضحك القوقازي الشاب محدثه العظيم.» وبعد أن خطا بضع خطوات في صمت قال نابليون لبرتييه إنه يرغب في معرفة الأثر الذي سيحدث في نفس «غلام الدون هذا» إذا أطلعوه على أن الشخص الذي تحدث معه ليس إلا الإمبراطور، ذلك الإمبراطور الذي كتب على الأهرام اسمه المظفر الخالد.
وأزجي النبأ إلى لافروشكا.
أدرك هذا أنهم يريدون أن يشوشوه، وأن نابليون يعتقد أنه سيخفيه؛ لذلك فقد تصنع الدهشة إرضاء لأسياده الجدد، وتظاهر بذهول عميق؛ أدار حوله عينين متسعتين، وانطبع وجهه بالأمارات التي تظهر عليه كلما أخذ ليجلد، وكتب تيير: «لم يكد مترجم نابليون يتكلم حتى استبد بالقوقازي لون من الذهول ، فلم يعد يحر جوابا، وظل يمشي وعيناه شاخصتان إلى ذلك الغازي الذي بلغ اسمه مسامعه عبر أقفار الشرق. لقد توقفت ثرثرته فجأة ليحل محلها شعور بالإعجاب الصامت الساذج، وبعد أن كافأه نابليون منحه الحرية كما يحرر العصفور الذي يعاد إلى الحقول التي شاهدت مولده.»
تابع نابليون طريقه وهو يحلم بموسكو، تلك التي كانت تحتل حيزا كبيرا من تفكيره، أما العصفور الذي أعيد إلى الحقول التي شاهدت مولده، فقد حث جواده حتى بلغ الخطوط الأمامية وهو يعد في خياله قصة مغامرات وهمية يرويها على زملائه؛ ذلك لأن ما وقع له بالذات لم يكن في نظره يستأهل عناء روايته. ولما لحق بالقوقازيين استعلم عن المكان الذي ينزل فيه فوجه الذي كان تابعا لجيش بلاتوف. وحوالي المساء وجد سيده نيكولا روستوف قرب أيانكوفو وهو يمتطي صهوة جواده مع إيلين؛ للقيام بنزهة في القرى المجاورة. وحينئذ أمر روستوف أن يعطى لافروشكا جوادا آخر، ثم صحبه معه.
الفصل الثامن
موت الأمير بولكونسكي
لم تكن الأميرة ماري في موسكو ولا خارج منطقة الخطر كما كان يظن آندريه.
عندما عاد ألباتيتش من سمولنسك، بدا الأمير العجوز كأنه استفاق من حلم فجأة. أصدر الأمر بتجنيد متطوعين في قراه وبتسليحهم، ثم أنبأ الجنرال القائد الأعلى بأنه قرر البقاء في ليسيا جوري، وأن يدافع عن نفسه فيها حتى النفس الأخير، وأنه يرجع إليه أمر اتخاذ التدابير الآيلة إلى حماية إقطاعية يتعرض فيها واحد من أقدم الجنرالات الروسيين إلى الأسر أو القتل أو إغفال مثل هذه التدابير، ثم أعلن للمقربين إليه أخيرا أنه لن يتحرك من مقاطعته.
ولكن رغم رفضه ترك منازله عجل في ترحيل ماري والأمير الصغير وديسال إلى بوجوتشاروفو، ومن هناك إلى موسكو، ولقد روعت الأميرة كثيرا لذلك النشاط المحموم الذي أعقب فترة من الجمود: لم تستطع أن توافق على ترك والدها وحده؛ لذلك فقد سمحت لنفسها لأول مرة في حياتها بعصيانه. رفضت الذهاب، فانهالت عليها العاصفة التي كثفها غضب الأمير، ألقى عليها كل الأسواء التي تجعلها مسئولة دون وجه حق: لقد جعلت حياته لا تطاق، وخاصمته مع ولده، واتخذت آراء على حسابه بشعة ولا تكير إلا في تسميم حياته. وأخيرا طردها من مكتبه وأعلن أنه سيان عنده أذهبت أم لم تذهب؛ إنه يعتبرها ميتة ويمنعها إلى الأبد من الظهور أمامه. ولقد هدأ حزن ماري حينما علمت أنه لم يأمر بترحيلها بالقوة كما كانت تتوقع، لقد أدركت أن العجوز في أعماق نفسه سعيد لبقائها إلى جانبه.
وفي اليوم التالي لذهاب نيكولا الصغير؛ ارتدى الأمير العجوز منذ الصباح الباكر بزته الكبرى واعتزم الذهاب لرؤية القائد الأعلى. وكانت العربة قد أعدت فرأته ماري يخرج من مكتبه متحليا بكل أوسمته، ويأخذ طريق الحديقة ليستعرض فلاحيه وخدمه وهم تحت السلاح. جلست إلى نافذة وراحت تصيخ السمع إلى نبرات صوت أبيها التي كانت تصل إليها منذ أن بلغ البستان، وفجأة هرع بعض الرجال عن طريق الممشى الرئيسي تنطق وجوههم بالارتياع.
اندفعت ماري إلى المرقاة، وبلغت الممشى الرئيسي جريا مخترقة بستان الخضار. رأت جماعة من الخدم المتطوعين يهرعون للقائها، وفي وسط هذه الجماعة بعض الرجال يجرون العجوز القصير في بزته المغطاة بالأوسمة من تحت إبطيه. لم يسمح لها الضوء الخفيف الذي كان يتسلل عبر أغصان الزيزفون الكثيفة أن تتبين للوهلة الأولى انقلاب تقاطيع وجهه. لاحظت فقط أن وجهه الذي كان من قبل صارما وحازما قد اتخذ طابعا من الخضوع والفزع. ولما رأى ابنته بعث من شفتيه العاجزتين بضعة أصوات غامضة مبحوحة، فلم يستطع أحد معرفة ما كان يريد قوله. نقلوه حملا إلى مكتبه؛ حيث أسجوه على تلك الأريكة التي باتت منذ بعض الوقت توحي إليه بخوف هائل.
وصل الطبيب الذي أرسلوا يستدعونه في الليل، فقصد الأمير وأعلن أنه أصيب بشلل في جنبه الأيمن. ولما بات البقاء في ليسيا جوري يزداد خطرا، فقد نقلوه إلى بوجوتشاروفو منذ صباح اليوم التالي حيث صحبه الطبيب، فلما وصلوا إلى هناك كان ديسال ونيكولا الصغير قد سافرا إلى موسكو.
ظل الأمير العجوز ثلاثة أسابيع على حالته تلك. لقد نقلوه إلى البيت الجديد الذي ابتناه آندريه لنفسه، فظل مسجى هناك فاقدا رشده أشبه بالجثة المشوهة، كان يدمدم باستمرار ويحرك شفتيه وحاجبيه، ولكن كان يستحيل معرفة ما إذا كان شاعرا بما يدور حوله. وكل ما أمكن معرفته هو أنه يتألم ويشعر بحاجة إلى التعبير عن شيء ما. ولكن أي شيء؟ لم يستطع أحد معرفته. هل كانت نزعته مجرد هوى أو هذيان مريض أم كان لذلك علاقة بالأحداث أم بشئون الأسرة؟
كان الطبيب يعزو هذا الاضطراب إلى أسباب جسدية خالصة، بينما كانت ماري على العكس تظن أن أباها يريد أن يكلمها، الأمر الذي يؤيده اكتئاب المريض المتزايد دائما في حضرتها.
كان ولا ريب يتألم جسديا وفكريا، لم يكن هناك أمل في شفائه كما لم يكن مستطاعا التفكير في نقله؛ إذ ماذا كان بمقدورهم أن يعملوا لو أنه مات أثناء الطريق؟ وكانت ماري تتساءل أحيانا: «ألا تكون النهاية أفضل؟» كانت تراقبه ليل نهار دون أن تنام تقريبا، فكان - وهذا ما يؤلم قوله - يكتشف أحيانا على وجهها ليس أمارات التحسن، بل على العكس، بوادر ما يسبق النهاية.
اضطرت ماري، سواء برضائها أو رغما عنها، أن تعترف بهذا الشعور الذي هو أسوأ ما في الأمر؛ وهو أنه منذ مرض أبيها، بل وقبل ذلك بقليل، عندما ظلت وحيدة معه تنتظر حدوث شيء ما، عادت الرغبات والآمال المنسية الغافية في أعماق نفسها إلى التيقظ بتجبر، عادت فكرة استطاعتها الحياة مستقلة متحررة من رهبة أبيها، بل والتعرف على الحب والسعادة الزوجية، تلك الفكرة التي لم تعد تخطر لها منذ سنوات، عادت اليوم تراود مخيلتها، ولقد عملت ما تستطيع لطرد هذه الفكرة، لكنها ظلت تتساءل كيف ستنظم حياتها بعد وقوع حدث معين؟ فكانت هذه الآراء ولا ريب إغراءات الشيطان، لا تستطيع دفعها إلى الصلاة؛ لذلك كانت تتخذ وضع الصلاة وتنظر إلى الصور المقدسة وتتلفظ بالعبارات المألوفة، لكنها ما كانت تصلي إلا بشفتيها. كانت ترى نفسها مساقة إلى عالم جديد، عالم من الحركة والعمل والحرية معاكس تماما للعالم الفكري الذي ظلت سجينته حتى ذلك الحين، والذي كانت الصلاة وحدها سلوتها فيه، فلم تعد تستطيع الصلاة ولا البكاء؛ لقد استبدت بها الحياة.
بات التأخر في بوجوتشاروفو خطرا، فالفرنسيون ما زالوا يتقدمون، ولقد نهبت مقاطعة على بعد أربعة أميال من هناك من قبل رجالهم السلابين.
أخذ الطبيب يلح على ماري بنقل المريض، وأرسل نقيب الأشراف إلى الأميرة ماري موظفا يطلب إليها الذهاب في أسرع ما يمكن. وجاء النقيب نفسه ينبئها بأن الفرنسيين باتوا على بعد ثمانية أميال من هنا. إن نداءاتهم باتت الآن تتناقل في القرى، فإذا لم ترتحل حتى الخامس عشر فإنه لن يكون مسئولا عن شيء.
قررت ماري أن تذهب ذلك اليوم، فانشغلت في الاستعدادات وإصدار الأوامر طيلة يومها؛ لأن الجميع باتوا الآن يوجهون الكلام إليها، وأمضت ليلة 14-15 كعادتها دون أن تخلع ثيابها في الحجرة المجاورة لغرفة الأمير. سمعت مرات عديدة خلال نومها أنات أبيها بصوته الأجش وطقطقة سريره وخطوات الطبيب وتيخون اللذين كانا يبدلان من وضعيته في الفراش. وجاءت مرات عديدة تصيخ السمع وراء الباب. خيل إليها أن المريض ليلتئذ يتألم ويتخبط أكثر من المعتاد، فلم تستطع أن تعود إلى سريرها، واقتربت مرات عديدة إلى ذلك الباب الذي ما كانت تجد الجرأة على اجتيازه. وعلى الرغم من عجزه عن الكلام فإن ماري كانت تشعر أن كل تظاهر بالعطف يسخط أباها؛ ألم يكن يتهرب باستمرار من نظرتها كلما رأى أنها شاخصة إليه؟ لذلك كانت تعرف أن زيارتها له في الليل في ساعة غير مألوفة ستثير غضبه.
مع ذلك، فإنها لم تشعر قط بأكثر من ذلك الحزن وأعظم من ذلك الرعب، اللذين أثارهما خوفها من فقده. كانت تستعرض مراحل الحياة التي أمضياها واحدهما بجانب الآخر، فكانت تكتشف في كل كلمة وفي كل حركة من كلمات الشيخ وحركاته محبة لها، ومن حين إلى آخر كان الشيطان يعود إلى مهاجمتها، فيدخل في ذكرياتها المناظر المغرية لمستقبل أكثر استقلالا، لكنها سرعان ما كانت تطرده بشدة ... وحوالي الصباح هدأ الأمير فاستطاعت ماري أن تنام.
استيقظت متأخرة ، وفجأة أطلعتها الصراحة الوحشية في الإحساس الذي يرافق اليقظة على ما كان يشغل بالها أكثر من أي شيء في مرض أبيها، مضت إلى الباب تصغي، ولما تناهى إليها تنفس المريض الأجش؛ حدثت نفسها وهي تتنهد أن الأمر لا زال على ما كان. وفجأة، هتفت وقد استبد بها تقزز من نفسها: «ولكن، ماذا يمكن أن يكون غير ذلك؟ ماذا أريد إذن؟ موته!»
ارتدت ثيابها واعتنت بشعرها، ثم تلت بعض الصلوات ومضت إلى المرقاة؛ حيث وقفت العربات دون أن تقطر إليها الخيول وهم يملئونها بالأمتعة. كان الصبح بديعا يتخلله غيم خفيف، لبثت ماري هناك فترة طويلة وهي يذهلها الهول إزاء دناءتها، تحاول استعادة هدوئها قبل أن تعود المريض، وهبط الطبيب السلم وجاء إليها يقول: «إنه أحسن حالا قليلا اليوم. كنت أبحث عنك، لقد بدأنا نفهم ما يقول. تعالي، إنه يطلبك!»
خفق قلب ماري لهذا النبأ بشدة، حتى إن وجهها امتقع واضطرت أن تعمد إلى الباب فتستند إليه خشية أن تسقط، أن ترى أباها وتخاطبه وتقابل نظرته وهي التي كانت منذ حين فريسة مثل تلك الأفكار المجرمة، كان مدعاة لقلقها العنيف رغم ما يخالط ذلك العذاب من فرح.
عاد الطبيب يقول: «تعالي.»
دخلت حجرة أبيها واقتربت من السرير. كان قد أقعد في سريره بينما راحت يداه الصغيرتان العظيمتان اللتان ظهرت فيهما العروق الزرقاء تدعك الغطاء، وكانت عينه اليسرى شاخصة إلى نقطة أمامه، أما اليمنى فتشوص، بينما ظل حاجباه وشفتاه جامدة، وكانت لشخصيته الجافة الصغيرة كلها منظر يثير الإشفاق، وباتت تقاسيمه قد رقت، وبدا وجهه كأنه مذاب. قبلت ماري يده، ومن الطريقة التي ضغط بها الكهل بيده اليسرى على يدها، أدركت أنه ينتظرها منذ زمن طويل، بل إنه هزها أيضا بينما تقلصت شفتاه وحاجباه بحركة غاضبة.
نظرت إليه في شيء من الروع وهي تحاول أن تخمن ما كان يريد منها، ولما أبدلت مكانها لتسمح لعين العجوز اليسرى أن ترى وجهها، هدأ بضع لحظات ثم تحركت شفتاه ولسانه وخرجت أصوات من فمه، وراح يتكلم وهو يتوسل إليها بنظرة واجفة، وبه خشية واضحة من أن لا تفقه قوله.
راحت ماري تتأمله وهي تركز كل انتباهها فيه، لكنه كان يحرك لسانه بمجهودات مضحكة، حتى إنها ما استطاعت إلا أن تكف الطرف وأن تدفع بمجهود جبار الحشرات التي راحت تتصاعد إلى حنجرتها. غمغم بشيء ما، وكرر كلماته مرارا، فلم تقدر الأميرة ماري على فهمها. مع ذلك، فقد كانت تجهد نفسها لتخمن المعنى، وتعيد ما يخيل إليها فهمه من كلمات بلهجة مستفهمة.
أخيرا، اعتقد الطبيب أن المريض يسأل عما إذا كانت الأميرة خائفة، لكن العجوز سفه هذا الظن بإشارة من رأسه، وعاد من جديد إلى الأصوات نفسها يخرجها.
أكدت ماري فجأة: «آه! لقد عرفت! إنه يقول إن روحه تتألم.»
فأجاب «بنعم» غير واضحة، وأمسك بيد ابنته وأثبتها على عدة مواضع من صدره وكأنه يبحث عن أفضلها.
نطق بشكل أكثر وضوحا هذه المرة: «كل أفكاري نحوك، كلها ...»
وأصبح صوته وقد تأكد من أنه استطاع إفهامها قصده؛ أكثر ثباتا.
كبتت ماري دموعها، وأحنت رأسها على يد أبيها، فمر هذا بيده على شعرها. دمدم: «لقد ناديتك مرات عديدة خلال الليل.»
فأجابت خلال دموعها: «نعم، لقد عرفت، وكنت أخاف الدخول عليك.»
ضغط على يدها وقال: «ألم تنامي؟» - «كلا.»
وأيدت هذا الجواب بإشارة نفي من رأسها، ثم راحت مثله تتحدث بالإشارات وكأنها باتت تحت تأثير أبيها، وخيل إليها أن لسانها يدور بجهد. - «يا روحي
1
العزيزة ... يا صديقتي العزيزة - ولم تفهم التعبير الصحيح، ولكنها أدركت من نظرته أنه يوجه إليها لأول مرة كلمة حانية - لماذا لم تأتي؟»
فكرت ماري في نفسها: «وأنا التي كنت أتمنى له الموت!»
استأنف بعد صمت: «شكرا، شكرا يا صديقتي، يا ابنتي ... على كل شيء، على كل شيء ... صفحا ... شكرا ... صفحا ... شكرا!»
وسالت دموع من مآقيه، ثم سأل وقد اتخذ وجهه سيماء الطفل الذي يخاف مجابهة سؤاله بالرفض: «استدعي آندريه.»
بدا كأنه أدرك شخصيا صبيانية هذا الطلب، أو أن هذا على الأقل ما خيل إلى ماري. أجابت: «لقد تلقيت رسالة منه .»
نظر إليها بدهشة ووجل: «وأين هو إذن؟» - «إنه في الجيش يا أبي، في سمولنسك.»
أغمض عينيه، وظل طويلا صامتا، ثم وكأنه أراد أن يبدد شكوكها وأن يثبت بنفس الوقت أنه استعاد ذاكرته وأحاسيسه، عاد وفتحهما ثم أشار برأسه إشارة إيجابية.
قال بصوت خافت ولكن واضح: «نعم، لقد ضاعت روسيا، لقد أضاعوها.»
وانفجر منتحبا من جديد، وسالت دموع على خديه، فلم تستطع ماري الصمود أكثر من ذلك، فاستسلمت لدموعها هي الأخرى وهي تنظر إلى وجهه.
أغمض عينيه ولم يلبث أن هدأ، وأشار إلى عينيه فأدرك تيخون قصده فجففها.
عاد ففتح عينيه، ثم فاه ببضع كلمات لم يتوصل أحد إلى فهمها باستثناء تيخون وحده، وكانت ماري تحمل معناها على مختلف الأفكار التي واتتها حتى ذلك الحين: روسيا، آندريه، هي نفسها، حفيده أم موته. لكن الأمر كان متعلقا بشيء آخر؛ لقد قال: «اذهبي وارتدي ثوبك الأبيض، إنه يعجبني.»
ولما نقل إليها تيخون هذا التمني تضاعف إجهاش ماري، وحينئذ أمسك الطبيب بيدها وأخذها إلى الشرفة؛ حيث عني بتهدئة ثائرتها، ولفت نظرها إلى ضرورة الإسراع باستعدادات الرحيل تكلم الأمير مرة أخرى عن ولده أثناء غياب ماري، وعن الحرب والإمبراطور، وقطب حاجبيه بشكل يدل على الغضب، وراح صوته الأجش يزداد ارتفاعا، وفجأة أصيب بصدمة ثانية كانت الأخيرة.
كانت ماري خلال ذلك واقفة على الشرفة، وقد أخذ الطقس يجمل والحرارة تثقل. ما كانت ماري قادرة على فهم شيء، كانت مستسلمة بكليتها إلى محبتها والتي تكنها لأبيها، تلك المحبة التي خيل إليها أنها ظلت تجهل غورها حتى ذلك اليوم. هرعت إلى الحديقة وهي تنشج، ونزلت حتى بلغت المستنقع على طول الممشى الحديث الذي تحفه من الجانبين أشجار الزيزفون الفتية التي غرسها الأمير آندريه.
أخذت تكرر في نفسها وهي تسير بخطى واسعة وتضغط على صدرها بيدها، ذلك الصدر الذي كانت تنبعث منه زفرات تشنجية: «وأنا ... وأنا ... التي تمنيت موته! نعم، لقد تمنيت أن ينتهي كل هذا بسرعة ... كنت تواقة إلى أن أتذوق الراحة أخيرا ... ثم ماذا سيحل بي الآن ؟ أية فائدة تعود بالراحة علي إذا لم يعد هو في الوجود؟»
قادها طوافها في الحديقة إلى التوجه نحو البيت؛ فإذا بها ترى الآنسة بوريين التي كانت ترفض مغادرة بوجوتشاروفو، آتية لاستقبالها ومعها مجهول. كان هذا نقيب الأشراف في المقاطعة، وقد جاء بنفسه يحث الأميرة على الرحيل. وبعد أن لبثت ترافقه فترة، اعتذرت له وأرادت أن تدخل غرفة أبيها، لكن الطبيب الذي كان خارجا منها منقلب الأسارير منعها من الدخول. - «يستحيل يا أميرة، يستحيل!»
عادت ماري إلى الحديقة، إلى أسفل المنحدر المؤدي إلى المستنقع، إلى مكان لا يمكن لأحد أن يراها فيه، وجلست على العشب. ما كانت تستطيع معرفة الوقت الذي أمضته في مكانها ذاك خائرة القوى حتى جعلتها خطوات نسائية مندفعة تعود إلى تمالك نفسها. نهضت فشاهدت وصيفتها دونياشا التي كانت تفتش عنها، لكنها ما إن رأت سيدتها، حتى توقفت وكأنها صعقت. قالت بصوت متقطع: «هل تريدين الحضور يا أميرة؟ إن الأمير ...»
قالت ماري دون أن تترك لها وقت إتمام جملتها: «إنني ماضية، إنني ماضية.»
وجرت إلى البيت وهي تتحاشى نظرة دونياشا.
قال لها النقيب الذي كان ينتظرها عند المدخل: «أيتها الأميرة، إن مشيئة الله على وشك أن تتم، فكوني مستعدة لكل شيء.»
صرخت بصوت شرس: «دعني، هذا غير صحيح.»
وحاول الطبيب أن يمنعها، فدفعته جانبا واندفعت إلى الباب: «لماذا يستوقفني هؤلاء الناس؟ ماذا تعبر عنه وجوههم المروعة؟ لست في حاجة إلى أحد. ماذا يفعلون هنا جميعهم؟» فتحت الباب وأحست بالخوف وهي ترى تلك الحجرة التي ظلت حتى ذلك الحين غارقة في عتمة الظل، تسطع فيها أنوار النهار القوية. كانت مربيتها العجوز ونسوة آخرون هناك، فابتعدن عن السرير ليتحن لها مجال المرور ... كان الأمير لا يزال مستلقيا، لكن وجهه كان مطبوعا بخطورة مشرقة جعلت ماري تتوقف لحظة على عتبة الباب.
حدثت نفسها وهي تقترب: «كلا، إنه ليس بميت! هذا مستحيل!» تغلبت على روعها ولمست بشفتيها وجنة أبيها، لكنها لم تلبث أن تراجعت إلى الوراء. لقد أفسح الحنان كله الذي كانت تحس به حياله المكان فجأة لعاطفة من الهول: «إذن، إنه لم يعد على قيد الحياة! إنه لم يعد في المكان الذي كان فيه. لم يعد الآن إلا ما لست أدري من مجهول ومخيف؛ سر رهيب يجعلني أرتعد من الهول!» ثم أخفت رأسها بين يديها وانهارت بين ذراعي الطبيب الذي أسندها.
شرعت النساء بحضور تيخون والطبيب يعنين بزينة من كان الأمير بولكونسكي. غسلن الجسد وأبقين الفم مطبقا مستعينات بمنديل، ثم أوثقن الساقين اللتين انفرجتا بمنديل آخر، ثم بعد أن ألبسنه بزته الموشاة بالأوسمة، مددن تلك الجثة الصغيرة المهزولة فوق المائدة. الله وحده يعرف من أعطى الأوامر ومنذ متى أعطيت، لكن كل شيء كان يسير بنظام تلقائي. وحوالي المساء، أضيئت الشموع حول النعش المغطى بستار رقيق، وكانت الأرض قد فرشت بأغصان العرعر، وأودعت صلاة مطبوعة تحت رأس الميت، بينما راح المرتل يترنم في صلواته في إحدى الزوايا.
وكما ترى الخيول عندما تجتمع وتتنافر وتحتد حول حصان ميت، كذلك شوهدت في البهو حول النعش جماعة من الناس تحتشد بين أقرباء وغرباء: نقيب الأشراف والحاكم ونساء القرية، وكلهم شاخصة أبصارهم مفعمة بالذعر، يرسمون إشارة الصليب وينحنون ويقلبون يد الأمير العجوز الباردة المتصلبة.
الفصل التاسع
فطنة ألباتيتش
قبل أن يقيم الأمير آندريه في ذلك الملك، ظل فلاحو بوجوتشاروفو بعيدين عن عيني سيدهم. كانوا يختلفون كل الاختلاف عن فلاحي ليسيا جوري الذين امتازوا عنهم باللغة والألبسة والعادات. كانوا يسمونهم «جماعة القفار»، وعندما كانوا يذهبون إلى ليسيا جوري لمساعدتهم في الحصاد أو لتنظيف المستنقعات والحفر، كان الأمير يمتدح كفاءتهم في العمل، لكن وحشيتهم كانت تنفره.
ولقد عملت إقامة الأمير آندريه الأخيرة بينهم وتجديداته التي أدخلها - مستشفيات، مدارس، تخفيف قيود حصة المالك - بعيدا عن تلطيف عاداتهم، على إبراز هذه البادرة الظاهرة من عقليتهم التي كان الأمير العجوز يسميها وحشية. كانت الشائعات المبهجة تروج بينهم دائما؛ فحينا كانوا سيسجلونهم في عداد القوقازيين، وحينا آخر سيدخلونهم في دين جديد، وكانوا تارة يتبادلون ما يزعمون أنه رسائل من القيصر، ويزعمون حينا آخر أن السادة عندما أقسموا يمين الولاء للإمبراطور بول، وعدوا بتحرير رقيق الأرض، لكنهم لم ينفذوا ما وعدوا به، بل إنهم تناقلوا مرة مؤكدين أن «بول الثالث» سيعود ويحكم في غضون سبع سنين، وسيصبح كل الرقيق حرا على عهده، وسيجري كل شيء ببساطة زائدة، حتى إنه لن يكون ثمة حاجة إلى أية قوانين بهذا المعنى. وكان ما يروونه عن الحرب ونابليون والغزو يختلط عندهم بمبادئ غامضة عن المسيح الدجال ونهاية العالم والحرية العامة.
وكان إلى جوار بوجوتشاروفو قرى كبيرة تعود إلى التاج أو إلى أشخاص خصوصيين، ولكنها جميعها آهلة بقرويين تابعين لنظام الإتاوة، وكان عدد قليل جدا من السادة يقيم بينهم؛ لذلك فإن عدد الملمين بقواعد القراءة بين الرقيق والخدم قليل جدا. وعلى ذلك فإن التيارات الخفية في الحياة الشعبية بين سكان تلك القرى التي ظلت أسبابها ومرماها سرا مستغلقا على المعاصرين، كانت أكثر قوة منها في الأمكنة الأخرى. وكذلك على سبيل المثال، وقعت بينهم منذ عشرين عاما خلت حركة هجرة إلى بعض الأنهار ذات المياه الساخنة، وباعت مئات الأسر فجأة ماشيتها، ومن بينها عدد من عائلات بوجوتشاروفو، ونزحت إلى مكان ما في الجنوب الشرقي، فكانوا يتوجهون إلى تلك المناطق التي لم تطأها من قبل قدم أحدهم مصطحبين معهم نساءهم وأطفالهم أشبه بالعصافير المهاجرة التي تعبر البحار. وكان بعضهم يشتري حريته والبعض الآخر يفر، ويذهبون جميعهم على أقدامهم أو في عربات قوافل إلى المياه الحارة. ولقد لحق ببعضهم فعوقبوا وأرسلوا إلى سيبريا، ونفق البعض الآخر خلال الطريق من البرد والجوع، وعاد الباقون طواعية إلى أمكنتهم الأولى، ثم انتهت الحركة من تلقاء نفسها كما بدأت دون سبب ظاهر. لكن التيارات العميقة استمرت تجري بين هذا الشعب الذي أخذ يستمد منها قوة جديدة كانت ستظهر يوما ما على شكل غاية في الغرابة وعدم التوقع، وبنفس الوقت غاية في البساطة الطبعية. وكان كل من عاش خلال تلك الفترة من عام 1812م مع هذا الشعب، يشعر بأنه إنما يعد من قبل هذه القوى البطيئة التي لا بد وأن تظهر إلى الوجود ذات يوم.
لاحظ ألباتيتش الذي وصل إلى بوجوتشاروفو قبل موت الأمير ببعض الوقت، حركة ما بين الفلاحين؛ ذلك أن «رجال القفر»، على عكس ما كان يجري في منطقة ليسيا جوري أو في دائرة قطرها خمسة عشر ميلا؛ حيث السكان يهجرون قراهم لينهبها القوقازيون؛ كانوا يعقدون الصلات مع الفرنسيين، ويتلقون منهم بعض الأوراق، ولا يفكرون قط في الرحيل. وعلم ألباتيتش عن طريق بعض الخدم الموالين له، أن المدعو «كارب» - وهو شخص قوي النفوذ في المنطقة، الذي عاد مؤخرا من تسيير قافلة من العلف لحساب التاج - كان ينشر إشاعة مفادها أن القوقازيين ينهبون القرى التي يهجرها سكانها، في حين أن الفرنسيين يحترمون السكان. وأخبروه كذلك أن قرويا آخر حمل أمس من ضيعة فيسلوؤتخوفو التي يحتلها العدو نداء يخطر فيه الجنرال الفرنسي السكان بأنه لن يقع لهم أي مكروه، وأنهم إذا ظلوا في أماكنهم فإنهم سيدفعون لهم عدا ونقدا ثمن كل شيء يأخذونه منهم. وتأييدا لهذا المزعم كان ذلك الفلاح الخشن يريهم ورقة مالية من ذات المائة روبل - ما كان يعرف أنها زائفة - أعطيت له عربونا على علف اتفق معهم على تسليمه لهم.
بل هناك ما هو أكثر خطرا؛ لقد علم ألباتيتش أنه في ذلك الصباح بالذات الذي أصدر فيه الأمر إلى شيخ الضيعة بإعداد العربات لنقل الأميرة، عقد اجتماع في القرية قرروا فيه عدم الذهاب وانتظار ما تأتي به الأحداث. مع ذلك، فقد كان الوقت مدركا، وفي 15 آب، يوم وفاة الأمير، ألح نقيب الأشراف على الأميرة ماري أن تذهب من فورها؛ لأن الموقف بات يثير القلق، وأنه إذا انقضى يوم 16 آب، فإنه لن يكون مسئولا. ولقد ذهب ذلك المساء بالذات واعدا أن يعود في اليوم التالي ليحضر الدفن، لكنه لم يف بوعده؛ لأن تقدما مفاجئا من جانب العدو اضطره إلى ترحيل أسرته وما يملكه من ثمين، بأسرع ما يمكن.
كانت بوجوتشاروفو منذ حوالي ثلاثين عاما تدار من قبل المدعو درون؛ وهو واحد من أولئك القرويين المتينين جسديا وأخلاقيا، الذين تزداد كثافة لحاهم كلما تقدموا في السن، ولكنهم يبلغون الستين وأكثر دون أن يتبدل فيهم شيء آخر، أو أن تغزو شعرة بيضاء مفارقهم، أو أن تسقط واحدة من أسنانهم، بل يظلون منتصبي القامة في مثل قوة أبناء الثلاثين.
ولقد عين درون بعد حركة الهجرة إلى المياه الحارة بقليل - تلك الهجرة التي اشترك فيها - شيخ بلد في بوجوتشاروفو؛ وهو مركز ظل يشغله منذ ثلاثة وعشرين عاما بشكل لا يتطرق إليه النقد، وكان الفلاحون يخافونه أكثر مما يخافون أسيادهم، أما سيادة الأمير العجوز والشاب، وكذلك الوكيل، فقد كانوا يحترمونه ويسمونه على سبيل الدعابة: الوزير. لم ير طيلة مدة خدمته ثملا أو مريضا مرة واحدة، ولم يظهر قط، حتى في أعقاب ليال بيضاء أو بعد أعمال شديدة الإعنات، أية بادرة من التعب، ولم يخطئ قط رغم جهله القراءة والكتابة لا في حساباته النقدية ولا عدد مكاييل الدقيق الذي كان يبيع منه عربات ضخمة، ولا في عدد حزم الحشيش الذي تنتجه كل قصبة مربعة من مساحة الحقل.
وكان درون هذا، هو الذي استقدمه ألباتيتش الذي جاء من الأرض المخربة المنهوبة: ليسيا جوري، يوم الدفن، وكلفه باستحضار حوالي اثني عشر جوادا لعربات الأميرة، وثماني عشرة عربة صغيرة للأمتعة التي كان يجب نقلها. وعلى الرغم من أن القرويين كانوا خاضعين لنظام الحصة، فإن تنفيذ مثل هذا الأمر في نظر ألباتيتش ما كان يجب أن يلقى أية صعوبة؛ لأن بوجوتشاروفو كانت تعد مائتين وثلاثين بيتا وسكانها كلها في يسر. مع ذلك، فإن شيخ القرية درون خفض عينيه لدى تلقيه الأمر دون أن ينبس ببنت شقة، ولقد عين له ألباتيتش بعض القرويين من معارفه الذين يمكن أن يقوموا بعملية النقل، فقال درون إن خيول أولئك القرويين غير موجودة، فعين له ألباتيتش غيرهم. غير أن درون زعم أن هؤلاء بالمثل لا يملكون جيادا؛ فالبعض صودر لمصلحة التاج والبعض الآخر أنهك، بل إن قسما من خيولهم نفقت من قلة الغذاء. ولقد اشتط في مزاعمه إلى حد تعذر إيجاد خيول للعربات.
تأمله ألباتيتش بانتباه وقطب حاجبيه. وإذا كان درون يعتبر شيخ بلد مثاليا، فإن ألباتيتش الذي ظل عشرين عاما يدير أملاك الأمير، كان كذلك مسجلا مثاليا بالمثل، ولقد كان يمتاز بحاسة خارقة تساعده على تفهم حاجات ومشاعر الأشخاص الذين يتعامل معهم تفهما رائعا؛ لذلك فإن نظرة واحدة إلى درون كشفت له على الفور أن أجوبة درون لم تكن تعكس إمكانياته واستعداداته الشخصية، بل إمكانيات بوجوتشاروفو الذي كان متأثرا بنفوذ أهلها. ولم يكن جاهلا أن درون الفلاح الذي أثرى، والذي يكرهه القرويون الآخرون، لا بد وأن يتردد بين اختيار واحد من المعسكرين: معسكر السادة، ومعسكر القرويين. ولقد قرأ ألباتيتش كل هذا على وجه الرجل البسيط؛ لذلك فقد مشى إليه مقطب الحاجبين، وقال له: «اسمع يا درون، لا ترو لي ترهات، لقد أعطاني صاحب السعادة الأمير آندريه نيكولايفيتش نفسه الأمر بإجلاء كل الناس وعدم ترك أحد على اتصال مع العدو، وهناك أمر من القيصر متعلق بهذا الموضوع، وكل من يبقى يعتبر خائنا. هل تسمعني؟»
أجاب درون دون أن يرفع إليه عينيه: «أسمع.»
لكن هذا الجواب لم يرض ألباتيتش، فقال وهو يهز رأسه: «آه! درون، سوف يفسد الأمر!»
فقال درون حزينا: «كما تشاء!»
استرسل ألباتيتش، الذي أخرج يده من شق «قفطانه» وأشار إلى الأرض يلفت نظر درون بحركة مفخمة إلى مواطئ قدميه: «كفى، لا تتظاهر بالمكر! إنني لا أرى بوضوح ما في نفسك فحسب، بل كذلك أرى ما تحت قدميك إلى عمق ثلاثة أقدام.»
ألقى درون المضطرب نظرة مختلسة إلى ألباتيتش، لكنه ما لبث أن خفض عينيه على الفور. - «دعك من هذه الحماقات واذهب إليهم وقل لهم أن يستعدوا للرحيل غدا إلى موسكو، وأن يأتوا منذ صباح الغد بالعربات لنقل أمتعة الأميرة، وعلى الأخص لا تظهر في الاجتماع. هل سمعتني؟»
تهالك درون عند قدمي المسجل: «يا أياكوف ألباتيتش، اعزلني من مناصبي! استعد مني المفاتيح بحق السماء!»
فقال ألباتيتش بصرامة: «كفى!»
وأعاد قوله: «إنني أرى ما تحت قدميك إلى عمق ثلاثة أقدام.»
وكان يعرف أن براعته في العناية بالنحل وخبرته في مسائل البذار، وواقع أنه استطاع طيلة عشرين عاما وأكثر أن يرضي الأمير العجوز؛ كل ذلك أعطاه لقب ساحر، وإن السحرة يستطيعون رؤية ما تحت قدمي رجل إلى عمق ثلاثة أقدام.
نهض درون وأراد أن يتكلم، لكن ألباتيتش قطع حديثه: «ما الذي يطوف برأسك، هن؟ هيا، ماذا دهاك؟» - «ماذا أستطيع أن أعمل مع هؤلاء الناس؟ إنهم كلهم منقلبون رأسا على عقب ... لطالما قلت لهم ...» - «قلت لهم! قلت لهم! ... إنهم سكارى، أهو هذا؟» - «لم يعودوا مالكي أعصابهم يا أياكوف ألباتيتش، هذا هو البرميل الثاني الذي يأتون عليه.» - «حسنا، أصغ إذن. سأخطر الحاكم، وأنت اذهب وقل لهم أن يتركوا كل هذه الأشياء، وأن يقدموا العربات.» - «رهن أوامرك.»
لم يلح أياكوف ألباتيتش أكثر من ذلك، كان يعرف أن أفضل طريقة لجعل الناس يطيعونك هي ألا تضع طاعتهم موضع الشك، فلما حصل من درون على جملة «رهن أوامرك» الخاضعة، فقد اكتفى بها رغم أنه تأكد أكثر من أي وقت أن العربات لن تقدم دون تدخل القوات المسلحة.
والواقع أن المساء أقبل دون أن تصل عربة واحدة، ولقد تشكل اجتماع جديد أمام المشرب قرروا فيه طرد الخيول إلى الغابة وعدم تقديم شيء. ودون أن يقول شيئا للأميرة أمر أن تحل الخيول المقطورة إلى عرباته الشخصية التي جاء بها من ليسيا جوري، وأن تقطر تلك الخيول التي تصبح شاغرة بحكم إبقائه عرباته في مكانها، إلى عربات الأميرة، ثم مضى يستنجد بالسلطات.
الفصل العاشر
الأميرة ودرون
بعد أن شيعت ماري والدها إلى مثواه الأخير؛ اعتكفت في حجرتها ورفضت استقبال أي كان. وجاءت خادم تقرع بابها قائلة إن ألباتيتش ينتظر تعليماتها من أجل الرحيل، وكان ذلك قبل حديثه مع درون، فنهضت الأميرة عن الأريكة التي كانت مستلقية عليها وقالت من وراء الباب إنها لا تفكر قط في الرحيل، وسألت أن يتركوها بسلام.
كانت نوافذ غرفتها تطل على المغرب، وكانت - هي - مستلقية على الأريكة ووجهها إلى الجدار تعبث بزر وسادة من الجلد بين أصابعها، فلا ترى إلا تلك الوسادة؛ إذ تركزت أفكارها المبهمة حول موضوع وحيد: كانت تفكر في طبيعة الموت المحتوم، وفي إسفافها الخلقي التي ما كانت تلمسه حتى ذلك الحين، والذي تجلى لها خلال مرض أبيها، وكانت تريد من أعماق نفسها أن تصلي، ولكن في الحالة الفكرية التي وجدت نفسها فيها ما كانت تجرؤ على الالتفات إلى الله، وهكذا ظلت في وضعها ذاك ممددة فترة طويلة جدا.
كانت الشمس تغيب في الجانب الآخر من البيت، فراحت إشعاعاتها المنحرفة تغمر غرفتها خلال النافذة المفتوحة وتضيء جانبا من الوسادة الجلدية التي شخصت ماري إليها بأبصارها، وفجأة انقطع مجرى أفكارها، فانتصبت بحركة آلية وسوت شعرها، ثم اقتربت من النافذة وراحت رغما عنها تستنشق هواء تلك الأمسية الرائعة العليل.
حدثت نفسها وهي تتهاوى على كرسي وتتكئ برأسها على حافة النافذة: «نعم، تستطيعين الآن أن تتأملي جمال المساء بهدوء، لم يعد هناك من يزعجك بعد الآن، كما وأنه لن يأتي أحد لهذه الغاية.»
ناداها صوت رقيق عطوف من الحديقة، وأحست أن أحدهم يقبل رأسها، فالتفتت وإذا بالآنسة بوريين في ثوب حداد مزين بأكمام عريضة خاصة بمناسبات الحداد على فقيد عظيم، قد اقتربت برفق وعانقت ماري وهي تتنهد، ثم غرقت في الدموع. تذكرت ماري حينذاك خلافاتها ومدى إحساسها بالغيرة من هذه الفرنسية، لكنها تذكرت كذلك أن الأمير في الأيام الأخيرة أبدل سلوكه حيالها، وأنه لم يعد يرغب في رؤيتها، فاستنتجت من ذلك أن الشكوك التي أقامتها في أعماق نفسها لم تكن محقة، وقالت لنفسها: «ثم، هل لي أنا، أنا التي تمنيت موت أبي، أن أحكم على الغير؟»
رسمت ماري لنفسها بسرعة موقف الآنسة بوريين التي أرغمتها الظروف على العيش عند الآخرين رهن مشيئة شخص استبعدها منذ فترة من الوقت، فأشفقت على هذه المرأة. نظرت إليها بحنان كئيب، ومدت إليها يدها، فقبلت الآنسة بوريين تلك اليد، وراحت خلال دموعها تحدثها عن البلاء الذي أصابها، والذي تحمل هي نصيبا منه. قالت إنها لن تجد عزاء لألمها الشخصي إلا في عطف الأميرة، وأن الخلافات السابقة كلها يجب أن تتبدد أمام هذا الألم العظيم، وأنه فيما يتعلق بها، فإن ضميرها نقي، وإن «هو» من الأعلى كان يرى حبها وعرفانها بالجميل. أصغت إليها الأميرة ماري دون أن تدرك معنى كلماتها وراحت من حين إلى آخر ترفع عينيها إليها مستسلمة للهجة حديثها. استأنفت الآنسة بوريين بعد فترة صمت: «إن موقفك رهيب بشكل مضاعف يا أميرتي العزيزة، إنني أفقه ألا تكوني قد استطعت التفكير في نفسك كما لا تفكرين فيها الآن. لكن محبتي التي أكنها لك ترغمني على أن أقوم مقامك في ذلك ... هل جاء ألباتيتش لرؤيتك؟ هل حدثك عن الرحيل؟»
لم تجب ماري. ما كانت تدرك عن أي رحيل تتحدث. «هل أستطيع الآن أن أشرع في أي شيء كان؟ هل أستطيع حتى التفكير في أي شيء؟ أليس العالم كله في نظري عديم القيمة؟» لم تجب، فألحت الآنسة بوريين: «هل تعرفين يا ماري العزيزة أننا في خطر؟ إننا محاطون بالفرنسيين، حتى بات الرحيل الآن خطيرا، فإذا رحلنا تعرضنا لخطر الوقوع في الأسر والله يعلم.»
راحت ماري تنظر إلى رفيقتها دون أن تفهم قصدها. أخيرا قالت: «آه! ليتهم يعرفون أن كل شيء في نظري أصبح تافها! لا ريب أنني أفضل ألا أبتعد «عنه» ... ولقد ألمح ألباتيتش إلى هذا الرحيل ... اتفقي معه، أما أنا فلست أريد ولا أقدر على شيء ...» - «لقد تكلمت إليه. إنه يأمل أن نستطيع الرحيل غدا، لكنني أظن أن من الأفضل بقاءنا هنا. وافقي على ذلك يا عزيزتي ماري. سيكون مريعا أن نقع خلال الطريق بين يدي الجنود أو القرويين الثائرين.»
وأخرجت الآنسة بوريين من حقيبة يدها بيانا يختلف ورقه عن ورق الوثائق الروسية، صادرا عن الجنرال رامو، يدعو فيه السكان إلى عدم مغادرة مساكنهم، وأن السلطات الفرنسية سوف تمنحهم الحماية اللازمة لهم.
قالت الآنسة بوريين وهي تمد يدها بالبيان إلى أميرة: «أظن أن من الأفضل أن تتصلي بهذا الجنرال. إنني قانعة من أنه سيظهر حيالنا ما نستحق من رعاية .»
قرأت ماري البيان فتقلصت أساريرها وسألت: «من أين لك هذا؟»
أجابت الآنسة بوريين ووجهها يتضرج: «لا ريب أنهم عرفوا من اسمي أنني فرنسية.»
اغبر وجه ماري، فنهضت والورقة في يدها ومضت إلى المكتب الذي كان الأمير آندريه يجلس فيه، وهناك أمرت: «دونياشا، ادعي ألباتيتش أو درون أو من تشائين!»
ثم أردفت عندما سمعت صوت الآنسة بوريين: «وقولي لأميلي كارلوفنا ألا تدع أحدا يدخل علي.»
قررت وقد روعت لفكرة إمكان وقوعها بين أيدي الفرنسيين: «يجب الذهاب، أو الذهاب بأسرع ما يمكن!» «لو أن آندريه عرف أنها رهن مشيئتهم، لو عرف أن ابنة الأمير نيكولا آندريئيفيتش بولكونسكي قد التمست حماية السيد الجنرال «رامو» وأفادت من حسن التفاتاته!» أخذت هذه الفكرة تدفع الدماء إلى وجهها وتجعلها ترتعد ثم تغلي من الاعتداد والغضب، وكانت تتصور ما في مثل هذا الموقف من إيلام وخنوع. «سوف يتمركز هؤلاء الفرنسيون هنا، لكن الجنرال رامو سيحتل مكتب أخي، وسوف يتلهى بقراءة أوراقه ورسائله، وستقدم لهم الآنسة بوريين تحيات بوجوتشاروفو، وسيتركون لي غرفة صغيرة على سبيل الإحسان، وسيدنس الجنود ضريح أبي الذي لما يجف بعد؛ لكي ينتزعوا منه صليبه وأوسمته، وسيروون لي انتصاراتهم على الروسيين، وسيظهرون حيالي عطفا منافقا ...» والحق يقال، إن هذه الأفكار لم تكن تعبر عن إحساسات الأميرة ماري وحدها، بل كذلك إحساسات أبيها وأخيها التي وجدت أنها مرغمة على تبنيها بحكم الظروف الحاضرة. ما كان يهمها أين ستكون ولا ماذا سيحصل لها، لكنها كانت تتصور وجود أبيها المرحوم وأخيها الغائب، فكانت تشعر وتحس مثلهما رغما عنها، وكانت تقدر أن من واجبها أن تعمل وتقول ما كانا سيعملانه ويقولانه. ولما كانت معتكفة في مكتب الأمير آندريه، فقد راحت تحاول أن تستعرض الموقف وهي تفكر مثل تفكيره.
وفجأة فرضت ضرورات الحياة اليومية - التي ظنت أنها اختفت منذ وفاة والدها - وجودها فرضا عليها، وبأشد قوة كما لم تثقل كاهلها قط من قبل.
أخذت تروح وتجيء في الحجرة وهي مضطربة متضرجة الوجه، تطلب ألباتيتش تارة، وميخائيل إيفانوفيتش تارة أخرى، تيخون حينا ودرون حينا آخر، ولم تكن دونياشا ولا المربية ولا أية واحدة من الخادمات لتستطيع أن تحدثها بشيء واضح حول مزاعم الآنسة بوريين. لقد كان ألباتيتش غائبا ساعيا وراء الاستعانة بالسلطات، ولم يستطع المهندس ميخائيل إيفانوفيتش الذي مثل أمامها وعيناه منتفختان من النوم، أن يحدثها بشيء. لقد أجاب على أسئلة الأميرة بمثل تلك الابتسامة المؤيدة التي سمحت له خلال خمسة عشر عاما أن يجيب على أسئلة الأمير العجوز دون أن يعبر عن رأيه في محادثاته معه، فكانت كلماته لا تتيح للمرء أن يستنتج منها شيئا. ولما سألت الوصيف العجوز تيخون الذي كان وجهه المنقلب يحمل طابع حزن لا يشفى، أجاب بعبارته الخالدة: «رهن أوامرك.» وكلما رفع عينيه إلى ماري وجد صعوبة عظيمة في كبت إجهاشه.
أخيرا، جاء شيخ البلد درون، وبعد أن حيا سيدته بمزيد الاحترام، جمد في مكانه بجانب إطار الباب.
اجتازت ماري الحجرة ووقفت أمامه، وقالت له وهي تظن واثقة أنها واجدة صديقا أمينا في درون ذاك الذي كان يأتيها بالحلوى من الأنواع التي تحبها كلما ذهب في رحلته السنوية إلى معرض فيازما: «يا دروني الطيب، يا دروني الطيب، انظر بعد مصيبتنا ...»
وأمسكت وقد خانها النطق على الاسترسال. فأجاب وهو يتنهد: «إننا جميعا في يد الله.»
وران صمت. أخيرا استطاعت ماري أن تقول: «يا دروني الطيب، لقد ذهب ألباتيتش ولم يبق لدي من أتوجه إليه بالحديث. إنهم يزعمون أنني لا أستطيع الذهاب. فهل هذا صحيح؟» - «ولماذا لا تستطيعين الذهاب يا صاحبة السعادة؟» - «إنهم يؤكدون لي أن الرحيل يمثل خطرا بسبب جوار العدو. يا صديقي الباسل، إنني لا أستطيع شيئا ولا أفهم شيئا، وليس لدي من يشير علي بشيء. أريد مهما كلف الأمر أن أرحل هذه الليلة أو غدا صباحا على أعظم حد.»
لم ينبس درون بكلمة، أخذ يختلس النظر إلى سيدته، ثم قال أخيرا: «لا توجد خيول. ولقد قلت هذا القول من قبل لأياكوف ألباتيتش.» - «ولماذا لا توجد خيول؟» - «إن عقاب الله مسلط علينا. إن الخيول التي كانت موجودة صودر بعضها من قبل الجيوش ونفق الباقي، يا لها من سنة شقاء! إن أمر الحيوانات بسيط لولا أن الناس أنفسهم لا يجدون ما يأكلونه ... هناك من منذ ثلاثة أيام لم يضعوا شيئا تحت أسنانهم ... لقد نكبنا كما ترين، نكبنا تماما.»
أصغت إليه ماري بانتباه ثم سألت: «الفلاحون منكوبون؟ ألم يعد لديهم شيء من القمح؟» - «إنهم يموتون جوعا ... كيف تريدين أن يقدموا عربات؟! ...» - «ولماذا لم تقل شيئا يا دروني الطيب؟ ألا يمكن تقديم المساعدة إليهم؟ سوف أعمل كل ما أستطيع ...»
في تلك اللحظة التي كانت متأثرة بحزن عميق يحرقها؛ وجدت الأميرة ماري أن من الغرابة وجود أغنياء وفقراء، وألا يفكر الأغنياء في نجدة الفقراء، ولقد سمعت بشيء من الغموض عن قمح مخصص «للسيد» كانوا أحيانا يوزعونه على القرويين، وكانت تعرف أن أباها أو أخاها ما كانا يرفضان تقديم المساعدة لهم، لكنها كانت تخاف ألا تستطيع التعبير عن رغبتها، كانت سعيدة ألا تستطيع بسبب غاية نبيلة طرد ألمها لفترة ما؛ لذلك فقد سألت درون عن تفاصيل حاجات القرويين واحتياطي بوجوتشاروفو. - «ولكن يجب أن يكون لدينا قمح ... حصة أخي!»
أجاب درون باعتداد: «إن حنطة الأمير سليمة لم تمس، لقد رفض أميرنا أن تباع.» - «وزعها على القرويين، أعطهم كل ما يحتاجون إليه، إنني أجيزك باسم أخي.»
اقتصر جواب درون على تنهدة عميقة. - «أعطهم ذاك القمح إذا كانت كميته تكفيهم، أعطه لهم كله، آمرك باسم أخي، قل لهم إن ما لنا نحن لهم كذلك، وإننا لا ندخر شيئا في سبيل مساعدتهم. قل لهم كل ذلك.»
ظلت عينا درون شاخصتين إلى الأميرة خلال حديثهما، فقال: «بحق السماء يا أميرة، اعزليني من منصبي، مريني أن أعيد مفاتيحي، لقد خدمت طيلة ثلاثة وعشرين عاما دون أن آتي سوءا، فاعزليني بحق السماء.»
ولما لم تدرك ماري شيئا من دوافع هذا الطلب، أجابته بأنها لم تشك قط في وفائه، وأنها ستعمل المستحيل من أجله ومن أجل القرويين.
الفصل الحادي عشر
قرار الفلاحين
وبعد ساعة، دخلت دونياشا معلنة للأميرة أن درون قد عاد، وأن القرويين المجتمعين بناء على أمرها قرب المكدس يرغبون في التحدث إليها.
قالت ماري: «إنني لم أستدعهم. لقد قلت لدرون فقط أن يعطيهم قمحا.»
فقالت دونياشا: «إذن يا أميرتي الطيبة، مري بهم أن يطردوا، وخصوصا لا تذهبي إليهم بحق السماء، إن كل هذه ليست إلا خدعة، سوف نذهب عندما يعود أياكوف ألباتيتش ... ولكن لا تحتملي عناء.»
سألت ماري بدهشة: «عن أية خدعة تتحدثين؟» - «إنني أعرف ما أقول ... اتبعي نصائحي بحق السماء، سلي المربية إذا شئت، إنهم يرفضون الذهاب حسب أمرك.» - «لا بد وأنك مخطئة. إنني لم آمرهم قط بالرحيل ... ادعي درون.»
أيد درون أقوال دونياشا: «لقد جاء القرويون للقاء الأميرة بناء على أمرها.»
قالت ماري: «لكنني لم أستدعهم أبدا! لعلك أخطأت. لقد قلت لك ببساطة أن توزع عليهم القمح.»
أطلق درون تنهدة وقال: «سوف يرجعون إذا كنت تأمرين.» - «كلا، كلا، أريد أن أذهب لرؤيتهم.»
وعلى الرغم من توسلات دونياشا والمربية، فقد مضت إلى المرقاة، فتبعها الامرأتان ودرون وميخائيل إيفانوفيتش.
حدثت نفسها: «لا ريب أنهم يعتقدون أنني أمنحهم القمح شريطة أن يبقوا في أماكنهم فأهجرهم بذلك ليصبحوا رهن أوامر الفرنسيين، سوف أعدهم بجراية شهرية وبمأوى في عقارنا القريب من موسكو، إنني واثقة من أن آندريه كان سيفعل أكثر من ذلك لو كان في مكاني.»
وعندما وصلت إلى المرعى قرب المكدس؛ حيث ينتظرها القرويون، كان الليل قد أقبل. ولقد حصلت حركة بين الجماعة المحتشدة ثم حسرت الرءوس فجأة، فاقتربت ماري منهم مطرقة الرأس وهي تتعثر بردائها، ولكثرة الوجوه الفتية والهرمة والأبصار التي كانت متجهة نحوها، لم تستطع أن تميز أحدا، ولما كانت واثقة من أنها تخاطبهم جميعا فقد ارتج عليها، ولكن إيمانها بأنها إنما تمثل أباها وأخاها، أعطاها من جديد همة ونشاطا، فراحت تتكلم بجرأة رغم أن قلبها كان يخفق بشدة.
قالت دون أن ترفع عينيها إليهم: «إنني مسرورة لمجيئكم، لقد قال لي درون إن الحرب قد نكبتكم. إنها بلاؤنا المشترك؛ لذلك فإنني لن أدخر وسعا في سبيل مساعدتكم ... يجب علي أن أذهب؛ لأن العدو قريب، ولأن ... ولأنني معرضة للخطر ببقائي هنا ... لكنني أعطيكم كل شيء يا أصدقائي، أسألكم أن تأخذوا كل قمحنا كيلا تصبحوا معوزين، وإذا قالوا لكم إنني أقدم لكم هذه المنحة كي تمكثوا هنا، فهو خطأ، إنه على العكس، إنني أرجوكم أن تذهبوا حاملين كل ما تملكونه، وأن تقيموا في أملاكنا قرب موسكو، وأعدكم بتقديم المأوى والطعام.»
توقفت ماري ولم يجبها الجمع إلا بالتنهدات. استرسلت: «إنني لا أتقدم بهذا التعهد باسمي وحدي، بل إنني أتصرف باسم المرحوم أبي الذي كان سيدا طيبا لكم، وباسم أخي وابنه.»
توقفت مرة أخرى ولم يقطع أحد الصمت. أردفت وهي تفحص الوجوه بأنظارها: «إن البلاء يشملنا جميعا؛ لذلك فإننا سنوزع كل شيء مناصفة، إن كل ما يخصني يخصكم.»
كانت العيون كلها شاخصة إليها وفيها تعبير عام متشابه، ولكن ماذا كان يعني ذلك التعبير: الفضول، التفاني، العرفان، أم على العكس: الذعر والتحفظ؟ هذا ما لم تستطع تبيانه.
قال صوت من الوراء: «إننا نشكرك على أفضالك، لكننا لا نستطيع أخذ حنطة السيد.» - «ولماذا إذن؟»
لم تحظ بجواب، ولاحظت ماري أن النظرات التي أخذت تلتقي الآن بنظراتها راحت تروغ منها من فورها. ألحت في السؤال: «لماذا لا تريدون؟»
ولكن دون أن يجيب أحد.
أحست ماري بالانزعاج، فحاولت أن تستوقف إحدى تلك النظرات. سألت عجوزا واقفا قبالتها مباشرة متكئا على عصاه، استطاعت أن تضبط نظرته. - «لماذا لا تقولون شيئا؟ تكلم، هيا، إذا كنتم في حاجة إلى شيء آخر فإنني سأعمل كل ما يجب.»
لكن العجوز زاد من إطراق رأسه، وكأن الأمر زاد في إغضابه، وأعلن: «لماذا نوافق؟ لسنا في حاجة إلى القمح.»
وقالت أصوات كثيرة انبعثت من الحشد: «ولماذا يجب أن نتخلى عن كل شيء؟ إننا لن نوافق ... إننا لن نوافق. لن نعطي موافقتنا ... اذهبي وحدك ...»
ومن جديد عادت الوجوه تنطبع بذلك الطابع، ولكن بات بالإمكان قراءة المعنى بكل وضوح الآن؛ إنه ليس طابع الفضول أو العرفان، بل إنه أمارات العزم الوحشي.
قالت ماري بابتسامة حزينة: «لا ريب أنكم أسأتم فهمي. لماذا ترفضون الذهاب؟ إنني أعدكم بإيوائكم وإطعامكم في حين أن العدو سينكبكم هنا ...»
بيد أن أصوات الجماعة خنقت صوتها: «سيان! لينكبنا! إننا لا نريد قمحك، ولن نعطي موافقتنا.»
حاولت ماري أن تضبط نظرة في ذلك الجمع، ولكن ما كانت إحداها متجهة نحوها، كانت العيون كلها تتحاشاها، فازداد انزعاجها. - «كم هو جميل هذا الذي تعرضه علينا! أن نذهب هكذا معها ونترك بيوتنا تهدم، أن نضع الحبل حول أعناقنا! وكيف لا؟! إنني أعطيكم قمحا!»
هذا ما راحوا يقولونه بينهم، فعادت ماري إلى البيت منكسة الرأس، وبعد أن كررت لدرون أنها تريد خيولا لصباح اليوم التالي، انسحبت إلى غرفتها؛ حيث انفردت مع أفكارها.
الفصل الثاني عشر
ذكريات ماري
ظلت ماري ليلتئذ واقفة فترة طويلة أمام نافذتها المفتوحة، لا مبالية بجلبة الأصوات التي كانت تتصاعد من القرية: ماذا يهمها من هؤلاء الناس الذين لا تستطيع أن تفهم قط؟ لم تعد تفكر إلا في ألمها، ذلك الألم الذي أخذ يدخل في حنايا الماضي بعد هذا الإلهاء الذي خلقته هموم الحاضر. إنها تستطيع الآن أن تذكر وتبكي وأن تصلي. هدأت الريح بغروب الشمس، وجاء الليل ساكنا رطيبا، وصمتت الأصوات تدريجيا حوالي منتصف الليل، وصاح ديك وظهر البدر من وراء الزيزفون، ونشر الندى أبخرته البيضاء، وران السكون فوق القرية والبيت.
تمثلت أمامها صور ماض قريب، الواحدة تلو الأخرى: المرض ولحظات أبيها الأخيرة. ولقد توقفت عندها بتلذذ ضجر لا تدفع عنها منها بهول إلا واحدة، تلك التي تمثل الموت التي كانت تشعر أنها لا تملك القوة على استعراضها في تلك الساعة الصافية الغامضة من الليل. ولقد بدت لها تلك المشاهد بوضوح شديد وتفصيل دقيق، حتى إنه كان يخيل إليها أنها ملك الحاضر تارة، وتارة الماضي والمستقبل، مرة أخرى.
عادت ترى تلك الدقيقة التي أصيب فيها أبوها بالنوبة القلبية في حديقة ليسيا جوري: كانوا عائدين به وهم يحملونه من تحت إبطيه، وكان يغمغم شيئا بلسانه العاجز، ويقطب حاجبيه الأبيضين وينظر إليها بحزن وخجل .
فكرت: «كان يريد منذ ذلك الحين أن يقول لي ما قاله يوم موته. لقد كان ذلك هو مستقر تفكيره دائما.» وفجأة تذكرت الليلة التي سبقت النوبة في أدق تفاصيلها، حينما توقعت أن يحل مكروه فرفضت أن تتركه وحيدا. لقد نزلت على أطراف قدميها وقد جفاها النوم، فلما وصلت إلى باب الحديقة الشتوية، حيث كان أبوها يمضي ليلته تلك، سمعته يتحدث مع تيخون بصوت منهك محطم عن القرم والليالي الحارة وعن الإمبراطورة. كان بلا ريب يشعر بحاجة إلى الكلام. ولقد حدثت ماري نفسها وهي تتصور موقفه الآن: «ولماذا لم يأمر باستدعائي؟ لماذا لم يسمح لي بأن أحل محل تيخون بالقرب منه؟ آه! إنه لن يقول لأحد أبدا ما كان يعتلج في قلبه حينذاك. إن تلك اللحظة التي كان يمكن أن يقول خلالها ما يريد أن يقوله، والتي لو كنت هناك عوضا عن تيخون أصغي إليه وأفهمه، لن تعود أبدا بالنسبة إليه ولا بالنسبة إلي. آه! لماذا لم أدخل ليلتئذ؟! كان سيحدثني ولا ريب كما حدثني وهو على فراش الموت. إنني أذكر أنه بينما راح يتحدث مع تيخون استفسر مرتين عني. كان يتوق إلى رؤيتي بينما كنت أنا وراء الباب. كان يتألم من أن لا يسمعه أحد غير تيخون الذي ما كان يستطيع فهمه. لقد حدثه عن «ليز» وكأنها لا تزال على قيد الحياة؛ لأنه نسي ولا ريب أنها ماتت؛ فلما لفت تيخون انتباهه إلى أنها لم تعد في هذه الدنيا، نعته بالأحمق. لقد كان يتألم، لقد سمعت خلال الباب كيف زمجر وهو يستلقي على السرير، وكيف صاح: «رباه!» لماذا لم أدخل حينذاك؟ ماذا كان عمل لي؟ أي خطر كان يهددني؟ لعل زيارتي كانت ستحمل له الراحة، ولعله كان سيقول لي هذه الكلمة.» وبصوت مرتفع لفظت ماري تلك الكلمة الممالقة التي قالها لها يوم موته: «يا روحي العزيزة!» وراحت ترددها وهي تذرف الدموع المسكنة. باتت ترى الآن أمامها وجه أبيها، ليس ذلك الوجه النافر الذي عرفته دائما، بل ذلك الوجه الجزع الضعيف الذي تأملته لأول مرة في أدق تقاطيعه عندما مالت عليه لتقترب من شفتيه بغية سماع ما سيقول.
كررت: «يا روحي العزيزة ...»
وتساءلت فجأة: «ماذا كان يفكر عندما قال لي هذه الكلمة؟ بأي شيء كان يفكر الآن ؟» وجوابا على هذا السؤال تصورت التعبير الذي انطبع على وجهه وهو في نعشه وحول ذقنه العصابة البيضاء، وعاد ذلك الرعب الذي استحوذ عليها عندما لمسته، فأحست بأنه لم يعد هو نفسه فحسب، بل أصبح شيئا غامضا ومنفرا، استحوذ عليها ذلك الرعب نفسه في تلك اللحظة. أرادت أن تفكر في شيء آخر؛ في الصلاة، لكنها لم تقدر على ذلك. راحت تتأمل ضياء القمر والأطياف بعينين جاحظتين وهي تتوقع في كل لحظة أن يظهر أمامها وجه الميت، وشعرت كأن الصمت العميق الذي يخيم على البيت وما حوله يشل حركتها، فغمغمت ثم صرخت بصوت غريب: «دونياشا! ... دونياشا!»
وانتزعت نفسها من الصمت، فاندفعت إلى حجرة الوصيفات؛ حيث هرعت المربية ونساء أخريات إلى لقائها استجابة لندائها.
الفصل الثالث عشر
تدخل روستوف
في السابع عشر من آب، ذهب روستوف وإيلين وتابع لهما، ومعهم لافروشكا الذي عاد من أسره القصير، في نزهة من معسكرهم في أيانكوفو، على بعد أربعة أميال من بوجوتشاروفو؛ بغية تجريب حصان جديد اشتراه إيلين، والبحث عن إمكان وجود علف في القرى المجاورة.
كانت بوجوتشاروفو منذ ثلاثة أيام بين الجيشين العدوين معرضة في كل لحظة لأن تحتلها مؤخرة الجيوش الروسية أو طلائع الجيوش الفرنسية؛ لذلك فقد كان روستوف بوصفه رئيس كوكبة نابه يريد أن يحصل قبل العدو على ما قد تبقى من الأرزاق.
ولقد كان الشابان ذلك اليوم على خير مزاج، فكانا وهما في طريقهما إلى ذلك الملك الأميري، بوجوتشاروفو، الذي توقعا أن يريا فيه خدما كثيرين وبينهم فتيات جميلات كثيرات، يتسليان بالسؤال من لافروشكا عن نابليون، أو باختبار الحصان الذي اشتراه إيلين متبارزين في الجري.
ما كان روستوف يشك في أن القطاع الذي يذهب إليه ملك لبولكونسكي ذاك الذي كان خطيب أخته.
وللمرة الأخيرة، أطلق وإيلين مطيتيهما عند المنحدر قبل بوجوتشاروفو، فكان روستوف الذي سبق صديقه أول من جرى في شارع القرية.
قال له إيلين وقد تورد وجهه: «لقد سبقني!»
فأجاب روستوف وهو يربت بيده على جواده «الدوني» الذي أبيض من الزبد: «لي السبق في كل الميادين.»
وقال لافروشكا من الوراء: «أتدري يا صاحب السعادة أنني كنت قادرا على اللحاق بك على ظهر فرسي - وكان يدعو كديشة الجر التي كان يمتطيها بهذا الاسم - لكنني ما أردت أن أخجلك.»
اقتربا من رواق وقف تحته عدد كبير من القرويين، فنزع بعضهم قلانسهم، واكتفى الآخرون بالنظر إلى الوافدين الجدد، وخرج عجوزان عملاقان متغضنا الوجه ذوا لحيتين غير ناميتين، من المشرب وهما يبتسمان ويتمايلان ويدمدمان في غير انسجام، واقتربا من الضباط.
قال روستوف وهو يضحك: «يا لهما من فتيين! قولي، هل لديكم علف؟»
وقال إيلين ملاحظا: «إن كليهما زوج نادر ...»
ونطق أحد العجوزين بضحكة بلهاء: «سررنا با ... للق ... اء ...»
واقترب واحد من الجماعة من روستوف وسأل: «من أنتم؟»
فأجاب إيلين بانشراح جزيل: «فرنسيون.»
وأضاف وهو يشير إلى لافروشكا: «بل إن هذا هو نابليون بالذات.»
استأنف القروي: «استنادا إلى هذا، فأنتم روسيون؟»
واستفسر آخر قصير القامة وقد اقترب بدوره: «هل معكم خلق كثير؟»
أجاب روستوف: «كثير كثير ... ماذا تفعلون هنا؟ هل اتفق أن اليوم يوم عيد؟»
فقال الرجل وهو يبتعد: «لقد اجتمع شيوخنا للتداول في شئوننا.»
وفي تلك اللحظة نفسها، ظهر على الطريق المؤدي إلى البيت الكبير امرأتان ورجل يضع على رأسه قبعة بيضاء، فتوجهوا نحو الضابطين.
قال إيلين وهو يشير إلى دونياشا التي راحت تتجه نحوه بخطى مصممة: «إنني أحتفظ بذات الثوب الوردي فحذار أن «يلطشها» مني أحد!»
وقال لافروشكا وهو يغمز بعينيه بقحة: «سوف ننالها!»
سألها إيلين وهو يبتسم: «ماذا يلزمك يا جميلتي؟» - «إن الأميرة أرسلتني لأسألكم عن الفوج الذي تنتمون إليه، وعن اسمكم!» - «إن السيد هو الكونت روستوف قائد الكوكبة، وأنا خادمك المتواضع.»
ودمدم العجوز الثمل ذو الضحكة البلهاء وهو يتأمل هذا المنظر: «سررنا با ... للق ... اء ...»
وصل ألباتيتش على إثر دونياشا، وقد كشف عن رأسه باحترام قبل أن يصل، وقال بامتثال يظهر فيه بعض المقت لشباب روستوف، محتفظا بيده في شق ثوبه: «هل أجرؤ على إزعاجكم يا صاحب النبالة، إن سيدتي، ابنة الجنرال القائد الأعلى الأمير نيكولا آندريئيفيتش بولكونسكي المتوفى في الخامس عشر من هذا الشهر، في موقف صعب بسبب غلظة هؤلاء الناس - وأشار بيده إلى القرويين - وهي تسألكم أن تذهبوا لرؤيتها ... هل تريدون أن تتنحوا قليلا؟ إننا لا نستطيع أن نتفاهم بحضور هؤلاء - وأشار بابتسامة ضجرة إلى الثملين اللذين كانا يدوران حوله متأخرين قليلا كما يدور الذباب حول الخيل.»
وقال الرفيقان الثملان وهما يكشفان له عن أجمل ابتساماتهما: «هي! ألباتيتش! ... أياكوف ألباتيتش! ... إنك تتكلم جيدا ... اعذرنا بحق المسيح.»
فلم يستطع روستوف حيال هذا المشهد إلا أن يبتسم هو الآخر، فقال أياكوف ألباتيتش بأشد لهجاته اتزانا: «إلا إذا كان ذلك يبعث التسلية في نفس سعادتك.»
فقال روستوف: «كلا، لا يوجد ما يدعو إلى التسلية.»
ثم سأل بعد أن ابتعد قليلا: «هيا، ما هو الموضوع؟» - «يجب أن أخطر سعادتك بأن هؤلاء القضامين لا يريدون أن يسمحوا لسيدتي بمغادرة المكان، مهددين بحل الخيول من العربات، حتى إن كل شيء معد منذ هذا الصباح دون أن تستطيع الأميرة الذهاب.»
هتف روستوف: «مستحيل!» - «لي الشرف بأن أروي لك الحقيقة النقية.»
ترجل روستوف وسلم حصانه إلى التابع، ثم اتجه نحو البيت برفقة ألباتيتش الذي شرح له تفاصيل المسألة، ولقد أفسد عرض توزيع القمح على القرويين وتفاهم الأميرة مع درون ومندوبي المقاطعة؛ الأمر، حتى إن شيخ القرية أعاد مفاتيحه نهائيا ليلحق بمرءوسيه، فلم يستجب لدعوة ألباتيتش. وعندما أصدرت الأميرة منذ الصباح الباكر الأمر بقطر الخيول إلى العربات استعدادا للرحيل، اجتمع القرويون بعدد كبير أمام المكدس، وأرسلوا من يقول إنهم بدلا من أن يدعوها تذهب سيحلون الخيول. ولما حاول ألباتيتش أن يعيدهم إلى صوابهم، أجابه السيد كارب - لأن درون كان يتحاشى الظهور - أن الأميرة بذهابها إنما تخالف التعليمات التي أصدرتها السلطات، وأن واجبها يحتم عليها البقاء، وأنهم سيستمرون على خدمتها كسابق عهدهم، ويطيعونها في كل شيء إن هي بقيت. وعندما كان روستوف وإيلين يصلان هدبا إلى الطريق العام، كانت الأميرة متصاممة عن سماع لوم ألباتيتش والمربية والخادمات، تتأهب للذهاب مهما كلف الأمر، لكنها عندما لمحت الفرسان الذين ظنت أنهم من الفرنسيين، كان الحوذيون قد فروا بينما راحت النساء يملأن البيت توجعا وأنينا.
تعالت صرخات متوسلة بينما كان روستوف يجتاز الدهليز: «أنقذنا أيها السيد العزيز. إن الله الكريم هو الذي أرسلك!»
وكانت الأميرة ماري ساهمة منهوكة القوى في البهو عندما أدخل عليها روستوف، فلم يسمح لها قلقها البالغ أن تدرك للوهلة الأولى من هو ذلك الرجل وماذا جاء يفعل هناك، ولكنها عندما تبينت من تصرف الضابط الشاب وكلماته الأولى التي فاه بها أنه روسي، وأنه رجل من طبقتها، حتى شخصت إليه بنظرتها العميقة المشرقة، وأجابته بصوت متهدج يقطعه الانفعال. ولا شك أن روستوف اكتشف لأول وهلة الجانب الروائي في المغامرة. فكر وهو يتأمل ماري ويصغي إلى قصتها وهي ترويها بصوتها الحي: «هذه الفتاة العزلاء المحطمة من الألم، واقعة تحت رحمة القرويين المتمردين! يا لدعابة القدر الذي ساقني إلى هنا في الوقت المناسب! ... ويا للرقة! يا للنبل في تقاسيمها وفي أمارات وجهها!»
وعندما بلغت في قولها إن كل هذا وقع غداة يوم دفن أبيها، ازداد صوتها اضطرابا، فأدارت رأسها خشية أن يعتقد روستوف أنها تحاول أن تثير شفقته على مصيرها، ثم ألقت نظرة مستفسرة وجلة على وجه الشاب. رأت أن الدموع كانت تتلألأ في مقلتيه. لاحظت الأميرة ماري ذلك، فشكرته بتلك النظرة المشرقة التي تذهب دمامة تقاسيمها.
أعلن روستوف وهو ينهض واقفا: «لا أستطيع يا أميرة أن أعرب عن مدى سعادتي لوجودي هنا صدفة، ولاستطاعتي أن أضع نفسي تحت تصرفك الكلي. اذهبي، وإنني أكفل بشرفي أنك إذا سمحت لي بمرافقتك فلن يستطيع أحد أن يسبب لك أي إزعاج.»
واتجه نحو الباب وهو ينحني أمامها باحترام وكأنها أميرة من البيت المالك. لقد كانت تلك التصرفات الاحتفالية تقول إنه رغم رغبته الشديدة في أن يربط معها أواصر معرفة أوسع، إلا أنه لا يريد استغلال شقاء ماري ليتابع الحديث معها، ولقد فهمت الفتاة هذا المعنى وقدرت تلك الفطنة.
قالت له بالفرنسية: «إنني شاكرة لك صنيعك جدا جدا. آمل ألا يكون هذا كله أكثر من سوء تفاهم، وألا تجد فيه مذنبا ...»
ثم أضافت وهي تشعر بالدموع تفر من عينيها: «اعذرني ...»
قطب روستوف حاجبيه وانحنى مرة أخرى وخرج.
الفصل الرابع عشر
إخماد الفتنة
حسنا! إنها جميلة! إن فتاتي فاتنة يا عزيزي واسمها دونياشا ...
لكن نظرة واحدة ألقاها على روستوف أصمتت إيلين على الفور. حدس أن رئيسه - بطلبه - لا يفكر الآن في الترهات.
والواقع أن روستوف لم يجبه إلا بنظرة ثائرة، واتجه نحو القرية يحث الخطى. كان يدمدم في سره: «سوف أريهم، سوف أعطيهم ما يستحقونه هؤلاء الأنذال!»
ووجد ألباتيتش صعوبة في اللحاق به رغم أنه راح يوسع خطاه، ولما لحق به سأله: «أي قرار اتخذتم يا صاحب السعادة؟»
توقف روستوف، وفجأة تقدم نحو ألباتيتش مهددا بقبضتيه وصاح: «قرار! أي قرار؟ أين كانت عيونك أيها الأبله العجوز؟ يتمرد القرويون فلا تعرف كيف تعيدهم إلى الطاعة! لست إلا خائنا أنت الآخر! آه! إنني أعرفكم جيدا، سوف أسلخ جلودكم جميعا! ...»
ولما كان يخشى أن يبدد عبثا الغضب الذي تجمع في نفسه، فقد ترك المسجل ليعود إلى مشيته السريعة، أما ألباتيتش، فقد راح بإلحاح يلحق بروستوف جريا ليعرض عليه أفكاره، وقد فرض الصمت على كرامته المهانة؛ فالقرويون، إذا آمنا بكلامه، مدعومون كل الدعم، وإن من غير الحكمة أن يناوئهم دون اللجوء إلى القوة المسلحة، فمن الأفضل إذن استدعاء الجنود قبل كل.
قال نيكولا وهو يجيب دون ترو بعد أن استبدت به ضرورة فثء غضبه المخالف للصواب، الحيواني، الذي كان يخنقه: «استدعاء الجنود! ... مناوءتهم! ... سوف نرى هذا! ...»
مشى بخطوات حازمة إلى الجموع المحتشدة دون أن يفكر فيما سيعمل. وكلما ازداد قربا من المحتشدين، ازداد اعتقاد ألباتيتش بأن هذه الحركة غير الحكيمة قد تؤدي بالفلاحين الثائرين إلى الندم ، خصوصا وأن مشية روستوف النشيطة ووجهه المتقلص أخذا على ما يبدو يحدثان على وجوههم مثل ذلك الأثر.
لم يكد الفرسان يدخلون القرية، ولم يكد روستوف يمضي إلى زيارة الأميرة، حتى عم الخلاف والتباين في آراء الجماعة المحتشدة. صرخ بعضهم بأن الوافدين الجدد من الروسيين، وأنهم يستاءون من استبقائهم الأميرة. وكان درون من أنصار أصحاب هذا الرأي، لكنه ما كاد يفتح فمه حتى هاجم كارب وعدد آخر شيخ البلد السابق هجوما عنيفا. صرخ كارب: «سيان عندك هذا، هن؟ منذ كم عام وأنت تجتز الصوف من على ظهورنا؟ ثم تستخرج كنزك الدفين ثم الوداع، لقد رأيتك. سيان عندك أن يخربوا بيوتنا!»
وصرخ صوت آخر: «إن ما قيل قد قيل، لا ليتحرك أحد منكم ولا ليحمل أحد ذرة! لا يمكن التراجع عن هذا القرار.»
وألقى عجوز صغير فجأة مخاطبا درون: «كان دور ابنك في الذهاب إلى الجيش، لكنك خشيت على ذلك المنتفخ الضخم، فكان أن أحللت ولدي محله! ... سوف نموت كلنا، هه، إذ يجب أن تكفر أنت الآخر عنها، عن خطاياك!» - «نعم، بالطبع، يجب ذلك!»
فأعلن درون: «لن أنفصل عن البلد.» - «كلام ... وبطنك العظيم هذا، من أين اكتسبته على هذا النحو؟ ...»
كذلك كانت ثرثرة العملاقين العجوزين.
لم يكد روستوف، وبصحبته إيلين ولافروشكا وألباتيتش، يصل قريبا من الجماعة حتى انبرى كارب إلى الأمام وأصابعه في حزامه والابتسامة الخفيفة على شفتيه، أما درون فقد راح على العكس يختفي في الصفوف الخلفية، واقترب الحشد المكتظ.
صاح روستوف وهو يمشي إليهم: «هو لا! من هو شيخ البلد؟»
فسأل كارب: «شيخ البلد؟ وماذا تريد منه؟»
لكنه لم يكد يتم جملته حتى كانت قلنسوته تطوح في الهواء، ورأسه يتأرجح تحت وطأة الضربة القوية.
زمجر روستوف: «ارفعوا القلانس! أيها الخونة!»
وكرر بصوت رهيب: «أين شيخ البلد؟»
هرعت بعض الأصوات تقول وقد خضعت، بينما انحسرت الرءوس: «شيخ البلد! شيخ البلد! ... يا درون زاخاريتش، إنه يدعوك!»
أعلن كارب: «إننا لم نتمرد، لكننا نسهر فقط على التدابير المتخذة ...»
وبادرت أصوات من الوراء إلى نجدته: «لقد تمسكنا بقرار شيوخنا ... أما سلطات مثلكم فكثيرة الوجود ...»
هدر روستوف بصوت لم يكن فيه شيء من الإنسانية: «هن؟ ... تناقشون؟ ... عصيان! ... عصبة الأشرار! عصبة الخونة!»
وأمسك كارب من ياقته وقال آمرا: «ليشد وثاقه، ليشد وثاقه !»
رغم أنه لم يكن هناك لتنفيذ هذا الأمر غير لافروشكا وألباتيتش، مع ذلك فقد هرع لافروشكا وأمسك يدي الرجل من الخلف، وقال: «إن الرفاق عند أسفل المنحدر، فهل يجب استدعاؤهم؟»
وانتخب ألباتيتش اثنين من القرويين خرجا بوداعة من بين الصفوف وشرعا يحلان نطاقيهما، بينما صرخ روستوف من جديد: «أين شيخ البلد؟»
خرج درون من بين الجمع شاحب الوجه مكتئبا، فهتف روستوف آمرا وكأن تنفيذ أمره لا يجب أن يصطدم بأي عائق: «هذا أنت شيخ البلد؟ اشدد وثاقه يا لافروشكا!»
وبالفعل، فقد حل اثنان آخران من القرويين حزاميهما وراحا يوثقان يدي درون الذي سهل المهمة من جانبه بتقديمه نطاقه الذي حل من حول وسطه.
استأنف روستوف يقول مخاطبا القرويين: «أما أنتم، فأصغوا إلي جيدا. منذ هذه اللحظة، إلى الأمام سر! ليمض كل منكم إلى داره، وليتحاش التفوه بكلمة!»
قالت بعض الأصوات، راح أصحابها يتبادلون الاتهام: «لم نرتكب إثما ... لقد تصرفنا هكذا بغباء ... لقد قلت إن هذا لن يؤدي بنا إلى أي شيء ...»
وقال ألباتيتش الذي استعاد سلطته من فوره: «لقد أخطرتكم من قبل، إن العمل ليس حميدا أيها الفتيان!»
فأجابته أصوات: «ماذا تريد يا أياكوف ألباتيتش؟! لسنا ماكرين.»
وتفرقت الجماعة على الفور، بينما تأثر الثملان خطوات السجينين اللذين اقتيدا إلى البيت.
قال أحدهم لكارب: «يا لشكلك الجميل!»
وأيد الآخر: «ماذا دعاك إلى التحدث هكذا إلى الأسياد؟ إنك أبله يا فتاي، أبله شديد البأس!»
وبعد ساعتين، وقفت العربات في الفناء وراح القرويون يرصفون فيها أمتعة سادتهم بحماس، بينما راح درون الذي أخرج من الحجرة الصغيرة التي سجن فيها بناء على طلب الأميرة، يلقي الأوامر إلى القرويين.
قال أحد الفلاحين، وهو فتى مديد القامة ذو وجه مستدير باسم، وهو يتلقى صندوقه من يدي خادمة: «ضع هذا في مكان جيد. إن مثل هذا الشيء ثمين، فلا يجب حشره كيفما اتفق، ولا ربطه بقطة حبل؛ لأن ذلك سيفسده. إن مثل هذه الأساليب الشريفة ... هكذا، احزم لي هذا كما يجب في القش، وغطه بقطعة حصير ... هكذا ، «مشي الحال».»
وقال آخر وهو يفرغ مكتبة الأمير آندريه: «يا لكثرة ما فيها من كتب! ... لا تعترني، هن! آه! كم هي ثقيلة يا فتيان! إن كتبا كهذه عمل رائع ...»
وقال الفلاح العملاق ذو الوجه المستدير وهو يلقي نظرة الخبير على المعاجم الضخمة: «بالطبع، إن الذين كتبوا هذه الكتب لم يدخروا وسعا ...» •••
لم يشأ روستوف أن يفرض نفسه على الأميرة؛ لذلك فإنه لم يعد لرؤيتها، بل لبث في القرية حتى لحظة الرحيل، وعندما تحرك الموكب امتطى جواده ورافق الأميرة حتى أبلغها الطريق الذي تحتله قواتنا على مسافة ثلاثة أميال من بوجوتشاروفو. وفي نزل أيانكوفو، سأل باحترام أن تأذن له بالانصراف، وسمح لنفسه للمرة الأولى أن يقبل يدها.
قال لماري التي راحت تشكره على إنقاذه حياتها ووجهه متورد: «إنك تخجلينني. كان باستطاعة أي دركي أن يعمل ما عملت ... لو أننا ما كنا نحارب إلا القرويين لما تركنا العدو يتقدم إلى مثل هذه المسافة.»
ثم أضاف في شيء من الارتباك محاولا أن يقف بالحديث عند ذلك الحد: «على أنني أبارك هذا الحادث الذي سمح لي بالتعرف عليك. وداعا يا أميرة، أتمنى لك كل سعادة ممكنة. عسى أن نلتقي في ظروف أقل حزنا من هذه. كلا، أتوسل إليك، لا تخجليني ولا تشكريني.»
لكن الأميرة إذا كفت عن شكره بالكلمات، فإنها ظلت تشكره بتعابير وجهها المشرق بالعرفان والحنان. كانت ترفض أن تصدق أنها غير مدينة إليه بآيات الشكر، وتقول لنفسها: «لو أنه لم يكن هناك، لكنت ضحية القرويين الثائرين والفرنسيين، ولقد تعرض لأخطار رهيبة بديهية بقصد إنقاذي، ليس في ذلك أدنى شك. ثم إنه بلا ريب روح نبيلة؛ لقد عرف كيف يرثي لألمي، فقد امتلأت عيناه الشديدتا الطيبة والنبل بالدموع في اللحظة التي كنت أبكي فيها عندما حدثته عن أبي المتوفى.» ولقد رست هذه الذكرى بعمق في قلب الأميرة ماري.
ولما ودعته وأصبحت وحيدة شعرت فجأة باستعدادها للبكاء. تساءلت، وإن لم تكن تلك الفكرة الغريبة قد غزت رأسها لأول مرة: «ترى، هل أحبه؟»
ولقد لاحظت دونياشا التي رافقت سيدتها خلال الرحلة إلى موسكو، أن الأميرة قد أخرجت رأسها مرارا خلال باب العربة، وابتسمت ابتسامة حزينة وسعيدة معا رغم أن الرحلة لم تكن إلا قليلة المرح.
وعلى الرغم من الخجل الذي شعرت به وهي تعترف بأنها تحب أول رجل لا يبادلها ولا ريب عاطفتها بمثلها، فقد كان عزاؤها أن ما من أحد سيعلم عن الموضوع شيئا، وأنها لا ترتكب أي خطأ إذا أحبت بصمت وإلى آخر عمرها ذلك الذي سيكون غرامها الأول والوحيد.
وكانت أحيانا تستعرض بعض التفاتات روستوف ونظراته وكلماته، فيخيل إليها حينذاك أن السعادة ليست مستحيلة. وكانت دونياشا تلاحظ في مثل تلك اللحظات الابتسامة على شفتي سيدتها وهي تطل من باب المركبة.
راحت ماري تحدث نفسها وهي ترى في كل ذلك إصبع القدرة: «كان يجب أن يأتي إلى بوجوتشاروفو، وفي تلك الدقيقة بالذات! كان يجب أن ترفض أخته خطوبة الأمير آندريه!»
أما روستوف، فقد حمل من الأميرة ماري أروع ذكرى، ولما قال له رفاقه الذين اطلعوا على مغامرته في بوجوتشاروفو أنه بينما ذهب للبحث عن العلف اكتشف واحدة من أغنى وارثات روسيا، لم ترق له الدعابة؛ ذلك لأن فكرة الزواج من تلك الفتاة الرقيقة المحبوبة المالكة ثروة ضخمة قد راودت رأسه في الواقع أكثر من مرة، ما كان يستطيع أن يتمنى أفضل منها زوجة. إن هذا الزواج لا ريب قادر على إقرار أوضاع أبيه المالية وإغداق السعادة على قلب والدته وقلب ماري نفسها ولا شك. إنه يحس بذلك. نعم، ولكن سونيا، ولكن الوعد الذي صرفه! وكانت هذه النقطة الأخيرة هي التي تفسد مزاجه وتزعجه في موضوع الأميرة بولكونسكي.
الفصل الخامس عشر
كوتوزوف وآندريه
ما إن تسلم كوتوزوف قيادة الجيوش حتى تذكر الأمير آندريه، فأرسل يستدعيه إلى القيادة العامة .
ووصل آندريه إلى تساريفو-زائيميختشيه في اليوم نفسه، وفي اللحظة التي كان كوتوزوف يقوم فيها باستعراضه الأول. توقف أمام منزل كاهن القرية؛ حيث وقفت عربة «عظيم الرفعة» - وهو اللقب الذي راح الناس كلهم يطلقونه على كوتوزوف - وجلس ينتظره على المقعد الذي يدعم البوابة، وكانت أصوات موسيقى عسكرية تتناوب في الحقول مع هتافات مدوية: «هورا»، وعلى قيد عشر خطوات من آندريه أخذ تابعان وحاجب وخادم يتنزهان في الهواء الطلق في غياب سيدهم، وأوقف نائب زعيم من الفرسان حصانه أمام بولكونسكي، وكان قصير القامة أسمر اللون ذا شاربين وسالفين طويلين، وسأله عما إذا كان هذا هو بيت «عظيم الرفعة»، وما إذا كان يمكن رؤيته بعد حين.
ولما أنبأه آندريه بأنه ليس من أعضاء أركان حرب كوتوزوف، وأنه مثله وصل منذ حين، خاطب الفارس واحدا من التابعين، فأجاب المتظرف بتلك اللهجة الطلقة التي يتصنعها حيال الضباط تابعي الجنرالات: «عن ماذا؟ عظيم الرفعة؟ نعم، يعتقد أنه سيكون هنا قريبا. ماذا تريد منه؟»
ابتسم نائب الزعيم في شاربيه وترجل، وبعد أن أسلم حصانه إلى تابع، اقترب من بولكونسكي يحييه تحية خفيفة، فأفسح له هذا مكانا على المقعد.
سأله وهو يجلس بجانبه: «هل تنتظر القائد الأعلى أيضا؟ إنهم يقولون إنه يستقبل كل الناس وهذا مضجر. لقد كان هذا الأمر مختلفا مع أكلة النقانق. إن إيرمولوف لم يطلب عبثا تعيينه «ألمانيا». لنأمل أن يستطيع الروسيون بعد الآن قول كلمتهم. ما كان الآخرون يعرفون إلا التقهقر. كفانا تقهقرا على هذا النوع يالألف شيطان! ... هل اشتركت في الحرب؟»
أجاب آندريه: «لقد حصل لي السرور، ليس بالمساهمة في التراجع فحسب، بل كذلك بفقد وإضاعة أثمن ما كان عندي إضافة إلى أملاكي ... وهو أبي الذي مات من الحزن. إنني من مقاطعة سمولنسك.» - «آه! أنت الأمير بولكونسكي؟ يفتنني أن أتعرف عليك. إنني نائب الزعيم دينيسوف، اشتهرت باسم فاسكا.»
قال ذلك وهو يشد على يد آندريه وينظر إليه باهتمام ودي. أعقب بعد فترة صمت: «الحقيقة أني علمت ... ها هي ذي إذن حرب يأجوج . إنها جميلة جدا إذا أريد لها ذلك، ولكن ليس بالنسبة إلى الذين يقدمون تكاليفها! ... إذن، أنت الأمير آندريه بولكونسكي؟ إنني سعيد يا أمير، سعيد بمعرفتك.»
وراح يهز رأسه بابتسامة حزينة وهو يردد هذا القول، ومن جديد عاد يشد على يده.
كان الأمير آندريه يعرف دينيسوف تبعا لما روته له ناتاشا عن المتقدم الأول لطلب يدها، فأيقظت هذه الذكرى الرفيقة الشاقة معا في نفسه المشاعر الأليمة التي كانت هاجعة في أعماق قلبه، حتى إنه لم يفكر فيها منذ بعض الوقت. لقد أصابته في الأيام الأخيرة صدمات نفسية أخرى: مغادرة سمولنسك، زيارته لليسيا جوري، الخبر الجديد الذي تلقاه عن وفاة والده، حتى باتت تلك الذكريات معدومة، أو على الأقل لم تعد تهاجمه بمثل تلك القسوة. أما بالنسبة إلى دينيسوف، فإن اسم بولكونسكي بعث في ذاكرته ذلك الماضي الشاعري البعيد؛ عاد يرى ذلك المساء الذي تقدم بعد العشاء وأغنية ناتاشا، يعلن حبه لتلك الصبية البالغة من العمر 15 عاما دون أن يدرك ما يفعل، لكنه بعد أن أقطع هذه الرواية السالفة ابتسامة، عاد من فوره إلى مشاغله الحاضرة الوحيدة. لقد ابتكر وهو يحمي بفرسانه تراجع الجيوش، خطة حربية عرضها على باركلي دوتوللي، وأراد الآن أن يعرضها على كوتوزوف. بدا له خط عمليات الفرنسيين شديد الامتداد، فكان يجب العمل ضد خطوط مواصلاتهم بدلا من العمل في الجبهة، وقطع الطريق عليهم، أو حتى تنفيذ الخطتين معا. وراح يشرح أفكاره للأمير آندريه: «إنهم لن يستطيعوا الصمود على طول هذا الخط، بل إنني أؤكد إمكان قطعه. أعطني خمسمائة رجل وإنني أقسم بشرفي على أنني سأخترق هذا الخط! إن حرب الأنصار هي الأسلوب الجيد والأوحد!»
وبينما راح دينيسوف وهو واقف يشرح خطته العتيدة ويدعمها بإشارات كبيرة من ذراعيه؛ ارتفعت من ساحة العرض هتافات أكثر تباينا واتساعا راحت تختلط بأصوات الموسيقى والغناء، فبلغت مسامعهم. ولم تلبث أن ملأت الجلبة المصحوبة بوطء قوائم الخيل القرية كلها.
هتف القوقازي القائم بالحراسة عند باب الفناء: «ها هو ذا يصل! هذا هو!»
وفي تلك الأثناء، وقفت مفرزة من الجنود بالباب. إنها حرس الشرف. واقترب بولكونسكي ودينيسوف فرأيا كوتوزوف يتقدم ممتطيا صهوة جواد كميت صغير، تواكبه حاشية كبيرة من الجنرالات، وكان باركلي يسير على جواده بمحاذاته تقريبا، بينما راحت طائفة من الضباط تجري إلى جانب الموكب وهم يهتفون: «هورا.»
تقدم المساعدون العسكريون ودخلوا إلى الفناء، وراح كوتوزوف يستحث بنفاد صبر جواده الذي كان يهملج منحنيا تحت وزن فارسه، وهو لا يني يحني رأسه ويرفع يده إلى عمرته البيضاء الخاصة بالحرس الراكب، وهي عمرة بيضاء ذات حاشية حمراء لا طرف لها. ولما وصل إلى حذاء حرس الشرف المؤلف من نخبة من الجنود البواسل يحمل معظمهم الأوسمة؛ شخص إليهم فترة طويلة وهم يحيونه بالسلاح بنظرته النافذة كرئيس، ثم التفت إلى الضباط الذين كانوا يحيطون به، وفجأة اتخذ وجهه طابع الازدراء، وهز كتفيه بحركة تدل على الدهشة، ثم قال: «ومع مثل هؤلاء الفتيان لا نكف عن التقهقر!»
ثم أضاف وهو يدفع حصانه نحو البوابة ويمر منها مارا بالأمير آندريه ودينيسوف: «هيا يا جنرال، إلى اللقاء.»
وارتفعت الأصوات من الوراء: «هورا! هورا! هورا!»
رأى آندريه أن كوتوزوف أضخم وأثقل وزنا وأكثر ترهلا مما كان عليه وقت أن قابله آخر مرة، بينما بالمقابل لم تتبدل عنه البيضاء وذلك الجرح الملتئم وتلك المظاهر المنهكة التي كان يعرفها حق المعرفة. وكان يتمنطق بسوطه فوق بزته وقد تدلى إلى سير جلدي رقيق. وكان متهاويا على ظهر جواده الصغير الباسل يتأرجح بتثاقل ويصفر صفيرا خافتا خلال أسنانه. أما وجهه، فكان يعكس الرضى عن إمكانية التنعم بقسط من الراحة بعد سخرة تقليدية. سحب ساقه اليسرى من الركاب ومررها فوق السرج بحركة دائرية من كل جسمه، وقد قطب حاجبيه استجابة للمجهود، وانطوى على ركبته ثم تهاوى وهو يزمجر بين أذرع القوقازيين والمساعدين العسكريين الذين أخذوا يسندونه.
انتصب من جديد وسرح حوله الطرف بعينيه نصف المغمضتين، وتصفح وجه الأمير آندريه دون أن يعرفه، ثم اتجه نحو المرقاة بمشيته النازلة، وعاد من جديد إلى الصفير وهو ينظر إلى الأمير آندريه. وكما يقع عادة للشيوخ، اقتضاه بضع ثوان حتى استطاع أن يضع اسما لذلك الوجه. قال بنصب: «آه! مرحبا يا أمير، مرحبا يا عزيزي. هيا بنا ...»
وبخطواته الثقيلة، اجتاز درجات المرقاة التي تطقطق تحت ثقله .
حل أزراره وجلس على مقعد عند أعلى المرقاة. - «حسنا! وأبوك؟»
قال آندريه بإيجاز: «لقد تلقيت أمس نبأ وفاته.»
تأمله كوتوزوف بعينين مروعتين، ثم رفع عمرته ورسم شارة الصليب. - «ليتغمد الله روحه! لتكن مشيئته نافذة فينا جميعا!»
ثم أطلق زفرة عميقة واستأنف بعد فترة صمت: «كنت أحبه وأقدره، وإنني أرثي من كل نفسي لمصابك.»
وفتح ذراعيه للأمير آندريه وضمه إلى صدره السمين حيث أبقاه طويلا، ولما تركه أخيرا، رأى آندريه أن شفتيه المنتفختين ترتعدان، وأن عينيه مبللتان بالدموع، وبعد زفرة جديدة، أسند كلتا يديه إلى المقعد لينهض وقال: «ادخل، سوف نتحدث ...»
إلا أن دينيسوف في تلك اللحظة، وهو قليل الرهبة أمام رؤسائه كما هو حاله أمام أعدائه، أبعد عنه المساعدين العسكريين الذين كانوا يحاولون بصوت خافت غاضب استبقاءه عند أسفل المرقاة، وارتقى الدرجات يرن بمهازيه، فنظر إليه كوتوزوف باستياء ويداه لا زالتا متكئتين إلى المقعد. أعلن كوتوزوف عن اسمه وقال إنه يريد أن يحدث سموه حديثا على جانب عظيم من الأهمية يتعلق بسلامة الوطن، فعقد كوتوزوف يديه على بطنه بحركة منقادة وهو لا يزال يتصفح وجهه بعينيه المنهكتين، وقال مكررا: «لسلامة الوطن؟ هيا، ما هو الموضوع؟ تكلم.» احمر وجه كوتوزوف وكأنه فتاة - وكان من الغريب أن يحمر هذا الوجه العجوز، وجه مدمن ذو شاربين - ثم عرض بجرأة خطة قطع خطوط اتصال العدو بين سمولنسك وفيازما، وهي المنطقة التي يعرفها جيدا لأنه سكن فيها، وكانت تلك الخطة ممتازة إذا حكمنا على الأقل على قوة الإيمان التي أفعم بها كلماته، وكان كوتوزوف حينذاك قد أصبح يحدق في قدميه وينقل نظرته من حين إلى آخر إلى الكوخ الخشبي المجاور، وكأنه يتوقع أن يبرز منه شيء ما مزعج، والواقع أن جنرالا خرج من الكوخ المجاور يحمل تحت إبطه محفظة عندما بلغ دينيسوف أفضل نقطة من الموضوع الذي كان يشرحه.
قال كوتوزوف: «كيف؟ هل أصبحت مستعدا؟»
فأجاب الجنرال: «نعم يا صاحب السمو.»
هز كوتوزوف رأسه وكأنه يقول: «كيف توصل رجل واحد إلى صنع كل هذا؟» ثم أصغى من جديد إلى شرح الضابط الروسي. أنهى هذا حديثه بقوله: «سوف أدمر مواصلات نابليون، وإنني أقسم على ذلك بشرفي كضابط روسي.»
سأله كوتوزوف: «هل سيريل آندريئييفيتش دينيسوف، الأمين العام، قريبك؟» - «إنه عمي يا صاحب السمو.»
أجاب الجنرال القائد الأعلى ببشاشة: «آه! لقد كنا أصدقاء، حسنا يا عزيزي، البث هنا في الأركان وسوف نتحدث غدا عن كل هذا.»
وصرفه بإشارة من رأسه، ثم مد يده إلى الأوراق التي حملها له كونوفنيتسين الجنرال المنوب.
قال هذا بلهجة استياء: «هل تتفضلون سموكم بالدخول؟ هناك مخططات قيد الدرس وأوراق قيد التوقيع.»
ظهر مساعد عسكري من ناحية البيت وقال إن كل شيء معد، لكن كوتوزوف ولا ريب ما كان يريد الدخول إلا بعد أن يتخلص من كل عمل. قطب حاجبيه: «كلا يا عزيزي، مر بإحضار طاولة، سوف أفحص هذه الأوراق هنا ...»
ثم أردف مخاطبا الأمير آندريه: «لا تذهب.»
فظل هذا على المرقاة يصيخ السمع إلى تقرير الجنرال المنوب، لكنه لم يلبث أن اجتذبه همس صوت مؤنث وحفيف ثوب من الحرير، وبعد أن التفت مرات عديدة إلى الناحية التي صدر عنها الصوت، انتهى به الأمر إلى رؤية امرأة جميلة متينة البنيان بثوب وردي ودثار خبازي اللون، تبدو خلال الباب الموارب حاملة طبقا في يدها وكأنها تنتظر القائد الأعلى. ولقد فسر المساعد العسكري للأمير آندريه أنها ربة البيت، زوجة القس، التي كانت تستعد لتقديم الخبز والملح لسعادته، ولقد استقبل الزوج عظيم الرفعة في الكنيسة والصليب في يده، أما الآن فإن المرأة تريد استقباله في البيت. وأضاف باسما: «إنها ليست رديئة أبدا.» وعند هذه الكلمات أدار كوتوزوف رأسه. كان يصغي إلى الجنرال الذي أخذ يشرح له بصورة خاصة النقاط الضعيفة في مركز تساريفو-زائيميختشيه، كما أصغى إلى دينيسوف وكما أصغى منذ سبع سنين خلت إلى النقاش في المجلس الاستشاري العسكري في أوسترليتز، وكان يرى أنه ليس مصغيا إلا لأنه كان يملك أذنين لا تستطيعان رغم صماد المشاقة الذي كان يسد إحداهما - وهو علاج شعبي لآلام الأسنان - إلا أن تسمعا، وما كان هناك شيء مما يعرضه عليه ذلك الجنرال قادر على إثارة دهشته أو إثارة اهتمامه. كان يعرف مسبقا كل ما يمكن أن يقولوه له، فكان يصغي إلى أقوالهم بحكم الواجب كما يصغي المرء إلى قداس رباني حتى النهاية. كانت خطة دينيسوف بارعة ورصينة، وكذلك كان تقرير الجنرال أكثر رصانة، لكن كوتوزوف ولا ريب كان يمقت المعرفة والذكاء، ويعرف أن المسألة ستحسم بشيء آخر، لا علاقة له بالعلم ولا بالذكاء، وكان الأمير آندريه يتفحص بعناية وجه القائد الأعلى، فكان التعبير الوحيد الذي استطاع أن يقرأه عليه هو الملل، ثم الفضول الذي أيقظه الهمس النسوي وراء الباب الذي ضبطته الرغبة بالتقيد بالمجاملات. وإذا كان كوتوزوف يزدري العلم والذكاء، حتى الشعور الوطني الذي برهن عليه دينيسوف منذ حين، فليس مرد ذلك ذكاؤه هو أو علمه أو وطنيته التي ما كان يحاول حتى التظاهر بها، بل سنه وتجاربه، وكان التدبير الوحيد الذي اتخذه إثر ذلك التقرير يتعلق بعادة السلب لدى القطعات. ولما قدم له الجنرال أمرا إداريا ينص على اعتبار قواد القطعات مسئولين عن الأضرار التي يسببها رجالهم للتوقيع عليه، وكان ذلك بناء على طلب أحد المالكين الذي احتصدوا زرعه وهو لا يزال أخضر، هز كوتوزوف رأسه وقال وهو يسطع بلسانه: «إلى النار! إلى الموقد! أقول لك للمرة الأخيرة يا عزيزي: كل هذه الأمور إلى النار! ليحصدوا قمحا وليحرقوا خشبا ما شاءوا! إنني لا آمر به ولا أجيزه، لكنني كذلك لا أغرم أحدا، إنه أمر لا يمكن تجنبه، لا يستطيع المرء أن يحضر العجة دون أن يكسر البيض ...»
ثم اختتم قوله بعد أن ألقى نظرة أخيرة إلى الورقة وهز رأسه من جديد: «ها هي ذي دقتهم الألمانية!»
الفصل السادس عشر
طريقة كوتوزوف
قال كوتوزوف عندما وقع آخر ورقة: «هيا، انتهينا!»
ونهض في شيء من الجد وهو يبسط تجعدات عنقه الأبيض المنتفخ، وسار نحو الباب بوجه جذل.
تضرج وجه زوجة القس من الانفعال، وأمسكت بالطبق بعجلة، لكنها رغم استعداداتها الطويلة لم تتمكن من تقديمه في الوقت المناسب. انحنت انحناءة عميقة وقدمته إلى كوتوزوف، فأغمض هذا عينيه نصف إغماضة، وابتسم، ثم قال وهو يمسك ذقنها: «كم هي جميلة! شكرا يا فاتنتي.»
وأخرج من جيب سرواله بعض القطع الذهبية، وضعها على الطبق، ثم سألها وهو يتجه إلى الحجرة المعدة له: «آمل أن تكون الصحة جيدة؟»
فتبعته امرأة القس وهي تبسم حتى ظهرت كل غمازاتها. وجاء المساعد العسكري إلى المرقاة يدعو الأمير آندريه إلى الطعام. وبعد نصف ساعة، استدعي مرة أخرى للمثول لدى القائد العام. كان كوتوزوف ممددا على أريكة في بزته تلك محلولة الأزرار، وكان يمسك بيده كتابا فرنسيا أغلقه لدى مجيء الأمير بعد أن أشار إلى الصفحة بسكين المكتب. كان الكتاب لمدام دوجنليس
1
بعنوان فرسان الأردف
les Chevaliers Cygne
على حسب ما استطاع أن يلمح على الغلاف.
قال كوتوزوف: «هيا، اجلس، اجلس هنا ولنتحدث. آه! هذا محزن، محزن جدا! ولكن لا تنس يا صديقي أنني لك أب، أب ثان.»
قص عليه آندريه كل ما كان يعرفه عن لحظات أبيه الأخيرة، وكل ما رآه عند مروره بليسيا جوري، وفجأة قال كوتوزوف - الذي أبرزت له قصة الأمير آفاقا شديدة الوضوح عن موقف روسيا - بصوت متأثر: «هذا هو الدرك الذي قادوني إليه!»
ثم أضاف بلهجة ثائرة: «ولكن صبرا! صبرا!»
وقال وهو راغب عن الاستمرار في محادثة تقلق راحته: «لقد استدعيتك لأستبقيك بالقرب مني.»
فأجاب الأمير آندريه باسما: «أشكر سموك، لكنني أخاف ألا أكون قادرا على إملاء مركز في الأركان.»
استفسره كوتوزوف بنظره حين لم تخف عليه ابتسامته؛ فاستأنف آندريه قائلا: «ثم إنني ألفت فوجي وأحب ضباطي، وأعتقد أن رجالي يحبونني بالمثل، حتى إنني أجد صعوبة بالافتراق عنهم، وإذا كنت أرفض شرف البقاء بقربك، فأرجو أن تصدق ...»
أضاءت وجه كوتوزوف المنتفخ ومضة من الرفق مشوبة بالسخرية، وقال مقاطعا بولكونسكي: «إنني آسف. كنت ستكون ذا نفع لي، لكنك على حق، إنك على حق، إننا لسنا بحاجة إلى الرجال هنا. إن الناصحين كثر في كل وقت، لكن الرجال الحقيقيين ينقصوننا. ما كانت الأفواج لتكون على ما هي عليه لو أن كل الناصحين خدموا فيها كما تخدم. إنني أذكر أوسترليتز، ولا زلت أراك والعلم في يدك.»
ولقد تخضب وجه الأمير آندريه بحمرة الفرح لهذه الذكرى. جذبه كوتوزوف من ذراعه وقدم له وجنته، فرأى الأمير آندريه أن عينيه قد اخضلتا من جديد. كان يعرف أن دمع العجوز مطواع، وأنه يتظاهر بهذا التودد الخاص؛ لأنه يريد أن يبرهن له عن مشاركته له في حزنه. مع ذلك، فإن تذكيره لسلوكه في أوسترليتز سره وأرضاه. استأنف كوتوزوف القول: «اتبع الطريق التي رسمها لك الله. إنني أعرف أنها طريق الشرف.»
ثم أضاف بعد فترة صمت: «لقد افتقدتك كثيرا في بخارست؛ إذ لم يكن لدي أحد أعهد إليه بمهامي.»
ثم أبدل الحديث وراح يتكلم عن حملة تركيا: «كم من اللوم وجهوه إلي على سير الحرب وعقد الصلح! مع ذلك، فإن المشكلة قد انتهت نهاية طيبة، وفي الوقت المناسب. إن كل شيء يتم على ما يرام بالنسبة إلى من يحسن الانتظار.»
واسترسل ملحا على موضوع بدا يثقل قلبه: «هل تعلم أن الناصحين هناك ما كانوا أقل عددا مما هم عليه هنا؟ آه من الناصحين! الناصحين! ولو أصغينا إليهم جميعا لما وضعنا حدا للحرب، ولما عقدنا الصلح! تبعا لأقوالهم، كان يجب العمل بسرعة، لكن العمل بسرعة يعني غالبا الإطالة. ولو أن كامنسكي لم يمت لضاع، ما في ذلك ريب. كان في حاجة إلى ثلاثين ألف رجل ليحتل الحصون. يا له من عمل مجيد، احتلال حصن! إن الصعب هو ربح المعركة. ومن أجل ذلك، لا حاجة قط إلى الهجوم ولا احتلال ما يحاصر، بل إن الصبر والوقت هما كل ما يلزم. لقد أطلق كامنسكي جنوده على روستشرك، أما أنا، فقد احتللت أكثر مما احتل كامنسكي من معاقل باللجوء إلى الصبر والوقت، وجعلت الأتراك يأكلون لحم الجياد.»
وأردف وهو يهز رأسه ويقرع صدره باحتداد: «وصدقني، إنني سأطعم الفرنسيين مثل ذلك.»
ثم تلألأت عيناه بالدموع من جديد، فقال آندريه: «مع ذلك، يجب الالتحام في معركة.» - «بلا ريب، إذا كانوا جميعا يرغبون في ذلك ... ولكن، صدقني يا عزيزي، إن ما من شيء يساوي هذين الجنديين: الصبر والوقت. إنهما اثنان يستطيعان أن يعملا كل شيء، لكن الناصحين لا يتقبلون هذا الرأي، وهذا هو السوء. إن بعضهم يريد وبعضهم لا يريد، وإذن، ماذا يجب أن نعمل؟»
وتوقف منتظرا جوابا، ثم قال بإلحاح وقد التمعت عيناه ببريق من الذكاء عميق: «قل لي ماذا كنت تعمل أنت؟ هيا.»
ولما رأى آندريه لا يجيب استرسل يقول: «حسنا، سأقول لك ما يجب أن تفعل، سأقول لك ماذا يجب عمله وما أعمله أنا.»
ثم قال وهو يتمهل بين كل كلمة: «عند الشك يا عزيزي تريث. هيا يا صديقي، الوداع. تذكر أنني أشاطرك حزنك من كل قلبي، وأنني لست بالنسبة إليك لا عظيم الرفعة ولا أميرا ولا جنرالا قائدا أعلى. اعتبرني كأب، وإذا كنت في حاجة إلى شيء ما فاتصل بي مباشرة. الوداع يا عزيزي.»
عانقه مرة أخرى، لكن الأمير آندريه لم يكن قد تجاوز الباب بعد عندما أطلق كوتوزوف زفرة راحة واستعاد كتابه فرسان الأردف يقرأ فيه.
ودون أن يدرك السبب تماما، عاد آندريه إلى فوجه بعد تلك المقابلة وهو شديد الاطمئنان على سير الأمور العام، واثق بالذي يديرها. كان يمكن القول إن هذا العجوز لا يحتفظ إلا بعادات عاطفية، وأن الذكاء الذي يميل إلى جمع الحوادث لاستخلاص النتائج منها مستعاض عنه لديه بالقدرة البسيطة على تأمل الأحداث بكل إشراق فكري، وكلما ازداد آندريه في ملاحظة غياب الشخصية عنده، ازداد اطمئنانا إلى أن كل شيء سيسير على أفضل وجه. كان يحدث نفسه قائلا: «إنه لن يبتكر شيئا، ولن يشرع في شيء، لكنه سوف يصغي وسيذكر وسيضع كل شيء في مكانه، فلن يمنع شيئا مفيدا، ولن يسمح بشيء ضار. إنه يدرك أن هناك شيئا أكثر قوة وأبعد أثرا من إرادته الشخصية؛ وهو سير الأحداث الذي لا يقاوم. إنه له موهبة رؤيتها وإدراك أهميتها، ويعرف بالتالي كيف يتجرد عن إرادته الشخصية ليوجهها نحو هدف آخر كيلا يدعها تتدخل في الأمور، لكنه يوحي بالاطمئنان؛ لأن المرء يشعر بأنه روسي حقا رغم قراءاته مؤلفات مدام جنليس واستعماله الأمثلة الفرنسية؛ لأن صوته كان يرتعد وهو يقول: «هذا هو الدرك الذي قادونا إليه!» ولأنه كان يجهش وهو يؤكد أنه سوف يطعمهم لحم الجياد.»
ولقد كان هذا الشعور، الذي أحس به الجميع بشكل يختلف في الوضوح والإبهام، هو الذي قاد إلى الموافقة العامة الإجماعية التي أعقبت الانتقاء القومي لكوتوزوف كقائد أعلى، وهو الانتقاء الذي جعل دسائس البلاط تمنى بالإخفاق.
الفصل السابع عشر
رياء موسكو
بعد مغادرة الإمبراطور موسكو، عادت الحياة إلى سياقها المألوف، بل المألوف جدا، حتى إنه بات من المتعذر إدراك حماس الأيام الأخيرة، والاعتقاد بأن روسيا معرضة حقا للخطر، وأن أعضاء النادي الإنجليزي يمكن أن يكونوا هم كذلك وطنيين مستعدين لكل التضحيات. وكان الشيء الوحيد الذي يذكر بذلك التحمس القريب هو تغطية الهبات بالرجال والمال، تلك الهبات التي لم تلبث بعد إقرارها أن اتخذت صفة مشروعة يتعذر معها تبديلها.
لم يجعل اقتراب العدو الموسكوفيين أكثر جدية، بل على العكس، لقد ارتفع صوتان في أعماق النفوس متماثلان بالقوة، كما يحدث عادة أمام مصيبة فادحة؛ الصوت الأول يوصي بحكمة أن ينتبه إلى الخطر القريب، وأن يصار إلى البحث عن الوسائل التي تنجي منه، والصوت الثاني يقول بأكثر حكمة إن من التألم جدا التفكير في الخطر، وأن الإنسان لا يمكن أن يعرف الخطر قبل وقوعه، ولا أن يفلت من سير الأحداث، وأن من الأفضل إبعاد كل تفكير منغص أمام الأمر الواقع. والرجل في حالة الوحدة يطيع الصوت الأول بوجه عام، لكنه في المجتمع على العكس، يخضع للثاني. وهذا هو السبب الذي جعل أهل موسكو ينعمون تلك السنة بمتعة التسلية أكثر من أي وقت مضى .
كانت إعلانات روستوبتشين تحمل في صدرها صورة متجر للمشروبات وخمار وسيد من أهالي موسكو هو كاربوشكا تشيجيرين (الذي كان قد تطوع في إعداد المجندين، فسمع، إثر إفراطه قليلا في الشراب، أن بونابرت يريد الذهاب إلى موسكو ، فغضب ونعت الفرنسيين بشتى الأسماء ثم خرج من متجره ووجه إلى الشعب - تحت الأعلام - خطابا)، فكانوا يقرءون هذه الإعلانات ويشرحونها على طريقة آخر تسجيع لفاسيلي لفوفيتش بوشكين.
بل إنهم كانوا يقرءونها في النادي، في الحجرة المنزوية، فكان بعضهم يجد طريقة كاربوشكا في السخرية بالفرنسيين مسلية، فهم - على حد قوله - «سينفقون لأنهم أكلوا كثيرا من البرغل، وسيختنقون من سوء هضم ناجم عن حساء الملفوف، وأن أية قروية روسية تستطيع بضربة منجل واحدة أن تقطع ثلاثة منهم دفعة واحدة؛ نظرا إلى صغر حجمهم المضحك.» والبعض الآخر كانوا على العكس، ينتقدون هذا الأسلوب الذي يجدونه عاميا وسخيفا. وكان يروى أن روستوبتشين نفى الفرنسيين من موسكو، وكذلك الأجانب كلهم الذين كان بينهم عدد من الجواسيس ومن رجال نابليون، وأن الحاكم بهذه المناسبة قد وجه كلمة طيبة إلى هؤلاء التعساء الذين كانوا ينقلونهم عن طريق النهر إلى نيجني، إذ قال: «فكروا وادخلوا القارب ولا تجعلوه كارون.»
1
وكانوا يروون أن الإدارات كلها قد غادرت المدينة، ويضيفون بالمناسبة كلمة شينشين، الذي زعم أن هذه الواقعة نفسها تستحق أن تشكر عليها موسكو كلها نابليون، ويروون أن فوج مامونوف وحده يكلفه أكثر من ثمانمائة ألف روبل، وأن بيزوخوف أنفق أكثر من هذا المبلغ على فوجه، وأن بيزوخوف هذا - وهذا أمر يستلفت الانتباه أكثر من سواه - يقيم على رأس رجاله في البزة الرسمية، يعرض نفسه مجانا على كل الراغبين في رؤيته.
راحت جولي دروبتسكوي تقول حول هذا الموضوع وهي تضغط بين أصابعها النحيفة المغطاة بالخواتم رزمة من النسيل في الحفلة الوداعية التي أقامتها بسبب سفرها إلى نيجني في اليوم التالي: «لا تصفح عن أحد، إن بيزوخوف مضحك، لكنه شديد الطيبة واللطف. أية متعة في أن تكون هجاء لاذعا إلى هذا الحد؟»
وقال شاب في بزة المتطوعين، كانت جولي تدعوه «فارسي»، وكان سيصحبها إلى نيجني: «غرامة!»
قرروا في بهو جولي كما كان في كثير من الأبهاء الأخرى، أن يقتصروا في الحديث على اللغة الروسية، وأن كل من يخالف هذا التعهد يتعرض لدفع غرامة لصالح لجنة الإنقاذ.
وقال رجل أديب كان هناك أيضا: «وغرامة ثانية للاصطلاح. «أية متعة في أن تكون ...» ليس تعبيرا روسيا.»
عادت جولي تقول مخاطبة المتطوع: «إنك لا توقر أحدا. سوف أدفع من أجل كلمة «هجاء»، وإنني مستعدة كذلك للدفع رغبة مني في أن أقول لك الحقيقة.»
وأضافت وهي تلتفت إلى الأديب: «أما عن الاصطلاحات، فإنني لست مسئولة، وليس لدي الوقت ولا المال لاتخاذ مدرس كالأمير بوليتسين لأتقن الروسية ... هه، هذا هو، عندما ...» (وتوقفت مستدركة؛ لأنها كادت أن تذكر المثل الفرنسي: عندما يتحدثون عن الذئب يجدون ذيله على الفور.)
وقالت للمتطوع: «كلا، كلا. لن تضبطني مرة أخرى، عندما يتحدثون عن الشمس يرون إشعاعاتها.»
ووجهت إلى بيير، الذي كان يدخل في تلك اللحظة، ابتسامة رقيقة وقالت مؤكدة بالسهولة التي برع النساء فيها عند الكذب: «كنا نتحدث عنك منذ لحظات، وكنا نقول إن فوجك سيتفوق على فوج مامونوف.»
قال بيير، الذي بعد أن قبل يد ربة البيت جلس إلى جوارها: «آه! لا تحدثيني عن فوجي! ليتك تعلمين مبلغ نصبي منه!»
قالت جولي وهي ترسل إلى المتطوع ابتسامة ماكرة: «لا بد وأنك ستقود فوجك بنفسك؟»
إلا أن المتطوع، الذي كف منذ قدوم بيير عن أن يكون «هجاء لاذعا»، لم يبادر إلى نجدتها؛ ذلك أن شخصية بيزوخوف رغم براءة مظهره وسهومه، كانت تقضي بحزم على كل محاولة استهزاء في حضرته.
قال بيير ضاحكا وهو يحيط شخصه الثقيل بنظرة ساخرة: «أوه! كلا! سوف أكون هدفا رائعا للفرنسيين. ثم إنني أخشى ألا أستطيع امتطاء صهوة جواد.»
وبعد أن تحدث المدعوون عن هؤلاء وأولئك من الناس دارت أحاديثهم حول آل روستوف. قالت جولي: «يبدو أن أوضاعهم في حالة سيئة جدا. ثم إن الكونت قليل الروية؛ لقد أراد آل رازوموفسكي شراء نزلهم وبيتهم الريفي، ولا زالت القضية في أخذ ورد. إنه يطلب ثمنا باهظا.»
وتدخل أحدهم: «مع أنني سمعت أن البيع سيتم في هذه الأيام الأخيرة. أليس من الجنون شراء شيء ما في موسكو الآن؟»
قالت جولي : «ولماذا؟ هل تفكر أن موسكو في خطر حقا؟» - «لولا ذلك، لماذا ترحلين؟» - «أنا؟ يا له من سؤال مضحك! إنني أرحل لأن ... ولكن لأن الناس كلهم يرحلون، وكذلك لأنني لست جان دارك ولا أمازونية
2 ...» - «نعم، بالطبع ... أعطني قطعة خرقة أخرى.»
وقال المتطوع الذي لا زال يتحدث عن آل روستوف: «لو أنه عرف كيف يتصرف، فإنه سيسدد ديونه كلها.» - «نعم، إنه رجل باسل، ولكنه سيد فقير جدا. ثم ما الذي يبعثهم هنا كل هذا الوقت؟ منذ زمن طويل وهم يريدون العودة إلى الريف. لقد استعادت ناتالي صحتها على ما أظن. أليس كذلك؟»
كان هذا السؤال موجها إلى بيير، ومشفوعا بابتسامة ساخرة. فقال هذا: «إنهم ينتظرون ابنهم الأصغر الذي تطوع في مفرزة قوقازيين أوبولنسكي، وأرسل إلى بييلايياتسيركوف حيث يتم تشكيل الفوج، فنقله ذووه إلى فوجي وهم ينتظرون أوبته من يوم إلى آخر. إن الكونت راغب في الذهاب منذ أمد طويل، لكن الكونتيس ترفض بأي ثمن مغادرة العاصمة قبل رؤية ابنها.» - «لقد قابلتهم أول أمس لدى آل أرخاروف، لقد ازدادت ناتالي جمالا، وصفا مزاجها، ولقد غنت قصيدة مؤثرة. كم ينسى كل شيء بسرعة لدى بعض الناس!»
سأل بيير بلهجة خشنة: «ما الذي ينسى بسرعة؟»
فطافت على شفتي جولي ابتسامة: «هل تعرف يا كونت أن فرسانا مثلك لا يرى الإنسان مثلهم في هذه الأيام إلا في روايات مدام دوسوزا؟»
سأل بيير وقد تضرج وجهه: «أي فرسان؟ ماذا تريدين أن تقولي؟» - «هيا أيها الكونت العزيز، لا تتظاهر بالدهشة. «إنها أقصوصة موسكو كلها. إنني معجبة بك، وأقسم بشرفي».»
فقال المتطوع: «غرامة! غرامة!» - «ليكن! ... ما عدنا نستطيع التكلم، وهذا ينتهي بنا إلى التضجر!»
كان بيير قد نهض، فقال في غير لطف: «ما هو الذي أقصوصة موسكو كلها؟!» - «ولكن يا كونت، لكأنك لا تعرف!» - «لست أعرف شيئا مطلقا.» - «وأنا أعرف أنك مع ناتالي على أتم وفاق؛ ومن ثم ... إنني فيما يتعلق بي كنت دائما على أوثق ألفة مع فيرا، فيرا العزيزة تلك ...»
استرسل بيير وهو لا يزال محنقا: «كلا يا سيدتي، إنني لست قط الفارس التابع للآنسة روستوف، وإنني منذ أكثر من شهر لم أطأ بقدمي بيتهم، لكنني لا أفهم هذه الفظاظة ...»
قاطعته جولي وهي تبتسم وتحرك نسيلها: «من يعتذر يعترف بخطئه.»
ثم بادرت إلى تحويل دفة الحديث بغية الاحتفاظ بالكلمة الأخيرة لنفسها، فقالت: «هل تعلم ماذا بلغني منذ حين؟ لقد وصلت ماري بولكونسكي المسكينة أمس. هل تعلم أنها فقدت أباها؟»
قال بيير: «صحيح؟ وأين هي؟ كم أتوق إلى رؤيتها!» - «لقد أمضيت السهرة معها. لسوف تذهب اليوم أو غدا مع ابن أخيها إلى أملاكهم في الضاحية.» - «آه! وكيف حالها؟» - «بين بين، بل إنها أميل إلى الحزن، ولكن هل تعلم لمن تدين بحياتها؟ إنها رواية كاملة لنيكولا روستوف، كانوا محيطين بها يريدون قتلها، بل إنهم أصابوا رجالها بجراح ... لكنه هرع هو وأنقذها ...»
قال المتطوع: «رواية جديدة! لا ريب أن هذا الفرار العام لمن يستطيع الفرار قد ابتكر على ما يبدو بغية تزويج العانسات. كاتيش أولا، ثم ها هي ذي الأميرة بولكونسكي.» - «أتدري؟ أظنها «مغرمة قليلا بالفتى».» - «غرامة! غرامة! غرامة!» - «ولكن كيف أقول هذا بالروسية؟»
الفصل الثامن عشر
قرار بيير الأخير
عندما رجع بيير إلى داره، قدموا إليه إعلانين لروستوبتشين، وصلا مؤخرا، يؤكد الحاكم في الأول أنه خلافا لما أشيع من أنه منع مغادرة المدينة، سيكون سعيدا إذا شاهد نساء الأشراف وطبقة التجار يغادرن موسكو، وكان يزعم «أنهن بذلك سيتعرضن لخوف أقل، وسيثرثرن أقل. بيد أن الأثيم لن يأتي إلى موسكو، وإنني أراهن برأسي على ذلك.» فلما قرأ هذه الكلمات، رأى بيير بوضوح لأول مرة أن الفرنسيين سيدخلون موسكو. أما الإعلان الثاني فكان يقول إن قيادتنا العامة موجودة في فيازما، وأن الكونت ويتجنشتاين قد هزم الفرنسيين. مع ذلك، ولما كان عدد كبير من السكان يرغبون في التسلح، فإنهم واجدون بسعر مناسب سيوفا وبنادق ومسدسات في مستودع الذخائر. لم تعد لهجة الإعلانين هزلية كتلك التي عزيت إلى تشجيرين في أقواله؛ مما دعا بيير إلى التفكير. أدرك أن كل هذه الجحافل الرهيبة من العاصفة التي كان يدعوها من كل جوارحه، والتي كانت تسبب له فزعا غير إرادي بنفس الوقت، ناشطة في سيرها.
راح يتساءل للمرة المائة: «هل يجب أن ألتحق بالجيش المحارب أم على العكس؛ أن أنتظر الأحداث؟» أمسك بورق لعب كان متروكا على الطاولة، وراح ينجم. حدث نفسه بعد أن خلط الورق ورفع عينيه إلى السماء: «إذا «فتح الفال» كان معنى ذلك ... ماذا سيكون معنى ذلك؟ ...»
وقبل أن يجد الجواب، ارتفع صوت لدى الباب يسأل عما إذا كان يمكن الدخول.
قرر بيير: «سيكون معنى ذلك أنه يجب أن ألتحق بالجندية!» ثم صاح: «ادخل، ادخل.»
كانت الداخلة هي كبرى الأميرات، تلك التي كانت مديدة القامة جامدة الوجه، الوحيدة التي ظلت تقطن نزل بيزوخوف؛ لأن الاثنتين الأخريين كانتا قد تزوجتا.
قالت بصوت مضطرب وبلهجة فيها لوم: «اعذرني يا ابن عمي لمجيئي إليك. ولكن، لقد أزف الوقت لاتخاذ قرار. إن الناس جميعهم غادروا موسكو، والشعب أخذ يتمرد ... فما ننتظر إذن؟»
أجاب بيير هازلا: «ولكن على العكس يا ابنة عمي، إن كل شيء يبدو لي على أفضل وجه.»
ولقد كانت تلك طريقته في إخفاء الارتباك الذي يوقعه فيه دائما دوره كمحسن. - «جميل جدا! من أين جئت بهذا الخبر؟ لقد روت لي فرفارا إيفانوفنا منذ حين بسالات جنودنا. إن ذلك يشرفهم شرفا عظيما حقا! ... ثم إن الشعب يتصرف على هواه. ما من أحد بات يقتل إلا طاعة، حتى إن خادمتي نفسها تحدثني بالغلاظات. سوف يضربوننا بعد حين. لم يعد المرء يستطيع وضع قدمه خارج بيته ... لكن أخطر ما في الأمر هو أن الفرنسيين سيكونون هنا اليوم أو غدا ... ماذا ننتظر بالله؟ أرجوك يا ابن عمي، أصدر أمرا بنقلي إلى بيترسبورج، لن أستطيع، مهما بلغت من تفاهة القيمة، أن أعيش تحت نير بونابرت.» - «ما هذا الذي تقولين يا ابنة عمي؟ من أين تستقين معلوماتك؟ على العكس ...» - «إنني لن أخضع لنابليونك. أما الآخرون، فهذا شأنهم ... وإذا كنت لا تريد الموافقة على ما أسأله منك ...» - «ولكن بكل تأكيد، سوف أعطي أوامري على الفور.»
تهاوت الأميرة على كرسي وقد أغاظها أن لم تعد تجد من تعاتبه، وراحت تهمهم بينما استرسل بيير: «إنهم ينقلون إليك معلومات خاطئة، إن كل شيء هادئ في المدينة، ولسنا نتعرض لأي خطر. انظري ماذا كنت أقرأ - وأظهرها على الإعلانين - إن الكونت يقول إن العدو لن يدخل موسكو ويقدم حياته ضمانة لذلك.»
ردت الأميرة ساخطة: «آه! كونتك هذا! إنه منافق، إنه أثيم دفع الشعب بنفسه إلى التمرد! ألم يوعز في إعلاناته المنافية هذه أن يمسك بالناس من شعورهم دون استثناء وأن يؤخذوا إلى المخفر؟ هذا شديد الغباء! ثم إنه يعد بالمجد والشرف كل من يتصرف على هذا النحو. هل تريد معرفة نتائج هذه الممالقات؟ لقد قالت فرفارا إيفانوفنا إنهم كادوا أن يقتلوها في الشارع؛ لأنها كانت تتكلم بالفرنسية ...»
قال بيير وهو يفتح «فاله»: «هيا، هيا، إنك تحملين كل شيء على محمل الجد.»
على الرغم من أن «الفال» قد «فتح»، فإن بيير لم يلتحق بالجيش، بل ظل في موسكو التي راحت تخلو من السكان وهو فريسة ذلك الشك المحموم، ينتظر بقلق ممزوج بالسرور وقوع حدث رهيب ما.
وفي مساء اليوم التالي، رحلت الأميرة وجاء المسجل العام يعلن لبيير أنه يتعذر تغطية نفقات تجهيز الفوج الضرورية اللازمة إلا إذا عمد إلى بيع أحد الأملاك، وألمح إلى أن كل هذه الأهواء سوف تؤدي به إلى الدمار. فأصغى إليه بيير بابتسامة لم يحسن في إخفائها، ثم قال: «بع رغم ذلك. ما العمل؟ لا أستطيع الرجوع عن وعد قطعته!»
راحت أعماله الشخصية تسوء، وأخذ الموقف العام يكفهر، وبيير يتلقى هذه الأنباء ببهجة متزايدة؛ لأنها كانت تؤكد له قرب النكبة التي ينتظرها. ولقد غادر كل معارفه موسكو تقريبا، وذهبت جولي والأميرة ماري كذلك، ولم يبق إلا آل روستوف الذين لم يعد بيير يزورهم.
ذهب ذلك اليوم على سبيل التسلية إلى ضاحية فورونتسوفو لرؤية المنطاد الذي ابتكره المهندس ليبيخ لتدمير العدو ومنطاد التجربة الذي سيطلقونه غدا. لم تكن الاستعدادات قد انتهت بعد، لكنهم أطلعوا بيير على أن الإمبراطور يؤيد هذا المشروع بقوة، بل إنه كتب إلى روستوبتشين الرسالة التالية:
حالما يصبح ليبيخ جاهزا شكلوا له فريقا لسلة المنطاد مؤلفا من رجال أذكياء موثوقين، وأرسلوا رسولا إلى الجنرال كوتوزوف لإعلامه، ولقد أطلعته على الأمر.
نبهوا على ليبيخ أرجوكم، أن يكون منتبها إلى المكان الذي سينزل فيه أول مرة؛ كيلا يخطئ ويقع بين يدي العدو. يتحتم عليه أن يوفق حركاته مع الجنرال القائد الأعلى.
وعند عودته من فورونتسوفو وبمروره من ساحة بولوتنايا، شاهد بيير جماعة من الناس حول وتد العقاب، فأعطى الأمر بالوقوف ونزل من العربة. كانوا قد فرغوا من جلد طاه فرنسي متهم بالجاسوسية، وراح الجلاد يفك عن الوتد رجلا ضخم الجثة ذا شعر أشقر على العارضين كان يزمجر معولا. وكان متهم آخر شاحب وشديد النحول ينتظر دوره، ولقد كان وجهاهما يدلان على أنهما فرنسيان دون ريب. شق بيير الزحام بوجه منقلب كوجه المتهم الثاني، وسأل: «ما هذا؟ من هم هؤلاء؟ ماذا فعلوا؟»
لكن انتباه المتسكعين بين موظفين وصناع ورجال أعمال وقرويين ونساء في معاطف طويلة ذات ثنيات أو مبطنة بالفرو، كان منصرفا إلى المشهد، حتى إن أحدا لم يجبه. نهض الرجل الضخم وهو يقطب حاجبيه ويهز كتفيه، وراح رغبة منه في إظهار تجلده، يرتدي سترته دون أن يخفض عينيه عن المحتشدين، لكن شفتيه ارتعدتا فجأة وانخرط في البكاء وهو يلعن ضعفه، كما يبكي الرجال ذوو الدم الوفير. وراح المجتمعون يتحدثون بصوت مرتفع ليكتموا شعورهم بالإشفاق كما خيل إلى بيير. - «يبدو أنه طاه لدى أحد الأمراء ...» - «إيه! «موسيو»،
1
إن المرق الروسي حامض قليلا بالنسبة إلى حنك فرنسي ... إنه تضرس أسنانك هن؟»
تلك كانت العبارة التي فاه بها جاربيير، وهو موظف صغير أعجف، عندما رأى الفرنسي يبكي. ثم ألقى الموظف الصغير نظرة حوله باحثا عن موافقة الجمهور. ولقد انفجر بعض الأشخاص ضاحكين بالفعل، لكن الآخرين ما كانوا يستطيعون انتزاع أنظارهم عن الجلاد الذي شرع ينزع ثياب المحكوم الثاني.
نخر بيير بقوة من أنفه وقطب حاجبيه، ثم دار على أعقابه وعاد إلى عربته فاستقلها وهو لا يزال يدمدم، وظلت التشنجات تحركه طيلة الطريق وهو يهتف بصوت مرتفع متعجبا، حتى إن حوذيه انتهى إلى سؤاله: «ماذا تأمرني؟»
صرخ بيير وهو يراه متجها إلى لوبيانكا: «إلى أين تذهب؟» - «لدى الجنرال الحاكم. ألم تقل لي أن أحملك إلى هناك؟»
ولقد بلغ من حنق بيير أن شتم هذا الرجل، وهو الأمر الذي قل أن يقع له. - «يا غبي! يا حيوان! لقد قلت لك أن تعود إلى البيت وبأسرع من هذا ... أيها الغبي المثلث! ... «يجب الرحيل اليوم بالذات».»
لقد قرر بيير بحزم أكيد لدى رؤية تنفيذ الحكم والجماعة المحتشدة، أن يلحق بالجيش فورا، دون زيادة في التأخر في موسكو، حتى إنه خيل إليه أنه أطلع الحوذي على رغبته، أو أن هذا على الأقل كان يجب أن يعلم قراره.
ولم يكد يدخل إلى البيت حتى استدعى حوذيه إيفستافييفيتش، وهو رجل يقدر على صنع كل شيء، يعرف كل الناس وتعرفه موسكو كلها، أخطره بأنه يرغب في أن يرحل تلك الليلة بالذات إلى موجائيسك، ويريد أن ترسل جياد الركوب إلى هناك، ولما كان هذا الأمر لا يمكن أن ينفذ في يوم واحد، فقد اضطر بيير بناء على نصيحة إيفستافييفيتش أن يرجئ رحيله إلى الغد حتى يتسنى إعداد خيول البدل.
وفي الرابع والعشرين وقد اعتدل الطقس، غادر بيير موسكو بعد الغداء، وفي الليل، بينما كان يبدل خيوله في بيرخوشكوفو، علم أن معركة هائلة دارت أول المساء، وأن قصف المدافع هز الأرض، حتى في تلك الضيعة الصغيرة، فاستفسر عن الظافر، لكن ما من أحد استطاع أن ينبئه. لقد كانت تلك معركة شيفاردينو.
وصل إلى موجائيسك عند الفجر، كانت البيوت كلها محتلة من قبل الجنود، ولقد انتظره خادمه المرافق وسائق عربته في النزل ، لكنهم لم يستطيعوا إعطاءه أية غرفة؛ لأنها كانت تعج بالضباط.
كانت المنطقة كلها غاصة بالجنود بين مستريحين، وفي طريق السير، ولم يكن يرى من كل صوب إلا قوقازيين ومشاة وخيالة وعربات نقل وصناديق صغيرة وقطع المدفعية ، ولقد كان بيير متعجلا في التوغل إلى الأمام، وكلما ازداد توغلا في ذلك الخضم من الجنود، ازداد قلقه شدة، وشابه شعور بالرضى الضمني جديد كل الجدة. ولقد كان ذلك الإحساس يذكره بذاك الذي أحس به في قصر سلوبودسكي إبان إقامة الإمبراطور. كان يجب اتخاذ قرار ما والتضحية بالذات. أخذ بيير يدرك الآن بسرور أن كل ما يسبب سعادة الإنسان من ثراء ولذة الحياة، بل والحياة نفسها، كل ذلك لم يكن إلا ترهات يسهل القذف بها ثمنا لشيء ما ... وهذا الشيء ما كان بيير يتوصل إلى تصوره، بل إنه ما كان يحاول حتى أن يشرح لنفسه لماذا ومن أجل من، يجد متعة خاصة بالتضحية بنفسه بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ما كان يهمه سبب تضحيته، لكن التضحية في حد ذاتها كانت تحمل إليه شعورا جديدا بالسعادة.
الفصل التاسع عشر
معركة شيفاردينو وبورودينو
دارت معركة شيفاردينو في الرابع والعشرين من آب، وفي الخامس والعشرين لم تنطلق رصاصة واحدة من هذا الجانب أو من ذاك، وفي السادس والعشرين نشبت معركة بورودينو.
لماذا دارت هذه المعارك، وكيف وقعت، وبصورة خاصة معركة بورودينو؟ لم يكن الفرنسيون ولا الروسيون مدفوعين بأي سبب لخوضها، لقد كانت نتيجتها الأكثر مباشرة بالنسبة إلى الروسيين - كما وجب أن تكون - خطوة إضافية في طريق ضياع موسكو، الأمر الذي كنا نخشاه أكثر من أي شيء في الوجود. أما بالنسبة إلى الفرنسيين، فكانت خطوة إضافية نحو ضياع كل جيشهم، الأمر الذي كانوا هم كذلك يخشونه أكثر من كل شيء في الوجود، ولم تكن هذه النتيجة خافية قط، مع ذلك فإنها لم تمنع نابليون من أن يعرض القتال، وكوتوزوف من أن يقبل المعركة.
فلو أن الرؤساء الكبار تركوا للعقل أن يقودهم لرأي نابليون بجلاء أنه وقد تقدم مسافة خمسمائة ميل بعيدا عن قواعده، وقد التحم في معركة كان يتعرض لفقد ربع عدد جيشه، فإنه إنما يمضي إلى خسران مبين، وكذلك كان الحال بالنسبة إلى كوتوزوف الذي قبل الدخول في المعركة؛ فهو بقبوله القتال وتعرضه هو الآخر لفقد ربع جيشه تقريبا، إنما يتوجب عليه أن يخلي موسكو دون أي ريب، ولقد كانت النتيجة واجبة الظهور لكوتوزوف بصورة خاصة ببداهة العملية الحسابية، فلو أن لدي بلعبة «الضاما» بيدقا أقل مما لدى خصمي، وإذا كان كل حركة تخسر مبادلة، فإنني خاسر للشوط ولا ريب، والعقل يحتم علي إذن أن أمتنع. وفي الواقع أنه لو كان لدى خصمي ستة عشر بيدقا ولدي أربعة عشر، فإنني أضعف منه بمعدل واحد إلى ثمانية، ولكن بعد أن يكون كل منا قد فقد ثلاثة عشر بيدقا، فإنه حينئذ سيصبح أقوى مني بثلاثة أضعاف.
لقد كانت قواتنا قبل معركة بورودينو بالنسبة إلى قوات الفرنسيين بنسبة خمسة إلى ستة: مائة ألف رجل ضد مائة وعشرين ألفا، وبعد المعركة لم تعد هذه النسبة إلا بمعدل واحد إلى اثنين: خمسين ألفا ضد مائة ألف. ومع ذلك، فإن كوتوزوف، ذلك العسكري المجرب، قد قبل المعركة، ونابليون، ذلك الرئيس العبقري - كما يسمونه - خاض معركة كلفته ربع جيشه، وأطال خطه أكثر فأكثر. ولقد زعم بعضهم أنه كان يفكر في إنهاء الحرب بعد احتلاله موسكو كما وقع في فيينا، لكن هناك أدلة كثيرة تبرهن على العكس. إن مؤرخي نابليون أنفسهم يعترفون بأنه كان يريد التوقف منذ سمولنسك: كان يدرك خطر امتداد خطه، ويعرف أن احتلال موسكو لا ينهي الحملة؛ لأنه كان يرى منذ ذلك الحين بأية حال كانوا يتركون له المدن، وأنه لم يكن يتلقى أية أجوبة على محاولاته الكثيرة للدخول في مفاوضات.
وهكذا، فإن كوتوزوف ونابليون - الأول بعرضه والثاني بقبوله المعركة - لم يخضعا لا لعقلهما ولا لحكمهما الحر. في حين أن المؤرخين بعد أن وقعت الواقعة، استنتجوا منها أدلة مموهة عن بعد نظر رئيسي الجيشين هذين وعبقريتيهما، ذينك اللذين كانا بين كل الأدوات الصماء في أحداث هذا العالم، أكثرها خضوعا لا إراديا وأكثرها استرقاقا.
لقد ترك لنا الأقدمون نماذج من القصائد الخرافية التي ترتكز الأهمية فيها كلها على الأبطال، ولما كانت هذه القصائد تراثا عزيزا، فإننا نمتنع عن رؤية ما في مثل هذه المدارك التاريخية في عصرنا هذا من بطلان.
وهناك حول النقطة الثانية، أي كيف دارت معركة بورودينو ومن قبلها معركة شيفاردينو التي سبقتها، هناك وجهة نظر شديدة الدقة ومقبولة بصورة عامة بقوة بقدر ما هي خاطئة كذلك، وفيما يلي كيف يصف المؤرخون واقع هذه المعركة المزدوجة:
إن الجيش الروسي بانطوائه بعد سمولنسك كان لا بد وأن يبحث عن أفضل مركز ليلتحم فيه بمعركة عامة، ووجد ذلك المركز في بورودينو.
ولا ريب أن الروسيين حصنوا سلفا هذا المركز إلى يسار الطريق من موسكو إلى سمولنسك، وبشكل عمودي على هذا الطريق تقريبا من بورودينو إلى أوتيتسا في المكان نفسه الذي نشبت فيه المعركة.
ولا ريب كذلك أن الروسيين أقاموا أمام هذا الموقع طليعة على مرتفع شيفاردينو لمراقبة العدو، فهاجمهم نابليون في الرابع والعشرين واحتل ذلك المركز الأمامي، ثم هاجم كل الجيش الروسي في موقعه المحصن على سهل بورودينو في السادس والعشرين.
تلك هي رواية المؤرخين، وهي رواية غير مضبوطة من أولها إلى آخرها، كما لا بد سيقتنع بذلك بسهولة كل من يضطلع بعناء دراسة المسألة قليلا.
فالروسيون - بعيدا عن انتقاء الموقع الأفضل - أهملوا في سياق تقهقرهم عددا كبيرا من خيرة المواقع التي ترجح على بورودينو؛ وذلك لأسباب عديدة؛ لأن كوتوزوف ما كان يريد تقبل نقطة لا ينتقيها بنفسه، ولأن ضرورة خوض معركة قومية لم تكن ملحة بكل هذه القوة، ولأن ميلورادوفيتش لم يكن بعد قد وصل مع فرق المتطوعين وإلخ ... إلخ ... وإنه مما لا يمكن إنكاره أن المواقع الأخرى أكثر مناعة من ذلك الذي دارت عليه رحى المعركة؛ لأن بورودينو لم تكن أفضل «كموقع» من أي موقع عابر يشار إليه على خريطة المملكة الروسية بدبوس صغير.
وليس أن الروسيين لم يحصنوا موقع بورودينو إلى اليسار وعموديا على الطريق فحسب؛ أي في المكان الذي دارت فيه المعركة، بل إنهم كذلك لم يفكروا قبل الخامس والعشرين من آب 1812م أن معركة يمكن أن تقع في هذا المكان، وسأقدم على سبيل التدليل على صحة هذا الزعم مذكرا في المرحلة الأولى بعدم وجود تحصينات ما قبل الخامس والعشرين من آب، وأن التي شرع في بنائها في ذلك التاريخ لم تنته في السادس والعشرين وفي المرحلة الثانية أذكر بموقع حصن شيفاردينو نفسه الذي لم يكن له أي معنى رغم وقوعه أمام النقطة التي نشبت المعركة فيها. فلماذا إذن حصنوه أكثر من أية نقطة أخرى؟ لماذا بذلوا كل هذه الجهود الكبيرة للدفاع عنه يوم الرابع والعشرين إلى ساعة متأخرة من الليل وخسروا ستة آلاف رجل، في حين كان يكفي لمراقبة العدو تسيير دورية من القوقازيين؟ وأخيرا الدليل الثالث والأخير: لقد كان باركلي دوتوللي وباجراسيون مقتنعين حتى اليوم الرابع والعشرين بأن حصن شيفاردينو يشكل الجناح الأيسر للموقع، بل إن كوتوزوف نفسه في تقريره الذي دبجه تحت تأثير المعركة الذي كان لا يزال حاميا، أطلق عليه هذا الاسم. ثم إن كثيرا فيما بعد في تقاريرهم التي كتبوها بتؤدة أظهروا - قصد تبرير أخطاء الجنرال القائد الأعلى الذي كان لا بد من إظهاره بمظهر المعصوم عن الخطأ - الزعم الخاطئ الغريب القائل بأن حصن شيفاردينو كان نقطة أمامية - وهو الذي لم يكن أكثر من نقطة محصنة في الجناح الأيسر - وأننا قبلنا المعركة في موقع محصن انتخبناه سلفا، في حين أنها دارت في مكان لم يكن منتظرا وقوعها، كما لم يكن محصنا قط تقريبا.
وإليكم كيف دارت الأمور بكل وضوح: انتخبوا نقطة على نهر كولوتشا تقطع الطريق العام ليس على شكل زاوية قائمة، بل على زاوية حادة، بشكل جعل الجناح الأيسر في شيفاردينو، والأيمن قرب ضيعة نوفواي، والوسط في بورودينو عند التقاء نهري كولوتشا وفوئينا. ولا بد لجيش يهدف إلى إيقاف العدو المتقدم على طول طريق سمولنسك-موسكو، أن يحتل هذا الموقع الذي يحميه نهر كولوتشا. وكل من يفحص ساحة المعركة متناسيا كيف وقعت الأمور حقيقة لا بد مقتنع من فوره.
ولم ير نابليون - كما يؤكد المؤرخون - في تقدمه يوم الرابع والعشرين نحو فالوييفو موقع الروسيين من أوتيتسا إلى بورودينو، وما كان يمكن أن يراه؛ لأنه كان غير موجود أصلا. ولم ير كذلك النقطة الأمامية للجيش، فلم يصطدم بجناح الروسيين الأيسر إلا وهو يطارد المؤخرة؛ أي في حصن شيفاردينو، وبعد أن اجتاز بقواته النهر (كولوتشا). ولقد طوى الروسيون جناحهم الأيسر من النقطة التي أرادوا احتلالها إلى موقع جديد غير مدروس ولا محصن؛ لأن حركة نابليون تلك فوتت عليهم فرصة الدخول في معركة عامة. وبمرور نابليون أو باجتيازه ضفة كولوتشا اليسرى؛ وبالتالي بوصوله إلى يسار الطريق، نقل المعركة المقبلة من جناح الروسيين الأيمن إلى جناحهم الأيسر في السهل الواقع بين أوتيتسا وسيميونوفسكوي وبورودينو، وهو السهل الذي لم يكن يمتاز كموقع عن أي موقع آخر. وهنا دارت معركة السادس والعشرين. وفيما يلي الخطوط العامة للمعركة المخمنة كما كان يمكن أن تقع وخطوط المعركة الحقيقية:
مخطط معركة بورودينو (1)
موقع الفرنسيين المفترض. (2)
موقع الروسيين المفترض. (3)
موقع الفرنسيين الحقيقي خلال المعركة. (4)
موقع الروسيين الحقيقي خلال المعركة. (وفق مخطط وضعه بنفسه تولستوي.)
فلو أن نابليون لم يعبر نهر كولوتشا في الرابع والعشرين مساء، ولو أنه بدلا من أن يقع فورا على الحصن أجل الهجوم إلى اليوم التالي؛ لرأى العالم أجمع أن هذا الحصن كان يشكل الجناح الأيسر في موقعنا، وأن المعركة كانت ستدور حسبما توقعناه. وحسب كل احتمال كنا سندافع عن شيفاردينو، جناحنا الأيسر، بحماس أقوى، ونهاجم نابليون في الوسط وفي اليمين، وكانت المعركة العامة ستقع في الرابع والعشرين على الموقع الذي كان معدا ومحصنا، ولكن لما وقع الهجوم على جناحنا الأيسر مساء عقب انثناء مؤخرتنا؛ أي بعد معركة جريدنييفو مباشرة، ولما لم يستطع رؤساؤنا أو لم يريدوا خوض المعركة العامة مساء الرابع والعشرين، فقد ضاع الجزء الأول الرئيسي من معركة بورودينو منذ الرابع والعشرين، الأمر الذي أدى إلى هزيمة السادس والعشرين.
بعد خسارة شيفاردينو، وجدنا أنفسنا صباح الخامس والعشرين محرومين من نقطة ارتكاز في الجناح الأيسر، فاضطررنا إلى ثني جناحنا الأيسر وتحصينه بأسرع وقت وفي أي موقع كان.
وهكذا إذن، لم تكن الوحدات الروسية محصنة يوم السادس والعشرين إلا في خنادق غير مستكملة، بل وأخطر من ذلك أن جنرالاتنا لم يدركوا تماما الأمر الواقع؛ لم يروا أن خسران الجناح الأيسر سيجر تبديلا من اليمين إلى اليسار في اتجاه المعركة؛ لذلك فقد تركوا خطوطهم تتطاول كالسابق من نوفواي إلى أوتيتسا، الأمر الذي أرغمهم على الشروع في تحريك قطعاتهم في إبان احتدام المعركة من اليمين إلى اليسار. وبذلك لم يستطع الروسيون أن يقابلوا الفرنسيين إلا بجناحهم الأيسر؛ أي بقوات أضعف مرتين. أما هجمات بونياتووسكي ضد أوتيتسا وأوفاروف ضد الجناح الفرنسي الأيمن، فإنها كانت حوادث عرضية مستقلة عن سير المعركة العام.
وعلى هذا، فإن معركة بورودينو وقعت على شكل مخالف تماما للأسلوب الذي رويت به بغية إخفاء خطيئات جنرالاتنا، الأمر الذي لم يعمل إلا على الإقلال من مجد جيشنا وشعبنا. إنها لم تقع في موقع مختار ومحصن سلفا، ولكن بقوات أقل قليلا من جانبنا من قوات العدو، بل إنها دارت أثر خسارة شيفاردينو وعلى أرض فضاء أو تافهة التحصين، وبقوات أضعف مرتين من قوات الفرنسيين؛ أي في شروط ما كان يمكن التفكير في مثلها، ولا أقول لخوض معركة طيلة عشر ساعات كاملة بشكل غير مقرر، بل للصمود ثلاث ساعات فقط دون التعرض لهزيمة كاملة.
الفصل العشرون
رحلة بيير
غادر بيير موجائيسك صباح الخامس والعشرين، ولكي ينحدر على طول الشارع المائل المتعرج الذي يخرج من المدينة تاركا على اليمين الكنيسة التي كان يقام فيها قداس وسط قرع أجراس، ترجل بيير من عربته وقطع المسافة على قدميه، ومن ورائه كانت فرقة من الفرسان يسبقها منشدوها، بينما راحت قافلة من الجرحى في معركة الأمس تصعد المنحدر في الاتجاه المعاكس، والقرويون الذي يسوقونها يهرعون من جانب إلى آخر من الشارع، وهم يملئون الجو صراخا وقرعا بالسياط . وكانت العربات التي تقل كل واحدة منها ثلاثة أو أربعة جرحى جالسين أو مستقلين، تقفز فوق الحجارة الملقاة هنا وهناك بمثابة رصف للطريق، والجرحى، بوجوههم الشاحبة، ملتفون في أسمال، وقد كظموا شاههم وقطبوا حواجبهم، يتشبثون بجوانب العربة وينضنضون ويصطدم بعضهم ببعض. وكانوا كلهم تقريبا يتأملون قبعة بيير البيضاء وثوبه الأخضر في فضول صبياني.
ولقد صاح حوذي بيير بسائقي العربات أن يتنحوا جانبا، لكن فرقة الفرسان الذين كانوا ينحدرون على الطريق يسبقهم صداحوهم، قطعت عليه كل تقدم، وتوقف بيير وقد انتبذ سفح التل الذي بلغ من انحداره أن الشمس ما كانت تستطيع التوغل في الطريق العميق الوعر، فكان المرء يشعر بالبرد والرطوبة، وفوق رأس بيير أضاء صبح جميل من أيام آب، بينما راح قرع الأجراس يتبدد بوداعه. توقفت إحدى العربات على جانب الطريق بالقرب منه، فهرع السائق ذو «القلشين» المصنوع من القنب وهو مبهور الأنفاس، فوضع حجرا تحت العجلات الخلفية غير المرطومة، وأصلح عدة حصانه.
وكان أحد الجرحى، وهو جندي مسن يحمل ذراعه إلى عنقه، يتبع العربة مشيا على قدميه، فتشبث بها بيده السليمة والتفت إلى بيير يسأله: «قل لي أيها المواطن، هل تعلم ما إذا كانوا سيتركوننا هنا أم سيحملوننا إلى موسكو؟»
وكان بيير مستغرقا في أفكاره، حتى إنه لم يفهم السؤال. كان يتأمل فرقة الخيالة التي بلغت الآن مكان القافلة تارة، وطورا العربة القريبة منه، حيث جلس فيها جريحان واستلقى ثالث. وكان يخيل إليه أن هؤلاء الحقيرين سيعطونه حل المسألة التي تشغله. كان أحد الاثنين الجالسين معصوب الرأس كله بالخرق، وفمه وأنفه معوجان، وقد أصبح أحد خديه، المنتفخ ولا شك من أثر جرح، في حجم رأس طفل صغير، وكان يرسم على صدره إشارة الصليب وهو شاخص بإبصاره إلى الكنيسة. أما الثاني، وهو مستنفر، شاب ممتقع الوجه أشقر الشعر، يبدو وكأنه فقد آخر قطرة من الدم في وجهه الدقيق، فقد راح يتأمل بيير وعلى شفتيه ابتسامة رقيقة مطبوعة، بينما كان الثالث مستلقيا على بطنه لا يمكن تمييز معالم وجهه. وبلغ المغنون الفرسان مكان تلك العربة بالذات وهم يضجون بأغنية راقصة يستسيغها الجنود، كانت بعض عباراتها واضحة: «آه! آه! أيتها الكتلة الشائكة
1 ... تدحرجي، تدحرجي وتدحرجي عبر الجبال والسهول.»
بينما راح قرع الأجراس، وكأنه يريد أن يرجع الصدى ولكن على نمط بهيج آخر، يبعثر في السماء أنغامه المعدنية، وجاءت الشمس تضيف عاملا ثالثا من البهجة إلى المشهد بأن راحت تصب إشعاعاتها الدافئة على المرتفع الآخر على جانب الطريق، ولكن الجو في الجانب الذي وقف فيه بيير قرب عربة الجرحى والحصان المنهوك، كان معتما رطبا وحزينا.
ألقى الجندي ذو الوجنة المنتفخة على المغنين نظرة غاضبة، وغمغم: «يا لطغمة خالقي البلبال!»
وقال الجندي المسن الواقف وراء العربة وعلى شفتيه ابتسامة نادبة: «في هذه الساعة لا يكفي الجنود، بل إنهم يأخذون كذلك أبناء الأرض. لا تمييز في الوقت الحاضر. يجب أن يشترك كل الناس في الأمر. ماذا؟! إن موسكو كلها تمر. يجب الفراغ من هذا الأمر.»
وعلى الرغم من قلة الوضوح في هذه الكلمات، فإن بيير فهمها كلها وأيدها بإشارة من رأسه.
ثم أصبح الطريق حرا، فلما وصل بيير إلى أسفل المنحدر، عاد إلى عربته يستقلها، وتابع الطريق. كان يدير بصره فيما حوله باحثا عن وجوه يعرفها، لكنه ما كان يرى غير عسكريين من مختلف الأسلحة لا يعرفهم، وكلهم يبدي دهشته لقبعته البيضاء وثوبه الأخضر.
وبعد أن اجتاز ميلا، وجد أخيرا شخصا يعرفه، فهتف يناديه بابتهاج. كان أحد رؤساء الأطباء في الجيش يرافقه طبيب شاب، وكانت عربته الصغيرة آتية في الاتجاه المضاد لوجهة عربة بيير. ولما عرف بيير أشار إلى القوقازي الذي يقوم بدور الحوذي أن يقف. - «كيف؟ هذا أنت يا كونت! ماذا تعمل سعادتك هنا؟» - «لقد استبدت بي رغبة معاينة ...» - «آه! نعم، سيكون هناك ما يرى ...»
نزل بيير من عربته وعبر له عن رغبته في حضور المعركة، فأشار عليه الطبيب أن يتصل بعظيم الرفعة مباشرة. قال وهو يتبادل نظرة مع زميله الشاب: «الله يعلم أين يمكنك أن تجد لنفسك مكانا خلال المعركة إذا كنت غير معروف. إن عظيم الرفعة على الأقل يعرفك وسيستقبلك بحسن التفات. نعم يا عزيزي، هذا ما يجب أن تفعل.»
كان الطبيب بادي التعب مستعجلا. سأله بيير: «آه! أتظن ... ولكن قل لي، أين موقعنا؟» - «الموقع؟ هذا ليس من اختصاصي. عندما تجتاز تاتارينوفو سترى أنهم يحفرون هناك مساحة كبيرة من الأرض. اصعد على التل، ومن هناك يمكنك أن ترى ...» - «آه! حقا ... لو أنك ...»
لكن الطبيب كان قد عاد إلى عربته. قال وهو يشير إلى حنجرته: «كنت سأرافقك عن طيب خاطر، لكنني كما ترى ملآن إلى هنا. إنني ذاهب لدى قائد الوحدة. أتدري كيف تسير الأمور يا كونت؟ غدا سندخل في معركة، ويجب أن نحصي أقليا عشرين ألف جريح على مائة محارب، وليس لدينا نقالات ولا أسرة ميدان ولا ممرضون ولا أطباء حتى لستة آلاف شخص. صحيح أن لدينا عشرة آلاف عربة، لكننا في حاجة إلى أشياء أخرى، ويجب أن نتدبر الأمر!»
لم تلبث أن طافت بذهن بيير فكرة غريبة: بين هذه الألوف من الرجال الأحياء الأصحاء الشبان والكهول الذين يمرون أمامه الآن ويتأملون قبعته البيضاء باستغراب فيه تسلية، عشرون ألفا نذروا لاحتمال الآلام والموت، لعلهم هؤلاء أنفسهم الذين يشاهدهم الآن. «قد يموتون غدا، فكيف يمكنهم التفكير في شيء آخر غير الموت؟» وفجأة تمثل بنتيجة اتحاد غامض بين الأفكار، منحدر موجائيسك والعربات المحملة بالجرحى وصوت الأجراس وإشعاعات الشمس المنحرفة وأنشودة الفرسان، فراح يحدث نفسه وهو يتابع طريقه نحو تاتارينوفو: «إن هؤلاء الفرسان الذين يمشون إلى المعركة يقابلون الجرحى ويتبادلون معهم غمزات بعيونهم دون أن يفكروا لحظة واحدة فيما ينتظرهم، وبين كل هؤلاء الناس عشرون ألفا قدر أن يتعرضوا للموت. مع ذلك فإن قبعتي تسليهم! هذا غريب!»
وبالقرب من منزل أحد السادة على يسار الطريق، وقفت عربات نقل وعربات ركاب وجماعة من الخفراء والأتباع. إنه مقام عظيم الرفعة، لكن هذا كان متغيبا في الساعة التي وصل فيها بيير، كما كان معظم أفراد هيئة الأركان متغيبين. لقد كانوا جميعهم في القداس الديني المقام لذلك، فقد استمر بيير باتجاه جوركي.
وعندما دخلت عربته شارع القرية الصغير، بعد أن صعدت مرتفعات، شاهد لأول مرة قرويين متطوعين في ستراتهم البيضاء يحملون صليبا على قلانسهم وهم يضحكون ويتكلمون بأصوات مرتفعة في حميا تنضح أجسادهم بالعرق، ويشتغلون على تل كبير إلى يمين الطريق اكتسحته الأعشاب الطفيلية.
ولما رأى بيير هؤلاء القرويين منكبين على أداء عمل غير مألوف لديهم، تذكر جرحى موجائيسك، فأدرك معنى كلمات الجندي المسن العميقة: «يجب أن يتدخل كل الناس في الأمر.» لقد أوحى هؤلاء الرجال الملتحون كلهم، الذين يشتغلون في ساحة المعركة، ويلفتون الأنظار بأحذيتهم الغريبة وأقذلتهم السابحة في العرق وستراتهم تلك المفتوحة من الجانب، التي تترك للعين فرصة مشاهدة تراق عظيمة ملوحة، أوحى إلى بيير أكثر من أية مرة سبقت بأنه استطاع مراقبة وسماع خطورة الساعة الحاضرة وجلالها.
الفصل الحادي والعشرون
عذراء سمولنسك
نزل بيير من العربة ومر بين المتطوعين الدائبين على العمل، وارتقى التل الذي يمكن للمرء من أعلاه مشاهدة ساحة المعركة حسب أقوال الطبيب الرئيس.
كانت الساعة الحادية عشرة صباحا، والشمس التي كانت وراء بيير إلى يساره قليلا، تضيء في جو نقي نادر المشهد الهائل الذي تبدى أمام عينيه على شكل حلبة.
كان طريق سمولنسك الكبير يقطع هذه الحلبة إلى اليسار متعرجا، وهو يرتفع عبر ضيعة صغيرة ذات كنيسة بيضاء واقعة على بعد خمسمائة خطوة إلى الأمام في مستوى أدنى من التل؛ هي قرية بورودينو، وكان الطريق يمر هناك عبر جسر وفي سلسلة من المرتفعات والمنخفضات باتجاه مركز فالوييفو الذي يحتله نابليون، والذي يراه الناظر على بعد ميل ونصف من هناك. وبعد ذلك يختفي الطريق في غابة مصفرة، وفي تلك الغابة من أشجار السندر والصنوبر، إلى يمين الاتجاه الذي يسير الطريق فيه، كانت الشمس تلتمع فوق قبة جرس دير كولوتشا وصليبه، وإلى أبعد من ذلك على يمين الغابة والطريق ويسارهم، في البعد الضارب إلى الزرقة، ظهرت هنا وهناك نيران المعسكرات ثم الكتل غير الواضحة لقطعاتنا وقطعات العدو. وإلى اليمين على طول كولوتشا وموسكوفا كانت الوديان تحتل الأرض وبينها علائم قريتي بيزوبوفو وزاخارينو، أما إلى اليسار فكانت الأرض أكثر استواء، فكانت تظهر للعيان حقول القمح وبقايا قرية سيميونوفسكوي المحترقة.
لقد كان كل ما يراه بيير من الإبهام، حتى إن ما من شيء في اليمين أو اليسار كان يجيب تماما على ما كان يتوقع. فبدلا من ساحة المعركة التي كان يتوقع أن يرى، لم يجد غير البراري والمزارع والقطعات والغابات ونيران المعسكرات والقرى والتلال والأنهار. وعلى الرغم من الانتباه الشديد الذي صرفه، فإنه لم يتوصل إلى معرفة الموقع، ولا حتى أن يميز قطعاتنا من قطعات العدو.
حدث نفسه قائلا: «يجب السؤال من شخص مختص.» ثم اتجه نحو ضابط كان يتأمل بفضول جسمه الضخم قليل الشبه بالأجسام العسكرية، وقال له: «هل أستطيع أن أسألك عن اسم هذه القرية هناك، قبالتنا؟»
أجاب الضابط وهو يلتفت نحو زميله: «بوردينو. أليس كذلك؟»
فصحح الزميل: «بل بورودينو.»
اقترب الضابط الذي بدا شديد الاغتباط بالثرثرة. فسأله بيير: «هل هم رجالنا، هناك؟» - «نعم، وهناك، إلى الوراء، الفرنسيون. هناك، هل ترى؟» - «أين؟» - «ولكن يمكن رؤيتهم بسهولة بالعين المجردة. هنا، انظر.»
أشار الضابط إلى الأدخنة المتصاعدة على اليسار عبر النهر، وقد اتسم وجهه بذلك الميسم القلق الصارم الذي لاحظه بيير على وجوه الآخرين كلهم.
سأل بيير وهو يشير إلى تل إلى اليسار كانت ترى حوله قطعات من الجنود: «آه! هؤلاء هم الفرنسيون! وهنا؟» - «إنهم جماعتنا.» - «آه! جماعتنا! وهنا؟»
وأشار إلى هضبة أبعد تتوجها شجرة كبيرة، غير بعيدة عن قرية منزوية في منحدر من الأرض، كان الناظر يرى إلى جانب نيران المعسكر المدخنة شيئا ما أسود اللون؛ ذلك هو حصن شيفاردينو. - «هناك؟ إنه «هو» أيضا. لقد كنا أمس هناك، واليوم أصبحت له «هو».» - «وإذن، أين موقعنا؟»
فقال الضابط بابتسامة راضية: «موقعنا؟ إنني أستطيع أن أصفها لك وصف العارف؛ لأنني أنا الذي أشرفت على تحضير كل الخنادق والمتاريس. إن وسطنا كما ترى في بورودينو هنا - وأشار إلى القرية ذات الكنيسة البيضاء الماثلة أمامهم مباشرة - وهنا يقوم ممر كولوتشا. انظر إلى هناك، حيث تقوم صفوف من الحشيش المرزوم، إن الجسر قريب من هناك، إنه وسطنا، وجناحنا الأيمن هاكه - وأشار إلى أخدود متعرج منحدر عند أقصى اليمين - إنه الموسكوفا يسيل هناك، ولقد أقمنا ثلاثة حصون منيعة قوية جدا، أما جناحنا الأيسر ... لعمري، إن من الصعب تفسيره ... لقد كان بالأمس هنا، في شيفاردينو؛ حيث ترى شجرة البلوط، هناك ... لكننا سحبنا الجناح الأيسر إلى الوراء. والآن، انظر هنا، إلى القرية والدخان، إنها سيميونوفسكوي ... ثم هنا - وأشار إلى هضبة راييفسكي ... مع ذلك إن من المشكوك فيه أن تدور المعركة هنا. لقد مرر «هو» قواته من هنا، لكنها خدعة. سوف يقوم ولا ريب بحركة التفاف إلى يمين موسكوفا ... على أية حال فإن عددا كبيرا لن يحضر نداء التفقد غدا!»
قاطعه صف ضابط عجوز كان قد اقترب أثناء الحديث وراح يصغي بصمت وقد ساءته ولا ريب ملاحظة رئيسية حول ذلك الموضوع. قال له بلهجة خشنة: «ينبغي لنا بعض القفف.»
بدا الضابط مضطربا وكأنه أدرك أن من الممكن للجنود التفكير في أن كثيرا من الزملاء لن يحضروا نداء الغد، ولكن ليس من اللائق التحدث عن هذا الأمر، فأجاب متعجلا: «حسنا، أرسل السرية الثالثة أيضا.»
ثم التفت إلى بيير فقال: «ولكن أنت، من أنت؟ طبيب بلا ريب؟» - «كلا، إنني هنا هكذا ...»
ولما نزل بيير مر من جديد وسط المتطوعين، وكان الطبيب يتبعه بخطوات واسعة. قال هذا وهو يسد منخريه: «آه! يا للأقذار!»
وقالت أصوات كثيرة: «ها هم أولاء! ... إنهم يحملونها، إنهم آتون ... ها هم أولاء ...»
ولم يلبث أن اندفع الضباط والجنود والمتطوعون إلى الطريق.
كان موكب يصعد الهضبة خارجا من بورودينو، وعلى رأسه يتقدم لواء من المشاة حاسر الرأس مخفوض السلاح فوق الطريق الغبراء، ومن وراء الجنود ارتفعت أناشيد كنائسية.
وهرع الجنود والمتطوعون وقد رفعوا قبعاتهم وتخطوا بيير لاستقبال القادمين. - «لقد جاءوا بها، بالأم الطيبة! حاميتنا! ... عذراء أيبيريا «نوتردام ديبري».»
فصحح آخر: «كلا، بل عذراء سمولنسك.»
وألقى المتطوعون - الذين كانوا في القرية والذين كانوا يعملون في إعداد «بطارية» المدفعية - المعاول من أيديهم، ومضوا لاستقبال الموكب الديني، وكانت الهيئة الدينية في حلل القداس تتقدم وراء لواء المشاة: كاهن عجوز وعلى رأسه كمة وحوله فريق من الشمامسة والمرتلين، وفي أعقاب هؤلاء كان عدد من الضباط والجنود يحملون أيقونة كبيرة ذات وجه مسود في زينتها المعدنية الخاصة، وكانت هذه الأيقونة هي التي حملوها من سمولنسك، وظلت منذ ذلك الحين تتبع الجيش في تنقله، ومن الوراء والأمام وعلى الجانبين راح عدد كبير من العسكريين يمشي أو يجري، والرجال حاسرو الرءوس يخشعون.
توقفت الأيقونة عند قمة التل، وتناوب الأشخاص الذين كانوا يحملونها بقطع من القماش، وأعاد حاملو المباخر إشعال مباخرهم، وبدأ القداس. كانت إشعاعات الشمس تسقط عمودية، ونسمة خفيفة تتلاعب بشعر الأيقونة والأشرطة التي تزينها، والترانيم تتصاعد وتضيع في السماء. وتكأكأ حشد هائل من الضباط والجنود والمتطوعين حول المكان، وشغل الضباط الكبار فراغا خصص لهم وراء رجال الدين.
كان جنرال أصلع يطوق عنقه بربطة القديس جورج واقفا وراء الراهب مباشرة، ينتظر بفارغ صبر دون أن يرسم شارة الصليب على صدره - ولا بد أنه ألماني - انتهاء الصلوات التي كان يعتقد أنه مرغم على حضورها؛ لأنها تغذي الحمية الوطنية في نفوس الشعب الروسي، وجنرال آخر وقف بتجبر وقفة عسكرية كان لا يفتأ يرسم على صدره إشارات الصليب، وهو يجيل عينيه يمنة ويسرة، ولقد عرف بيير الذي اختلط بالقرويين عددا من معارفه بين أولئك الشخصيات الكبيرة، لكنه لم ينظر إليها؛ لأن انتباهه كله كان محتكرا في معاينة وجوه الجنود الصارمة الذين كانت عيونهم تلتهم الأيقونة بلهفة وكلف. ولما شرع المرتلون الذين بلغوا فرضهم العشرين في ترديد الضراعة: «أيتها القديسة، أم الله، أنقذي خدامك من البلاء!» بصوت متعب كامد، واستأنف الراهب والشماس: «لأنه تبعا للتعاليم السماوية، نلجأ كلنا إلى شفاعتك، ونعتمد عليك كما نعتمد على جدار لا يتزعزع.» لاحظ بيير على كل الوجوه ذلك الإحساس برهبة الساعة الذي لاحظه عند منحدر موجائيسك، وفي مناسبات كثيرة خلال رحلته، انحنت الرءوس بخشوع، وتناهت الزفرات إلى الأسماع وإيقاع الأصابع وهي ترسم إشارات الصليب على الصدور.
تقهقر الحشد الذي كان متكاتفا حول الأيقونة فجأة، فاندفع بيير إلى الوراء مع الحركة. ولقد دلت هذه العجلة في الانتظام في صفوف على قدوم شخصية رفيعة المقام ولا ريب.
كان كوتوزوف هو القادم ليتفقد الموقع ويعود إلى تاتارينوفو، ولقد عرفه بيير من شكله البارز.
كان جسمه الضخم ملفوفا في قميص طويل يظهر منه ظهره المحدودب، وقد بدا رأسه الأبيض الحاسر وعينه المطفأة الفارقة في وجه رهل. تقدم بمشيته الغاطسة المتأرجحة، وتوقف وراء الرهب مباشرة، ثم رسم إشارة الصليب بحركة آلية، ولمس الأرض بيده، وبعد أن أطلق زفرة عميقة أحنى رأسه المجرد من الشعر، وكان بينيجسن وحاشيته يتقدمون من ورائه. لم يلبث حضور القائد الأعلى أن احتكر عناية كبار الضباط، بيد أن المتطوعين والجنود لبثوا مستغرقين في صلاتهم دون أن يعيروه التفاتة.
ولما انتهى القداس، اقترب كوتوزوف من الأيقونة، وتهاوى على ركبتيه، ثم سجد حتى بلغ الأرض، وظل طويلا دون أن يستطيع النهوض بسبب ثقل وزنه وضعفه حتى تقلص وجهه من الجهد. أخيرا نهض وقرب شفتيه بصورة ساذج طفولي، وطبع قبلة على الصورة، ثم انحنى من جديد ولمس الأرض بيده، فاقتدى به الجنرالات كلهم ثم الضباط، ومن بعدهم الجنود، فالمتطوعون، وهم يتدافعون ويتناحرون لاهثي الأنفاس يعلو التأثر وجوههم.
الفصل الثاني والعشرون
وجوه قديمة
وبينما راحت الجماهير تسوقه من جانب إلى آخر، راح بيير يلقي نظرات حوله. قال صوت: «يا كونت بيير كيريللوفيتش، أنت هنا؟!»
التفت بيير فإذا ببوريس دروبتسكوي يتقدم نحوه باسما وهو ينفض الغبار عن ركبتيه اللتين اتسختا، ولا ريب، بسبب ركوعه على الأرض أمام الأيقونة. كان يبدو في أناقة مدققة، مرتديا مثل بيزوخوف سترة طويلة ويتقلد سوطا.
وفي تلك الأثناء كان الجنرال القائد الأعلى قد بلغ القرية، وجلس في ظلال أقرب بيت على مقعد جاء به قوقازي راكضا، وغطاه آخر بنجد، وكانت حاشية مرموقة كثيرة العدد تحيط به.
عاد الموكب الديني إلى المسير، بينما توقف بيير على بعد ثلاثين خطوة من كوتوزوف يتحدث مع بوريس شارحا له رغبته في حضور المعركة وفحص الموقع، فقال له هذا: «حسنا! هذا ما سوف تفعله؛ سوف أقدم لك حفاوات المعسكر، لا ريب أن أفضل مكان لمعاينة المعركة هو حيث يقف الآن بينيجسن. إنني ملحق بشخصه وسوف أخطره، وإذا كنت ترغب في تفقد الموقع فما عليك إلا أن تتبعنا؛ لأننا ذاهبون الآن لتفقد الجناح الأيسر، وعند عودتنا سوف تسمح لي بأن أستضيفك هذه الليلة، وسوف نمضي سهرة طيبة. إنك تعرف ولا ريب دميتري سيرجييتش. ها هو ذا مسكنه.»
وأشار إلى البيت الثالث من جوركي. قال بيير: «لكنني كنت أفضل زيارة الجناح الأيمن الذي يزعمون أنه حصين جدا. ولكم أود الطواف بالموقع اعتبارا من موسكوفا.» - «يمكنك أن تقوم بذلك فيما بعد، بيد أن النقطة الرئيسية هي الجناح الأيسر.» - «نعم، نعم. ثم ألا تستطيع أن تدلني على الفيلق الذي فيه الأمير بولكونسكي؟» - «فيلق آندريه نيكولايفيتش؟ سوف نمر أمامه وسأقودك إليه.» - «حسنا. وماذا كنت تريد أن تقول عن الجناح الأيسر؟»
استطرد بوريس وهو يخفت صوته بلهجة من يودع سرا: «في الحقيقة - وهذا بيننا - إن هذا الجناح الأيسر في حالة وقتية أكثر منها ثابتة، الأمر الذي لم يكن الكونت بينيجسن يرغب فيه مطلقا. كان يريد أن يحصن هذا التل هناك على شكل آخر مختلف.» وأضاف وهو يهز كتفيه: «غير أن عظيم الرفعة لم يرض أو أنهم أثروا عليه؛ ذلك لأن ...»
لكن بوريس لم يتمم سرد فكرته؛ لأن كائيساروف، أحد مساعدي كوتوزوف العسكريين، اقترب من بيير في تلك اللحظة، فاستطرد بوريس بضحكة مرحة وجهها إلى القادم الجديد. - «آه! يا بائيسي سيرجييتش، إنني كما ترى أحاول أن أشرح الموقف للكونت. يا لبراعة عظيم الرفعة في تخمين نوايا الفرنسيين! إنه لأمر رائع!»
سأل كائيساروف: «إنك تتحدث عن الجناح الأيسر؟» - «نعم، بالضبط. إن جناحنا الأيسر الآن قوي جدا جدا.»
على الرغم من أن كوتوزوف صرف من الأركان العامة كل الذين لا نفع فيهم، فإن بوريس استطاع أن يحتفظ بمركزه في المقر الرئيسي، بالالتحاق إلى حاشية الكونت بينيجسن. وكان هذا كالآخرين، يعتقد أن له في دروبتسكوي الشاب مساعدا ثمينا.
كانت القيادة العليا تنقسم إلى قسمين بينين: جانب كوتوزوف، وجانب بينيجسن رئيس الأركان. وكان بوريس منتميا إلى هذا الجانب الأخير، يوحي إلى سامعيه، رغم إبدائه احترام الخادم للمخدوم لكوتوزوف، بأن العجوز لا يساوي شيئا، وأن بينيجسن هو الذي يسير دفة كل شيء. وكانت اللحظة الحاسمة تقترب، فإذا ضاعت المعركة نحي كوتوزوف، ووجب تسليم منصبه إلى بينيجسن، أما إذا ربحت المعركة، فإنهم سوف يتدبرون الأمر على العكس؛ ليجعلوا شرف النصر راجعا إلى بينيجسن. على أية حال فإن نهار غد سيؤدي إلى توزيع المكافآت على نطاق واسع، كما سيؤدي في المرحلة الأولى إلى مجيء رجال جدد. ذلك كان السبب الذي جعل بوريس ذلك اليوم في هرج ومرج شديدين.
جاء بعد كائيساروف عدد آخر من معارف بيير، فأحاطوا به، حتى إنه بات يجد صعوبة في الإجابة على كل الأسئلة التي راحوا يوجهونها إليه عن موسكو، وفي تتبع كل الأقاصيص التي شرعوا يروونها على مسامعه. وكانت الوجوه كلها متأثرة وبالغة ذروة الانفعال، ولكن خيل إلى بيير أن كل ذلك التهيج إنما يرتكز على أسس أقامتها المصلحة الشخصية، فلم يستطع إلا أن يقارنه بذلك الذي قرأه على وجوه أخرى، والذي نجم عن مسألة كلية مختلفة؛ مسألة الحياة أو الموت. ولاحظ كوتوزوف شخص بيير الضخم والزمرة التي تحيط به، فقال آمرا: «قولوا له أن يأتي إلي!»
وحمل مساعد عسكري رغبة عظيم الرفعة إلى بيير، فتوجه هذا نحو مقعد الجنرال، لكن جنديا من المتطوعين سبقه، وكان ذلك الجندي هو دولوخوف. سأل بيير: «كيف جاء هذا إلى هنا؟»
فأجابه بعضهم: «أوه! إنه شاطر يعرف كيف يتسلل في كل مكان. لقد كسرت رتبته من جديد، وهو يرغب الآن في أن يسترد مركزه، ولقد قدم عددا من المشاريع المختلفة، وقام بغارة ليلية على خطوط العدو ... لا مجال للنقض، إنه فتى صنديد.»
رفع بيير قبعته وانحنى باحترام أمام كوتوزوف، وكان دولوخوف في تلك اللحظة يقول: «ولقد فكرت أنني إذا خاطبت سموكم، فإن أسوأ ما يمكن أن يقع لي هو أن ترفضوا الإصغاء إلي، أو أن تقولوا إنكم عارفون كل هذا مثل ما أعرفه ...» - «حسنا، حسنا ...» - «وإذا كنتم سموكم في حاجة إلى رجل لا يخشى قط تعريض نفسه للخطر، فلتتفضلوا بتذكر اسمي ... علني أكون نافعا لسموكم ...»
فكرر كوتوزوف وقد وقعت عينه الضحاكة على بيير: «حسنا ...»
خلال ذلك كان بوريس، ببراعته ولباقته، قد استطاع أن يجعل نفسه ملازما لبيير، إلى جوار الرئيس الأكبر مباشرة، فقال بلهجة طبيعية جدا لا يتطرق إليها الشك، يخاطب بيزوخوف وكأنه ينهي حديثا بدأ بينهما: «لقد ارتدى المتطوعون قمصانا جديدة بيضاء ليستعدوا للموت. يا لها من بطولة يا كونت!»
وكان يشك في ألا توقظ هذه الكلمات انتباه كوتوزوف. والواقع أن هذا لم يلبث أن سأله: «ماذا تقول عن المتطوعين؟» - «لقد ارتدوا يا صاحب السمو قمصانا بيضاء استعدادا ليوم غد، للموت.»
فقال كوتوزوف: «آه! يا له من شعب رائع! يا له من شعب لا يبارى!»
وأغمض عينيه وهز رأسه وأطلق زفرة وردد: «نعم، يا له من شعب لا يبارى!»
ثم خاطب بيير سائلا: «وإذن، إنك تريد أن تستنشق رائحة البارود؟ نعم، إنها رائحة جميلة. لي الشرف أن أكون أحد المعجبين بالسيدة زوجتك. كيف حالها؟ إن معسكري رهن أمرك.»
وكما يحدث عادة للأشخاص المسنين، أدار كوتوزوف حوله نظرة ساهمة، وكأنه لم يعد يذكر ما كان يريد أن يقول أو أن يعمل، ثم استدعى بإشارة سيرجييتش كائيساروف، أخا مساعده العسكري، وقال له وكأنه استعاد حبل تفكيره: «ذكرني بأبيات مارين، إنك تعرف ماذا كتب عن جيراكوف: «سوف تلقن سرايا الجدد دروسا ...» هيا، هيا ...»
وكان إلحاحه يظهر استعداده الواضح لإدخال بعض المرح على نفسه، فراح كائيساروف يتلو الأبيات عليه، وهو - كوتوزوف - يضبط الإيقاع بهزات رأسه.
وبينما شرع بيير ينسحب، استوقفه دولوخوف من ذراعه، وقال له بصوت مرتفع يحمل طابع تمجيد خاص، غير مبال قط وجود غرباء: «يفتنني أن ألقاك هنا، عشية يوم لا يعلم إلا الله الذين سوف يبقون على قيد الحياة بيننا. وإنني سعيد إذ أقول لك إنني آسف لسوء التفاهم القديم، وإنني أرغب في ألا يكون في نفسك شيء من الضغينة ضدي. تفضل بالصفح عني.»
نظر إليه بيير وراح يبتسم دون أن يعرف كيف يجيب، بينما ضمه دولوخوف إلى قلبه والدموع تتلألأ في عينيه.
والتفت الكونت بينيجسن نحو بيير بعد أن حدثه بوريس ببضع كلمات، ودعاه إلى مرافقته في جولته التفتيشية. قال له: «سوف يثير ذلك اهتمامك.»
فأجاب بيير: «نعم ولا ريب.»
وفي غضون نصف ساعة، عاد كوتوزوف إلى تاتارينوفو، بينما توجه بينيجسن وحاشيته، ومعهم بيير، نحو خطوط القتال.
الفصل الثالث والعشرون
تصرف بينيجسن
نزل بينيجسن من جوركي على الطريق الرئيسية، حتى بلغ الجسر الذي دل الضابط بيير عليه من فوق التل، مشيرا إلى أنه «وسط» الموقع، والذي انتشرت بقربه رزمة من الحشيش العط. وبعد أن اجتازوا الجسر وضيعة بورودينو، استداروا إلى اليسار ومروا بحشد كبير من الجنود والمدافع، فعرضت لأبصارهم ربوة كان المتطوعون يقلبون أرضها؛ تلك كانت الحصن الذي عرف فيما بعد باسم «حصن راييفسكي»، أو «بطارية التل».
لم يعلق بيير عليها إلا اهتماما عابرا؛ لأنه ما كان يعتقد قط أن ذلك الحصن سيصبح بالنسبة إليه المكان الذي يستحق الذكر أكثر من أي موقع آخر من ساحة المعركة. وبعد أن عبروا خورا، بلغوا قرية سيميونوفسكوي؛ حيث كان الجنود يحملون آخر أخشاب الأكواخ والمكادس. وأخيرا، وبعد سلسلة من المرتفعات والمنخفضات، عبر حقول من الشيلم الذي حطمه البرد، وصلوا إلى طريق فتحته المدفعية بين أخاديد حقل محروث، ومنه بلغوا الخنادق التي كانوا يقومون بحفرها.
ولما وصلوا إلى هناك رفع بينيجسن أبصاره قبالته نحو حصن شيفاردينو الذي كان حتى الأمس في أيدينا، والذي كان يرى حوله بعض الفرسان، ولقد زعم بعض الضباط أن واحدا من أولئك الفرسان كان ولا ريب نابليون أو مورا، فراح الجميع ينظرون إلى تلك الناحية بتعطش، وراح بيير يسعى لمعرفة من أولئك الفرسان يمكن أن يكون نابليون، لكن الجماعة ما لبثت أن تركت التل وضاعت عن متابعة الأبصار.
شرح بينيجسن لجنرال كان يقترب في تلك اللحظة موقع قطعاتنا بالتفصيل، وراح بيير يصغي إليه جاهدا أن يتفهم موضوع المعركة المقبلة، لكن لعظيم نكده لمس أن ذكاءه لا يبلغ هذا الحد؛ لأنه لم يكن يفهم من الشرح شيئا. وبينما بينيجسن ينهي درسه، لاحظ ما اعترى وجه بيير من أمارات وهو يصغي إليه، فسأله فجأة: «لن يثير هذا اهتمامك ولا ريب؟»
فاحتج بيير بقليل من الإخلاص: «بل على العكس؟»
مالوا إلى اليسار أيضا بعد موقع الاستحكامات عبر طريق متعرج يخترق غابة من أشجار السندر الصغيرة، وفي وسط تلك الغابة، انبعث أمامهم أرنب بري أشهب ذو قوائم بيضاء، ولقد روعه اقتراب كل هذا العدد من الخيول، ففقد صوابه وراح يعرقص طويلا على الطريق مثيرا الضحك العام، حتى إنه لم يعتزم أخيرا الدخول إلى الدغل، إلا بعد أن صرخت عدة حناجر تفزعه. وبعد نصف ساعة انتهوا إلى فسحة جرداء تشغلها وحدة توتشكوف التي عهد إليها بالدفاع عن أقصى الجناح الأيسر ...
وهنا تحدث بينيجسن طويلا وبحماس، ثم اتخذ إجراء خيل إلى بيير أنه ذو أهمية أولية. لقد كان قبالة وحدة توتشكوف تل أهملوا احتلاله، فانتقد بينيجسن هذه الخطيئة بصوت مرتفع، قائلا إن من الجنون ترك نقطة تتحكم بالمنطقة دون حماية، وأنه يجب إقامة وحدات عند أسفل التل. ولقد أعرب بعض الجنرالات عن الرأي نفسه، بل إن أحدهم أعرب بصراحة عسكرية صميمة أنهم أرسلوهم إلى المسلخ. فأمر بينيجسن من تلقاء نفسه باحتلال التل، وغير مراكز القطعات.
ولقد أقنع هذا التصرف بيير بعجزه عن تفهم الفن الحربي. تساءل وهو يشاطر بينيجسن وجنرالاته الرأي، كيف استطاع الذي أقام وحدة توتشكوف هنا أن يرتكب مثل هذه الخطيئة الفاحشة؟!
كان يجهل أن تلك الوحدة لم تكن مهمتها حماية الموقع كما تصور بينيجسن، بل إنهم أخفوها هناك استعدادا لشرك أعد سلفا بقصد مهاجمة العدو على غرة وهو في سيره. ولقد خضع بينيجسن وهو يبدل ذلك الموقع لوجهات نظر خاصة، حاذر أن يطلع القائد الأعلى عليها.
الفصل الرابع والعشرون
إحساس آندريه
كان الأمير آندريه ليلة الخامس والعشرين تلك يستريح في مكدس خرب بقرية كنياز كوفو، عند الطرف الأقصى من الجبهة التي يدافع لواؤه عنها. كان متكئا على مرفقه ينظر خلال الحواجز المفككة إلى خط من السندر الثلاثيني ذي الأغصان المنخفضة المشذبة، الذي يمتد على طول الحاجز، وإلى حقل تناثرت فيه جرز العلف غيضة يتصاعد منها دخان المطابخ.
وعلى الرغم من أنه كان يعتقد بأنه شخص عديم النفع، وأنه لا يليق بالحياة، فإنه كان يشعر بالانفعال وشدة التأثر كشعوره عشية معركة قبل سبعة أعوام.
لقد تلقى الأوامر المتعلقة بمعركة الغد ونقلها، فلم يتبق له ما يعمله، لكن أكثر الأفكار بساطة ووضوحا؛ وبالتالي أكثر إيلاما، ما فتئت تهاجمه. كان يعرف أن تلك المعركة ستكون أشد هولا من كل المعارك التي خاضها؛ لذلك فقد تمثلت له لأول مرة إمكانية الموت بكل وضوح، وعلى شكلها المريع، بحدة بل وبالتأكيد. لم يعد يتساءل عن التأثير الذي يمكن أن يحدثه هذا العارض على الآخرين، بل أصبح يتصوره على زاوية شخصية بحتة، كما لم يعد يفكر إلا في نفسه. ومن السماك الذي بلغته أفكاره استضاء كل ما كان يعذبه من قبل عذابا مبرحا بنور أبيض بارد دون ظلال ولا توقع ولا خطوط محيطية واضحة. أدرك أنه لم يتأمل حياته حتى ذلك الحين إلا على ضوء مصباح سحري وتحت إضاءة اصطناعية. بات يرى فجأة تلك اللوحات الملونة بغلظة دون واسطة عدسة، بل على ضوء النهار الباهر. راح يحدث نفسه وهو يستعيد في ذاكرته لوحات ذلك المصباح السحري الرئيسية التي راح ينظر إليها الآن على ضوء ذلك النور الأبيض البارد الذي تلقيه فكرة الموت المشرقة: «نعم، نعم. ها هو ذا ذلك السراب الخادع الذي طالما هزني وأثارني وآلمني. ها هي ذي، هذه الصور الملونة بغلظة التي تبدو لي رائعة جدا وشديدة الغموض. المجد، الصالح العام، الحب، بل الوطن نفسه. كم كانت كل هذه الأشياء تبدو لي كبيرة ومليئة وذات معنى عميق! مع أنها كلها شديدة الشحوب، غليظة على الضوء الفاضح الذي يلقيه هذا الضجر الذي أشعر أنه يشرق علي!» ولقد كانت آلامه الثلاثة الكبرى تستنفد كل اهتمامه: غرامه، موت أبيه وغزو الفرنسيين الذين باتوا يحتلون نصف روسيا، وفجأة هتف بمرارة ساخرة: «الحب! ... تلك البنية التي كانت تبدو لي زاخرة بكثير من القوى المبهمة! وماذا؟! كنت أحبها، وأقيم أحلام غرام شاعرية وأحلام سعادة ... يا للطفل الصغير! أي نعم! كنت تؤمن بلست أدري أي حب مثالي كان عليه أن يبقيها مخلصة لك طيلة عام كامل من الغياب، كان عليها أن تضني نفسها بانتظار كحمامة القصة الحانية ... لكن كل شيء كان - وللأسف - أكثر بساطة! ... إن كل هذا بسيط بشكل مريع ومنفر!
كان أبي يبني في ليسيا جوري ويظن أن ذلك الركن يخصه، وأن فيه أرضا وهواء وقرويين له، لكن نابليون جاء فجاءة ودون أن يعرف أن أبي موجود، كنسه وكأنه حطام قش، هو وليسيا جوري. وماري تزعم أن اختبارا آت من الأعلى! فلماذا هذا الاختبار إذن طالما أنه لم يعد حيا ولن يحيا أبدا؟ كلا، إنه لن يعود بعد اليوم أبدا. وإذن، لمن هذا الاختبار؟ ... الوطن، خسارة موسكو! لكنهم غدا سيقتلونني، ولن يكون الفاعل فرنسيا، بل سيكون واحدا من رجالنا، مثل ذلك الجندي الذي أطلق سلاحه أمس قرب أذني ... سيأتي الفرنسيون وسيحملونني من قدمي ورأسي، ويلقونني في حفرة كيلا تؤذيهم رائحتي النتنة ... وستقوم شروط حياتية جديدة، وستصبح طبيعية تماما بالنسبة إلى آخرين كالنظم السابقة ... ولن أعرفها. إذن لن أكون على قيد الحياة.»
أخذ يتأمل خط السندر وأوراقها الصفراء الجامدة وقلافتها البيضاء التي تلتمع تحت الشمس. «الموت ... نعم، يمكن أن أقتل غدا ... ألا أصبح من أهل الحياة ... وأن كل هذا موجود ولكنه بالنسبة إلي انتهى، انتهى كل شيء.» تمثل مشهد الحياة في سياقها الطبيعي بوضوح دون أن يساهم فيها، وأشجار السندر تلك بألوانها وظلالها، وتلك الغيوم الكثيفة ودخان المعسكرات ذاك، كل ذلك انقلب فجأة واتخذ أمام ناظريه شكلا مريعا مهددا، فاقشعر بدنه، نهض فجأة وخرج وراح يذرع الأرض.
وفجأة دوت أصوات وراء الصفة ، فسأل الأمير آندريه: «من هناك؟»
دخل تيموخين - الضابط ذو الأنف الأحمر، القائد السابق لسرية دولوخوف الذي عين بسبب نقص الضباط قائد لواء - إلى المكدس خجلا، وكان ضابط تابع والضابط المحاسب يتبعانه.
نهض آندريه متلهفا وأصغى إلى تقرير مرءوسيه، ثم أنهى إليهم أوامره الأخيرة. كاد يصرفهم عندما تناهت إليه من الخارج نغمة صوت مألوف لديه. زمجر أحدهم وقد اصطدم ولا ريب بحاجز ما: «يا للشيطان!»
فألقى آندريه نظرة إلى الخارج فعرف بيير. كان هذا يشتم خشبة اشتبكت قدمه بها، وكان آندريه لا يتوقع رؤية أشخاص من بيئته، وعلى الأخص بيير الذي يذكره بفترات إقامته الأخيرة في موسكو الأليمة. قال: «آه! هذا أنت، أية مصادفة جاءت بك؟ ما كنت أتوقع رؤيتك.»
كان في صوته وعينيه وفي كل أماراته برود وعداء شديدا الظهور، حتى إن مزاج بيير المرح لم يستطع مقاومة هذا الاستقبال، فشعر بشيء من الانزعاج.
غمغم بيير الذي استعمل خلال ذلك النهار كلمة «هام» عديمة المعنى مرات كثيرة: «لقد جئت ... هكذا ... إنه شديد الأهمية. أردت مشاهدة المعركة.»
سأله بيير ساخرا: «آه، حقا! والإخوان الماسونيون، ماذا يقولون عن الحرب؟ هل استطاعوا منعها؟»
ثم أضاف بلهجة أكثر جدية: «وماذا يقولون في موسكو؟ هل وصل ذووي؟» - «نعم، لقد قالت لي جولي دروبتسكوي ذلك، ولقد ذهبت لرؤيتهم، لكنني لم أجدهم؛ إذ كانوا قد ارتحلوا إلى بيتكم الريفي.»
الفصل الخامس والعشرون
آراء جديدة
أراد الضابط أن ينسحبوا، لكن آندريه الذي ما كان يرغب في الانفراد مع صديقه استبقاهم. جيء بمقاعد وقدم الشاي. أخذ الضباط يتأملون جسم بيير الضخم في شيء من الدهشة، ويصغون إلى ما يرويه عن موسكو والمواقع التي طاف بها، ولقد ظل آندريه متخذا مظهرا فيه كثير من العناد، حتى إن بيير أخذ يفضل مخاطبة تيموخين الفاضل، وفجأة قاطعه آندريه: «وإذن، لقد فهمت تنظيم القطعات جيدا؟» - «نعم ... أو على الأصح، لما كنت غير مختص، فإنني لا أستطيع القول بأنني فهمته تماما، لكنني استوعبت الخطوط العامة.» - «إذن، إنك أكثر تقدما من أي كان.»
قال بيير وهو ينظر إليه خلال نظارتيه مذهولا: «كيف؟! إذن، ماذا تقول عن تعيين كوتوزوف؟» - «لقد سرني تعيينه. هذا كل ما أستطيع قوله.» - «وماذا تفكر في باركلي دوتوللي؟ الله يعلم ماذا قالوا عنه في موسكو. هيا، ما هو رأيك عنه؟»
قال آندريه وهو يشير إلى الضباط: «سل هؤلاء السادة.»
وبمثل تلك الابتسامة الرحيمة التي تطوف على شفاه كل من ينظر إلى تيموخين، نظر بيير إلى هذا فأجاب تيموخين بشيء من التردد وهو شاخص بأبصاره إلى زعيم فوجه: «كما ترى سعادتك، لقد شاهدنا النور عندما اضطلع عظيم الرفعة بأعباء القيادة.»
فسأله بيير: «وكيف ذلك؟» - «حسنا. لنأخذ مثلا الحطب والعلف؛ عندما تراجعنا أمام سوينسياني، كان محظورا لمس غمر من العلف أو قشة تبن. مع ذلك، لقد كان «هو» الذي سيستفيد منها طالما كنا سنرحل. أليس كذلك يا صاحب السعادة؟»
كانت العبارة الأخيرة موجهة إلى أميره. أردف: «ولقد مثل ضابطان من فيلقنا أمام المحكمة لأسباب من هذا النوع. أما مع عظيم الرفعة، فقد غدا كل شيء أكثر بساطة. لقد شهدنا النور.» - «وإذن، لماذا حظر باركلي دوتوللي هذا العمل؟»
أخذ تيموخين يدير عينيه مرتبكا بهذا السؤال دون أن يجيب، فبادر الأمير آندريه إلى نجدته، فقال بلهجة ساخرة مريرة: «ولكن، لكي لا نتلف الأرض التي نسلمها للعدو. وأي شيء أكثر عدالة؟ لا يمكن السماح للجنود بنهب البلاد أو بالقيام بأعمال السلب، ولقد فكر تفكيرا صحيحا في سمولنسك أيضا عندما زعم أن العدو يمكن أن يلتف حولنا، وأن قواته أكثر من قواتنا.»
وفجأة صاح بصوته الثاقب: «مع ذلك، فإن ما لم يستطع فهمه، نعم، ما لم يستطع فهمه، هو أننا كنا في سمولنسك ندافع لأول مرة عن أرض روسية، وأننا صددنا يومين متعاقبين هجمات الفرنسيين، وأن مقاومتنا ضاعفت قوانا إلى عشرة أمثال. مع ذلك، فقد أمر بالانسحاب، فباتت مجهوداتنا كلها وخسائرنا كلها عديمة الجدوى. لا ريب أنه لم يكن يفكر في الخيانة، بل كان يعمل جاهدا لبلوغ أفضل النتائج، ويزين كل الأشياء، لكنه من أجل ذلك بالذات لا يساوي شيئا. إنه لا يساوي شيئا، نعم؛ لأنه ككل ألماني جيد، يهتم كثيرا بكل الأمور. كيف أفسر لك؟ ... لنفرض أن لأبيك خادما ألمانيا، إنه تابع ممتاز يخمن رغبات أبيك وينفذها أفضل مما تستطيع أنت صنعه، فتترك له الحرية التامة في خدمته، ولكن إذا كان أبوك مشرفا على الموت، فإنك حينئذ ستنحي ذلك الرجل، وستعنى بأبيك بيديك العديمتي المهارة والحذق، وسترفه عنه أفضل مما يفعل غريب مهما بلغ شأنه، وهكذا تصرفوا مع باركلي دوتوللي. طالما كانت روسيا على ما يرام، كان يستطيع الأجنبي أن يخدمها، وأن يقوم بدور وزير ممتاز، ولكن منذ أن أصبحت في خطر، بات من الضروري أن يكون فيها رجل من دمها ... لقد زعموا في ناديك أنه خائن! ولسوف يخجلون ذات يوم من هذه المسبة، وسيجعلون منه بطلا أو عبقريا، الأمر الذي سيكون أكثر إجحافا. إنه ليس أكثر من ألماني شريف ومدقق ...»
اعترض بيير: «إنهم يقولون إنه رجل حرب ماهر.»
فرد آندريه بابتسامة ساخرة: «إنني أجهل معنى هذا القول.» - «إن رجل حرب ماهر هو الذي يرى سلفا كل العرضيات ... الذي يخمن نوايا العدو.»
فأجاب آندريه وكأن المسألة قد حسمت منذ زمن بعيد: «لكن هذا مستحيل!»
نظر إليه بيير بدهشة وقال: «مع ذلك، فإنهم يزعمون أن الحرب تشبه شوط شطرنج.»
فقال آندريه: «نعم. مع ذلك، الفارق الصغير التافه أن في الشطرنج يستطيع المرء أن يفكر بعد كل حركة كما يشتهي؛ إذ إن الوقت لا يلعب فيه أي دور. ومع ذلك، الفارق أن «الفرس» أقوى دائما من «البيدق»، وأن «بيدقين» أقوى دائما من بيدق واحد. بينما في الحرب يكون اللواء أحيانا أقوى من فيلق كامل، وأحيانا أضعف من سرية، ما من أحد يستطيع قط معرفة قوى القطعات النسبية. صدقا إنه لو كانت النتائج تتوقف على الإجراءات المتخذة في قيادات الأركان، لظللت في القيادة العامة لإعطاء الأوامر، في حين أن لي شرف الخدمة هنا، في هذا الفوج، مع هؤلاء السادة، وأقدر أن نتيجة يوم غد تتوقف علينا ... إن النجاح لم يتوقف قط ولن يتوقف أبدا على الموقع ولا التسلح، ولا حتى على العدد، على أية حال ليس على الموقع!» - «وإذن، على أي شيء؟» - «على الشعور الذي في نفسي وفي نفسه - وأشار إلى تيموخين - وفي نفس كل جندي.»
نظر الأمير آندريه إلى تيموخين الذي كان يحدق في رئيسه بعينين مروعتين قلقتين. لقد بدا الأمير آندريه الآن مضطربا، وهو الذي كان صموتا متحفظا من قبل، وكان واضحا أنه عاجز عن كبت الأفكار التي هاجمته فجأة. - «إن هذا يربح المعركة التي صمم بعزم أن يربحها. لماذا خسرنا معركة أوسترليتز؟ لم تكن خسائرنا تفوق على خسائر الفرنسيين، لكننا حدثنا نفسنا في وقت مبكر بأننا هزمنا فكنا كذلك. ولقد قلنا لأنفسنا ذلك؛ لأننا ما كنا نرغب في القتال. كنا نريد مغادرة ساحة المعركة بأسرع ما يمكن. «لقد ضاعت المعركة فلم يبق إلا الفرار!» ثم فررنا، ولو أننا لم نعمد إلى هذه اللغة لكان الله يعلم بما كان سيقع. أما غدا فسيكون الأمر مختلفا. إنك تتنبأ بأن جناحنا الأيسر ضعيف وأن جناحنا الأيمن طويل الامتداد. ترهات كل هذه! سوف تقع غدا ملايين وملايين من الحوادث العرضية تجعل رجالهم ورجالنا في وقت ما يفرون، وتسبب في مقتل فلان أو فلان، ولكن بانتظار ذلك، كل ما صنع وأقيم ليس إلا لعبة. إن أولئك الذين زرت معهم الموقع أبعد من أن يساعدوا على سير العمليات، يعملون على عرقلتها. إنهم لا يفكرون إلا في مصالحهم الشخصية التافهة.»
قال بيير ساخطا: «في مثل هذه اللحظة؟»
فاستأنف الأمير آندريه: «نعم، في مثل هذه اللحظة. إن هذه اللحظة في نظرهم ليست إلا اللحظة المناسبة لنسف مركز خصم، والحصول على صليب أو وشاح آخر. إليك - حسبما أرى - الموقف كما هو: سيتقاتل غدا جيش مؤلف من مائة ألف روسي ضد مائة ألف فرنسي، والجيش الذي سيكون أشد ضراوة وأقل اقتصادا لمجهوداته هو الذي سيربح المعركة. وإنني لأقول لك إنه مهما حدث، وعلى الرغم من مؤامرات الرؤساء، فإننا نحن الذين سننتصر. نعم، «غدا» سنربح المعركة رغم وضد كل شيء.»
تدخل تيموخين قائلا: «إنها الحقيقة الحقة يا صاحب السعادة، هل هذا وقت التحفظ؟ هل تصدق؟ لقد رفض جنود لوائي شرب قطرة واحدة من الشراب. إنهم يقولون: «ليس الوقت مناسبا».»
ران صمت فنهض الضابط وتبعهم الأمير آندريه ليزودهم بآخر تعليماته، وعندما انصرفوا، أراد بيير أن يستأنف البحث، لكن وقع حوافر جياد ثلاثة سمع على الطريق على مقربة من الضفة. نظر آندريه إلى تلك الجهة، فإذا القادمون فولزوجن وكلوزويتز يرافقهما قوقازي. ولقد مروا قريبا جدا، حتى إن الصديقين استطاعا التقاط نتف من حديثهما. كان أحدهما يقول بالألمانية: «يجب أن تمتد رقعة الحرب، هذا رأي لا أستطيع إلا أن أؤيده.»
والآخر يجيبه مؤيدا: «صحيح، إن الغاية هي إضعاف العدو، بينما لا تدخل خسائر الأفراد الخصوصيين في ميزان التقدير.»
فيؤكد الأول: «بديهيا.»
وعندما مر الرجلان ردد الأمير آندريه في غضب متفجر: «حقا، يجب أن تمدد الرقعة! إن أبي وابني وأختي ظلوا ضمن هذا الامتداد، بينما لا يهتم هذان السيدان بالموضوع. هذا ما كنت أقوله لك: ليس هؤلاء الألمان الذين سيربحون المعركة غدا، إنهم سيفسدون كل شيء بقدر طاقتهم؛ لأن رأسهم الضخم لا يستوعب إلا آراء لا أدفع دبوسا ثمنا لها، وليس في قلبهم شيء مما يجب من أجل الغد، شيء مما في قلب تيموخين، بعد أن «أعطوه» أوروبا كلها، أخذوا الآن يتدخلون لتلقيننا الدروس.»
وأعقب بصوت حاد: «آه! يا للأساتذة الفاتنين الذين لدينا هنا!»
سأل بيير: «إنك تظن إذن أننا سنربح المعركة؟»
فأجاب آندريه ساهما: «نعم، نعم. على أية حال، لو أن الأمر لم يكن متوقفا إلا علي، فإننا لن نأخذ أسرى. أسرى؟ إنه عمل من الفروسية. لقد نهب الفرنسيون بيتي وهم مصممون على نهب موسكو. لقد أهانوني ولم يفتئوا يهينونني كل لحظة، إنهم أعدائي، أرى فيهم جميعا مجرمين يجب قتلهم. وطالما أنهم أعدائي فإنهم لا يمكن أن يكونوا أصدقائي رغم كل محاضراتهم الجميلة في تيلسيت.»
قال بيير مؤيدا وقد التمعت عيناه: «بالتأكيد. إنني من رأيك تماما.»
بدت المشكلة التي ما فتئت تشغل بال بيير منذ منحدر موجائيسك، واضحة الآن وقد حلت نهائيا، بات يفهم معنى هذه الحرب والمعركة المقبلة كاملا، ولقد اتخذ كل ما رآه ذلك اليوم وما شاهده من وجوه صارمة متزنة أثناء مروره، ضوءا جديدا أمام عينيه، فهم الحرارة «الكامنة» كما يقولون في الفيزياء، الوطنية أولئك الناس كلهم وباتت تشرح له الآن لماذا يستعدون جميعهم للموت بهدوء قريب من اللاشعور.
استأنف الأمير آندريه: «إن عدم أخذ أسرى معناه تحويل الحرب كلها وجعلها أقل قسوة، وبدلا من ذلك، فإننا - للأسف - نلعب لعبة الحرب! إننا نظهر كرمنا، وهذا الكرم، وهذا الإحساس يذكرانني بإحساس ربة بيت صغيرة تشعر بالانزعاج أمام منظر عجل يذبح؛ لأن قلبها الرقيق لا يسمح لها برؤية الدماء تسيل، لكنها تشبع معدتها راضية من لحم ذلك العجل بالذات المعد مع المرق الجيد. إنهم يبرزون قوانين الحرب، الإنسانية، الفروسية، احترام المفاوضين، إلخ ... ترهات كل هذه! لقد شهدت كل هذه الأشياء الجميلة عام 1805، لقد خدعونا وخدعنا، إنهم يسلمون بيوتنا للسلب ويضعون قيد التداول أوراقا نقدية زائفة، ثم - وهو الأسوأ - يقتلون أبي وأولادي، ثم يأتون إلي بعد ذلك ليحدثوني عن قوانين الحرب والكرم حيال العدو! كلا، لا يجب أخذ أسرى، بل يجب قتلهم جميعا والسير كذلك إلى الموت! إن ذلك الذي بلغ مثلي هذا الاعتقاد مارا بما مر بي من آلام ...»
أراد الأمير آندريه أن يقول إنه سيان عنده احتلت موسكو أم لم تحتل كما وقع لسمولنسك، لكن غصة اعتصرت حنجرته، فخطا بضع خطوات صامتا، ثم عاد إلى بحثه محموم العينين مرتعد الشفتين: «لولا هذا الكرم المزيف لما كنا لنمشي إلا عندما يجب الذهاب إلى موت محقق كاليوم، ولن تكون هناك حروب بحجة أن بافل إيفانيتش قد أهان ميخائيل إيفانيتش، وعندما تنشب حرب كحرب اليوم فستكون حينئذ حربا حقيقية، ولا ريب أن عدد القطعات وتأثيرها سيكون أقل كثيرا مما هو عليه اليوم؛ لأن كل هؤلاء الهيسيين
1
والويستفاليين الذين يجرهم نابليون وراءه ما كانوا ليتبعوه إلى روسيا، ولما ذهبنا نحن لنقاتل في بروسيا والنمسا دون أن نعرف السبب. أي محل للظرافة في الحرب؟ أليست الحرب أكثر ما في الوجود خزيا؟ يجب أن يتذكرها المرء فحسب لا أن يجعل منها تسلية. إن هذه الضرورة المريعة يجب أن تتقبل بالرغبة الجدية، لنبعد كل كذبة: الحرب. إيه، إنها الحرب وليست ألعوبة، لا يجب أن يجعل منها تسرية برسم العاطلين وذوي الأفكار الطائشة، أليست المهنة العسكرية معتبرة أنبل كل المهن؟
مع ذلك، ما هي هذه المهنة؟ وكيف يحصل المرء فيها على النجاح؟ وأية عادات يألفها أولئك الذين يمتهنونها؟ إن غايتها هي القتل، ووسائلها التجسس والخيانة والتشجيع على الخيانة ودمار السكان والنهب والسرقات التي تقع لتزويد الجيش، والخداع والكذب المزينين باسم خداع الحرب، وعاداتها الاسترقاق المعمد باسم الطاعة والبطالة والغلظة والقسوة والفجور والسكر. مع ذلك، فإن الطائفة العسكرية تترأس الطوائف الأخرى والناس كلهم يمجدونها، إن الملوك كلهم - باستثناء إمبراطور الصين - يرتدون البزة العسكرية ويعطون أسخى المكافآت وأرفعها للذي قتل عددا أكبر من الناس.
أن يلتقي عشرات الألوف من الرجال - كما سيكون الحال غدا - ليجرح بعضهم بعضا وليتقاتلوا ويشوهوا بعضهم البعض، فإن قداسات ستقام؛ قداسات غفران؛ لأنهم قتلوا كذا وكذا عددا من الرجال الذي يزيدونه تباعا على أية حال، مقدرين أنه كلما ازداد عدد القتلى، كلما كان النصر أكثر روعة.»
وصاح آندريه بصوته النباح: «كيف يرى الله من عليائه هذا الأمر ويتقبل تلك الصلوات؟! آه يا عزيزي، لقد برمت بالحياة كثيرا في الآونة الأخيرة! لا ريب أنني بدأت أفهم أشياء كثيرة، إنه ليس من المناسب للرجل أن يتذوق ثمار شجرة الخير والشر ... ثم إنه لن يتذوقها طويلا على أية حال ... لكنني أراك نائما! لا ريب أن الوقت قد أزف لأغفو قليلا. عد إلى جوركي.»
أجاب بيير وهو يلقي على آندريه نظرة مطبوعة بميل أليم: «آه، كلا!» - «بل نعم، امض. لكي يقاتل المرء جيدا يجب أن ينام جيدا.»
اقترب فجأة من بيير وعانقه بشدة وهتف: «هيا، اذهب. الوداع، ترى هل نرى بعضنا أبدا؟ ...»
واستدار بسرعة ودخل المكدس، ولما كان الظلام قد حل فإن بيير لم يستطع أن يميز وجه صديقه خلال فترة الوداع، وهل كان حانيا أم صارما. تردد بعض الوقت في اتخاذ قرار اللحاق به، لكنه قال لنفسه مصمما: «كلا، إنه ليس في حاجة إلي، ثم إنني أعرف أن هذا آخر لقاء لنا.» وأطلق زفرة عميقة وعاد إلى جوركي.
بعد أن دخل مكدسه، تمدد آندريه على «بطانية»، لكن النوم لم يجد إليه سبيلا، لقد كانت الصور فوق الصور تحاصره، فتوقف عند إحداها هاشا. كان يرى سهرة في بيترسبورج، وناتاشا تروي له باندفاع كيف ضاعت في الصيف الماضي في غابة كبيرة، بينما كانت تسعى وراء الفطر. كانت تصف له بحماس الغابة العميقة والإحساسات التي اعتلجت في فؤادها والحديث الذي دار بينها وبين أحد مربي النحل، وتبتر حديثها في كل لحظة لتقول له: «كلا، لا أحسن الرواية، فلا تستطيع إذن أن تفهمني.» لكنه كان يطمئنها زاعما أنه يفهمها فهما كاملا؛ لأنه في واقع الحال كان يعرف ما ستقوله، وكانت ناتاشا تتحسر لأنها لا تستطيع الإعراب عن الانفعال الشاعري الذي استحوذ عليها ذلك اليوم، وتقول بحميا ووجهها متضرج: «كان ذلك الهرم فتانا جدا، والظلام كثيف جدا في الغابة، وله عدد طيب جدا ... كلا، لا أحسن الرواية.» وراح آندريه يبتسم تلك الابتسامة السعيدة التي كانت تطوف على شفتيه كلما نظر في عينيها. «آه! كنت أفهمها جيدا. نعم، كنت أفهمها وكنت أحب فيها روحها الجياشة الخالصة المتهورة التي كانت أشبه بالسجينة في جسدها ... نعم، تلك كانت الروح التي كنت أحبها حبا عنيفا جدا كان يبعث في نفسي سعادة غامرة ...» وفجأة تذكر الخاتمة الحزينة لذلك الحب. «ما كان ذلك الرجل ليأبه بكل هذا. ما كان يرى فيها إلا قذاة فتاة جميلة لا يجد أنها جديرة بأن يشركها في مصيره، أما أنا! ... ثم القول بأن هذا الشخص لا يزال على قيد الحياة!»
قفز آندريه عند هذه الذكرى وكأن بعضهم أحرقه بحديد محمي، وعاد يذرع أرض المكدس جيئة وذهابا.
الفصل السادس والعشرون
ملك روما
في الخامس والعشرين من آب، عشية معركة بورودينو، جاء السيد دوبوسيه المشرف على القصر، والزعيم فابييه - الأول من باريز والثاني من مدريد - إلى معسكر نابليون في فالوييفو.
وبعد أن ارتدى بزة البلاط، حمل السيد دوبوسيه رزمة بحضوره كان عليه أن يسلمها إلى الإمبراطور، ودخل المقصورة الأولى من الخيمة الإمبراطورية حيث راح يفك الرزمة وهو يثرثر مع المساعدين العسكريين الذين حاصروه بالأسئلة. وفي تلك الأثناء، كان فابييه الذي أوقف أمام الخيمة يتحدث مع معارفه من الجنرالات.
وكان الإمبراطور ينهي زينته في حجرة النوم، فكان يمد ظهره العريض تارة وهو ينخر، وتارة صدره الثمين الأزب، للفرشاة التي كان أحد الخدم يدلكه بها، بينما راح خادم آخر، وإصبعه فوق فتحة زجاجة، يبلل جسد سيده المرفه بماء الكولونيا ووجهه ينطق بأنه وحده الذي يعرف أين وبأية كمية يجب أن يسفح العطر على الجسد. وكان شعر نابليون القصير مبللا ومشعثا فوق جبينه، ووجهه رغم صفرته وانتفاخه يعبر عن الراحة والرضى. قال وهو ينكمش تحت عملية التدليك: «هيا، استمر بحزم ...» وكان مساعد عسكري ينتظر الأمر بالانصراف بعد أن أنهى إليه عدد الأسرى الذين وقعوا في معركة الأمس، فألقى نابليون نظرة نحوه وهو يصر على أسنانه. قال معقبا على تقريره: «ليس من أسرى! إنهم يهدمون أنفسهم. خسارة على الجيش الروسي ...»
استأنف وهو يحدب ظهره تحت الفرشاة: «استمر، استمر بحزم ... حسنا، أدخلوا السيد دوبوسيه، وكذلك السيد فابييه.»
وبعد أن أصدر هذا الأمر إلى المساعد العسكري صرفه بإشارة من رأسه، فقال هذا: «نعم يا صاحب الجلالة.»
انسحب المساعد وراح الخادمان يلبسان جلالته بحذاقة، وبعد أن ارتدى زي الحرس الأزرق، مضى إلى حجرة الاستقبال بخطى متلاحقة ثابتة.
وكان السيد دوبوسيه في ذلك الحين يقيم هدية الإمبراطورة التي جاء بها على كرسيين قبالة المكان الذي وجب أن يأتي الإمبراطور منه، لكن هذا دخل بشكل مفاجئ، حتى إن هذا لم يجد الوقت الكافي لإنهاء إعداداته.
لقد خمن نابليون أنهم بصدد إعداد مفاجأة له، فلم يشأ حرمان السيد دوبوسيه من تلك المتعة؛ لذلك تظاهر بأنه لم يره. استدعى إليه السيد فابييه وراح يصغي إليه في صمت عبوس ما كان يروي له عن بسالة جنود جلالته وتفانيهم في قتالهم في سالامانك
1
في الجانب الأقصى الآخر من أوروبا، وأنهم لا يرغبون إلا في أن يكونوا جديرين بإمبراطورهم ويخشون أمرا واحدا؛ وهو ألا يوفقوا في إرضائه. ولقد كانت نتائج القتال مؤسية؛ لذلك فقد ألمح إليه نابليون ببضع ملاحظات ساخرة، أن الأمور لا يمكن في غيابه أن تسير على نحو آخر. قال: «يجب أن أصحح هذا في موسكو. إلى بعد حين ...»
خلال ذلك، استطاع السيد دوبوسيه أن يفرغ من تهييء مفاجأته التي كانت ترتكز على بعض الكراسي مغطاة بعناية بستر. ولما التفت نابليون نحوه حياه هذا تحية عميقة على الطريقة الفرنسية لا يتقنها إلا خدام آل بوربون القدماء. واقترب منه وقدم له غلافا.
استقبله الإمبراطور ببشاشة، وقرز له طرف أذنه. سأله بلهجة انقلبت فجأة إلى حليمة مؤنسة: «لقد أسرعت، وإنني مسرور. ماذا يقولون في باريز؟»
أجاب السيد دوبوسيه بحكمة: «إن باريز كلها تأسف لغيابك يا صاحب الجلالة!»
وعلى الرغم من أن نابليون كان يتوقع جوابا من هذا النوع، وأنه في لحظات تيقظه كان يعرف كيف يتصرف إزاء هذه الإطراءات، فإنه تقبل هذا الإطراء بسرور، وشرف السيد دوبوسيه بقرزة جديدة لأذنه، وقال: «إنني مستاء إذ أراك تقطع كل هذه المسافة الطويلة.» - «يا صاحب الجلالة، ما كنت أتوقع قط أن أراك إلا على أبواب موسكو.»
ابتسم نابليون. ألقى على اليمين نظرة ساهمة، فاقترب مساعد عسكري بخطوات متسللة ومد له علبة سعوط ذهبية.
استأنف الإمبراطور وهو يدني من أنفه المسعطة المفتوحة: «نعم، إنك مجدود. أنت الذي تحب السفر، سترى موسكو في غضون ثلاثة أيام. ما كنت ولا ريب تتوقع زيارة العاصمة الآسيوية، وبذلك تكون قد قمت بسفر طيب.»
وعلى الرغم من أن عاهله افترض فيه ذوقا لم يكن هو يعرف لوجوده ظلا، فإن السيد دوبوسيه شكره وانحنى لهذه الالتفاتة الرقيقة.
سأل الإمبراطور وهو يرى أن أنظار حاشيته كلها مستديرة نحو الشيء الذي غطي بالستر: «ولكن ما هذا؟»
تراجع السيد دوبوسيه خطوتين بحذق رجل البطانة المجرب دون أن يدير ظهره، ثم رفع الستر وهو يعلن: «هدية لجلالتكم من قبل جلالة الإمبراطورة.»
كانت الهدية لوحة رسمها جيرار
2
بألوان صارخة للطفل الصغير المولود من نابليون وأرشيدوقة النمسا، الذي كان الناس جميعهم يدعونه - دون معرفة السبب - ملك روما. وكان ذلك الطفل الفتان ذو الشعر العكف والنظرة التي تشبه نظرة يسوع في صورة المادونا لسان سيكست، مرسوما وهو يلعب بكرة خشبية مثقوبة، وكانت الكرة تمثل الكرة الأرضية، أما المقبض الذي كان ممسكا به في يده الأخرى فيشبه الصولجان.
وعلى الرغم من أن غاية الرسام لم تكن واضحة تماما؛ إذ ما الذي يدعو ملك روما في الواقع إلى أن يثقب الكرة بعصا؟ فإن الاستعارة كانت مفهومة ومقدرة من قبل كل الذين شاهدوا اللوحة في باريز، وكذلك بدا حال نابليون.
قال وهو يشير إلى اللوحة بحركة ظريفة: «ملك روما، رائع!»
اتخذ ميزة الإيطاليين التي تجعلهم قادرين على تبديل أمارات وجوههم وفق هواهم، وهو يتقدم من اللوحة مظهر مفكر ألماني معا. كان يعرف أن كل ما سيقوله ويفعله سيصبح ملكا للتاريخ، ولقد بدا له أن الحنان الأبوي الأكثر صفاء هو المظهر الأكثر ملاءمة، بوصفه مباينة لعظمته التي بفضلها يستطيع ابنه الصغير أن يلعب بالعالم بدلا من الكرة الخشبية المثقوبة، وابتلت عيناه بالدموع، فراح يبحث بنظره عن كرسي «طار» للقائه، ثم جلس أمام اللوحة، وأخيرا صدرت عنه إشارة فانسحب الجميع على أطراف أصابعهم تاركين الرجل العظيم في خلوة مع أفكاره.
وبعد أن تأمل الصورة بضع لحظات ومر بيده على حرشة الألوان بحركة آلية، نهض نابليون واستدعى السيد دوبوسيه من جديد، كما استدعى الضابط المنوب، وأصدر الأمر بأن توضع الصورة أمام خيمته حتى يتسنى للشعب الخاص أن يرى ملك روما، ابن إمبراطورهم المعبود ووريثه.
ولم يخذل انتظاره؛ إذ بينما كان يتناول طعامه مع السيد دوبوسيه الذي حظي بهذا الشرف العظيم، هرع الضابط ورجال الحرس جماعات جماعات إلى أمام الخيمة، وراحوا يحيون الصورة بهتافات حماسية: «يحيا الإمبراطور! يحيا ملك روما! يحيا الإمبراطور!»
وبعد الطعام، وبحضور السيد دوبوسيه، أملى نابليون أمرا يوميا للجيش، ثم قال وهو يقرأ بيانه الذي كتبه دفعة واحدة دون أن يدخل عليه أي تصحيح: «بيان قصير وقوي!»
وهذا نص البيان:
أيها الجنود! ها هي ذي المعركة التي طالما تمنيتموها. إن النصر منذ الآن يتوقف عليكم، وهو ضروري لنا؛ لأنه سيعطينا الوفرة والمراكز الشتوية الجيدة وعودة سريعة إلى الوطن! تصرفوا كما تصرفتم في أوسترليتز وفريدلاند وفيتيبسك وسمولنسك، ولتتحدث الأجيال الصاعدة عن سلوككم في هذا اليوم، ليقولوا عنكم: لقد كانوا في المعركة الكبرى عند جدران موسكو.
ردد نابليون: «جدران موسكوفا!»
وبعد أن دعا السيد دوبوسيه المولع بالأسفار إلى مرافقته في نزهته، خرج من خيمته واتجه نحو الخيل المسرجة. هم السيد دوبوسيه أن يعترض وهو الذي كان في حاجة إلى النوم، أضف إلى ذلك جهله التام بركوب الخيل: «إن جلالتكم تغمرونني بعطفكم.»
لكن إشارة من رأس نابليون أرغمت الرحالة على اللحاق به. ولما ظهر الإمبراطور تضاعفت هتافات جنود الحرس، فقطب نابليون حاجبيه. قال وهو يدل بإشارة عريضة من يده على صورة ابنه: «ارفعوها. لا يزال صغيرا جدا حتى يرى ساحة المعركة.»
فأغمض السيد دوبوسيه عينيه وأحنى رأسه وأطلق زفرة عميقة مدللا بذلك على أنه يدرك تماما وساوس جلالته.
الفصل السابع والعشرون
خطة نابليون
يقول مؤرخو نابليون إنه أمضى سحابة يوم الخامس والعشرين من آب على جواده يفحص الأرض ويناقش الخطط التي يعرضها عليه ماريشالاته، ويعطي بنفسه الأوامر إلى جنرالاته.
كان خط الروسيين الأول على طول نهر كولوتشا قد تصدع، وقد سحب جزء من هذا الخط، وهو الجناح الأيسر، إلى الوراء بسبب سقوط حصن شيفاردينو يوم الرابع والعشرين من آب، فلم يعد هذا الجزء محصنا أو محميا بالنهر، ولم يعد أمامه إلا قطعة أرض مكشوفة مستوية. وكان الفرنسيون - ولا ريب - سيهاجمون من هناك؛ لأن ذلك كان يقفز لعيني كل ناظر حتى ولو لم يكن عسكريا. ولم يكن إعداد ذلك الهجوم - على ما يبدو - يحتاج إلى كثير من الترتيبات، ولا إلى كل تلك الروحات والغدوات من جانب الإمبراطور وماريشالاته، حتى ولا إلى تلك القدرة الرفيعة الخاصة التي يسمونها بالعبقرية، والتي يحبون كثيرا أن ينسبوها لنابليون. لكن المؤرخين الذين رووا الحادث فيما بعد والرجال المحيطين به والإمبراطور نفسه كانوا يفكرون تفكيرا مختلفا.
إذن، لقد كان يجوب على جواده دارسا طوبوغرافية الأرض دراسة المتأمل، مؤيدا أو رافضا بإشارة من رأسه الأفكار التي تطوف برأسه، مطلعا معاونيه - دون إظهارهم على سير أفكاره السري - على النتيجة بشكل أوامر يوجهها إليهم. عرض دافو - الذي باتوا الآن يدعونه الأمير ديكموهل - أن يعمد إلى الالتفاف حول جناح الروسيين الأيسر، لكن نابليون اعترض على ذلك دون بيان أسباب الرفض، وبالمقابل فإن الجنرال كومبان الذي عهد إليه بمهاجمة المتاريس، عرض فكرة إخفاء فوجه في الغابة، فوافق الإمبراطور عليها رغم أن الدون ديلشجن المزعوم - أي الماريشال ناي - سمح لنفسه بالاعتراض على هذا الإجراء؛ لأنه خطير يمكن أن يحل الفوضى بين الصفوف.
وبينما هو يتفحص الأرض قبالة حصن شيفاردينو، ظل بضع لحظات صامتا، ثم أشار إلى المواضع التي يجب أن تقام فيها «البطاريتان» المنتدبتان للعمل ضد التحصينات الروسية، في حين تركز مدفعية الميدان حولهما.
وبعد أن أصدر هذا الأمر، وأوامر أخرى أيضا، عاد إلى مقره العام وأملى نصوص المعركة. ولقد كانت تلك النصوص التي يتحدث المؤرخون الفرنسيون عنها بحماسة، بينما يتحدث الآخرون عنها بكثير من الاعتبار، كما يلي:
عند بزوغ النهار تبدأ «بطاريتان» جديدتان تقامان خلال الليل على هضبة الأمير ديكموهل، بإطلاق نيرانهما على «البطاريتين» المناوئتين.
في اللحظة نفسها، يبدأ الجنرال بيرنيتي، قائد مدفعية الفوج الأول، بإطلاق النار من مدافعه الثلاثين التي ستكون في جيش كومبان، وكذلك من كل قاذفات القنابل التابعة للفوجين ديسيكس وفريان، التي ستتقدم إلى الأمام، على «بطارية» العدو التي سيكون أمامها على هذا الشكل مدافع فرقة الحرس الأربعة والعشرون، وثلاثون مدفعا من فوج كومبان وثمانية من فوجي ديسيكس وفريان. المجموع اثنان وستون مدفعا.
على الجنرال فوشيه، قائد مدفعية الفوج الثالث، أن يتمركز مع كل قاذفات القنابل من الفوجين الثالث والثامن، وعددها ست عشرة، حول «البطارية» التي تشرب الحصن الأيسر، وبذلك يصبح عدد المدافع ضد هذه «البطارية» أربعين مدفعا.
على الجنرال سوربيه أن يكون مستعدا عند أول أمر، على الانفصال مع كل قاذفات القنابل التابعة لسلاح الحرس؛ للمبادرة إلى هذا الحصن أو ذاك.
خلال هذا القصف، يمضي الأمير بونياتوفسكي من القرية نحو الغابة، ويدور حول موقع العدو. أما الجنرال كومبان، فإنه يسير بحذاء الغابة للاستيلاء على الحصن الأول.
وبعد أن تنشب المعركة على هذا النحو ستعطى الأوامر تبعا لأوضاع العدو.
يبدأ قصف المدفعية على الجناح الأيسر منذ أن يسمع القصف من الجناح الأيمن، وستنظم سلسلة قوية من هجمات رماة البنادق من قبل قناصة فيلق موران وفيالق نائب الملك حالما يرون أن الهجوم من الأيمن قد بدأ. وعلى نائب الملك أن يحتل القرية (بورودينو) وأن يبلغ عن طريق جسورها الثلاثة المرتفع، في الوقت الذي يصل فيه الجنرالان موران وجيرار تحت أوامر نائب الملك؛ لاحتلال حصن العدو وتشكيل خط الجيش.
يجب أن تنفذ كل هذه التعليمات بنظام وبصورة منهاجية، مع مراعاة الاحتفاظ باحتياطي كبير.
في المعسكر، على بعد ميلين من موجائيسك، 6 أيلول 1812م
كان أمر المعركة هذا، الذي صيغ بعبارات غامضة تماما - إذا أمكن التعبير على هذا النحو دون الكفر بعبقرية نابليون - يضم أربع نقاط، أربعة تدابير ... ولكن ما من واحد منها كان يمكن أن ينفذ أو نفذ بالفعل.
كان يأمر أولا أن تعمد «البطاريات» المقامة في المكان الذي انتقاه الإمبراطور، وكذلك قطع بيرنيتي وفوشيه التي كان يجب أن تنتظم إلى جانبيها والتي يبلغ مجموعها مائة مدفع ومدفعان؛ إلى إطلاق النار وغمر التحصينات الروسية والحصن بالقذائف، في حين أن القذائف ما كانت لتصل إلى التحصينات الروسية من تلك المواقع؛ أي إن مائة مدفع ومدفعين كانت تطلق النار دون جدوى حتى عمد الرؤساء الذين تتبع تلك المدافع وحداتهم إلى تقديمها مخالفين بذلك أوامر نابليون.
أما الترتيب الثاني، فكان يفرض على بونياتوفسكي أن ينتقل نحو الغابة ليدور حول جناح الروسيين الأيسر. وهذا لم يكن يمكن التنفيذ، كما أنه لم ينفذ قط؛ لأن بونياتوفسكي اصطدم خلال سيره هذا بتوتشكوف الذي قطع عليه الطريق ومنعه من الالتفاف حول الموقع.
والترتيب الثالث يأمر كومبان بالسير بمحاذاة الغابة ليحتل الحصن ، في حين أن جيش كومبان لم يتمكن من احتلال ذلك الحصن، بل صد؛ لأنه اضطر عند خروجه من الغابة أن يصطف تحت نار بنادق حامية لم يتوقعها نابليون.
بينما كان على نائب الملك عملا بالترتيب الرابع أن يحتل قرية بورودينو، وأن يبلغ المرتفع عن طريق جسورها الثلاثة في الوقت الذي يصل فيه الجنرالان موران وفريان (اللذان لم يشر إلى تحركاتهما في الأمر قط) تحت أوامره لاحتلال الحصن وتشكيل خط الجيش.
وكما يفهم من أمر المعركة هذا، ليس تبعا لأسلوبه الغامض، بل وفقا لمحاولات نائب الملك لتنفيذه، كان على هذا أن يهاجم الحصن من اليسار مخترقا بورودينو في حين تهاجمه فيالق موران وفريان من اليمين.
إن هذا الأمر، كالأوامر التي سبقته، ما كان يمكن أن ينفذ ولم ينفذ؛ لأن نائب الملك بعد أن اخترق بورودينو أوقف على نهر كولوتشا، فلم يستطع التقدم أكثر من ذلك، أما فيالق موران وفريان فقد صدت ولم تحتل - والحالة هذه - الحصن. ولقد احتل هذا الحصن آخر الأمر من قبل سلاح الفرسان، وهو واقع غريب لا ريب أن نابليون لم يتوقعه قط.
وينص أمر المعركة كذلك على أنه «بعد أن تنشب المعركة على هذا النحو، ستعطى الأوامر تبعا لأوضاع العدو.» فيمكن الاستدلال إذن على أن الإمبراطور سيعطي خلال المعركة كل الأوامر اللازمة، في حين أن شيئا من هذا لم يحدث، لسبب بسيط ووجيه؛ وهو أنه ظل بعيدا عن ساحة المعركة طيلة الوقت؛ ففاته سير العمليات، ولم يمكن تنفيذ واحد من الأوامر التي أصدرها.
الفصل الثامن والعشرون
آراء المؤرخين
يؤكد كثير من المؤرخين أن معركة بورودينو لم ينتصر فيها الفرنسيون؛ لأن نابليون كان في ذلك اليوم قد أصيب بزكام، ولولا ذلك لكانت ترتيباته قبل المعركة وأثناءها أكثر عبقرية، ولانهارت روسيا كلها ولتغير وجه العالم. إن هذا التحليل بالنسبة إلى المؤرخين الذين يؤكدون أن روسيا تشكلت بإرادة رجل واحد هو بطرس الأكبر، وأن فرنسا قد انقلبت من جمهورية إلى مملكة، وأن الجيوش الفرنسية دخلت روسيا تبعا لرغبة رجل واحد هو نابليون، إن هذا التحليل الذي يؤكد أن بقاء روسيا قوية يرجع إلى إصابة نابليون يوم السادس والعشرين من آب بزكام عنيف؛ منطقي تماما بالنسبة إلى هؤلاء.
فلو أن الأمر كان يرجع إليه بالدخول في معركة بورودينو أو عدم خوضها، وباتخاذ هذا التدبير أو ذاك، فإن زكاما قويا يؤثر على مظاهر إرادته كان يمكن أن يسبب بالطبع خلاص روسيا، ولكان مخلصنا هو ذلك الخادم الذي نسي أن يقدم إلى نابليون يوم الرابع والعشرين من آب حذاءه الواقي. إن مثل ذلك التحليل يقود حتما إلى مثل هذه النتيجة؛ وهي نتيجة لا تقبل الجدل أشبه بدعابة فولتير - وأية سخرية كانت؟ - حول سان بارتيلمي
1
التي وقعت بسبب تلبك أصاب معدة شارل التاسع، ولكن بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يتقبلون أن روسيا تشكلت تبعا لإرادة رجل هو بطرس الأكبر، ولا أن المملكة الفرنسية أقيمت وأن الحرب مع روسيا أعلنت وفق إرادة رجل واحد هو نابليون، يعتبر هذا التحليل ليس خاطئا ومخالفا للصواب، بل ومخالفا كذلك لجوهر الإنسانية نفسه. إن من يبحث عن أسباب الأحداث التاريخية يجد سببا آخر؛ هو أن سير الأمور في هذا العالم مقرر سلفا، وأنه متوقف على تدخل كل أحكام الأشخاص الحرة الذين يساهمون فيها، وأن جماعة نابليون ليس لهم عليها إلا الأثر الظاهر الخارجي فحسب.
إن من الغريب أن يؤكد المرء للوهلة الأولى أن مذبحة سان بارتيلمي، رغم أن شارل التاسع أمر بها، لم تكن - مهما كان تفكيره الشخصي - نتيجة لإرادته، وكذلك يبدو غريبا الزعم بأن مجزرة بورودينو التي كلفت ثمانين ألف رجل، لم تنجم عن رأي نابليون الشخصي، رغم أنه أعطى الإشارة ورتب سير المعركة، بيد أن الكرامة الإنسانية التي تؤكد أن كلا منا رجل يماثل في العظمة نابليون الكبير، إن لم يكن يتفوق عليه، تبيح هذا الزعم، والتحريات التاريخية تؤيده بوفرة.
لم يطلق نابليون في بورودينو رصاصة واحدة، ولم يقتل رجلا واحدا. لقد كان ذلك من صنع جنوده؛ وبالتالي فإنه ليس بالذي قتل.
لقد قاتل جنود الإمبراطور لا لينفذوا أوامره، ولكن عن طيبة خواطرهم. لقد كان الجيش كله، أولئك الفرنسيون والإيطاليون والألمان والبولونيون المتعطشون المتعبون ذوو الثياب الخلقة، يشعرون تماما أمام ذلك الجيش الآخر الذي يقطع عليهم الطريق إلى موسكو، أن النبيذ قد صفي فحان أن يشربوه، ولو أن نابليون منعهم عن مقاتلة الروسيين حينذاك لقتلوه ومشوا بعد ذلك إلى المعركة؛ لأنهم ما كانوا يستطيعون إلا أن يعملوا كذلك.
عندما قرئ عليهم أمر نابليون اليومي الذي وعدهم فيه، مكافأة على الجراح والموت، بأن تتحدث الأجيال الصاعدة عنهم قائلة إنهم كانوا في المعركة الكبرى قرب جدران موسكو، هتفوا: «يحيا الإمبراطور! يحيا الإمبراطور!» عندما شاهدوا ذلك الغلام يخرق الكرة الأرضية بمقبض لعبته الخشبية، وكما كانوا سيهتفون لأي حماقة يقولونها لهم. لم يعد لديهم شيء آخر يفعلونه إلا أن يهتفوا: «يحيا الإمبراطور!» وأن يذهبوا للقتال وينتصروا؛ كي يجدوا في موسكو الغذاء والراحة. وبناء عليه لم يقتلوا أمثالهم استجابة لأوامر سيدهم.
ونابليون نفسه لم يكن ذا أهمية في سياق المعركة؛ لأن أية نقطة من ترتيباته لم تنفذ؛ ولأنه نفسه ظل يجهل خلال المعركة ماذا دار فيها؛ وبالتالي فإن واقع قتل هؤلاء الناس أمثالهم حدث دون تدخل من جانبه، ليس نتيجة لإرادة نابليون، بل بإرادة مئات الألوف من الرجال الذين ساهموا في الأمر، وكل ما كان لنابليون اقتصر على توهمه بأن كل شيء يسير وفق إرادته؛ لذلك فإن مسألة معرفة ما إذا كان الإمبراطور قد أصيب بزكام أم لا، لا تشكل لمصلحة التاريخ أكثر من مدلول الزكام الذي يصيب أي جندي عادي.
ثم إن أولئك الذين يعتقدون أن نابليون لم يتخذ ذلك اليوم ترتيبات طيبة كعادته، وأن أوامره خلال المعركة كانت أقل حزما بسبب ذلك الزكام العتيد، يخطئون كل الخطأ.
لقد كان نص المعركة الذي نقلناه مماثلا، إن لم يكن أفضل، لكثير من النصوص الأخرى التي ربحت كثير من المعارك بموجبها. والأوامر المعطاة خلال المعركة لم تختلف بكثير عن تلك التي تصدر عادة ودائما. وإذن فإن هذا النص وتلك الأوامر لم تصبح خاضعة للنقد إلا لأن معركة بورودينو كانت المعركة الأولى التي لم يربحها نابليون. والعادة أن أجمل الترتيبات وأفضلها وأعمقها تبدو - إذا لم تجر النصر - سيئة يأخذ علماء فن الحركات العسكرية بنقدها بلهجة مسموعة. والعكس صحيح، فما إن ينجم نصر ما فإن أسوأ الترتيبات وأكثرها خضوعا للنقد تصبح ممتازة، ويشرع الكتاب الأعم شهرة في تمجيدها وتعداد محاسنها في مجلدات عديدة.
ولقد كان ترتيب ويروذر في أوسترليتز مثالا من هذا النوع؛ لقد انتقدوه وعارضوه بسبب كماله - ولا ريب - ودقة تفاصيله.
ففي بورودينو، قام نابليون بدوره بوصفه ممثل السلطة، كما أداه في المعارك الأخرى، إن لم يكن أفضل من ذلك الأداء. إنه لم يأت أمرا سيئا بالنسبة إلى سير المعركة، ولقد انحاز إلى جانب أكثر الآراء حكمة، فلم يفقد أعصابه، ولم يناقض أقواله، وظل محتفظا بهدوئه فلم يغادر ساحة المعركة، وقد أمكنته لباقته الكاملة وخبرته الكبيرة في شئون الحرب أن يلعب بهدوء دوره الشكلي كرئيس أعلى.
الفصل التاسع والعشرون
الطلقات الأولى
قال نابليون إثر عودته من تفتيش ثان دقيق للخطوط: «إن القطع مصفوفة فوق الرقعة، واللعب يبدأ غدا.»
أمر لنفسه بمزيج من الشاي والكحول والليمون والسكر (بونش)، واستدعى السيد دوبوسيه وراح يحدثه عن باريز والتبديلات التي يريد إدخالها على بيت الإمبراطورة، فكانت الذكرى التي يحملها لأتفه أشياء البلاط مدعاة دهشة القيم الشديدة.
راح يهتم بتفاهات ويمازح السيد دوبوسيه حول حبه للأسفار. وبالإيجاز، راح يثرثر بلا مبالاة جراح كبير متأكد من نفسه متعمق في مهنته، وهو يشمر عن أكمامه ويضع مئزره، بينما يسجون المريض على طاولة العمليات. «إن المسألة واضحة تماما، والخيوط كلها في رأسي وفي يدي، فإذا وجب الشروع بالعمل سأعمل أفضل من أي كان. أما الآن، فإنني أستطيع أن أسمح لنفسي بالمزاح. إنني كلما كنت هادئا طروب المزاح، وجب عليكم من جانبكم أن تثقوا بي أكثر، وأن تعجبوا بعبقريتي.»
وبعد أن ارتشف قدحه الثاني، ذهب نابليون لنيل قسط من الراحة قبل المسألة الخطيرة التي يدخرها للغد، لكنه كان جم الانشغال، فتعذر عليه النوم . وعلى الرغم من زكامه القوي الذي كانت رطوبة المساء تزيد في خطورته، ذهب في الساعة الثالثة صباحا إلى حجرة الدخول في خيمته وهو يتمخط بصوت مدو. استفسر عما إذا لم يكن الروسيون قد انسحبوا عرضا، فأكدوا له أن نيران العدو لا تزال ظاهرة في المواقع نفسها، وحينئذ أظهر رضاه بحركة من رأسه. ولما كان المساعد العسكري المنوب يدخل الخيمة في تلك اللحظة، فقد سأله: «حسنا يا راب، هل تظن أننا سنعمل اليوم أعمالا مجيدة؟» - «دون أي ريب يا صاحب الجلالة.»
ظل الإمبراطور يستفسره بنظره، فاسترسل راب قائلا: «هل تذكر يا صاحب الجلالة ما شرفتني بقوله لي في سمولنسك؟ لقد صفي فيجب شربه.»
عبس نابليون وجعل رأسه بين يديه وصمت، وفجأة قال: «هذا الجيش المسكين، لقد قل عدده كثيرا منذ سمولنسك. إن السعادة يا راب ممالقة صريحة. لقد قلت ذلك دائما وبدأت أشعر به الآن، ولكن الحرس يا راب. هل الحرس سليم؟» - «نعم يا صاحب الجلالة.»
أخذ نابليون حبة ورفعها إلى فمه، ثم نظر إلى ساعته، ما كان يريد أن ينام، وكان الصباح بعيدا، ولم يكن لديه ما يقتل الوقت به؛ فالأوامر قد أعطيت وهي في طريق التنفيذ. سأل بلهجة صارمة: «هل وزعوا البسكويت والأرز على أفواج الحرس؟» - «نعم يا صاحب الجلالة.» - «لكن الأرز؟»
أجاب راب بأنه نقل بنفسه الأوامر بهذا الصدد، لكن الإمبراطور أظهر ارتيابه بحركة من رأسه. جاء خادم بشراب البونش، وبعد أن أمر بإعداد قدح آخر لراب، راح نابليون يمتص قدحه بجرعات صغيرة. قال وهو يشم قدحه: «لم أعد مسيطرا على حاستي الشم والذوق. إن هذا الزكام لا يحتمل. إنهم يتحدثون إلي دائما عن الطب، فما هو هذا العلم المزعوم الذي لا يستطيع شفاء الزكام؟! لقد أعطاني «كورفيزار» هذه الحبوب ، لكنها لا تصلح لشيء. ماذا يعرفون شفاءه؟ إنهم على أية حال لا يقدرون على شفاء شيء. إن جسمنا عبارة عن آلة الحياة، إنه مركب لهذا الغرض، وهذه طبيعته، فدعوا الحياة على هواها، ولتدافع عن نفسها بنفسها. إنها ستعمل أفضل من عملها إذا أثقلتموها بالأدوية. إن جسمنا مثل ساعة كاملة عليها أن تدوم وقتا ما، وليس من صلاحية الساعاتي أن يفتحها، بل أن يعالجها باللمس وعيناه معصوبتان ... إن جسمنا آلة حياة؛ هذا كل ما في الأمر.»
وكأنما حلا له السير في طريق التعاريف، وهي طريقة مألوفة لديه، لم يلبث أن خرج بتعريف جديد. سأل راب: «أتعرف يا راب ما هو فن الحرب؟ إنه فن يقتصر على أن يكون المرء في فترة ما أقوى من عدوه. هذا كل شيء.»
فلم يجب راب. - «غدا سيكون لنا ما نعمله مع كوتوزوف. سوف نرى. تذكر أنه هو الذي كان يقود في برونو، وأنه طيلة ثلاثة أسابيع لم يعتل صهوة جواده مرة واحدة ليفتش نقاط دفاعه. سوف نرى!»
ومن جديد استشار ساعته، فكانت لم تتجاوز الرابعة بعد. لم يكن ميالا إلى أن ينام، وشراب البونش كان قد شرب ولا زال دون عمل يعمله. نهض وراح يذرع المكان، ثم ارتدى سترته الرسمية «رودنجوت»، ووضع قبعته وخرج. كان الليل حالكا رطبا، والضباب الذي لا يكاد يرى بوضوح في طور الانتشار. وكانت نيران أفواج الحرس القريبة تشتعل ضعيفة. وعلى البعد، خلال الضباب، كانت نيران الخطوط الروسية ظاهرة، وكان كل شيء هادئا، فكانت خطوات الوحدات الفرنسية الذاهبة لاحتلال مواقعها المقررة، تسمع بجلاء.
عاين الإمبراطور النيران، وأصاخ السمع إلى وقع أقدام الجنود، ولما مر بأحد جنود الحرس القائم بالحراسة أمام الخيمة وهو في وضعية الاستعداد، وكأنه دعامة سوداء، وقف أمامه. سأله بتلك الخشونة الودودة التي كان يستعملها دائما في مخاطبة جنوده: «كم أمضيت في الخدمة؟»
فأجابه الجندي: «آه! واحد من القدماء! ...» - «والأرز، هل وزع عليكم في الفيلق؟» - «نعم يا صاحب الجلالة.»
أشار إليه نابليون برأسه إشارة ودية وابتعد.
وفي الخامسة والنصف ، امتطى الإمبراطور جواده واتجه إلى قرية شيفاردينو.
أخذ الفجر ينبثق، والسماء بدأت تصفو، فلم يبق من الغيوم إلا سحابة في الشرق، واستمرت النيران المهجورة تتآكل في ضياء الشفق الضعيف.
وفجأة دوت طلقة مدفع مكتومة وحيدة على اليمين، انتشرت ثم غابت في الصمت الشامل. وبعد بضع دقائق، ثار دوي ثان ثم ثالث هزا الفضاء، أعقبهما رابع وخامس أكثر جلالا، وكلها على اليمين. ولم تلبث الانفجارات أن تضاعفت واختلطت في هدير دائم.
بلغ نابليون مع حاشيته حصن شيفاردينو، وترجل عن جواده. لقد نشبت المعركة.
الفصل الثلاثون
بدء المعركة
بعد أن غادر الأمير آندريه وعاد إلى جوركي، أصدر بيير أمره إلى مرافقه أن يجعل الخيول جاهزة، وأن يوقظه باكرا، ثم نام من فوره وراء الحاجز، في الركن الصغير الذي تخلى له بوريس عنه.
ولما استيقظ في اليوم التالي، لم يجد أحدا في الكوخ. كانت ألواح النوافذ الزجاجية الصغيرة تهتز وخادمه المرافق يهزه. كان المرافق يكرر بإصرار وهو يجذبه من كتفه دون أن ينظر إليه، واليأس من بلوغ غايته واضح على معالمه: «يا صاحب السعادة! يا صاحب السعادة! يا صاحب السعادة! ...»
أخيرا سأل بيير: «ماذا؟ هل نشبت؟ هل هي الساعة المقررة؟»
قال الخادم المرافق، وهو جندي سابق: «ألا تسمع سعادتك إذن قصف المدافع؟ لقد ذهب كل هؤلاء السادة وعظيم الرفعة نفسه منذ أمد طويل.»
ارتدى بيير ثيابه على عجل وخرج. كان الصبح مشرقا وبهيجا وقد رطبه الندى، وراحت الشمس تمزق السحاب وترسل إشعاعاتها التي ما زالت السطوح المقابلة تحجز نصفها، على غبار الطريق الرطب وجدران المساكن وفتحات الحصون وعلى خيول بيير التي كانت واقفة أمام الكوخ. وبدا دوي المدافع أكثر وضوحا. مر مساعد عسكري يتبعه قوقازي على حصانيهما خببا، فهتف الأول: «لقد أزف الوقت يا كونت، أزف الوقت!»
سار بيير على الدرب الذي يصعد إلى التل الذي عاين منه بالأمس ساحة المعركة، وأمر أن تتبعه الخيول. وجد هناك عددا كبيرا من العسكريين مجتمعين، وكان هؤلاء السادة أعضاء هيئة الأركان يتحدثون بالفرنسية، وقد ظهر كوتوزوف بينهم برأسه الأشيب المتقلنس بقبعته البيضاء ذات الشريط الأحمر وقذاله الضائع في كتفيه العريضتين، كان الجنرال القائد الأعلى ينظر خلال منظار أمامه باتجاه الطريق العام.
عندما تخطى بيير الدرجات التي تقود إلى التل، ذهل إعجابا بالمشهد الذي ظهر لعينيه. كان المشهد إياه الذي تأمله بالأمس، ولكن الجنود الآن كانوا قد غزوه وعم فيه دخان البارود، وكانت الإشعاعات المائلة للشمس المشرقة تنشر في فضاء الصباح ضوءا ورديا مذهبا تخططه طائفة من الظلال. والغابات البعيدة التي يطبق عليها الأفق، تبدو كأنها منقوشة في حجر كريم بلون أخضر مائل إلى الصفرة، وذراها تقاطع فيه خطوطا غير واضحة، يقطعها وراء فالوييفو، طريق سمولنسك العام المغطى كله بالجنود. وإلى مسافة أقرب كانت الحقول المذهبة وباقات من الشجر تلتمع، والجنود في كل مكان؛ إلى اليمين وإلى اليسار وفي المقدمة. ولقد كان مجموع المشهد مفعما بالجلال والمفاجأة، لكن انتباه بيير توقف عند ساحة المعركة نفسها، عند بورودينو ووادي كولوتشا.
فوق كولوتشا على جانبي بورودينو، وبصورة خاصة إلى اليسار حيث يصب نهر «فوئينا» عند شواطئه المليئة بالمستنقعات في نهر كولوتشا، امتد ضباب من ذلك النوع الذي يتبخر ويبدد بتأثير حرارة الشمس المشرقة، فيعطي لونا وظلالا سحرية على كل ما يبدو خلاله للعيون. وكان دخان الطلقات النارية يختلط بالضباب، بينما أضواء نور الصباح المتسللة عبر تلك المجموعة من الغيوم تتلاعب على صفحة الماء وفوق الندى وعلى رءوس الحراب. كان الناظر يميز الكنيسة البيضاء، ثم سطوح بورودينو، ثم كتل الجنود المتراصة والصناديق المدهونة بالأخضر والمدافع، وكل ذلك يتحرك، أو يبدو كأنه يتحرك، في ذلك الفضاء الذي يكتسحه الضباب والدخان. وكما هي الحالة في الأغوار الفارقة في الضباب التي تحيط بورودينو، كانت دوامات من الدخان ترتفع تارة منعزلة وتارة مجتمعة، متباعدة تارة ومتقاربة تارة أخرى، في المناطق المجاورة وبصورة خاصة إلى أقصى اليسار فوق كل الغابات والحقول والمنخفضات وفوق المرتفعات، وكأنها تخلق من لا شيء، فتنتفخ وتخمد وتتشابك إلى غير نهاية في ذلك الفضاء الرهيب.
وكانت تلك الدواخن والانفجارات التي تصحبها تشكل - وهو أمر غريب - العنصر الرئيسي في جمال المشهد.
بوف! بوف! وتشابك دخانان واختلطا، ثم بم! بم! وجاءت الطلقتان يؤيدان ما شاهدته العين.
كان بيير قد استدار ليرى الدخان الأول المستدير الكثيف كأنه كرة حينما تمطت في المكان نفسه ثلاث كرات من الدخان. بوف ... وبعد فترة: بوف، بوف! وارتفعت ثلاثة أو أربعة دواخن أخرى لم تلبث أن أجابتها في فترات متساوية بالترتيب أصوات خطيرة قوية جليلة: بم ... بم، بم! وكانت تلك الدواخن تبدو تارة منهزمة، وتظل معلقة تارة أخرى، فيحين دور الغابات والحقول والحراب اللامعة بالفرار. وإلى اليسار على طول الحقول والأدغال كانت كتل أخرى ضخمة الدخان يتبعها صداها الرهيب تنبعث، في حين تنفجر في الأغوار والغابات القريبة طلقات بنادق مخلفة دخانا صغيرا لا يجد الوقت الكافي ليشكل كتلا، لكنه مع ذلك يصطحب هو الآخر صداه على شكل ضربات جافة. وكانت البنادق تقول: «تا-را، تا، تا، تا ...» بفترات متقاربة ولكن منتظمة، وبأقل اتساع بكثير من دوي المدافع.
ولكم ود بيير أن يكون في وسط هذه الدواخن والحراب وهذه الحركة وهذا الضجيج. ألقى نظرة على كوتوزوف وحاشيته؛ ليقارن بين مشاعره ومشاعر الآخرين، فوجد أنهم جميعهم مثله يتأملون ساحة المعركة، تعتلج في صدورهم المشاعر ذاتها. ومن كل الوجوه، كانت الحرارة الكامنة التي لمسها أمس، والتي عرفه حديثه مع الأمير آندريه بكنهها، تبدو وكأنها تشع من كل الوجوه.
قال كوتوزوف في تلك اللحظة لواحد من الجنرالات الذين في حاشيته دون أن تبرح عيناه ساحة المعركة: «اذهب يا عزيزي، اذهب، وليباركك الله!»
فتأهب الجنرال الذي تلقى هذا الأمر لنزول التل، وبينما هو يمر بجانب بيير سأله أحد ضباط الأركان عن المكان الذي يذهب إليه، فأجاب الجنرال بصوت بارد قاس: «إلى معبر النهر!»
فحدث بيير نفسه وهو يتبع خطاه: «وأنا كذلك أذهب إلى هناك.»
امتطى الجنرال حصانا جاءه به قوقازي، بينما راح بيير يعتلي صهوة جواده بدوره بعد أن تأكد من تابعه المرافق أنه أهدأ من كل الخيول، وتشبث بعرف الجواد، بينما ضغط بكعبيه على جانبي بطنه. ولقد أضاع نظارتيه، لكنه كان يشعر بعجزه عن ترك عرف الجواد والمقودين؛ لذلك فقد ترك نفسه يقاد في أعقاب الجنرال، مثيرا بذلك ابتسامات الضباط الذين كانوا ينظرون إليه من أعلى التل.
الفصل الحادي والثلاثون
في جحيم المعركة
استدار الجنرال، الذي راح جواد بيير يجري وراءه، إلى اليسار فجأة، بعد أن انحدر على التل، فضاع عن أنظار بيير، وأخذ هذا دون عمد بين صفوف المشاة الذين كانوا يمشون أمامه. حاول أن يتخلص سواء من الأمام أو من اليسار أو من اليمين، لكن وجوه الجنود المطبوعة بقلق مماثل، الذين اتجهت أفكارهم نحو شيء ما غير منظور وخطير، راحت تطالعه من كل مكان. كانوا جميعهم يستفسرون بعيونهم مستائين من هذا الشخص الضخم ذي القبعة البيضاء، الذي جاء يدفعهم بحصانه لسبب لا يعلمه إلا الله.
صرخ أحدهم: «ماذا جاء هذا يعمل وسط المواء؟»
وضرب آخر الحصان بعقب بندقيته، فأطبق هذا فكيه على الشكيمة، فلم يهدئه بيير إلا بصعوبة وهو متشبث بقربوس السرج، واستطاع أخيرا أن يبلغ الطريق الخالية.
كان أمامه جسر راح جنود آخرون يطلقون النار بالقرب منه. لقد وصل دون أن يعرف إلى جسر كولوتشا القائم بين جوركي وبورودينو، وهو الجسر الذي كان على الفرنسيين أن يهاجموه في المرحلة الأولى من المعركة بعد أن يحتلوا القرية الأخيرة. شاهد بيير على جانبي النهر وبين رزم الهشيم - التي لم يلاحظها أمس بسبب الدخان - جنودا في شغل شاغل. مع ذلك، وعلى الرغم من طلقات البنادقة المتلاحقة، فإنه لم يشعر أنه أصبح في صميم المعركة. ما كان يسمع أزيز الرصاص من كل الجهات ولا القذائف التي تمر فوق رأسه. ما كان يرى العدو على الجانب الآخر من النهر، بل إنه ظل طويلا قبل أن يشعر بالقتلى والجرحى الذين يتساقطون حوله. لقد كان يتأمل المشهد وقد ارتسمت على زاوية شفتيه ابتسامة.
قال صوت من جديد: «ماذا يعمل هذا بانتصابه هكذا أمام الخطوط؟»
وقالت أصوات أخرى: «خذ اليسار ... كلا، اليمين ...»
اتجه بيير إلى اليمين فصادف فجأة مساعدا عسكريا للجنرال راييفسكي كان يعرفه، ولقد ألقى هذا الضابط عليه نظرة غاضبة كاد أن يعقبها بالسباب عندما عرفه فجأة، فحياه بإيماءة من رأسه. قال له وهو يتابع سيره: «كيف! أنت، هنا؟»
شعر بيير أنه في غير مكانه المناسب، فخشي أن يكون مبعث إزعاج؛ لذلك فقد مضى يتابع المساعد العسكري هدبا. سأله: «هل أستطيع مرافقتك؟ ماذا يدور هنا على الضبط؟»
أجابه المساعد العسكري: «لحظة، لحظة!»
وجرى إلى زعيم ضخم واقف وسط البرية، فنقل إليه أمرا ثم عاد إلى بيير وقال له باسما: «ماذا جئت تفعل هنا يا كونت؟ إنك هنا لمجرد الفضول؟!» - «نعم، نعم ...»
وكان المساعد العسكري قد قفل راجعا. قال: «إن الحالة هنا محمولة والحمد لله، ولكن على الجناح الأيسر، من جانب باجراسيون، الحالة حرجة.»
قال بيير: «حقا؟! وأين هذا المكان؟» - «اتبعني فوق المرتفع. يمكن أن يرى المرء من هنا بوضوح. إن الحالة عندنا في موقع «البطارية» محمولة نوعا.»
أجاب بيير وهو يبحث بعينيه عن مرافقه: «إنني أتبعك.»
حينئذ شاهد بيير للمرة الأولى أن الجرحى منتشرون حوله على الأرض، في حين كانوا ينقلون بعضهم على محفات. وفي ذلك المرج الأخضر الذي اجتازه بالأمس، كان جندي لا حراك به ملقى على الهشيم وقد مال رأسه بشكل خرق، بينما انزلقت عمرته على الأرض. كاد بيير أن يقول: «وهذا! ألا يرفعونه من هنا؟!»
لكنه إزاء وجه المساعد العسكري الصارم الذي كان ينظر في الاتجاه عينه، صمت.
لم يستطع اكتشاف خادمه المرافق، وبات الآن يسير على طول المنخفض الذي يؤدي إلى تل رانيفسكي. وكان حصانه الذي يهزه هزات وتيرية يجد صعوبة في اللحاق بالمساعد العسكري. سأله رفيقه: «إنك - ولا ريب - لم تألف ركوب الخيل يا كونت؟!»
أجاب بيير بارتباك: «بلى، لكن جري هذا شديد القسوة.» - «إيه! ولكن ... إنه جريح في الناحية الوحشية من قائمته اليمنى فوق الركبة ... رصاصة ولا ريب ... تهانئي يا كونت؛ ها هو ذا عماد النار.»
تجاوزا خلال الدخان الفوج السادس وراء المدفعية التي كان قصفها يصم آذانهما، وبلغا غابة صغيرة هادئة رطبة تفوح منها رائحة الخريف، وهناك ترجلا ليتسلقا التل.
سأل المساعد العسكري: «هل الجنرال هنا؟»
فأجابوه وهم يشيرون إلى الجهة اليمنى: «كان هنا منذ حين، لكنه ذهب من هنا.»
استدار المساعد العسكري صوب بيير، وبدا كأنه يتساءل عما سيعمله بهذا الرفيق غير المنتظر. فقال بيير: «لا تقلق، إذا كنت لا ترى مانعا فسأبقى هنا على التل.» - «وهو كذلك. من هنا يمكن رؤية كل شيء دون كبير خطر، وسآتي لآخذك.»
توجه بيير نحو «البطارية»، في حين تابع الضابط سيره. ولقد قدر ألا يلتفتا بعد ذلك اليوم.
اشتهر المرتفع الذي تسلقه بيير منذ حين بين الروسيين فيما بعد باسم «بطارية التل» أو «بطارية» راييفسكي، وبين الفرنسيين باسم «الحصن الكبير» أو «الحصن المشئوم» أو «حصن الوسط». ولقد سقط حول هذه النقطة التي كان الفرنسيون يعتبرونها مفتاح الموقع عشرات الألوف من الرجال.
كان ذلك الحصن مشكلا من خنادق محفورة على جوانب المرتفع الثلاثة، كانت عشر قطع مدفعية تبصق قذائفها خلال فتحاتها. وعلى جانبي التل، على صف واحد، ما فتئت قطعات مدفعية أخرى تدعم هذه، بينما تكتلت قطعات المشاة إلى الوراء.
عندما وصل بيير إلى هناك لم يفكر قط في أن هذه الخنادق القليلة، التي تنطلق منها قنابل هذه المدافع القليلة، تشكل أهم نقطة في ساحة المعركة، بل على العكس، وبسبب وجوده هناك حتما كان يظن أنه موقع من أقل المواقع أهمية.
جلس على حافة الخندق المحيط بمجموعة المدافع، وراح يتأمل ما يدور حوله بابتسامة المرح الغافل، ومن حين إلى آخر كان ينهض والابتسامة مطبوعة على شفتيه، فيتجول بين قطعات المدفعية وهو يعمل جاهدا ألا يزعج الجنود المكلفين بخدمتها، الذين كانوا يحملون الأكياس وعتاد المدافع، ويروحون ويجيئون أمامه بلا انقطاع. وكانت المدافع تنطلق بعضها في أثر بعض مصحوبة بدوي يصم الآذان وهي تغطي ما حولها بالدخان.
وبدلا من القلق الذي يشاهد عادة عند المشاة من فرق التغطية، كان يشعر هنا في «البطارية»، بين هذا الفريق الصغير من الرجال المنهمكين الذين يفصلهم عن الآخرين خندق ، بحيوية مماثلة لدى كل فرد منهم وكأنها أليفه.
ولقد أزعجهم بادئ الأمر أن يظهر بينهم بيير بثوبه المدني وقبعته البيضاء، فكانوا ينظرون إليه وهم يمرون به نظرات جانبيه ملؤها الدهشة والذهول. ولقد اقترب منه رئيس «البطارية» بحجة فحص حركة القطعة القصية، وكان رجلا مديد القامة ذا وجه منقوش بالجدري وساقين طويلتين، وراح يتأمله مليا بفضول.
وقال ضابط آخر، فتى صغير ذو وجنتين موردتين، تخرج لتوه من قطعات التدريب، كان يشرف على مدفعين عهد إليه بقيادتهما؛ قال لبيزوخوف بلهجة صارمة: «هلا ابتعدت يا سيدي! إنك تزعجنا هنا.»
وراح الجنود يهزون رءوسهم إشارة الامتعاض، ولكن، لما تبين لهم أن هذا الشخص ذا القبعة البيضاء لا يقوم بأي عمل مؤذ، بل يظل هادئا في مجلسه على التل أو يتنزه في المكان وعلى شفتيه ابتسامة متهيبة، ويفسح لهم المجال بأدب وهو رابط الجأش ساكن تحت وابل النار سكونه في شارع عام، خلف امتعاضهم تدريجيا مكانه للون من الميل المرح يشبه ذاك الذي يشعر به الجنود نحو الحيوانات الأليفة التي تتبعهم في الحملة؛ كالكلاب والديكة والماعز، إلخ ... تبنوه، كل في سره، بل وأعطوه لقبا. لقد عمدوه باسم «سيدنا»، وراحوا يمزحون بلطف بينهم حول موضوعه.
جاءت قذيفة تحرث الأرض على بعد خطوتين من بيير، فأخذ هذا يجيل حوله عينيه الباسمتين وهو ينفض التراب الذي أصاب ثوبه.
قال له فتى عملاق عريض المنكبين مورد الوجه وهو يظهر أسنانه البيضاء القوية: «ألست خائفا إذن يا سيدي؟» - «وأنت، هل أنت خائف؟»
فاعترف الجندي: «بالطبع ... إن هذه القذيفة لا ترحم، إذا ما سقطت على إنسان طارت أحشاؤه في الفضاء ... فالمرء مجبر على الإحساس بالخوف ...»
ولقد أضاف جملته الأخيرة ضاحكا.
توقف بعض الجنود قرب بيير، وأبدوا حيرة مستطابة وهم يرونه يتحدث ككل الناس. - «هذه مهنتنا نحن، أما هو، السيد، فإنه مدهش. ها هو ذا سيد!»
صاح بهم الضابط الشاب: «إلى قطعكم!»
ولا ريب أنها كانت المرة الأولى أو الثانية التي يقوم خلالها بأعباء رتبته إذا حكمنا على تمسكه المفرط بالشكليات حيال رجاله وحيال رؤسائه.
راحت نيران المدافع والبنادق المتلاحقة تنتشر على عموم مساحة ساحة المعركة، وبصورة خاصة على اليسار، صوب تحصينات باجراسيون، لكن الدخان كان يمنع رؤية أي شيء من المكان الذي وقف فيه بيير. أضف إلى ذلك أن العالم المستقل الذي قوامه رجال «البطارية» كان يحتكر كل انتباهه. ولقد قامت في نفسه - بعد الهيجان والتفكه اللذين أحدثهما المشهد وما يصحبه من ضوضاء المعركة في نفسه - عواطف جديدة مختلفة كل الاختلاف، وخصوصا بعد أن رأى ذلك الجندي الملقى وحيدا على المرح. راح يراقب الرجال من حوله بشره وهو جالس على المنحدر.
وحوالي الساعة العاشرة، كانوا قد حملوا من «البطارية» قرابة عشرين رجلا، وأتلف قطعتان، وراحت القذائف تزداد وفرة في تساقطها، وباتت الرصاصات الطائشة أكثر تواترا على الأسماع، لكن المدفعيين ظلوا يتابعون أحاديثهم المرحة وكأن شيئا ما لم يحدث.
هتف أحدهم لدى وصول قنبلة مرت وهي تصفر: «هذه «نانا» - حلوى بلغة الأطفال.»
فرد آخر وهو يرى أن القنبلة سقطت بين قطعات التغطية: «إنها ليست لنا، إنها «للبيادة».»
وسأل ثالث أحد المتطوعين وهو ينحني تحت لفحة ريح قذيفة: «أراك تحيي أحد معارفك!»
واجتمع بعض الجنود عند الحاجز ليروا ما يدور أمامهم.
قالوا: «خذ. لقد أرجعوا الخطوط إلى الوراء. إنهم يتقهقرون.»
فصاح بهم صف ضابط عجوز: «هيه، أنتم هناك! اهتموا بعملكم. إذا كان الفتيان يتراجعون فمعنى ذلك أنهم في حاجة إليهم في مكان آخر.»
وجذب أحدهم من كتفه وركز له ضربة من ركبته، فارتفعت الضحكات وارتفع صوت آمر: «القطعة الخامسة! أعيدوها!»
فصرخ أولئك الذين كانوا يعيدون المدفع إلى مكانه بمرح: «هو، هيس! ... هو، هيس! ... لنرفع بإيقاع كالذين يسحبون المراكب!»
وراح المزاح ذو الوجه المتورد الذي يشهد بإدمان صاحبه يقول: «آه ياه! كادت القذيفة أن تنزع قبعة سيدنا.»
وصرخ بلهجة محنقة موجها حديثه إلى قذيفة أخرى أطارت عجلة مدفع وساق رجل دفعة واحدة: «هيه لا! ألا تستطيعين الانتباه؟»
وداعب آخر وهو يرى المتطوعين يحنون ظهورهم ويتسللون عبر «البطارية» لالتقاط الجريح: «هه! يا من هناك! عصابة ثعالب!»
صاحوا بأولئك القرويين الذين كانوا يترددون في نقل الجندي ذي الساق المبتورة: «ترى هل الحساء مخالف لمزاجكم؟ إن هؤلاء الكسالى ينفرون دائما من العمل.»
وقالوا وهم يشاكسونهم: «رباه! للأسف! هذا ممكن تماما. لا بد وأن المهنة لا تروق لهم ...»
لاحظ بيير أنه كلما ازدادت المقذوفات كثرة وقوة، ازداد معها الهيجان العام ونما. لقد كانت نفوس هؤلاء البواسل كلهم تكن نارا، راحت انعكاساتها تظهر على وجوههم بازدياد أشبه بالبروق التي تخطط أديم سماء متجهم بالغيوم الدكناء، حتى لكأنه تحد موجه إلى ما لا بد منه. أية أهمية لساحة المعركة إن ظلت في نفسه؟ لقد استبدت به هو الآخر تلك الشعلة المضطرمة التي راح يشعر أنها تكاد تلتهمه هو نفسه.
في الساعة العاشرة، تراجع المشاة الذين كانوا يقاتلون مشكلين سياجا واقيا أمام «البطارية» وعلى طول كامنكا. ولقد شوهدوا يفرون حاملين جرحاهم على البنادق، وظهر على التل جنرال مع حاشيته، فقال بضع كلمات للزعيم ثم ألقى على بيير نظرة مغضبة، وانحدر بعد أن أصدر أوامره إلى وحدات التغطية بالانبطاح ليكونوا أقل تعرضا للنيران. وبعد لحظات، دوى قرع الطبول في صفوف المشاة المقامين إلى يمين «البطارية»، وتناهت إلى الأسماع أوامر صدرت، ثم شوهدت الصفوف تتحرك إلى الأمام.
ألقى بيير نظرة من فوق الحاجز، فاستلفت انتباهه بصورة خاصة ضابط المؤخرة، وكان شابا ذا وجه ممتقع ممسكا بسيفه منخفضا، يجيل حوله نظرات قلقة.
غاب المشاة في الدخان، وارتفع ضجيج متواصل وصوت طلقات بنادق سخية، ولم يلبث الجرحى أن أعيدوا والقتلى على المحفات. وراحت القذائف تتساقط على «البطارية» بغزارة لم يسبق لها مثيل، وسقط رجلان ظلا مهملين في مكانهما، وازداد نشاط الجنود المكلفين بشئون المدافع. لم يعد أحد يفكر في بيير، ولقد رجوه مرتين أو ثلاث مرات في غير لطف أن يتنحى جانبا، وراح قائد «البطارية» يتنقل بين مدفع وآخر وهو مقطب الحاجبين، بينما أخذ الضابط الشاب يبدي غيرة متزايدة ووجهه يزداد توردا. وكان الجنود يحملون القذائف ويعبئون المدافع وينجزون مهمتهم بتفاخر صميم، فبدوا في غدواتهم ورواحهم وكأنهم يتحركون بقوة نوابض.
وكانت العاصفة تقترب، فأصبحت الوجوه كلها الآن تستعر بذلك اللهيب الذي كان بيير يترقب ظهوره، وكان واقفا على جانب قائد المدفعية حينما هرع إلى هذا الضابط المناوب وقال ويده إلى عمرته: «لي الشرف بأن أخطرك يا زعيمي أنه لم يبق لدينا أكثر من ثمانية مقذوفات. هل يجب الاستمرار بإطلاق النار؟»
صاح الزعيم - دون أن يجيب مباشرة - وهو منحن فوق الحاجز: «احشوا المدافع بقطع من الحديد!»
لكن الضابط الصغير أطلق فجأة زمجرة، ودار حول نفسه ثم انهار وكأنه عصفور أصيب وهو في أقصى طيرانه، فبدا كل شيء غريبا غامضا ومظلما أمام ناظري بيير.
راحت القذائف الواحدة تلو الأخرى تمزق الحاجز والرجال والمدافع، فلم يعد بيير يعير شيئا آخر التفاتة غير هذا الدوي الذي لم يشعر به حتى ذلك الحين. وعلى يمين «البطارية» بدت له القطعات عند صيحة «هورا» تتراجع إلى الوراء بدلا من أن تندفع إلى الأمام.
ضرب مقذوف حافة الحاجز فغطاه بالتراب، ومرت كتلة سوداء أمام عينيه أعقبتها صدمة لينة، فدار بعض المتطوعين الذين كانوا على وشك الدخول إلى «البطارية» على أعقابهم فارين.
صاح الزعيم: «كل القطع، احشوها بقطع من الحديد!»
وهرع إليه صف ضابط مروع وهمس في أذنه أن الذخيرة قد نفدت، فكان أشبه برئيس خدم يبلغ صاحب الدعوة في أدق اللحظات بنفاد الخمر.
صرخ الزعيم ووجهه متضرج بالحمرة طافح بالعرق، وعيناه اللامعتان تكادان أن تخرجا من محجريهما: «ماذا يفعل أولئك الآثمون؟ اجر إلى الاحتياط واحمل الصناديق!»
واختتم قوله بنظرة حانقة وجهها إلى بيير، فقال هذا: «سوف أذهب كذلك.»
ابتعد الزعيم بخطوات واسعة دون أن يجيبه، وهتف آمرا: «ممنوع القصف ... انتظروا.»
اصطدم المدفعي الذي تلقى الأمر بحمل الذخيرة ببيير، فهتف به وهو يتدحرج على المنحدر: «هه! يا سيدي، ليس هنا مكانك.»
لكن بيير تبعه وهو يدور حول المكان الذي سقط فيه الضابط الشاب.
مرت قذيفة فثانية فثالثة فوق رأسه، وسقطت إلى الأمام والجانب وإلى الوراء، وبينما هو قرب الصناديق الصغيرة المطلية بالأخضر، سأل نفسه : «إلى أين أذهب؟» توقف حائرا وهو لا يدري ما إذا كان عليه أن يتقدم إلى الأمام أو أن ينكص على أعقابه. وفجأة ألقته صدمة هائلة على الأرض، وفي اللحظة نفسها أحاطت به شعلة من نار، بينما دوى انفجار كالرعد صحبه صفير صم أذنيه.
ولما ثاب إلى رشده، وجد نفسه جالسا على الأرض ويداه مستندتان إلى الأرض. لم يبق من الصناديق التي كان قريبا منها غير بضعة ألواح خشبية خضراء متفحمة، وبعض الخرق المبعثرة فوق العشب الأمغر، وكان حصان يجر وراءه حطام نقالات، يجري مبتعدا، وثان ممدد على الأرض مثل بيير يطلق زمجرات طويلة.
الفصل الثاني والثلاثون
استعدادة التل
استبد الذعر ببيير تماما، فقفز على قدميه وفر باتجاه «البطارية» وكأنها الملاذ الوحيد من كل هذه الأهوال المحيطة به.
وبينما هو يدخل الخندق، وجد أنهم كفوا عن إطلاق النار، وأن أشخاصا آخرين يحتلون المكان. من كان هؤلاء؟ وماذا يعملون هنا؟ لم ينتبه لأول وهلة. شاهد الزعيم مستلقيا على بطنه فوق الحاجز؛ حيث كان يبدو من هناك وكأنه ينظر إلى الأسفل، وجنديا كان قد لاحظ وجوده من قبل يتخبط، وآخر أمسكوا به من ذراعه وهو يصيح: «إلي أيها الأخ!» كما شاهد أشياء أخرى تماثلها في غرابتها.
لم يكن قد أدرك بعد أن الزعيم قد مات، وأن الجندي المستغيث أسير، حينما طعن جندي آخر تحت أبصاره بحربة في ظهره. لم يكن قد وضع قدمه في الخندق بعد حينما هرع نحوه شخص في بزة زرقاء، نحيل أصفر يسبح في العرق وسيفه بيده وهو يصرخ، وبالغريزة، بغية تفادي الصدمة الشديدة، مد بيير ذراعيه فأمسك بإحدى يديه ذلك الرجل (وكان ضابطا فرنسيا) من كتفه، وبالأخرى من عنقه، فأسقط الضابط حسامه وأطبق عليه هو الآخر من ياقته.
ظلا طيلة لحظات يتأمل أحدهما وجه الآخر الغريب عنه في ذعر وحيرة، وكل منهما يتساءل: «ترى، هل أنا الذي أسرته أم هو الذي يأسرني؟» وبدا الضابط الفرنسي ميالا إلى هذا الرأي الأخير؛ لأن يد بيير القوية التي راح الرعب الغريزي يحركها ، أخذت تضغط بشدة متزايدة على حنجرته. كاد أن يقول شيئا عندما مرت قذيفة فوق رأسيهما تماما، حتى كادت أن تمسهما، مصحوبة بصفير مريع، فظن بيير أن رأس الفرنسي قد اجتثت؛ نظرا إلى السرعة التي خفض رأسه بها، فخفض هو الآخر رأسه وأفلت الرجل.
ودون أن يأبه الضابط كثيرا لأيهما وقع في أسر الآخر، فر مسرعا إلى «البطارية»، بينما انحدر بيير على التل وهو يتعثر بالقتلى والجرحى الذين خيل إليه أنهم إنما يتشبثون بساقيه. ولم يكد يبلغ السفح حتى اصطدم بحشد كبير من الروسيين يزمجرون ويسقطون ويتدافعون ويركضون كالإعصار نحو «البطارية». ذلك كان الهجوم الذي عزاه «إيرمولوف» فيما بعد إلى حسن خطته وشجاعته، بل وإلى دهائه؛ لأنه - إذا آمن المرء بأقواله - نثر فوق التل صلبان القديس جورج (أوسمة) التي كان يملأ بها جيوبه نثرا.
ولقد فر الفرنسيون رغم سيطرتهم على «البطارية»، وظل رجالنا يتبعونهم وهم يصيحون: «هورا» مسافة بعيدة، حتى كاد أن يتعذر إيقافهم.
جاءوا بأسرى من «البطارية»، ومن بينهم جنرال فرنسي جريح أحاط به ضباطنا. وكانت طائفة من الجرحى من روسيين وفرنسيين، عرف بينهم بيير وجوها رآها من قبل أصبحت الآن مقلوبة من الألم، تجر نفسها جرا أو تنقل على المحفات. عاد يصعد التل حيث ظل أكثر من ساعة دون أن يجد واحدا من أعضاء ذلك العالم المغلق الذي تبناه. مع ذلك، فقد تعرف بين العديد من القتلى المجهولين منه، على بعض من أولئك. فالضابط الصغير ما زال هناك قرب الحاجز غارقا في بركة من الدم، والمدفعي ذو الوجه المتورد ما زال عرضة لحركات تشنجية، لكنهم أعرضوا عن نقله.
نزل بيير المنحدر جريا.
حدث نفسه وهو يمشي على غير هدى تابعا مجموعة المحفات العائدة من ساحة المعركة: «سوف يتوقف كل هذا. لا ريب أنهم روعوا من هول ما فعلوا!»
لكن الشمس المحجوبة بالدخان كانت لا تزال بعيدة فوق الأفق، فكان يرى بغموض إلى الأمام، وبصورة خاصة إلى اليسار من جانب سيميونوفسكوي، حركة عنيفة أبعد ما تكون عن الخمود، بينما راح رعد الانفجارات يزداد عنفا كما يفعل الرجل الذي يجمع كل قواه وهو مبهور الأنفاس ليودعها صرخة أخيرة.
الفصل الثالث والثلاثون
المعركة الرئيسية
دارت حركة المعركة الرئيسية على مساحة قدرها نصف ميل بين بورودينو وتحصينات باجراسيون. خلا ذلك فقد قامت أفواج فرسان «أوفاروف» بحركة أثبتت بها وجودها حوالي منتصف النهار، وقامت معركة من جهة أخرى وراء أوتيتسا بين بونياتوفسكي وتوتشكوف. لكن هذه كلها لم تكن إلا عمليات تافهة بالنسبة إلى ما دار في الوسط. لقد نشبت المعركة الحقيقية على الساحة القائمة بين بورودينو والتحصينات، قرب الغابة، على أرض خواء مكشوفة من الجانبين، وذلك بطريقة غاية في البساطة والبعد عن التعقيد.
اشتركت في القتال من الجانبين بضع مئات من القاذفات، ولما لف الدخان ساحة المعركة كلها، شرعت أفواج ديسيكس وكومبان تتقدم نحو التحصينات، بينما راح جيش نائب الملك إلى يسارها يتقدم نحو بورودينو.
وكانت المسافة بين حصن شيفاردينو، حيث كان نابليون، وبين التحصينات، ربع ميل على الخط المستقيم، وأكثر من نصف ميل منه إلى بورودينو، فكان الإمبراطور لا يستطيع أن يرى ما يحدث بوضوح، خصوصا وأن الدخان المختلط بالضباب قد غطى المساحة كلها، ولم تشاهد قطعات ديسيكس إلا عندما أخذت تنحدر إلى الوادي الذي يفصلها عن التحصينات. وما إن نزلت حتى بات الدخان من الكثافة فوق التحصينات لدرجة ملأت معها الجانب المقابل للوادي، فكان هذا الستار لا يترك المجال إلا لرؤية شيء ما أسود يشبه الجمهرة البشرية، ومن حين إلى آخر التماع الحراب، ولكن ما كان يمكن من شيفاردينو رؤية ما إذا كان الرجال ساكنين أم متحركين، وهل هم فرنسيون أم روسيون.
وكانت الشمس تصعد مشرقة في السماء، فتغمر إشعاعاتها المنحنية وجه نابليون الذي كان يفحص المواقع واقيا عينيه بيديه. وكان الدخان يمتد أحيانا إلى الأمام، حتى ليخيل إلى الناظر أنه جيوش تتحرك. وفي الفترات بين طلقات المدفعية كانت تسمع أصوات دون أن يدرك مدلولها.
وكان نابليون على الرابية ينظر خلال منظاره إلى ساحة المعركة الضيقة، فكانت العدسة تريه دخانا وجنودا؛ جنوده أحيانا، وأحيانا جنودا روسيين، لكنه فيما بعد ما كان يستطيع بالعين المجردة أن يخمن مواقع ما رآه.
نزل من فوق التل، وراح يذرع السفح ويتوقف من حين إلى آخر ليصيخ السمع إلى دوي الانفجارات، وليلقي نظرة إلى ساحة المعركة. ولكن لا من هناك ولا من أعلى المرتفع - حيث ظل عدد من جنرالاته - ولا من التحصينات كذلك التي كان الفرنسيون يحتلونها تارة ليسلموها إلى الروسيين تارة أخرى تاركين قتلى وجرحى وأحياء ومروعين أو مذهولين، ما كان يمكن أخذ فكرة صحيحة عما يجري في ذلك المكان. ولقد تعاقب طيلة ساعات بين قصف المدافع وأزيز الرصاص المتواصلين، فرنسيون وروسيون، مشاة وفرسان، دون هوادة ولا ملل. كانوا يظهرون ويطلقون النار ويسقطون ويتدافعون دون أن يدري هؤلاء ماذا يفعلونه بأولئك، ويصرخون ويتقهقرون.
وكان المساعدون العسكريون الذين يوفدهم الإمبراطور بمهمات يعودون ويقدمون تقاريرهم، والضباط التابعون لماريشالاته يتصرفون مثلهم، لكن كل تلك التقارير لم تكن دقيقة؛ إذ لا يمكن في غمار المعركة أن يقول المرء على وجه الدقة ما يحدث في فترة ما، كما أن كثيرا من أولئك الضباط لم يستطيعوا بلوغ الأمكنة المعينة لهم، فكانوا يكتفون بترديد ما سمعوه من أقوال. أضف إلى ذلك أن الموقف كان يتبدل بينما هم يجتازون نصف الميل أو ثلاثة أرباع الميل التي تفصلهم عن سيدهم، فتصبح الأنباء التي يحملونها خاطئة. وعلى هذا النحو جاء مساعد عسكري تابع لنائب الملك يعلن أن بورودينو قد احتلت، وأن الجسر القائم على نهر كولوتشا أصبح بين أيدي الفرنسيين، وسأل عما إذا كان يجب إمرار القطعات عبر النهر، فأوعز إليه نابليون أن ينظموهم على الشاطئ الآخر، وأن ينتظروا، ولكن في اللحظة التي أعطى فيها ذلك الأمر، بل وأكثر من ذلك، ما كاد المساعد العسكري يغادر بورودينو حتى استعاد الروسيون الجسر وأحرقوه، وكان ذلك أثناء الواقعة التي وجد بيير نفسه مشتركا فيها عند بدء المعركة، وجاء مساعد عسكري آخر يجري من التحصينات بأقصى ما في طاقة الجواد، وقد امتقع وجهه من الذعر، فأعلن للإمبراطور أن الهجوم قد صد، وأن كومبان قد جرح، ودافو قتل، في حين أنه بينما كان ينقل تلك الأنباء احتلت قطعات أخرى التحصينات، أما دافو فإن «قتله» لم يتجاوز الرض الخفيف. وكان نابليون، تبعا لهذه البيانات الخاطئة كرها، يتخذ تدابير اتخذت من قبل آخرين قبله، أو يستحيل تنفيذها سلفا.
وكان الماريشالات والجنرالات الذين أصبحوا أقرب إلى خطوط النار، والذين لم يدخلوها إلا نادرا، يصدرون من أنفسهم الأوامر بصدد اشتباكات الرماة وتدخل الفرسان أو المشاة، ولكن تلك الأوامر - مثل أوامر الإمبراطور نفسها - ما كانت تنفذ إلا على نطاق ضيق ضعيف، ولقد كانت الواقعة غالبا تخالف التدابير المتخذة، فكان الجنود الذين صدرت إليهم الأوامر بالتوجه إلى الأمام، يرون أنفسهم واقعين تحت نيران البنادق المتعاقبة، فيضطرون إلى الفرار، والجنود الذين يجب عليهم البقاء في أماكنهم يهجمون على العدو حينما يرونه انبعث أمامهم فجأة، ويندفع الفرسان دون أن يصدر إليهم الأمر للحاق بالروسيين المشتتين. وعلى هذا النحو، اجتاز فوجان من الفرسان وادي سيميونوفسكوي، فلم يكادوا يصلون إلى الجانب الآخر حتى لووا أعنة خيولهم وانحدروا بأقصى سرعة. وعلى هذا النحو كذلك، اندفع أكثر من فوج من المشاة إلى أماكن لم يرسلهم إليها أحد. وعندما كان يجب استعمال المدافع أو تحريك المشاة أو الفرسان، كان ضباط الصف هم الذين يقومون بذلك بتصرفهم الذاتي دون الرجوع إلى ني أو دافو أو مورا، أو بالتالي إلى نابليون. ولم يكونوا خائفين من أن يوجه إليهم اللوم على مثل ذلك التصرف؛ لأن المرء في المعركة لا يفكر إلا في إنقاذ أثمن ما عنده؛ أي حياته. ويمكن تبعا لذلك أن يكون الخلاص تارة بالفرار وتارة بالسير إلى الأمام؛ لذلك فقد كان هؤلاء الرجال في حميا المعركة، يتصرفون تبعا لشعورهم الآني. وفي الواقع إن تلك التحركات إلى الأمام أو إلى الوراء ما كانت لتخفف أو لتعدل موقف القطعات؛ لأن تلك الهجمات والملاحم ما كانت لتحدث إلا أضرارا قليلة إذا قورنت بأضرار القذائف والرصاص الذي كان يطير في منطقة القتال. كانت هذه هي التي تسبب الجراح والبتر والموت. ولا يكاد الجنود يجدون أنفسهم خارج مرمى المقذوفات حتى يبادر الرؤساء في المؤخرة بفضل الطاعة إلى إعادة تشكيلهم وإعادة إرسالهم إلى منطقة النار تلك؛ حيث يودي الخوف من الموت بتلك الطاعة من جديد، ويترك الجنود تحت رحمة غريزة الجماعات العمياء.
الفصل الرابع والثلاثون
مخاوف نابليون
كانت مراكز قيادات جنرالات نابليون: دافو، ني، مورا، قرب منطقة النار، بل إنهم دخلوا تلك المنطقة أكثر من مرة وقادوا قطعات كثيرة العدد وطيعة، ولكن على عكس ما حدث دائما في المعارك السابقة، لم يتقدم أحد ليعلن فرار العدو، فكانت تلك القطعات المنظمة أفضل تنظيم تعود من «هناك» مشتتة مروعة فيعيدون تنظيمها. لكن أعدادها كانت تنقص نقصا يظهر للعين. وحوالي الظهر أرسل مورا إلى الإمبراطور مساعدا عسكريا في طلب المدد.
وكان نابليون جالسا عند سفح التل يشرب «البونش» عندما وصل مساعد مورا العسكري يؤكد أن الروسيين سيسحقون إذا تفضل جلالته بإرسال فوج آخر إلى المعركة.
قال نابليون بلهجة صارمة وكأنه لم يفهم ماذا يريد ذلك الشاب الفتي الجميل الذي يشبه شعره الأسود الطويل العكف شعر سيده أن يقول: «إمدادات؟»
وكرر يخاطب نفسه: «إمدادات! كيف يحدث أن يطلبوا إمدادات وهم الذين بين أيديهم نصف الجيش ويقتصر هجومهم على جناح بالغ الضعف لا يكاد يكون محصنا؟!»
ثم نطق بصوت مرتفع وبجفاء: «قل لملك نابولي إن الظهر لم يحن بعد، وإنني لا أرى بوضوح بعد الوضع على رقعة الشطرنج. امض.»
فأطلق المساعد العسكري الفتان ذو الشعر الطويل العكف زفرة عميقة ويده إلى حافة عمرته، ومضى خببا من جديد إلى المكان الذي كانوا يقتلون بعضهم البعض فيه.
ونهض نابليون واستدعى كولنكور وبيرتييه، وراح يتبادل معهم مواضيع غريبة تماما عن سياق المعركة.
وبدأ الحديث يلذ للإمبراطور حينما انتقلت عينا بيرتييه فجأة إلى جنرال تتبعه حاشيته، جاء بأقصى سرعة الجواد قاصدا التل، كان ذلك هو بيليار، قفز من على جواده المغطى بالزبد، وتقدم بخطى سريعة إلى الإمبراطور، وراح يعرض عليه بصوت مرتفع جريء ضرورة إرسال الإمدادات. كان يقسم بشرفه أن الروسيين ضائعون لا محالة إذا دخل فوج آخر المعركة.
هز نابليون كتفيه واستمر في تمشيه دون أن يجيب، فراح بيليار يتكلم بحمية إلى جنرالات الحاشية الذين أحاطوا به.
قال الإمبراطور وهو يعود إلى الجنرال: «إنك محتد كثيرا يا بليار، إن من السهل أن يخطئ المرء في حميا الحركة، اذهب وافحص الموقف وعد إلي ...»
لم يكد بيليار يختفي عن الأبصار حتى وصل رسول آخر من نقطة أخرى من ساحة المعركة. قال نابليون ساخطا بلهجة الرجل الذي يرى العوائق تنبعث في طريقه باستمرار: «حسنا! ماذا هناك؟»
شرع المساعد العسكري يقول: «يا صاحب الجلالة، إن الأمير ...»
فأعقب الإمبراطور بحركة غاضبة: «يطلب المدد؟»
فأشار الضابط برأسه أن نعم، وراح يقدم تقريره. استدار الإمبراطور، لكنه لم يلبث أن عاد على أعقابه والتفت إلى بيرتييه وقال: «لذلك الفرخ الذي جعلته نسرا.» كما أخذ يدعوه فيما بعد: «لا ريب أنه يجب إعطاؤهم إمدادات ... هيا، من سنرسل؟»
فأجاب بيرتييه الذي كان يعرف عن ظهر قلب كل الأفواج والفيالق والألوية: «لنرسل فوج كلاباريد يا صاحب الجلالة.»
فأيده نابليون بحركة من رأسه.
جرى المساعد العسكري نحو فوج كلاباريد، وبعد دقائق شرع فوج الحرس الفتي - الذي كان مقاما احتياطا وراء التل - يتحرك ونابليون ينظر بسكون في ذلك الاتجاه.
وفجأة قال لبيرتييه: «كلا، لا أستطيع إرسال كلاباريد. أرسل فوج فريان.»
وعلى الرغم من أن إرسال فوج فريان بدلا من فوج كلاباريد لم يكن له أية ميزة أو فائدة، وأن إبدال فوج بآخر سبب ضياعا حقيقيا للوقت، فإن هذا الأمر نفذ بكل دقة. لم ير نابليون أنه حينذاك كان يلعب حيال قطعاته دور الطبيب الذي تزيد أدويته من خطورة المرض، وهو الدور الذي كان بارعا في تمييزه ونقده عند الآخرين.
اختفى فوج فريان في الدخان كالأفواج الأخرى. ومن نقاط مختلفة، ظل المساعدون العسكريون يهرعون ليقولوا - وكأنهم وحدوا كلمتهم - الشيء بعينه. كانوا جميعا يطلبون الإمدادات ويؤكدون أن الروسيين أبعد من أن يفكروا في التراجع، يفتحون نيران جحيم تذوب فيه القطعات الفرنسية.
وظل نابليون متفكرا على مقعده.
اقترب السيد دوبوسيه، هاوي الأسفار الذي لم يأكل شيئا منذ الصباح من جلالته، وعرض عليه بكل احترام تناول الإفطار. قال: «آمل أنني أستطيع منذ الآن أن أقدم لجلالتكم تهاني بالنصر ...»
فهز نابليون رأسه نفيا، واعتبر السيد دوبوسيه أن تلك الإشارة تعني النصر وليس الطعام؛ لذلك فقد سمح لنفسه أن يلاحظ بلهجة دعبة ومحترمة معا أن ما من شيء في الدنيا يمكن أن يمنعنا عن تناول الطعام طالما نستطيع أن نتناوله.
قال الإمبراطور فجأة بلهجة غاضبة: «امض عن ...»
وأدار له ظهره، فتهلل وجه السيد دوبوسيه بابتسامة ورعة تجمع بين العطف وخيبة الأمل والإعجاب، ومضى بخطواته المنزلقة يلحق بالجنرالات الآخرين.
كان نابليون يشعر بإحساس اللاعب المجدود دائما، الذي يلقي بجنون - معتمدا على حظه - بكل ماله على المائدة وفجأة يرى بمزيد الألم أنه على وشك أن يخسر؛ لأنه أفرط في حساب الشوط.
كانت قطعاته هي الأولى نفسها وجنرالاته أنفسهم والتدابير المتخذة ذاتها وأمر المعركة ذاته والنداء القصير الحازم إياه، ثم إنه نفسه لم يتبدل، وهو يعرف ذلك تمام المعرفة، وهو يزعم لنفسه أنه بات أكثر روية واختبارا من ذي قبل، وأن العدو لا زال نفسه الذي كان في أوسترليتز وفريدلاند. فلماذا إذن تصبح ضربته الرهيبة المفاجئة عاجزة وكأنها بسحر ساحر؟!
لقد كانت وسائله الفنية التي طالما نجحت معه بمألوف العادة: تركيز المدفعية في نقطة واحدة، اختراق الخطوط بواسطة الاحتياطي، هجوم هؤلاء الرجال الحديديين العتيد الذين يشكلون فرق فرسانه؛ كل هذه الوسائل استعملها دون أن يحصل على النصر، بينما الأنباء نفسها تتعاقب: جنرالات قتلى أو جرحى، سرعة إرسال الإمدادات، تشتت القطعات، استحالة هزم الروسيين.
من قبل، كان يكفي الاستيلاء على مركزين أو ثلاثة مراكز، والنطق بجملتين أو ثلاث جمل، حتى يرى الماريشالات والمساعدون العسكريون يفدون مهللي الوجوه يعلنون النصر مع جيوش كاملة من الأسرى، وباقات من الأعلام والشعارات العدوة والمدافع والصناديق على شكل أسلاب. وما كان على مورا إلا أن يطلب إطلاق فرسانه حتى يغنم عربات النقل. هكذا جرت الأمور في «لودي» وما رانجو وآر كول وإيينا وأوسترليتز وواجرام، إلخ ... إلخ. فما الذي وقع لجنوده إذن؟
على الرغم من نبأ احتلال التحصينات، فإن نابليون كان يرى الأمور تسير على نهج مخالف تماما لسير معاركه السابقة، وكان يرى أن من حوله من الرجال - وكلهم خبروا الحرب - يشعرون مثل شعوره. كانت الوجوه كلها حزينة والعيون تتحاشى لقاء نظراته باستثناء السيد دوبوسيه الذي بدا وحده غير مقدر لخطورة الموقف. وكان نابليون لا يجهل بحكم خبرته معنى قتال يستنفد طيلة ثماني ساعات من الجهد دون أن ينتزع المهاجم النصر. لقد كان أشبه بالهزيمة بالنسبة إليه، فالميزان يميل بشكل يصبح معه أتفه حادث قمينا بضياعه هو وجيشه.
وعندما كان يستعرض هذه الحملة الغريبة التي لم يحصل خلالها طيلة شهرين كاملين على نصر واحد، ولم يغنم علما واحدا أو مدفعا واحدا ولا فصيلة من الجند، ويتأمل هذه الوجوه المكتئبة في السر، ويسمع تلك التقارير عن مقاومة العدو العنيدة. كان يخيل إليه أنه فريسة لحلم مريع. طافت برأسه كل الحوادث العرضية التي يمكن أن تسبب ضياعه: يهجم الروسيون على جناحه الأيسر ويخرقون خط الوسط، فتأتي قذيفة تائهة تذهب به شخصيا. إن كل الأشياء ممكنة الوقوع. كان في معاركه السابقة لا يحسب إلا إمكانيات النجاح، أما الآن فقد بات ينتظر عددا من الأحداث العارضة السيئة. نعم، لقد كان ذلك يشبه الحلم المفزع: يحلم المرء بأن آثما يهاجمه، فيشهر سلاحه ليضربه بكل قواه لكنه يشعر بأن يده تتدلى عاجزة كالخرقة، فيعتصر قلبه خوفا من موت لا مفر منه.
ولقد أحدث نبأ مهاجمة الروسيين لجناحه الأيسر مثل ذلك اللون من الروع في نفس نابليون؛ فلبث متهالكا فوق كرسي الميدان ورأسه بين يديه. اقترب بيرتييه منه وعرض عليه الطواف بالخطوط لتكوين رأي صحيح عن الموقف، فأجابه: «ماذا؟ ماذا تقول؟ ... نعم، مر لي بحصان.»
اعتلى صهوة جواده ومضى نحو سيميونوفسكوي.
على طول الطريق التي مر بها، وسط الدخان الذي كان ينقشع ببطء، كانت جثث الرجال والخيول ملقاة سابحة في برك الدم، منفردة أو مجتمعة، حتى إن نابليون وملازميه لم يروا قط من قبل مثل ذلك الهول ولا ذلك العدد من الجثث المجتمعة على رقعة بمثل تلك المساحة الضيقة. وكان دوي المدافع الذي لم يتوقف منذ عشر ساعات كاملة ولم يفتأ يصفع صحناء الأذن، يزيد جلال المشهد كما تبرز الموسيقى قيمة الصور الحية.
ولما بلغ مستوى سيميونوفسكوي، شاهد نابليون خلال الدخان صفوفا كاملة من الجنود مرتدين أزياء لم تكن ألوانها أليفة لديه. إنهم الجنود الروس.
كان هؤلاء متركزين وراء القرية والمرتفع، وقاذفاتهم تطلق النار دون تمهل وتملأ خطهم كله بالدخان. لم يعد هناك قتال بالمعنى المفهوم، والمجزرة الدائرة لا يمكن أن تعود بفائدة على الروسيين ولا على الفرنسيين، فأوقف الإمبراطور حصانه وعاد يستسلم إلى التفكير حتى أخرجه بيرتييه منه، وهو يبدو وكأنه من صنعه؛ لأنه مسئول عنه. فبدا له للمرة الأولى مريعا عديم النفع؛ بسبب عدم نجاحه ولا ريب.
عرض عليه أحد الجنرالات الذين برفقته أن يأمر بإطلاق الحرس القديم، فتبادل «ني» وبيرتييه النظر، وطافت على شفاههما ابتسامة ازدراء لهذا العرض الأهوج.
وأطرق نابليون برأسه وظل طويلا لا يتكلم، وأخيرا قال: «لن أهدم «حرسي» على بعد ثمانمائة ميل من فرنسا.»
ولوى عنان جواده وعاد إلى شيفاردينو.
الفصل الخامس والثلاثون
السيد العجوز
لم يبرح كوتوزوف المقعد المغطى بالنجد، الذي شاهده بيير جالسا عليه صباحا متهاويا على نفسه بكل ثقل جسمه، محنيا رأسه الأشيب. لم يكن يتخذ تدبيرا معينا، بل يكتفي بإعطاء موافقته على ما يعرض عليه أو حجبها عنه.
كان يجيب: «نعم، نعم، افعل هذا.» ويقول لهذا أو ذاك من خلصائه: «نعم، نعم، اذهب يا عزيزي، اذهب لنرى.» أو يعلن: «كلا، لا فائدة، الانتظار أفضل.» ويصغي إلى التقارير التي تنقل إليه ويعطي الأوامر متى طلبت منه، لكنه كان يبدو أشد اهتماما بالانطباعات البادية على الوجوه واللهجات التي ينقل بها العسكريون تقاريرهم، من اهتمامه بمدلول الكلمات نفسها. وكانت خبرته الطويلة في الحروب وحكمته ككهل تعلمانه أن رجلا واحدا لا يمكنه إدارة مئات الألوف من الآخرين الذين يناضلون ضد الموت. وكان عارفا أن ما يقرر مصير المعارك ليست التدابير المتخذة من قبل الجنرال القائد الأعلى ولا الموقع الذي تحتله القطعات ولا عدد المدافع والقتلى، بل تلك القوة الخفية التي تسمى معنوية الجنود. لذلك، فقد راح يراقب تلك المعنوية ويحاول قدر طاقته أن يوجهها. كانت قسمات وجهه تنطق بانتباه دائم هادئ وجهد يتغلب على تعب جسم هده الكبر.
في الساعة الحادية عشرة، جاءوا يعلمونه أن التحصينات التي احتلها الفرنسيون قد استعيدت الآن، ولكن الأمير باجراسيون جرح، فندت عن كوتوزوف صيحة تعجب وهز رأسه ثم أمر واحدا من مساعديه العسكريين: «امض لزيارة الأمير بيوتر إيفانوفيتش، واستعلم تفصيلا عن حاله.»
ثم استدار إلى الأمير دو وورتمبيرج الذي كان واقفا وراءه، وقال له: «تفضل سموك بالاضطلاع بقيادة الجيش الثاني.»
ولم يمض وقت طويل على ذهاب الأمير، بل وقبل أن يبلغ سيميونوفسكوي عاد المساعد العسكري يعلن لعظيم الرفعة أنه يطلب إمدادات.
فقطب كوتوزوف حاجبيه وأرسل من فوره الأمر إلى دوختوروف أن يتولى قيادة الجيش الثاني، زاعما أنه بعد أن أمعن التفكير، وجد أنه لا يستطيع الاستغناء عن الأمير في مثل هذه المناسبات الخطيرة، وأمر أن ينقل إليه رجاء العودة إلى جانبه.
ولما أنهوا إليه أن مورا وقع في الأسر، طافت على شفتيه ابتسامة عندما راح أعضاء أركان حربه يقدمون إليه تهانيهم، وقال: «ليس بهذه السرعة أيها السادة، لا شيء خارق في أن نربح المعركة وأن يسقط مورا في الأسر، ولكن من الأفضل أن ننتظر قبل أن نبتهج.»
مع ذلك، فقد أرسل مساعدا عسكريا لينشر هذا النبأ بين الصفوف.
وعندما هرع شتشربينين من الجناح الأيسر يعلمه أن الفرنسيين احتلوا التحصينات وسيميونوفسكوي كذلك، خمن من أمارات وجهه ومن الضجيج الذي كان يتناهى من ساحة المعركة إلى أسماعه أن الأمور لا تسير على ما يرام، فنهض وكأنه أراد أن يحرك ساقيه قليلا، وأمسك بذراع الضابط ثم انتحى به جانبا ليصغي إلى تقريره.
قال لإيرمولوف: «اذهب يا عزيزي، انظر ما إذا كان يمكن عمل شيء.»
كان كوتوزوف في جوركي، في وسط الموقع الروسي تماما، ولقد صد الهجوم الذي قام به نابليون مرارا على جناحنا الأيسر. أما في الوسط، فإن الفرنسيين لم يتجاوزوا بورودينو، بينما هزم فرسان أوفاروف العدو في الجناح الأيسر.
توقفت الهجمات الفرنسية حوالي الساعة الثالثة، واستطاع كوتوزوف أن يقرأ على وجوه الجنود العائدين من الميدان ووجوه الذين من حوله، هيجانا يبلغ أقصى المراحل، وكان راضيا عن نهار جاء بنتائج فاقت ما كان يتوقع، لكن القوة الجسدية كانت تخون ذلك الكهل، ولقد سقط رأسه على صدره، بل ووقع له مرة أن نام. قدموا له العشاء.
وبينما هو يأكل، شوهد فولزوجن، المساعد العسكري لجلالته، ذلك الذي أعلن بينما كان يمر بالقرب من آندريه، أن الحرب يجب أن تمتد، وأن باجراسيون لا يمكنه الاحتمال، يصل من لدن باركلي ليرفع تقريره عن الموقف في الجناح الأيسر. لقد قدر باركلي دوتوللي الحصيف، إزاء تزايد عدد الجرحى وفوضى المؤخرة، بعد أن أمعن النظر في كل الاحتمالات، أن المعركة قد خسرت، فأرسل تبعا لذلك صفيه بسرعة يحمل النبأ إلى القائد العام.
حدق كوتوزوف بعينيه الصغيرتين الناريتين في وجه فولزوجن وهو يمضغ قطعة الدجاج المشوي بصعوبة، بينما اقترب بخطى متكاسلة وانحنى محييا وابتسامة مطاوعة تعلو شفتيه.
كان فولزوجن يعامل القائد الأعلى بتكلف مشوب بقلة الحياء، وكأنه يقول: «للروسيين ملء الحرية في أن يجعلوا من الهرم الفاني معبودا لهم، لكن عسكريا من طرازه هو، يعرف كيف يتصرف.» حدث نفسه وهو يلقي نظرة ساخرة على الأطباق الموضوعة أمام كوتوزوف: «إن السيد العجوز - وهكذا كان الألمان يسمونه فيما بينهم - يرفه نفسه.» وشرع يعرض على «السيد العجوز» الموقف في الجناح الأيسر كما قدره باركلي، وكما لمسه هو بنفسه. - «إن كل نقاط مراكزنا باتت بين أيدي العدو دون أن نستطيع له صدا؛ نظرا لحاجتنا إلى الجنود، وجنودنا يفرون ويستحيل علينا إيقافهم.»
توقف كوتوزوف عن المضغ، وراح يحملق في فولزوجن وكأنه لا يفقه ما يقول. ولدى رؤيته انفعال «السيد العجوز» قال له المساعد العسكري: «لقد اعتبرت أنه ليس من حقي أن أخفي على سموك ما رأيت. إن القطعات في فوضى عامة ...»
صاح كوتوزوف الذي نهض فجأة ومشى نحو فولزوجن: «هل رأيت ذلك؟ هل رأيت ذلك؟ ...»
كان الغضب يكاد أن يخنقه وهو يهدده بيديه المرتعدتين: «ألي أنا ، تبلغ بك الجرأة لتقول ما تقول؟! ... إنك لا تعرف شيئا من شيء يا سيدي. قل للجنرال باركلي عن لساني إن معلوماته خاطئة، وإنني بصفتي قائدا أعلى، أعرف أفضل مما يعرف سير المعركة.»
هم فولزوجن أن يجيب، لكن كوتوزوف قاطعه: «لقد صد العدو على الجناح الأيسر وهزم على الجناح الأيمن، فإذا كنت أسأت النظر يا سيدي فإن هذا لا يجيز لك أن تروي ما أنت جاهله. تفضل بالذهاب إلى الجنرال باركلي وانقل له رغبتي في مهاجمة العدو غدا دون تغيير.»
لزم الجميع الصمت، فلم يسمع إلا صوت تنفس الجنرال العجوز اللاهث.
استرسل كوتوزوف يقول وهو يرسم شارة الصليب على صدره، بينما طفرت الدموع من مقلتيه: «لقد أصدوا في كل النقاط شكر الله وجنودنا البواسل. لقد هزم العدو، وغدا سنطرده من أرض روسيا المقدسة.»
هز فولزوجن كتفيه وابتعد وهو يدل بسخريته على ما يراه في كفاءة الرجل العجوز.
قال كوتوزوف وهو يشير إلى فتى جميل الطلعة متين البنيان ذي شعر فاحم وصل في تلك اللحظة فوق التل: «وانظر، ها هو بطلي.»
كان القادم هو الجنرال راييفسكي الذي لم يغادر طيلة النهار النقطة الحساسة في المعركة، أعلن أن القطعات لا تزال صامدة، وأن الفرنسيين لم تعد لديهم الجرأة على مهاجمتهم.
ولما سمعه كوتوزوف يتحدث على هذا النحو قال له بالفرنسية: «ألا تظن كالآخرين إذن أنه يجب علينا أن ننسحب؟» - «على العكس يا صاحب السمو، إن الأكثر عنادا هو الذي ينتصر في المواقف المتأرجحة. ومن رأيي ...»
نادى كوتوزوف: «كائيساروف! اجلس هنا واكتب الأمر اليومي لنهار الغد. وأنت - وأشار إلى مساعد عسكري آخر - امض للطواف بالصفوف وأعلن أننا سننتقل إلى الهجوم غدا.»
وفي تلك الأثناء، أعلن فولزوجن الذي أرسله باركلي للمرة الثانية، أن جنراله يرغب في الحصول على تأييد خطي للأمر الذي أعطاه الماريشال.
ودون أن يشرفه كوتوزوف بنظره، أمر بكتابة ذلك الأمر؛ ليرفع المسئولية عن القائد الأعلى السابق الحصيف بناء على إصراره.
وبفضل ذلك الرباط الغامض الذي لا يوصف، الذي يبقي الجيش كله في حالة فكرية واحدة، تلك الحالة الفكرية التي يدعونها معنويات الجيش، والتي تشكل عصب الحرب، فإن أقوال كوتوزوف وأمره اليومي الذي يعلن فيه الهجوم في اليوم التالي انتشرت لفورها من طرف إلى آخر بين قطعاتنا.
ولا ريب أن عبارات أمره اليومي نفسها ليست هي التي بلغت الحلقات الأخيرة من تلك السلسلة، بل إنه لم يكن هناك شيء مما قال في الأقاصيص التي تنوقلت من واحد إلى آخر، لكن معاني كلماته كانت تنتقل من قريب إلى قريب؛ لأنها ما كانت تعكس ترتيبات خداعة مموهة، بل المشاعر العميقة التي تعتلج في نفس الجنرال القائد الأعلى كما تعتلج في نفس كل روسي.
فلما علموا أننا سنهاجمهم غدا، وشعروا بتأييد ما كانوا يرغبونه من جانب القيادة العليا، استعاد أولئك الرجال المنهوكون المترددون ثقتهم.
الفصل السادس والثلاثون
جرح الأمير آندريه
ظل فيلق الأمير آندريه تابعا للاحتياطي الذي ظل بعيدا عن دائرة الحركة حتى الساعة الثانية وراء سيميونوفسكوي تحت نار حامية من المدفعية. وفي ذلك الحين سير الفيلق الذي فقد حوالي مائتي رجل، إلى الأمام عبر حقل من الخرطال وطأته الأقدام حتى الفراغ الذي يفصل بين قرية بورودينو و«بطارية» التل. وكان ذلك الفراغ من الأرض هو المكان الذي سقط فيه أثناء النهار ألوف من الرجال، والذي أصبح حوالي الساعة الثانية على الضبط نقطة التقاء لنار حامية أخذت بضع مئات من مدافع العدو تصبها عليه.
فقد الفيلق هنا - دون أن يغادر مكانه أو يطلق رصاصة واحدة - ثلث عدده! لقد كانت المدافع إلى الأمام، وبصورة خاصة على اليمين، تقصف وسط دخان كثيف، ومن منطقة الدخان الغامضة تلك، راحت القذائف والقنابل تصل دون انقطاع، يواكبها صفير قصير أو طويل. وكانت المقذوفات أحيانا تتجاوز الهدف طيلة ربع ساعة، وكأنها تتيح فترة استراحة ، ولكن أحيانا كان عدد كبير من الرجال يصاب في غضون دقيقة واحدة، ولا يكف العاملون عن نقل الجرحى والجثث.
ولدى كل صدمة جديدة كانت إمكانيات البقاء على قيد الحياة تتضاءل بالنسبة إلى الذين لم يقتلوا بعد. ولقد انتشر الفيلق على شكل ألوية تفصل بين كل واحد منهما ثلاثمائة خطوة. لكن الصمت نفسه والفتور نفسه كانا يخيمان عليها كلها، وإذا تبودلت بعض الأحاديث النادرة فإنها سرعان ما كانت تتوقف كلما سقط مقذوف وعلت بعده صيحة: «محفات!» ولقد لبث الجنود معظم الوقت تبعا لأوامر الرؤساء جالسين على الأرض، فكان هذا يرفع عمرته ويحرك السير الجلدي المحيط بها برفق، وذاك ينظف حربته بالصلصال الجاف الذي يحيله دقيقا بين يديه، وثالث يسوي تجهيزاته ويعيد شدها، ورابع يحل الأشرطة الكتانية التي يستعملها بدلا من الجوارب ثم يعيد لفها من جديد حول ساقيه، ويضع حذاءه في قدميه بهدوء، وكان البعض يبنون بيوتا صغيرة من الحصى التي يلتقطونها من الأخاديد، أو يضفرون الحصر مستعملين قش اللقاط ويبدون جميعهم منهمكين في انشغالاتهم. وعندما يقع القتلى أو الجرحى في صفوفهم ويقوم رجال النقالات بعملهم، وعندما يتراجع رجالنا أو ترى خلال سحب الدخان تشكيلات العدو المتراصة، ما كان أحد يعير ذلك التفاتا. وبالمقابل، ما إن تشرع مدفعيتنا أو يبدأ فرساننا في التقدم أو مشاتنا في السير، حتى ترتفع صيحات التشجيع من كل مكان. لكن الانتباه العام كان عالقا بصورة خاصة ببعض الحوادث العارضة التي لا علاقة لها قط بسياق المعركة، حتى ليقال إن انتباه هؤلاء الرجال الضعفاء معنويا يرتكز في أحداث الحياة اليومية المألوفة. جاءت «بطارية» فمرت أمام جبهة القطعات، ولما مرت الصناديق شوهد أحد خيول النقل وقد اشتبكت قائمته بالمجرة. «إيه! هناك، أيها الحمال! ... سو هذا وإلا فسيتعثر ... إيه! ماذا بهم، إنهم ولا شك عميان!» واجتاحت صيحات التعجب تلك كل الفيلق. ومرة ثانية اجتذبت الأنظار كلها إلى كلب صغير يميل لونه إلى الاصفرار، خرج - والله يعلم من أين - مشرع الذيل، إلا أنه لم يلبث إثر سقوط قذيفة بالقرب منه أن أطلق نباحا متوجعا، ولاذ بالفرار وهو يضم ذيله، فانفجر الفيلق كله ضاحكا. لكن تلك الألهيات ما كانت تدوم إلا لحظة، في حين أنه مضى أكثر من ثماني ساعات على هؤلاء الرجال الجياع وهم في أماكنهم تحت الرعب الدائم من الموت ووجوههم الممتقعة العابسة تزداد شحوبا وانقباضا.
وكان الأمير آندريه، ممتقع الوجه هو الآخر مقطب الحاجبين، يروح ويجيء في مرج مجاور لحقل الخرطال مطرق الرأس ويداه وراء ظهره، عاطلا ليس لديه ما يعمله أو يصدره من أوامر. لقد كان كل شيء يعمل من تلقاء نفسه، كانوا يحملون القتلى إلى المؤخرة وينقلون الجرحى والصفوف تعود إلى التشكل، وأولئك الذين هموا بالفرار لا يلبثون حتى يعودوا. ولقد قدر في البداية أن من واجبه بعث الشجاعة في نفوس رجاله بإعطائهم مثلا حيا بمروره بين صفوفهم، لكنه ما لبث أن أدرك أنه عناء باطل؛ فلقد كانت كل قواه الروحية - كما كان حال كل واحد من جنوده - لا تميل لا شعوريا إلا إلى تجاهل هول الموقف الذي هم فيه جميعا، فكان إذن يروح ويجيء في المرج، يجر قدميه، فيطأ العشب ويتأمل الحشائش التي تغطي حذاءيه. وكان تارة يوسع خطاه محاولا وضع قدميه فوق الآثار التي خلفها الحصادون، وطورا يحصي خطواته ويحسب عدد المرات التي سينتقل فيها من أخدود إلى آخر حتى يقطع ربع ميل أو ينتزع نبات الأرطماسية الذي ينبت على التخوم، فيسحقه بين يديه ويستنشق رائحته القوية المرة. أما فكره الذي كان شديد الفاعلية بالأمس، فقد بدا أشبه بالمتخدر. كان يصيخ إلى تلك الضوضاء المتشابهة أبدا بأذن مكدودة: زمجرة المقذوفات عند اندفاعها، صفيرها عند وصولها، ويلقي بين الحين والآخر نظرة إلى وجوه الرجال التي ألفها منذ بعيد؛ رجال اللواء الأول، وينتظر. حدث نفسه وهو يسمع صفيرا مشئوما في منطقة الدخان: «ها هي ذي واحدة ... موجهة إلينا أيضا! واحد ... اثنان ... لا ريب أن هذه لنا ...» ثم يقاطع نفسه ليلقي نظرة على الصفوف. «كلا، لقد تجاوزتنا ... ولكن حذار من التالية ...» ثم يعود إلى تسياره يطاول خطاه ليبلغ التخوم في ست عشرة خطوة. وفجأة، ارتفع صفير وصدمة! وعلى قيد خمس خطوات منه، انغرزت قذيفة في الأرض الجافة فنثرت التراب في كل الاتجاهات. عاد نحو جنوده من جديد. لا ريب أن إصابات كثيرة حدثت بينهم؛ إذ شاهد غوغاء في اللواء الثاني.
هتف يأمر ضابطه التابع: «امنعهم من تشكيل جماعات.»
فنفذ هذا الأمر واقترب من الأمير آندريه، بينما جاء من الجانب الآخر قائد اللواء على صهوة جواده. صرخ صوت مروع: «حاذر!»
وكالعصفور الصغير الذي يرفرف وهو يردد صفيره، جاءت قنبلة فحطت على الأرض بهدوء على بعد خطوتين من آندريه قرب قائد اللواء تماما. ولقد صهل الجواد دون أن يأبه بما إذا كان من المستحسن خوفه أو الاحتفاظ به، وانتصب على خلفيتيه وقفز جانبا، فكاد أن يسقط الماجور، ولقد انتقل الرعب من الحيوان إلى الرجال.
قال صوت الضابط التابع الذي استلقى على الأرض: «ألق بنفسك على الأرض!»
لكن الأمير آندريه ظل واقفا مترددا، وكانت القنبلة التي لا زال الدخان يتصاعد منها تدور كاليرمع بينه وبين الضابط عند الحد بين المرج والحقل، قرب دغل من نبات الأرطماسية.
فكر وهو يعانق العشب وسوق الأرطماسية وخيط الدخان المتصاعد من الكرة السوداء المتحركة بنظرات جديدة، نظرة مفعمة بالرغبة: «أهو الموت؟ لا أستطيع الموت ولا أريد أن أموت. إنني أحب الحياة، أحب هذا العشب وهذه الأرض والهواء الذي أستنشقه ...» وبينما هو يحدث نفسه بذلك تذكر أنهم ينظرون إليه، فقال للضابط التابع: «ألا تخجل يا سيدي؟ أي ...»
لكنه لم يستطع أن يعقب قوله. دوى الانفجار مصحوبا بصوت قريب من انصفاق الزجاج المحطم ورائحة بارود كريهة. ألقي الأمير جانبا، فرفع ذراعا في الهواء وهوى ووجهه إلى الأرض.
هرع بعض الضباط وانسابت على العشب من جنبه الأيمن بركة عريضة من الدم.
توقف المتطوعون الذين استدعوا بنقالتهم وراء الضباط، وكان الأمير الممدود على بطنه ووجهه مدفون في الأعشاب يفوق فواقا قويا. - «حسنا! ماذا تنتظرون؟ اقتربوا.»
حمل القرويون الأمير آندريه من كتفيه وساقيه، ولكنهم عادوا فأسجوه على الأرض بعد أن تبادلوا نظرة إثر إطلاقه أنات أليمة. صاح صوت: «احملوه، ضعوه على المحفة!»
فحملوه من كتفيه وأسجوه على النقالة، وهتف عدد كبير من الضباط مروعين: «آه! يا رب، يا رب! هل هذا ممكن؟ في البطن! إنها الموت ... آه! يا ربي!»
وشرح الضابط التابع قائلا: «لقد مست أذني.»
حمل القرويون المحفة على أكتافهم وهرعوا متعجلين إلى عربة الإسعاف عن طريق ممشى فتحوه بكثرة غدواتهم ورواحهم. ولما كانت مشيتهم غير المنظمة تهز المحفة، فقد استوقفهم ضابط من كتفهم وقال: «سيروا بخطى عادية إذا أردتم! عصبة الغلاظ!»
وقال الذي في المقدمة: «اقتد بخطوتي يا فيدور، سمعت؟!»
فأجاب الذي في المؤخرة بدعة وهو يبدل خطوته: «هه، ها أنا ذا قد اقتديت.»
وقال تيموخين بصوت متهدج وهو يجري صوب المحفة: «يا صاحب السعادة! هي! يا أمير!»
فتح الأمير آندريه عينيه، ومن فوق المحفة، حيث كان رأسه يتأرجح، ألقى نظرة على المتكلم، ثم أغمض عينيه.
نقل المتطوعون الأمير آندريه إلى الغابة التي انتشرت فيها عربات النقل والمستشفى، وكان هذا مؤلفا من ثلاث خيام منصوبة مفتوحة قليلا على تخوم غابة من السندر، أما العربات والجياد فكانت في الغابة، وكانت الحيوانات تأكل علفها في أكياسها، والعصافير ترفرف حولها لتلتقط الحبوب الضائعة، والغربان التي شمت رائحة الدم تنعب بنفاد صبر. وحول الخيام على مساحة هكتارين ونصف من الأرض، جلس أو استلقى أو وقف رجال يغطيهم الدم في أزياء متباينة مختلفة، وبالقرب منهم وقفت جماعة من حاملي المحفات بوجوههم الكئيبة المتطلعة، كان ضباط النظام يبذلون ما في وسعهم لإبعادهم، فكان أولئك الجنود يصممون على البقاء هناك متكئين على محفاتهم شاخصين بأبصارهم إلى المشهد الذي يدور تحت أنظارهم وكأنهم يحاولون جاهدين إدراك مدلوله الأليم. ومن الخيام كانت صيحات وحشية تتناوب مع أنات أليمة شاكية تتصاعد من هناك، ومن حين إلى آخر يرى عدد من الممرضين يخرجون راكضين ليحملوا الماء وليشيروا أثناء ذلك إلى الذين أزف دورهم في الدخول. وعند المدخل كان الجرحى يحشرجون ويصرخون ويبكون ويشتمون ويطلبون جرعات من العرق، وكان بعضهم في النزع. ولقد حمل الأمير آندريه بوصفه قائد فيلق بين صفوف من الجرحى الذين لم تضمد جراحهم بعد أن كانوا قرب إحدى الخيام، وهناك توقف حاملوه بانتظار الأوامر. فتح عينيه وظل فترة طويلة لا يدري ماذا وقع له . المرج، الأرطماسية، حقل الخرطال، الكتلة السوداء الدائرة، حبه العنيف المفاجئ للحياة؛ كل هذه الأشياء عادت فجأة إلى ذاكرته. وعلى قيد خطوتين منه وقف صف ضابط جميل عملاق أسود الشعر مرتفع الصوت، مستندا إلى لوح من الخشب. كان مصابا برصاصات في رأسه وساقيه، وقد لف بالضمادات، وكان الجرحى وحملة المحفات يصغون إليه وهو يحاضر فيهم.
كان الضابط يصيح وعيناه الملتهبتان تلقيان حوله نظرات متباهية: «عندما أجليناهم من هناك انسحبوا دون أية مقاومة بالطبع حتى ولو أننا أمسكنا بملكهم نفسه لما فعلوا. ولو أن فرق الاحتياطي أطبقت في اللحظة المناسبة، إذن يا فتياني، لما ظل أحد منهم حيا. صدقوا ما أقول لكم.»
وككل أفراد الدائرة، راح الأمير آندريه يتأمل المتحدث وفي عينيه بريق وهو يشعر بالعزاء. قال لنفسه: «بعد كل شيء، ماذا يهمني ما سيحدث هناك وما حدث هنا؟ ومن أين لي كل هذا العناء في مغادرة هذه الحياة؟ هل في هذه الحياة شيء ما لم أفهمه؛ شيء لا زلت غير فاهم له؟»
الفصل السابع والثلاثون
لقاء الغريمين
خرج واحد من الأطباء من الخيمة وهو ممسك بتصرف - بين الإبهام والخنصر - بسيجار كان يخشى أن يوسخه؛ لأن يديه الصغيرتين كانتا كمئزره متسختين بالدم. رفع رأسه وترك نظرته تتيه بين الجرحى. لا ريب أنه كان يريد استنشاق الهواء قليلا، وبعد أن استدار يمينا ويسارا، أطلق زفرة وعاد ببصره إلى الأرض.
أجاب ممرض دله على الأمير آندريه: «نعم، فورا.»
وأصدر أمره بإدخاله، فارتفعت غمغمة بين الجرحى الذين كانوا ينتظرون. قال أحدهم: «يبدو أنه في العالم الآخر! كذلك لا توجد أمكنة إلا «للسادة» كذلك.»
مددوا الأمير آندريه على مائدة كانت شاغرة وقد فرغ ممرض لتوه من تنظيفها، فلم يستطع آندريه أن يميز بوضوح ما كان موجودا داخل الخيمة ؛ لأن الصيحات المعولة التي كانت ترتفع من كل مكان، والألم المحرق الذي كان يشعر به في جنبه وبطنه وظهره؛ تشغله تماما. ولقد اختلط المشهد الذي عرض لعينيه في شعور أوحد باللحم البشري العاري الدامي الذي يبدو كأنه يملأ تلك الخيمة المنخفضة، كما كان ذلك اللحم نفسه منذ أسابيع خلت يملأ البركة الموحلة في ذلك النهار القائظ من شهر آب على طريق سمولنسك. نعم، كان ذلك اللحم نفسه لحم المدفع، الذي أثارت رؤيته في نفسه الاشمئزاز وكأنه يرى سلفا هذا اليوم.
تركوه وحيدا بضع لحظات، فاستطاع برغمه أن يرى ماذا يدور على الطاولتين الأخريين. جلس على الطاولة الأقرب إليه تتري، لا ريب أنه قوقازي إذا حكمنا على البزة الملقاة بجانبه. وكان أربعة من الجنود يحاولون تثبيته في مكانه، بينما راح طبيب يعمل مبضعه في ظهره الأسمر العاضل.
غمغم التتري فجأة: «أوه! أوه! أوه!»
ورفع وجهه القلزي ذا الأنف الأفطس والخدين البارزين وصرف بأسنانه البيضاء، وراح يتخبط ويطلق صرخات طويلة.
وعلى الطاولة الثانية التي كان يحيط بها جمع من الأشخاص، أسجي رجل على ظهره، قوي طويل القامة مائل الرأس إلى الوراء، لكن مظهره العام، حتى لون شعره العكف، لم يكن مجهولا من الأمير آندريه. وكان عدد من الممرضين يميلون بكل ثقلهم على صدر ذلك الرجل ويمسكون به، وكانت إحدى ساقيه بيضاء وسمينة تضطرب دون توقف بانتفاضات محمومة، والرجل يطلق شهقات تشنجية ويكاد يختنق، بينما انحنى على الساق الأخرى المصبوغة كلها بالدم طبيبان صامتان، أحدهما ممتقع الوجه مرتعد.
في تلك الأثناء، كانوا يغطون التتري بمعطفه، فراح الطبيب ذو النظارتين يقترب من الأمير آندريه وهو يمسح يديه بعد أن فرغ من عمله. تفحصه بنظرة ثم التفت فجأة وصاح بصوت ساخط يخاطب الممرضين: «اخلعوا ثيابه! ماذا تنتظرون؟»
وعندما شرع أحد هؤلاء يحل أزرار آندريه وينزع عنه ثيابه بعجلة وقد شمر عن ساعديه، تذكر هذا أيام طفولته الأولى البعيدة. انحنى الماجور على الجرح فلمسه، وبعث زفرة عميقة ثم أشار إلى أحدهم. ولقد أفقد الألم الفظيع الذي شعر به آندريه في بطنه؛ أفقده الرشد، فلما عاد إلى وعيه كانت شظايا عظم الفخذ المحطمة قد انتزعت وقطع من اللحم قد قطعت والجراح قد ضمدت. وضمخوا له وجهه، فلما فتح عينيه انحنى الطبيب فوقه وقبله في شفتيه دون أن ينطق بكلمة، وابتعد مسرعا.
شعر آندريه، بعد كل تلك الآلام، براحة لم يشعر بمثلها منذ زمن طويل. ولقد خطرت بباله أفضل لحظات حياته، وبصورة خاصة طفولته الأولى، عندما كانوا يخلعون ثيابه ويسجونه في سريره الصغير، وتشرع مربيته في هدهدته بالأغنيات، فيغيب رأسه في الوسادة ويشعر بسعادة الإحساس بالحياة، هذه اللحظات خطرت بباله، ليس بوضعها من حنايا الماضي، بل كحقيقة واقعة.
كان الأطباء لا زالوا يحيطون بذلك الجريح الذي لم يكن مظهره غريبا عن بولكونسكي. كانوا يرفعونه ويحاولون تهدئته.
كان يزمجر بصوت يقطعه الشهيق وكأن الآلام قد هدته: «أرونيها ... أوه! أوه! أوه!»
ولقد خيل إلى آندريه وهو يصغي إلى ذلك الأنين أنه على استعداد للبكاء أيضا، فهل ترى السبب أنه يموت هكذا دون مجد؟ أم لأنه يأسف على الحياة؟ أم لأن ذكريات الطفولة تلك ترقق قلبه؟ هل السبب أنه يتألم وأن الآخرين يتألمون وأن ذلك التعس يئن بهذا الشكل الأليم؟ على أية حال، كان يشعر بحنين إلى أن يذرف دموعا سخية، دموع الطفولة، بل دموع الفرح تقريبا.
عرضوا على أنظار الجريح ساقه المبتورة التي تجمد الدم عليها في الحذاء الذي ما زال يكسوها، فأجهش كامرأة: «أوه! أوه! أوه!»
ابتعد الطبيب فكشف بذلك عن وجه الجريح، فحدث الأمير آندريه نفسه: «أوه! رباه! ماذا حدث؟ ماذا يعمل هنا؟»
ذلك أنه تعرف في شخص ذلك التاعس المنشج المنهوك الذي فرغوا للتو من بتر ساقه على آناتول كوراجين. أسندوا آناتول وقدموا له قدح ماء. ما كان يستطيع الإطباق على حافته بشفتيه المتورمتين المرتعشتين، وكان ينتحب بشكل يمزق نياط القلوب. حدث الأمير آندريه نفسه دون أن يستوعب تماما ما يدور أمام عينيه: «نعم، هذا هو. نعم، إن هذا الرجل المتصل بي بشكل حميم أليم. ولكن ما هي الروابط التي تربط هذا الرجل بطفولتي؟» راح يتساءل ويسعى عبثا لإيجاد الجواب. وفجأة برز من ذلك العالم الطفولي المليء بالطهر والحب وجه جديد انبعث في ذاكرته. عاد يرى ناتاشا كما بدت له للمرة الأولى في حفلة عام 1810 الراقصة، بعنقها وذراعيها النحيلتين ووجهها الفزع السعيد المتقبل للحماس، فانبعث حبه لها وحنانه بأعنف مما عرف وأقوى مما أحس من قبل، واستيقظا في أعماقه، وحينئذ تذكر الرباط الذي يجمعه بهذا الرجل الذي يوجه إليه نظرته المحجوبة بالدموع. تذكر كل شيء، فملأ قلبه السعيد عطف عميق وحب كلف.
لم يستطع أن يتجلد أكثر مما فعل، فذرف دموع تحنان على الرجال وعلى نفسه، على غواياتهم وغواياته. «نعم، الشفقة، الحب نحو إخواننا، نحو أولئك الذين يحبوننا، والحب نحو أولئك الذين يكرهوننا، حب أعدائنا، نعم، هذا الحب الذي جاء الله يبشر به على الأرض والذي سعت الأميرة ماري أن تلقنني إياه، والذي لم أكن أفهمه. هذا الحب هو الذي يجعلني آسف للحياة. هذا هو الشيء الوحيد الذي كان سيبقى لي لو قدر لي أن أعيش. أما الآن، فقد فات الوقت وللأسف!»
الفصل الثامن والثلاثون
آراء نابليون
أحدث مظهر ساحة المعركة الرهيب المغطى بالجثث والمائتين، والتثاقل الذي أحسه في رأسه، ونبأ قتل حوالي عشرين من جنرالاته أو جعلهم خارج المعركة، والاعتراف الذي توجب عليه الإسرار به لنفسه بعجز ذراعه التي كانت حتى اليوم لا تقهر؛ كل هذه الأمور أحدثت في نابليون تأثيرا غير منتظر. كان من عادته حب رؤية القتلى والجرحى، وهو المشهد الذي يزيد في قوة روحه كما كان يعتقد، لكن ذلك المشهد هزم ذلك اليوم قوة الروح العتيدة هذه التي كان يبني عليها عظمته وأهليته. عاد مسرعا إلى حصن شيفاردينو ولونه أصفر ووجهه منتفخ وعيناه كدرتان وأنفه أحمر وصوته صدئ، وظل جالسا على مقعده مطرقا بنظره مصغيا رغم إرادته إلى ضجيج المعركة. كان ينتظر بصبر محموم نهاية تلك المسألة التي يظن أنه ساهم فيها، والتي ليس له سلطان على إيقافها. استولى عليه لبضع لحظات شعور إنساني شخصي تغلب على ذلك السراب الذي ضحى من أجله بتضحيات جمة، وعزا إلى نفسه الآلام ورؤية الأموات التي ظهرت له على ساحة المعركة، فذكره رأسه المثقل ورئتاه المتعبتان أنه كالآخرين يمكن أن يتألم وأن يموت. وفي تلك الدقيقة ما عاد يرغب في موسكو ولا في المجد والنصر. أية حاجة به إلى المجد؟! إن كل ما يتمناه الآن إن هو إلا الراحة والهدوء والحرية. مع ذلك، فإنه عندما وقف على مرتفع سيميونوفسكوي، عرض عليه قائد المدفعية إقامة بضع «بطاريات» هناك؛ لدعم النار المسلطة على القوات الروسية المركزة أمام كنياز كوفو، فوافق نابليون وأمر أن يحاط علما بالنتائج الحاصلة. وعلى ذلك فقد جاء مساعد عسكري يعلن أنه تنفيذا لأوامره فقد سدد مائتان من المدافع على الروسيين، ولكن هؤلاء لا زالوا صامدين.
قال المساعد العسكري: «لقد حصدت نارنا صفوفا كاملة، مع ذلك فهم ما زالوا صامدين.»
فقال نابليون بصوته الأجش: «إنهم يريدون زيادة!»
سأله الضابط الذي لم يسمع الجملة تماما: «يا صاحب الجلالة!»
فكرر نابليون بصوته الأبح نفسه: «إنهم يريدون زيادة.»
وأمر وهو يقطب حاجبيه: «أعطوهم ما يطلبون.»
لقد كان ما لم يرده يتحقق دون أمره؛ لذلك فإنه لم يكن يتخذ من تدابير إلا لأنهم - على ما كان يظهر - ينتظرون منه أن يتخذها. ومن جديد استغرق في سراب العظمة، وكمثل الحصان الذي يحرك عجلة دافعة وهو يظن أنه إنما يقوم بعمل مفيد له شخصيا، كذلك هو، عاد يقوم بوداعة بالدور القاسي الأليم الشاق، الدور غير الإنساني الذي نذر له.
لم تكن تلك الساعة وحدها من ذلك اليوم مجال اكفهرار ذهن ذلك الرجل المسئول أكثر من أي سواه عن الأحداث التي وقعت في ذلك العصر وضميره، إنه لم يتوصل حتى نهاية عزه إلى تفهم الخير والجمال والحق، فكانت أعماله معارضة تماما للخير والحق، بعيدة جدا عن كل إحساس إنساني لدرجة لم يكن ممكنا معها أن يدرك مداها. وما كان يستطيع أن يتنكر لمآثر تحمس لها نصف العالم، فكان عليه بالتالي أن يتنكر للحق والخير ولكل شعور إنساني.
لم يكن ذلك اليوم وحده، الذي بعد أن طاف فيه بساحة المعركة المفروشة بالجنود الميتين أو المشوهين - وفقا لإرادته كما كان يظن - راح يحسب فيه - تخمينا - عدد الروسيين بالنسبة إلى الفرنسيين؛ ليخدع نفسه وليجد أسبابا لابتهاجه بزعم أن النسبة خمسة إلى واحد، ولم يكن ذلك اليوم الذي قال فيه كما كتب إلى باريز: «إن ساحة المعركة رائعة»؛ لأنه كان ممددا عليها خمسون ألف جثة، بل إنه في سانت هيلين أيضا في سكون الوحدة، حيث أراد أن يكرس أوقات فراغه لعرض الأمور الكبيرة التي جاء بها، كتب ما يلي:
كانت الحرب الروسية أكثر الحروب قربا إلى الأذهان الشعبية في العصر الحاضر؛ لقد كانت الحرب التي أملتها المصالح الحقيقية والفكر، حرب راحة الجميع وأمنهم؛ لأنها سلمية ومحافظة إلى أقصى حد.
كانت الحرب الروسية في سبيل الغاية الكبرى وإنهاء الحوادث العرضية وبدء الأمان. كان أفق جديد وأمور جليلة جديدة ستظهر مليئة كلها بالهناء وراحة الجميع؛ إذ كان النظام الأوروبي قد أقيم فلم يبق إلا تنظيمه.
وكنت، بعد أن أطمئن إلى هذه النقاط الجليلة وأستقر في كل مكان، سأشكل كذلك مجلسا استشاريا حلفا مقدسا
Sainte-Alliance
1
لي، إن هذه الأفكار سرقوها مني؛ ففي اجتماع الملوك الكبار ذاك كنا سنتحدث عن مصالحنا كأسرة، وسنعالج شئون الشعوب كما تعالج بين المستخدم ورب العمل.
بذلك كانت أوروبا لن تلبث حتى تصبح شعبا واحدا حقا، فيجد كل واحد نفسه وهو في سفره في كل مكان، إنه لا زال في وطنه المشترك. كنت سأجعل الأنهار القابلة للملاحة في خدمة الجميع، وسأقيم وحدة البحار، وسأقضي بأن تقتصر الجيوش الدائمة على حرس الملوك فحسب.
وكنت، فور عودتي إلى فرنسا، قلب الوطن العظيم القوي الرائع الهادئ المجيد، سأذيع حدوده الثابتة، وسأعلن أن كل حرب مقبلة ستكون دفاعية، وكل توسع جديد مضادا لمصالح الأمة، وكنت سأشرك ولدي في الملك، فتنتهي ديكتاتوريتي ويبدأ حكمه الدستوري ...
وكانت باريز ستكون عاصمة العالم، والفرنسيون قبلة أنظار الأمم! ...
وحينئذ، كنت سأكرس أوقات فراغي وأيام شيخوختي للطواف مع الإمبراطورة خلال فترة تمرين ابني على شئون الملك، بنواحي المملكة كزوجين ريفيين حقيقيين على جيادي الخاصة؛ لتلقي الشكاوي وإصلاح الأخطاء وإقامة النصب والأعمال الصالحة في كل مكان.
لقد كان يحاول إقناع نفسه، وهو الذي نذرته القدرة الإلهية لدور جلاد الأمم الأليم العبودي، إن هدفه كان خير الشعوب، وإنه يستطيع ترأس مصير الملايين من المخلوقات وبناء سعادتهم باستبداد!
كتب في مكان آخر حول حملة روسيا يقول:
من الأربعمائة ألف رجل الذين اجتازوا الفيستول، كان نصفهم بين نمساوي وبروسي وسكسوني وبولوني وبافاري وورتمبرجي وميكلمبرجي وإسباني وإيطالي ونابولي. وكان ثلث الجيش الإمبراطوري نفسه مؤلفا من هولنديين وبلجيكيين وجنويين وتسكانيين ورومانيين، ومن سكان المنطقة الثانية والثلاثين العسكرية: بريم وهامبورج و... إلخ ... فلم يكن فيه إلا حوالي مائة وأربعين ألفا من المتكلمين بالفرنسية. ولقد كلفت حملة روسيا فرنسا الحالية أقل من خمسين ألف رجل، ولقد أضاع الجيش الروسي في تقهقره من فيلنا إلى موسكو وفي مختلف المعارك أربعة أضعاف ما خسره الجيش الفرنسي، وخسروا في حريق موسكو حياة مائة ألف رجل ماتوا من البرد والجوع في الغابات، كما أصيب الجيش الروسي أثناء سيره من موسكو إلى الأودر بآفة الفلك، فلم يصلح إلى فيلنا إلا بخمسين ألف رجل لم يبق منهم عند كاليسش إلا أقل من ثمانية عشر ألفا.
كان يتصور إذن أن تلك الحرب لم تنشب إلا بإرادته، مع ذلك، فإن الهول الذي حصل بنتيجة الأمر الواقع لم ينل منه، وكان يتحمل المسئولية الكاملة للأحداث في حين يرى عقله المغشى تبريرا في واقع أن الفرنسيين كانوا في عداد مئات الألوف من الضحايا، أقل عددا بكثير من الهيسيين أو البافاريين.
الفصل التاسع والثلاثون
نتائج المعركة
كذلك، فإن بضع عشرات الآلاف من الرجال في أزياء مختلفة كانوا مبعثرين قتلى في تلك الحقول والمروج التابعة للسادة دافيدوف أو لفلاحي التاج، والتي ظل سكان بورودينو وجوكي وشيفاردينو وسيميونوفسكوي قرونا كاملة يحرثونها ويرعون مواشيهم فيها. وفي المستشفيات على مساحة أكثر من هكتار، كانت أعشاب الأرض مبللة بالدماء، وكانت جماعات من الجنود الجرحى أو الأصحاء يكرون راجعين مروعين، بعضهم إلى موجائيسك والبعض الآخر إلى فالوييفو، في حين استسلمت جماعات أخرى رغم النهك الذي نالها والجوع، إلى أوامر الرؤساء، فاندفعت إلى الأمام. وأخيرا، لبثت جموع منهم صامدة في مكانها مستمرة في إطلاق النار.
وعلى امتداد ساحة المعركة الذي كان رائع الجمال والبهجة حتى ساعات خلت قبل بريق الحراب والدواخن في شمس الصباح، انتشر الآن ضباب رطب، وحلقت رائحة حادة غريبة من ملح البارود والدم. واجتمعت سحب وراح مطر دقيق يقطر على القتلى والجرحى والجنود المنهوكين، وعلى أولئك الذين يفقدون الإيمان في عزيمتهم وكأنه يهتف بهم قائلا: «كفى، كفى أيها التعساء، كفوا، عودوا إلى صوابكم ... ماذا تعملون؟»
وشرع جنود هذا الجيش وذاك وقد ناءوا بالتعب والخور، يتساءلون عما إذا كان عليهم الاستمرار في تقتيل بعضهم البعض، فكان التردد يقرأ واضحا على وجوههم، بل إن كثيرا منهم راحوا يطرحون على أنفسهم السؤال: «لماذا؟ لمن يجب أن أقتل أو أن أقتل؟ اقتلوا من شئتم واعملوا ما شئتم، أما أنا، فقد كفاني!» وحوالي المساء نبتت هذه الفكرة نفسها في كل النفوس، فكان يمكن في كل لحظة أن يستولي الهول على هؤلاء الناس؛ الهول مما يفعلون، فيتركون كل شيء ويلوذون بالفرار تائهين.
مع ذلك، وعلى الرغم من أن كل المقاتلين شعروا عند انتهاء المعركة بخزي سلوكهم وأحسوا بالسرور لتوقفهم، فإن قوة غير مفهومة وغامضة ظلت تحركهم. ظل المدفعيون السابحون بالعرق الملطخ بالدم المسودون بالغبار يحملون - وهم يتعثرون خائري القوى - ذخائر المدافع؛ فيحشونها ويسددونها ويشلون الفتيل بمثل تلك السرعة وتلك القسوة رغم هبوط عددهم بنسبة واحد إلى ثلاثة، فيستمر ذلك العمل المريع على الوقوع، ذلك العمل الذي لا يقوم تبعا لرغبة الإنسان، بل لإرادة ذلك الذي يدير الإنسان والعوالم.
ولو شاهد أي كان مؤخرة الجيش الروسي وما هي عليه من فوضى، لقال إن مجهودا صغيرا من الفرنسيين قادر على إفناء هذا الجيش، ولو شاهد أي كان مؤخرة الجيش الفرنسي لاعتقد أن مجهودا ضعيفا من جانب الروسيين يكفي للقضاء عليه، ولكن الفرنسيين لا الروسيين ما كانوا يبذلون ذلك المجهود، فراح أوار المعركة يخبو تدريجيا.
كان الروسيون ممتنعين؛ لأنهم لم يكونوا هم المهاجمين. لقد اقتصروا في البداية على قطع الطريق إلى موسكو، فظلوا يحتلون موقعهم حتى النهاية . مع ذلك، فإنهم كانوا عاجزين عن إبداء ذلك المجهود الأخير حتى ولو كانت غايتهم هزم الفرنسيين؛ وذلك لأن الفيالق كلها كانت في حالة من الفوضى، ولأنهم اكتووا جميعهم بنار المعركة وأضاعوا - دون أن يبارحوا مراكزهم - نصف عددهم.
أما الفرنسيون الذين تدعمهم ذكرى خمس عشرة سنة من النصر، وإيمانهم بعدم إمكان قهر نابليون، وثقتهم بأنهم سادة جانب من ساحة المعركة، وبأنهم لم يخسروا إلا ربع رجالهم، وأن العشرين ألف رجل الذين يشكلون فرق الحرس لا زالوا سالمين، فإنهم كانوا يستطيعون بذل ذلك المجهود، بل إن واجبهم كان يحتم عليهم بذله؛ لأنهم هاجموا الجيش الروسي بقصد إقصائه عن مواقعه؛ لأنه طالما ظل في أمكنته يقطع عليهم الطريق إلى موسكو، فإن هدفهم لما يبلغ بعد، وكل خسائرهم تصبح دون جدوى. مع ذلك، فإنهم لم يبذلوا ذلك المجهود. يؤكد بعض المؤرخين أن نابليون لو أمر بإنزال الحرس القديم لربحت المعركة. إن مثل هذا الافتراض يشبه البحث فيما كان سيحصل لو أن الخريف أصبح ربيعا فجأة، وإذا لم ينزل نابليون حرسه إلى الميدان فليس مرد ذلك عزوفه عن إنزاله، بل استحالة إشراكه في المعركة؛ لأن الجنرالات والضباط والجنود كانوا يعرفون أن معنويات الجيش لا تسمح بمثل هذا العمل.
لم يكن نابليون وحده الذي لمس برؤية أن ذراعه الرهيبة تسقط الآن عاجزة، بل إن الجنرالات الفرنسيين كلهم - المقاتلين وغير المقاتلين - بعد خبرة المعارك السابقة التي كان العدو خلالها يتراجع أمام هجمات أقل عنفا من هذه بعشرات المرات؛ أحسوا بذعر جماعي إزاء عدو ظل يهددهم بقوة لم تتبدل في نهاية المعركة عن بدايتها، رغم أنه خسر نصف قواته. لقد هبطت معنويات الجيش المهاجم إزاء ذلك. إن الروسيين لم يربحوا في بورودينو أحد تلك الانتصارات التي تقاس بالأرض المكتسحة أو بتلك الخرق من الأقمشة التي تعلق على عصي، والتي يسمونها الأعلام، بل حصلوا على نجاح من ذلك النوع الذي يقنع الخصم بالتفوق المعنوي الذي يقاتل به وبعدم جدوى مجهوداته نفسها، ولقد بات الغازي يشعر أنه ماض إلى حتفه أشبه بالوحش الغاضب الذي أصيب أثناء فراره بالإصابة القاتلة، ولكن دون أن يستطيع التوقف، تماما كما بات الجيش الروسي رغم ضعفه ونسبته واحد إلى اثنين مع جيش العدو، لا يستطيع أن يستسلم. لقد كان الفرنسيون قادرين بفعل السرعة المكتسبة على بلوغ موسكو، لكنهم هناك، دون أن يقوم الروسيون بتضحيات جديدة، كانوا سينفقون بتأثير الإصابة القاتلة التي أصيبوا بها في بورودينو. ولقد كان لهذه المعركة من نتائج مباشرة أن هجر نابليون موسكو فجأة وتقهقر عن طريق سمولنسك القديم، وأضاع جيشا قوامه خمسمائة ألف رجل، وهدم فرنسا النابليونية التي هبطت عليها لأول مرة في بورودينو ذراع خصم موهوب بقوة معنوية متفوقة.
الجزء الثالث
باركلي دوتوللي.
الفصل الأول
في قوانين التاريخ
إن الدوام المطلق للحركة أمر غامض على العقل البشري، والإنسان لا يدرك قوانين أية حركة ما إلا إذا عاين وحدات مقطعة بتحكم، ولكن من ذلك التقسيم التحكمي للحركة الدائمة يخلق مع ذلك الجزء الأكبر من الأخطاء الإنسانية.
إن كل إنسان يعرف مذهب السفسطة (انعدام الحركة) عند الأقدمين، الذي بموجبه لا يمكن «لآشيل» أن يلحق بالسلحفاة التي تسير أمامه، رغم أن اندفاعه يزيد عشرة أضعاف عن اندفاعها؛ لأن آشيل عندما يفرغ من اجتياز المسافة التي تفصله عن السلحفاة، تكون هذه قد اجتازت عشر هذه المسافة في سبقها له. وبينما آشيل يتجاوز هذا العشر تكون هي قد تجاوزته بواحد على مائة، وهكذا حتى اللانهاية. لقد كانت هذه المسألة تبدو في القديم متعذرة الحل. إن استحالة النتيجة (آشيل لن يلحق قط بالسلحفاة) ناجمة فقط عن واقع أنهم يأخذون تحكما وحدات متقطعة للحركة في أن حركة آشيل دائمة كحركة السلحفاة تماما.
فلو أخذنا وحدات للحركة صغيرة أكثر فأكثر، فإننا نصل فقط إلى الاقتراب من الحل، لكننا لا نبلغه قط. إننا لا نبلغ حل المسألة إلا إذا تقبلنا عددا لا نهائي الصفر ونموه التصاعدي حتى العشرة، ثم أن نحصي مجموع هذا التصاعد الهندسي. إن فرع الرياضيات الجديد الذي اكتشف فن الحساب في الكمية الصغرى يعطينا اليوم أجوبة على مسائل اعتبرت ممتنعة الحل حتى في المسائل الأكثر تعقيدا في علم الحركة.
إن هذا الفرع الجديد في الرياضيات - المجهول عند الأقدمين - بإدخاله المتناهيات في الصفر في دراسة علم الحركة، أعاد الشرط الأساسي للحركة، وأعني دوامها المطلق، وقوم بذلك الخطأ الذي لا بد منه، الذي يقول إن الذكاء لا يمكنه ألا يخطئ عندما يستبدل حركة دائمة بوحدات متقطعة من الحركة.
ففي البحث عن قوانين التاريخ، لا يختلف الحال في شيء.
إن سير الإنسانية المحدود بسلسلة لا تحصى من الإرادات الشخصية عبارة عن حركة دائمة، ومعرفة قوانينه هي غاية التاريخ. ولكن لإقامة قوانين هذه الحركة الدائمة، مجموعة كل الإرادات البشرية، يتقبل العقل تحكما وحدات متقطعة. وأسلوب التاريخ الأول هو الانتخاب تحكما، سلسلة من الأحداث الدائمة وفحصها مستقلة عن السلاسل الأخرى، في حين أنه لم يكن ولا يمكن أن يكون لأي حدث بداية، بل إن واقعة معينة تنشأ عن واقعة أخرى دون انقطاع. والأسلوب الثاني قائم على فحص أفعال رجل واحد - قيصر أو رئيس جيش - بوصفه مجموع إرادات الجميع، في حين أن ذلك المجموع لا يعبر عن نفسه قط بنشاط وشخصية تاريخية لوحدها.
إن علم التاريخ في تطوره يخضع لدراسته وحدات صغيرة أكثر فأكثر، وبهذه الوسيلة يحاول أن يقترب من الحقيقة، ولكن مهما بلغت هذه الوحدات من الصغر، فإننا نشعر بأن تقبل وحدات مستقلة بعضها عن بعض إن هو إلا تقبل «بداية» لظاهرة ما، تقبل أن إرادات الجميع تجد لها معبرا في أفعال شخصية تاريخية واحدة، الأمر الذي نؤكد نحن أنه باطل في نفسه.
إن كل استنتاج تاريخي دون أي مجهود من الناقد يتحلل من تلقاء نفسه دون أن يخلف شيئا وراءه لمجرد أن ذلك الناقد ينتقي كموضوع لدراسته وحدة مستقلة كبيرة أو صغيرة ، وله الحق دائما في أن ينهار؛ نظرا إلى أن هذه الوحدة التاريخية المنتقاة تحكمية أبدا.
إننا لا نستطيع أن نطمع في بلوغ قوانين التاريخ إلا إذا عرضنا لفحصنا وحدة بالغة الصغر، تفاضلية التاريخ؛ أي التيارات الإنسانية المتجانسة، وتحكمنا في فن دمجها؛ أي في إحصاء مجموع الوحدات الصغرى.
إن السنوات الخمس عشرة الأولى من القرن التاسع عشر تعطي مشهدا خارقا لحركة ملايين من الرجال تركوا مشاغلهم المألوفة واندفعوا من جانب أوروبا إلى جانبها الآخر ينهبون ويقتتلون منتصرين أو يائسين. إن سير الحياة كله يتبدل في بضع سنوات تحمله حركة متجبرة تبدأ في النشاط ثم تبطئ. فما هو سبب هذه الحركة؟ أو على الأقل ما هي قوانينها؟ هذا ما يتساءله العقل البشري.
يجيب المؤرخون على هذا السؤال عارضين علينا وقائع وحركات بضع عشرات من الرجال في واحد من أبنية باريز، مطلقين على هذه الوقائع والحركات اسم «الثورة»، ثم يعطون ترجمة مفصلة عن حياة نابليون وبعض الأشخاص من أتباعه وخصومه، ويروون أثر بعض من هؤلاء الأشخاص، ويضيفون قائلين: هذا هو منشأ الحركة، وهذه هي قوانينها.
لكن العقل البشري لا يرفض فقط الاقتناع بهذا التفسير، بل يعلن كذلك بكل صراحة أن الأسلوب في التفسير خاطئ؛ لأن الظاهرة الأضعف معتبرة فيه السبب الأقوى. إن مجموع الإرادات البشرية الذي هو خلق الثورة ونابليون، وهو الذي أفناهما بعد أن احتملهما وقتا طويلا.
ويقول التاريخ: «مع ذلك، فإنه كلما كانت هناك فتوحات كان هناك فاتحون، وكلما وقعت انقلابات في دولة جاء معها رجال عظام.» فيجيب العقل البشري: صحيح أنه كلما ظهر فاتحون وقعت حروب، لكن هذا لا يبرهن على أن الفاتحين هم أسباب الحروب، ولا على أنه يمكن اكتشاف قوانين حرب ما في النشاط الشخصي لشخص واحد. إنني كلما أنظر إلى ساعتي أرى العقرب على الرقم 10، فأسمع الأجراس تقرع من الكنيسة المجاورة، ولكن من هذه الواقعة، واقعة أنه كلما بلغت الساعة العاشرة بدأت الأجراس تقرع، ليس من حقي أن أستنتج أن وضعية العقرب هي سبب قرع الأجراس.
إنني كلما أرى قاطرة تتحرك وأسمع صفيرها وأرى الصمام يفتح والعجلات تدور لا يحق لي أن أقرر أن الصفارة وحركة العجلات هما سبب سير القاطرة.
يقول القرويون إن ريحا باردة تبدأ في الهبوب حوالي نهاية الربيع؛ لأن براعم شجر البلوط تتفتح. وفي الواقع إن ريحا باردة تهب كل ربيع عندما تتفتح براعم البلوط. ولكن مهما كان سبب هبوب هذه الريح في تلك الفينة مجهولا مني، فإنني لا أستطيع أن أقول مع القرويين إن هذا السبب هو تفتح البراعم؛ لأن قوة هذه الريح لا تتأثر بتلك البراعم. إنني لا أرى إلا توافق الشروط التي تلتقي في كل ظاهرة من ظواهر الحياة، وأرى أنني مهما استغرقت في مراقبة عقارب ساعتي بكل دقة، وصمام القاطرة وعجلاتها، وكذلك براعم شجرة البلوط، فإنني لن أكتشف قط سبب قرع الأجراس وحركة القاطرة والريح الربيعية، ولكي أصل إلى معرفة السبب يجب أن أبدل كليا نقطة ملاحظتي، فأدرس قوانين الحركة والبخار والجرس والريح، وهذه هي عينها المهمة التي تتوجب على التاريخ، ولقد حاول التاريخ الاضطلاع بها.
لكي نجد قوانين التاريخ يجب علينا أن نبدل تماما عرض فحصنا، وأن نترك جانبا الملوك والوزراء والجنرالات لندقق في الحركات المتجانسة المتناهية في الصغر التي تحرك الجماعات. ما من أحد يمكنه أن يقول في أي ظرف يتاح للإنسان أن يبلغ عن هذا الطريق مبلغ إدراك قوانين التاريخ، لكن من البديهي أن هذا هو الطريق الوحيد الذي يعطي إمكانية إدراكها، وأن العقل البشري لم يصرف بعد جزءا من مليون جزء مما صرفه المؤرخون أنفسهم، سواء في وصف حركات الملوك المختلفين والجنرالات والوزراء، أو في عرض آرائهم حول تلك الأفعال.
الفصل الثاني
المغيب
انكفأت قوات اثني عشر شعبا أوروبيا ضد روسيا، وراح الجيش والشعب الروسيان يتقهقران متحاشيين الاصطدام في بدء الأمر حتى سمولنسك، ثم حتى بورودينو. ومضى الجيش الفرنسي نحو موسكو، غاية تقدمه، بقوة اندفاع آخذة في الازدياد. ولقد عظمت هذه القوة عند اقترابها من غايتها كما تتعاظم سرعة جسم ساقط كلما اقترب من الأرض . باتت ألوف الفراسخ من بلد جائع معاد وراءها، وبضعة عشر من الفراسخ أمامها قبل الهدف. هذا ما كان يفكر فيه كل جندي من الجيش النابليوني، وبذلك اندفع الاجتياح إلى الأمام بقوة دافعة موحدة.
وفي الجيش الروسي كلما أمعنوا في التقهقر زادت نار الحقد على العدو أوارا. إنها تتركز وتكبر بسبب التقهقر، ولقد وقع الاصطدام الأخير في بورودينو، فلم يفن واحد من الجيشين، لكن الجيش الروسي بعد الاصطدام مباشرة تراجع إلى الوراء بالقدر الذي يستلزمه انكفاء كرة إلى الوراء بعد أن تصطدم بكرة أخرى تحركه قوة أعظم بأسا، في حين أن الكرة الغازية رغم فقدانها كل قوتها في الاصطدام، لا بد لزوما وأن تدرج إلى مسافة ما بعد أن تستعيد قوة اندفاعها.
انسحب الروسيون إلى مائة وعشرين فرسخا وراء موسكو، وبلغ الفرنسيون موسكو وتوقفوا فيها، ولم يقع أي قتال خلال الأسابيع الخمسة التي تلت ذلك. فالفرنسيون لا يتحركون أشبه بالوحش الذي جرح جرحا قاتلا فراح يلعق جراحه رغم أنه فقد كل دمائه. ظلوا خمسة أسابيع في موسكو دون أي عمل، ثم - ودون أي سبب جديد - فروا فجأة. لقد اندفعوا في طريق كالوجا، وظلوا في فرارهم رغم انتصارهم - لأنهم ما زالوا سادة ساحة المعركة في مالور أياروسلافيتز في قطاع كالوجا على بعد مائة وعشرين فرسخا من موسكو - دون أن يدخلوا في معركة جديدة. استمروا في فرارهم بسرعة متزايدة باتجاه سمولنسك، ثم إلى ما وراء سمولنسك، وإلى ما وراء فيلنا، وإلى ما وراء بيريزينا، وهم لا ينوا يبتعدون.
في مساء السادس والعشرين من آب، اقتنع كوتوزوف ومعه الجيش الروسي كله، بأنهم ربحوا معركة بورودينو. ولقد كتب كوتوزوف الخبر بكل وضوح إلى الإمبراطور، وعمم الأمر بالاستعداد لصراع جديد لتوجيه الضربة القاضية إلى العدو وليس بقصد خداع أي كان، بل لأنه بات يعرف ككل واحد من المحاربين أن العدو قد هزم.
لكن ذلك المساء وفي اليوم التالي، بدأت التقارير المعلنة عن خسائر هائلة تترى - ضياع نصف الجيش - لدرجة بدت معها استحالة الالتحام في معركة جديدة من الناحية المادية.
كان يستحيل الاشتباك في معركة قبل أن يعاد وضع ميزانية الموقف، وأن يرفع الجرحى وتستكمل الذخائر ويحصى عدد القتلى ويعين الرؤساء الجدد مكان الذين قتلوا منهم، وقبل أن يأكل الجنود وأن يناموا بقدر حاجتهم. وفي تلك الأثناء والمعركة لما تكد تنتهي، شرع الجيش الفرنسي منذ الصباح يهتز من تلقاء نفسه ضد الجيش الروسي (بفعل قوة الاندفاع هذه التي تزداد عكسيا بمعدل مربع المسافة)، وكان كوتوزوف يريد أن يهاجم غداة اليوم التالي كما كان جيشه كله يريد، ولكن الرغبة في الهجوم وحدها لا تكفي؛ إذ يجب أن تتوفر استطاعة العمل، وهذه الاستطاعة لم تكن موجودة، فكان من المستحيل ألا يتراجع الروسيون مرحلة واحدة في أول الأمر ثم مرحلة ثانية إجبارية ثم ثالثة. وأخيرا، في الأول من أيلول، عندما بلغ الجيش موسكو، أرغمته قوة الأمور على التراجع بعيدا رغم الحماس العنيف الذي كان يعتلج في النفوس، فتراجع الجيش مرحلة جديدة هي الأخيرة، مخلفا موسكو للعدو.
هناك أسئلة لا بد من أن يطرحها أولئك الذين من عادتهم الاعتقاد بأن رؤساء الجيش يضعون خطط الحروب والمعارك بنفس الطريقة التي يعتمد عليها كل واحد منا وهو جالس في مكتبه أمام خريطة؛ ليرسم التدابير التي كان سيتخذها هو في هذه أو تلك من المعارك. لماذا لم يفعل كوتوزوف في تقهقره كذا وكذا؟ لماذا لم يتحصن أمام فيلي؟ لماذا لم يتراجع دفعة واحدة على طريق كالوجا بعد أن سلم موسكو؟ ... إلخ ... إلخ؟ إن الأشخاص الذين يألفون مثل هذه الأفكار ينسون الشروط التي لا يمكن دفعها، والتي يدور فيها نشاط جنرال قائد أعلى أو يتجاهلون تلك الشروط، إن ذلك النشاط لا ارتباط بينه وبين ذاك الذي نتخيله ونحن جالسين بهدوء في مكتب عندما ندرس حملة على خريطة بعدد معلوم من الجنود في الجانبين، على أرض معروفة، جاعلين مداركنا الاستراتيجية تبدأ في لحظة محدودة. إن قائدا أعلى لا يجد نفسه قط في ظروف «البداية» التي نرى نحن أو يرى أصحاب النظريات أنفسهم فيها عند فحص حادث ما، إنه يجد نفسه دائما وسط سلسلة متحركة من الظروف، لدرجة أنه لا يجد نفسه لحظة واحدة في حالة تمكنه من الإحاطة بكل الأحداث الدائرة دفعة واحدة. إن الحدث يقع ثم يتبلور معناه تدريجيا، وفي كل لحظة من لحظات التطور هذه التي تجعل الحدث يبرز للعيان، يكون القائد الأعلى وسط سلسلة معقدة من الدسائس والمشاغل وحق الاستخدام والأوامر المتسلطة والمشاريع والمجالس والتهديدات والخدع، ويكون كذلك مرغما بصورة دائمة على الإجابة على عدد لا يحصى من الأسئلة المعاكسة دائما.
إطلاق النار على سمولنسك.
إن خبراء عسكريين يقولون لنا بجد لا يتزعزع إنه كان على كوتوزوف أن يتراجع قبل «فيلي» على طريق كالوجا كما أشير عليه أن يفعل، لكن قائدا أعلى، في اللحظات الحرجة بصورة خاصة، لا يكون نصب عينيه مشروع واحد فحسب، بل عشرات المشاريع، وكل مشروع من هذه المشاريع، رغم حسن ارتكازه على الناحيتين الاستراتيجية والحركية، يكون منافيا للمشاريع الأخرى. ويبدو أن القائد الأعلى ليس عليه إلا أن ينتقي واحدا منها في حين أن هذا نفسه يستحيل عليه؛ لأن الأحداث والوقت لا تنتظر. لنفرض أنهم اقترحوا على كوتوزوف في الثامن والعشرين أن يسير على طريق كالوجا العام، وأن مساعدا عسكريا لميلوداروفيتش جاء في تلك اللحظة بالذات يسأل عما إذا كان يجب الالتحام فورا في اشتباك مع الفرنسيين أم التراجع. فإن على كوتوزوف أن يعطي أوامره في اللحظة نفسها، فإذا أمر بالتراجع فإنه يتحتم عليه إجراء توريب لبلوغ طريق كالوجا، ولا يكاد المساعد يخرج حتى يأتي ضابط التموين ليسأل عن الجهة التي يجب أن تسير الأرزاق فيها، قائد المستشفيات يسأل عن المكان الذي سيحمل الجرحى إليه، ثم يأتي ساع من بيترسبورج يحمل رسالة من الإمبراطور الذي لا يرضى بالجلاء عن موسكو، ثم يأتي خصم القائد الأعلى، ذلك الذي يعمل جاهدا لكي ينال من تصرفاته - ويوجد دائما من أمثال هؤلاء عدد كبير وليس مجرد واحد فحسب - فيعرض مشروعا جديدا متعارضا كل التعارض مع خطة التراجع عن طريق كالوجا. وفي تلك الأثناء، بينما يشعر القائد العام بأن قواه تتطلب الراحة والنوم، يأتي جنرال محترم فيشكو من نتائج استثناء غير قانوني منح لبعضهم، وبعده يدخل مدنيون ملتمسين الحماية، ثم ضابط أرسل مستطلعا فجاء بمعلومات تناقض كل التناقض ما جاء به زميل قبله . وأخيرا جاء دور جاسوس وسجين حرب، ثم الجنرال الذي ذهب يتفقد المواقع؛ وكلهم يصفون مواقع العدو على طريقتهم. والأشخاص الذين لا يتمثلون الشروط التي يتوجب على القائد العام أن يعمل فيها، يصورون لنا مثلا وضع الجيش أمام فيلي، ويفترضون أن كوتوزوف كان يستطيع في ذلك الوضع في اليوم الأول أن يحسم بكل حرية مسألة الدفاع عن موسكو أو التخلي عنها، في حين أن تلك المسألة على العكس لا يمكن أن تطرح والجيش على بعد خمس مراحل عن المدينة. فمتى إذن حلت هذه المسألة؟ لقد حلت في دريسا وسمولنسك، وأخيرا ونهائيا في الرابع والعشرين من الشهر في شيفاردينو، ثم في السادس والعشرين في بورودينو، ومنذ ذلك الحين، ومن يوم إلى آخر، ومن ساعة إلى أخرى، ودقيقة إلى دقيقة، طيلة التقهقر من بورودينو إلى فيلي.
الفصل الثالث
حالة كوتوزوف
عندما جاء إيرمولوف الذي أرسله كوتوزوف مستطلعا، يقول للقائد الأعلى إنه لا يمكن الالتحام في معركة على مشارف موسكو، وأنه يجب الاستمرار في التراجع؛ نظر إليه كوتوزوف في صمت. قال له: «أعطني يدك.»
وبعد أن أدار تلك اليد بطريقة مكنته من حبس النبض، أضاف قائلا: «إنك مريض يا صديقي. فكر فيما تقول.»
ما كان كوتوزوف حتى تلك اللحظة يستوعب بعد إمكانية التراجع إلى ما وراء موسكو دون قتال.
على مرتفع باكلونايا على بعد ست مراحل من حدود دوروجوميلوف، نزل من عربته وجلس على مقعد على جانب الطريق، فدار به رهط كبير من الجنرالات، انضم إليهم الكونت روستوبتشين الذي وصل قبل قليل من موسكو، وراح هذا الجمع من الأشخاص اللامعين المنقسمين إلى جماعات صغيرة يناقشون محاسن الموقف ومساوئه وحالة الجيش والمخططات المقترحة والحالة المعنوية في موسكو، وعددا آخر من المواضيع ذات الطابع العسكري. وكان كل منهم يشعر دون أن يستدعيه أحد ودون أن يطلق على هذا الجمع اسم لجنة استشارية، أنه إنما يساهم في مجلس عسكري، كما كانت الأحاديث في كل جماعة تدور حول الاعتبارات العامة.
كانوا يتناقلون بصوت خافت أنباء شخصية، ثم يعودون لفورهم إلى الموضوعات ذات الطابع العام. لم يكن أحد من الموجودين ليسمح بدعابة! بضحكة أو حتى بابتسامة. لقد كانوا جميعهم ولا ريب يحاولون الظهور بمظهر يتساوى مع خطورة الأحداث. وكانت كل جماعة تسعى وهي تتبادل الأحاديث ألا تبتعد عن العام الذي كان مقعده مركز الجاذبية بالنسبة إليهم، وأن تصل أحاديثها إلى أسماع كوتوزوف. وكان كوتوزوف يصغي وأحيانا يستعلم عما يدور من حديث، ولكن دون أن يساهم في الحديث أو أن يتقدم برأي. وكان في معظم الوقت يشيح بوجهه متبرما بعد أن يصيخ السمع إلى حديث جماعة ما، وكأنه سمع شيئا يختلف كل الاختلاف عما كان يرغب في معرفته، وكان البعض - خلال النقاش حول الموقع المختار - ينتقدون الموقع نفسه أقل من انتقادهم أهلية الأشخاص الذين قبلوا به، ويزعم البعض الآخر أن الخطيئة آتية من وقت مضى، وأنه كان يجب خوض المعركة قبل أول أمس، في حين تتحدث جماعة ثالثة عن معركة سالامانك التي جاء يصفها قادم جديد، فرنسي اسمه كروسار يرتدي زيا إسبانيا، وكان كروسار هذا يدرس حصار ساراجوس مع أمير ألماني عامل في الجيش الروسي بغية اللجوء إلى دفاع مماثل عن موسكو. وفي جماعة رابعة، كان الكونت روستوبتشين يعلن عن استعداده للموت مع المتطوعين الموسكوفيين تحت جدران المدينة، لكنه مع ذلك لا يستطيع إلا أن يشكو من التجاهل الذي أظهروه حياله؛ لأنه لو علم إلى أين بلغت الأمور، لسار كل شيء سيرا مختلفا ... وكان فريق خامس يظهر عمق مداركه الاستراتيجية ويعين الاتجاه الذي كان على القطعات أن تسير فيه، وسادس يتكلم دون أن يقول شيئا، في حين كان كوتوزوف يتخذ طابعا آخذا في الكآبة والتشاغل. ما كان يرى في هذه الأحاديث غير شيء واحد: أن الدفاع عن موسكو مستحيل عمليا، وذلك بكل ما لهذه العبارة من معنى، وأن الاستحالة كانت تبلغ درجة لو وجدوا معها قائدا أعلى مجنونا يأمر بالقتال، لنجم عن ذلك هزيمة دون معركة؛ لذلك فإن أية معركة ما كان يمكن أن تدور طالما أن القيادة العليا لم تكن تقدر أن الموقف متعذر الدعم فحسب، بل لا تفكر كذلك إلا فيما يعقب التخلي الإلزامي عنه. فكيف كان يمكن لهؤلاء القادة أن يقودوا جنودهم على ساحة معركة اعترف بأنها غير قابلة للدعم؟ إن الأتباع، بل والجنود الذين هم حكام كذلك، يعترفون بذلك؛ وبالتالي فإنهم لا يستطيعون الذهاب إلى معركة وهم على يقين بوقوع كارثة. ولو أن بينيجسن كان ينصب من نفسه مدافعا عن هذا الموقع، أو أن آخرين استمروا على مناقشته، فإن ذلك لم يعد له أية أهمية، إن لم يعد إلا حجة للنقاش والدس، وكان كوتوزوف مدركا ذلك تمام الإدراك.
كان بينيجسن الذي انتخب الموقع، يجأر في إظهار وطنيته الروسية، فلم يكن كوتوزوف قادرا على الإصغاء إليه دون أن يقطب حاجبيه. وإذن، كان بينيجسن يصر على أن يصار إلى الدفاع عن موسكو، فكان كوتوزوف يرى خدعته كما يرى النور: سوف يتحمل كوتوزوف تبعة الإخفاق في حال الإخفاق؛ لأنه تقهقر بالجيش دون أن يدخل في معركة جدية حتى بلغ به «مون دي موانو» (جبل العصافير). وفي حال انتصار الروسيين، فإن بينيجسن سيعزو لنفسه شرف النصر، بل إنهم حتى إذا رفضوا الإصغاء إليه، فإنه على الأقل قد غسل يديه من جريمة تسليم موسكو، لكن هذه الدسائس كلها ما كانت في تلك اللحظات لتشغل بال الكهل أكثر من غيرها. لقد كانت مسألة واحدة رهيبة تشغله، وما كان هناك من يقدم إليه حلها. أما المسألة فهي: «هل يمكن أن أكون أنا الذي جعلت نابليون يبلغ موسكو؟ ومتى فعلت هذا؟ متى تقرر هذا؟ هل كان البارحة عندما أرسلت الأمر إلى بلاتوف بالتراجع؟ أم أول أمس عندما كنت نصف نائم فتركت بينيجسن يضطلع بأعباء القيادة؟ أم ترى وقع ذلك قبل هذه الأوقات؟ ... ولكن متى؟ متى تقرر أمر على مثل هذا الهول؟ يجب ترك موسكو، يجب أن يتقهقر الجيش، ويجب أن أصدر الأمر.» وكان إصدار هذا الأمر البشع يعادل في نظره تقديم استقالته من القيادة العامة. وهو لم يكن يحب السلطة التي ألفها فحسب - إذ إن الالتفاتات التي لقيها الأمير بروزوروفسكي الذي كان ملحقا به في تركيا جرحت كرامته - بل إنه كان مقتنعا بأنه هو المنذور لتخليص روسيا واجدا الدليل على ذلك في واقع أنه يدين بلقبه كقائد عام إلى رغبة الشعب ضد رغبة الإمبراطور. كان قانعا بأنه وحده في تلك الظروف العصيبة قادر على البقاء على رأس الجيش، وأنه الوحيد في العالم الذي يستطيع مجابهة خصم لا يقهر مثل نابليون دون أن يروع؛ لذلك فقد كان يرتعد هولا من مجرد التفكير في الأمر الذي سيصدره، ولكن كان يجب أن يتخذ قرارا حاسما، وأن يضع حدا لهذه المناقشات التي بدأت تتخذ حوله طابعا متماديا في التحرر.
أمر باقتراب أرفع الجنرالات رتبة، وقال وهو ينهض عن مقعده: «سواء أكان رأسي جيدا أم رديئا، فإن عليه أن يعين نفسه بنفسه.» واتجه نحو فيلي؛ حيث كانت عربته في انتظاره.
الفصل الرابع
المجلس العسكري
اجتمع المجلس العسكري في الساعة الثانية في كوخ القروي آندريه سافوستيانوف - ولقد ظل «كوخ كوتوزوف» قائما حتى عام 1917م - الرحيب المريح، وراح الرجال والنساء والأطفال وكل أعضاء هذه الأسرة الهامة مجتمعين في «السقيفة» في الجانب الآخر من الدهليز، فلم يبق في الغرفة إلا مالاشا حفيدة الفلاح آندريه البالغة من العمر ستة أعوام؛ إذ آنسها عظيم الرفعة بإعطائها قطعة سكر بينما كان يشرب شايه، فجثمت فوق موقد الحجرة الكبيرة وكانت الصغيرة تتأمل - جزعة سعيدة - الوجوه من أعلى والألبسة والأوسمة التي على صدور الجنرالات الذين راحوا يدخلون الواحد أثر الآخر، ويجلسون على مقاعد عريضة في الركن الجميل - ركن الأيقونات إلى يمين المدخل - تحت الصورة المقدسة. وجلس الجد، كما راحت مالاشا تسمي كوتوزوف في سرها منفردا في الزاوية المعتمة قرب الموقد. لقد تهاوى بتثاقل على مقعده القابل للثني، ولم يكف عن الزفير وهو يسوي ياقة بزته التي ظلت تضايق عنقه رغم أنه حل أزرارها. وكان الداخلون يتقدمون لتحيته، فكان يشد على أيدي بعضهم ويومئ برأسه إلى البعض الآخر. وكانت قبالة كوتوزوف نافذة أراد مساعده العسكري كائيساروف أن يجذب سترها فندت عن كوتوزوف حركة تدل على التبرم، أدرك كائيساروف منها أن عظيم الرفعة لا يريد أن يضيء النور وجهه.
وحول الطاولة الخشنة المصنوعة من خشب الصنوبر التي انتشرت فوقها الخرائط والمخططات والأقلام والورق، دار عدد كبير من الأشخاص، حتى إن التابعين جاءوا بمقعد آخر جلس عليه آخر الداخلين: إيرمولوف، كائيساروف وتول. وتحت الصور المقدسة، في مكان الشرف، جلس باركلي دوتوللي وصليب القديس جورج يتدلى من عنقه. كان ممتقع الوجه يزيد جبين عريض في إطالة صلعته، تعذبه الحمى منذ يومين اثنين، يشعر في تلك الأثناء أيضا بالارتعاش والانكماش. وكان أوفاروف الجالس إلى جانبه يروي له بحركات عنيفة شيئا ما بصوت خافت، أسوة بكل المتحدثين الذين كانوا يتكلمون بخفوت. أما دوختوروف، وهو رجل قصير القامة سمين، فقد كان يصغي بانتباه وهو يرفع حاجبيه مستبقيا يديه متقاطعتين فوق بطنه. ومن الجانب الآخر جلس الكونت أوسترمان- تولستوي، وقد اتكأ على الطاولة وأسند رأسه الضخم ذا التقاطيع النشيطة والعينين البراقتين إلى يده كأنه مستغرق في أفكاره، وكان راييفسكي يصرف نفاد صبره بفتل خصلة من شعره الأسود العكف على صدغه بحركة مألوفة، وبالنظر إلى كوتوزوف تارة وإلى باب الدخول تارة أخرى. وكان وجه كونوفيتشين الجميل الحازم يضيء بابتسامة حانية ماكرة، لقد التقت نظرته بنظرة مالاشا، فغمز لها بعينه، الأمر الذي جعل الصغيرة تضحك.
كانوا جميعا ينتظرون بينيجسن الذي كان متأخرا في طعامه الشهي بحجة إعادة فحص الموقع من جديد، وظلوا ينتظرون من الساعة الرابعة حتى السادسة دون أن يفتحوا باب النقاش، فراح كل من جانبه يدور في أحاديث خاصة بصوت خافت خلال ذلك الوقت.
لم يتحرك كوتوزوف من ركنه ليقترب من المائدة إلا عندما دخل بينيجسن، لكنه اقترب بشكل لم يسمح للشموع الموقدة أن تضيء وجهه.
فتح بينيجسن الجلسة بالسؤال التالي: «هل ستترك عاصمة روسيا العريقة المقدسة دون قتال؟ أم هل سيدافع عنها؟» وأعقب السؤال صمت عميق. أصبحت الوجوه كلها مكتئبة، وسمع كوتوزوف يسعل وهو يغمغم بين أسنانه، فشخصت العيون كلها إليه، ونظرت مالاشا بدورها إلى «الجد». لقد كانت أقرب إليه من كل الآخرين، فرأت وجهه يتقلص وكأنه على وشك البكاء، لكن ذلك لم يدم أكثر من لحظة، وفجأة هتف بغضب كلمات بينيجسن وهو يبرز النغمة الزائفة: «عاصمة روسيا العريقة المقدسة! اسمح لي أن أقول لك يا صاحب السعادة إن هذا السؤال ليس له أي معنى بالنسبة إلى روسي (وأحنى جسمه الضخم إلى الأمام)، لا جدوى من طرح هذا السؤال؛ لأنه محروم من كل المعاني. إن المسألة التي رجوت هؤلاء السادة أن يجتمعوا من أجلها مسألة عسكرية، هي التالية: «إن خلاص روسيا في جيشها، فهل من الأفضل المغامرة بإضاعة الجيش بما في ذلك خسارة موسكو بالتحام في معركة؟ أم أن تسلم موسكو دون قتال؟» هذا هو ما أريد أن أحصل على رأيكم بصدده.»
وعاد يلقي بظهره إلى مسند مقعده.
ودار النقاش. لم يعتقد بينيجسن أنه خسر معركته؛ لذلك فقد راح يؤيد رأي باركلي وآخرين حول استحالة الالتحام في معركة دفاعية في فيلي، ويعرض - وهو الذي يملأ حب موسكو الوطني قلبه كما كان يزعم - أن تمرر خلال الميل قطعات الجناح الأيمن إلى الجناح الأيسر، وأن يهاجم بها غداة اليوم التالي الجناح الأيمن الفرنسي. وانقسمت الآراء وراحوا يناقشون ما لها وما عليها. انحاز إيرمولوف ودوختوروف وراييفسكي إلى جانب رأي بينيجسن. فهل ترى كانوا مدفوعين بعاطفة وجوب تقديم تضحية لا مرد لها قبل ترك المدينة؟ أم كانوا يخضعون لاعتبارات شخصية؟ مهما كان الأمر، فإن هؤلاء السادة بدوا وكأنهم غير مدركين أن مجلسا عسكريا لا يمكنه أن يغير سير الأمور الذي لا بد منه، وأن موسكو قد سلمت بالفعل. أما الجنرالات الآخرون، فقد كانوا مدركين ذلك، فتركوا جانبا قضية تسليم موسكو، وراحوا يتناقشون حول الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه الجيوش . أما مالاشا التي تنظر بعينين جاحظتين إلى كل ما يحدث أمامها، فقد فهمت معنى المجلس العسكري على لون آخر؛ خيل إليها أنها عبارة فقط عن صراع شخصي بين «الجد» و«ذي الذيول الطويلة» كما سمت بينيجسن. كانت تراهما يغضبان عندما يتحدثان، فكانت في أعماق قلبها الصغير تنحاز إلى صف الجد. وفي وسط النقاش لاحظت النظرة السريعة الماكرة التي ألقاها كوتوزوف على بينيجسن، فلم تلبث أن أدركت - لعظيم بهجتها - أن الجد قد قال شيئا لذي الذيول الطويلة فأسقطه، وراح بينيجسن الذي تضرج وجهه فجأة يذرع الحجرة جيئة وذهابا. كانت الكلمات التي أحدثت فيه هذا الأثر القوي هي التي استعملها كوتوزوف، بصوت هادئ ساكن، ليعبر عن رأيه في الميزات والأخطار التي يقدمها مشروع بينيجسن حول تحرير الجناح الأيسر إلى الجناح الأيمن خلال الليل بغية مهاجمة الجناح الأيمن الفرنسي. قال كوتوزوف: «أيها السادة، إنني لا أستطيع إقرار خطة الكونت؛ لأن حركات الجنود على مقربة من العدو خطيرة دائما، والتاريخ العسكري يؤيد هذا الرأي؛ فعلى سبيل المثال ... (واتخذ كوتوزوف أمارات التفكير ليبحث عن جملته وهو يلقي نظرة ساذجة وواضحة على بينيجسن) فمثلا معركة فردلاند التي آمل أن يكون سيدي الكونت قوي التذكر لها ... إنها لم تنجح كل النجاح؛ لأن قواتنا تجمعت على مقربة من العدو ...»
ولقد بدا الصمت الذي أعقب هذا الكلام خلال دقيقة واحدة، طويلا جدا في نظر الجميع.
وعادت المناقشة تقاطع بكثرة بفترات صمت؛ إذ كان كل من الموجودين يشعر بأنه لا يجد ما يضيفه إلى أقواله.
تنهد كوتوزوف تنهدة عميقة خلال إحدى تلك الفترات وكأنه يستعد للكلام، فاستدارت العيون كلها إليه. قال: «حسنا أيها السادة! إنني أرى أنني وحدي من سيدفع الغرم.»
ثم نهض بجهد واقترب من المائدة: «أيها السادة، لقد أصغيت إلى آرائكم. إن بعضكم على غير وفاق معي - وتريث برهة - ولكن أنا، استنادا إلى السلطة التي منحت إلي من قبل مليكي ووطني، أنا، آمر بالانسحاب.»
لم يلبث الجنرالات بعد ذلك أن تفرقوا في صمت وعلى وجوههم تلك الأمارات الجليلة التي تنطبع على الوجوه عند الفراغ من حفلة مأتم.
تبادل بعضهم بصوت خافت وبلهجة تختلف كل الاختلاف عن لهجتهم خلال المؤتمر، بضع كلمات مع القائد العام.
أما مالاشا التي كان ذووها ينتظرونها منذ وقت طويل للعشاء، فقد انزلقت برفق على ظهرها فوق المنحنى، وقد تشبثت بقدميها العاريتين بنتوءات الموقد، وتسللت عبر سيقان العسكريين، ثم اختفت وراء الباب.
وبعد أن استأذن كوتوزوف من الجنرالات، ظل طويلا جالسا ومرفقاه إلى الطاولة، يفكر في السؤال الملح نفسه: «ولكن متى؟ متى تقرر الجلاء عن موسكو؟ كيف حدث أن بلغوا هذا الحد وأن أصبح هو المسئول عنه؟»
قال لمساعده العسكري شنيدر، الذي جاء يلحق به بعد أن أوغل الليل: «كلا، كلا، ما كنت أتوقع هذا، ما كنت أتوقعه! بل إنني ما كنت لأصدقه.»
فقال شنيدر: «يجب أن تستريح يا صاحب السمو.»
لكن كوتوزوف بدلا من أن يجيب مساعده العسكري صاح: «كلا، إن ذلك لن يسير على هواه بالنسبة إليهم، لسوف يأكلون لحم الحصان كالأتراك.»
وضرب المائدة بقبضته العريضة وكرر: «نعم، لسوف يأكلون هم كذلك، شريطة أن ...»
الفصل الخامس
إعداد حريق موسكو
في تلك الأثناء، كان حدث ما في طور التكوين ذو أهمية تختلف عن أهمية انسحاب الجيش: ألا وهو هجر موسكو وإحراقها، وروستوبتشين الذي يبدو في هذا المضمار المسئول الأكبر، كان يعمل عكس اتجاه كوتوزوف.
كان هذا الحدث - هجر موسكو وإحراقها - يماثل تراجع الجيوش إلى ما وراء المدينة بعد معركة بورودينو من حيث استحالة تحاشي وقوعه.
وكل روسي كان مستطيعا، ليس بالتحليل المنطقي، بل بذلك الإحساس الذي يكمن في صدورنا كما كان يكمن في صدور آبائنا، أن يتوقع ما سيحدث.
فاعتبارا من سمولنسك، في كل المدن وكل قرى الأرض الروسية، في كل مكان كانت الظاهرة نفسها التي وقعت في موسكو تظهر هناك دون أن يكون للكونت روستوبتشين وبياناته أي دخل فيها. كان الشعب ينتظر العدو بهدوء دون أن يثور أو ينفعل أو يقتتل، ينتظر بصبر مصيره وهو يحس بقوة إيجاد ما يجب أن يعمله في اللحظة الحاسمة من تلقاء نفسه عندما يأزف الوقت. وكلما اقترب العدو، ابتعدت عناصر الشعب الغنية تاركة ثرواتها، أما الفقراء الباقون في أماكنهم، فكانوا يحرقون ويدمرون كل ما كان يتعذر على الأغنياء نقله معهم.
وكان الإيمان بأن هذا هو ما يجب عمله، وأنه يجب إلزاما أن يكون كذلك، مستقرا كما لا زال مستقرا في النفس الروسية.
وهذا الإيمان الذي ضاعفه الشعور المسبق بأن موسكو سوف تسقط، انغرس في المجتمع الروسي المسكوفي عام 1812م، إن أولئك الذين ارتحلوا منذ تموز وفي أوائل آب، أكدوا برحيلهم أنهم يتوقعون هذا الحدث، والذين رحلوا حاملين معهم كل ما يستطيعون حمله، هاجرين بيوتهم ونصف ما كانوا يملكون، كانت تحركهم تلك الوطنية العميقة «الكامنة» التي لا تعبر عنها الكلمات ولا التضحية بالأبناء أو الأعمال الأخرى المناقضة للطبيعة، ولكن تترجم طبيعيا وببساطة دون تيه، وتحدث دائما أعظم النتائج.
كانوا يقولون لهم: «إن من العار أن تهربوا من الخطر! يجب أن يكون المرء نذلا ليغادر موسكو.» وكان روستوبتشين في منشوراته يلمح إلى أن فرارهم يحط من الشرف، فكانوا يحسون بالتجريح إذ ينعتون بالجبناء، وتأخذ عليهم ضمائرهم ارتحالهم، لكنهم مع ذلك كانوا يرحلون وهم يشعرون بضرورة الرحيل. لماذا يغادرون المدينة؟ لا يمكن الافتراض أن روستوبتشين قد روعهم في وصفه للفظائع التي ارتكبها نابليون في البلاد المحتلة. كانوا يرحلون وفي المقدمة الأغنياء والمثقفون الذين يعلمون علم اليقين أن برلين وفيينا بقيتا سليمتين رغم احتلال نابليون، وأن السكان وجدوا متعة كبيرة أثناء الاحتلال مع أولئك الفرنسيين الفاتنين الذين كان الروسيون والنساء بصورة خاصة يحببنهم حبا جما في ذلك الحين.
كانوا يرحلون لأن السؤال عما إذا كانوا سيعيشون عيشا رضيا أو سيئا في موسكو إبان الاحتلال لم يكن قائما بالنسبة إلى الروسيين. لقد كانت الحياة نفسها تحت ذلك النظام هي المستحيلة في نظرهم التي تعتبر بمثابة أقصى درجات البلاء. ولقد شرعوا بالرحيل قبل بورودينو، وبعد بورودينو أخذوا يخرجون من موسكو بأكثر سرعة دون أن يعبئوا بالنداءات التي تدعوهم إلى الدفاع عن المدينة. وعلى الرغم من مشيئة حاكم موسكو الذي كان يريد أن يشكل موكبا دينيا يحمل فيه أيقونة أيبيريا - أشهر الأيقونات في موسكو - ويخرج إلى المعركة، فقد ذهبوا رغم المناطيد التي ستجر الدمار على الفرنسيين، رغم كل السخافات التي حشا فيها روستوبتشين بياناته . كانوا يعرفون أن واجب الجيش هو أن يقاتل، وأنه إذا كان الجيش عاجزا، فإنه ليس عليهم هم أن يذهبوا إلى الجبال الثلاثة - هو التل القائم شرقي موسكو - ليشتبكوا في معركة مع نابليون ببناتهم وخدمهم، بل إن عليهم أن يرحلوا مهما بلغ حزنهم على تخليفهم ممتلكاتهم التي لم يستطيعوا نقلها للدمار. كانوا يذهبون دون التفكير في المعنى العظيم الذي يتجسد في مغادرة هذه المدينة العظيمة الغنية التي ستحرق حتما بعد مغادرة السكان لها؛ لأن الشعب الروسي يستوعب فكرة العزوف عن إحراق الدور الخالية وتدميرها. كانوا يذهبون منفردين، وبذلك تم العمل الجليل الذي ظل أكبر مجد للشعب الروسي. فالسيدة العظيمة فلانة التي غادرت موسكو منذ شهر حزيران مع زنوجها ومهرجيها؛ لتحتمي في ملك لها بإقليم ساراتوف، شعرت بإبهام أنها ليست خادمة بونابرت، فراحت ترتعد فرقا من أن يثنيها أمر روستوبتشين. إن مثل هذه السيدة ساهمت ببساطة وبشكل طبيعي في العمل العظيم العام الذي أنقذ روسيا. والكونت روستوبتشين الذي كان يعيب على الفارين، وتارة يهتم بإجلاء الدوائر، يوزع أسلحة رديئة على خليط من السكارى تارة، وينظم موكبا دينيا رافعا أيقونة تارة أخرى، يمنع رئيس الأساقفة أوجوستين من إخراج الأيقونات وصناديق ذخائر القديسين طورا، وطورا يصادر العربات الخاصة في المدينة، يأمل بنقل منطاد ليبيخ على مائة وست وثلاثين عربة حينا، ويلمح حينا آخر إلى أنه سيحرق موسكو، روستوبتشين الذي كان يعيب على الفرنسيين تارة في بيان وجهه إليهم بجلال أنهم خربوا مأوى الأطفال، ويروي تارة أخرى كيف أحرق بيته بالذات، تارة يعترف بحريق موسكو ويأخذه على عاتقه، وطورا ينكره، يأمر الشعب أن يقبض على كل الجواسيس، وأن يأتي بهم إليه حينا، وحينا يستنكر عملهم هذا، ينفي كل الفرنسيين من موسكو طورا، وطورا يترك فيها السيدة أوبير شالمية - التي كان متجرها ملتقى كل الجالية الفرنسية - ثم يأمر بالقبض على كيليوتشاريف العجوز المحترم - وهو مدير البرد - دون أي مبرر وينفيه، يستدعي السكان للذهاب إلى الجبال الثلاثة لمقاتلة الفرنسيين، ثم لكي يتخلص من الحشود يقدم لهم رجلا يقتلونه، بينما يفر هو من باب خلفي. كان روستوبتشين هذا الذي يزعم تارة أنه لن يعيش ليرى محنة موسكو ويكتب في مذكراته أبياتا بالفرنسية حول الاتجاه الذي سيسلكه تارة أخرى، لا يدرك شيئا من الأحداث الدائرة، لكنه كان يريد أن يعمل شيئا ما، وأن يدهش ويقوم بعمل فيه وطنية بطويلة، فكان يلعب كالطفل بذلك الحدث المشئوم المهول الذي يتمثل في هجر موسكو وإحراقها، ويجتهد مستعملا يده الضعيفة سواء في إذكائه أم في إيقاف السيل الشعبي اللجب الذي كان يحمله مع تياره.
الفصل السادس
خطة هيلين
أصبحت هيلين إثر عودتها مع بلاط فيلنا إلى بيترسبورج، في موقف مربك.
كانت بيترسبورج مشمولة بعناية سيد كبير يحتل واحدا من أرفع مراكز المملكة. وفي فيلنا ارتبطت مع أمير أجنبي شاب، فلما عادت إلى بيترسبورج راح الأمير والسيد العظيم اللذان كانا هناك كلاهما، يطالبان بحقوقهما، فعرضت لها مشكلة جديدة كل الجدة في حياتها الخاصة؛ ألا وهي المحافظة على صداقة كل منهما المقربة دون أن تجرح أحدا منهما.
إن ما كان ليبدو صعبا بل ومستحيلا بالنسبة إلى امرأة أخرى، لم يبرز للكونتيس بيزوخوف أية مادة للتفكير، وهي التي كانت بحق تظهر امرأة متفوقة. فلو أنها حاولت أن تخفي سلوكها وأن تعمد إلى الحيل لتنقذ نفسها من الارتباك، لأفسدت بذلك كل شيء، ولكان عملها بمثابة الاعتراف بخطئها، لكن هيلين على العكس، كرجل عظيم حقيقي يقدر على كل ما يريد، وضعت بجانبها الحق المكتسب الذي كانت تظن أنها تمشي بوحيه، وألقت التبعة على الآخرين.
وأول مرة سمح الأمير الأجنبي لنفسه أن يوجه إليها اللوم، نصبت رأسها الجميل بكبرياء، والتفتت نصف التفاتة إليه وقالت له بلهجة مطمئنة: «ها هي أنانية الرجال وقسوتهم! ما كنت أتوقع شيئا آخر، إن المرأة تضحي بنفسها من أجلكم فتتألم، وها هو ذا جزاؤها! أي حق لك يا صاحب السيادة في أن تسألني علما عن صداقاتي وأحبائي؟! إنه أب كان أكثر من أب بالنسبة إلي.»
وأراد الأمير أن يقول كلمة في هذا المضمار، لكن هيلين قاطعته قائلة: «حسنا، نعم، يجوز أنه يشعر نحوي بعواطف غير عواطف الأب، لكن هذا ليس سببا يوجب أن أغلق بابي دونه. إنني لست رجلا لأكون جحودة. اعلم يا صاحب السيادة أنني لا أسأل في كل ما له علاقة بعواطفي الشخصية إلا أمام ربي وضميري.»
ولقد أنهت حديثها بهذا القول وهي ترفع يدا إلى صدرها الجميل الذي علا من الانفعال، وتشخص بأبصارها إلى السماء. - «ولكن أصغي إلي بحق السماء.» - «تزوجني فأكون عبدتك.» - «لكن هذا مستحيل.» - «إنك لا تتنازل بالانحدار إلى مستواي، أنت ...»
وانفجرت باكية.
حاول الشخص رفيع المقام أن يهدئها، لكن هيلين قالت له خلال عباراتها دون أن تتظاهر بأنها تستعطفه إن ما من أحد يستطيع أن يمنعه من الزواج، وإن هناك أمثلة مماثلة للطلاق - ولم يكن الطلاق شائعا حينذاك، لكنها أوردت على سبيل المثال نابليون وبعض الشخصيات الأخرى، وأنها لم تكن قط زوجة بعلها، بل كانت ضحية.
اعترض الأمير الشاب وقد كاد أن يستسلم: «لكن القوانين، الدين ...»
فقالت هيلين: «القوانين، الدين ... أية فائدة من وصفها إذا لم تكن مفيدة في مثل هذه الحالات؟!»
مضى الأمير الكبير الذي أذهله أن تكون مثل هذه الفكرة البسيطة لم تخطر على باله من قبل، يستشير الآباء المقدسين من صحبة يسوع الذي كانت تربطه بهم صلات وثيقة.
وبعد بضعة أيام، قدموا إليها في إحدى الحفلات اللامعة، التي كانت هيلين تحييها في دارة كاميني-أوستروف، رجلا في سن ما، أبيض الشعر كالثلج، أسود العينين براقهما، السيد دوجوبير البطر، يسوعي في ثوب قصير. ولقد تحدث في الحديقة على أنغام الموسيقى على ضوء المشاعل، فترة طويلة مع هيلين حول حب الله والمسيح وقلب مريم المقدس والسلوان الوحيد الذي يعد به في هذه الدنيا والدنيا الآخرة، الإيمان الوحيد الحقيقي الذي هو الدين الكاثوليكي، فتأثرت هيلين تأثرا عميقا، حتى إن الدموع انبجست مرارا في عينيها وعيني السيد دوجوبير، وارتعد صوتها من الانفعال أكثر من مرة. ولقد جاء راقص يدعوها فقطع حديثها مع مدير ضميرها المقبل. وفي اليوم التالي، جاء السيد دوجوبير وحده مساء إلى دار هيلين، ومنذ ذلك الحين أصبح من المواظبين على زيارتها.
وذات يوم، قاد الكونتيس إلى كنيسة كاثوليكية، فركعت أمام المذبح؛ حيث قادها ذلك الفرنسي الفتان الذي تخطى سن الشباب اللامع، ووضع يديه على رأسها، وحينئذ - وهذا ما روته فيما بعد - أحست بشيء أشبه بالنفحة المنعشة يتغلغل في أعماقها، ففسروا لها أن ذلك الشيء هو «الغفران».
ثم جاءوها بقسيس ذي جبة طويلة، سمع اعترافها ومنحها الغفران. وفي اليوم التالي، جاءوها بعلبة تحتوي على القربان المقدس، تركوها عندها رهن إشارتها. ولم تمض أيام حتى علمت هيلين بارتياح شديد أنها الآن باتت تنتسب إلى الكنيسة الحقيقية الكاثوليكية، وأن البابا سوف يحاط علما بذلك، وأنه سيرسل إليها وثيقة بهذا المعنى.
ولقد عاد عليها كل ما حدث حينذاك في نفسها وحولها وما حظيت به من عناية شخصيات مرموقة جدا كانت تظهر لها بوسائل رقيقة جدا ومقبولة، ونقاء الحمام الذي باتت عليه وهي التي اقتصرت في أرديتها على الأثواب البيضاء المزينة بأشرطة بيضاء. كل ذلك عاد عليها بكثير من الرضى، لكن ذلك الرضى ما كان يجعلها تضيع دقيقة واحدة الهدف الذي وضعته نصب عينيها، لكنها لم تلبث أن أدركت كما يحدث عادة في عالم الخداع عندما يمكر أحمق دائما بالأكثر ذكاء، أن كل هذه الكلمات والتصرفات كانت تهدف إلى غاية واحدة؛ وهي استخلاص المال منها لصالح اليسوعيين الذين أهدوها إلى الكثلكة؛ إذ ألمحوا إلى ذلك أمامها. وقبل أن تعتذر هيلين قدمت شروطها. أرادت أن ينهوا لمصلحتها الرسميات بطلاقها؛ فالأديان في نظرها - كل الأديان - ليست صالحة إلا لإنقاذ الآداب عندما تكون الأهواء البشرية موضع البحث. وعلى ذلك، فإنها خلال إحدى محادثاتها مع هاديها، سألته بحزم أن يقول لها إلى أي حد باتت روابط الزواج تربطها.
كانا جالسين في البهو قرب النافذة المفتوحة التي كان عبير الزهور ينفذ إليهما عن طريقها. وكانت هيلين مرتدية ثوبا أبيض شفافا عند الصدر والكتفين، والقسيس - وهو رجل سمين ممتلئ الخدين حليق بأناقة - ذو فم شهواني بديع الخطوط، جالسا بالقرب منها ويداه البيضاوان معقودتان بتواضع على ركبتيه، والابتسامة الرقيقة تتيه على شفتيه. كان يتأملها من حين إلى آخر بنظرة متأثرة بهدوء جمالها، وهو يفسر لها وجهة نظره حول الموضوع الذي يشغلهما. وكانت هيلين تبتسم في شيء من القلق وهي تنظر إلى هذا الرجل ذي الشعر العكف والخدين الممتلئين النظيفين، وتتوقع بين آونة وأخرى أن يحيد بهما الحديث عن الموضوع، لكن القسيس رغم وقوعه تحت سلطان فتنتها، كان مستسلما لسيطرته على أعصابه التي هي من صميم عمله.
كان مدير الضمير يحلل الأمر كالآتي: «لقد أقسمت يمين الإخلاص وأنت جاهلة الواجبات التي تتعهدين بها لرجل عقد من جانبه زواجا دون أن يؤمن بأهميته الدينية؛ ومن هنا قد ارتكب هذا الرجل دنسا حقيقيا. إن هذا الزواج لم يحمل طابع التبادل الذي وجب أن يحمله. مع ذلك، فإن يمينك قد ربطتك برغم ذلك وأنت تحنثين الآن بها. فماذا أتيت تبعا لذلك؟ هل هي خطيئة عرضية أم خطيئة مميتة؟ خطيئة عرضية؛ لأنك بارتكابها لم تكوني مدفوعة بنوايا سيئة، فإذا تزوجت الآن من جديد وأنت تهدفين إلى إنجاب الأطفال، فإن خطيئتك يمكن أن تغتفر، لكن للمسألة رغم ذلك وجهين: الأول ...»
قالت هيلين فجأة وقد أزعجتها هذه المحاضرات، متسلحة بابتسامتها الساخرة: «لكنني أظن أنني ما عدت مرتبطة بتعهدات فرضتها علي الديانة الخاطئة وأنا التي اعتنقت الدين الحقيقي.»
أخذ مدير الضمير؛ إذ رأى مسألة بيضة كولومبوس تعرض أمامه بكل هذه البساطة، ولقد فتنه التقدم السريع غير المنتظر من جانب تلميذته، لكنه مع ذلك لم يستطع أن يتنكر لأسلوبه الحججي الذي بني بمجهود كبير، فقال وهو يبتسم: «لنتفق يا كونتيس.»
وراح ينقض حجج ابنته بالروح.
الفصل السابع
رسالة هيلين
كانت هيلين عارفة أن المسألة غاية في البساطة والسهولة من الوجهة الدينية، وأن أدلاءها لا يثيرون مثل هذه العقبات إلا خشية من الاستقبال الذي ستقيمه السلطة العلمانية لهذا النبأ.
وعلى ذلك، فقد قررت أن تعد الرأي العام لتقبل طلاقها. أيقظت بادئ الأمر غيرة حاميها العجوز، ثم خاطبته بمثل ما خاطبت به المدنف الآخر بالضبط، ملمحة إلى أن الوسيلة الوحيدة التي تعطيه حق الإشراف عليها إنما هي زواجه بها. ولقد شده الكبير العجوز لأول وهلة كما شده من قبل الأمير الشاب إزاء عرض الزواج هذا تقدمه امرأة زوجها على قيد الحياة! لكن هيلين كانت تكرر بثقة ثابتة أن هذا الأمر على غاية السهولة، طبيعي مثل زواج فتاة عزباء. فانتهى به الأمر هو الآخر إلى الاقتناع. فلو أنها أظهرت خجلا أو ترددا أو رئاء، لضاعت الصفقة بالنسبة إليها، لكن الأمر جرى على عكس ذلك؛ إذ راحت ببساطة وبراءة ومزاج صاف تروي لأصدقائها الخلص (وهم كل بيترسبورج) أن الأمير والسيد الكبير عرضا عليها الزواج، وأنها تحب كل واحد منهما، فلا تريد أن تسبب إزعاجا لأحدهما.
ولقد راجت الشائعة في بيترسبورج كلها، ليس أن هيلين تريد الطلاق؛ لأن مثل هذه الإشاعة كانت قمينة باستفزاز أشخاص كثيرين ضد هذه المحاولة غير القانونية، بل إن هيلين التعيسة المغرية تتساءل في حيرة عن أي الاثنين تتزوج. فالمسألة إذن لم تعد قائمة على مدى إمكانية تحقيقها، بل فقط على أي الصفقتين أفضل، ورأي البلاط في الموضوع. صحيح أنه كان هنالك بعض الأشخاص المتأخرين العاجزين عن التسامي إلى مرتبة هذه المشكلة، ظلوا يرون في هذا المشروع تدنيسا لقدسية الزواج، لكن هؤلاء كانوا قلة، وكانوا يلزمون الصمت، أما السواد الأعظم، فإنه ما كان ليهتم إلا بسعادة هيلين وبالانتقاء الذي سيقر رأيها عليه. أما معرفة ما إذا كان الزواج على حياة الزوج خيرا أم شرا، فإن ما من أحد بحث فيه؛ إذ لا بد وأن يكون الأمر قد وجد له مخرج سلفا من قبل أشخاص «أكثر علما واطلاعا منك ومني»، فلم يكن الأمر إذن يستدعي الشك في شرعية هذا القرار ؛ إذ ما من أحد كان يرغب في أن يظهر في المجتمع اللامع بمظهر الأحمق أو سيئ الاطلاع.
باستثناء ماري دميترييفنا آخر وسيموف القادمة حديثا إلى بيترسبورج لزيارة أحد أبنائها، فإنها وحدها التي سمحت لنفسها بالتعبير عن رأيها بصراحة مضادة للرأي العام؛ إذ بينما قابلت هيلين في حفلة راقصة، استوقفتها وسط البهو أمام الناس كلهم وقالت لها بصوتها القاسي وسط السكون الذي ران: «ها إنهم هنا عندك يتزوجن وأزواجهن على قيد الحياة، فهل تعتقدين أنك ابتكرت شيئا جديدا؟ إنك متأخرة يا عزيزتي، لقد وجدوا هذا منذ وقت طويل. إنه هو ما يعملون في كل ال ...» وكانت ماري دميترييفنا تشمر عن أكمامها بحركة تهديدية مألوفة وهي تتابع حديثها، وبعد أن صعقت هيلين بنظرة محرقة، تابعت طريقها.
وكانت ماري دميترييفنا رغم المهابة التي توحيها إلى الناس، تعتبر في بيترسبورج على جانب من الجنون؛ لذلك فإن السامعين لم يحفظوا من كلماتها إلا فظاظة الكلمة الأخيرة، فكانوا يرددونه بينهم بصوت خافت، واجدين أنه يلخص جوهر ما كانت تريد أن تقوله كله.
وكان الأمير فاسيلي الذي أصبح ينسى ما قاله منذ حين ويكرر الشيء نفسه مائة مرة، وخصوصا في الآونة الأخيرة، يقول لابنته كلما جاء لزيارتها: «هيلين، عندي كلمة أقولها لك.»
وينتحي بها جانبا ثم يقول: «لقد تناهت إلي لمحات عن مشاريع معينة تتعلق ب... تعرفين، حسنا يا ابنتي العزيزة، إنك تعرفين أن قلبي كأب يسر إذ يعلم أنك ... لقد تألمت كثيرا ... ولكن يا طفلتي العزيزة ... لا تستشيري إلا قلبك. هذا كل ما أقوله لك.»
ثم يدلك وجنته بوجنة ابنته وهو يخفي حركة آمرة ويبتعد.
قال بيليبين الذي لم يفقد قط شهوته كنقاد لبق، والذي كان صديقا مجردا لهيلين، صديقا كالأصدقاء الذين يتخذنهم سيدات المجتمع الراقيات، صديق لا يقع أبدا في دور العاشق؛ قال بيليبين هذا ذات يوم لصديقته هيلين رأيه حول الموضوع كله في مؤتمر صغير. - «أصغ يا بيليبين (وكانت هيلين دائما تدعو الأصدقاء من طراز بيليبين بأسماء عائلاتهم) - ووضعت يدها البيضاء المثقلة بالخواتم على كم ثوبه وهي تتكلم - قل لي كما تقول لأخت ماذا يجب علي أن أعمل؟ أي الاثنين؟»
فجعد بيليبين بشرة جبهته فوق حاجبيه، وراح يفكر والابتسامة على شفتيه. قال: «إنك لو علمت لن تأخذيني على حين غرة، لقد فكرت كصديق حقيقي وأعدت التفكير في مسألتك، فأنت كما ترين لو تزوجت الأمير (وكان يعني الأمير الشاب) فقدت - وراح يعدد على أصابعه - إلى الأبد فرصة الزواج من الآخر، ثم أثرت سخط البلاط؛ لأنه كما تعلمين هناك رابطة نسب. لكنك إذا تزوجت الكونت العجوز أسعدت أيامه الأخيرة، ثم عندما تصبحين أرملة العظيم ... فإن الأمير لن يرتكب غلطة الارتباط مع أدنى إذا تزوجك.»
وهنا أسبل بيليبين بشرة جبهته، فقالت هيلين مشرقة الوجه وهي تضع من جديد يدها على كم بيليبين: «ها هو ذا صديق حقيقي، لكن المسألة أنني أحب هذا وذاك، ولا أريد إحزانهما. إنني أضحي بحياتي لسعادتهما كليهما.»
هز بيليبين كتفيه معلنا بذلك عجزه عن مواساة هذا الألم.
فكر بيليبين: «امرأة خليلة! هذا ما يسمى طرح السؤال بشكل سافر. إنها تود أن تتزوج الثلاثة معا.» سألها وهو يأمل أن تكون شهرة من الاستقرار بحيث تسمح له بطرح سؤال على مثل هذه السذاجة: «ولكن قولي لي كيف سينظر زوجك إلى الموضوع؟ هل سيوافق؟»
هتفت هيلين وهي تظن كذلك - والله أعلم بالسبب - أن بيير يحبها أيضا: «آه! إنه يحبني كثيرا! إنه سيعمل كل شيء من أجلي.»
عاد بيليبين يجعد جبهته، الأمر الذي يعني أنه يعد كلمة مناسبة. قال: «حتى الطلاق.»
فانفجرت هيلين ضاحكة.
كانت الأميرة كوراجين والدة هيلين في عداد الذين سمحوا لأنفسهم بالارتياب في شرعية الزواج. لقد كانت تحسد ابنتها دائما، والآن وقد باتت أسباب الغيرة منها تحس قلبها على مدى أقرب، فإنها ما كانت تستطيع احتمال هذه الفكرة. ذهبت تستشير قسيسا روسيا حول الحالات التي يمكن الطلاق فيها، وما إذا كان يحق للمرأة أن تتزوج وزوجها على قيد الحياة. فقال لها القسيس إن المسألة لا يمكن أن تجري، وأشار - لشديد بهجتها - إلى نص الإنجيل الذي ينفي بحزم كل إمكانية للزواج في مثل هذه الشروط.
وذات صباح، بكرت بالذهاب عند ابنتها بغية الانفراد بها، وهي مسلحة بهذه الحجج التي اعتبرت أنها لا تقبل النقض.
طافت ابتسامة رقيقة ساخرة على شفتي هيلين إزاء اعتراضات أمها، وكررت الأميرة العجوز: «نعم، لقد جاء فيه بصراحة: من يتزوج امرأة مطلقة ...»
فقالت هيلين وهي تنتقل من الروسية إلى الفرنسية؛ لأنه كان يخيل إليها دائما أن في قضيتها بعض الغموض بالروسية: «آه! أماه، لا تتفوهي بحماقات، إنك لا تفقهين شيئا، إن علي واجبات وأنا في مركزي.» - «ولكن يا عزيزتي ...» - «آه! أماه، كيف لا تعرفين أن الأب المقدس له الحق في منح استثناءات؟ ...»
وفي تلك اللحظة، جاءت السيدة مرافقة هيلين تعلن أن سعادته في البهو، وأنه يرغب في رؤيتها. - «كلا، قولي له إنني لا أريد رؤيته، وإنني غاضبة عليه؛ لأنه حنث بكلمته معي.»
فقال شاب أشقر طويل الوجه طويل الأنف وهو يدخل: «أيتها الكونتيس، لكل خطيئة عفو.»
نهضت الأميرة العجوز باحترام، وانحنت انحناءة عميقة، فلم يتنازل القادم الجديد بإقطاعها نظرة. أشارت الأميرة برأسها إلى ابنتها وتسللت نحو الباب.
حدثت الأميرة العجوز نفسها: «نعم، إنها على حق.» وتبخرت كل الموانع أمام ظهور سموه. «إنها على حق. كيف جرى أننا خلال شبابنا الذي ولى ولن يعود، لم نعرف كل هذه الأشياء؟ مع أنها كانت سهلة جدا.» تلك كانت أفكارها وهي تستقل عربتها.
وفي بداية آب، تركزت مشاكل هيلين، فكتبت إلى زوجها الذي يحبها كثيرا على ما كانت تظن، رسالة أخطرته فيها بأنها اعتنقت الدين الحقيقي الوحيد، وأنها تفكر في الزواج ب «ن. ن.» وترجوه بالتالي أن يقوم بالإجراءات اللازمة للطلاق، وهي الإجراءات التي سيعينها له حامل الرسالة.
وعلى هذا، فإنني أرجو الله يا صديقي أن يأخذك بحمايته المقدسة القوية.
صديقتك: هيلين
ولقد حملت هذه الرسالة إلى مسكن بيير، في حين كان هذا في معسكر بورودينو.
الفصل الثامن
محنة بيير
للمرة الثانية، قرب نهاية المعركة، غادر بيير «بطارية» راييفسكي، وفر مع جماعة الجنود نحو كنياز كوفو عن طريق واد، فوصل إلى مستشفى، لكنه أمام مشهد الدم والصرخات والأنين، ابتعد عن المكان مسرعا مختلطا بالزحام.
وكان ما يرغب فيه الآن هو أن يخرج بأسرع ما يمكن من هذه المشاهد المريعة التي ملأت نهاره، وأن يعود إلى الحياة العادية فينام هادئا في غرفته، في سريره. شعر بأنه لكي يرى بوضوح ما في أعماقه، لكي يفهم كل ما رأى ومر به منذ حين، يجب قبل كل شيء أن يستعيد ظروفه الحياتية المألوفة، لكن تلك الظروف لم يعد لها وجود.
لم تعد القذائف والرصاص تصفر على الطريق الذي راح يسير فيه، مع ذلك فإنه كان من كل الجهات أشبه بساحة المعركة. في كل مكان، تلك الوجوه المتألمة القلقة المطبوعة أحيانا بلا مبالاة غريبة، وفي كل المكان الدم والجنود في معاطفهم، وفرقعة تبادل الرصاص، التي رغم الابتعاد عن مكانها قليلا، ما كانت فاقدة شيئا من هولها. وفوق كل ذلك، الحرارة والغبار الخانقان.
وبعد أن اجتاز حوالي ثلاثة فراسخ على طريق موجائيسك العام، توقف بيير عند جانب الطريق.
بدأ الغسق ينسدل على الأرض، وصمت دوي المدافع. تمدد بيير وظل ممددا هكذا فترة طويلة متكئا على مرفقيه، يراقب بعينيه الأطياف التي تمر بجانبه في الظلام. كان يخيل إليه باستمرار أن قذيفة آتية نحوه ولها صفير، فينتفض وينتصب. لم يستطع قط أن يتذكر الوقت الذي أمضاه في ذلك المكان. وعند منتصف الليل، جاء ثلاثة من الجنود يجرون أغصانا وراءهم، فأوقدوا النار بالقرب منه.
أخذوا ينظرون إلى بيير بجانب أعينهم وهم منهمكون في إعداد موقدهم، ثم كسروا قطع «البقسماط» في قصعاتهم، وأضافوا إليها قليلا من الدهن. ولم تلبث رائحة الطعام الطيبة أن امتزجت برائحة الدخان، فنهض بيير وأطلق زفرة، وكان الجنود الثلاثة يأكلون وهم يتحدثون فيما بينهم، غير آبهين له.
وفجأة سأل أحد الجنود بيير: «وأنت، من أي فيلق أنت؟»
وبالطبع لم يكن معنى السؤال إلا: «إذا شئت أطعمناك، ولكن يجب أولا أن تقول لنا ما إذا كنت شريفا.»
هتف بيير وهو يشعر بضرورة الحط من قيمته الاجتماعية؛ كي يصبح أقرب إلى نفوسهم فيفهمونه أكثر: «أنا؟ أنا؟ ... أنا، ضابط في فرق المتطوعين، لكن فرقتي لم تعد هنا. لقد جئت إلى المعركة فأضعت رجالي.»
قال أحد الجنود: «تأمل هذا.»
وهز جندي آخر رأسه، فقال الأول : «حسنا، كل إذا كان الطعام يعجبك!»
ومد إلى بيير الملعقة الخشبية بعد أن لعقها.
جلس بيير أمام النار وراح يأكل الطعام في القصعة نفسها، فلم يبد له طعام قط أشهى من هذا. وبينما هو منحن فوق القصعة يجمع الطعام ويلتهمه بملاعق مملوءة، الملعقة تلو الأخرى، راح الجنود يتأملون وجهه الذي تضيئه النار صامتين. سأل أحدهم من جديد: «حسنا، والآن من أي طريق يجب أن تذهب؟» - «إنني ذاهب إلى موجائيسك.» - «ألست سيدا؟» - «بلى.» - «وما هو اسمك؟» - «بيوتر كيريلوفيتش.» - «حسنا يا بيوتر كيريلوفيتش، إلى الأمام وسندلك على الطريق.»
وتوجه الجنود وبيير نحو موجائيسك في ظلام دامس.
ولما بلغوا هضبة موجائيسك كان الديك يصيح، فشرعوا يرتقون السفح المنحدر الذي يؤدي إلى المدينة. كان بيير يتبع الجنود، وقد نسي تماما أن نزله قائم عند سفح التل. ولقد تجاوزه وما كاد ليذكر لشدة انشغاله، لولا أن اصطدم عند منتصف السفح بخادمه المرافق الذي كان عائدا إلى النزل بعد أن ظل يبحث عنه في موجائيسك. تعرف الخادم في الظلام على بيير من قبعته البيضاء، فقال: «يا صاحب السعادة، لقد كنا في أقصى حالات اليأس. كيف؟ أنت تمشي على قدميك؟ تعال أرجوك!»
فقال بيير: «آه! نعم.»
وتوقف الجنود. سأل أحدهم: «إذن، ها قد وجدت ذويك! الوداع إذن يا بيوتر كيريلوفيتش على ما أظن.»
وقال الآخرون: «الوداع يا بيوتر كيريلوفيتش.»
فكر بيير وهو يستعد لاتباع خادمه حتى النزل: «الوداع.»
فكر وهو يمد يده إلى جيبه: «أن أعطيهم شيئا!» لكن صوتا داخليا أجابه: «كلا، لا يجب.»
لم يعد هناك مكان في غرف النزل؛ إذ شغلت كلها، فمضى بيير إلى الفناء ونام في عربته وقد غطى رأسه بمعطفه.
الفصل التاسع
العودة إلى موسكو
لم يكد بيير يضع رأسه على الوسادة حتى شعر بأنه ينام. مع ذلك، فقد سمع فجأة وبوضوح الحقيقة نفسها دوي المدافع: بم، بم، بم، والأنين والصيحات وانفجارات القنابل وشم رائحة الدم والبارود، فاستبد به الذعر والهول من الموت. وفي وسط ذلك الرعب فتح عينيه ورفع رأسه من تحت المعطف، فإذا بكل شيء هادئ في الفناء، وأمام البيت الخارجي كان تابع في طريقه يثرثر مع البواب ويمشي في الطين، وفوق رأسه في ظل ألواح الرواق، راح الحمام يصفق بجناحيه وقد أخافته الحركة التي أتى بها وهو ينهض. كان الفناء كله يتضوع بتلك الرائحة القوية الهادئة التي تفوح من الخانات، والتي كانت في تلك الأثناء تنعش بيير: رائحة العلف والدم والقار. ومن خلال الفجوة التي بين الرواقين، كانت السماء الصافية تطل بنجومها.
فكر بيير وهو يغطي رأسه من جديد: «شكرا لله، لقد انقضى كل هذا. أوه! يا له من خوف رهيب! ويا للعار إذ استسلمت له! في حين أنهم ... هم ظلوا طيلة الوقت وحتى النهاية صامدين هادئين ...»
و«هم» في نظر بيير، هم الجنود، جنود «البطارية»، الجنود الذين أطعموه، أولئك الذين كانوا يصلون أمام الأيقونة. «هم»، هم أولئك الأشخاص غريبو الأطوار الذين ظلوا مجهولين منه حتى ذلك الحين، أولئك راحوا يبرزون في مخيلته بوضوح فيطغون على كل ما عداهم من الرجال.
أخذ بيير يفكر وهو يعاود النوم: «أن أكون جنديا، لا أكثر من جندي، أن أدخل بكل روحي في هذه الحياة الشائعة المشتركة، وأن تعتلج في نفسي تلك العواطف التي تجعلهم كما هم. ولكن كيف الخلاص من كل عبء الحياة الخارجية التافه الشيطاني؟ لقد مضى وقت كنت أستطيع خلاله أن أكون كذلك، كنت أقدر على الفرار من لدن أبي كما كنت مقررا. كذلك كنت قادرا بعد مبارزتي مع دولوخوف أن أرسل إلى الفيلق كجندي.» وراحت الصور في مخيلة بيير تتلاحق: ذلك العشاء في النادي أولا حيث استفز دولوخوف، ثم المحسن إليه في تورجوك. تصور بعدئذ اجتماعا جليلا في المحفل. لقد عقد ذلك الاجتماع في النادي الإنجليزي، وكان بعضهم أليف قريب عزيز يجلس إلى رأس المائدة، آه! إنه هو! إنه المحسن! وفكر بيير: «لكنه مات! نعم، لقد مات، وما أعرف أنه سيحيا من جديد. كم أسفت لموته! كم أنا مسرور أن يعود إلى الحياة!» كان آناتول ودولوخوف ونيسفيتسكي ودينيسوف وآخرون جالسين على جانب من المائدة، وكانت الزمرة التي ينتمي إليها هؤلاء الناس من الوضوح والدقة في نفس بيير بما يماثل الزمرة التي راح يدعوها «هم»، وكان هؤلاء الناس وآناتول ودولوخوف يصرخون ملء حناجرهم ويغنون، لكن صوت المحسن كان يطغى على أصواتهم. كان يتكلم دون ملل، فكانت لهجة ذلك الصوت رغم ما فيها من مستحب ومسل، آمرة ومسترسلة، أشبه بدوي ساحة المعركة، ما كان بيير يفهم ما يقوله المحسن، لكنه كان يعرف مع ذلك - لشدة ما تكون الأفكار من هذا النوع جلية في الأحلام - أنه يتكلم عما هو خير، وعن إمكانية الانقلاب إلى ما «هم» عليه، وكانوا «هم» يحيطون بالمحسن من كل الجهات بوجوههم الباسلة البسيطة الطيبة. ولكن رغم طيبتهم فإنهم ما كانوا ينظرون إلى بيير، وما كانوا يعرفونه، فأراد بيير أن يقول شيئا، وأن يجتذب انتباههم، فنهض. وفي تلك اللحظة شعر بالبرد في ساقيه اللتين خرجتا من تحت الغطاء.
أحس بالخجل، فأعاد بإحدى يديه معطفه الذي انزلق على ساقيه، وبينما كان بيير يسوي معطفه، فتح عينيه فطالعته الأروقة نفسها والأعمدة نفسها والفناء نفسه، ولكنه تحت ضوء مائل إلى الزرقة، مزين بالندى اللامع والجمد الأبيض.
فكر بيير: «ها هو ذا الفجر، ولكن الأمر لا يتعلق بهذا. يجب أن أصغي حتى النهاية وأن أفهم أقوال المحسن.» عاد بيير يغيب نفسه تحت معطفه، لكن لم يعد هناك محفل ولا محسن، لم يبق له إلا الإصغاء إلى آراء أخذت توضحها كلمات ينطق بها بعضهم ويصيغها أولا بأول.
ولما تذكر تلك الآراء فيما بعد، التي لم تنجم إلا عما رآه خلال ذلك النهار، ظل مقتنعا أن شخصا ما خارجيا عنه قالها له، خيل إليه أنه ما كان يستطيع قط في حالة اليقظة أن ينعم بأفكار مماثلة، وأن يعبر عنها بنفسه.
كان الصوت يقول: «إن أصعب ما في الوجود هو إخضاع الحرية الإنسانية للقانون السماوي. أن يكون المرء بسيطا يعني أن يخضع لله ولا يمكن الإفلات منه. و«هم» بسطاء، «هم» لا يتكلمون، ولكن يفعلون. إن الكلام من فضة، ولكن الصمت من ذهب، والرجل لا قيمة له طالما ظل يخاف الموت، وكل شيء ملك للذي لا يخافه. إن الإنسان - لولا الألم - لا يستطيع معرفة حدوده ولا معرفة نفسه. إن أصعب ما في الوجود هو - كما ظل بيير يسمع، أو بالأحرى يفكر - هو أن يوحد المرء في نفسه معاني الأشياء.» وتساءل: «إن كلها؟ كلا، إنه غير صحيح. إنه يتعذر توحيد الأفكار، وإذن يجب ربطها. هذا ما يجب! نعم، «يجب ربطها، ربطها»!» وراح يردد بيير هذه العبارة بحماس داخلي وهو يشعر بأن هذه الكلمات - وهذه الكلمات وحدها - تعبر عما يريد أن يقول، وتحل كل المسألة التي تعذبه. - «نعم، يجب ربطها، لقد آن الوقت أن تربط.»
فردد الصوت. - «يجب قطر الخيول، لقد آن وقت قطرها يا صاحب السعادة! يا صاحب السعادة، يجب قطر الخيول، لقد أزف الوقت.»
1
وكان ذلك هو صوت خادمه المرافق الذي جاء يوقظه، وكانت الشمس تغمر وجه بيير بضيائها. نظر إلى فناء الخان القذر الذي كان في وسطه بئر راح بعض الجنود يوردون إليها خيولا نحيلة، بينما راحت عربات تجتاز الباب الخارجي. أشاح بيير بوجهه متقززا، وأغمض عينيه، ثم حشر نفسه بشدة على مقعد عربته. «كلا، لا أريد رؤية هذا، لا أريد رؤيته ولا فهمه، أريد فقط أن أعرف ما كشف عنه الغطاء لي خلال نومي. لو تأخرت ثانية أخرى لاستوعبت كل شيء. وماذا يجب لي؟ أن أربط، نعم، ولكن كيف أربط كل شيء؟» وشعر بيير برعب أن المعنى العميق لما رآه وفكر فيه بالحلم قد انهار.
روى الخادم والحوذي والبواب لبيير أن ضابطا حمل نبأ تقدم الفرنسيين على موجائيسك وتراجع رجالنا.
نهض بيير وأمر بأن تقطر الخيول، وأن يلحقوا به، ثم مضى مشيا على قدميه عبر المدينة.
كانت القطعات قد ذهبت مخلفة وراءها قرابة عشرة آلاف جريح، وكان هؤلاء يرون في الأفنية ووراء نوافذ المنازل وجماعات متراصة في الشوارع، وحول العربات التي كان عليهم أن تحملهم، كانت الصرخات والشتائم ترتفع، بل وكانوا يتبادلون اللكم. ولقد قدم بيير عربته التي لحقت به إلى جنرال جريح كان يعرفه، فحمله إلى موسكو. وخلال الطريق اطلع بيير على نبأ موت أخي زوجه والأمير آندريه.
الفصل العاشر
قصة النداء
وصل بيير إلى موسكو في الثلاثين من الشهر، وعندما بلغ المدخل جاء مساعد عسكري للكونت روستوبتشين يلقاه. قال المساعد العسكري: «إننا نبحث عنك في كل مكان. إن الكونت يرغب رغبة ملحة في رؤيتك. إنه يستدعيك لأمر غاية في العجلة.»
وبدلا من أن يذهب إلى منزله، استقل بيير عربة عامة ومضى لمقابلة الحاكم.
كان روستوبتشين قد عاد ذلك الصباح بالذات من دارته في سوكولنيكي القائمة في الضاحية. وكانت ردهته وغرفة استقباله غاصة بالموظفين الذين استدعاهم، أو الذين جاءوا لوحدهم للتزود بالأوامر. ولقد استطاع فاسيلتشيكوف وبلاتوف أن يقابلاه من قبل، وأن يشرحا له استحالة الدفاع عن موسكو التي يجب تسليمها. وكان هذا النبأ الذي ظلوا حتى ذلك الحين يخفونه عن السكان، معروفا من الموظفين ومن رؤساء مختلف الإدارات. لقد كانوا يعرفون كما يعرف روستوبتشين نفسه أن موسكو ستقع بين أيدي العدو، فجاءوا كلهم رغبة منهم في التخلص من المسئولية، يسألون الحاكم عما يعملونه بالخدمات الموكولة إليهم.
وفي الوقت الذي دخل فيه بيير غرفة الاستقبال كان ساع موفد من قبل الجيش يخرج من مكتب الكونت.
ولقد أجاب بحركة يائسة على الأسئلة التي راحوا يلقونها عليه عبر القاعة.
أخذ بيير يسرح عينيه المتعبتين في مختلف الموظفين بين كهول وشبان عسكريين ومدنيين، الموجودين هناك وهو ينتظر دوره. لقد كانوا جميعا تنطق تقاطيعهم بالاستياء والقلق، فانضم بيير إلى زمرة شاهد في عدادها بعض معارفه. وبعد أن حيوه عاد الحديث إلى سياقه: «إن تسريحه، ثم استدعاءه فيما بعد، لن يكون ذا شأن سيئ طالما أنه لا يمكن التكهن بشيء حول الوضع الذي نحن فيه ...»
فقال آخر وهو يعرض ورقة مطبوعة أمسك بها في يده: «نعم، لكن ها هو ذا، إنه يكتب ...»
فاستأنف الأول: «إن هذا مختلف. إنه واجب من أجل الشعب.»
سأل بيير: «ما الخبر؟» - «هذا. إنه آخر منشور له.»
أخذ بيير المنشور فقرأ فيه ما يلي:
إن الأمير عظيم الرفعة، بغية الالتحاق بالقطعات التي تمشي للقائه بأسرع ما يمكن، قد اجتاز موجائيسك وتمركز في موقع حصين لا يستطيع العدو أن يداهمه فيه، ولقد أرسل إليه من هنا ثمانية وأربعين مدفعا مع ذخائرها. إن عظيم الرفعة يؤكد أن موسكو سيدافع عنها حتى آخر قطرة من الدم، وأنه على استعداد للقتال حتى في الشوارع. أيها الإخوان، لا تقلقوا إذا كانت الخدمات العامة قد توقفت، كان لا بد من وضعها في مكان أمين. أما نحن، فإننا سوف نسوي حسابه، ذلك اللص! عندما يحين الوقت، أكون بحاجة إلى فتيات أشداء مدنيين وقرويين. سوف أطلق صرخة النداء في غضون يوم أو اثنين. أما الآن، فإنني أصمت لأنه لا لزوم لذلك. سيكون مناسبا أن يمتلك المرء فأسا، ولا بأس من أن يكون لديه حربة، بل وأفضل أن يكون مسلحا بمنجل؛ فالفرنسي ليس أثقل وزنا من حزمة الخرطال. غدا بعد الغداء، سأنظم موكبا دينيا يحمل أيقونة أيبيريا للجرحى في مستشفى كاتيرين، وهناك سنبارك الماء فيشفون بسرعة أكثر. إنني أنا الآخر قد شفيت الآن؛ لقد أصبت بألم في عيني، والآن بت أرى بعيني الاثنتين.
هتف بيير: «لكن العسكريين قالوا لي إنه لا يجب التفكير في القتال في المدينة، وإن الموقع ...»
فقال الموظف الأول: «نعم، وهذا ما كنا بصدد التحدث عنه.»
سأل بيير: «وما معنى: «أصبت بألم في عيني والآن بت أرى بعيني الاثنتين»؟»
شرح المساعد العسكري والابتسامة على شفتيه: «لقد أصيب الكونت بشحاذ العين. لقد تعذب كثيرا عندما قلت له إن الشعب جاء يسأل عن أخباره.»
وأضاف دون أن يكف عن الابتسام وهو يخاطب بيير: «وعلى فكرة، كونت؟ لقد سمعنا أنك متعرض لمتاعب زوجية، وأن الكونتيس زوجتك ...»
قال بيير بلا مبالاة: «ليست لدي أنباء عن ذلك. ماذا يقولون؟» - «آه! إنك تعلم أن هذه الأمور تكون غالبا من بنات الأفكار. إنني ما سمعت.» - «وماذا يقولون؟»
استأنف المساعد العسكري يقول بالابتسامة نفسها: «يقولون إن الكونتيس زوجتك ستسافر إلى الخارج. لا ريب أنه أمر مستحيل.»
فقال بيير وهو يجيل حوله نظرة ساهمة: «إنه ممكن الوقوع.»
ثم سأل وهو يشير إلى كهل قصير أبيض شعر اللحية والحاجبين كالثلج، قرمزي الوجه، يرتدي «قفطانا» أزرق شديد النظافة: «وهذا، من هو؟» - «هذا؟ إنه تاجر، أو على الأصح خمار اسمه فيريشتشاجين. لا بد وأنك سمعت بقصة النداء.»
هتف بيير وهو يتأمل وجه الكهل التاجر الهادئ الحازم دون أن يجد فيه تعبيرا عن الخيانة: «آه! إنه فيريشتشاجين!»
قال المساعد العسكري شارحا: «إنه ليس هو، إنه والد الرجل الذي كتب النداء. أما الشاب ذاك، فقد أودعوه أسفل زنزانة عميقة، وأظن أنه يستحق ذلك.»
اقترب كهل صغير على صدره وسام، وموظف ألماني آخر يتدلى وسامه حول عنقه، من المتكلمين، بينما استرسل المساعد: «كما ترى، إن قصة ذلك النداء حافلة بالغموض، إنها ترجع إلى شهرين أو ثلاثة أشهر، ولقد أنهوها إلى الكونت فأمر بفتح تحقيق، وشرح كافريل إيفانيتش في أبحاثه فوجد أن ذلك النداء قد مر بثلاث وستين يدا، جيء بأحد المذنبين وسئل: ممن أتيت به؟ من فلان وفلان، فيذهبون إلى الآخر: وأنت، ممن؟ وهكذا ... بذلك وصلوا إلى فيريشتشاجين ... تاجر صغير غير ماكر، كما تعلم - وأضاف المساعد العسكري ضاحكا - شخص صغير عادي، سألوه: «من أين جئت بهذا؟» هذا مع أننا كنا نعرف الذي أعطى النداء إليه؛ إذ ما كان يمكن أن يحصل عليه إلا من مدير البريد، وكان واضحا أنهما متواطئين، فأجاب: «ليس من أحد، إنني أنا الذي كتبته.» هددوه وضغطوا عليه، لكنه ظل يؤيد كلامه، ولقد قدم التقرير إلى الكونت فاستقدم الشخص: «من أين جئت بهذا النداء؟ إنني أنا الذي كتبته».»
وأردف المساعد العسكري بابتسامة الفخور العابث: «وأنت تعرف الكونت! لقد أرغى وأزبد، تصور: سفاهة لهذه الدرجة وعناد إلى هذا الحد في الكذب!»
قال بيير: «نعم، إنني أفهم، لقد كان الكونت يريده على أن يشي بكيليوتشاريف.»
رد المساعد العسكري مذعورا: «أبدا، ليس بالضرورة، لقد كان كيليوتشاريف يحمل وزر بعض الخطيئات الصغيرة، فنفي من أجلها، لكن ما كان مؤكدا هو أن الكونت كان خارجا عن طوره. سأله: «كيف استطعت أن تدبج هذا؟» وأخذ من على المائدة جريدة هامبورج. «ها هو ذا! إنك لم تدبجه، بل ترجمته، وترجمة رديئة؛ لأنك لا تعرف الفرنسية أيها الغبي!» ثم ماذا تظن؟ لقد أجاب ذاك: «كلا، إنني لم أقرأ أية صحيفة، لقد أنشيته بنفسي.» «إذن، طالما الأمر كذلك فأنت خائن، وسأقدمك للمحاكمة، سوف تشنق، اعترف ممن أخذته؟» «إنني لم أقرأ أية صحيفة، بل أنشيته بنفسي.» وأصر على هذا الكلام. استدعى الكونت أباه كذلك، ولكن دون جدوى! إنه يأبى الاعتراف، ولقد حاكموه وحكموا عليه بالأشغال الشاقة على ما أظن، والآن جاء الأب يلتمس الرحمة لابنه، لكنه مواطن رديء، أنت تعلم، إنه واحد من أبناء التجار هؤلاء، حقير المنزلة، مغازل القرويات. لقد درس في مكان ما، وعلى ذلك فإن الملك ليس ابن عمه. نعم، إنه فتى غريب، إن أباه يدير دكان شواء عند جسر بطرس. وتصور، إن لديه أيقونة كبيرة للإله الأب، ممسكا بإحدى يديه الصولجان، وبالأخرى الكرة الأرضية. لقد حملها إلى منزله لبضعة أيام، ثم ماذا عمل؟! لقد وجد رساما سافلا ...»
الفصل الحادي عشر
اختفاء بيزوخوف
وفي غمار هذا الحديث الجديد، استدعي بيير للدخول على الحاكم.
وفي اللحظة التي دخل بيير إلى المكتب، كان الكونت روستوبتشين مقطب الحاجبين، يمر بيده على عينيه وجبهته، وكان رجلا مربوع القامة مسترسلا في التحدث إليه، فصمت وخرج. قال روستوبتشين حينما ذهب رجله: «آه! مرحبا أيها المحارب الشهير، لقد سمعناهم يتحدثون عن إقدامك وشجاعتك، لكن الأمر لا علاقة له بهذا.»
استرسل يقول بلهجة صارمة وكأن الانتساب إلى الماسونية جريمة، لكنه يريد أن يكون رحيما: «يا عزيزي، الكلام بيننا أنك ماسوني.»
فصمت بيير بينما استرسل الكونت: «إنني يا عزيزي على يقين من صحة معلوماتي، مع ذلك فإني آمل أن يكون هناك ماسوني وماسوني، وأنك لست من أولئك الذين يريدون ضياع روسيا بحجة إنقاذ الجنس البشري.»
أجاب بيير: «نعم، إنني ماسوني.» - «حسنا، تأمل يا عزيزي، إنك لا تجهل أن السيدين سبيرانسكي ومانييتسكي أرسلوا إلى مكان أمين، وأن السيد كيليوتشاريف وآخرين من الذين يزعمون إعادة بناء هيكل سليمان وهم يجهدون في تهديم هيكل الوطن، قد لقوا مثل هذا المصير. ولا بد وأنك تعلم أننا كنا مدفوعين ببعض الأسباب المبررة لانتهاج هذا السبيل، وأنني ما كنت لأنفي مدير بريد موسكو لو لم يكن رجلا خطيرا. ولقد علمت أنك أرسلت له عربتك الجاهزة ليغادر المدينة فيها، بل وأنه عهد إليك ببعض الأوراق. إنك عزيز علي، ولا أرغب في أن يصيبك أي أذى، ولما كنت أبلغ ضعف ما لك من سن، فإنني أوصيك كأب أن تكف عن علاقاتك مع أشخاص من هذا النوع، وأن تذهب أنت بنفسك من هنا بأسرع ما يمكن.»
سأل بيير: «ولكن يا كونت، ما هو ذنب كيليوتشاريف؟»
صرخ روستوبتشين: «علي أنا أن أعرف، وليس عليك أن تسألني.»
قال بيير دون أن ينظر إلى روستوبتشين: «إنهم يتهمونه بتوزيع منشورات نابليون، لكن هذا لم يثبت بالدليل، أما فيريشتشاجين ...»
فقاطعه روستوبتشين مقطبا حاجبيه وهو يتجاوز في الصراخ ويقول: «ها نحن أولاء ... إن فيريشتشاجين رجل باع ضميره، خائن سيلقى جزاءه.»
كان الحاكم يصرخ بلهجة يستعملها الأشخاص الذين يتذكرون إهانة شخصية: «لكنني لم أستدعك لتناقش تصرفاتي. لقد استدعيتك لأعطيك نصيحة أو أمرا إذا شئت تحري الصراحة، إنني أرجوك أن تتوقف عن أي اتصال مع أشخاص من طراز كيليوتشاريف، وأن ترحل من هنا. سوف أجعلهم جميعا يعزفون عن جنونهم مهما بلغ عددهم.»
ولا ريب أنه شعر بتجاوزه الحد وهو يهدد بيزوخوف بهذا الشكل، رغم أن هذا لم يرتكب أية مخالفة، فهتف وهو يمسك بذراعه بحركة ودية: «إننا على وشك الوقوع في دمار عام، وليس لدي من الوقت ما يمكنني من التحدث بجمل لطيفة مع كل من لهم شأن معي! إن المرء أحيانا يصاب بدوار! حسنا يا عزيزي، ماذا تعمل أنت شخصيا؟»
أجاب بيير دون أن يرفع عينيه أو أن يبدل أمارات وجهه الساهمة: «لا شيء البتة.»
ومن ثم، قطب الكونت حاجبيه: «نصيحة صديق يا عزيزي، ارحل بأسرع ما يمكن، هذا كل ما أستطيع أن أقوله لك، والخلاص للمصغي إلى النصح! وداعا يا عزيزي.»
وبينما هو يجتاز عتبة الباب هتف يستوقفه: «آه! على فكرة، هل حقيقة أن الكونتيس قد وقعت بين براثن الآباء المقدسين لصحبة يسوع؟»
لم يجب بيير، وخرج من لدن روستوبتشين مقطب الحاجبين في حالة من الهياج لم ير من قبل على مثلها قط.
وكان الليل قد أرخى سدوله عندما وصل إلى مسكنه، ولقد جاء إليه سبعة أو ثمانية أشخاص مختلفين خلال تلك الأمسية: أمين سر اللجنة، زعيم لوائه، مسجله، رئيس خدمه وبعض ذوي المصالح. ولكل منهم أعمال يريد تصفيتها. ما كان بيير يفقه شيئا من هذه الأمور، ولم يكن ليهتم بها، فكان يجيب على الأسئلة بغية التخلص من هؤلاء الأشخاص فحسب. وأخيرا، عندما خلا لنفسه فض غلاف رسالة زوجته وقرأها. - ««هم»، يعني جنود البطارية، الأمير آندريه الذي قتل ... الكهل ... البساطة هي الخضوع لله ... ضرورة الألم ... معنى الأشياء ... الارتباط ... زوجتي تتزوج من جديد ... يجب النسيان والفهم ...»
وألقى بنفسه على سريره دون أن يخلع ثيابه، فلم يلبث أن نام.
وعندما استيقظ صباح اليوم التالي، أخبره رئيس الخدم أن الكونت روستوبتشين أرسل شرطيا يستعلم عما إذا كان الكونت بيزوخوف قد ذهب أم هو يتأهب للرحيل.
وكان في البهو حوالي عشرة أشخاص ينتظرونه لحاجات لهم، فأصلح بيير زينته بسرعة، ولكن بدلا من أن يدخل على المنتظرين لجأ إلى سلم الخدم وخرج من باب الفناء.
ومنذ ذلك الحين وحتى نهاية تدمير موسكو، لم ير أحد من أشخاص بيته الكونت بيزوخوف، وعلى الرغم من كل الأبحاث لم يعرف أحد ماذا حل به.
الفصل الثاني عشر
آل روستوف
ظل آل روستوف في موسكو حتى أول أيلول؛ أي إلى أمسية اليوم الذي دخل العدو فيه المدينة.
بعد التحاق بيتيا في فيلق قوقازي أوبولنسكي وذهابه إلى بييلايياتسيركوف؛ حيث كان ذلك الفيلق يتشكل، استولى الخوف على الكونتيس.
أخذت فكرة وجود ولديها في الحرب بعيدين عن جناحها، وأن اليوم أو غدا سيقتل أحدهما أو كلاهما ، كما قتل الأبناء الثلاثة لصديقتها، أخذت هذه الفكرة تغزو رأسها لأول مرة طيلة الصيف بوضوح ممقوت، فاجتهدت في أن تعيد نيكولا إلى قربها، وأرادت أن تلحق ببيتيا، وأن تعينه في مكان ما في بيترسبورج. لكن كل هذا بدا لها مستحيلا؛ فبيتيا لا يمكن أن يعود إلا مع فيلقه، أو يفضل نقله إلى فيلق آخر. ونيكولا كان في مكان غير معلوم تماما وقد انقطعت أخباره بعد رسالته الأخيرة التي روى فيها قصة لقائه مع الأميرة ماري. ولم تعد الكونتيس تذوق طعم النوم، فإذا ما أغفت ليلا رأت ولديها في منامها قتيلين. وبعد استشارات ومشاورات جمة، تخيل الكونت أخيرا أنه وجد الوسيلة لتهدئتها؛ نقل بيتيا من فيلق أوبولنسكي إلى فيلق بيزوخوف الذي كان يشكل قرب موسكو، وبذلك كان يمكن للكونتيس، رغم بقاء بيتيا في الخدمة العسكرية، أن تجد العزاء بوجود واحد من ولديها قريبا منها تحت جناحها؛ آملا ألا يبتعد عنها بعد ذلك، وأن يستطيع إقراره في بعض المهام التي لا يتعرض فيها للاشتراك في الحرب. كان يبدو للكونتيس - كما كانت تعترف بنفسها - أن ابنها البكر مفضل على أولادها الآخرين طالما هو غائب ومعرض للخطر، ولكن عندما ذهب ابنها الأصغر، ذلك الطفل الذي كان يرفض أن يتعلم شيئا ويحطم كل شيء في البيت، ويزعج كل إنسان فيه، عندما ذهب بيتيا هذا ذو الأنف الأفطس والعينين السوداوين الماكرتين والوجه المتورد النضير الذي لم ينبت على وجنتيه إلا ما يشبه الزغب، عندما ذهب إلى هناك بين الفتيان الكبار الضارين الرهيبين الذين يقتتلون ويجدون متعة في ذلك، حينئذ خيل إلى الأم أنها كانت تحب هذا الفتى أكثر بكثير، ولحد لا يقاس، من أولادها الآخرين. وكلما اقتربت اللحظة التي كان بيتيا هذا المنتظر بفارغ صبر سيعود فيها إلى موسكو، ازداد قلق الكونتيس. كانت تفكر حينذاك أنها لن تعرف السعادة بعد ذاك. ولم يكن حضور سونيا وحده هو الذي يسخطها، بل كذلك معبودتها ناتاشا وزوجها نفسه. كانت تفكر: «ما حاجتي إليهم؟ لست في حاجة إليهم. إن بيتيا هو الذي أريده.»
في الأيام الأخيرة من شهر آب، تلقى آل روستوف رسالة ثانية من نيكولا، كان يكتب من حكومة فورونيج؛ حيث أرسلوه لتدارك خيل للفرسان، فلم تهدئ رسالته الكونتيس؛ ذلك أنها حينما علمت أن واحدا من ولديها خارج منطقة الخطر، راح عذابها يتضاعف من أجل بيتيا.
وعلى الرغم من أن كل معارف آل روستوف تقريبا غادروا موسكو منذ العشرين من آب، بعضهم إثر بعض، وأن كل الناس نصحوا للكونتيس بأن ترتحل بأسرع وقت، فإنها لم تشأ أن يرد ذكر الرحيل في حضرتها قبل أن يعود كنزها؛ بيتياها الحبيب. وأخيرا عاد في الثامن والعشرين، فلم يرق لهذا الضابط ذي الأعوام الستة عشر ذلك الحنان المدنف المرضي الذي استقبلته به أمه! ولقد عملت جاهدة على أن تخفي عنه خطتها الرامية إلى عدم السماح له بعد ذلك بالإفلات من العش، لكن بيتيا أدرك نيتها السرية، فراح يعاملها ببرود؛ خشية أن يلين أو أن يتخنث بين طيات ثوب أمه - كما كان يفكر بينه وبين نفسه - وظل كذلك طيلة بقائه في موسكو ساعيا، جهده تحاشي اللقاء بها والبقاء مع ناتاشا التي كان يشعر نحوها دائما بحب أخوي خاص يكاد أن يكون غراما.
وبسبب لا مبالاة الكونت، فإن ما من شيء كان معدا للرحيل يوم الثامن والعشرين، ولم تصل العربات التي كان ينتظرها من إقطاعية ريازان ومن ضاحية موسكو إلا في الثلاثين.
ولقد عرفت موسكو بين الثامن والعشرين والواحد والثلاثين من آب اضطرابا محموما، ومن يوم إلى آخر عن طريق مدخل دوروجوميلوف الكائن غربي المدينة، كانوا يأتون بالألوف من جرحى بورودينو ويجلونهم، بينما كانت ألوف العربات المحملة بالناس والأمتعة تخرج من المدينة عن طريق الأبواب الأخرى. وعلى الرغم من منشورات روستوبتشين - بل ولعلها هي السبب - كانت الشائعات الأكثر غرابة وتناقضا تروج؛ فالبعض كان يزعم أن الرحيل أصبح ممنوعا، والبعض الآخر على العكس يؤكد أنهم رفعوا الأيقونات مع الكنائس، وأنهم يطردون الناس كلهم بالقوة. وفلان يزعم أنهم اشتبكوا مع الفرنسيين في معركة أخرى في بورودينو فهزم هؤلاء، وآخر يزعم أن الجيش الروسي كله قد أبيد. هذا يؤكد أن المتطوعين الموسكوفيين سيذهبون إلى «الجبال الثلاثة» وعلى رأسهم رجال الدين، وذاك يهمس في أذنك أن الحبر «متروبوليت» أوجوستين لم تعد له حرية الحركة، وأنهم أوقفوا بعض الجواسيس، وأن القرويين الثائرين يسلبون القوافل على الطرق ... إلخ ... إلخ، لكن هذه كلها لم تكن إلا ثرثرات. أما الحقيقة، فكانت أن الذين يذهبون كالذين يبقون، رغم أن المجلس العسكري الذي عقد وتقرر فيه إخلاء موسكو لم يكن قد عقد بعد. كانوا يشعرون بأن موسكو لا ريب مسلحة للعدو، وأنه يجب الارتحال بأسرع ما يمكن وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الممتلكات. وكانوا كلهم يشعرون شعورا مسبقا بأن كل شيء سينهار فجأة ويتبدل. مع ذلك، فإن ما من شيء تبدل في اليوم الأول من أيلول، وظلت موسكو، التي لا تجهل شيئا عن مصيرها الوشيك وعن الانقلاب في الشروط الحياتية الذي سيعقب ذلك، مستمرة رغم كل شيء في حياتها الطبيعية، أشبه بالمحكوم الذي يساق إلى الإعدام، والذي يعرف أن كل شيء سينتهي بالنسبة إليه بعد لحظات، لكنه مع ذلك يظل يتلفت حوله، بل ويسوي قلنسوته التي مالت قليلا.
تخبطت أسرة آل روستوف خلال الأيام الثلاثة التي سبقت سقوط المدينة في بلبال مبعثه مشاكل الخدم، فرب الأسرة الكونت إيليا آندريئيفيتش ما كان يكف عن التنقل هنا وهناك سعيا وراء الأخبار، بينما كان يتخذ في البيت استعدادات غامضة غير كاملة وارتجالية تتعلق بالرحيل.
كانت الكونتيس تراقب حزم الأمتعة وهي دائمة التذمر، لا تني تبحث عن بيتيا الذي كان يعمل ما يستطيع لتحاشيها، وتغار من ناتاشا التي كان يمضي جل وقته بقربها. أما الناحية العلمية، فكانت سونيا وحدها تهتم بها وتعد الرزم، لكن سونيا أصبحت منذ بعض الوقت حزينة صامتة. ولقد استفزت رسالة نيكولا التي تحدث فيها عن الأميرة ماري، ملاحظات بهيجة نطقت بها الكونتيس في حضورها؛ إذ كانت ترى إصبع الله وراء لقاء الأميرة ونيكولا ابنها. كانت تقول: «لم أبتهج قط عندما تقدم بولكونسكي لخطبة ناتاشا، لكنني رغبت دائما في أن يتزوج نيكولاي الصغير بالأميرة، وعندي شعور مسبق بأن هذا الزواج سيتم. آه! كم سيكون جيدا!»
وكانت سونيا تشعر أن هذه هي الحقيقة، وأن الوسيلة الوحيدة التي يستطيع آل روستوف أن يطفوا بها من أعماق اللجة التي سقطوا فيها، هي زواج ابنهم بتلك الوارثة، لكن ذلك كان أليما على نفسها. وعلى الرغم من حزنها - بل ولعله بسبب حزنها - تعهدت بكل مشاكل الرحيل وحزم الأمتعة، حتى إنه لم يعد لديها دقيقة تفكر فيها. وكان الكونت والكونتيس يعتمدان عليها لإصدار الأوامر اللازمة. أما بيتيا وناتاشا، فعلى العكس؛ إنهما لم يغفلا مساعدة ذويهما فحسب، بل كانا كذلك يزعجان ويربكان كل الموجودين في أغلب الأحيان؛ فالبيت كله كان طيلة النهار يردد صدى جريهما وصراخهما وقهقهاتهما التي ليس لها ما يبررها. كانا يضحكان ويتسليان لا لسبب خاص، بل لأن روحهما مبتهجة، ولأن كل ما كان يحدث كان بالنسبة إليهما سببا للضحك والانشراح. لقد كان بيتيا مرحا؛ لأنه أصبح رجلا، بل وعملاقا قويا (على حد قول كل الناس)، وهو الذي غادر البيت فتى. وكان سعيدا بالعودة إلى بيته، سعيدا بالتفكير في أنه بدلا من بقائه في بييلايياتسيركوف، حيث لم يكن له أمل في خوض غمار القتال، سيكون في موسكو حيث المعركة وشيكة النشوب. وكان سعيدا أكثر من كل شيء؛ لأن ناتاشا - التي كان يتبنى كل حالاتها النفسية - على مزاج مرح. أما ناتاشا، فكانت مبتهجة الآن؛ لأنها ظلت حزينة زمنا طويلا، وأن ما من أحد أصبح يذكرها بموجبات حزنها، ولأنها استعادت صحتها. وكانت منشرحة الصدر كذلك؛ لأنه كان لديها رجل يعجب بها، وإعجاب الآخرين بها كان بمثابة الزيت الذي لا غنى عنه لحركة آلتها؛ وهذا المعجب هو بيتيا. كانا مبتهجين بصورة خاصة؛ لأن الحرب باتت على أبواب موسكو؛ ولأنهم سوف يقتتلون عند أبوابها، وسيوزعون الأسلحة، ولأن الناس كلهم يهرعون ويهربون إلى جهة ما، وأخيرا، لأن شيئا ما خارقا قد وقع، وهو الأمر الذي يفتن دائما وخصوصا من هم في سن الشباب.
الفصل الثالث عشر
الضباط الجرحى
بدا كل شيء مقلوبا رأسا على عقب في بيت آل روستوف يوم السبت الواحد والثلاثين من آب. كانت الأبواب كلها مفتوحة على مصاريعها، والأثاث منقول من أمكنته، والمرايا واللوحات مرفوعة. وفي الغرف تكدست الصناديق وتناثر القش وورق الحزم وقطع الحبال في كل مكان، وراح القرويون وعبيد الأسرة يروحون ويغدون بخطوات ثقيلة حاملين الأمتعة، وفي الفناء تزاحمت العربات، بعضها محمل ومربوط بالحبال، والبعض الآخر ينتظر حمولته.
وفي كل مكان، كانت الخطوات والأصوات ترتفع؛ فالخدم الكثيرون لدى آل روستوف والقرويون الذين جاءوا مع العربات، كانوا يتبادلون النداءات التي أخذت تدوي في الفناء وفي البيت، وكانت الكونتيس التي أصيبت بالصداع بسبب الضجة والحركة الدائبة، ممددة في مخدعها الجديد وعلى جبينها كمادات الخل. أما بيتيا، فكان غائبا؛ إذ ذهب يزور رفيقا بغية السعي معه إلى الانتقال من فرق المتطوعين إلى الجيش النظامي. وكانت سونيا في البهو الكبير تشرف على حزم النجف والخزف، وناتاشا جالسة على الأرض في غرفتها المقلوبة بين الأثواب والشالات المبعثرة تمسك بين يديها ثوبا قديما من ثياب الرقص بطل زيه، ذلك الذي ارتدته في أول حفلة لها في بيترسبورج، وتتأمل الأرض ساهمة مفكرة.
كانت تشعر بالخجل إذ تبقى عاطلة دون عمل في البيت، في حين أن كل من فيه مشغول، فراحت تحاول مرات عديدة منذ الصباح أن تجد لنفسها ما يشغلها، لكنها لم تكن راغبة في العمل، لا تعرف ولا تقدر على الشروع في شيء دون أن تستغرق فيه بكل روحها وكل قواها. أرادت أن تحل محل سونيا في حزم الخزف، لكنها لم تلبث أن هجرت هذا العمل لتعود إلى حجرتها وتسوي متاعها الشخصي. لقد تسلت بادئ الأمر بتوزيع أثوابها وأشرطتها على وصيفاتها، ولما بات عليها أن تعود إلى حزم ما تبقى لديها، بدا لها الأمر مزعجا. - «دونياشا يا عزيزتي، سوف تقومين بالرزم؟ نعم؟ نعم، أليس كذلك؟»
ولما وعدتها دونياشا بأن تعمل كل شيء، جلست ناتاشا على الأرض، وأمسكت بثوبها القديم الخاص بالرقص، واستغرقت في ذكرياتها التي لم يكن لها أي دخل مع ما كان يجب أن يكون شاغلها في تلك اللحظة. ولقد انتشلت من تأملاتها على أصوات حديث الخادمات في غرفتهن المجاورة وصوت خطوات سريعة ذاهبة من تلك الغرفة نحو سلم الخدم. نهضت ناتاشا ومضت تطل من النافذة، فرأت قافلة كبيرة من الجرحى متوقفة في الشارع.
وكان الخدم والوصيفات والقيم ومربية الأطفال العجوز والطهاة والسائقون والسياس والمرافقون على الباب يتأملون الجرحى.
ألقت ناتاشا منديلا أبيض على شعرها، ونزلت إلى الشارع وهي تمسك المنديل من طرفيه بيدها.
خرجت المديرة السابقة مافرا كوزمينيتشنا من بين الجمع المحتشد أمام الباب، واقتربت من إحدى العربات المغطاة بطوق فوقه سماط من الجلد. دخلت في حديث مع ضابط شاب شاحب الوجه، كان ممددا بداخلها، وتقدمت ناتاشا بضع خطوات دون أن تترك طرفي المنديل، وتوقفت مروعة تصغي إلى ما تقوله المديرة.
سألت مافرا كوزمينيتشنا: «كيف هذا بالله؟! أليس لك أحد في موسكو؟ إنك ستكون أكثر هدوءا في مسكن هنا مثلا ... عندنا. إن السادة راحلون.»
فقال الضابط بصوت ضعيف: «لست أدري إذا كان مسموحا به. ها هو ذا الرئيس ... سليه.»
وأشار إلى طبيب ضخم كان ينزل الشارع على طول خط العربات.
ألقت ناتاشا نظرة مذعورة على الجريح، وجرت للقاء الطبيب. سألته: «هل نستطيع إيواء جرحى عندنا؟»
ابتسم الطبيب ورفع يده إلى حافة عمرته، وقال وهو يغمز بعينيه ويثابر على الابتسامة: «ماذا يمكن تقديمه لك من خدمات يا آنسة؟»
كررت ناتاشا سؤالها بهدوء ووجهها وكل مظهرها ينطقان بالجد، رغم أنها ظلت ممسكة بطرفي منديلها، وأن الماجور كف عن الابتسامة. وبعد أن فكر هذا وكأنه يتساءل عن مدى ما يمكنه إعطاء مثل هذا الإذن، أجابها قائلا: «ولكن بلى، ولم لا؟ يمكن.»
أومأت ناتاشا برأسها إشارة خفيفة، وعادت مسرعة إلى مافرا كوزمينيتشنا التي كانت منحنية فوق المريض تتحدث معه بحنان، همست ناتاشا في أذنها: «يمكن. لقد قال إنه ممكن!»
انعطفت العربة التي تحمل الجريح لتدخل في باحة آل روستوف، في حين راحت عشرات من العربات الأخرى المتجمعة على طول شارع بوفارسكاييا تدخل أفنية المنازل المجاورة بناء على تدخل سكانها. ولقد ظهر الافتتان على وجه ناتاشا لهذا التماس مع عالم جديد بعيدا عن كل اعتبارات الحياة العادية.
سعت تؤازرها مافرا كوزمينيتشنا إلى أن تدخل إلى الفناء أكبر عدد ممكن من الجرحى. قالت مافرا كوزمينيتشنا: «يجب على أية حال إعلام أبيك.» - «ولماذا؟ أليس ذلك سيان؟ ما الفائدة؟! إننا نستطيع أن نقضي ليلتنا الوحيدة في البهو. إننا قادرون على منح أجنحتنا كلها للجرحى.» - «لكنك لا تفكرين في الأمر يا آنسة، يجب الحصول على إذن حتى في سبيل التصرف باللواحق والأشياء المتداولة وغرف الخدم.» - «حسنا، سأمضي للحصول على الإذن.»
دخلت ناتاشا تجري إلى البيت، ودخلت على أطراف قدميها إلى المخدع الذي كانت تسبح فيه رائحة الخل ونقط «هوفمن». - «أماه، هل أنت نائمة؟»
فقالت الكونتيس التي انتفضت؛ لأنها أغفت منذ حين: «آه! كيف أستطيع أن أنام؟»
ركعت ناتاشا وضغطت وجهها على وجه أمها وقالت: «يا أمي الصغيرة العزيزة، صفحا، لن أعود إلى مثلها. لقد أيقظتك. إنها مافرا كوزمينيتشنا التي أرسلتني. لقد جاءوا بضباط جرحى منذ حين. هل تسمحين؟ إنهم لا يعرفون إلى أين يمضون. إنني واثقة من أنك ستسمحين ...»
وكانت تتحدث مندفعة دون أن تلتقط أنفاسها، فقالت الكونتيس: «أي ضباط؟ من الذي أتى بهم؟ لست أفقه شيئا!»
انفجرت ناتاشا ضاحكة، فابتسمت أمها بدورها. - «كنت أعرف أنك ستقولين نعم ... وها أنا ذاهبة لأقوله لهم.»
قبلت ناتاشا أمها ونهضت ثم خرجت.
وفي البهو، قابلت أباها الذي كان داخلا يحمل أنباء سيئة. قال ووجهه مكتئب دون عمد: «لقد تأخرنا كثيرا جدا! لقد أغلق النادي ورحل رجال الشرطة.»
سألته ناتاشا: «بابا، هل من مانع إذا أنا أدخلت جرحى إلى بيتنا؟»
أجابها بلهجة ساهمة: «بالطبع لا مانع. لكن الأمر لا يتعلق بهذا. إنني أطلب أن نكف عن الاهتمام بالترهات، وأن يعمد كل منا إلى العمل لنكون جاهزين كلنا حتى نذهب غدا، غدا منذ الصباح ...»
كرر الكونت هذا الأمر على رئيس الخدم والخدم، وعاد بيتيا عند الظهر يحمل هو الآخر أنباء.
روى أن الشعب خلال النهار مضى إلى الكريملن ليتسلح، وأنه رغم نشرات روستوبتشين التي زعمت أنه سوف يطلق صرخة النداء قبل يومين أو ثلاثة أيام، فقد أقيمت الاستعدادات للذهاب منذ الغد بالسلاح الكامل إلى الجبال الثلاثة حيث ستقع معركة كبرى.
أخذت الكونتيس تتأمل وجه ابنها الملتهب بالانفعال بذعر خجول خلال استغراقه في الكلام. كانت تعلم بأنه يكفي أن تقول لبيتيا ألا يذهب إلى تلك المعركة - وهي التي رأت أن تلك الفكرة هي التي تبهجه - حتى تجعله يتحدث مالئا الدنيا عن البسالة والشرف والوطن. سوف ينطق بكل أنواع الحماقات بعناد صبياني ودون أن يتقبل النقض فيضيع كل شيء؛ لذلك فقد كانت تأمل أن تصبح جاهزة للرحيل قبل نشوب المعركة، وأن تصحب ابنها معها بوصفه حاميها والمدافع عنها. وعلى هذا، فإنها لم تعقب على حديث بيتيا بكلمة، ولكن ما إن انتهوا من تناول الطعام حتى انتحت بالكونت جانبا وتوسلت إليه خلال دموعها السخية أن يذهب بها بأسرع ما يمكن، في تلك الليلة بالذات إذا كان الرحيل ممكنا. أكدت بالمكر البريء الخاص بالنساء الذي يصنعه الحب، أنها - وهي التي ظلت حتى ذلك الحين غير آبهة بالخطر - ستموت من الخوف إذا لم يرحلوا تلك الليلة بالذات. ولم يكن قولها مجرد خدعة، ما كانت تتظاهر بالخوف، بل كانت فريسة خوف حقيقي.
الفصل الرابع عشر
الأمير آندريه
زادت السيدة شوسي التي كانت في زيارة ابنتها، مخاوف الكونتيس عندما روت لها ما شاهدته لتوها قرب مستودع الكحول في شارع مياسنيتسكايا.
لم تستطع أن تجتاز هذا الشارع على قدميها بسبب جماعة السكارى التي كانت تملؤه؛ فاستقلت عربة وجاءت عن طريق شارع صغير إلى بيت الكونتيس. ولقد روى لها الحوذي أن الجمهور يحطم براميل المستودع؛ لأن الأمر ينص على ذلك.
بعد تناول الطعام، شرع كل من في بيت آل روستوف يعمل بسرعة مبعثها التحمس لإنهاء الرزم قصد إعداد الرحيل، وفجأة اهتم الكونت العجوز بالموضوع بنفسه، فلم يكف عن التنقل بين الفناء والبيت، وعلى العكس، وهو يزجر رجاله الذين ما كانوا يسرعون بالقدر الذي يريد، وهو الذي يريد أن تضاعف سرعتهم، واهتم بيتيا بالفناء، فوضعه تحت أوامره، ولم تعد سونيا تعرف أين تعمل وسط أوامر الكونت المتناقضة، وراح الخدم يصرخون ويتماحكون بصخب ويجرون عبر الغرف والباحة، بينما اندفعت تعمل بذلك الانكباب الذي تبديه عندما تعمل. ولقد تقبلوا مساعدتها في شئون الحزم بشيء من التحفظ بادئ الأمر؛ إذ ما كانوا يتوقعون منها أكثر من فراهات، وبالتالي لم يظهروا رغبة في الإصغاء إليها، لكنها أبدت عنادا وطالبت بحرارة أن يصغي إليها، وكادت أن تبكي لإغضائهم عن الاستماع إليها حتى انتهى بهم الأمر إلى تصديقها. ولقد اقتضاها عملها الأول مجهودات عظيمة، وأعطاها سلطانا. كان ذلك العمل هو حزم النجد؛ لأن الكونت كان يمتلك هوايات طائشة إلى جانب نجده العجمية. ولما شرعت ناتاشا في العمل كان في البهو صندوقان مفتوحان: الأول مملوء حتى حافته بالأواني الخزفية، والثاني بالنجود. وكان على المناضد المختلفة كثير من هذه الأواني التي راح الخدم يأتون بها من المدخرات، فكان يجب إعداد صندوق ثالث ذهب الخدم للإتيان به.
قالت ناتاشا: «انتظري يا سونيا، أعتقد أننا نستطيع إيداع كل شيء في هذين الصندوقين.»
فقال الخازن: «مستحيل يا آنسة، لقد حاولنا من قبل.» - «ولكن لا، انتظر قليلا.»
وشرعت ناتاشا تخرج من الصندوق الأطباق والصحاف الملفوفة بالورق بسرعة وهي تقول: «يجب وضع هذه الأطباق هنا بين النجود.»
فأضاف الخازن: «ولكن النجد وحدها تتطلب ثلاثة صناديق.»
انتظر قليلا وسترى.
وراحت ناتاشا تخرج الأشياء بسرعة وتقول وهي تشير إلى خزف كييف: «لا يجب وضع هذا هنا.» ثم تلتفت إلى أطباق الخزف من صنع الساكس وتؤكد: «هذا، نعم، هذا يمكن وضعه بين النجود.»
غمغمت سونيا: «دعي عنك يا ناتاشا، هيا، يمكنهم تدبير الأمر بدونك.»
وقال رئيس الخدم: «ذلك أنه يا آنسة ...»
لكن ناتاشا ما كانت لتلين. أفرغت محتويات الصندوق كله وقد قررت أنه لا يجب حمل النجود المستعملة ولا كثير من الأواني. ولما أخرجت كل شيء عادت إلى الترتيب. وفي الواقع، بعد أن استبعدت كل ما ليس بذي ثمن واقتصرت على الأشياء النفيسة، استطاعت أن تضع كل شيء في الصندوقين، غير أن غطاء أحد الصناديق امتنع عن الإغلاق، فكان يجب إبعاد شيء ما مما بداخل الصندوق. لكن ناتاشا كانت تريد الاحتفاظ بكل ما وقع عليه اختيارها، فراحت تفك وتربط وتحزم وتضغط، ثم تطلب إلى الخازن وبيتيا - الذي سرت إليه عدوى نشاطها - أن يضغطا على جانبي الصندوق، في حين راحت من جانبها تبذل مجهودا بائسا. قالت لها سونيا: «كفى، كفى يا ناتاشا. إنك على حق، وأنا واثقة من ذلك، لكن انزعي على أية حال الرزمة الأخيرة.»
فهتفت ناتاشا وهي تزيح بإحدى يديها شعرها المشعث عن وجهها السابح بالعرق وتضغط بالأخرى على النجود: «لا أريد. اضغط، بيتيا، اضغط! هيا يا فاسيليتش!»
ورصفت النجود وأنزل الغطاء، فصفقت ناتاشا بيديها، وأطلقت وهي في نشوة انتصارها صرخة انتصار ملأت عينيها بالدموع، لكن ذلك لم يلبث إلا فترة؛ إذ لم تلبث حتى استدارت إلى مهمة أخرى، وحينئذ اكتسبت ثقة كبرى. ولم يغضب الكونت عندما أنهوا إليه أن ابنته خالفت تعليماته، وراح الخدم يرجعون إليها لمعرفة ما إذا كانت حمولة العربة كافية، وكان يجب ربطها أم لا. وبفضلها أخذ العمل يتقدم، فهجروا كل قديم وتافه عديم النفع وجمعوا كل ما هو ثمين إلى أقصى ما يمكن ذلك.
مع ذلك، على الرغم من مجهودات الجميع، لم يستطيعوا حزم كل شيء ذلك المساء، فنامت الكونتيس ومضى الكونت بعد أن أجل الرحيل إلى صباح اليوم التالي، إلى مخدعه فنام.
ونامت سونيا وناتاشا في المخدع دون أن تنزعا ثيابهما.
وفي تلك الليلة، جيء بجريح آخر إلى شارع بوفارسكاييا، فأدخلته مافرا كوزمينيتشنا، التي كانت موجودة قرب الباب الخارجي، إلى مسكن آل روستوف. وكان ذلك الجريح - على حد زعم المديرة العجوز - شخصا رفيع المقام؛ إذ جالدوا به في عربة خفيفة مغطاة بقماش واق خاص. وعلى المقعد، قرب الحوذي، جلس خادم عجوز محترم، وتبعت العربة الأنيقة عربة عادية فيها طبيب وجنديان.
قالت العجوز تخاطب الوصيف العجوز: «ادخلوا عندنا، ادخلوا أرجوكم، إن السادة راحلون والبيت خال.»
فأجاب هذا وهو يزفر: «آه! نعم. ما كنا نصدق أن نجيء به حيا. إن لنا بيتنا في موسكو، لكنه بعيد من هنا ومغلق.»
قالت مافرا كوزمينيتشنا: «ولكن ادخلوا عندنا، فلدينا كل ما ينبغي. ادخلوا.»
ثم سألت: «يبدو أنه في حالة سيئة؟»
ندت عن الوصيف حركة تدل على الأسى، وكرر: «ما كنا نصدق أننا سنعيده إلى الصواب! يجب أن نسأل الطبيب.»
نزل من مقعده واقترب من العربة. قال الطبيب: «ولم لا؟!»
عاد الوصيف إلى العربة الأنيقة، فألقى نظرة إلى داخلها وهز رأسه، ثم قال للحوذي أن ينعطف ليدخل الفناء، ووقف وهو بالقرب من مافرا كوزمينيتشنا.
هتفت هذه: «آه! يا مولانا يسوع المسيح!»
عرضت مافرا كوزمينيتشنا أن ينقل الجريح إلى البيت الرئيس، وقالت: «لن يعترض السادة بشيء.»
ولما كان يجب تحاشي نقل الجريح عن طريق السلم، فقد حمل إلى الجناح وأسجي في الغرفة التي كانت السيدة شوس تحتلها حتى ذلك الحين. كان ذلك الجريح هو الأمير آندريه بولكونسكي.
الفصل الخامس عشر
عواطف الكونت
أشرق آخر يوم من أيام موسكو، وكان الطقس خريفا بهيجا واليوم أحدا، فقرعت الأجراس كلها على جري العادة داعية إلى القداس، وكان يبدو أن ما من أحد أدرك حتى تلك اللحظة ما ينتظر المدينة.
إلا أن بادرتين اثنتين دلتا فقط على الموقف الذي كانت فيه موسكو: موقف الجماهير وارتفاع الأسعار. ولقد ذهب العمال وخدم البيوت والقرويون منذ الصباح الباكر إلى الجبال الثلاثة على شكل حشد هائل، جاء الموظفون يضخمونه بالانضمام إليه وتلامذة اللاهوت والنبلاء، وظلت الجمهرة هناك زمنا ما دون أن يحضر روستوبتشين، وحينئذ أدرك المتجمهرون أن موسكو ستسلم، فتفرقوا في الخانات والحانات، وراحت أسعار الأسلحة والذهب والعربات ترتفع أكثر فأكثر، في حين تدنت أسعار الأوراق النقدية ولوازم الترف، حتى إنه لم يؤذن الظهر حتى كانت السلع الثمينة - كالأكواخ مثلا - تباع بنصف الثمن، في حين أصبح أضعف حصان قروي يباع بخمسمائة روبل. أما قطع الأثاث والمرايا والبرونز فكانت تباع بأتفه الأثمان.
لم يشعر آل روستوف في بيتهم القديم المحترم بهذا الانقلاب في الشروط الأولية للحياة إلا قليلا، فلم يختف خلال الليل أكثر من ثلاثة أشخاص، ولم يسرق شيء من البيت. أما فيما يتعلق بقيم الأشياء، فإن العربات الثلاثين التي جاءت من الريف كانت تمثل ثروة هائلة يحسد الكثيرون آل روستوف عليها، ثروة تقدر بمبالغ ضخمة. لم يقدموا لهم عروض بيع تلك العربات فحسب، بل إنه في السهرة والصباح الأول من أيلول توارد تابعون وخدم ضباط جرحى وجرحى كذلك أووا في البيوت المجاورة، توارد هؤلاء إلى فناء آل روستوف يتوسلون إلى الخدم أن يمنحوهم عربة؛ كي يستطيعوا مغادرة المدينة فيها. وكان رئيس خدم آل روستوف الذين كانوا يتوصلون به، يرثي للجرحى، لكنه كان يرفض بإصرار ويؤكد أنه لا يجرؤ حتى على إنهاء الخبر إلى سيده. لقد كان كل هؤلاء التعساء جديرين بالاهتمام، ولكن لو أعطيت العربة الأولى فإنه لا يمكن أن يكون هناك سبب للامتناع عن إعطاء ثانية ثم الأخرى حتى عربات السادة نفسها. ثم إن ثلاثين عربة لا يمكن أن تنقذ الجرحى. وفي هذا البلاء العام لا بد وأن يفكر المرء في نفسه وذويه، وهكذا كان يفكر رئيس الخدم باسم سيده.
ما إن استيقظ الكونت إيليا آندريئيفيتش صباح الأول من أيلول حتى خرج بخطوات خفيفة من حجرته متحاشيا إيقاظ الكونتيس التي عادت إلى النوم منذ حين، والتف بثوب منزلي من الحرير البنفسجي وخرج من المرقاة. وكانت العربات المربوطة تنتظر في الفناء، وعربات الركوب منتظمة أمام المرقاة. وكان رئيس الخدم واقفا أمام الباب الخارجي يتكلم مع تابع وضابط شاب شاحب الوجه يحمل ذراعه إلى عنقه. ولما وقعت عين رئيس الخدم على سيده، أشار إلى التابع والضابط أن يبتعدا!
قال الكونت وهو يمر بيده على جبهته الصلعاء وينظر إلى الضابط والتابع بعطف وهو يومئ لهما برأسه - والكونت يحب الوجوه الجديدة: «إذن، هل كل شيء جاهز يا فاسيليتش؟» - «يمكن أن تقطر الخيول فورا يا صاحب السعادة.» - «حسنا، حسنا جدا! فور ما تستيقظ الكونتيس، إلى الأمام وعلى بركة الله!»
وسأل الضابط: «من أنت يا سيدي؟ هل أنت في بيتي؟»
اقترب الضابط وغدا وجهه الشاحب متوردا فجأة: «كونت، أرجوك، بحق السماء، اسمح لي أن أجد ركنا لنفسي في إحدى عرباتك. إنني لا أملك شيئا، ولا فرق عندي إذا حملت على عربة نقل.»
ولم يكد يفرغ من كلامه حتى كان التابع يتقدم بمثل ذلك الالتماس على لسان سيده، فبادر الكونت يقول: «ولكن، بلى، بلى، بالتأكيد! وسأكون سعيدا بذلك، سعيدا جدا! يا فاسيليتش، مر أن يجهز لهما مكانان على عربة أو اثنتين، هذه ... إنها تماما ما يلزم ...»
ولم يلبث الضابط أن عبر عن عرفانه بعبارات مرتبكة، حتى إن الكونت اضطر إلى أن يتممها بنفسه. نظر حوله فإذا الجرحى والتابعون في الفناء وعلى الأبواب ونوافذ الجناح، وكلهم ينظرون إلى الكونت وهو يقترب من المرقاة. قال رئيس الخدم: «هل تأمرون سعادتكم بالانتقال إلى الرواق؟ ما هي أوامركم حول اللوحات؟»
دخل الكونت مع رئيس الخدم إلى البيت بعد أن كرر أمره بعدم صرف الجرحى الذين يتقدمون ملتمسين نقلهم، وأضاف بصوت خافت ولهجة غامضة وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: «على أية حال، يمكن أن نستغني عن بعض الأمتعة.»
استيقظت الكونتيس في الساعة التاسعة، فجاءت ماترينا تيموفيثيفنا، وصيفتها العجوز التي أصبحت تشغل عندها وظيفة رئيسة «الضابطة»، تعلمها أن ماري كارلوفنا ساخطة جدا، وأنه لا يمكن بحال من الأحوال ترك الألبسة الصيفية العائدة لهذه السيدة. ولقد حاولت الكونتيس أن تعرف سبب استياء السيدة شوسي، فعلمت أن صندوقها قد أنزل من أحد العربات، وأنهم فكوا الحمولة ليفسحوا المجال للجرحى الذين سمح الكونت - على طيبة نفسه المعهودة - بنقلهم، فاستقدمت الكونتيس زوجها: «ماذا يحدث يا صديقي؟ لقد أبلغت أنهم فكوا الأحمال!» - «كنت على وشك إخطارك بالأمر يا عزيزتي ... يا عزيزتي الكونتيس الصغيرة ... لقد جاءني ضابط يسألني بضع عربات لنقل الجرحى. إن كل هذه الأشياء يمكن استبدالها، أما هم فكيف نهجرهم؟! فكري في الأمر! ... صحيح، إننا نحن الذين أدخلنا هؤلاء الضباط إلى بيتنا ... إنك ترين حقا يا عزيزتي، يخيل إلي يا عزيزتي أن ... لماذا لا نأخذهم؟ ... ما الذي يضايقنا؟»
كان الكونت يتكلم بلهجة وجلة كالعادة عندما تطرح القضية المالية على بساط البحث، وكانت الكونتيس قد ألفت هذه اللهجة التي تمثل دائما مشروعا يضر بثروة أبنائها؛ كإقامة ممشى للوحات وحديقة شتوية أو مسرح أو جوقة موسيقية في البيت؛ لذلك كانت تعتقد أنها مرغمة على مخالفة زوجها كلما دقت سمعها تلك اللهجة الوجلة.
اتخذت مظهر الضحية الخاضعة وأعلنت: «أصغ يا كونت، لقد سقتنا لدرك أصبح فيه لا يمكن أن نطمع بقرش واحد يدفعه لنا شخص ما ثمنا لهذا البيت، والآن تريد أن تضيع كل مقتنياتنا وثروة الأولاد! أنت أعلنت بنفسك أن لدينا ما قيمته ألف روبل من الأمتعة المنقولة. إنني يا صديقي لست موافقة على رأيك مطلقا. أنت حر في تصرفاتك! إن الدولة هي المكلفة بالعناية بالجرحى، وهم يعرفون ذلك. انظر قبالتنا عند آل لوبوخين. لقد حملوا كل شيء منذ أول أمس. هذا ما يعمله الآخرون. إننا وحدنا الأغبياء، فأشفق على أبنائك على الأقل إذا كنت لا تشفق علي!»
قام الكونت بحركة غامضة وغادر الحجرة. سألت ناتاشا التي دخلت بعدهما: «أبي، ماذا حدث؟»
فأجاب الكونت غاضبا: «لا شيء مطلقا! هذا ليس شأنك.»
قالت ناتاشا: «لكنني سمعت كل شيء. لا تريد أمي؟» - «هذا ليس من شأنك!»
فاقتربت ناتاشا من النافذة وهي ساهمة، ثم أعلنت: «أبي، إن بيرج آت ...»
الفصل السادس عشر
نقل الجرحى
كان بيرج، صهر آل روستوف، قد بلغ رتبة زعيم، وحاز على وسامي فلاديمير وسانت آن، وكان يشغل دائما مهامه الهادئة الممتعة كمساعد لرئيس المكتب الأول في أركان حرب الفوج الثاني.
وكان يأتي في ذلك الصباح - الأول من أيلول - من جيش موسكو مباشرة.
ما كان لديه ما يعمله في موسكو، لكنه لما رأى أن الضباط الآخرين يطلبون مأذونياتهم للذهاب إلى هذه المدينة لأعمال لهم فيها، خيل إليه أنه مرغم على طلب مأذونيته لأعمال عائلية.
وصل بيرج إلى بيت حميه مستقلا إحدى تلك العربات الأنيقة التي يجرها جوادان قويان، مقلدا بذلك تقليدا متقنا شكل عربة أمير من معارفه. تأمل المركبات التي في الفناء بانتباه، ثم أخرج منديله الموشى وهو يصعد المرقاة وعقده.
اقترب بيرج من الردهة إلى البهو بخطى مرنة سريعة، فعانق الكونت وقبل يد ناتاشا وسونيا، وبادر يستعلم عن صحة الكونتيس. قال الكونت: «إن المجال مجال الاستفسار عن الصحة حقا! إن عليك أنت أن تخبرنا بما يعمل الجيش. هل سيتراجع أم سيقاتل؟»
فأجاب بيير: «الله وحده قادر على الإجابة على ذلك يا أبتاه، إنه وحده الذي سيقرر مصير الوطن. إن الجيش يحترق بالبطولة، ولقد اجتمع الرؤساء الآن في مجلس عسكري على ما يقولون. أما ما سينجم عنه، فإن ما من أحد يعرفه، لكنني أقول لك بصورة خاصة يا أبتاه إنه ليست هناك كلمات قادرة على وصف بطولة القطعات الروسية والبسالة التي ... التي أظهرتها وبرهنت عليها في معركة السادس والعشرين ... أؤكد لك يا أبي (وقرع صدره على طريقة جنرال رآه يروي تفاصيل المعركة، لكن حركته جاءت متأخرة؛ إذ كان عليه أن يجريها فور نطقه بكلمتي الجيش الروسي)، أؤكد لك بصراحة أننا معشر الرؤساء لم نكن في غير حاجة إلى دفع الجنود إلى المعركة بأية وسيلة كانت فحسب، بل كان علينا أن نوقف بالقوة أولئك، أولئك ...»
ثم هتف بطلاقة: «إنها مآثر وبسالة جديرة بالأقدمين. لم يوفر الجنرال باركلي دوتوللي حياته على رأس قطعاته، والشهادة لله. أما فيلقنا، فكان متمركزا على سفح الجبل، ولك أن تتصور الموقف!»
وهنا، روى بيرج كل ما تناهى إلى سمعه من مصادر مختلفة، وكانت ناتاشا تصغي إليه دون أن تبارحه بأنظارها الشاخصة إلى وجهه، وكأنها تحاول اكتشاف جواب على سؤال طرحته على نفسها ...
هتف بيرج وهو يستدير نحو ناتاشا مجيبا على نظرتها الملحة بابتسامة وكأنه يحاول استرضاءها: «لا يمكن تصور البطولة التي برهن عليها الجيش الروسي، ولا يمكن امتداحه بالقدر الكافي. «إن روسيا ليست في موسكو، بل في قلوب أبنائها!» أليس كذلك؟»
وفي تلك اللحظة، خرجت الكونتيس من المخدع بادية التعب مكتئبة الوجه، فاندفع بيرج نحوها يقبل يدها ويستعلم عن صحتها وهو يهز برأسه ليظهر العناية التي يعلقها عليها، ثم جلس إلى جانبها: «نعم يا أماه، إنني أعترف بكل صراحة أن الظروف كئيبة عصيبة بالنسبة إلى كل واحد منا، ولكن لماذا كل هذا الاكتئاب؟ لا زال لديك الوقت الكافي للرحيل ...»
قالت الكونتيس مخاطبة زوجها: «لست أدري ماذا يفعل رجالنا! لقد أخبروني منذ حين أن ما من شيء جاهز بعد. يجب إيجاد من يعطي الأوامر، وهنا نأسف على ميتانكا. إننا لن نخرج قط من هذه المحنة!»
أراد الكونت أن يرد، لكنه فضل أن يمسك، فنهض وتوجه نحو الباب.
وانتقى بيرج هذه اللحظة بالذات ليخرج منديله ويتمخط فيه، لكنه لما رأى العقدة التي عقدها بنفسه، شرد مفكرا ورفع رأسه بشكل معبر، وقال: «بابا، لدي رجاء هام أتوجه به إليك.»
قال الكونت وهو يتوقف: «آه!»
استأنف بيرج بلهجة منطلقة: «لقد مررت منذ حين أمام بيت يوسوبوف، فهرع القيم الذي أعرفه للقائي وقال: «هل تريد شراء شيء؟» فتبعته بفضول ووجدت خزانة للثياب مع مائدة للزينة، وأنت تعرف كم كانت فيرا ترغب في مثلها، وكم تخاصمنا لهذا السبب (استعاد بيرج رغما عنه لهجته المرحة؛ لأن تلك الخزانة ذات مائدة الزينة كانت تجعله فخورا ببيته)، إنها تحفة! إنها تفتح وفيها عدد من الجرارات وقفل إنجليزي خفي. هل تعرف؟ إنها تماما ما كانت صغيرتي فيرا ترغب فيه منذ زمن طويل، وإنني أحب أن أفاجئها بها، وفي الأسفل، في الفناء، عدد من القرويين، فأعطني واحدا أرجوك، وسأجزل له العطاء ... و...»
قطب الكونت حاجبيه وسعل بعصبية: «اطلب إلى الكونتيس. لست أنا الذي آمر.»
اعترض بيرج: «إذا كان ذلك صعبا فلن أقول شيئا. إن مرادي هو مفاجأة فيرا فحسب.»
هتف الكونت العجوز: «آه! ليحملكم الشيطان جميعا! نعم، اذهب إلى الشيطان، إلى الشيطان! إن المرء ليفقد صوابه!»
وبعدها خرج فانهمرت الدموع من عيني الكونتيس، فقال بيرج: «نعم يا أماه، إن الأوقات عصيبة!»
وخرجت ناتاشا مع أبيها، ولكن ذهبت بادئ الأمر تلحق به، وكأنه تتابع فكرة ما بصعوبة، ثم لم تلبث أن اندفعت إلى السلم.
وعلى المرقاة، كان بيتيا يوزع الأسلحة على الرجال الذين كانوا سيخرجون من موسكو مع القافلة، في حين وقفت العربات الجاهزة في الفناء، وكانت اثنتان منها قد أنزلت أحمالها وارتقى على أحدهما ضابط شاحب يسنده تابع.
سأل بيتيا أخته: «هل تعرفين السبب؟»
أدركت ناتاشا أن بيتيا يريد بذلك أن يسأل عن النقاش بين أبيهما وأمهما، فلم تجب. - «لأن أبي كان يريد إعطاء العربات كلها للجرحى. لقد روى لي فاسيليتش الخبر. إنني من جانبي ...»
فهتفت ناتاشا وهي تدير نحو أخيها وجهها المغضب: «من جانبي، من جانبي أرى أن هذا بشع مرذول. إنه منفر لدرجة حتى لست أستطيع أن أقوله، من نحن؟ لا أكثر من ألمان، إذن!»
وجرضت ناتاشا بالحسرات التشنجية، ولكي لا تضيع غضبتها هباء استدارت وصعدت السلم أربعا فأربع.
كان بيرج جالسا بجانب الكونتيس يقدم لها تعزيات بنوية محترمة، والكونت وغليونه في يده يذرع الغرفة عندما دخلت ناتاشا إلى الغرفة بجلبة ووجهها متقلص من الغضب، واندفعت بخطوات سريعة نحو أمها وصرخت: «يا للبشاعة! يا للهول! أيعقل أن تكوني قد أعطيت أوامر مماثلة؟!»
فراح بيرج والكونتيس، مروعين أكثر مما هما مذهولين، يتأملانهما، بينما جمد الكونت قرب النافذة يصيخ السمع.
هتفت ناتاشا: «أماه! هذا مستحيل. انظري إلى الفناء! إنهم يتركونهم ...» - «ماذا بك؟ من يتركون؟ ماذا تريدين؟» - «لكن الجرحى ...! كلا يا أماه، لا يمكن. إن هذا لا اسم له ... يا أمي العزيزة، لست أريد أن أتكلم على هذا النحو، فعذرا يا أمي الصغيرة، ولكن ما حاجتنا إلى ما نحمله؟! انظري إلى الفناء يا أماه، انظري! ... إن هذا لا يمكن أن يكون! ...»
وكان الكونت الواقف قرب النافذة يصغي إلى ناتاشا دون أن يدير رأسه، وفجأة نخر وهو يدني وجهه من الزجاج ...
تأملت الكونتيس ابنتها، وشاهدت انفعالها والعار الذي تحس به، ثم السبب الذي من أجله أشاح زوجها بعينيه، فنظرت حولها مشتتة الخاطر، ثم اعترضت دون أن تستسلم تماما: «آه! اعملوا ما تشاءون! هل تراني أضايق كائنا من كان؟» - «ماما، يا أمي الصغيرة، عذرا!»
لكن الكونتيس دفعت ابنتها واقتربت من زوجها. قالت وهي تخفض عينيها كالمذنبة: «يا عزيزي، أعط الأوامر اللازمة ... ما كنت أعرف شيئا.»
فغمغم الكونت مبتهجا خلال دموعه وهو يطوق زوجته بذراعيه، الأمر الذي أسعد هذه؛ إذ استطاعت بذلك أن تخفي وجهها الخجل في صدر زوجها: «البيض ... البيض والدرس الذي يعطيه للدجاجة.»
سألت ناتاشا: «بابا، ماما! يمكن إعطاء الأوامر، أليس كذلك؟ يمكن؟ ...»
وأضافت: «مع ذلك، سوف نحمل أكثر من حاجتنا.»
فندت على الكونت إشارة موافقة، فاندفعت ناتاشا بمثل الطريقة التي كانت تجري فيها عندما كانت تلعب، من القاعة الكبيرة إلى الردهة ومنها إلى السلم الذي يؤدي إلى الفناء.
لم يلبث الخدم أن أحاطوا بها وهم يرفضون تصديق الأوامر الغريبة التي أصدرتها لهم إلا بعد أن يؤيدها الكونت باسم زوجته. كانت تلك الأوامر تنص على وجوب رصف الصناديق كلها في مخازن الأمتعة، ووضع العربات كلها رهن إشارة الجرحى. وما إن فهموا حتى راح الرجال يعملون بحماس بهيج. لم يعد الخدم الآن يجدون غرابة فيما يعملون، بل إنه خيل إليهم استحالة التصرف على نهج آخر، رغم أنه قبل ربع ساعة ما كان أحد يدهش لفكرة هجر الجرحى وإنقاذ المتاع، بل يعتقد بأنه لا سبيل إلى غير ذلك.
شرع كل السكان، وكأنهم يحاولون تلافي الوقت الذي خسروه، في تهيئة الأمكنة للجرحى الذين كانوا يجرون أنفسهم خارج حجراتهم ساحبي الوجوه سعداء، ويحيطون بالعربات. ولقد انتشر الخبر في البيوت المجاورة يفيد وجود عربات للنقل، فتوارد الجرحى من تلك البيوت إلى فناء بيت آل روستوف، ولقد راح عدد كبير منهم يتوسل إليهم أن يتركوا الأحمال في العربات، وأن يسمحوا لهم بالركوب فوق الأحمال فحسب. ولكن ما إن بدأ تفريغ حمولة العربات حتى بات إيقافه متعذرا؛ إذ كان ترك كل شيء أو نصف الشيء أمرا واحدا. ولقد تناثرت الصناديق المملوءة بالآنية والبرونز واللوحات والمرايا المخرومة بعناية طيلة الليلة الماضية في الفناء، وكانوا دائما يجدون مبررات جديدة لإنزال هذه أو تلك من الأحمال للحصول على عربة فارغة جديدة .
عرض المسجل: «نستطيع أن نحمل أربعة آخرين، وإنني أمنح عربتي لهذا الغرض، وإلا أين نضعهم؟»
فقالت الكونتيس: «أعطهم العربة التي تحمل حوائجي، وستركب دونياشا معي في عربتي.»
وأفرغوا العربة التي تحمل صناديق الكونتيس وأرسلوا يحملون الجرحى من البيوت البعيدة، وكان السادة والخدم يتنافسون في هذا المضمار، ولقد كانت ناتاشا في حميا انتصارها سعيدة كما لم تسعد من قبل أبدا.
أخذ الرجال يقولون وهم يحملون صندوقا على المرقاة الضيقة لإحدى العربات: «كيف نثبته هنا؟ يجب على الأقل أن نترك عربة.»
فسألت ناتاشا: «ماذا في هذا الصندوق؟» - «كتب سيدي الكونت.» - «دعوها. سوف يهتم فاسيليتش بها. لسنا في حاجة إليها.»
امتلأت العربة بالركاب، وراحوا يتساءلون أين يمكن أن يجلس بيتيا. فهتفت ناتاشا: «سوف يصعد على المقعد. أليس كذلك يا بيتيا؟»
وكانت سونيا مشغولة مثل انشغال ناتاشا، ولكن على عكسها؛ إذ كانت تنظم الأشياء التي ينزلونها من العربات وتسجلها على لوائح بناء على رغبة الكونتيس، وهي تجتهد في أن تنقل مع ذلك أكبر قدر ممكن من الأمتعة.
الفصل السابع عشر
رحيل آل روستوف
وفي الثانية والنصف بعد الظهر، وقفت مركبات ركوب آل روستوف الأربع جاهزة تماما أمام المرقاة، وخرجت العربات التي تحمل الجرحى من الفناء واحدة إثر الأخرى.
اجتذبت عربة الأمير آندريه الأنيقة انتباه سونيا في اللحظة التي خرجت فيها إلى المرقاة، وكانت في تلك اللحظة منهمكة مع خادمة بإعداد مكان مريح للكونتيس في العربة الكبيرة العريضة المريحة الواقفة أمام المرقاة.
سألت سونيا وهي تخرج رأسها من باب المركبة: «لمن هذه العربة الأنيقة؟»
أجابت الوصيفة: «ألا تعلمين يا آنسة؟! إنها لأمير جريح أمضى الليل هنا وسيرتحل معنا.» - «ولكن من هو؟ ما اسمه؟»
تنهدت الوصيفة وقالت: «خطيبنا القديم نفسه، الأمير بولكونسكي! يقولون إنه لا أمل في شفائه.» قفزت سونيا من العربة وهرعت إلى الكونتيس، وكانت هذه قد استعدت للسفر في شال وقبعة مناسبين، تروح وتجيء متعبة في البهو، منتظرة كل الأسرة لكي يجلسوا لفترة قصيرة ويغلقوا الباب، ثم يضرعوا بالصلاة المألوفة في مثل هذه المناسبات قبل الرحيل. ولم تكن ناتاشا في الغرفة. قالت سونيا: «أماه، إن الأمير آندريه هنا، وهو مصاب بجرح قاتل. إنه سيرحل معنا.»
فتحت الكونتيس عينين مذعورتين جاحظتين، وأمسكت بسونيا من ذراعها، ثم التفتت حولها وهتفت: «هل ناتاشا؟ ...»
لم يكن لهذا النبأ بالنسبة إلى سونيا، كما بالنسبة إلى الكونتيس، إلا معنى واحد للوهلة الأولى. إنهما تعرفان ناتاشا وتفكران برعب في حالتها عندما تطلع على النبأ. أما إشفاقهما على الرجل الذي كانتا رغم ذلك تحبانه كثيرا، فإنه لم يكن يحتل إلا المرتبة الثانية.
كررت سونيا: «لا زالت ناتاشا لا تعرف شيئا. لكنه راحل معنا.» - «تقولين إن جرحه قاتل؟»
فأجابت سونيا بإيماءة من رأسها.
أحاطتها الكونتيس بذراعيها وراحت تبكي. فكرت وهي تشعر أن كل ما يحدث حينذاك توجهه يد الله التي ظلت غير منظورة حتى تلك اللحظة، والتي راحت الآن تتجلى: «إن دروب الرب لا تسبر!»
سألت ناتاشا التي هرعت في تلك اللحظة موردة الوجه: «إذن ماما، كل شيء جاهز. ماذا تنتظرون؟»
فقالت الكونتيس: «لا شيء. إذا كنت جاهزة أمكن لنا أن نرحل.»
وانحنت الكونتيس على حقيبة يدها لتخفي وجهها المنقلب، بينما ضمت سونيا ناتاشا إلى صدرها وقبلتها.
نظرت إليها ناتاشا بقلق: «ماذا بك؟ هل جرى شيء ما؟» - «كلا ... لا شيء ...»
سألت ناتاشا بإدراك مألوف لديها: «هناك شيء سيئ بالنسبة إلي؟ ما هو هذا الشيء؟!»
زفرت سونيا دون أن تجيب، ودخل الكونت وبيتيا والسيدة شوسي ومافرا كوزمينيتشنا وفاسيليتش إلى البهو، وأغلقوا الباب ثم جلسوا بصمت دون أن ينظر أحدهم إلى أحد لمدة بضع ثوان.
نهض الكونت أول من نهض، وبعد أن أطلق زفرة مسموعة رسم إشارة الصليب على صدره أمام الأيقونة، فحذا الباقون حذوه، ثم ربت الكونت على كتف مافرا كوزمينيتشنا وكتف فاسيليتش اللذين كانا سيمكثان في موسكو، في حين شرع هذان يمسكان بيده ويقبلان كتفه. ربت على ظهرهما برفق وهو يغمغم بكلمات غامضة ولكن ممالقة ومغرية. ومضت الكونتيس إلى مصلاها؛ حيث وجدتها سونيا راكعة أمام بعض الأيقونات التي تركت هنا وهناك على الجدار بعد أن رزمت الأيقونات الثمينة وحملت معهم كذكريات للأسرة.
وفي الفناء، وعلى المرقاة، كان الخدم الذين سيرحلون، المسلحون بالخناجر والسيوف التي وزعها عليهم بيتيا، وقد أدخلوا أكمام سراويلهم في أحذيتهم العالية ولفوا حول خصورهم نطقا من الجلد أو الصوف؛ يتبادلون عبارات الوداع مع الذين سيمكثون.
وكالعادة عند الرحيل، تبين أن هذا الأمر أو ذاك قد نسي أو أسيء عمله؛ لذلك فقد ظل الحارسان المسلحان فترة طويلة واقفين على طرفي العربة أمام البابين المفتوحين وفوق مرقاة المركبة بانتظار جلوس الكونتيس، في حين أن الوصيفات كن يهرعن حاملات الوسائد واللفائف من البيت إلى المركبة أو العربة الصغرى أو العربة الثالثة.
قالت الكونتيس: «يجب دائما أن ننسى شيئا ما. رباه، إنك تعرفين تماما أنني لا أستطيع الجلوس على هذا الشكل!»
فجرت دونياشا مستاءة تصرف على أسنانها، إلى «البرلين» الفخمة لتبدل الوسائد من مكانها دون أن تنطق بكلمة. وقال الكونت وهو يهز رأسه: [...]
وكان السائق الكهل «إيفيم»، وهو الوحيد الذي تثق به الكونتيس في ارتحالها، جالسا على مقعده العالي لا يلقي بالا إلى ما يحدث وراءه. كان يعرف بفضل خبرة ثلاثين عاما، أنهم لن يقولوا له بمثل هذه السرعة: «إلى الأمام!» وأنه عندما تشرع «البرلين» في الحركة، يجب أن تقف من جديد مرتين أو ثلاث مرات للإتيان بشيء ما منسي، وأن الكونتيس ستخرج رأسها من النافذة لتقول له أن يمشي بهدوء في المنحدرات حبا بالمسيح. كان يعرف كل هذا وينتظر بصبر أكثر من جياده، وخصوصا الأصهب الأيسر «سوكول» الذي ما كان يفتأ يقرع الأرض بقدمه ويعض على لجامه. أخيرا، جلس كل في مكانه ورفعوا المرقاة وانصفق الباب، ثم أرسلوا يأتون بصندوق صغير آخر، وأخرجت الكونتيس رأسها وفاهت بكلمات مقدسة، وحينئذ رفع إيفيم قبعته ببطء ورسم إشارة الصليب على صدره، فاقتدى به السائس والخدم كلهم، وقال إيفيم وهو يعيد قبعته على رأسه: «بحراسة الله!» ثم صاح: «هو!» فقاد السائس العربة. جذب الجواد الأيمن عنانه وصرت النوابض العالية، وتأرجح صندوق المركبة الكبير، وتحفز الخادم المرافق وقفز على المقعد والعربة في سيرها، وانتقلت «البرلين» وهي تقرقع من الفناء إلى الشارع المبعد تتبعها العربات الأخرى المترنحة، ولم يلبث ذلك الرتل أن راح يصعد الشارع. وراح ركاب «البرلين» والعربتين الأخريين يرسمون إشارة الصليب على صدورهم عندما مرت المراكب بالكنيسة المقابلة، بينما راح الخدم الذين سيبقون في موسكو يواكبون العربات على الجانبين لفترة ما من الطريق.
لم تشعر ناتاشا بمثل المرح الذي شعرت به في ذلك الحين، فجلست في «البرلين» قبالة أمها تنظر إلى جدران المنازل وهي تمر أمامها، منازل موسكو القديمة هذه التي انقلبت الأوضاع فيها، وبات الناس يهجرونها. ومن حين إلى آخر كانت تميل على الباب لتتأمل ما وراء العربة أو المشهد الذي أمامها، مشهد الرتل الطويل من عربات الجرحى التي تسبقهم. وفي المقدمة تقريبا كان غطاء عربة الأمير آندريه الأنيقة واضحا للعيان، وكانت تجهل من يحتل تلك العربة، لكنها كلما راحت تحصي طول الرتل، كانت تبحث بأنظارها عن تلك العربة التي ظلت محافظة على مكانها في المقدمة.
وفي شارع «كودرين» وصلت قوافل أخرى مماثلة لرتل آل روستوف آتية من نيكيتسكاييا وبريستاييا وجادة بودتوفينسكي، وعندما بلغت القوافل كلها شارع سادوفاييا، اضطرت إلى أن تنتظم في صفين.
وبينما هم ينعطفون حول برج سوفارييف، هتفت ناتاشا فجأة باستغراب تشوبه البهجة وهي التي كانت تتأمل المارة بين راكبي عربات ومشاة: «آه! رباه! ماما، سونيا، انظرا، ها هو ذا!» - «من؟»
قالت وهي تزداد انحناء ليتسنى رؤية العملاق الضخم الذي يرتدي معطف السائقين الذي تدل هيئته ومشيته على أنه نبيل متنكر، والذي كان يجتاز في تلك الأثناء برفقة كهل قصير القامة صفراوي أجرد قوسي البرج: «انظر، هذا بيزوخوف، أقسم لكما على أنه هو!»
وكررت ناتاشا: «نعم، نعم وأقسم لكما. إنه بيزوخوف في معطف حوذي ومعه كهل قصير مضحك. إنني واثقة.» - «ولكن لا، إنه ليس هو. كيف تقال مثل هذه الحماقات؟!»
هتفت ناتاشا: «أماه، أقدم رأسي للنطع إن لم يكن هو. (للحوذي): قف! قف!»
لكن الحوذي ما كان يستطيع الوقوف؛ لأن قوافل أخرى كانت تخرج من مييشتشانسكاييا، فكان السائقون يهتفون طالبين إليهم التقدم كيلا يعرقلوا حركة السير.
وفي الواقع، إن آل روستوف كلهم شاهدوا بيير رغم أنه كان أبعد من ذي قبل، أو على الأقل رجلا يشبهه بشكل خارق في معطف حوذي، يمشي على طول الشارع مطرق الرأس صارم الأسارير، وإلى جانبه عجوز قصير أجرد يشبه الوصيف. ولاحظ الكهل القصير رأس ناتاشا بارزا من باب العربة، فمس باحترام مرفق بيير، وقال له شيئا وهو يشير إلى «البرلين». ولقد لبث بيير فترة قبل أن يستوعب ما يقال له. لشد ما كان مستغرقا في خواطره! وأخيرا، عندما أدرك الفرض، نظر في الوجهة التي أشار إليها العجوز، فعرف ناتاشا على الفور. اندفع مستسلما لحركته الأولى، متوجها نحو العربة، لكنه بعد بضع خطوات توقف بسبب بعض الذكريات التي كان قد نسيها من قبل ولا ريب.
وكان وجه ناتاشا المنحني على الباب يشع بالحبور والبشاشة. هتفت وهي تمد له يدها: «يا بيوتر كيريلوفيتش، تعال، هيا! إنك ترى تماما أننا كشفناك! هذا رائع، كيف جرى؟ لماذا هذا الزي؟»
فأمسك بيير باليد الممدودة وقبلها بمهارة وهو يسير بحذاء العربة (التي تتوقف بالطبع)، وسألته الكونتيس بصوت تظهر فيه الدهشة مشبعة بالإشفاق: «ماذا حصل لك يا كونت؟»
قال بيير: «ماذا؟ لا شيء البتة! لا تسأليني.»
والتفت إلى ناتاشا التي كانت نظرتها المشعة المرحة - وكان يشعر بها دون أن يرفع عينيه إليها - تحيطه بالفتنة. ماذا تفعل إذن؟ هل تبقى في موسكو؟
فلم يجبها بيير على الفور.
وأخيرا قال بلهجة استفهام: «في موسكو؟ نعم، في موسكو. إلى اللقاء.»
فقالت ناتاشا: «آه! كم آسف لأنني لست رجلا، وإذن لبقيت حتما معك. سيكون رائعا! ماما، إذا كنت تسمحين لي بالبقاء سأبقى.»
تأمل بيير ناتاشا بنظرة ساهمة، وأراد أن يقول شيئا، لكن الكونتيس قاطعته: «يبدو أنك كنت في المعركة؟»
فأجاب بيير: «نعم، لقد كنت. وغدا ستنشب أخرى ...»
فقاطعته ناتاشا هذه المرة: «ولكن ماذا بك يا كونت؟ إن مظهرك غريب جدا ...» - «آه! لا تسأليني ولا تستجوبيني عن شيء؛ لأنني لست أفقه شيئا ... غدا ... كلا، ليس غدا! الوداع، الوادع!»
ثم أعقب: «يا للحظات المروعة!»
ثم ابتعد عن العربة ومضى إلى الرصيف.
وظلت ناتاشا فترة طويلة على الباب تتبعه بنظراتها وعلى شفتيها ابتسامة مرحة ودودة يشوبها شيء من السخرية.
الفصل الثامن عشر
قصة بيير
منذ اليومين اللذين مرا على اختفائه من مسكنه، كان بيير قاطنا في الشقة الفارغة التي كان يقطنها المتوفى بازدييف. وهذا ما جرى:
عندما استيقظ غداة يوم وصوله إلى موسكو ومقابلته مع روستوبتشين، ظل بيير فترة طويلة يفكر في المرحلة التي بلغ إليها والغاية التي يريدونها منه. ولما أعلنوا له بين الذين ينتظرون مقابلته، ذلك الفرنسي الذي حمل رسالة زوجته، شعر فجأة بالإضراب الغامض واليأس اللذين كان ميالا بطبعه إليهما. حدث نفسه بأنها النهاية، الآن، وأن كل شيء ليس إلا لبس ودمار، وأنه لم يعد هناك حق وباطل، وأن المستقبل لن يحمل له شيئا في طياته، وأن موقفه لا مخرج منه، فكان يجلس تارة على أريكته في وضع المثقل وهو يضحك ضحكة مغتصبة ويدمدم بين أسنانه شيئا، وتارة ينهض فيقترب من الباب وينظر خلال ثقب المفتاح إلى الردهة، ثم يعود بحركة يائسة فيجلس على الأريكة ويمسك بكتاب. دخل رئيس خدمه مرة ثانية يعلمه بأن الفرنسي الذي حمل رسالة زوجته يرغب رغبة قوية في مقابلته ولو لدقيقة واحدة، وأضاف أن أرملة بازدييف ترغب قبل أن ترحل إلى الريف في معرفة ما إذا كانت تستطيع ائتمانه على بعض الكتب.
أجاب بيير رئيس خدمه: «آه! نعم، فورا، انتظر ... أو بالأحرى لا! قل إنني سأحضر بعد حين.»
على مرتفعات بورودينو.
لكن، لم يكد رئيس الخدم يخرج حتى أخذ بيير قبعته التي كانت ملقاة على الطاولة وفر من مكتبه من الباب الداخلي. وكان الممشى خاليا، فسار فيه بيير حتى السلم، فهبط عليه وهو مستغرق في التفكير، يضغط جبهته بكلتا يديه حتى بلغ بسطة الدور الأول. وكان البواب واقفا أمام الباب الرئيسي، ولكن كان هناك سلم آخر قرب البسطة التي وقف عليها بيير يقود إلى المخرج الخلفي. اتخذ سبيله من هناك ونزل إلى الفناء دون أن يراه أحد. وفي الفناء نفسه، في اللحظة التي كاد فيها أن يجتاز الباب المؤدي إلى الشارع، رآه السائقون الذين وقفوا هناك بعرباتهم، وكذلك رآه البواب، فخلعوا قبعاتهم. أحس بيير بتلك الأنظار تحدق فيه، فأطرق برأسه كالنعامة التي تخفي رأسها في الرمال كيلا يراها أحد، وحث خطاه ثم خرج إلى الشارع.
بدا لبيير أن أكثر الأشياء التي عرضت له ذلك الصباح عجلة هو أخذ كتب جوزيف ألكسيئييفيتش وأوراق.
استقل أول عربة صادفها، وأمر أن يحمل إلى مستنقعات البطريرك «إيتان دوباتربارش» حيث كان بيت بازدييف.
كان ينظر في كل الجهات إلى أرتال العربات التي تغادر موسكو، وهو لا يدري كيف يحيد بجسمه الضخم كي يتحاشى الانزلاق تحت إحدى العربات الشديدة القدم التي كانت تصر، ويحس بمثل ذلك الإحساس الذي يخامر الغلام الهارب من مدرسته، فراح يثرثر مع الحوذي وهو مبتهج.
روى له هذا أنهم يوزعون الأسلحة في الكريملن، وأنهم سينتقلون غداة اليوم التالي إلى الجبال الثلاثة حيث ستنشب معركة كبرى.
ولما وصل إلى مستنقعات البطريرك استدل بيير على مسكن بازدييف الذي لم يزره منذ فترة طويلة. واقترب من الباب، فلما قرعه هرع جيراسيم، ذلك الكهل القصير ذو اللون الأصفر، الأجرد، الذي رآه بيير قبل خمس سنوات مع سيده في تورجوك. سأل بيير: «هل من أحد؟» - «بالنظر إلى الظروف، فقد ارتحلت صوفي دانيلوفنا مع الأولاد إلى ملكها في تورجوك يا صاحب السعادة.»
فقال بيير: «سوف أدخل رغم ذلك؛ إذ علي أن أختار الكتب.» - «على الرحب والسعة. إن أخا فقيدنا - ليتغمده الله برحمته - ماكار ألكسيئييفيتش قد ظل هنا، لكنه كما تعلم ضعيف العقل.»
وكان بيير يعرف أن ماكار ألكسيئييفيتش - أخا الفقيد - نصف مجنون، مدمن على الشراب، فقال وهو يدخل البيت: «نعم، نعم، أعرف، هيا، ولنسرع.»
وكان كهل طويل القامة أحمر الأنف مرتديا معطفا منزليا، عاري القدمين في خفين من المطاط، واقفا في الردهة، فلما شاهد بيير غمغم ببضع كلمات ومضى إلى الممشى .
قال جيراسيم: «لقد كان عبقريا، لكنه كما ترى أصبح ضعيف الذكاء. هل ترغب في دخول المكتب؟ (فأومأ بيير موافقا) لقد وضعوا الأختام ولا زالت سليمة، ولقد أمرت صوفي دانيلوفنا أن نسلم الكتب إلى من يأتي من قبلك.»
دخل بيير ذلك المكتب المعتم بالذات الذي ما كان يدخله إلا وهو يرتعد طيلة ما لبث المحسن على قيد الحياة. ولم يمس أحد شيئا منذ وفاة جوزيف ألكسيئييفيتش، فكان الغبار يعلو كل شيء، وكل شيء محزن أكثر من أي وقت مضى.
فتح جيراسيم خلفه نافذة وخرج من الحجرة على أطراف قدميه، فدار بيير بالمكتب وجاء إلى الخزانة التي وضعت فيها المخطوطات، فأخذ واحدة منها، كانت فيما مضى من أكثر تراث المحفل قدسية. كانت تلك المخطوطة هي الوقائع الإيكوسية الصحيحة، شرحها المحسن وفسرها بخط يده. جلس بيير إلى طاولة العمل المغطاة بالغبار ووضع المخطوطة أمامه وفتحها ثم تصفحها، وأخيرا تركها ليستغرق في أفكاره ورأسه بين يديه.
وجاء جيراسم أكثر من مرة يلقي نظرة مختلسة إلى المكتب، فكان في كل مرة يرى بيير على وضعه ذاك. وانقضت ساعتان ونيف فسمح جيراسيم لنفسه أن يحدث ضوضاء أمام الباب ليجذب انتباه بيير، لكن بيير لم يسمعه. - «هل أصرف العربة؟»
فقال بيير الذي استعاد حواسه ونهض بعزم: «آه! نعم.»
ثم أضاف وهو يمسك زر ثوب جيراسم وينحدر على العجوز القصير بنظرة جليلة مشرقة مبللة بالدموع: «أصغ، أصغ. هل تعلم أنهم سوف يقتتلون غدا؟»
فأجاب جيراسيم: «يقولون ذلك.» - «أطلب إليك ألا تقول لأحد من أكون، واعمل ما سأطلبه منك ...»
قال جيراسيم: «تحت أمرك. هل أقدم لك طعاما؟»
قال بيير وقد تضرج وجهه فجأة: «كلا، ليس هذا ما أريده. تدبر لي ثياب قروي ومسدسا.»
فردد جراسيم بعد أن فكر قليلا : «تحت أمرك.»
ظل بيير طيلة ذلك النهار معتكفا في مكتب ذلك المحسن، ولقد سمعه جيراسيم يذرع المكتب جيئة وذهابا بعصبية وهو يكلم نفسه. وفي الليل، نام على سرير نصب خصيصا له.
لم يدهش جيراسيم الذي شاهد خلال حياته كخادم، آخرين أشد غرابة يقيمون في البيت، بل إنه بدا سعيدا بوجود من يقدم له خدماته. وفي المساء، ودون أن يسأل عما يمكن أن يعمل به، حمل لبيير معطفا من ذلك النوع الذي يلبسه السائقون، وقلنسوة، ووعده بتقديم المسدس صباح اليوم التالي. ولقد جاء ماكار ألكسيئييفيتش مرتين خلال الليل إلى باب المكتب يجر خفيه وينظر إلى بيير باستمالة، لكن ما إن يلتفت بيير إليه حتى يحتجب بذعر ويسخط في ثوبه المنزلي ويبادر إلى الابتعاد. ومضى بيير متشحا بمعطف الحوذي الذي اشتراه له جيراسيم ونظفه له إلى برج سوخارييف ليشتري مسدسا حينما التقى بآل روستوف.
الفصل التاسع عشر
نابليون على مشارف موسكو
في ليلة الأول والثاني من أيلول، أصدر كوتوزوف الأمر إلى الجيش الروسي بالانثناء عبر موسكو على طريق ريازان.
تحركت القطعات الأولى تلك الليلة بالذات دون أن تتعجل في تلك الظلمات، فكانت تتقدم ببطء واتزان، ولكن عند الفجر، عندما اقتربت من جسر دوروجوميلوف على نهر موسلفا غربي المدينة، وجدت أمامها كتلا من الناس يتدافعون لعبور الجسر ويجتمعون على الضفة المقابلة، يسدون الشوارع والأزقة ووراءهم قطع لا تحصى من الجنود التي تدفعهم، فاستولى على الجيش اضطراب وقلق لا مبرر لهما. اندفعوا جميعا إلى الأمام نحو المجازات والقوارب، أما كوتوزوف، فقد أمر بنقله عن طريق دائري من الجانب الآخر من موسكو.
وفي الثاني من أيلول، الساعة العاشرة صباحا، لم يبق في ضاحية دوروجوميلوف إلى المؤخرة، أما السواد الأعظم من الجيش، فكان قد اجتاز موسكوفا وابتعد عن موسكو.
وفي تلك الأثناء، كان نابليون الذي وصل مع جنوده إلى جبل بوكلوناييا يتأمل المشهد الذي عرض لناظريه، ولقد كان الطقس منذ السادس والعشرين من آب وحتى الثاني من أيلول - منذ معركة بورودينو وحتى يوم دخول الأعداء موسكو - طيلة ذلك الأسبوع التاريخي، آية في جمال الجو الخريفي الخارق المدهش أبدا؛ فالشمس المنحنية على الأفق كانت محرقة أكثر منها في الربيع، وإشعاعاتها الباهرة المنتشرة في الفضاء تؤلم العيون، والصدور تتمدد ويستنشق الناس ملء رئاتهم عبير الخريف، والليالي نفسها لطيفة ، وفي تلك الليالي الحالكة الحارة كانت النجوم الذهبية تسقط من السماء فتوقظ الرعب والفرح.
وكان اليوم الثاني من أيلول، الساعة العاشرة صباحا، على مثل البهاء الذي وصفنا.
كان ضياء الصباح سحريا، وموسكو من أعلى جبل بوكلوناييا تنبسط في الأبعاد بنهرها وحدائقها وكنائسها، وتبدو وكأنها تعيش حياة خاصة بها بقبابها الملتمعة تحت إشعاعات الشمس كالنجوم.
ولما رأى نابليون هذه المدينة، غريبة البناء، الأخاذة، شعر بذلك الفضول المشوب بقليل من الحسد والقلق، الذي يشعر به الناس لمرأى خطوط حياة غريبة تجهلهم. كان واضحا أن تلك المدينة تحيا حياتها الخاصة بكل ما في هذه الكلمة من قوى، وكانت الدلائل التي لا توصف، الدلائل التي تجعل المرء يفرق بها ولو على البعد، جسدا ميتا من جسد حي، هذه الدلائل جعلت نابليون من أعلى جبل بوكلوناييا يشعر بسكان هذه المدينة أشبه بأنفاس هذا الجسد الرحيب الرائع.
إن كل روسي يتأمل موسكو يشعر أنها أم، وكل أجنبي ينظر إليها دون أن يدرك معنى الأمومة فيها، تدهشه رغم تلك الصفة النسوية التي لهذه المدينة، ولقد شعر نابليون نفسه بذلك.
قال نابليون وهو يترجل عن جواده: «هذه المدينة الآسيوية ذات الكنائس الكثيرة، موسكو المقدسة. ها هي ذي أخيرا، هذه المدينة العتيدة! لقد كان الوقت مناسبا.»
وأمر أن ينشر أمامه مخطط موسكو، ثم استدعى مترجمه ليلورم ديدفيل وهو يفكر: «إن مدينة يحتلها العدو تشبه فتاة فقدت شرفها.» وكان يردد ما قاله في سمولنسك وفي توتشوكوف. ولقد كان يتأمل هذا الجمال الشرقي الذي تفتح له فجأة ممتدا تحت قدميه وهو يشعر بهذا الشعور، ولقد بدا تحقق ذلك الحلم الذي هدهده منذ زمن طويل، ذلك الحلم الذي بدا له بعيد المنال، لونا من الغرابة، فكان في ضياء الصباح الوضاء ينقل بصره تارة إلى المخطط وطورا إلى المدينة مدققا في كل تفصيل، وقد ملأه التأكد من امتلاكها الانفعال والذعر.
كان يحدث نفسه: «ولكن، هل يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك؟ ها هي ذي عند قدمي، تلك العاصمة تنتظر مصيرها. أين ألكسندر الآن ؟ وماذا تراه يفكر؟ يا لها من مدينة غريبة ضخمة رائعة! يا لها من دقيقة غريبة وجليلة! وهم تحت أي ضوء يجب أن أبدو لعيونهم.» هذا ما كان يفكر فيه وهو يذكر جنوده في نفسه، وألقى نظره على من حوله وعلى جيشه الذي كان يتقدم بنظام جميل: «ها هي ذي، المكافأة لكل هؤلاء القليلي الإيمان. كلمة واحدة مني، إشارة واحدة، فإذا بها تضيع، مدينة القياصرة القديمة هذه، لكن رحمتي على استعداد دائما لتسبغ على المقهورين. يجب أن أبرهن على شهامة ونفس كبيرة حقيقية ...»
وفجأة فكر: «كلا، يستحيل أن أكون قد بلغت موسكو. مع ذلك، ها هي ذي أمامي، بذهب قبابها وصلبانها الذهبية؛ حيث تتلاعب إشعاعات الشمس وترتعد، لكنني سأحميها. سوف أطبع كلمات العدالة والرحمة الكبيرة على هذه الأبنية، أبنية البربرية والاستبداد. وأنا أعرف أن ألكسندر سوف يقدر هذا رغم كل شيء. (كان يخيل إلى نابليون أن المعنى الرئيسي للأحداث الجارية يترجم إلى مبارزة شخصية بينه وبين ألكسندر.) ومن أعلى الكريملن - لأن هذا هو الكريملن ولا ريب! - سوف أعطيهم القوانين العادلة، وسأريهم معنى المدينة الحقيقية. سوف أرغم أجيال أشراف روسيا على أن يذكروا المنتصر عليهم بحب. سأقول لوفود ممثليهم إنني ما أردت الحرب ولا أريدها، وإنني ما خضتها إلا بسبب سياسة بلاطهم الكاذبة، وإنني أحب وأحترم ألكسندر، وإنني مستعد لأن أتقبل في موسكو نفسها صلحا جديرا بي وبشعوبي. إنني لا أريد أن أنتهز فرصة حرب ظافرة لأحط من قيمة ملك محترم. سأقول لهم: «أيها الأشراف! إنني لا أريد الحرب، بل أريد السلم وراحة كل أتباعي ورفاههم.» ثم إنني أعرف أن حضورهم سوف يلهمني ما يجب أن أقوله لهم، وسوف أكلمهم كما أتكلم دائما؛ بوضوح وجلال وعظمة. ولكن هل حقيقة أنا في موسكو ؟ نعم، إنها هي نفسها!»
قال وهو يلتفت إلى حاشيته: «ليأتون بالأشراف.»
فمضى جنرال تتبعه حاشية لامعة بحثا عن الأشراف.
ومضت ساعتان، فأكل نابليون ثم اتخذ المكان نفسه على جبل بوكلوناييا بانتظار الوفود. ولقد اتخذ الخطاب الذي سيلقيه على الأشراف خطوطه الواضحة، وأصبح مفعما بالكرامة والعظمة.
ولقد راحت لهجة الشهامة التي سيتخذها والتي ستخضع موسكو، تخضعه هو نفسه. أخذ يحدد في ذهنه يوم «الاجتماع في قصر القياصرة»؛ حيث سيلتقي كبار السادة الروسيون مع شخصيات بلاطه الرفيعة، وسمي سلفا الحاكم الذي سيعود انتقاؤه بعطف السكان. ولما علم أن موسكو تضم عددا من مؤسسات الإحسان، فقد قرر أن يغرق هذه المؤسسات بما يغدقه عليها، وكان يفكر في أنه إذا كان في أفريقيا يجب الذهاب إلى الجامع «بالبرنس»، فإنه في موسكو لا بد وأن يظهر محسنا كالقياصرة. ولكي يكسب عطف الروسيين نهائيا، قرر ككل فرنسي عاجز عن القيام بأعمال الرفق والحنان دون أن يتذكر «عزيزتي، أمي المسكينة الحنون» أن يأمر بأن ينقش على مداخل تلك المؤسسات كلها: «مؤسسة مهداة إلى أمي العزيزة»! نعم، هذه العبارة وليس «بيت أمي» فحسب. وعاد يفكر من جديد: «ولكن، هل من الممكن أن أكون بلغت موسكو؟ نعم، ها هي ذي أمامي، ولكن لماذا تأخرت وفود المدينة عن المجيء كل هذا الوقت.»
في تلك الأثناء، في الصفوف الأخيرة من حاشية الإمبراطور، كان الجنرالات والماريشالات المنشغلون يناقشون بصوت خافت. لقد عاد أولئك الذين ذهبوا للإتيان بالوفود بنبأ خلو موسكو من السكان الذين فروا جميعا. وكانت الوجوه ممتقعة ومذعورة. لم يكونوا خائفين؛ لأن موسكو هجرها أهلها - رغم أهمية مثل هذا الحدث - بل كانوا خائفين من إبلاغ النبأ للإمبراطور، فكانوا يتساءلون عن الوسيلة التي سيبلغون الأمر لجلالته دون أن يصفوه في ذلك الموقف المريع الذي يسميه الفرنسيون «مستحق الهزء»، قائلين له إنه انتظر الأشراف عبثا، وإن موسكو لم يعد فيها إلا الرعاع من السكارى. كان بعضهم يشير بأن تجمع وفود كيفما اتفق، والبعض الآخر يبعدون هذه الفكرة مؤكدين وجوب إعداد الإمبراطور بحذر وحذق لمعرفة الحقيقة.
قال أولئك السادة من حاشيته: «يجب إنهاء الخبر رغم كل شيء. ولكن أيها السادة ...»
ولقد كان الموقف يزداد صعوبة؛ لأن نابليون المستغرق في خططه المتعلقة بعظمة النفس، كان يروح ويجيء متذرعا بالصبر أمام مخططه المنشور يبتسم ابتسامة محمومة مبتهجة، ويرفع بين الحين والحين يده إلى طرف قلنسوته أمام عينيه ناظرا إلى طريق موسكو.
وكان الأتباع من رجال البلاط يرددون وهم يهزون أكتافهم دون أن يقرروا النطق بتلك الكلمة الرهيبة التي تحوم على شفاههم: «يستحق الهزء.» - «ولكن هذا مستحيل ...»
وفي تلك الأثناء، شعر الإمبراطور الذي أتعبه الانتظار، بإحساس الممثل الهزلي الذي تفرد به أن اللحظة الحاسمة قد طالت أكثر مما ينبغي، فبدأ يفقد جلاله وأومأ بيده. وعندئذ دوى قصف مدفع ليعطي الإشارة إلى القطعات التي كانت تحيط بموسكو من كل الجهات، فلم تلبث هذه أن تحركت نحو مداخل المدينة: تغير، كالوجا، دوروجوميلوف مستحثة خطاها، يسبق بعضها بعضا أثناء السير، بين مشاة وفرسان وراحت تتقدم سحابة من الغبار وهي تطلق هتافات مدوية.
جرف حماس الجنود نابليون، فبلغ معهم مدخل دوروجوميلوف، لكنه هناك أمر بالوقوف ونزل عن حصانه، وراح يتنزه على طول حاجز «كوليج دولاشامبر» وهو لا يزال بانتظار الوفود.
الفصل العشرون
الحيلة الميتة
في تلك الأثناء، كانت موسكو خالية. كان لا يزال بعض السكان طبعا، بنسبة واحد إلى خمسين من مجموع السكان العاديين، لكن المدينة كانت رغم ذلك خالية كخلية نذرت بالموت برحيل ملكتها.
والواقع أن مثل هذه الخلية تعتبر محرومة من الحياة رغم ما تبدو للنظرة السطحية، حافلة بالنشاط للوهلة الأخرى كأية خلية.
فالنحل يحوم حولها تحت إشعاعات الشمس الدافئة حوما مرحا يشبه حومه حول خلية حية، ورائحة العسل تفوح من مسافة بعيدة، ويرى الناظر النحل يخرج منها، ولكن يفي مجرد المراقبة لمعرفة أن الحياة مفقودة في تلك الخلية. إن النحل لا يحوم على هذا النحو حول الخلايا الحية، بل إن هذه الرائحة نفسها والطنين ليس إياه. فإذا قرع بعضهم خلية مريضة، فإنه بدلا من الجواب الفوري الإجماعي الذي يتمثل بانطلاق بضع عشرات الألوف من الحشرات في حالة غليان مشرعة حماتها تضرب بأجنحتها بجنون محدثة صخب الحياة الشديد، لا ترد الخلية الأبدندنات منعزلة يتردد صداها في بعض الخلايا الفارغة. لا يشعر المرء عند دخوله بالرائحة المألوفة، الرائحة الكحولية العطرية ، رائحة العسل والسم، ولا يحس بالنفحات الفاترة التي تملأ المكان المأهول، بل إن رائحة العسل تمتزج برائحة الفراغ والعفن، ولا يصبح الدخول ممنوعا من قبل حارسات على استعداد للتضحية بأنفسهن وقد شرعن مؤخراتهن استعدادا للنزال، ولا تسمع الضجة اللينة للعمل الناشط الذي يشبه الماء في غليانها، ولكن حركات غير منظمة، مبعثرة، حركات الفوضى، والذباب الأسود يدخل ويخرج، وهذا الذباب الوجل الماكر ذو الشكل الطويل، المنغمس كله بالعسل، هو سلاب الخلية لاحمة له، يفر حالما يدفع. أما من قبل، فالعاملات وحدها كانت ترى داخلة بحملها لتخرج خاوية، بينما تذهب الآن مع أسلابها. ويفتح مربي النحل الكوة السفلى وينظر إلى القسم الأسفل من الخلية. وبدلا من العنقود المألوف من النحل الأدكن الذي يتدلى حتى السطح الأسفل وقد تشبثت النحلة بأختها، وراحت تفرز بنشاط شمعها في طنين لا ينقطع، يرى عاملات منهكات خائرات تائهات من جانب إلى آخر، مبعثرات في الأسفل وعلى الجوانب. وبدلا من الأرض المطلية بالعبكر المكنوسة بعناية بضربات الأجنحة العنيدة، تناثرت بقع من الشمع في الأسفل وعسل النحل نضف الميت الذي لا زال يحرك أطرافه، و«جثث» نحل نافق لم يرفع بعد.
ويفتح مربي النحل بعدئذ الكوة العليا وينظر إلى «رأس» الخلية، وبدلا من الشهاد الممتنعة التي تحتضن البيض والصفوف المتراصة من النحل، يرى هندسة الأقراص الفنية الحاذقة، لكنها تكون محرومة من ذلك المظهر البتولي الذي كان لها من قبل. فكل شيء مهجور ومدنس، والذباب الأسود سلاب الخلية قد تسلل بمهارة ورشاقة بين العاملات، في حين أن هذه باتت متراخية جافة نحيلة فاشلة، تتيه من هنا إلى هناك أشبه بعجائز ضعيفات، دون أن تتعرض للنهب أو تأبه لشيء وقد فقدت طعم الحياة. والذكور وذباب البقر وضروب الفراش تتصادم وهي تحوم على الجنبات. وفي وجهة ما بين الأقراص المليئة بالبيض الفاسد والعسل، يلاحظ في حركات فجائية طنين غاضب، وفي مكان آخر نحلتان بهما غريزة العمل إلى تنظيف عشهما، فراحتا تسعيان جهد طاقتهما لطرح جثث عاملة أو ذكر خارج الخلية دون أن تدركا ما هما فاعلتان. وفي جهة أخرى نحلتان هرمتان تقتتلان بتراخ أو تنظفان جسديهما أو تطعم إحداهما الأخرى دون أن يعرف ما إذا كان نشاطهما وديا أو عدائيا. وفي زاوية أخرى كتلة من النحل يسحق بعضها بعضا، تهاجم ضحية ما وتضربها وتخنقها، فتسقط الضحية القتيل ببطء خفيفة كالفقاعة على كوم الجثث، ويقلب المربي قرصي الوسط ليرى العش، وبدلا من ألوف النحل المتساند ظهرا إلى ظهر في دائرة سوداء، المقيم هناك لمراقبة سر النقف، يرى حشرات كئيبة محذرة لا تكاد تبلغ بضع مئات وهي في حالة أقرب إلى الموت. فالنحل كله ميت تقريبا، يجهل أن الكنز الذي يحرسه لم يعد له وجود، تفوح منه رائحة عفنة، باستثناء البعض الذي يتحرك ويطير بضعف ليقعقع على يد المربي، وقد بلغ من ضعفه أنه لا يفقد الحياة إذا لسعه. أما البقية الباقية، فكلها ميت، تسقط إلى الأسفل أشبه بإسقاط السمك. وحينئذ يعيد المربي الكوة كما كانت، ويشير إلى الخلية بالحكك، ثم يتخير اللحظة المناسبة لإخراج الثول وإحراقه.
وهكذا كانت موسكو خالية، بينما كان نابليون المتعب القلق المقطب حاجبيه، يروح ويجيء عند حاجز «كوليج دولاشامبر» منتظرا الوفود، وهو أمر لا يتعدى مجرد مظهر تقليدي، لكنه لا بد منه في رأي نابليون.
وفي مختلف أحياء المدينة كان بعض الناس يروحون ويجيئون عاجزين عن قصد معين، تحركهم عادات قديمة، لا يفقهون ما يفعلون.
وعندما جاءوا يعلمون نابليون بالاحتياطات اللازمة، أن موسكو خالية، تأمل حامل هذا النبأ بعين غاضبة، ثم استدار وعاد إلى نزهته الصامتة، وأخيرا قال: «ليأتوني بعربتي.»
ثم صعد إليها مع المساعد العسكري المنوب ودخل الضاحية وهو يردد في نفسه: «موسكو خالية! يا للحدث الذي لا يصدق!»
لم يدخل المدينة، بل توقف في خان في ضاحية دوروجوميلوف.
لقد أخفقت المفاجأة المسرحية!
الفصل الحادي والعشرون
أعمال السلب
اجتازت قطعاتنا موسكو ابتداء من الساعة الثانية صباحا وحتى بعد الظهر، جارة وراءها المبطئين والجرحى.
ولقد حدث أكثر زحام على جسور بيير وموسكوفا وإياووزا خلال الفترة التي استغرقها مسير الجيش .
وبينما كانت القطعات تنقسم إلى شطرين حول الكريملين، وتتجمع عند جسري موسكوفا وبيير، كان عدد لا يستهان به من الجنود ينتهزون فرصة التوقف والفوضى؛ ليعودوا على أعقابهم وليتسللوا خلسة وبسكون على طول كنيسة «بازيل السعيد» الضخمة، وليصعدوا على طريق باب بوروفيتسكي إلى الساحة الحمراء مدفوعين بحاسة خفية، محدثين أنفسهم أن النهب هنا أسهل منه في أي مكان آخر. اجتاحت هذه الجماعة جوستينيي دفور من كل المنافذ المؤدية إليه كما هي العادة أيام البيع بأثمان بخسة. لكن أصوات الباعة المتجولين والمنادين الودودة المغرية لم تعد تردد فيه، ولقد حل محل الجمهور المرقش من المشتريات جنود في أزيائهم أو معاطفهم، غير مسلحين، يدخلون الأروقة بأيد فارغة ليخرجوا منها صامتين محملين بالأسلاب، ولقد كان عدد التجار المستخدمين المذعورين - وكانوا قلة - يجولون بين هؤلاء الجنود، يفتحون دكاكينهم أو يغلقونها، محاولين - بمساعدة الحمالين - أن يضعوا بضاعتهم في مأمن. وعلى ساحة جوستينيي دفور راح قارعو الطبول يطلقون النداء إلى الصفوف، لكن دوي الطبل كان بدلا من أن يجمع الجنود النهابين، يحثهم على الابتعاد أكثر فأكثر، ولم يلبث أن بدا بين العسكريين الذين اجتاحوا الدكاكين والممرات أشخاص في معاطف رمادية ذوو رءوس حليقة. وراح ضابطان؛ أحدهما يتقلد وشاحا فوق بزته ويمتطي صهوة حصان قصير القوائم هزيل كهبي اللون، والآخر يرتدي معطفا طويلا يبلغ قدميه، يتحدثان فيما بينهما عند زاوية إيليئينكا حيث توقفا، وجاء ثالث يلحق بهما على جواده. - «لقد أعطى الجنرال الأمر بطردهم جميعا بأي ثمن وعلى الفور. هذا أمر لا يوصف! لقد تفرق نصف الجيش.»
وصرخ مناديا ثلاثة من الجنود المشاة تسللوا تحت عينيه إلى الأروقة دون أسلحة وقد حسروا أطراف معاطفهم: «إلى أين أنت ذاهب؟ وأنتم يا هؤلاء، قفوا، أسافل!»
رد الضابط الأول: «حاول أن توقفهم! لم تعد هناك وسيلة لإيقافهم! يجب أن نحث الخطى حتى يبقى الباقون منتظمين في صفوفهم. هذا كل شيء!» - «كيف نتقدم؟ لقد توقفوا هناك وهم متجمهرون على الجسر لا يستطيعون التقدم أكثر من ذلك. هل ترى يجب وضع سلسلة لمنع الصفوف الخلفية من التشتت؟»
هتف الضابط الكبير: «نعم، اذهب إلى هناك. طاردوهم جميعا.»
ترجل متقلد الوشاح واستدعى قارع طبل، ثم دخل معه تحت الأروقة فاختفى بعض الجنود على الفور، وتقدم تاجر ذو وجنتين حمراوين تغطي البثور ما حول الأنف، وعلى وجهه تعبير حسابي لا يتزعزع، من الضابط مسرعا وهو يلوح بيديه بتكلف وقال: «يا صاحب النبالة، تفضل بمنحي حمايتك، لن ندقق كثيرا، إننا في خدمتك. إذا كنت ترغب في جوخ أخرجت لك منه ما تريد، قطعتين على الأقل لرجل نبيل. إنه في خدمتك لأننا ندرك الأشياء تماما، ولكن هذا، ما هذا؟ إنه سلب! ارحمنا! تفضل بوضع حرس حتى نستطيع إغلاق متاجرنا.»
وجاء عدد آخر من الباعة يحيطون بالضابط، قال أحدهم، وهو نحيل ذو وجه صارم، يخاطب زميله: «إيه! إنك تصرخ ولا تقول شيئا. عندما يقطع رأس إنسان لا يجب أن يبكي على شعره.»
ثم التفت نصف التفاتة نحو الضابط وقام بإشارة نشيطة من يده، وأردف: «انتق ما تشاء، خذ ما تشتهي.»
فقال البائع الأول: «أنت يا إيفان فيدوريتش، إنك تتكلم على هواك. تعال أرجوك يا صاحب النبالة.»
وصرخ البائع الهزيل: «كيف أتحدث على هواي؟! إن لدي في دكاكيني الثلاث ما قيمته ثلاثمائة ألف روبل من البضائع، فكيف أحتفظ بها إذا كان الجيش راحلا؟ إننا نعرفه، الشعب. «إن اليد لا تستطيع شيئا ضد قوة الله».»
استأنف البائع الأول وهو ينحني بالتحيات: «أرجوك يا صاحب النبالة.»
وكان الضابط مترددا ووجهه بكل تقاطيعه ينطق بتردده، وفجأة، هتف وهو يدخل تحت الأروقة بخطى حثيثة: «إيه! سيان عندي، بعد كل شيء!»
كانوا يتخاصمون ويتبادلون السباب في حانوت مفتوح عندما اقترب الضابط منه، وكان رجل ذو معطف رمادي ورأس حليق يخرج من الحانوت بعنف مطرودا.
انحنى ذلك الرجل حتى انطوى وتسلل بين البائع والضابط، وانهال الضابط على الجنود الذين كانوا في الحانوت، ولكن في تلك اللحظة، ارتفعت صرخات مروعة من حناجر جمهور غفير على جسر موسكوفا، فعاد الضابط مسرعا إلى الساحة. سأل زميله: «ماذا هناك؟ ماذا جرى؟»
لكن هذا كان يجري صوب الصيحات على طول كنيسة «بازيل السعيد» الكبيرة.
امتطى الضابط جواده وتبعه، فلما بلغ الجسر شاهد مدفعين انتزعا من عجلاتهما، وجنودا مشاة سائرين، وعربات نقل مقلوبة، ووجوها مذعورة، وجنودا يتقهقرون. وبالقرب من المدفعين وقفت عربة يقطرها جوادان، ووراء العربة ربطوا أربعة كلاب صيد، أحدهما لصق الآخر. وعلى العربة جبل من الأمتعة قبعت فوقه - على الذروة - امرأة جلست إلى جانب كرسي أطفال وقدماها في الخواء تطلق صرخات ثاقبة. وروى رفاق الضابط له أن كل تلك الصيحات سببها أمر أصدره الجنرال إيرمولوف؛ ذلك أنه عندما علم أن الجنود يغزون الحوانيت، وأن السكان متجمهرون قرب الجسر، أمر بأن تنزع المدافع من عجلات القطر، وأن تتخذ الاستعدادات لإطلاق القذائف على الجسر، وحينئذ راحت الجماهير تقلب العربات وتتدافع يسحق بعضها بعضا، وتزمجر، لكنها أخلت الجسر فاستطاع الجيش أن يواصل تقدمه.
الفصل الثاني والعشرون
مافرا والضابط المجهول
وفي تلك الأثناء، كان كل شيء مقفر في وسط موسكو، والشوارع تكاد أن تكون خالية، وأبواب المساكين والحوانيت مقفلة، وهنا وهناك، حول المشارب، كانت بعض الأصوات ترتفع، وبعض أغنيات السكارى؛ فلا عربة واحدة ويندر أن تردد خطى عابر سبيل. وفي بوفارسكاييا الخاوية تماما، الصامتة، كان فناء مسكن آل روستوف الرحب يشهد تناثر القش والأرواث دون أن يضم نفسا حية، وفي ذلك البيت الذي أبقيت فيه كل ثروة أصحابه، لم يقم غير شخصين في البهو الكبير؛ هما البواب إينياس والخادم الصغير ميشكا حفيد فاسيليتش، الذي بقي في موسكو مع جده. ولقد رفع ميشكا غطاء الأرغن وراح يعزف بإصبع واحدة، بينما انتصب البواب أمام مرآة كبيرة واضعا يديه على وركيه وهو يبتسم ابتسامة بهيجة.
هتف ميشكا الذي راح فجأة يضرب أصابع المعزف بكلتا يديه: «انظر يا عم إينياس! إنني أعرف كيف أعزف. أليس كذلك؟»
فأجاب إينياس وقد فتنه أن يرى على وجهه في المرآة ابتسامة تزداد إشراقا: «أصدقك!»
وقالت مافرا كوزمينيتشنا من ورائهما وقد دخلت خلسة: «إنكما لا تخجلان! حقا يجب أن تخجلا! وهذا المنفوخ الضخم الذي يقهقه! هذا ما أنتما صالحان له! في حين أن كل شيء يجب أن ينظم وفاسيليتش لا يستطيع الوقوف على قدميه! انتظرا قليلا!»
كف إينياس عن الابتسام، وراح يسوي نطاقه وهو يخفض عينيه مذعورا، وخرج من الغرفة. وقال الغلام الصغير: «أيتها العمة الصغيرة، سأعزف برفق أكثر.»
فصرخت مافرا كوزمينيتشنا وهي ترفع على الغلام يدا مهددة: «وسأذيقك «برفق» ما تستحق، يا فاجر! اذهب وأعد السماور.»
مسحت مافرا كوزمينيتشنا الغبار وأغلقت غطاء المعزف، ثم خرجت من البهو وهي تزفر زفرة عميقة، ثم أغلقت الباب بالمفتاح.
ولما أصبحت في الفناء، راحت مافرا كوزمينيتشنا تفكر: «أين يجب عليها أن تذهب الآن؟ أتذهب لاحتساء الشاي مع فاسيليتش في الجناح أم ترتب الأشياء التي لم تنظم بعد في مخزن الأمتعة؟»
ارتفعت خطوات سريعة في سكون الشارع، ثم توقفت أمام باب الفناء الصغير، وراح الرتاج يصل تحت يد تعالجه لتفتحه.
اقتربت مافرا كوزمينيتشنا من الباب: «من تريد؟» - «الكونت، الكونت إيليا آندريئيفيتش روستوف.» - «وأنت، من أنت؟»
فأجاب الصوت الروسي المستحب: «إنني ضابط في حاجة إلى رؤيته.»
فتحت مافرا كوزمينيتشنا الباب، فدخل الفناء ضابط شاب في حوالي الثامنة عشرة من عمره، مستدير الوجه، تذكر تقاطيعه بتقاطيع آل روستوف.
قالت مافرا كوزمينيتشنا بلهجة متوددة: «لقد ذهبوا جميعا أيها السيد العزيز، لقد رحل السادة أمس مساء ...»
لعق الضابط الشاب بلسانه وهو واقف قرب الباب، وتردد لا يدري أيدخل أم يرحل! هتف: «آه! يا له من أمر مؤسف! كان علي أن أحضر بالأمس ... آه! كم هو مؤسف! ...»
خلال ذلك، كانت مافرا كوزمينيتشنا تتأمل بانتباه مفعم بالعطف، ذلك الشاب الذي تذكرها تقاطيع وجهه بأسرة روستوف، كان معطفه خلقا، وحذاءاه مثنيان. سألته: «ولأي سبب كنت تريد رؤية الكونت؟»
فقال الضابط الشاب غاضبا وهو يقترب من الباب استعدادا للخروج: «فات الوقت ... ولا حيلة بالأمر!»
ثم توقف وهو في حيرة، ثم قال فجأة: «ذلك أنني قريب للكونت، وكان دائما جم العطف علي. وكما ترين ...» وتأمل معطفه وحذاءه بابتسامة مرحة طيبة. «لقد بليت كل هذه حتى فنيت ، ولست أملك نقيرا؛ لذلك أردت أن أسأل الكونت ...»
لم تدعه مافرا كوزمينيتشنا ينهي جملته وقالت: «انتظر دقيقة صغيرة يا سيدي الطيب دقيقة صغيرة.»
وما إن تخلى الضابط الشاب عن رتاج الباب حتى استدارت مافرا كوزمينيتشنا ومضت بخطوات العجوز السريعة إلى الفناء الخلفي حيث يقع مسكنها.
وبينما كانت مافرا كوزمينيتشنا تهرع إلى غرفتها؛ راح الضابط - مطرق الرأس - متأملا حذاءيه الممزقين، يروح ويجيء في الفناء وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة: «كم هو مؤسف ألا أجد عمي! ولكن يا لها من امرأة باسلة! ترى إلى أين ذهبت؟ وددت الآن لو أعلم في أي شارع أسير لألحق بفيلقي الذي يجب أن يكون الآن قريبا من روجوسكاييا - حاجز يقع شرقي موسكو.»
ظهرت مافرا كوزمينيتشنا عند ركن الفناء وعلى أساريرها مسحة من الذعر المشوب بالعزم الثابت، تمسك بيدها منديلا معقودا ذا مربعات، ولما باتت على قيد خطوات من الضابط حلت المنديل وأخرجت منه ورقة نقدية بيضاء من ذات الخمسة والعشرين روبلا، مدتها للضابط الشاب برشاقة: «لو أن سعادته كان هنا، بالطبع، كما لقريبه ... وإذن، علني أستطيع ... الآن ...»
لم تكن مافرا كوزمينيتشنا - في خجلها الشديد - تدري ما تقول، لكن الشاب دون أن يعترض ودون أن يتعجل، أخذ الورقة النقدية وشكر العجوز، فكررت هذه معتذرة: «لو أن الكونت كان هنا ... ليحفظك الله يا سيدي الطيب.»
وأعقبت وهي تنحني وترافقه إلى الباب: «ليحفظك الله.»
راح الشاب يبتسم وكأنه يهزأ من نفسه، ويهز رأسه، وانطلق بما يشبه الجري خلال الشوارع المقفرة ليلحق بفيلقه.
وظلت مافرا كوزمينيتشنا فترة طويلة أمام الباب المغلق والدموع ملء مآقيها، وهي تهز رأسها مفكرة وقد استبدت بها موجة من العطف والحنان حيال الضابط المجهول الشاب.
الفصل الثالث والعشرون
الغوغاء
في منزل لم يتم بناؤه بعد بشارع فارفاركا ، كان الدور الأسفل منه يحوي مشربا، ارتفعت الصيحات وأغنيات السكارى، وكان حوالي اثني عشر عاملا يحتلون المقاعد حول طاولة في حجرة قذرة، وقد نضحت وجوههم بالعرق واعتكرت عيونهم، فراحوا وهم في حالة سكرهم الشديد يفتحون أفواها عريضة ويرفعون عقائرهم بالغناء . كانوا يغنون دون مطابقة في الأصوات بمجهود ليس بدافع الرغبة في الغناء، بل ليبرهنوا على أنهم سكارى تلذذوا بالطعام والشراب. وكان الواقف الوحيد بينهم فتى عملاقا أشقر يرتدي رداء عريضا أزرق، وكان وجهه ذو الأنف المستقيم الدقيق قابلا للتحلي بصفات الجمال لولا شفتاه المنقبضتان المصعرتان وحاجباه المقطبان وعيناه الشاخصتان العكرتان. كان متسلطا على المغنين، يعتقد بوضوح أنه شخص ما، فيؤرجح فوق الرءوس بحركة خرقاء جليلة، ذراعه التي شمر عنها كمه حتى المرفق، وأصابعه القذرة التي كان يباعد بينها على أفضل ما يستطيع. وكان كم ردائه يسقط دائما فيشمره الفتى دون كلل بيده اليسرى، وكأن بقاء ذراعه البيضاء المعرقة عارية أمر ذو أهمية حيوية. وفي وسط الأغنية ترددت عند المدخل جلبة مماحكة، فأشار الفتى العملاق بيده وصاح بصوت آمر: «كفى معركة أيها الرفاق!»
ودون أن يرخي كم ردائه اندفع نحو المرقاة.
اندفع العمال وراءه. لقد جاء العمال ذلك الصباح إلى المشرب تحت قيادة العملاق حاملين جلودا من المعمل إلى الخمار ثمن شرابهم، ولما علا صخبهم وضجيجهم ظن حدادون في معمل قريب للحدادة أن الحانة معرضة للنهب، فأرادوا الدخول إليها بالقوة.
وكانوا عند المرقاة يتبادلون الكلمات، والخمار الذي يدافع عن بابه مشتبك مع حداد في اللحظة التي ظهر فيها العمال. فراح الحداد بعد أن أفلت من يد الخمار، يسقط على الأرض ورأسه تسبق جسمه.
وهجم أحد رفاقه على الباب، وأطبق بساعديه على جسد الخمار.
وضرب الفتى ذو الكم المشمر حدادا على ملء وجهه، راح يسعى للدخول وزمجر: «أيها الرفاق، إنهم يضربوننا!»
وفي تلك اللحظة، نهض الحداد الأول وراح يمر بأصابعه على وجهه المدمى، وصرخ بصوت محزن: «الغوث! إلى القاتل! إنهم يقتلوننا! النجدة أيها الرفاق!»
ونبحت امرأة كانت خارجة من بيت مجاور: «أوه ! رباه! لقد ضربوا رجلا حتى الموت!»
وأحاط جمع من الناس بالحداد ذي الوجه المغطى بالدم. قال صوت يخاطب الخمار: «لا يكفيك أن تسلب الفقراء وأن تنزع عنهم حتى قميصهم، فأصبحت الآن تطمع في جلودهم أيها اللص؟!»
وقف الفتى العملاق على المرقاة، وراح ينقل أبصاره بين الخمار والحداد فترة وكأنه يفكر في أي من الجانبين ينحاز إليه، وفجأة صرخ بالخمار: «يا قاتل! أوثقوه أيها الرفاق!»
صرخ الخمار وهو يدفع الذين ألقوا بأنفسهم عليه وينزع قلنسوته بحركة عنيفة فيضرب بها الأرض: «هن، يوثقوني أنا؟!»
وكأن تلك الحركة كانت ذات معنى غامض متوعد؛ إذ ترك العمال الخمار وتوقفوا مترددين. هتف الخمار وهو يرفع قلنسوته: «أنا أعرفه، القانون، أعرفه معرفة عميقة، سأذهب إلى مديرية الشرطة. آه! هل تظن بأنني لن أذهب؟ ليس من حق أحد الآن أن يقوم بأعمال السلب!»
وردد الخمار والفتى العملاق على التعاقب، وذهبا معا على طول الشارع: «هيا بنا إذا أردت! هيا بنا ... إذا أردت!»
وتبعهما الحداد ذو الوجه المدمى، ثم سار العمال والفضوليون على آثارهم وهم يتناقشون ويصرخون.
عند زاوية شارع ماروستيئيكا، قبالة بناء كبير مغلق المصاريع، يحمل لافتة معمل لصنع الأحذية، وقف حوالي عشرين عاملا حذاء، وكلهم نحيلون أضناء يلبسون الأردية الفضفاضة والمعاطف الخلقة.
قال عامل شديد النحول ذو لحية نادرة وحاجبين كثيفين: «ليعطنا حسابنا حسب الأصول! لقد امتص دماءنا وهو الآن يعتقد أنه بريء الذمة. لقد سوفنا وماطلنا طيلة الأسبوع، والآن وقد بلغنا أقصى حالات العوز، انسل هاربا!»
ولما رأى العامل الحذاء الجماعة والرجل الجريح صمت واستولى عليه وعلى رفاقه فضول لا يقاوم، فانضم معهم إلى الجمهور المندفع. - «إلى أين يمضي كل هؤلاء؟» - «لكن هذا واضح، إلى الشرطة.» - «قل يا هذا، هل حقيقة أن جيشنا هو المنتصر؟»
وراحت الأسئلة والأجوبة تتقاطع، فانتهز الخمار فرصة الهياج العام وتسلل من بين الجماعة عائدا إلى حانته.
وكان العملاق الذي لم يلاحظ اختفاء عدوه يحرك ذراعه العارية حركات عريضة دون أن يكف عن التحدث بإسهاب، جاذبا بذلك إلى نفسه الانتباه العام ، ولقد كان الفضوليون يحيطون به أكثر من سواه؛ طمعا في الحصول على جواب للأسئلة التي كانت تشغل بال الجميع.
قال الفتى العملاق بابتسامة دقيقة: «أما أن يعطونا الأوامر وأن يحق الحق، فهذا عمل السلطة! أليس كذلك أيها الناس البواسل؟ هل يظنون أن ليس هناك سلطة؟ هل يمكن الاستغناء عن السلطة؟ لولا ذلك لسلب كل شيء.»
وسمع من بين الجمع قائل يقول: «يا للأكذوبة! إذن يتركون موسكو هكذا؟ لقد قالوا لك هذا ليسخروا منك فصدقته. إن عدد الجنود ليس بالقليل، ثم يتركونه يدخل! هناك قيادة مهمتها منع ذلك.»
وراحوا يشيرون إلى الفتى العملاق ويقولون: «أصغوا إلى ما يقول!»
وأمام جدار كيتائي-جورود أحاط فريق من الناس برجل ذي معطف ثقيل من الصوف يمسك بيده ورقة، وكانوا يرددون بين الجمع الذي ما لبث أن انضم إلى الدلال العمومي: «بلاغ. إنهم يقرءون بلاغا! بلاغ!»
كان الرجل ذو المعطف يقرأ منشور الواحد والثلاثين من آب، فلما رأى أنهم أحاطوا به بدا كأنه يستعيد قواه، لكنه عاد نزولا عند رغبة العملاق الذي اندفع إلى الصف الأول وطلب إليه أن يقرأ من البداية، فقرأ بصوت فيه رعدة خفيفة: «غدا، من الصباح الباكر سأمضي لزيارة الأمير عظيم الرفعة (فكرر الفتى العملاق بأبهة وعلى شفتيه ابتسامة عريضة وهو يقطب حاجبيه: عظيم الرفعة)؛ لكي أتشاور معه حول العمل أو مساعدة جيشنا على إبادة العدو. يجب أن نجعل نفسه تمج طعم الخبز.» وتوقف المنادي بعد استرسال، فهتف العملاق بانتصار: «هن! أترى هذا! يا لها من «علقة»!» «وسوف نفني هؤلاء الزوار وسنرسلهم إلى الشيطان، وسأعود غدا إلى هنا لأتناول طعام الغداء، وعندئذ سنشرع في العمل معا، ولا نكاد نبدأ حتى ننتهي ولن نتحدث بعد ذلك عن هؤلاء اللصوص مطلقا.» وسقطت الكلمات الأخيرة في الصمت العام. وكان العملاق مطرقا برأسه أشبه بالمثقل. لا ريب أن ما من شخص فهم شيئا من هذه النهاية، وكانت هذه الكلمات: «وسأعود غدا إلى هنا لتناول طعام الغداء» هي التي تزعج بشكل واضح المنادي والمستمعين إليه معا . لقد كان الإدراك العام بحاجة إلى عبارات كبيرة، فكانت هنا تبدو بسيطة جدا، بل ومبتذلة. لقد كانت هذه الكلمات هي نفسها التي يمكن أن يرددها كل منهم وبهذه العبارات نفسها؛ وبالتالي فإنها لم تكن هي التي يجب أن تصدر عن سلطة عليا.
لزموا جميعهم صمتا كئيبا، وراح الفتى العملاق يحرك شفتيه ويتأرجح من قدم على أخرى. هتفت أصوات من الصفوف الخلفية من الجماعة: «ماذا لو ذهبنا نسأله الخبر؟ ... آه! ها هو ذا ... ولكن كيف؟ ... ولم لا؟ ... سوف يقول لنا ...»
وتركز الانتباه العام على عربة رئيس الشرطة الذي وصل حينذاك إلى الساحة يواكبه اثنان من الفرسان.
لقد ذهب مدير الشرطة ذلك الصباح، بناء على أمر روستوبتشين، ليشعل النار في بعض المباني، وتقاضى لقاء ذلك مبلغا ضخما من المال كان يحمله معه، فلما رأى الجمع آتيا للقائد أصدر الأمر للحوذي بالتوقف.
هتف بالناس الذين راحوا يتوافدون الواحد تلو الآخر ويقتربون من عربته بوجل: «ماذا تريدون؟»
كرر لما رأى أنه لم يتلق ردا: «ماذا يريدون هؤلاء المتجمهرون؟ قولوا.»
قال المنادي العمومي: «إنهم يريدون - وفقا للمنشور - أن يقدموا حياتهم. إنهم يريدون تقديم خدماتهم لا التمرد كما نما عن طريق مولاي الكونت ...»
صرخ رئيس الشرطة: «إن الكونت لم يذهب. إنه هنا، وسوف يعطيكم تعليماته.»
ثم أهاب بسائق عربته: «إلى الأمام!»
تكأكأ الناس حول أولئك الذين سمعوا الكلمات التي فاهت بها السلطة، وهم يتابعون بأبصارهم العربة المبتعدة.
استدار مدير الشرطة نحو الحشد المتكاثر، فذعر وقال شيئا لسائق عربته، فضاعف سرعة الجياد.
زمجر العملاق: «إنهم يخدعوننا أيها الرفاق! قدنا إلى الحاكم نفسه! لا تدعوه يفلت أيها الأولاد! ليقرر لنا حقائق الأمور!»
وصرخت أصوات كثيرة: «احتجزوه.»
واندفع الجمهور وراء العربة.
راح الجمهور وهو يتبع عربة مدير الشرطة يتوجه بصخب وجلبة نحو لوبيانكا، والناس يتحدثون فيما بينهم: «لقد انسل السادة والتجار بعضهم إثر بعض؛ ولذلك فقد قضي علينا بسببهم، في حين أننا لسنا كلابا.»
الفصل الرابع والعشرون
حالة روستوبتشين
عاد الكونت روستوبتشين إلى موسكو مساء الأول من أيلول بعد مقابلته مع كوتوزوف، وقد أصيب بجرح مرير لعدم دعوة كوتوزوف أباه إلى الاشتراك في المجلس العسكري، ولأنه لم يعر أي انتباه عرضه المتعلق بالاشتراك في الدفاع عن موسكو، وأذهله كذلك الرأي الجديد الذي اكتشفه المعسكر، والذي - تبعا له - يكون أمن المدينة وعواطفه الشخصية الوطنية ليست أمرا ثانويا فحسب، بل وعديمة الأهمية والجدوى كذلك. عاد وهو مجروح الكرامة جرحا مريرا ومذهولا بآن واحد، وتمدد على أريكة بعد العشاء بكامل ثيابه، فأوقظ في الساعة الواحدة صباحا من قبل ساع قادم من لدن كوتوزوف يرجوه أن يرسل رجال الشرطة لمواكبة القطعات العسكرية المتقهقرة عبر المدينة على طريق ريازان، فلم يكن هذا نبأ حسن الوقع على روستوبتشين. كان يعرف أن موسكو سوف تهجر، ليس منذ مقابلته مع كوتوزوف على جبل بوكلوناييا فحسب، بل منذ معركة بورودينو، عندما أعلن الجنرالات العائدون إلى موسكو بصوت واحد أن أية معركة جديدة مستحيل وقوعها. ومنذ ذلك الحين راح يضع في أمكنة مأمونة ممتلكات التاج ليلة إثر ليلة، كما ارتحلت نصف أسر موسكو بعضها في أثر بعض. مع ذلك، فإن ذلك النبأ الذي تلقاه على شكل كتاب بسيط يحوي أمر كوتوزوف وصله خلال الليل بعد إغفاءته الأولى؛ مما أدهشه وأسخطه.
ولقد كرر الكونت روستوبتشين فيما بعد في مذكراته مبررا تصرفاته خلال هذه الحقبة، بأنه كان يهدف حينذاك إلى شيئين مهمين: توطيد الأمن في موسكو، وترحيل السكان عنها. فإذا قبل هذا الهدف المزدوج فإن كل سلوك روستوبتشين يصبح بعيدا عن اللوم. ولكن، لماذا إذن لم ترحل كنوز الكنائس الموسكوفية والأسلحة والذخائر والبارود واحتياطي الحبوب؟ لماذا خدعوا وبالتالي نكبوا ألوفا من الأشخاص مؤكدين لهم أن موسكو لن تهجر؟ إن الكونت روستوبتشين يجيب: «لتوطيد أمن المدينة!» ولكن لماذا رحلوا أطنانا من الأوراق الرسمية ومنطاد ليبيخ وكثيرا من الأشياء عديمة الجدوى؟!
يجيب الكونت روستوبتشين: «لكي تترك المدينة فارغة. يكفي أن يكون هناك ما يهدد أمن المدينة العام حتى يصبح أي تصرف مقبولا.»
إن كل بشاعات الإرهاب لم تكن تهدف هي الأخرى إلا لتوطيد الأمن العام.
إذن، على أي أساس كانت ترتكز مخاوف الكونت روستوبتشين المتعلقة بأمن موسكو عام 1812م؟ ما هي الأسباب التي جعلته يفترض وجود ميول إلى الفتنة في المدينة؟ لقد كان سكانها يجلون عنها والجيش في تراجعه يملؤها، فلماذا كان الشعب لا بد ثائرا حينذاك؟
لا في موسكو، ولا في أي مكان من روسيا، لم تقع حوادث من هذا النوع. لقد ظل في موسكو حتى الأول والثاني من أيلول قرابة عشرة آلاف شخص ولم يقع - إذا استثنينا الجمهرة التي تشكلت في فناء سراي الحاكم، والتي سبب قيامها بنفسه - أي حادث شغب. وإنه من الواضح أن روستوبتشين بعد بورودينو عندما بات لا مندوحة من إخلاء موسكو، أو على الأقل بات إخلاؤها متوقعا، كان يستطيع بدلا من إلهاء السكان بتوزيع الأسلحة والمناشير أن يتخذ الاحتياطات التي لا بد منها لنقل كنوز الكنائس والبارود والعتاد والمال، وأن يعلن بصراحة إخلاء موسكو فيقضي على كل خوف من التمرد الشعبي.
لقد عاش روستوبتشين دائما - وهو الشخص ذو العقلية الغضوب الدموية - في أجواء الإدارة العليا، فلم تكن لديه - رغم وطنيته الملتهبة - أية فكرة عن الشعب الذي يزعم أنه يحكمه. لقد اتخذ روستوبتشين لنفسه منذ دخول العدو إلى سمولنسك، دور مدير وجدان الشعب الروسي في «قلب روسيا»، وكان يظن (ككل إداري) أنه ليس على رأس تظاهرات سكان موسكو الخارجية فحسب، بل إنه كذلك يوجه عواطفهم بنداءاته ومنشوراته التي استعمل فيها لغة لصوص المجتمع الراقي، وهي لغة يمقتها الشعب ولا يفهمها عندما تفوح بالسلطة. وكان هذا الدور، دور قائد الشعور الشعبي، يفتن روستوبتشين ويرتاح إليه لدرجة أن الخروج منه بالجلاء الإلزامي عن موسكو دون أي عمل بطولي كان أوقع مفاجأة عليه. خيل إليه أن الأرض تميد تحت قدميه، فلم يعد يعرف ما يعمل. وعلى الرغم من معرفته الأكيدة بالأحداث، فإنه رفض بكل روحه أن يصدق فكرة مغادرة موسكو حتى اللحظة الأخيرة. لقد ذهب السكان ضد موافقته، وإذا كانوا قد أخلوا المكاتب والوزارات فإن ذلك كان بناء على طلب الموظفين أنفسهم، فلم يسمح لهم إلا مكرها. لم يكن يهتم إلا بالدور الذي عزاه في خياله إلى نفسه، وكان يعرف منذ أمد بعيد أن موسكو ضائعة لا محالة، كما يحدث غالبا لذوي الخيال الخصب، لكنه ما كان يعرف ذلك إلا من الناحية المنطقية؛ فلقد كان يرفض بكل قواه الروحية أن يصدق أو أن ينقل نفسه على أجنحة الخيال الموقف الجديد.
ولقد اندفع نشاطه اللاهب وحيويته كلها.
ماذا كان جدوى ذلك النشاط؟ وأي أثر له في نفوس الشعب؟ ذلك بحث آخر. لقد اندفع كل نشاطه نحو ضرورة إيقاظ الأحاسيس التي تعتلج في نفسه في نفوس السكان، إيقاظ الحقد الوطني على الفرنسي والثقة بالنفس.
ولكن عندما اتخذت الأحداث نسبها التاريخية الحقيقية، عندما خيل أن إظهار الحقد على الفرنسيين بلغة الكلام وحدها لم يعد كافيا، عندما بات يستحيل إظهار ذلك الحقد حتى عن طريق القتال، عندما بدا الإيمان بالذات عديم الأثر في كل ما يتعلق بمسألة موسكو، عندما تدفق السكان من موسكو هاجرين ممتلكاتهم تدفق السيل، مظهرين بهذه البادرة العمياء كل قوة شعورهم القومي، عندئذ ظهر الدور الذي اضطلع به روستوبتشين عديم المعنى فارغا. شعر روستوبتشين أن الأرض تميد تحت قدميه، ورأى نفسه فجأة وحيدا ضعيفا يثير الهزء.
وعندما قرأ رسالة كوتوزوف الجافة الآمرة، كان مبلغ سخط روستوبتشين الذي استيقظ منتفضا، كافيا ليجعله يشعر بذنبه بأكثر وضوحا. لقد ظل كل ما أنيط به بصراحة، كل الممتلكات التابعة للدولة التي كان عليه إخراجها من منطقة الخطر، ظلت كلها في موسكو، وبات إجلاؤها ضربا من المستحيل.
راح يفكر دون أن يحدد لنفسه من هم «السفلة» و«الخونة» الذين ورد ذكرهم في كلامه: «من هو المذنب إذن؟ حالة هذه الأمور من الذي سببها؟ لست أنا بكل تأكيد. لقد أعددت أنا كل شيء، وكنت أمسك بموسكو في يدي! وكيف؟! وها هو المدى الذي بلغنا إليه! سفلة! خونة!» لكنه كان مدفوعا بضرورة مقت السفلة الخونة، هؤلاء المخلوقات الذين وضعوه في الموقف الخاطئ الداعي إلى السخرية الذي بلغ إليه.
استمر روستوبتشين طيلة الليل يصدر الأوامر التي جاءوا من كل جهات موسكو يطلبونها إليه، ولم يره المحيطون به قط على مثل تلك الحالة من الكآبة والانفعال. راحوا طيلة الليلة يسألونه دون توقف: «يا صاحب السعادة، لقد جاءوا يسألونك الأوامر من جانب مدير الإقطاعيات ... من جانب مجمع الكرادلة، مجلس الشيوخ، الجامعة، الميتم، النائب الرسولي الأكبر ... ما هي أوامركم لرجال المطافئ؟ لمدير السجن؟ لمدير المأوى؟»
وكان يجيب على كل هذه الأسئلة إجابات مختصرة ثائرة تدل على أن أوامره لم يعد لها أية أهمية، الآن بعد أن دمر آخرون عمله الذي أعده بعناية فائقة، وإن هؤلاء «الآخرون» إنهم سيحتملون كامل مسئولية الأحداث الدائرة.
أجاب روستوبتشين على سؤال رسول دائرة الإقطاعيات: «اذهب وقل لذلك الأخرق أن يقف حارسا أمام أوراقه. ثم ما هذا السؤال السخيف بصدد فريق الإطفاء؟ إن لديهم جيادهم فليذهبوا إلى فلاديمير - على حوالي 300كم عن موسكو - إذا لا يجب أن نتركهم للفرنسيين.» - «يا صاحب السعادة، لقد جاء مراقب دار المجانين، فماذا يجب أن نقول له؟» - «ماذا تجيبونه؟ ليذهبوا جميعا، هذا كل شيء. أما المجانين، فليطلقوا سراحهم في المدينة! طالما أن المجانين باتوا الآن يقودون الجيش عندنا، فإن الله يريد ذلك.»
وعندما تحدثوا إليه عن السجناء المكبلين بالحديد في أعماق زنزاناتهم، صرخ الكونت في وجه مراقب السجن وهو محنق: «ماذا تريد؟ هل يجب أن نقدم لك لواءين لحراستهم؟ لست أملك اللواءين، فأطلق سراحهم. هذا كل شيء!» - «يا صاحب السعادة، والمساجين السياسيون مييشكوف وفيريشتشاجين؟» - «فيريشتشاجين؟ ألم يشنق بعد؟ ليأتوني به!»
الفصل الخامس والعشرون
انسحاب روستوبتشين
حوالي التاسعة صباحا، كانت القطعات قد شرعت تجتاز موسكو، فلم يعد يتقدم أحد لتلقي الأوامر، ولقد ذهب كل من استطاع أن يذهب مستعملا وسائله الخاصة. أما الذين بقوا في المدينة فكانوا يقررون بأنفسهم ما عليهم أن يعملوه.
وكان الكونت قد أعطى أمرا بإعداد عربة له تقله إلى سوكولنيكي، وراح ينتظر في مكتبه مربد الوجه صفراويه، متجهم الأسارير معقود الذراعين.
أثناء السلم، يعتقد كل إداري أن الفضل في سير كل المواطنين الذين عهد أمرهم إليه يرجع إلى قيادته زمام حركتهم، ويجد في إيمانه بأنه لا غنى لهم عنه، المكافأة الرئيسية على عمله ومجهوده. وطوال الهدوء الذي يخيم على محيط التاريخ يعتمد ذلك الربان الإداري وهو على ظهر سابحته الهزيلة، بمحجنه على سفينة الدولة، ليتقدم هو نفسه، ويستطيع هذا الربان، وهذا أمر ملموس، أن يظن أنه يدفع السفينة التي يرتكز عليها بقواه الشخصية، ولكن إذا ما ثارت العاصفة وأصبح البحر متلاطم الأمواج وجرحت السفينة، فإن ذلك الوهم يصبح مستحيلا؛ فالسفينة تتابع سيرها المهيب وحدها مستقلة، وربان السابحة يكتشف أنه ليس الرئيس مبعث كل قوة، بل رجل ضعيف غير ذي فائدة، تافها ومسكينا.
وهذا ما كان يحس به روستوبتشين، وهو ما كان يثير حفيظته.
ولقد دخل رئيس الشرطة - ذلك الذي أوقفه الجمهور - على الكونت في اللحظة التي جاء مساعده يعلن أن الجياد جاهزة. كان كلاهما شاحب الوجه، فأعلن مدير الشرطة بعد أن كشف عن إنجازه مهمته، أن الفناء يعج بجمهور ضخم يرغب في رؤية سعادته.
اجتاز روستوبتشين دون أن ينطق بكلمة البهو المشرق الفخم، واقترب من باب الشرفة، فأمسك بمقبضه ثم أفلته، وجاء إلى نافذة يمكن مشاهدة الجمهور كله منها. كان الفتى العملاق في الصف الأول صارم الوجه، يتابع أحاديثه وهو يلوح بيديه، وكان الحداد ذو الوجه الدامي واقفا إلى جانبه مربد الأسارير، وزمجرة الأصوات تبلغ الأسماع من وراء النوافذ المغلقة.
سأل روستوبتشين وهو يغادر النافذة: «هل العربة جاهزة؟»
فقال المساعد: «هي جاهزة يا صاحب السعادة.»
اقترب روستوبتشين من الشرفة مرة أخرى، ثم استدار نحو مدير الشرطة واستعلم: «ولكن، ماذا يريدون؟» - «يا صاحب السعادة، إنهم يصرخون بأنهم اجتمعوا ليمشوا على الفرنسيين تبعا لأوامركم، وأنهم خينوا. إنهم طائفة من اللغاطين يا صاحب السعادة، ولقد أفلت منهم بصعوبة كبرى. يا صاحب السعادة، لو حق لي أن أعرض ...»
زمجر روستوبتشين غاضبا: «تفضل بالانسحاب. إنني أعرف ما يجب علي أن أعمله بدونك.»
وراح ينظر إلى الجمهور من باب الشرفة، فكر والغضبة الهوجاء تغلي في أعماقه ضد ذلك الذي يمكن أن يعزى إليه كل ما حصل فجأة: «ها هو ذا ما عملوه بروسيا! هذا هو الأسلوب الذي يعاملونني به!» وكما يحدث عادة للأشخاص الغضوبين، كان الغضب يجتاحه لكنه ما زال يبحث عن الغرض. راح يحدث نفسه دون أن يبارح الجمهور بعينيه: «ها هم أولاء خمان الناس، حثالة الشعب، السوقة الذين ألبوهم بحماقتهم.» وأعقب وهو يتابع بعينيه الفتى العملاق وهو يلوح بيديه: «لا بد لهم من ضحية.» ولقد راودته هذه الفكرة فجأة؛ لأنه كان في حاجة إلى تلك الضحية لتجد غضبته سببا. كرر: «هل العربة جاهزة؟»
فقال المساعد العسكري: «نعم يا صاحب السعادة، أية أوامر تعطيها بصدد فيريشتشاجين؟ إنه ينتظر قرب المرقاة.»
فزمجر روستوبتشين وكأن ذكرى فجائية طافت بخياله: «آه!»
وفتح باب الشرفة فجأة وتقدم بخطى ثابتة، فصمتت الأصوات، ورفعت القلانس والقبعات، وشخصت الأبصار كلها إلى روستوبتشين.
هتف دائريا وبصوت مرتفع: «مرحى يا أبناء! وشكرا إذا جئتم. سوف أنزل من فوري إلى صفوفكم، ولكن يجب قبل كل شيء تسوية حساب المجرم. يجب أن نعاقب المجرم الذي سبب ضياع موسكو. انتظروني!»
واختفى الكونت داخل حجراته بمثل السرعة التي ظهر فيها، وانصفق باب الشرفة بعنف.
وطافت بالجمهور همسة ارتياح وراح الناس يتحادثون وكأنهم يتبادلون الاعتذار لضعف إيمانهم: «هن! سوف يخلصنا من المجرمين! وأنت الذي كنت تقول إنه فرنسي ... سوف يريك ما هو النظام!»
وبعد دقائق، خرج ضابط من مدخل الشرف مسرعا، فأصدر أمرا لم يلبث بعض الفرسان بعده أن وقفوا في وضعية «تنكب سلاحك»، فكف الجمهور عن النظر إلى الشرفة وتقدم بنهم نحو المرقاة.
وكان روستوبتشين في تلك اللحظة قد وصل بخطوات سريعة حازمة، فجال بعينيه فيما حوله وكأنه يبحث عن شخص ما.
سأل الكونت: «أين هو؟»
وفي اللحظة التي قال فيها هذه الكلمات، شاهد شابا ذا عنق طويل رقيق ورأس حليق حتى وسطه، وقد بدأ شعره ينبت من جديد، آتيا من ركن البيت يخفره اثنان من الجنود، كان مرتديا «فروة» كانت فيما مضى أنيقة جدا ولا ريب، يغطيها جوخ أزرق على فراء ثعلب مهترئ من الاحتكاك. وكانت سراويله الخاصة بالسجناء المصنوعة من الكتان ممزقة وقذرة، وقد أدخلت في ساقي الحذاءين الدقيقين القذرين المثنيين، وكانت السلاسل الثقيلة التي تعيق ساقيه الهزيلتين تجعل مشيته أشبه بالمترددة.
صاح روستوبتشين الذي أشاح بسرعة عن الشاب وأشار إلى آخر درجة من المرقاة: «آه! ليأتوا به إلى هنا!»
فصعد الشاب على الدرجة المعينة وهو يتقدم بتثاقل مصحوبا بصليل السلاسل، وأزاح بإصبعه ياقة معطف الفراء التي كانت تزعجه، وأدار مرتين عنقه الطويل، ثم عقد وهو يزفر يديه الناحلتين اللتين لم تمارسا عملا؛ على بطنه.
ران الصمت بضع ثوان، بينما كان الشاب يقف على الدرجة، باستثناء بعض النحنحات والأنات وبعض فورات الغضب العابرة، وقليل من الردي في الصفوف الخلفية.
راح روستوبتشين يمر يده على وجهه ويقطب حاجبيه منتظرا أن يتخذ الشاب مكانه على درجة المرقاة، وفجأة، قال بصوت معدني رنان: «أيها الأولاد! هذا الرجل هو فيريشتشاجين، السافل الذي سبب ضياع موسكو.»
اتخذ الشاب ذو معطف فراء الثعلب وضعية متواضعة، عاقدا يديه أمامه، محنيا جذعه قليلا، وكان وجهه الفتي الناحل ذو الأمارات اليائسة، الذي شوهه رأسه الحليق، منحنيا بعناد، ولقد رفع جبهته ببطء عندما فاه الكونت بكلماته الأولى ونظر إليه من أسفل وكأنه يهم أن يقول له شيئا، أو أن يقابل نظرته على الأقل، لكن روستوبتشين ما كان ينظر إليه، وقرب الأذن، على طول عنق الفتى النحيل، ازرق عرق أشبه بالحبل الممدود، وغدا وجهه فجأة بلون الأرجوان.
شخصت العيون كلها إليه، فراح يتأمل الجمهور. ولعل تعابير الوجوه التي طالعته شجعته، فطافت على شفتيه ابتسامة حزينة مذعورة. ومن جديد أطرق برأسه، لكنه نصب قامته على الدرجة.
قال روستوبتشين بقسوة دون أن يرفع صوته وهو يحط بنظرة على فيريشتشاجين: «لقد خان إمبراطوره ووطنه وباع نفسه لبونابرت، إنه وحده بين الروسيين الذي لوث شرف الاسم الروسي، وبسببه ضاعت موسكو.»
وكأن صغار موقف الشاب سبب في نفسه انفجارا؛ إذ رفع يده وقال في شبه زمجرة وهو يخاطب الجمهور: «احكموا عليه بأنفسكم! إنني أهبه لكم!»
ظل الجمهور صامتا تتكاثف صفوفه، وكانوا جميعا متراصين بعضهم إلى جانب البعض الآخر، وقد امتنع عليهم التنفس والحركة، ينتظرون حدوث شيء مجهول، شيء غامض رهيب.
وكان الذين في الصفوف الأولى، الذين يرون ويسمعون ما يحدث، مذهولين وقد جحظت عيونهم، وفغروا أفواههم، يقاومون بكل قواهم موجة الذين من ورائهم.
هتف روستوبتشين: «اضربوه! لينفق الخائن الذي لوث شرف الاسم الروسي! مزقوه! آمركم بذلك.»
ولدى سماع الجمهور لهجة روستوبتشين الغاضبة وليس كلماته، ندا عنه ما يشبه الزمجرة، وارتعش، لكنه عاد إلى جموده.
نطق فيريشتشاجين بصوت وجل ومسرحي معا في اللحظة التي ران فيها الصمت: «كونت! أيها الكونت، إن الله وحده قاضينا!»
ورفع رأسه فعاد الدم من جديد ينفخ العرق الضخم في العنق الهزيل، بينما راح الدم يتصاعد إلى وجهه ويبارحه بسرعة، لكنه لم يستطع أن يتابع الكلام؛ إذ زمجر روستوبتشين فجأة وقد حاكى امتقاع وجهه امتقاع فيريشتشاجين: «مزقوه! آمر بذلك!»
ونضا ضابط الحرس حسامه من غمده وصاح: «أشهروا السيوف!»
واستفزت الجمهور موجة أقوى من السابقة بلغت الصفوف الأولى، فجعلتها تندفع مترنحة حتى درجات المرقاة، وبات العملاق قرب فيريشتشاجين وقد بان الروع على وجهه وإن ظلت يده مشرعة، وقال الضابط بصوت لا يكاد يسمع: «أثخنوه جراحا!»
فضرب أحد الجنود وقد صعر وجهه فجأة بالغضب، فيريشتشاجين بعرض سيفه على رأسه، فصرخ التاعس وقد فوجئ بالضربة: «آه!»
وبان الذعر في عينيه دون أن يبدو عليه أنه فهم ما يريدونه منه، وطافت بالجمهور زمجرة ذعر وذهول، وهتف بعضهم بحزن: «أوه! يا ربي!»
ولكن، بعد صيحة الذهول تلك، أطلق فيريشتشاجين صيحة أخرى من الألم هذه المرة، فكانت تلك الصرخة سبب ضياعه. لقد تحطم شعور الإشفاق الذي توتر إلى أقصى الدرجات، فاستوقف الجمهور، تحطم فجأة فكانت الجريمة التي شرع بها واجبة الإنهاء، وضاعت أنة الرجل المتألمة وسط زمجرة الجمهور الحاقدة المتوعدة، وكما تبتلع موجة سابعة وأخيرة بأخرى غارقة، فإن الموجة الأخيرة التي لا تقاوم من الغضبة الشعبية انتقلت من الصفوف الخلفية إلى الأمامية فأغرقتها وابتلعت كل شيء . أراد الجندي الذي ضرب أول مرة أن يضرب مرة أخرى، فاندفع فيريشتشاجين نحو الجمهور مادا يديه إلى الأمام وهو يطلق صرخات مذعورة، فغرس الفتى العملاق الذي اصطدم به، أظافره في عنقه النحيل، وتدحرج معه تحت أقدام الذين راحوا يندفعون إلى الأمام.
ولقد راح البعض يضربون فيريشتشاجين ويمزقون ثيابه، في حين راح الآخرون ينهالون على العملاق ضربا. ولقد أبلغت صيحات الذين كانوا على وشك الاختناق من الزحام والذين هرعوا لنجدة العملاق، الغضبة الجماهيرية إلى ذروتها، فلم يخلص الجنود العامل المدمى وهو على حال أقرب إلى الموت إلا بشق الأنفس. ولقد ظل الأشخاص الذين راحوا يضربون فيريشتشاجين ويخنقونه ويمزقونه، فترة طويلة رغم الغضب اللاهب الذي حفز الجمهور على إنهاء الجريمة التي شرع فيها، وقتا طويلا عاجزين عن الإجهاز عليه. كانوا متدافعين من كل الجهات يترنحون ويتقاذفون يمينا ويسارا، لا يتوصلون إلى توجيه الضربة القاضية إليه ولا إلى الإبقاء عليه. - «ضربة بلطة موفقة، هن؟ ... هل نفق؟ ... الخائن، يهوذا! كلا، لا زال يتنفس! ... إن روحه مرنة! ... لم يلق إلا ما يستحق! ... ضربة بلطة! هل انتهى؟»
ولما كفت الضحية عن التخبط، وحلت الحشرجة الطويلة محل صرخاتها، كف الجمهور أخيرا عن التدافع حول الجثة الدامية. راح كل شخص الآن يقترب ليلقي نظرة فيأخذه الروع والخزي والتبكيت، وينسحب وقد غدا شديد الصغار.
كانوا يرددون: «أوه! يا ربي! الشعب، يا للوحش الضاري! كيف كان يستطيع أن يعيش بعد كل هذا؟ ثم يا له من شاب يافع! لا ريب أنه كان مدللا! آه! الشعب! يقولون إن الفاعل ليس هذا ... كيف ليس هو؟ ... أوه! يا ربي! والآخر الذي ضربوه، يقولون إنه هو الآخر نصف ميت! ... أوه! الشعب ... الذي لا يخاف الخطيئة ...» هذا ما كان يقوله الأشخاص أنفسهم الذين راحوا الآن يتأملون بحنان رءوف جثة فيريشتشاجين، الذي راح وجهه يزرق وقد غطاه الدم والغبار، والذي كان عنقه النحيل نصف مفصول.
وأراد شرطي أن يبدي غيرة بعد أن وجد أن بقاء تلك الجثة في فناء سعادته أمر غير لائق، فأمر الجنود بجرها إلى الشارع، فأمسك جنديان بساقي فيريشتشاجين المحطمتين وجراه خارجا، فكان الرأس الحليق الملوث بالدم والغبار في نهاية العنق الدقيق الطويل، يقفز على الأرض ويصطدم بها، وابتعد عن الجثة.
عندما سقط فيريشتشاجين، وبينما راح الجمهور الثائر يتدافع ويصطخب حوله وفوقه، شحب وجه روستوبتشين فجأة، وبدلا من الذهاب إلى المرقاة الخلفية، حيث كانت عربته تنتظره، راح بخطوات آلية يمشي مطرق الرأس مسرعا في الممشى المؤدي إلى حجرات الدور الأرضي. كان ممتقع الوجه، لا يستطيع ضبط فكه الأسفل عن الارتعاد كالمصاب بالحمى، وكان صوت مذعور مرتعد يردد خلفه: «من هنا يا صاحب السعادة. إلى أين ترغب في الذهاب؟ من هنا إذا أمرت.»
لم يكن الكونت روستوبتشين بحالة تمكنه من الإجابة، لكنه عاد بخضوع على أعقابه، فسار في الاتجاه الذي أشير به عليه، وكانت عربته تنتظر عند المرقاة الخلفية، وزمجرة الجمهور الصاخب تصل إلى هناك. صعد الكونت روستوبتشين إلى عربته وأصدر أمره بالذهاب إلى بيته الريفي في سوكولنيكي.
عندما بلغ مياسنيتسكايا، ولم يعد يتناهى إلى مسامعه صراخ الجمهور، اجتاح الأسف الكونت روستوبتشين. تذكر فجأة الاضطراب والخوف اللذين ترك مرءوسيه يرونهما عليه، فحدث نفسه بالفرنسية وهو ساخط على نفسه: «إن الرعاع مخيفون، إنهم كريهون، إنهم كالذئاب الذين لا يمكن تهدئتهم إلا باللحم!» وعادت إلى ذاكرته كلمات فيريشتشاجين: «كونت! إن الله وحده قاضينا!» فاجتازت ظهره قشعريرة باردة بغيضة، لكن هذا الشعور كان مؤقتا؛ إذ لم يلبث الكونت روستوبتشين أن ابتسم لنفسه ابتسامة محتقرة. فكر: «كانت لدي واجبات أخرى. كان يجب أن أهدئ الجمهور. إن ضحايا كثيرة أخرى قضت وتقضي للصالح العام.» وحينئذ راح يفكر في الالتزامات المتطلبة منه حيال أسرته وحيال المدينة (المعهود أمرها إليه) وحيال نفسه، ليس حيال شخص فيدور فاسيلييفيتش روستوبتشين (وكان يرى أن هذا يضحي بنفسه من أجل الصالح العام)، ولكن حيال الحاكم، مسلم السلطة وممثل الإمبراطور. «لو أنني لم أكن إلا فيدور فاسيلييفيتش، لارتسم خط سلوكي على نحو آخر، لكنني كنت مضطرا على أن أصون حياة الحاكم وكرامته.»
راح يتأرجح بليونة فوق نوابض عربته المرنة بعيدا عن الزمجرات الجماهيرية الكريهة، ويتذوق طعم الراحة الجسدية، ولقد أتت الراحة الجسدية كالعادة بالهدوء الفكري. لم تكن الفكرة التي هدأته جديدة، فمنذ أن وجد العالم وراح الرجال يقتتلون، لم تقع جريمة ما دون أن يجد فاعلها لنفسه مبررا في قوله لنفسه إنها ارتكبت للصالح العام أو لسعادة الآخرين المزعومة.
إن سعادة الغير هذه تظل أبدا مجهولة من الرجل الذي لا يعميه هواه، لكن الرجل الذي يندفع حتى يبلغ الجريمة، يعرف دائما وبكل تأكيد، مم تتألف، وكان روستوبتشين الآن يعرف هذه السعادة.
لم يكن ضميره لا يأخذ عليه ذلك الفعل الذي أتى به فحسب، بل إنه كان كذلك يجد المبررات ليكون راضيا عما فعل؛ لأنه استخدم هذه المناسبة لمعاقبة مجرم وتهدئة الجمهور بآن واحد.
فكر روستوبتشين: «لقد حوكم فيريشتشاجين وحكم عليه بالموت - في حين أن مجلس الشيوخ لم يحكم عليه إلا بالأشغال الشاقة - لقد كان ماكرا وخائنا، فما كنت أستطيع أن أتركه دون عقاب، وبذلك اصطدت عصفورين بحجر واحد. لقد أعطيت ضحية للشعب لأهدئه وعاقبت سافلا.»
ولما بلغ منزله الريفي، أصدر الكونت - الذي هدأت أعصابه نهائيا - أوامره بالإقامة هناك.
وبعد نصف ساعة، كان يجتاز سهل سوكولنيكي جريا بقوة الجياد البطرة، دون أن يعود إلى التفكير فيما جرى منذ حين، مقتصرا بتفكيره على المستقبل، قاصدا جسر إياووزا الآن؛ حيث قيل له إنه سيجد كوتوزوف.
كان الكونت روستوبتشين يعد خياله في التعنيف القاسي الغاضب الذي سيوجهه إلى كوتوزوف جزاء مكره. سوف يجعل هذا الثعلب العجوز الملاق يشعر بأن مسئولية كل المصائب الناجمة عن ترك موسكو، المصائب التي سينجم عنها ضياع روسيا (حسب تنبؤات الكونت)، تقع على رأسه العجوز ضعيف الذكاء بكليتها. وراح روستوبتشين وهو يفكر فيما سيقوله لا يستقر في عربته من الغضب، ويلقي حوله نظرات حانقة.
كان سهل سوكولنيكي قاحلا، وعند أقصاه قام المستشفى ومأوى العجزة، فكانت ترى جماعات بثياب بيضاء، وبعض الأشخاص المنعزلين الذين يبدون كأنهم يهيمون على وجوههم وهم يلوحون بأذرعهم ويزمجرون.
كان أحد أولئك الأشخاص قادما لاستقبال العربة، فراح الكونت روستوبتشين نفسه وسائق عربته وحراسه من الفرسان، راحوا جميعهم ينظرون بتطلع ممزوج بالذعر إلى أولئك المجانين الذين حرروا منذ حين، وبصورة خاصة إلى ذلك الذي يقترب منهم.
راح المجنون يترنح على ساقيه الطويلتين الهزيلتين في ثوب منزلي فضفاض، وعيناه شاخصتان إلى روستوبتشين، وأخذ يصرخ له بقول بصوت صدئ وهو يشير إليه بالوقوف. وكانت لحيته غير الكاملة تشكل خصلات غير منتظمة حول وجهه النحيل الأصفر، ووجهه الكالح المكتئب خطير وصارم، وحدقتاه بلون الزجاج الأسود تتراقصان في أعماق عينيه الكئيبتين زعفرانيتي اللون. أخذ يصرخ بصوت مدو: «قف! قف! آمرك أن تقف!»
ثم عاد يهدد لاهث الأنفاس ويشيح بيديه بحركات واسعة.
وعندما أضحى بحذاء العربة راح يجري بجانبها. صاح وصوته يعلو أكثر فأكثر: «ثلاث مرات، لقد قتلوني ثلاث مرات، ونشرت من بين الموتى! ... لقد مزقوني وصلبوني ... وسوف أبعث ... سأنشر ... لقد مزقوني إربا. سوف ينهار ملكوت الله، سوف أهدمه ثلاث مرات ثم سأقيمه ثلاث مرات!»
وفجأة امتقع وجه الكونت روستوبتشين كما حدث في اللحظة التي ألقت الجماهير بنفسها على فيريشتشاجين، فأشاح بوجهه وصرخ بالحوذي بصوت مرتعد: «بسرعة ... بسرعة أكثر!»
فانطلقت العربة بأقصى سرعة، لكن الكونت روستوبتشين ظل فترة طويلة يسمع صيحة المجنون اليائسة الآخذة بالخفوت تدريجيا في البعد، في حين راحت تظهر أمام عينيه تقاطيع وجه الخائن في معطفه الفراء، ذلك الوجه المذهول المأخوذ الدامي.
كانت هذه الذكرى لا تزال قريبة، لكن روستوبتشين شعر بها الآن مغروسة في أعماق نفسه. كان يشعر أن أثرها الدامي لن يمحى، وأنه على العكس كلما تقدمت به السنوات كلما عاشت هذه الذكرى في قلبه قاسية معذبة. كان يسمع ويظن أنه يسمع صدى كلماته الشخصية: «فرقوه بسيوفكم. أنتم مسئولون عنه بحيواتكم.» وفكر: «لماذا قلت هذه الكلمات؟ لقد نطقت بكل هذا دون أن أفكر فيه تقريبا. كنت أستطيع ألا أقوله وما كان شيء ليحدث.» عاد يرى الوجه المروع الذي غدا فجأة غاضبا، وجه الجندي الذي كان أول من ضرب، والنظرة الصامتة المفعمة باللوم التي ألقاها عليه ذلك الغلام في ردائه المصنوع من فراء الثعلب، فراح يكرر لنفسه: «لكني لم أفعل هذا من أجل نفسي. لقد كنت مرغما عليه. الرعاع، الخائن ... الصالح العام.»
وكان الجيش يتزاحم على جسر إياووزا والحرارة شديدة، وكان كوتوزوف جالسا حزينا على مقعد قرب الجسر مقطب الحاجبين ينكت الرمال بطرف سوطه، عندما اقتربت منه عربة في جلبة صاخبة، وتقدم إليه رجل في بزة جنرال يضع على رأسه قبعة ذات ريش، له نظرة تائهة تجمع بين الانفعال والخوف، وراح يحدثه باللغة الفرنسية. ذلك كان الكونت روستوبتشين. قال لكوتوزوف إنه جاء يلحق به؛ لأن موسكو والعاصمة لم يعد لهما وجود، ولأنه لم يبق إلا الجيش. وأكد: «وكان يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك لو أن سموكم لم تؤكدوا لي أن موسكو لن تسلم على الأقل دون قتال. إن كل هذا ما كان ليحدث!»
تأمل كوتوزوف روستوبتشين وكأنه لم يفقه معنى كلماته، وبدا كمن يحاول بكل قواه ليقرأ شيئا ما خاصا كان ينم عنه وجه الرجل الذي يحدثه في تلك اللحظة. وانتهى الأمر بروستوبتشين المضطرب إلى الصمت، هز كوتوزوف رأسه ببطء وقال بلهجة هادئة دون أن يحول عنه نظرته الفاحصة: «لكنني لا أزمع تسليم موسكو دون قتال.»
فهل كان كوتوزوف يفكر في شيء آخر وهو ينطق بتلك الكلمات؟ أم تراه نطق بها لغاية في نفسه وهو عارف أنها خالية من المعنى؟ مهما كان الأمر، فإن روستوبتشين ابتعد دون أن يجيب، ثم - وهو أمر عجيب - راح حاكم موسكو العام روستوبتشين المتجبر وفي يده سوط، يقترب من الجسر ليفرق العربات التي ازدحم بها بصيحات عالية.
الفصل السادس والعشرون
احتلال موسكو
حوالي الساعة الرابعة، بدأت قوات مورا تدخل موسكو وعلى رأسها كتيبة من الفرسان الورتمبرجيين، جاء بعدهم مباشرة ملك نابولي شخصيا تحيط به حاشية عديدة.
ولما وصلوا عند وسط «الأربات» قرب سان نيكولا ريفيليه، أمر مورا بالتوقف بانتظار تقرير الطليعة عن حالة قلعة الكريملن.
اجتمع حول مورانير قليل من السكان الذين لم يغادروا موسكو، راحوا يتأملون بذهول مشوب بالفزع، هذا الرئيس الغريب بشعره الطويل وريش قلنسوته وزينته، ويقولون فيما بينهم: «قل يا هذا، هل هذا هو قيصرهم، هم؟ حسنا ...»
اقترب مترجم من الجماعة فغمغم الناس فيما بينهم: «ارفع قلنسوتك ... قلنسوتك ... القلانس ...»
خاطب المترجم بوابا كهلا، فسأله عما إذا كان الطريق إلى الكريملن ما زال طويلا، فأصغى البواب، لكنه تاه في اللكنة البولونية فلم يتعرف على اللغة الروسية؛ لذلك لم يفهم شيئا مما كان المترجم يسأله، فذهب يختبئ وراء الآخرين.
اقترب مورا من المترجم وأمره أن يسأل أين هو الجيش الروسي. ولقد فهم أحد الحاضرين ماذا يسألون، فأجابت أصوات عديدة فجأة معا، وعاد ضابط فرنسي من الطليعة فأعلن لمورا أن باب الحصن محدود بسور، وأنه لا بد من وجود كمين وراءه، فقال مورا: «حسنا.» والتفت إلى أحد ضباط حاشيته وأمره بأن تستعمل أربعة مدافع خفيفة في ضرب الأبواب.
خرجت «بطارية» من القطعات التي كانت تتبع مورا، ومضت على طول «الآربات»، فلما بلغت أسفل فوزدفيجنكا، وقفت وتمركزت هناك، وراح بعض الضباط الفرنسيين يعدون المدافع في المواقع المناسبة، ويفحصون الكريملن بمناظيرهم المقربة.
كانت الأجراس في الكريملن تقرع مؤذنة بصلاة الغروب، فاضطرب الفرنسيون لقرعها، وظنوا أنها نداء لحمل السلاح، وجرى بعض جنود المشاة نحو باب كوتافييف الذي كانت تحصنه من الداخل أعمدة من الخشب وألواح من البلوط السميك. ودوى طلقان ناريان حينما كان الضابط يقترب جريا مع كتيبته، فأصدر الجنرال الواقف قرب المدافع أمرا إلى ذلك الضابط، فوقف وتراجع مع جنوده إلى الوراء مندفعا.
وانطلقت ثلاث طلقات أخرى من الباب.
أصيب جندي فرنسي في ساقه وارتفعت صيحات غريبة من وراء المتراس. وفجأة، وكأن المسألة جاءت نتيجة لأمر صادر، فقد وجه الجنرال والضابط والجنود تعبير البهجة المتوترة واكتست بطابع العناد والتركز الذي يلوح على وجوه أولئك الذين يستعدون للنضال والألم. ومن الماريشال وحتى آخر جندي فهموا جميعا أن هذه الساحة ليست ساحة فوزدفيجنكا ولا موخوفاييا ولا أبواب كوتافييف أو الترينيتيه، بل إنها ساحة حرب جديدة، ساحة تنذر بوقوع معركة دامية كما تدل الظواهر ، فاستعدوا جميعهم لها. توقفت الصيحات وراء المتراس وسددت المدافع، وراح المدفعيون ينفخون على الفتيل، وأمر الضابط: «نار!» وصفرت قذيفتان انطلقتا الواحدة تلو الأخرى، وتساقطت قطع الحديد كالبرد على الباب المسدود والأعمدة والألواح، في حين راحت سحابتاهما من الدخان تتصاعدان فوق الساحة.
وبعد دقائق من هدوء الهدير الذي خلفته الطلقتان على طول جدران الكريملن، ارتفعت ضجة غريبة فوق رءوس الفرنسيين؛ ذلك أن سربا هائلا من غربان الزرع نفر من الساحة المسورة وهي تنعب، فارتفع صوت ألوف الأجنحة وهي تصطفق وتدور حتى غطت السماء تماما، وبنفس الوقت ارتفع صوت بشري منفرد من وراء الباب، وبدا خلال الدخان شبح رجل عاري الرأس يرتدي رداء فضفاضا وبيده بندقية كان يسددها إلى الفرنسيين. ردد ضابط المدفعية: «نار!» فانطلقت قذيفتان من المدفعين مع طلقة البندقية معا، وعاد الدخان يحجب الباب من جديد.
لم يعد شيء يتحرك وراء المتراس، فاقترب الضباط الفرنسيون يتبعهم مشاتهم. كان هناك ثلاثة جرحى وأربعة قتلى، وفر رجلان يرتديان رداءين فضفاضين وهما يستتران بالجدران نحو زنامنكا.
قال الضابط وهو يشير إلى الألواح والجثث: «ارفعوا هذا.»
فدفع الفرنسيون الجثث بعد أن أجهزوا على الجرحى من فوق الحاجز.
من كان أولئك الأشخاص؟ هذا ما لم يعرف أبدا. إن كل ما قيل عنهم هو: «ارفعوا هذا.» ولقد ألقوا بهم ثم جمعوا رفاتهم بسبب العفن، لكن «تيير» وحده كرس لهم هذه الأسطر الفخمة: «كان أولئك الحقيرون قد داهموا القلعة المقدسة واستولوا على بنادق من مخزن السلاح، وراحوا يطلقون النار (أولئك الحقيرون!) على الفرنسيين، فضربوا بعضهم بالسيوف وطهروا الكريملن من وجودهم.»
أخبروا مورا أن الممر أصبح حرا، فاجتاز الفرنسيون الباب وأقاموا معسكرهم في ساحة مجلس الشيوخ، وألقى الجنود مقاعد من نوافذ ذلك البناء ليقدموها طعمة للنيران.
اجتازت ألوية أخرى الكريملن، ومضت تعسكر في موروسيئيكا ولوبيانكا وبوكروفكا، وأقام بعضها أيضا في فوزدفيجنكا وزنامنكا ونيكولسكاييا وتفيرسكاييا. وفي كل مكان، إذ لم يجدوا أحدا في المساكن، أقام الفرنسيون فيها ليس على حسب ما يجري في بلد يقدم لهم السكن، بل كما يقيمون في معسكر عام في صميم المدينة.
وعلى الرغم من أن عددهم تضاءل إلى النصف، وأنهم باتوا في ثياب خلقة يتضورون من الجوع ويضنيهم التعب، فإن الفرنسيين - رغم ذلك - دخلوا موسكو بنظام. كانوا لا يزالون يكونون جيشا مقاتلا يحسب له حساب رغم حالة الإنهاك الشديد والضعف التي كانوا عليها. مع ذلك، فإن هذا الجيش لم يبق على هذا النحو إلا حتى الدقيقة التي تفرق فيها جنوده على المنازل؛ إذ ما إن دخل الرجال ونعموا في المنازل الغنية الخالية حتى اختفى الجيش إلى الأبد، ولم يبق إلا أولئك السكان بين المدنيين والعسكريين الذين يطلق عليهم اسم: سلابون. وعندما خرج هؤلاء الرجال أنفسهم من موسكو بعد خمسة أسابيع ما عادوا يشكلون جيشا. كانوا جماعة من النهابين حمل كل منهم في عربة أو على ظهره طائفة من الأشياء اعتبر أنها ثمينة لا غنى له عنها. لم يعد هدف هؤلاء الرجال - كما كان من قبل - أن يقاتلوا، بل أن يحتفظوا بغنائمهم، وقد كان حال الفرنسيين عند خروجهم من موسكو كحال القرد الذي مد يده في قدر ذات عنق وفوهة ضيقين فأطبقت أصابعه على عدد من ثمار الجوز، لكنه لم يشأ أن يفتح أصابعه كيلا يفلت شيئا مما أمسك به. كانوا يمشون إلى نهايتهم المحتومة؛ لأنهم جروا معهم حصالة سلبهم، وما كانوا يقدرون على التخلي عنها كما فعل القرد بثمار الجوز. لم يعد بعد عشر دقائق من دخول فيلق من الجند إلى حي من أحياء المدينة ضباط ولا جنود. كان يرى من نوافذ المنازل في معاطف ورانات، يروحون ويجيئون عبر الغرف، وآخرون في مثل حال أولئك يستولون على المؤن المودعة في الأقبية والعنابر، وغيرهم في الأفنية يغتصبون أبواب الأروقة والإسطبلات، أو في المطابخ يوقدون النار ويعجنون الدقيق وأكمامهم مشمرة، أو يطهون طعامهم وهم يلتصقون بالنساء أو يداعبون الأطفال. مع ذلك، فإن عددهم لم ينقص في الحوانيت والمنازل، لكنهم ما عادوا يشكلون جيشا.
خلال ذلك اليوم توالت الأوامر من أركان حرب الجيش الفرنسي، أمرا إثر أمر ، ترمي جميعها إلى منع الجنود من السلب والانتشار في المدينة واستعمال العنف ضد السكان، وفرضت الأوامر نفسها مساء عند النداء العام. لكن رغم كل ذلك انتشر الرجال الذين كانوا حتى الأمس يشكلون الجيش في كل مكان في تلك المدينة القاحلة، يضفون على أنفسهم وسائل الترف ويغدقون على أنفسهم المؤن والثروات. وكما هو حال القطيع الجائع الذي يبقى مجتمعا في مرعى أسلخ وينتشر فور وقوعه على مرج نضير، انتشر الجيش في المدينة الضخمة دون أن يقدروا على إيقافه.
كانت موسكو خالية، والجنود يتخللون في كل مكان أشبه بالماء فوق الرمل، ويحومون جماعات حول الكريملن حيث استطاعوا الدخول بادئ الأمر، وكان الفرسان إذا ما دخلوا بيوتا بورجوازية غنية هجرها أهلها وفيها كل مفروشاتها وأثاثها، يجدون فيها إسطبلات لجيادهم أكثر اتساعا مما يتطلبون، لكنهم مع ذلك ما كانوا يتورعون عن احتلال منزل مجاور بدا لهم أكثر امتلاء، وكان كثيرون يحتلون عدة مساكن معا ويؤشرون عليها بكتابة أسمائهم بالحكك، بل ويشتبكون بالأيدي مع آخرين من وحدات أخرى. وآخرون لا يكاد يستقر بهم المقام حتى يندفعوا خلال المدينة لزيارتها، فما إن يجدوا أن كل شيء مهجور حتى يندفعوا إلى الأماكن التي يستطيعون الفوز منها بأثمن الأسلاب. وكان الضباط يحاولون إيقاف الجنود عند حدهم، لكنهم لا يلبثون حتى ينجرفوا هم أنفسهم في غمار حركة السلب العامة. ولم ينج سوق العربات نفسه؛ إذ راح الجنرالات يجتمعون في الأروقة المملوءة بالعربات الجاهزة؛ لينتقوا لأنفسهم عربة خفيفة أو مغلقة. وكان المتخلفون من السكان يدعون الضباط للسكنى عندهم آملين أن ينجو من السلب العام، والثروات من الغزارة لدرجة لا يدرك مداها، حتى إن أمكنة كثيرة حول المواقع التي كان الفرنسيون يحتلونها، ظلت سالمة لم تمسها الأيدي، فكان هؤلاء يطمعون في العثور فيها على ثروات خرافية تفوق ما عثر عليه حتى الآن، وموسكو تستوعبهم أكثر فأكثر. وكما تختفي المياه التي تصب على أرض جافة وتخفي معها جفاف الأرض، كان ذلك الجيش الجائع؛ ما إن يوغل في أعماق تلك المدينة الموسرة ولكن الخالية، حتى يختفي ويخفي معه يسارة المدينة، فلم يبق إلا الوحل والحريق والنهب.
يعزو الفرنسيون حريق موسكو إلى وطنية روستوبتشين الضارية، والروسيون يعزونها إلى وحشية الفرنسيين. والواقع أنه لا يمكن ولا يجب تسجيل هذا الحريق على حساب شخص واحد أو بعض الأشخاص . لقد احترقت موسكو لأنها وجدت في مثل الشروط التي يجب على كل مدينة مبنية من الخشب أن تحترق معها، بصرف النظر عن وجود مائة وثلاثين مضخة رديئة أو عدم وجودها، كان على موسكو أن تحترق؛ لأن سكانها رحلوا بمثل البديهة التي تحترق بها رزمة من النشارة راحت تتساقط عليها طيلة أيام كاملة شرارات متوالية. فمدينة من الخشب يقع فيها كل يوم حريق، رغم احتياطات السكان ورجال الشرطة، لا يمكن أن تنجو من الحريق بعد أن يهجرها سكانها ويقطن فيها جيش، ويدخن جنوده الغليون ويوقدون النيران على ساحة مجلس الشيوخ ويغذونها بكراسي المجلس، ويعدون طعامهم مرتين كل يوم. ففي وقت السلم يكفي أن يتخذ الجنود معسكرا لهم في قرى معينة حتى يزداد عدد الحرائق فيها. فكم يجب - والحالة هذه - أن تتضاعف إمكانيات الحرائق في مدينة من الخشب خالية من السكان يعسكر فيها جيش غريب؟ فوطنية روستوبتشين الضارية ووحشية الفرنسيين لا علاقة لهما بالأمر مطلقا، لقد احترقت موسكو بسبب الغلايين والمطابخ ونيران المعسكرات، وبسبب لا مبالاة الجنود، سادة منازل لا تخصهم. وإذا كان هناك حقا من أشعل النار (وهو أمر مشكوك به؛ لأنه لم يكن لأحد دافع يلجئه إلى إضرام النار؛ لأن الخطر كان متماثلا في جسامته بالنسبة إلى الجميع على الأقل)، فإنه لا يجب اعتبار هؤلاء الأشخاص المسببين؛ لأن النتيجة بدونهم ما كانت لتختلف عما وقع في شيء.
ومهما كان اتهام ضراوة روستوبتشين مراقا حينذاك بالنسبة إلى الفرنسيين، وكذلك عداء بونابرت بالنسبة إلى الروسيين، ووضع مشعل بطولي في يد الغوغاء فيما بعد، فإنه يستحيل ألا يرى أن مثل هذه الأسباب لا يمكن أن تغفل؛ لأن موسكو كان يجب أن تحترق كما يجب أن تحترق أية قرية أو أي مصنع أو بيت يكون صاحبه غائبا، فيقطنه غرباء ويطهون طعامهم فيه. لقد أحرقت موسكو من قبل سكانها، وهذا صحيح، ولكن من قبل الذين خرجوا منها لا الذين لبثوا فيها. فإذا لم تبق موسكو سليمة بعد احتلالها من قبل العدو مثل برلين وفيينا ومدن أخرى، فما ذلك إلا لأن سكانها هجروها بدلا من أن يقدموا المفاتيح للفرنسيين على أطباق إلى جانب الخبز والملح.
الفصل السابع والعشرون
نفسية بيير
امتدت موجة الفرنسيين على شكل نجمة من الوسط نحو أحياء موسكو الخارجية التي استمرت تستوعبهم طيلة اليوم الثاني من أيلول حتى بلغت حوالي المساء الحي الذي يقطن فيه بيير.
وكان بيير بعد يومين من الانزواء في شروط خارقة، في حالة أقرب إلى الجنون، تشغل كيانه فكرة وحيدة ملحاحة، ما كان يعرف من أين ولا كيف غزت رأسه، وكانت تلك الفكرة قد استحوذت عليه، لدرجة لم يعد معها يذكر شيئا من الماضي، ولا يدرك شيئا من الحاضر، فكان كل ما يراه وما يسمعه يدور أمامه وكأنه في حلم.
لقد غادر مسكنه لسبب وحيد؛ وهو الإفلات من التعقيدات التي وجد نفسه فيها، والتي بات الآن وهو على تلك الحالة الفكرية يشعر أنه عاجز عن حلها. لقد ذهب إلى مسكن جوزيف ألكسيئييفيتش بحجة تصفح أوراق المتوفى وكتبه، بينما كانت الحقيقة فرارا من حياة حافلة بالهزات؛ لأن ذكرى هذا الرجل كانت مرتبطة في نفسه بعالم حافل بالأفكار الخالدة الجليلة المسالمة المناقضة كل التناقض لذلك الاندفاع الجنوني الذي شعر بأنه يجرف فيه. كان يبحث عن مأوى بعيدا عن كل صخب، فوجد ذلك المأوى بالفعل في مكتب جوزيف ألكسيئييفيتش، وعندما جلس واتكأ على مكتب المتوفى المغبر في صمت الموت الذي يخيم على تلك الحجرة، أفاقت في ذاكرته وذكريات أيامه الأخيرة الواحدة تلو الأخرى بسكون مشبعة بالمعاني، وبصورة خاصة ذكريات معركة بورودينو؛ حيث شعر بتفاهته وبطلان حياته إزاء حياة أولئك الأشخاص الغائصين في الحقيقة والبساطة، الذين يسمون «هم» في مخيلته، وعندما جاء جيراسيم ينتشله من أحلامه راودته فكرة الاشتراك في الدفاع عن موسكو، وهي فكرة كان يعرف أن السكان يصبون إليها، ولقد طلب إلى جيراسيم والمعطف المسدس لهذه الغاية، وأنهى إليه رغبته في التكتم حول اسمه، وفي البقاء في منزل جوزيف ألكسيئييفيتش. عاد من جديد خلال يوم عطالته الأول - ولقد حاول بيير عبثا مرات عديدة أن يركز انتباهه على المخطوطات الماسونية - يتذكر بغموض المعنى السحري لاسمه بالارتباط مع اسم بونابرت، لكن تلك الفكرة - فكرة أنه هو «أروسي بيزوخوف» منذور سلفا ليضع حدا لحكم الوحش - لم تكن حتى تلك اللحظة بالنسبة إليه أكثر من حلم من أحلامه الغامضة يخترق تفكيره عرضا دون أن يخلف فيه أثرا.
وعندما اشترى معطفه بغية المساهمة مع السكان في الدفاع عن موسكو فحسب، قابل بيير آل روستوف وناتاشا التي قالت له: «هل تبقى؟ آه! كم هو حسن هذا!» وعندئذ واتته فكرة البقاء كوميض البرق لينجز مهمته المعدة له منذ الأزل.
وفي اليوم التالي، مضى إلى مدخل الجبال الثلاثة تسيطر عليه فكرة وحيدة؛ ألا يوفر نفسه، وأن يكون جديرا ب: «هم»، لكنه عندما عاد إلى البيت مقتنعا بأن موسكو لن يدافع عنها، شعر فجأة بأن كل ما بدا له حتى تلك اللحظة ممكنا أصبح بما لا يقبل الشك ضروريا ومحتوما، وأن واجبه يقضي بإخفاء اسمه وبالبقاء في موسكو والبحث عن نابليون وقتله، ثم أن يموت هو نفسه أو أن يضع حدا لآلام أوروبا، تلك الآلام التي لم يكن لها في مخيلة بيير غير فاعل واحد وهو نابليون الأوحد.
وكان بيير يعرف كل تفاصيل المحاولة التي وقعت في فيينا عام 1809م ضد حياة بونابرت من قبل طالب ألماني، ويعرف أن ذلك الطالب أعدم رميا بالرصاص، فكان الخطر الذي يواجهه للقيام بمهمته يزيد في تحمسه زيادة كبيرة.
وكانت عاطفتان متساويتان في القوة تدفعان بيير إلى ذلك العزم؛ الأولى حاجته إلى التضحية بنفسه والتألم، تلك الحاجة التي أيقظتها المصيبة العامة المشتركة؛ وهي العاطفة التي دفعته يوم الخامس والعشرين إلى موجائيسك، وألقت به في صميم المعركة، وجعلته الآن ينفر من بيته الخاص ومن ترفه ورفاهيته لينام بكامل ثيابه على أريكة دون نوابض، وليأكل الأصناف نفسها التي يأكلها جيراسيم. والعاطفة الثانية هي ذلك الإحساس غير المنطقي الخاص بالروسيين، الإحساس بالاشمئزاز من كل ما هو اصطلاحي اصطناعي بشري، من كل ما يعتبره السواد الأعظم من الناس الخير الأعم. لقد شعر بيير في قصر سلوبودسكي بالنشوة الغريبة عندما أحس فجأة للمرة الأولى بأن الثراء والسلطان والحياة وكل ما يجهد الناس بشدة لكسبه والمحافظة عليه، لا تصبح ذات شأن إلا بالبهجة التي تغمر قلب الإنسان عند استطاعته هجرها.
هذا هو الشعور الذي يحس به المتطوع الفدائي عندما يثمل بآخر «كوبيك»
1
في جيبه، والرجل الثمل الذي يحطم المرايا والزجاج دون أي سبب وهو عارف أن تصرفه ذاك سيكلفه كل ما في جيبه، إنه هذا الشعور الذي يدفع الإنسان نحو تصرفاته مخالفة للصواب (بصورة عامة)، وكأنه يريد اختبار قوته وسلطته، وأن يبرهن بهذه الوسيلة على وجود محكمة عليا تتحكم بالحياة فوق سنن البشر.
منذ ذلك اليوم الذي شعر فيه بيير بهذا للمرة الأولى في سلوبودسكي لم يكف مرة عن احتمال أثره حتى بات في تلك اللحظة راضيا عنه كل الرضى. ومن جهة أخرى كان بيير في تلك اللحظة معتمدا في قراره على استحمال التراجع بعد ما اجتازه حتى الآن في هذا السبيل، فكان فراره من بيته ومعطفه ومسدسه وتصريحه لآل روستوف بأنه باق في موسكو، كل هذا سيصبح عديم المعنى، بل ومبعث سخرية واحتقار - وكان بيير يشعر بذلك شعورا قويا - إذا تصرف بعدئذ تصرف كل الناس وغادر موسكو.
وكانت حالة بيير الجسدية تتلاءم مع حالته الفكرية كالعادة دائما، فالطعام المغلظ الذي تناوله خلال أيامه الأخيرة والذي لم يألفه من قبل، والعرق الذي شربه وحرمانه من الخمر والسيجار، واستحالة إبدال ثيابه الداخلية، وليلتان دون نوم تقريبا أمضاهما على أريكة قصيرة بالنسبة إلى جسمه دون متطلبات السرير المريح، كل هذه الأمور جعلت بيير في حالة انفعال عصبي قريبة من الجنون.
كانت الساعة قد بلغت الثانية بعد الظهر، وكان الفرنسيون قد فرغوا من دخولهم إلى موسكو، وبيير يعرف ذلك، لكنه بدلا من أن ينشط إلى العمل، لم يكن يفكر إلا في مشروعه الذي أخذ يستعيد في ذاكرته أدق تفاصيله. ما كان مكونا لنفسه أية فكرة واضحة عن الطريقة التي سيتصرف بها لينفذ فكرته، ولا أية فكرة عن موت نابليون، ولكن كان موته هو وجرأته البطولية هما ما يتمثله بجلاء خارق والتذاذ سويداوي.
راح يفكر: «نعم، واحد في سبيل الكل، يجب أن أنجح أو أموت! نعم، سوف أقترب ... ثم فجأة ... ترى المسدس أم الخنجر؟ ... سيان على كل حال. لست أنا الذي أعاقبك، بل هي يد القدرة ... - كان بيير يفكر في الكلمات التي سيقولها وهو يضرب نابليون - حسنا، ماذا؟ خذوني، احكموا علي.» بذلك أخذ يفكر معقبا على آرائه وعلى وجهه مزيج من الحزم والحزن وهو مطرق الرأس.
وفي اللحظة التي كان بيير فيها واقفا في مكتب عمل جوزيف ألكسيئييفيتش يناقش نفسه بتلك الصورة، فتح الباب وبدا على العتبة ماكار ألكسيئييفيتش وقد تخلص تماما من مظهره المذعور الذي بدا عليه من قبل.
كان ثوبه المنزلي مفتوحا، ووجهه مصفرا متضرجا وهو بادي الثمل، فلما رأى بيير ارتبك لحظة، ولكن لم يلبث أن تشجع من فوره لما رأى بيير نفسه مرتبكا، فتقدم إلى وسط الحجرة وهو يترنح على ساقيه النحيلتين.
قال بصوت أبح ولكن ثابت: «لقد استبد بهم الخوف. إنني أقول: لن أستسلم، أقول ذلك أنا ... أليس كذلك يا سيدي؟»
واتخذ سمة المفكر، لكنه فجأة عندما رأى المسدس على المكتب، أطبق عليه بحركة سريعة وفر إلى الممشى.
أوقفه جيراسيم والبواب اللذان لحقا به عند المدخل واجتهدا في نزع المسدس منه، وهرع بيير إلى الممشى وراح ينظر إلى الكهل نصف المجنون في عطف مشوب بالاشمئزاز. وكان ماكار ألكسيئييفيتش يعجو وجهه بتأثير المجهود، ويشدد قبضته على المسدس ويصرخ بصوته الأبح وقد خيل إليه حقا أنه في لحظة جليلة. زمجر: «إلى السلاح! إلى الهجوم! كلا، لن تناله!»
بينما راح جيراسيم يردد وهو يحاول أن يدفعه بمرفقه ليجعله يجتاز الباب : «كفى، أرجوك كفى. أرجو أن تترك هذا! هيا يا سيدي ...»
وعاد ماكار ألكسيئييفيتش يزمجر: «من تكون؟ بونابرت! ...» - «هذا ليس بمستحسن يا سيدي. ادخل إلى غرفتك أرجوك. اذهب واسترح. تفضل بإعطائي هذا المسدس.»
قال ماكار وهو يشهر المسدس ويزمجر بصوت أشد ارتفاعا: «إلى الوراء أيها العبد الحقير! لا تلمسني! هه، أرأيت؟ إلى الهجوم!»
فهمس جيراسيم في أذن البواب: «احمله.»
ولقد جر ماكار ألكسيئييفيتش محمولا نحو الباب.
لم يلبث الممشى أن امتلأ بصرخات السكير المنهوك الأجش.
وارتفعت صيحة مدوية على المرقاة، خرجت من حنجرة امرأة، وهرعت الطاهية بدورها إلى الممشى وهي تهتف: «ها هم أولاء! أوه! يا ربي، أقسم لكم أنهم هم! إنهم أربعة على جياد!»
فأفلت جيراسيم والبواب ماكار ألكسيئييفيتش، وفي الممشى الذي ران الصمت عليه من جديد ارتفعت طرقات جلية أحدثتها قبضات الأيدي على باب المدخل.
الفصل الثامن والعشرون
حياة الضابط
كان بيير قد قرر إخفاء هويته ومعرفته باللغة الفرنسية حتى بعد فراغه من إنجاز مهمته، وكان واقفا قرب باب الممشى الموارب متحفزا للاختفاء فور دخول الفرنسيين إلى البيت، لكن الفرنسيين دخلوا دون أن يتحرك من مكانه؛ لأن فضولا لا يقاوم استبد به فأقامه في مكانه.
كانا اثنين؛ أحدهما ضابط طويل القامة جميل جليل الطلعة، والآخر جندي بسيط تابع الأول ولا شك، مربوع القامة نحيل العود ملفوح الوجه بوجنتين غائرتين ووجه بليد. دخل الضابط أولا وكان يعرج ويتكئ على عصا، وبعد أن سار بضع خطوات توقف وقد وجد أن البيت يوافق مزاجه ولا ريب، والتفت إلى الجنود الواقفين أمام الباب وهتف بهم بصوت آمر أن يأتوا بالجياد. وبعد ذلك، رفع الضابط مرفقه إلى الأعلى بحركة متغطرسة، وبرم شاربه ثم رفع يده إلى مقدمة عمرته وهو يوجه الحديث إلى الجميع: «مرحبا أيها الموجودون!»
وراح يعاين المكان وهو يبتسم، فلم يجبه أحد. - «هل أنت البورجوازي؟»
فراح جيراسيم ينظر إليه بجزع وفي عينيه استفهام.
قال الضابط وهو يقيس بنظره من عل قامة الرجل القصير الواقف أمامه وعلى شفتيه ابتسامة عطوف: «كارتير، كارتير، سكن !»
ثم أعقب وهو يربت على كتف جيراسيم الصامت المروع: «أواه! إن الفرنسيين أطفال عاقلون. يا للشيطان! هيا لننبذ السخط يا عجوزي!»
وأضاف وهو يجيل بصره فيما حوله ويلاقي به نظرة بيير الذي انفصل عن الباب: «آه! هذا! قولوا، ألا يتحدث الفرنسية أحد في هذا المكان؟»
وخاطب الضابط جيراسيم وهو يعتقد أنه يستطيع أن يجعل أجوبته أكثر وضوحا إذا شوهها: «سادة ليسوا هنا ... لا أفهم ... أنا ... لك ...»
فلوح الضابط وهو لا يزال يبتسم بإشارة أسفل أنف جيراسيم، مشيرا بذلك إلى أنه هو الآخر لا يفهم، وتوجه وهو يعرج نحو الباب الذي وقف عنده بيير، الذي كان يود لو يبتعد قبل أن يرى لو لم ير في تلك اللحظة ماكار ألكسيئييفيتش يظهر على باب المطبخ والمسدس في يده. وبمكر المجانين، نظر ماكار ألكسيئييفيتش إلى الضابط ورفع المسدس وصوبه وصاح وهو يضغط على الزناد: «إلى الهجوم!»
استدار الضابط، وبنفس اللحظة ارتمى بيير على السكران، ولكن بينما كان بيير يمسك بالمسدس وينتزعه، استطاع ماكار ألكسيئييفيتش أن يضغط على الزناد أخيرا، فدوت طلقة تصم الآذان، وامتلأت الغرفة بالدخان، فشحب وجه الفرنسي واندفع نحو الباب.
نسي بيير عزمه على إخفاء معرفته باللغة الفرنسية، فانتزع المسدس من يدي ماكار ألكسيئييفيتش وألقاه جانبا، ثم هرع إلى الضابط وسأله بالفرنسية: «ألم تجرح؟»
فأجاب هذا وهو يلمس نفسه: «أظن أن لا.»
وأشار إلى خدش في طلاء الجدار وقال: «لكنني نجوت هذه المرة بمعجزة.»
ثم سأل بصرامة وهو يتأمل بيير: «من هذا الرجل؟»
فهتف بيير بقوة وقد نسي دوره تماما: «في الحقيقة إنني آسف أشد الأسف لما حصل. إنه مجنون، تاعس، ما كان يعرف ما هو فاعل.»
اقترب الضابط من ماكار ألكسيئييفيتش وأمسك به من ياقته.
فتهاوى السكران على الجدار وقد سقطت شفته، ونطقت أساريره بالتبلد وراح يترنح، فقال الفرنسي وهو يفلته: «أيها المجرم، ستدفع لي ثمن ذلك! إننا نحن معشر الفرنسيين رحماء بعد النصر - وأضاف بلهجة خطيرة وجليلة وهو يرفق قوله بإشارة نشيطة عريضة - لكننا لا نغفر للخونة.»
استمر بيير يتوسل إليه بالفرنسية ألا يعاقب سكرانا أقرب إلى الجنون، ولقد أصغى إليه الفرنسي في صمت بادئ الأمر وهو مكفهر الوجه، ثم ابتسم فجأة وتأمله بضع ثوان، فاتخذ وجهه الجميل مسحة مؤسية وحانية معا، ومد له يده وقال: «لقد أنقذت حياتي! إنك فرنسي.»
لقد كان الشك لا يمكن أن يتطرق إلى نفس هذا الفرنسي الذي يعتقد أن الفرنسي وحده هو الذي يستطيع أن يقوم بمثل هذا العمل النبيل الذي هو إنقاذ حياة السيد رامبال رئيس الكوكبة الخفيفة الثالثة عشرة، والذي هو عمل يعتبر أكثر نبلا من كل الأعمال الأخرى.
لكن بيير ظن أن من واجبه أن يصحح خطأ الضابط مهما بلغ ذلك الرأي الذي صرح به من يقين، فهتف بشدة: «إنني روسي.»
فرد الضابط وهو يبتسم ويشير له إشارة ساخرة: «تا، تا، تا! قلها لغيري! سوف تروي علي الأمر بعد حين. إنني سعيد بلقاء مواطن.»
وأضاف وهو يخاطب بيير وكأنه يتحدث إلى أخيه: «حسنا، ماذا سنعمل بهذا الرجل؟»
ولم يكن بيير مستطيعا حتى ولو لم يكن فرنسيا أن يرفض هذا اللقب الذي هو أرفع لقب في العالم، وهو ما راح الضابط يعبر عنه بكل وضوح بلهجته وبتعبير وجهه، ففسر بيير مرة أخرى حالة ماكار ألكسيئييفيتش وكيف استولى السكران، ذلك المجنون، في اللحظة التي دخل فيها الضابط، على مسدس محشو لم يستطيعوا انتزاعه من يديه، ثم رجا الضابط مرة أخرى ألا يعاقبه.
فانتصب الضابط وأشار بيده بحركة ملكية حقا، وقال بلهجة سريعة حازمة: «لقد أنقذت حياتي! أنت فرنسي. تسألني العفو عنه؟ أمنحك ما تطلب. ليأخذوا هذا الرجل.»
ثم أمسك بذراع ذلك الذي رفعه إلى مرتبة الفرنسي لأنه أنقذ حياته، ودخل معه إلى داخل المسكن.
ولقد اندفع الجنود الذين كانوا في الفناء إلى الدهليز على دوي الانفجار، وراحوا يستفسرون عما وقع ويعربون عن استعدادهم لمعاقبة المذنب، لكن الضابط استوقفهم بصرامة وقال: «سوف تستدعون عندما تدعو الحاجة إليكم.»
فخرج الجنود، وجاء التابع الذي تسنى له خلال ذلك أن يعاين المطبخ يقول للضابط: «أيها الرئيس ، إن لديهم حساء وضلع خروف في المطبخ، فهل آتيك به؟»
فأجاب الضابط: «نعم، والخمر.»
الفصل التاسع والعشرون
الرئيس رامبال
عندما دخل الضابط مع بيير إلى داخل البيت ظن بيير أن من واجبه أن يؤكد له مرة أخرى بأنه ليس فرنسيا، وكان يريد أن ينسحب، لكن الضابط لم يصغ إليه. أظهر تهذيبا جما وتوددا فائقا وبشاشة ورغبة عميقة في إبداء عرفانه حيال منقذه، حتى إن بيير لم يجد الشجاعة ليرفض له طلب مجالسته في البهو الذي كان أول غرفة دخلا إليها. ولقد أدهش استمرار بيير على القول بأنه ليس فرنسيا الضابط أيما دهشة، وهو الذي لم يفهم كيف يرفض مثل هذا الشرف، فهز كتفيه وقال لبيير إنه إذا كان يصر على اعتبار نفسه روسيا، فإنه لن يعارض رغبته، وسيحتفظ برغم ذلك بعرفان أبدي للرجل الذي أنقذ حياته.
ولو أن ذلك الفرنسي أبدى أقل استعداد لفهم شعور الغير، وأدرك ما يعتلج في نفس رفيقه لتركه بيير دون ريب، لكن عدم قابليته الظاهرة لكل ما هو غير نفسه هو الذي حدا ببيير أن يبقى.
قال الفرنسي وهو يلقي نظرة على ثياب بيير القذرة ولكن الثمينة، وعلى الخاتم الذي في إصبعه: «فرنسي أو أمير روسي متنكر، إنني مدين لك بحياتي، وأعرض عليك صداقتي. إن فرنسيا لا ينسى قط إهانة ولا خدمة. أعرض عليك صداقتي ولا أقول أكثر من ذلك.»
كان في لهجة ذلك الضابط وفي تعابير وجهه وحركاته كثير من النبل وجودة النفس (بالمعنى الفرنسي للعبارة)، حتى إن بيير أجاب على ابتسامته بابتسامة مثلها برغمه، وشد على اليد الممدودة إليه. قدم الفرنسي نفسه فقال وعلى شفتيه ابتسامة راضية لا تقاوم غضنتها تحت شاربه: «الرئيس رامبال من الكوكبة الخفيفة الثالثة عشرة، المنعم عليه بوسام لمعركة اليوم السابع. هل تتفضل الآن وتخبرني مع من لي الشرف بالتحدث بكل ود بدلا من أن أكون في عربة إسعاف حاملا رصاصة ذلك المجنون في جسدي؟»
فأجاب بيير بأنه لا يستطيع أن يذكر اسمه، وراح وقد تضرج وجهه يبحث عن اسم يقدم نفسه به، وعن الأسباب التي يزعم أنها دعته إلى التنكر، لكن الفرنسي بادر يقاطعه قائلا: «عفوك. إنني أقدر ظروفك. إنك ضابط ... ضابط كبير على ما أظن، ولقد حملت السلاح ضدنا. إن هذا ليس من شأني. إنني مدين لك بحياتي وهذا يكفيني . إنني لك بكليتي.»
وفجأة سأل: «أنت نبيل؟»
فأطرق بيير برأسه: «اسمك في العماد إذا أمرت! لا أطلب أكثر من ذلك. تقول السيد بيير؟ ... عال. هذا كل ما أرغب في معرفته.»
فقدموا فخذ الخروف والشطير ووضعوا السماور على المائدة، ثم جاءوا بالعرق والنبيذ المأخوذين من صندوق روسي للسفر حمله الفرنسيون معهم، ثم دعا رامبال بيير أن يشاطره الطعام، ولم يلبث هو نفسه أن راح يأكل بنهم كما يأكل الرجل القوي الجائع ويمضغ بأسنانه القوية، ويصفق بلسانه في كل حين وهو يهتف: «ممتاز، رائع!» ولم يلبث وجهه أن تضرج وغطاه العرق، ونهج بيير الجائع نهجه في الأكل، وجاء موريل، تابع الضابط، بقدر معدنية فيها ماء ساخن غمس فيه زجاجة من النبيذ الأحمر، كما جاء بزجاجة من خمرة «كواس» حملها من المطبخ ليذوقها. ولقد أصبح هذا النوع من الشراب معروفا من الفرنسيين مقبولا لديهم، وكانوا يسمونه «ليمونادة الخنزير»، فأخذ موريل يطري الزجاجة التي اكتشف وجودها في المطبخ، ولكن لما كان الرئيس متزودا بخمر ممتاز حصل عليه خلال اجتيازه موسكو، فقد تنازل عن زجاجة الكواس لموريل وهاجم هو نبيذ بوردو. أخذ منشفة أحاط بها عنق الزجاجة وصب لنفسه قدحا ثم لضيفه. ولقد كان من تأثير الشبع ومساعدة النبيذ أن ازداد الرئيس حيوية، فلم يكف خلال فترة الطعام عن الثرثرة. - «نعم يا عزيزي السيد بيير، إنني مدين لك بفضل عميم لأنك أنقذتني ... من هذا المسعور ... إن بي كفاية كما ترى من الرصاص في جسدي، وها هي ذي واحدة (وكشف عن جنبه) أصابتني في «واجرام» كما أصبت باثنتين في سمولنسك (وأشار إلى آثار خياطة جرح في وجنته). وها هي ذي ساقي كما ترى ترفض أن تسير. لقد أصبت بهذه الإصابة في معركة اليوم السابع الكبرى، في موسكوفا. يا لله! كم كانت جميلة! ليت رأيتها، إنها طوفان من نار. لقد أظهرتم لنا مقاومة عنيفة يمكنكم أن تفخروا بها، وأقسم بشرف نبيل صغير. ولعمري فإنني رغم كل ما أصبت به خلال هذه الملاحم، أراني على استعداد لإعادة الكرة من جديد، وأرثي لحال الذين لم يروا تلك المعارك.»
قال بيير: «لقد كنت هناك.»
فهتف الفرنسي: «حقا! حسنا، هذا أفضل. إنكم رغم كل شيء أعداء فخورون. لقد كان التل الصغير شديد الصمود (وملأ الغليون)، ولقد جعلتمونا ندفع ثمنا عاليا. لقد ذهبت إليه ثلاث مرات كما تراني. كنا ثلاث مرات على المدافع، وثلاث مرات دفعنا مثلما تدفع الأرانب. أوه! كان ذلك رائعا يا سيد بيير. لقد كان قناصتكم رائعين وحق الله. لقد رأيتهم ست مرات يعبئون صفوفهم ويمشون وكأنهم في عرض عسكري. يا للرجال الرائعين! ولقد هتف ملكنا - ملك نابولي - الذي يقدر هذه الأشياء: «مرحى! آه! آه! جنود مثلنا»!»
وبعد دقيقة صمت أضاف: «هذا أفضل يا سيد بيير، هذا أفضل. رهيبون في المعركة، ظرفاء (وغمز بعينيه وهو يبتسم) مع الجميلات، أولئك الفرنسيون يا سيد بيير، أليس كذلك؟»
كان الفرنسي في حالة مرح صريحة جدا ومعدية جدا، وكان شديد الرضى عن نفسه، حتى إن بيير كاد أن يجيبه على غمزة عينه بمثلها وهو ينظر إليه بمرح، ولقد أعادت كلمة «ظرفاء» أفكار الفرنسي ولا شك إلى الموقف في موسكو، فقال: «وبهذه المناسبة، قل لي، هل حقيقة أن النساء غادرن موسكو؟ يا لها من فكرة مضحكة! ماذا كان يخيفهن؟»
فسأل بيير: «أما كانت السيدات الفرنسيات ليغادرن باريز لو احتلها الروسيون؟»
هتف الفرنسي وهو يقهقه ويربت على كتف بيير: «آه! آه! آه! ... آه! إن هذه قوية جدا. باريز؟ ... ولكن باريز، باريز ...»
فأعقب بيير: «باريز، عاصمة العالم ...»
نظر إليه الضابط دون أن يرمش، لقد كان من عادته أن يصمت فجأة وهو في غمار حديثه ليتأمل مخاطبه بعينين ضاحكتين ودودتين. - «حسنا، لو أنك لم تقل لي إنك روسي لراهنت على أنك باريزي. إن فيك هذا الذي لا أعرف ما هو، هذا ...»
وقطع على نفسه الحديث بعد هذا الإطراء ليتأمل من جديد بيير في صمت. قال بيير: «لقد كنت في باريز. لقد أمضيت فيها سنوات.» - «أوه! هذا يرى بوضوح. باريز ... إن الرجل الذي لا يعرف باريز إنسان متوحش . إن الباريزي يعرف من رائحته على بعد ميلين. باريز هي تالما، دوشين بوتييه، السوربون، الشوارع العريضة.»
ولما رأى أن خاتمة حديثه لا تساوي بدايته بادر يقول: «لا يوجد في العالم إلا «باريز» واحدة، لقد كنت في باريز ثم لبثت في روسيا. لعمري إن تقديري لك لن ينقص.»
وجد بيير تحت تأثير الخمر - وبعد كل هذه الأيام التي قضاها في خلوة مع أفكار قاتمة - متعة غير إرادية في التحدث مع هذا الفتى الباسل المرح. - «عودة إلى سيداتكم، يقولون إنهن جميلات جدا. يا لها من فكرة سيئة أن يذهبن إلى الأقفار فيدفن أنفسهن فيها عندما يكون الجيش الفرنسي في موسكو! يا للحظ الذي فات على هؤلاء السيدات! إن فلاحيكم «موجيك» يختلفون، أما أنتم - معشر المتمدنين - فإنكم ولا ريب تعرفوننا أفضل من ذلك. لقد احتللنا فيينا وبرلين ومدريد ونابولي وروما وفارسوفيا وكل عواصم العالم ... إنهم يخافوننا لكنهم يحبوننا. إننا نصلح لأن يتعرف الناس علينا. ثم إن الإمبراطور ...»
وهم أن يستمر لولا أن قاطعه بيير، فكرر بلهجة اعتراها الارتباك ووجه انطبع فجأة بالوجوم: «الإمبراطور، هل الإمبراطور ...» - «الإمبراطور! هو الكرم والرحمة والعدالة والنظام والعبقرية. هذا هو الإمبراطور! إنني أنا، رامبال، الذي أقول لك هذا ... إنني كما تراني، كنت عدوه منذ ثماني سنوات خلت. لقد كان أبي كونتا مهاجرا ... هزمني، هذا الرجل، لقد أسرني. لم أستطع مقاومة مشهد العظمة والمجد اللذين أضفاهما على فرنسا، ولما فهمت ما يريد ورأيت أنه إنما يصنع لنا محملا من العار، قلت لنفسي - لاحظ: ها هو ذا سلطان، واستسلمت إليه، وهذا كل شيء. أوه! نعم يا عزيزي، إنه أعظم رجل في القرون التي خلت والتي سوف تحين.»
سأل بيير وهو يتردد تردد الرجل الذي ضبط في الخطأ: «هل هو في موسكو؟»
فتأمل الفرنسي ذلك الوجه الذي يشبه وجه المذنب وراح يضحك، ثم قال وهو يستأنف حديثه: «كلا، سوف يدخل المدينة غدا.»
قطع الحديث ارتفاع أصوات آتية من وراء الباب، ودخول موريل الذي جاء يعلن لرئيسه أن فرسانا ورتمبرجيين وصلوا منذ حين يريدون إيداع خيولهم في الفناء نفسه الذي احتلته جياده هو، وكانت الصعوبة في الموضوع ناجمة عن أن الفرسان لا يفهمون شيئا مما يقال لهم.
أعطى الرئيس الأمر باستقدام الرقيب الأول وسأله بلهجة صارمة عن الفيلق الذي ينتمي إليه وعن اسم رئيسه، والحق الذي سمح لنفسه بموجبه أن يحتل مسكنا احتل من قبل. ولما كان الألماني ضعيف الفهم للغة الفرنسية، فقد أجاب على السؤالين الأولين بإعطاء اسم فيلقه ورئيسه، لكنه لم يستوعب معنى السؤال الأخير، فراح يعبر بنتف من الجمل الفرنسية ممزوجة بلغته الألمانية مجيبا بأن رئيسه أصدر إليه الأوامر باحتلال صف المنازل كله. ولما كان بيير يعرف الألمانية فقد ترجم للرئيس ما يقوله الفارس، وللفارس ما قاله الرئيس. فلما فهم الألماني حقيقة الأمر أخيرا، تراجع وأخذ معه رجاله، وبعد ذلك خرج الرئيس إلى المرقاة وأصدر بعض الأوامر بصوت مرتفع.
ولما عاد إلى الحجرة وجد بيير جالسا في مكانه نفسه ورأسه بين يديه ووجهه ينطق بالألم، والحقيقة أنه كان في تلك اللحظة يتألم؛ إذ إنه عندما لبث وحيدا بعد خروج الرئيس، عاد بيير فجأة إلى نفسه واستوعب الموقف الذي أصبح فيه. لم يكن ما يعذبه في تلك اللحظة أن موسكو قد احتلت وأن المنتصرين السعداء باتوا أسيادا فيها، بل وأصبح هو نفسه تحت حمايتهم. صحيح أن كل هذا ثقيل على قلبه، ولكن لم يثقل على مثل ثقل إحساسه بضعفه؛ ذلك أن بضعة أقداح من الخمر والمحادثة التي دارت بينه وبين هذا الفرنسي اللطيف، انتصرت على حالته النفسية الكئيبة المركزة التي أمضى بها أيامه الأخيرة تلك، وهي الحالة النفسية اللازمة للقيام بما اعتزم أن يقوم به. فالمسدس والخنجر والمعطف كلها جاهزة، ونابليون سيدخل موسكو غدا، ولقد ظل بيير يرى أن قتل هذا الأثيم عمل نافع وفروسي، لكنه بات يشعر الآن بأن لن يقوم به. لماذا؟ لم يدر، لكنه كان يشعر شعورا مسبقا بأنه لن يسير في مشروعه إلى النهاية. راح يناضل ضد شعوره بالضعف، لكنه كان يحس إحساسا غامضا بأنه لن يسيطر على ذلك الضعف، وأن أحلامه بالانتقام والاغتيال والتضحية قد ذراها الريح كالرماد لدى اللقاء مع أول وافد.
عاد الرئيس إلى الغرفة وهو يجر ساقه ويصفر.
خيل إلى بيير أن ثرثرته التي سلته بادئ الأمر قد أصبحت بشعة فجأة ومنفرة، وذلك الصفير وذلك التصرف وتلك الطريقة في عكف شاربه، كل ذلك بدا له الآن مهينا. فكر: «إنني سأذهب من فوري دون أن أضيف كلمة أخرى إلى ما قلته له.» مع ذلك، فإنه لم يتحرك رغم هذه الفكرة. لقد كان ذلك الشعور الغريب بالضعف يسمره في مكانه، فكان يريد النهوض والرحيل، ولكن لا يستطيع.
أما الرئيس، فقد بدا على العكس شديد المرح إلى أقصى حد. طاف بالحجرة مرتين وعيناه تلتمعان وشاربه يرتعد قليلا وكأن شيئا مضحكا جدا يجعله يبتسم ابتساما خفيفا. وفجأة هتف: «رائع، زعيم هؤلاء الورتمبرجيين! إنه ألماني، لكنه فتى باسل إذا وجب، ولكنه ألماني. (ووقف قبالة بيير وأعقب) وبالمناسبة، إنك إذن تعرف الألمانية أنت؟»
فنظر إليه بيير في صمت. - «كيف تقول: ملجأ، بالألمانية؟»
فكر بيير: «ملجأ؟ ملجأ بالألمانية: أونتركونفت.»
سأل الرئيس بلهجة قوية غير مصدقة: «كيف تقول؟»
فردد بيير: «أونتركونفت.»
فقال الرئيس وهو يتأمل بيير خلال لحظات بعينيه الضاحكتين: «أونتركوف. إن الألمان وحوش فخورون.»
ثم أعقب: «أليس كذلك يا سيد بيير؟»
وأردف: «حسنا، زجاجة أخرى من هذه الأنبذة الموسكوفية. أليس كذلك؟»
ثم هتف بمرح: «موريل، اذهب وسخن لنا زجاجة صغيرة. موريل!»
جاء موريل بالزجاجة وبالشموع، فتأمل الرئيس بيير على ضوئها، ودهش لما بدا على قسماته من عطف عنيف. اقترب منه بيير وانحنى عليه بانجذاب ينطق بالحدب المخلص، وقال وهو يضغط على يد بيير وسأل: «حسنا، إنك حزين، فهل تراني أسأت إليك؟ كلا، قل الحق، هل في نفسك شيء علي؟ هل الأمر يتعلق بالموقف؟»
فنظر بيير إلى الفرنسي بود دون أن يجيب. لقد كان شديد التحسس بالعطف الذي أظهر له.
هتف الفرنسي وهو يقرع صدره: «أعاهدك بالشرف على أنني أشعر بصداقة نحوك بصرف النظر عما أنا مدين به إليك. هل أستطيع أن أسدي إليك يدا؟ تصرف بي، وهو عهد يشمل الحياة أو الموت. أقول هذا لك ويدي على قلبي.»
فقال بيير: «شكرا.»
تأمله الرئيس بإمعان بمثل النظرة التي تجلت في عينيه وهو يتعلم كلمة ملجأ بالألمانية، وأشرق وجهه فجأة.
هتف بكل مرح وهو يملأ كأسين: «آه! في هذه الحالة سأشرب نخب صداقتنا!»
أخذ بيير كأسه المترعة وأفرغها دفعة واحدة، وشرب رامبال كأسه وضغط على يد بيير مرة أخرى، ثم اتكأ على المائدة في وضع سويداوي ومفكر. شرع يقول: «نعم يا صديقي العزيز، هذه هي صروف الدهر ... من كان يقول إنني سأكون جنديا ورئيسا لكوكبة من الفرسان في خدمة بونابرت كما كنا ندعوه من قبل؟ مع ذلك، ها أنا ذا في موسكو معه.»
وأعقب بصوت محزون ومتزن، صوت رجل يتأهب لرواية قصة طويلة: «يجب أن أقول لك يا عزيزي إن اسمنا من أعرق الأسماء الفرنسية.»
وبصراحته الساذجة البسيطة كفرنسي، روى الرئيس لبيير تاريخ أسلافه وطفولته وصباه وشبابه وكل مشاكله المادية والعائلية، وغني عن الذكر أن «أمي المسكينة» كانت تلعب في هذا الحديث دورا مهما. قال وهو ينتعش: «لكن هذا كله ليس إلا إخراج الحياة، أما الأساس فإنه الحب! الحب! أليس كذلك يا سيد بيير؟ هل لك بقدح آخر؟»
فشرب بيير وصب لنفسه كأسا ثالثة. - «أوه! النساء! النساء!»
وراح الرئيس ينظر إلى بيير بعينين متراخيتين، ويحدثه عن الحب وعن مغامراته الغرامية.
كانت عديدة جدا، والمرء يسهل عليه تصديقه إذا نظر إلى الحماس الذي يتحدث به عن النساء، وإلى أمارات الرضى المرتسمة على وجهه، وإلى ذلك الوجه الجميل نفسه. وعلى الرغم من أن مغامرات رامبال كانت تحوي الجانب الخلاعي الذي يكون لدى الفرنسيين فتنة الحب وشاعريته، فإن الرئيس راح يروي وقائعه بإيمان مخلص بأنه وحده الذي ذاق كل يمن الحب وتعرف عليه، ويصف بطلات أقاصيصه بإغراء عنيف، حتى إن بيير كان يصغي إليه بفضول.
كان واضحا أن الحب الذي يحبه الفرنسي بمثل هذه الشدة ليس ذلك الكلف البدائي والشهواني الذي أحس به بيير فيما مضى نحو زوجته، ولا ذلك الحب الرومانتيكي الذي يشعر به نحو ناتاشا (وكان رامبال يحتقر كليهما معا؛ لأن الأول في نظره «غرام السواقين»، والثاني غرام الحمقى)، بل إن الحب الذي يجرفه كان يتألف بصورة خاصة من العلاقات الخارقة مع النساء، وكانت سلسلة من تآلف الأشياء الغريبة تكون المظهر الرئيسي للعاطفة.
وهكذا فقد روى الرئيس قصة غرامه المثيرة مع مركيزة فاتنة في الخامسة والثلاثين، التي يبطنها غرامه لابنة هذه الأخيرة، وهي فتاة أنيسة ساذجة في السابعة عشرة من عمرها. ولم يعد الصراع في الكرامة بين الأم والبنت الذي انتهى بتضحية الأم التي قدمت ابنتها زوجة لعشيقها، إلا مجرد ذكرى بعيدة، ذكرى لا زالت رغم ذلك تثير عواطف الرئيس. ثم روى سلسلة من القصص كان الزوج فيها يلعب دور العاشق وهو - العاشق - دور الزوج، ثم بعض قصص أخرى مضحكة عن «ذكرياته في ألمانيا»؛ حيث تلفظ كلمة ملجأ أونتركونفت، وحيث الأزواج يأكلون الكرنب المهرم المخمر، وحيث الفتيات شقراوات جدا.
أخيرا، وصل إلى سرد مغامرته الأخيرة في بولونيا، تلك المغامرة التي لا زالت حديثة العهد في ذاكرته، فرواها بحركات ملؤها الحياة ووجهه ينطق بالنشوة. لقد أنقذ حياة بولوني (وفي روايات الرئيس كان لا بد من حادث ينقذ فيه حياة أحدهم) بشكل راح هذا البولوني معه يسلمه قيادة زوجته الفاتنة باريزية القلب، بينما انخرط هو في خدمة فرنسا. وكان الرئيس في غاية ما يشتهي، فأرادت البولونية الفاتنة أن تفر معه. مع ذلك، فقد أعاد الزوجة إلى زوجها في غمرة إحساس نبيل، وقال له: «لقد أنقذت حياتك، وها إنني أنقذ شرفك!» وأخذ رامبال وهو يردد هذه الكلمات يمسح عينيه ويهز رأسه وكأنه يريد أن يطرد التحنان الذي غمره أمام ذكرى على هذا الجانب من التأثير.
وكما يحدث غالبا في ساعة متأخرة من الليل وتحت تأثير الخمر، راح بيير وهو يصغي إلى أقاصيص الرئيس، يتبع ذكرياته الخاصة التي داهمت ذاكرته فجأة، ولقد أيقظت اعترافات الحب تلك هواه بناتاشا، فراح يستعيد صورته في خياله ويقارنه بأقاصيص رامبال. ولقد ذكرته قصة الصراع بين الواجب والحب بلقائه الأخير مع ناتاشا قرب برج سوخارييف. مرت ذكريات ذلك اللقاء نصب عينيه في أدق تفاصيله. لقد أثر فيه ذلك اللقاء تأثيرا خفيفا في حينه، بل إنه نأى تماما عن ذاكرته. أما الآن، فعلى العكس، لقد بدا له أن معنى وشاعرية خاصة مختلفة تماما. «يا بيوتر كيريلوفيتش، تعال، لقد عرفتك.» كان يسمع هذه الكلمات ويرى أمامه عيني ناتاشا وابتسامتها وقلنسوة السفر التي على رأسها وخصلات شعرها المجنونة ... لقد كان لكل هذه الأشياء لون من الحنو والتأثير.
وبعد أن فرغ من حكاية البولونية التي أعادها إلى زوجها، سأل الرئيس بيير عما إذا كان أحس بمثل عاطفة التضحية بالذات هذه في سبيل الحب والحقد نحو الزوج الشرعي.
رفع بيير رأسه عقب هذا السؤال، واستبد به شعور بالحاجة إلى أن يفثأ عما في نفسه، فراح يشرح لجليسه كيف أنه يفهم الحب على لون آخر. قال إنه خلال حياته كلها لم يحب إلا امرأة واحدة، وأن هذه الامرأة لن تكون له أبدا.
فهتف الرئيس: «هه!»
ثم قال بيير إنه يحب هذه المرأة منذ نعومة أظفارها، لكنه لم يجرؤ قط على التفكير فيها؛ لأنها لم تكن أكثر من «بنية» صغيرة، وإنه هو - الابن غير الشرعي - لا يملك حتى اسما، ولما تلقى فيما بعد الاسم والثروة إرثيا، ما عاد يجرؤ على مفاتحتها كذلك؛ لأنه كان يحبها حبا عنيفا ويضعها في مكان سام جدا؛ وبالتالي أرفع من مقامه بكثير.
ولما وصل إلى هذه النقطة من روايته سأل بيير الرئيس عما إذا كان يفهمه، فبدرت عن الرئيس إشارة تعني أنه ولو لم يكن يفهم شيئا، فإن هذا لا يجب أن يحول دون بيير ومتابعة الحديث، وغمغم: «الحب الأفلاطوني ...!»
هل كان النبيذ الذي احتساه، أم ضرورة فتح مكنونات قلبه، أم كذلك التأكيد من أن هذا الرجل لا يعرف ولن يعرف قط شخصا واحدا من الذين يتحدث عنهم، أم ترى كل هذه الاعتبارات مجتمعة هي التي حلت لسان بيير من عقاله؟ مهما كان الأمر ، فقد راح يروي قصة حياته وقد جف لعابه وشخص بعينيه العكرتين إلى نقطة ما في البعد. روى قصة حياته وزفافه وحب ناتاشا لصديقه الحميم ثم خيانة الفتاة والعلاقات القلبية التي يكنها لها، بل لقد أفشى مدفوعا بأسئلة رامبال ما أخفاه في بادئ الأمر: مركزه الاجتماعي واسمه الحقيقي.
وكان الذي زاد من دهشة الرئيس لاعترافات بيير، هو أنه إزاء رجل غني جدا يملك قصرين في موسكو، هجر كل شيء دون أن يفر من المدينة، وبقي آخر الأمر وهو يخفي اسمه ومركزه.
خرجا معا في ساعة متأخرة من الليل إلى الشارع، كان الليل صاحيا بديعا، وإلى يسار البيت التمعت نيران أول حريق شب في موسكو على بيتروفكا، وإلى اليمين قرص القمر الجديد عاليا جدا في السماء وقبالة القمر، المذنب المضيء الذي كان يشترك في نفس بيير مع غرامه. وأمام البيت وقف جيراسيم والطاهية وفرنسيان، وكانوا يضحكون ويتحدثون محاولين أن يتفاهموا وقد علت أصواتهم. كانوا يتأملون الضوء الذي أخذ يتصاعد فوق المدينة.
لم يكن لهذا الحريق البعيد في مدينة كبرى أي أثر مخيف.
أحس بيير بحنو مرح وهو يتأمل السماء الكبرى ذات النجوم والقمر والنجم المذنب والضوء الأحمر. فكر: «كم هو جميل كل هذا!» لكنه فجأة عندما تذكر مشروعه، أحس بدوار في رأسه وألم ينتابه، فاستند إلى الحاجز مرغما كي يتفادى السقوط.
ودون أن يستأذن من صديقه الجديد، ابتعد بيير عن الباب وهو يترنح، ودخل إلى غرفته حيث استلقى على الأريكة ونام لفوره.
الفصل الثلاثون
المظاهر الأولى
في الثاني من أيلول، شوهد وميض الحريق الأول من نقاط عديدة، وأحدث تأثيرات مختلفة على السكان الفارين وعلى الجيش المنسحب.
توقفت قافلة آل روستوف تلك الليلة على بعد عشرين فرسخا
1
من موسكو في ميتيشتشي؛ لأنهم في اليوم الأول رحلوا متأخرين جدا، وكان الطريق مملوءا بالعربات والقطعات الكثيرة، واضطروا إلى انتظار عديد من الأشياء المنسية أرسلوا يستحضرونها حتى قرروا أخيرا أن يناموا على بعد خمسة فراسخ عن موسكو. وفي اليوم التالي، استفاقوا متأخرين ووجدوا كذلك كثيرا من العوائق في الطريق، حتى إنهم لم يجتازوا جراند ميتيشتشي. ولقد تفرق آل روستوف والجرحى المسافرون معهم في الساعة العاشرة في الأكواخ الخشبية وأفنية تلك الضيعة الكبيرة. وبعد أن قام الخدم والتابعون بخدمة أسيادهم، تناولوا الطعام بدورهم، وعنوا بشأن الخيول، ثم خرجوا على المرقاة.
كان في المنزل المجاور مساعد راييفسكي العسكري وقد تحطم معصمه، وهو يتألم ألما شديدا رهيبا، وزمجراته المستمرة تدوي بشكل مؤثر جدا في تلك الليلة الخريفية المعتدلة. ولقد أمضى هذا المساعد العسكري الليلة الأولى في الفناء الذي حل فيه آل روستوف، فشكت الكونتيس أنها لم تغمض جفنها بسبب تلك الأنات. لذلك فقد انتقلت في ميتيشتشي إلى كوخ خشبي أكثر تواضعا بغية الابتعاد عن ذلك الجريح.
شاهد أحد الخدم في الظلمات، من وراء صندوق إحدى العربات العالي المتوقفة عند مدخل الفناء، وميض حريق آخر أقل انتشارا. وكان الحريق الأول واضحا تماما منذ أمد طويل، والكل يعرف أن مكانه هو بوتيت ميتيشتشي (الصغرى)؛ حيث أضرم قوقازيو مامونوف النار.
قال أحد التابعين: «وهذا أيها الرفاق، إنه حريق آخر.»
فالتفتوا جميعهم نحو اللهيب. - «ولكن ماذا؟ وقد قيل إن قوقازيي مامونوف يحرقون ميتيشتشي الصغرى!» - «هم؟ كلا، ليس في ميتيشتشي الصغرى، بل أبعد من ذلك بكثير.» - «انظر جيدا، لا بد وأن الحريق في موسكو.»
نزل خادمان عن المرقاة ومضيا وراء العربة، ثم اعتليا المرقاة. - «إنه أكثر إلى اليسار. انظر. إن ميتيشتشي من هذه الناحية، وهذه في الجهة المضادة.»
واقترب بعض الرجال من هذين وقال أحدهم: «هه، كيف يرتفع اللهب! هذه أيها السادة هي موسكو التي تشتعل، سواء في سوشتنشيفسكاييا أو في روجوسكاييا.»
فلم يجب أحد على هذه الملاحظة، واستمر هؤلاء الأشخاص ينظرون خلال فترة طويلة إلى لهب هذا الحريق الجديد المتصاعد وهم صامتون.
اقترب وصيف عجوز للكونت، دانيل تيرانتيتش، من الجماعة ونادى ميشكا. - «ماذا تنظر هنا أيها الغبي الصغير؟! ... إن الكونت يناديك فلا يجيبه أحد! امض واهتم بالألبسة.»
فرد ميشكا: «كنت ذاهبا لأملأ ماء.»
قال خادم: «وأنت يا دانيل تيرانتيتش، ماذا تقول؟ إن هذا يبدو من موسكو دون ريب.»
لم يجب دانيل تيرانتيتش، وراح ينظر بصمت فترة طويلة، وكان اللهب المتراقص يزداد اتساعا ...
قال صوت: «ليحفظنا الله! ... بهذه الريح وهذا الجفاف ...» - «انظر كم تقترب النار بسرعة. أوه، مولانا! إن المرء ليرى طيور «الشوكا»! مولانا، ارفق بنا!»
فرد دانيل تيرانتيتش الذي ظل صامتا حتى ذلك الحين: «ومن الذي سيطفئها؟»
وأردف بصوت هادئ بطيء: «نعم، إنها في موسكو أيها الإخوان، الأم ذات الأسوار البيضاء ...»
وتهدج صوته فجأة وراح ينتحب كما ينتحب الكهول.
وكما لو أنهم جميعا لم يسمعوا إلا هذا القول ليدركوا معنى ذلك الحريق بالنسبة إليهم، فارتفعت الحسرات والصلوات الممتزجة بإجهاش الوصيف العجوز.
الفصل الحادي والثلاثون
خطة ناتاشا
ولما عاد إلى سيده، روى الوصيف أن موسكو تحترق، فارتدى الكونت معطفه المنزلي وخرج مستطلعا. خرجت معه السيدة شوس وسونيا التي لم تكن قد خلعت ثيابها بعد، فلم يبق في الداخل إلا ناتاشا والكونتيس وحدهما؛ إذ كان بيتيا قد افترق عن أسرته؛ لأنه تبع فيلقه الذي كان متجها إلى تروئيتسا الواقعة على بعد ثمانية وستين فرسخا من موسكو.
راحت الكونتيس تبكي عندما علمت بحريق موسكو، أما ناتاشا الشاحبة، شاخصة البصر، الجالسة تحت الأيقونات على مقعد لا مسند له (وقد ظلت جالسة فيه دون أن تتحرك منذ وصولها)، فإنها لم تلق بالا إلى ما كان يقوله أبوها. كانت تصغي إلى أنين المساعد العسكري المستمر الذي كان يسمع رغم المنازل الثلاثة الفاصلة.
هتفت سونيا وهي عائدة من الخارج مرتعدة مروعة: «آه! هذا مريع! أعتقد أن موسكو كلها تحترق. يا للشعلة المخيفة! ناتاشا، اذهبي إلى النافذة وانظري، يمكن الآن رؤية كل شيء بوضوح.»
وكانت بهذا القول الموجه إلى ابنة عمها تحاول التسرية عنها، لكن ناتاشا نظرت إليها وكأنها لا تفقه ما يطلب إليها، وعادت تحدق من جديد إلى ركن المدفأة. لقد كانت في هذا النوع من السبات المستغرق من الصباح، منذ أن ظنت سونيا لسبب لا يعلمه إلا الله - ولعظيم دهشة الكونتيس وانزعاجها الكبير - أن من الضروري إخطار ناتاشا بجرح الأمير آندريه وبوجوده معهم في القافلة. ولقد ثارت الكونتيس على سونيا ثورة لم تتعرض هذه لمثلها إلا نادرا، فسألتها الصفح وهي تبكي. والآن، وكأنها تحاول التكفير عن ذنبها، راحت تظهر مزيدا من الاستمالة.
قالت سونيا: «انظري ناتاشا، كيف يشب الحريق بقوة. هذا رهيب!»
سألت ناتاشا: «ما الذي يحترق؟ آه! نعم، موسكو!»
وكأنها أرادت ألا تجرح سونيا برفضها وأن تتخلص منها، فأدارت رأسها نحو النافذة ونظرت بشكل كان بديهيا معه ألا ترى شيئا، وعادت إلى وضعيتها السابقة. - «لكنك لم تري!»
فقالت بصوت يتوسل أن تترك وشأنها: «بلى، بلى، لقد رأيت جيدا.»
فهمت الكونتيس وسونيا أن موسكو وحريق موسكو وكل ما يمكن أن يقع، لا يمكن أن يكون على أي لون من الأهمية بالنسبة إلى ناتاشا في تلك اللحظة.
عاد الكونت إلى وراء حاجز الكوخ الخشبي واستلقى، فاقتربت الكونتيس من ناتاشا ومست رأسها بظاهر يدها كما كانت تعمل كلما كانت ابنتها مريضة، ثم لمست جبينها بشفتيها وكأنها تريد أن تعلم ما إذا كانت مصابة بالحمى، ثم عانقتها وقالت: «أبك برد؟ إنك ترتعدين! عليك أن تنامي.»
فأجابت ناتاشا: «أن أنام؟ نعم، حسنا، إنني ذاهبة لأنام على الفور.»
ذلك الصباح، عندما علمت أن الأمير آندريه المصاب بجرح خطير يسافر معهم، بدأت أول الأمر تطرح الأسئلة تلو الأسئلة، كانت تريد أن تعلم أين وكيف جرح، وهل جرحه خطير، وهل يمكن مشاهدته. وعندما أكدوا لها بأنه لا يمكن رؤيته وأن جرحه رغم خطورته لا يعرض حياته للخطر، لم تصدق بالطبع ما قالوه لها، لكنها لاحظت أنهم يقدمون الأجوبة نفسها على أسئلتها. لذلك فقد كفت عن السؤال، بل وعن الكلام أيضا. وخلال المرحلة كلها لم تحرك ناتاشا ساكنا في ركنها، واحتفظت بذلك المظهر الذي شوهدت عليه في تلك الآونة وهي جالسة على المقعد الذي لا مسند له: عينان واسعتان كانت الكونتيس أخبر الناس بمعنيهما، وأكثرهم خوفا مما تدلان عليه. كانت تفكر وتقرر شيئا ما في أعماق نفسها إن لم يكن قد اتخذت قرارها بعد، وكانت الكونتيس تشعر بذلك، لكنها لم تكن تعرف ما يمكن أن يكون ذلك، وهذا ما كان يخيفها ويعذبها. - «ناتاشا، اخلعي ثيابك يا عزيزتي ونامي في سريري (لقد كانت الكونتيس وحدها تنام على سرير. أما السيدة شوسي والفتاتان، فكن ينمن على قش فوق الأرض).»
فأجابت ناتاشا نافذة الصبر: «يا أماه، سأنام هنا، على الأرض.»
ثم اقتربت من النافذة وفتحتها، وتناهت أنات المساعد العسكري إلى الآذان أكثر وضوحا خلال النافذة المفتوحة. أخرجت رأسها إلى هواء الليل الرطيب، فشاهدت الكونتيس عنقها الدقيق ينتفض من النشيج ويصطدم بالإطار الخشبي. كانت ناتاشا تعرف أن هذه الأنات ليست أنات الأمير آندريه، وتعرف أن الأمير يرقد في الكوخ الخشبي الملاصق، يفصله عن كوخهما مدخل عادي. لكن ذلك الأنين المتواصل المريع كان ينتزع العبرات من عينيها. تبادلت الكونتيس نظرة مع سونيا وقالت وهي تلمس كتفها برفق: «نامي يا عزيزتي، نامي يا صغيرتي، هيا، نامي.»
فقالت ناتاشا وهي تبادر إلى خلع ثيابها منتزعة أشرطة أثوابها انتزاعا: «آه! نعم ... على الفور، على الفور.»
وبعد أن خلعت ثوبها ارتدت صدرتها وجلست على ساقيها المثنيتين فوق السرير المعد لها على الأرض، وكفأت شعرها الناعم القصير إلى الأمام وراحت تضفره. ولقد حلت أصابعها الطويلة الرقيقة ضفائرها، وعادت تنسقها بسرعة محمومة، فكان رأس ناتاشا ينحني تارة إلى هذه الجهة، وتارة إلى تلك بحركة أليفة، بينما ظلت عيناها المتسعتان وكأنهما متأثرتان بالحمى؛ شاخصتين. ولما فرغت من زينة الليل، استلقت ناتاشا دون ضوضاء على الشرشف الممدد فوق القش قرب الباب.
قالت لها سونيا: «ناتاشا، نامي في الوسط.»
فردت ناتاشا: «إنني مرتاحة هنا.»
وأضافت بسأم: «ولكن، هيا جميعكن إلى النوم.»
وأغرقت وجهها في وسادتها.
خلعت الكونتيس والسيدة شوسي وسونيا ثيابهن بسرعة وأوين إلى فراشهن، ولبث السراج المتراقص أمام الأيقونات وحده يضيء الحجرة، لكن الفناء كان مضاء تماما بلهب حريق ميتيشتشي الصغرى البعيدة مسافة فرسخين، وكانت صيحات السكارى تدوي في المشرب الكائن عند منعطف الشارع الذي نهبه قوقازيو مامونوف، وصيحات المساعد العسكري المستمرة تسمع دون انقطاع.
أصاخت ناتاشا السمع دون أن تتحرك إلى الضوضاء الآتية من الخارج والداخل، فسمعت بادئ الأمر أمها تتلو صلاتها وتتنهد، ثم فرقعة السرير تحت ثقل جسمها وشخير السيدة شوسي الخفيف المألوف الذي يرافقه صفير قصير، وتنفس سونيا الهادئ. ثم نادت الكونتيس ناتاشا التي لم تجب على النداء.
همست سونيا: «أظنها نائمة يا أماه.»
وبعد فترة صمت، نادت الكونتيس مرة أخرى، ولكن لم يجبها أحد هذه المرة.
وبعد قليل، سمعت ناتاشا تنفس أمها المنتظم، لم تند عنها حركة رغم أن قدمها الصغيرة كانت خارج الغطاء متجمدة على الأرض الباردة.
وراح جدجد يصر في أحد الشقوق وكأنه يحتفل بانتصاره على كل هؤلاء النيام، وصاح ديك على البعد، ورد آخر في مكان أقرب على صياحه، وهدأت الصيحات في الحانة، فلم تعد تسمع إلا أنات المساعد العسكري. انتصبت ناتاشا وهمست: «سونيا، هل أنت نائمة؟ ماما!»
فلم يجبها أحد. نهضت ناتاشا ببطء وحذر، وبعد أن رسمت إشارة الصليب وضعت باطن قدميها العاريتين النحيلتين على الأرض القذرة الباردة، فصرت الألواح الخشبية. اقتربت من الباب بخطوات سريعة صغيرة كالقطة، وأدارت الرتاج المتجمد.
خيل إليها أنهم يقرعون كل جدران الكوخ الخشبي بضربات مكتومة متزنة. كان ذلك قلبها الذي يتخاذل وينبض بشدة تكاد تنتزعه من الهلع والخوف والحب.
فتحت الباب واجتازت العتبة ووضعت قدميها على أرض المدخل الرطيب المتجمد، ولقد أنعشها ذلك البرد الذي يسري إلى أوصالها. صدمت بقدمها العارية جسم رجل نائم فتخطته، ثم فتحت باب الكوخ الخشبي الملاصق حيث كان الأمير آندريه مسجى. كان كل شيء معتما هناك؛ ففي إحدى الزوايا قرب السرير، حيث كان جسد إنسان مسجى، وضعت شمعة من شحم الغنم تحترق ذبالتها احتراقا سيئا مشكلة أخيلة فوق مقعد خشبي.
منذ الصباح، منذ أن علمت بجرح الأمير آندريه ووجوده بينهم، قررت ناتاشا أنه يجب عليها أن تراه. ما كانت تعرف لماذا يجب ذلك، بل تعرف فقط أن هذه المقابلة ستكون عقابا، ولهذا السبب وجدت أنها ضرورية جدا.
أمضت النهار في أمل واحد؛ هو لقاؤه ذلك المساء. والآن وقد أزفت الدقيقة المنتظرة ، كان الذعر يملأ صدرها لما ستراه. كيف تراه مشوها؟! ماذا بقي منه؟! هل كان مثل ذلك المساعد العسكري الذي لا يكف عن الأنين؟ نعم، لقد كان كذلك، كان في خيالها ذلك الأنين المريع مجسدا. ولما رأت في الركن كتلة غير واضحة المعالم، اعتبرت ركبتي الأمير آندريه اللتين كانتا ترفعان الغطاء كتفيه، فتصورت جسدا مخيفا، وتوقفت مروعة، لكن قوة لا تقاوم دفعتها إلى الأمام. خطت خطوة بتحرز، ثم أخرى، فوجدت نفسها وسط غرفة مملوءة بالأشياء. وعلى المقعد الخشبي تحت الصور وجدت رجلا آخر ممددا (هو تيموخين)، بينما هجع رجلان آخران على الأرض (الطبيب والوصيف).
نهض الوصيف وتمتم بضع كلمات، أما تيموخين الذي كان يتألم من جرح ساقه، فإنه لم يكن نائما، بل كان يختلس النظر بعينيه المتسعتين إلى ظهور الفتاة الغريب في قميص أبيض وصدرة وقلنسوة ليل. بيد أن الكلمات القليلة التي نطق بها الوصيف المذعور وهو لا يزال تحت تأثير النوم: «من هناك؟ ماذا تريدين؟» دفعت ناتاشا إلى الإسراع بالتقدم نحو الذي يهجع في الركن. كان يجب أن ترى ذلك الجسد مهما كان مشوها ومريعا. مرت بالقرب من الوصيف، وعندئذ انتهى احتراق القسم الرديء من الشمعة، فشاهدت ناتاشا على الضوء الذي أصبح أكثر توهجا، الأمير آندريه ممددا ويداه فوق الغطاء، كما عرفته من قبل دائما.
كان يشبه نفسه، لكن لونه الذي وردته الحمى وعينيه الشاخصتين إليها بنشاط، وخصوصا عنقه الرخص الطفولي الذي يخرج من ياقة قميصه المفتوحة، كانت تعطيه هيئة خاصة، مظهرا فتيا بريئا لم تره عليه من قبل أبدا. اقتربت، وبحركة فتية سريعة ومرنة ركعت على ركبتيها.
فابتسم ومد لها يده.
الفصل الثاني والثلاثون
لقاء الحبيبين
مضى أسبوع على الحين الذي عاد فيه الأمير آندريه إلى وعيه في عربة الإسعاف في ساحة معركة بورودينو. لم يستعد خلاله وعيه تقريبا أبدا. لقد انتصرت الحمى الدائمة والتهاب الأمعاء اللذان أصاباه، على حد قول الطبيب الذي كان يرافقه. مع ذلك، فإنه في اليوم السابع أكل بشهية شريحة خبز، وشرب قدحا من الشاي ، ولمس الطبيب انخفاضا في الحمى. لقد استعاد الأمير آندريه رشده صباحا، ولقد تركوه ينام أول ليلة خلال الرحلة في عربته؛ لأن الجو كان دافئا، لكنه في ميتيشتشي أصر هو نفسه على أن يخرجوه من العربة، وأن يقدموا له قدحا من الشاي. ولقد انتزع منه الألم الذي أحس به وهم ينقلونه من العربة زمجرات قوية. فقد الرشد من جديد، وظل طويلا على سرير الميدان الذي أسجوه عليه مغمض العينين لا حراك به، ثم فتح عينيه وتمتم: «والشاي؟» ولقد دهش الطبيب لتلك الذاكرة المدققة لأتفه تفاصيل الحياة، فجس نبضه، ولدهشته الكبيرة - وبشيء من القلق - وجد أنه أفضل! وإذا كان الطبيب قلقا فذلك لأنه كان يعرف بالتجربة أن الأمير آندريه مقضي عليه، وأنه إذا لم يمت من حينه فسيموت فيما بعد وسط أقوى نوبات الألم، وكانوا ينقلون مع الأمير آندريه عسكريا برتبة ماجور، تابعا لفوجه، ألحقوه بالقافلة في موسكو، اسمه تيموخين، وهو ذو أنف أحمر صغير، أصيب بجرح في ساقه في معركة بورودينو نفسها. وكانا - الأمير آندريه والماجور - مصحوبين بطبيب ووصيف الأمير وحوذيه وتابعين.
قدموا الشاي للأمير آندريه، فشرب بنهم وعيناه المحمومتان شاخصتان أمامه على الباب، وكأنه يحاول أن يدرك وأن يتذكر. قال ثم سأل: «كفاني. هل تيموخين هنا؟»
فجر تيموخين نفسه ناحيته وتعلق بالمقعد: «ها أنا ذا يا صاحب السعادة.» - «كيف حال جرحك؟» - «جرحي؟ تافه. ولكن أنت؟»
استغرق الأمير آندريه في التفكير وكأنه يبحث عن شيء في ذاكرته. سأل: «هل من سبيل للحصول على كتاب؟» - «أي كتاب؟» - «الإنجيل. لست أملكه.»
وعد الطبيب بإيجاد إنجيل، وسأل الأمير عما يشعر به، فأجابه مكرها، ولكن بكل وعي، على كل أسئلة الطبيب، ثم أعلن أنهم لو وضعوا تحته وسادة لشعر براحة أكثر وبآلام أقل، فرفع الطبيب والوصيف المعطف الذي يغطيه وراحا وهما يصعران وجهيهما من رائحة النتن المتصاعدة من لحمه النتن، يفحصان الجرح المريع. ولقد ندا عن الطبيب ما يشعر بالاستياء، ثم أعاد ترتيب جانب من الضمادة وقلب المريض بشكل جعله يعاود الزمجرة ويفقد الوعي من جديد بتأثير الألم ويعود إلى الهذيان. استمر يكرر دون انقطاع طلبه للكتاب ورغبته في أن يوضع بجانبه بأسرع ما يمكن. ردد: «ماذا يكلفكم؟ لست أملكه. أوجدوه لي أرجوكم وضعوه بالقرب مني دقيقة صغيرة.»
واستمر يردد هذه الشكوى الأليمة بصوت ضعيف، وخرج الطبيب إلى الدهليز ليغسل يديه، فقال للوصيف الذي كان يصب الماء على يديه: «آه! إنك لا تدرك الموضوع حقا. يكفي للقضاء عليه دقيقة واحدة من عدم الانتباه من جانبي. إنه ألم هائل، حتى إنني جد مندهش إذ أراه يحتمله.»
فأجاب الوصيف: «يبدو أننا نبذل أفضل ما في وسعنا! أيها المولى يسوع!»
أدرك الأمير آندريه للمرة الأولى كنه ما وقع له. تذكر أنه جريح، وأنه في اللحظة التي وقفت عربته الخفيفة في ميتيشتشي، طلب أن ينقل إلى أحد الأكواخ. وبعد أن فقد رشده من جديد بتأثير الألم استعاد وعيه مرة أخرى في الكوخ، وشرب الشاي وأخذ يعيد تخطيط ما أصابه في ذاكرته، فعاش من جديد وبأكثر إحساس من ذي قبل تلك اللحظة التي قضاها في مستشفى الميدان، عندما رأى آلام الرجل الذي يمقته، فامتلكت عليه مشاعره إحساسات وآراء جديدة كانت تبشره بالسعادة، فراحت تلك الأفكار - رغم غموضها وحيرتها - تستحوذ على روحه من جديد. تذكر أنه الآن يملك سعادة جديدة، وأن لتلك السعادة علاقة ما بالإنجيل؛ ولهذا السبب طلب هذا الكتاب. لكن الوضعية الرديئة التي جعلوا جرحه عليها وهم يقلبونه، جعلته يضيع مرة أخرى حبل أفكاره، وكانت تلك هي المرة الثالثة التي يستعيد تماسه مع الحياة في سكون الليل المطبق. كان كل شيء نائما حوله، وعند المدخل جدجد يصر، وفي الخارج يغني أحدهم ويكثر من اللفظ وديوبات الليل «تخربش» على المائدة وفوق الأيقونات والجدران، وذبابة كبيرة تصطدم بوسادته الكبيرة وتدندن حول الشمعة الموضوعة بالقرب منه التي كانت تبرعم وهي تسيل.
لم تكن روحه في حالتها الطبيعية؛ فالرجل الصحيح الجسم عادة تنتابه معا ألف فكرة وإحساس وذكرى، فإذا ما أوقف اختياره على سلسلة واحدة من الأفكار أو الوقائع يجد الإرادة والقوة لتثبيت كل انتباهه على تلك السلسلة. والرجل الصحيح الجسم قادر على أن ينتزع نفسه من فكرة عميقة ليقول كلمة رفيقة لشخص دخل منذ حين، ثم أن يعاود سياق أفكاره. وروح الأمير آندريه - تبعا لهذا الرأي - لم تكن في حالتها الطبيعية؛ لأن قواه الفكرية كانت أكثر نشاطا وإشراقا من أي وقت مضى، لكنها كانت تعمل خارج نطاق إرادته. لقد كانت الأفكار والصور الأكثر تباينا تستحوذ عليه، وكان تفكيره أحيانا يشرع فجأة في العمل بشدة ووضوح وعمق لم يكن له مثلها وهو في أفضل حالة صحية، لكنها فجأة - في غمار النشاط - تتحطم الفكرة وينبعث خاطر غير منتظر، فيصبح مستحيلا عليه إعادة ربط السلسلة.
كان يفكر وهو مسجى في الكوخ المظلم الساكن وعيناه الكبيرتان المحمومتان تحدقان أمامه: «نعم، لقد بشرت بسعادة جديدة لا يمكن أن تنتزع من الإنسان، سعادة لا تخضع للقوى المادية والتأثيرات الخارجية، سعادة الروح وحدها، سعادة الحب! إن كل إنسان يستطيع أن يفهمها، لكن الله وحده يستطيع أن يضفيها أو أن يبشر بها. وكيف بشرنا الله بهذا القانون؟ لماذا الابن؟ ...»
وفجأة انقطع حبل أفكاره وسمع الأمير آندريه - دون أن يعرف ما إذا كان ذلك في اليقظة أم في الهذيان - صوتا رقيقا هامسا يكرر باستمرار وبإيقاع: «بيتي-بيتي-بيتي»، ثم من جديد: «أي-تي-تي»، ثم: «أي-تي-تي»، وبنفس الوقت على صوت هذه الموسيقى الهامسة، أحس بأن بناء غريبا يرتفع فوق وجهه عند منتصفه تماما، بناء في الهواء قوامه إبر دقيقة أو قطع خشبية صغيرة، وشعر - رغم شدة إيلام هذا الشعور - أنه مرغم على الاحتفاظ بتوازنه بعناية كيلا ينهار ذلك البناء الهوائي، لكنه مع ذلك انهار، ثم عاد ببطء من جديد يرتفع ويتكون على صوت تلك الموسيقى الهامسة . أخذ الأمير آندريه يحدث نفسه: «إنه يكبر، إنه يستطيل ويكبر!» وفي الوقت الذي أخذ يصيخ فيه السمع إلى ذلك الهمس، ويشعر بذلك البناء من الإبر يرتفع وتتسع رقعته، كان الأمير آندريه يرى خلال فترات تلك الدائرة الحمراء التي ينشرها لهب الشمعة، ويسمع «خربشة » الدويبات وطنين الذبابة التي كانت تصطدم بوسادته أو بوجهه. وكلما مست الذبابة وجهه، أحدثت إحساسا بالاحتراق، لكنه بنفس الوقت يدهش كلما رأى أنها تصطدم في المكان نفسه الذي ارتفع فيه ذلك البناء فوق وجهه دون أن ينهار. علاوة على ذلك، كانت ظاهرة أخرى مهمة تقع في ذلك الحين؛ إنها بقعة بيضاء عند الباب، تمثال لأبي الهول، راح هو الآخر يسحقه.
فكر الأمير آندريه: «لعله قميصي الموضوع على الطاولة. هنا ساقاي، وهنا الباب. إذن لماذا يطول ويرتفع هذا ال: بيتي-بيتي، بيتي-بيتي، أي-تي-تي-أي-بيتي، بيتي، بيتي ...» وصرخ الأمير آندريه بصوت ناحب وكأنه يتوسل إلى أحدهم: «كفى، كف، أرجوك، توقف!» ثم عادت فجأة أفكار ومشاعر ذات قوة وجلاء خارقين.
حدث نفسه وهو في إشراق فكري عميق: «نعم، الحب. ليس هذا الحب الذي يعرف غايته ودوافعه أو سببه، ولكن ذاك الذي أحسست به لأول مرة حينما رأيت عدوي وأنا على شفا الموت، فأجبته رغم العداء. لقد شعرت حينذاك بذلك الإحساس الذي هو جوهر روحنا بالذات، والذي لا يحتاج إلى غرض. والآن أيضا أحس بهذا الشعور الهنيء. حب الآخرين! حب أعداء المرء! حب كل شيء، هو حب الله في كل مظاهره. حب مخلوق عزيز إنما هو حب اختص به الإنسان، ولكن حب العدو إنما هو حب سماوي مجرد. ولهذا السبب أحسست بتلك البهجة الكبرى عندما شعرت بأنني أحب ذلك الرجل. ماذا حدث له؟ هل مات؟
أن يحب المرء حبا إنسانيا معناه أن ينتقل من الحب إلى الكراهية، في حين الحب السماوي لا يتبدل. ما من شيء حتى ولا الموت يستطيع أن يحطمه. إنه جوهر الروح. كم من الناس كرهتهم طيلة عمري، مع ذلك فإنني لم أحبب أحدا ولم أكره أحدا بقدر ما أحببتها وكرهتها.»
وتصور ناتاشا بقوة ليس كما يتصورها من قبل بتلك الفتنة وحدها التي سحرته، بل تصور لأول مرة روح ناتاشا، فأدرك عواطف الفتاة وألمها وخجلها وندمها. شعر الآن بكل قسوة رفضه، ورأى للمرة الأولى قسوة فصمه علاقاته معها. «ليتني أستطيع رؤيتها من جديد مرة واحدة. مرة واحدة أرى فيها عينيها وأقول لها ...» «بيتي-بيتي، بيتي-بيتي، بوم!» واصطدمت الذبابة من جديد، وفجأة انتقل انتباهه إلى عالم آخر من الحقائق والتخيلات كان شيء ما خاص يقع فيه. لقد كان بناء آخر يرتفع في هذا العالم أيضا دون أن ينهار، بناء يكبر باستمرار وإن كانت الشمعة نفسها تحترق فيه أيضا وسط دائرتها الحمراء والقميص أبو الهول نفسه ينتصب عند الباب، إلا أنه إلى جانب كل ذلك ارتفعت خشفة ونفحة هواء عليل، ثم أبو هول جديد أبيض منتصب ظهر أمام الباب. وكان أبو الهول هذا شاحب الوجه ملتمع العينين، أشبه بناتاشا هذه التي كان يفكر فيها منذ حين.
فكر الأمير آندريه وهو يحاول طرد هذا الوجه من مخيلته: «أوه! كم هو أليم هذا الهذيان المستمر!» لكن ذلك الوجه ظل هناك بكل ما للحقيقة من قوة، وراح ذلك الوجه يقترب. أراد الأمير آندريه أن يعود إلى عالم الفكر النقي الذي بارحه منذ حين، لكنه لم يقدر؛ لشدة ما كان الهذيان يجره إلى قطاعه. تابع الصوت الهادئ الهامس دمدمته الإيقاعية، وضيق عليه شيء ما وجسمه، وظل الوجه الغريب ماثلا أمامه. استجمع الأمير آندريه كل قواه ليتمالك نفسه، وانتفض، لكن أذنيه دوتا فجأة واضطربت عيناه وفقد الرشد، أشبه برجل على وشك الغرق، وعندما عاد إلى وعيه كانت ناتاشا، ناتاشا نفسها، تلك التي كان يود أن يحبها من دون خلق الله طرا بذلك الحب الجديد النقي السماوي الذي تنزل عليه، راكعة على ركبتيها أمام سريره. أدرك أنها ناتاشا الحقيقية بلحمها ودمها، فابتهج ابتهاجا رقيقا بدلا من أن يندهش. وكانت ناتاشا راكعة على ركبتيها مرتعدة من الخوف، ولكن ساكنة - إذ كانت عاجزة عن الحركة - تنظر إليه وهي تحبس نحيبها، ووجهها شاحب وكأنه جامد باستثناء الرعدة التي تمر بالفك الأسفل.
أطلق الأمير آندريه زفرة ارتياح، ومد لها يده وابتسم وقال: «هذا أنت؟! يا للسعادة!»
اقتربت منه ناتاشا على ركبتيها بقوة واحتراس، وأمسكت يده برفق، وأحنت رأسها فوقه، ثم قبلتها وهي لا تكاد تلمسها بشفتيها. قالت لاهثة وهي ترفع رأسها وتنظر إليه: «صفحا! اصفح عني!»
قال الأمير آندريه: «أحبك!» - «صفحا ...»
سأل الأمير آندريه: «أصفح عن أي شيء؟»
فقالت ناتاشا بصوت متقطع لا يكاد يسمع: «اصفح عني عما ... عملت.»
وغمرت يده بقبلات مترفقة، فقال الأمير آندريه: «أحبك أكثر بكثير وأفضل بكثير مما كنت أحبك من قبل.»
ثم رفع وجهها بيده ليتسنى له أن يتأمل عينيها.
كانتا مغمورتين بدموع السعادة، تانك العينان اللتان راحتا تنظران إليه بخجل مفعمتين بالحنو والفرح والحب. كان وجه ناتاشا النحيل ذو الشفتين المنتفختين أبعد من أن يكون جميلا، بل مخيفا، لكن الأمير آندريه ما كان يراه، بل كان ينظر إلى تينك العينين اللامعتين اللتين كانتا آية بالجمال. ومن ورائهما ارتفعت جلبة أصوات.
لقد أيقظ بيير الوصيف، الذي تخلص تماما من سلطان النوم، الطبيب بدوره، أما تيموخين الذي كان جرح ساقه يمنعه من النوم، فقد كان يرى كل ما يحدث منذ أمد طويل، ولقد أعاد الغطاء بعناية على جسده المعرى وتكور على قدر طاقته فوق مقعده.
قال الطبيب وهو يغادر مرقده: «ما هذا؟ تفضلي بالخروج يا آنسة.»
وفي تلك اللحظة، طرقت الباب خادم أرسلتها الكونتيس لتبحث عن ابنتها.
خرجت ناتاشا من الغرفة كالمصاب بمرض السير أثناء النوم، الذي أوقظ من نومه العميق، فلما دخلت الكوخ الآخر سقطت على مرقدها منتحبة.
ومنذ ذلك اليوم وطيلة فترات التوقف والمراحل التي مرت بها رحلة آل روستوف الطويلة، لم تترك ناتاشا الجريح حتى اضطر الطبيب إلى الاعتراف بأنه ما كان يعتقد قط أنه واجد فتاة على مثل تلك الحيوية وتلك البراعة في معالجة الجرحى.
ومهما بلغت فكرة إمكان موت الأمير آندريه بين يدي ابنتها خلال السفر بالنسبة إلى الكونتيس - وهو أمر ممكن الوقوع تبعا لرأي الطبيب - فإنها لم تقدر على منع ناتاشا من التصرف وفق رغبتها، وكان تقارب الأمير آندريه الجريح من ابنتها يحمل في أعطافه إمكانية عودة علاقات الخطوبة إلى سابق عهدها عند الشفاء، لكن ما من أحد كان يشير إلى ذلك، بل إن ناتاشا والأمير كانا أقل الناس تفكيرا في مثله. لقد كان شاغل واحد يحتكر الانتباه العام: مسألة موت أو حياة معلقة ليس فوق رأس بولكونسكي فحسب، بل فوق روسيا كلها.
الفصل الثالث والثلاثون
الحريق
استيقظ بيير في الثالث من أيلول متأخرا جدا وهو يحس بصداع في رأسه، وبدت له ملابسه التي لم يخلعها قبل النوم ثقيلة جدا، بينما أبهظته موجة غامضة تشعره بأنه ارتكب بالأمس شيئا مخجلا، وكان ذلك الشيء هو حديثه مع الرئيس رامبال.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة، لكن الجو في الخارج بدا معتما بشكل خاص. نهض بيير وفرك عينيه، فلما رأى المسدس ذا المقبض الملبس الذي أعاده جيراسيم إلى مكانه على المكتب، تذكر بيير المكان الذي هو فيه، وما قرر أن يقوم به ذلك اليوم بالذات.
فكر: «ألست متأخرا؟ كلا. «إنه» لن يدخل موسكو على ما يبدو قبل الظهر.»
لم يسمح بيير لنفسه بعدئذ أن يفكر في مهمته، بل راح يتعجل الانتقال إلى العمل بسرعة المحموم.
وبعد أن أدخل بعض النظام على ألبسته، أخذ المسدس واستعد للذهاب، لكنه في تلك اللحظة تساءل للمرة الأولى كيف عليه أن يحمل سلاحه الذي ما كان يستطيع الاحتفاظ به في يده في الشارع؟ كان يستحيل عليه إخفاء مسدس من هذا العيار حتى تحت معطفه الواسع. ما كان يستطيع وضعه في منطقته ولا تحت إبطه دون أن يكون ملحوظا. ثم إن المسدس كان فارغا ولم يجد بيير وقتا كافيا لإعادة حشوه. حدث نفسه رغم أنه قال لنفسه أكثر من مرة وهو يفكر في مشروعه إن خطيئة الطالب الرئيسية عام 1809م كانت لجوءه إلى الخنجر في محاولته قتل نابليون: «سوف يفي الخنجر كذلك بالغرض .» لكن غاية بيير الحقيقية كانت في واقع الحال البرهان لنفسه بأنه لن يتراجع عن غرضه، بل إنه بسبيل عمل كل شيء لإنجازه على أفضل وجه أكثر مما كانت إنجاز خطته نفسها. أخذ بيير بسرعة خنجرا رديئا مثلما في غمد أخضر اشتراه مع المسدس في وقت واحد من برج سوخارييف وأخفاه تحت صدرته.
معركة بورودينو.
اجتهد بيير أن يسير دون جلبة وأن يتحاشى الرئيس بعد أن جذب نطاق معطفه جيدا وأرخى قلنسوته على عينيه، فاجتاز الممشى ونفذ إلى الشارع.
ولقد اتخذ الحريق الذي لم يأبه له مطلقا مساء أمس شكلا جديا؛ إذ كانت موسكو تحترق فعلا من نقاط عديدة. كان الحريق مستقرا بآن واحد في أروقة صانعي العربات، وفي الحي المقابل، وفي جوستينيي دفور، في بوفارسكاييا بين الأكواخ الخشبية القائمة على نهر موسكوفا، وفي «ورشات» الخشب قرب جسر دوروجوميلوف.
وكان الطريق الذي يريد بيير السير فيه يقوده عبر شوارع ضيقة ابتداء من بوفارسكاييا، ثم عبر الآربات نحو كنيسة القديس نيكولا؛ إذ كان ذلك هو المكان الذي عينه في خياله منذ زمن طويل ليقوم فيه بعمله. كان الجانب الأكبر من البيوت مغلق النوافذ والأبواب، والشوارع والأزقة كانت خالية، والهواء مفعم برائحة الحريق والدخان. وهنا وهناك كان المرء يقابل روسيين على وجوههم أمارات الذعر والقلق، وجنودا فرنسيين تظهر القحة على وجوههم يحتلون وسط الشارع، فكان أولئك وهؤلاء يصوبون إلى بيير نظرات حافلة بالدهشة. كان ما يدهش الروسيين - إضافة إلى قامته المديدة وبنيانه المتين وأمارات وجهه المعذبة المركزة بشكل غريب مثل مجموع شخصيته - استحالة قدرتهم على تحديد البيئة التي ينتمي إليها هذا الرجل، في حين أن الفرنسيين كانوا يتابعونه بأعينهم؛ لأنه بدلا من أن ينظر إليهم بفضول ممتزج بالرعب ككل مواطنيه، ما كان يعيرهم التفاتا. وأمام أحد البيوت استوقف ثلاثة من الفرنسيين كانوا يتحدثون مع روسيين دون أن يفهم هؤلاء عليهم، بيير ليسألوه عما إذا كان يعرف الفرنسية.
أشار بيير برأسه أن لا، وتابع طريقه، وفي زقاق آخر صاح به حارس واقف إلى جانب صندوق خشبي مطلي بالأخضر وقال شيئا، فلم يفهم بيير أن عليه أن يعمد إلى الجانب الآخر من الشارع إلا عندما كرر الحارس أمره المتوعد ورآه يصلي بندقيته. لم يكن منتبها إلى ما حوله، بل كان يحمل فكرته في نفسه وكأنه شيء غريب خطير، يحملها بعجلة وهول وهو يخشى - بعد تجربته في الليلة السالفة - أن يفقدها نهائيا، ولكن لم يكن مقدرا على بيير أن يحتفظ بتلك الحالة النفسية سليمة حتى يبلغ المكان الذي اتجه إليه، بل إنه حتى ولو لم يستوقفه أحد فإن فكرته ما كانت لتتحقق؛ لأن نابليون كان منذ أكثر من أربع ساعات قد اجتاز ضاحية دوروجوميلوف عن طريق الآربات متجها إلى الكريملن مباشرة، وكان في تلك اللحظة يحتل مكتب القيصر في قصر الكريملن وهو في أسوأ حالاته الفكرية، ويعطي الأوامر المفصلة لإطفاء الحريق فورا ومنع النهب وتهدئة روع السكان. لكن بيير ما كان يعرف شيئا من ذلك؛ كان مستغرقا في الحادث المستعجل، يعذب نفسه على شاكلة العنيدين الذين يحاولون المستحيل ليس بسبب صعوبة العمل نفسه، بل لأن طبيعة العمل منافية لطبعه، ولأنه يخاف أن يضعف في اللحظة الحاسمة فتنحط قيمته بالتالي بنظر نفسه.
وعلى الرغم من أنه لم يسمع شيئا من كل ما يدور حوله، فإنه كان يتبع بالغريزة الطريق التي اختطها لنفسه دون أن يخطئ في متاهة الأزقة المؤدية إلى بوفارسكاييا.
وكلما اقترب من بوفارسكاييا كلما ازداد الدخان وشعر الإنسان بحرارة الحريق، ومن حين إلى آخر كانت ألسنة من اللهيب تنبعث من سقوف المنازل، وأصبح اللقاء بالناس كثيرا، واتسمت الوجوه بطابع ظهر فيه الذعر بأكثر جلاء، لكن بيير رغم شعوره المكين بأن شيئا ما خارقا يحدث حوله، لم يكن منتبها إلى أنه يسير مباشرة نحو الحريق. وبينما هو يجتاز ممرا يخترق أرض خواء واسعة متصلة من جانب ببوفارسكاييا، ومن الآخر بحدائق نزل الأمير جروزينسكي، سمع بيير بجانبه فجأة صيحة يائسة تطلقها امرأة، فتوقف وكأنه أفاق من حلم ورفع رأسه.
تناثرت خارج الممر، على الحشائش المغبرة الجافة قطع من الأثاث: فرس وسماور وأيقونات وصناديق. وعلى الأرض بجانب الصناديق جلست امرأة ناحلة في مفترق سنين، ذات أسنان أمامية طويلة، مرتدية معطفا أسود تضع على رأسها قلنسوة. راحت هذه المرأة تتمايل وهي تدمدم بشيء ما وتبكي بكاء سخيا، بينما راحت فتاتان، إحداهما في العاشرة والثانية في الثانية عشرة، مرتديتان أثوابا قصيرة متسخة ومعطفين صغيرين مبطنين بالفراء، تنظران إلى أمهما وعلى وجهيهما الشاحبين المروعين أمارات الذهول. وكان غلام أصغر سنا، في حوالي السابعة من عمره، ملفوف بمعطف طويل وقبعة ذات حافة واحدة عريضة جدا، يبكي بين ذراعي مربيته العجوز، وجلست خادم قذرة على صندوق حافية القدمين وقد فردت شعرها الأشقر، وراحت تنتزع منه شعرات مغراء اللون كانت ترفعها إلى أنفها. أما الزوج، وكان رجلا قصيرا محدودب الظهر في بزة موظف صغير ذا سالفين طويلين وشعر مصقول جيدا على الصدغين بارز من قبعة وحيدة الطرف موضوعة على رأسه باتزان، فقد راح يحرك الصناديق الموضوعة الواحدة فوق الأخرى غير بادي التأثر؛ بحثا عن بعض الأسمال. ألقت المرأة بنفسها على قدمي بيير تقريبا عندما شاهدته وصرخت خلال عبراتها: «أيها الناس البواسل، أيها المسيحيون، أنقذونا، ساعدونا! ... سيدي العزيز! ... كن من كنت، ساعدنا! ابنتي الصغرى! ... ابنتي! ... أصغر بناتي! لقد تركت! ... لقد احترقت! أوه، أوه، أوه، أوه! ألأجل هذا هدهدتك كل هذا الوقت؟! ... أوه، أوه، أوه!»
فقال الزوج بصوت هادئ اتخذه لا ريب ليبرر تصرفه الغريب: «هدئي روعك يا ماري نيكولاييفنا، لا ريب أن أختك حملتها معها.»
ثم أضاف: «وإلا، فأين يمكن أن تكون؟»
فصرخت المرأة بحقد وقد كفت فجأة عن البكاء: «أيها المغفل، أيها الوحش! إنك عديم القلب. إنك لا تأسف على ابنتك مجرد أسف. لو كان غيرك مكانك لأنقذها من النار. إن هذا الغبي ليس رجلا ولا أبا.»
ثم قالت لبيير وكلماتها تتلاحق وهي تنشج: «أنت، أنت قلب نبيل أنت، لقد شبت النار بجانبنا ثم بلغت مسكننا، ولقد صاحت الوصيفة: شب الحريق! فاندفعنا نجمع حاجاتنا، ولقد فررنا بما نحمله على أنفسنا ... هذا ما استطعنا حمله ... الأيقونة، وسرير زواجي، وكل ما عدا ذلك ضاع! أخذت الأطفال وإذا بكاتنكا غير موجودة. أوه، أوه ... أوه! يا ربي! ...»
وعادت تنتحب: «لقد احترقت صغيرتي الوديعة. احترقت!»
سألها بيير: «ولكن أين ظلت؟»
أدركت تلك المرأة من أمارات وجهه المحتدة أن هذا الرجل قادر على مساعدتها ، فراحت تتوسل إليه وهي تحيط ساقيه بذراعيها. - «يا سيدي الطبيب! يا أبي! يا محسني! أرح قلبي على الأقل ...»
وصرخت بالوصيفة: «أنيسكا، أيتها الفتاة القذرة، اذهبي ودليه.»
وفتحت وهي تصرخ فما مكشرا كشف عن أسنانها الطويلة، فبادر بيير يقول لها بصوت لاهث: «قوديني، سوف ... سوف أعمل جاهدا.»
خرجت الوصيفة القذرة من وراء صندوقها وسوت ضفيرتها، وزفرت ثم سارت في المقدمة فوق الممر عارية القدمين، وكان بيير أشبه بالرجل الذي عاد إلى الحياة بعد إغماء طويل. نصب رأسه والتمعت عيناه من جديد ببريق الحياة، وراح يتبع الفتاة بخطى حثيثة حتى أدركها وبلغ بوفارسكاييا. كان الشارع ممتلئا بسحابة كثيفة سوداء، وألسنة من النار تنبعث من بعض جنباتها، وجماعة من الناس تجمهرت عند مشارف الحريق، وفي وسط الطريق كان جنرال فرنسي يقول شيئا ما للمحيطين به. كاد بيير الذي تقوده الخادم أن يقترب من المكان الذي وقف فيه الجنرال، لكن الجنود الفرنسيين أوقفوه وصرخوا به: «ممنوع المرور!»
قال الخادم: «من هنا يا عماه، سنسير في هذا الزقاق لنجتاز فناء آل نيكولين.»
عاد بيير على أعقابه وراح يوسع الخطى أحيانا ليلحق بالخادم. اجتازت الشارع ركضا، ثم سارت إلى اليسار عبر الزقاق واجتازت ثلاثة بيوت، ثم انعطفت يمينا واجتازت بابا. قالت مفسرة: «سنصل بعد قليل.»
وبعد أن اجتازا الفناء جريا فتحت باب سياج وأومأت إلى بيير تدله على جناح من الخشب كان يلتهب بنار عنيفة وينشر حرارة قوية، وكان جانب كامل من الجناح منهارا، بينما كان الجزء الآخر ملتهبا كله واللهب المضيء الملتمع يخرج من فتحات النوافذ والسقف.
توقف بيير رغما عنه عندما اقترب من باب الفناء، وقد كادت الحرارة أن تخنقه، وسأل: «أي بيت؟ أي بيت بيتكم؟»
زمجرت الخادم وهي تشير إلى الجناح: «أوه، أوه، أوه! ها هو ذا، هذا هو بيتنا الصغير، وأنت في النار يا كاتنكا، يا كنزنا، يا آنستي الصغيرة العزيزة! أوه، أوه، أوه!»
وراحت أنيسكا تزمجر وهي تشعر بوجوب إظهار مشاعرها هي الأخرى أمام الحريق.
انطلق بيير نحو الجناح، لكن الحرارة كانت من الشدة بحيث اضطر إلى أن يلتفت حوله، فوجد نفسه قرب مسكن كبير كان جانب واحد من السقف يحترق وحوله جمهور غفير من الفرنسيين. لم يفهم بيير بادئ الأمر ماذا كان أولئك الفرنسيون يعملون هناك. لقد كانوا يجرون شيئا ما، لكنه لما رأى أحدهم يضرب بعرض سيفه أحد القرويين ويسلبه معطفه المبطن بفراء الثعلب، أدرك أنه إزاء جماعة من السلابين. مع ذلك، فإنه لم يجد الوقت الكافي للتعمق في تفكيره حول النقطة.
أثارت الطقطقة وقرقعة الجدران والسقوف المنهارة وصفير النار وشخيرها وهتافات الجمهور ومشهد زوابع الدخان التي تنتشر كثيفة سوداء تارة وترتفع مضيئة مشعة تارة أخرى، ورؤية اللهب ينتقل من جدار إلى آخر، أحمر كثيفا أشبه بالعرم، والأحاسيس التي سببتها الحرارة والدخان والجري، كل ذلك أثار في نفس بيير الانفعال الذي تحدثه الحرائق عادة في نفوس الأطفال. بل إنه كان أشد قوة في نفسه، حتى إنه أحس فجأة بخلاصة من الأفكار التي كانت متسلطة عليه. وجد نفسه من جديد فتيا مرحا حاذقا. دار راكضا حول الجناح من جانب المسكن الكبير، وأراد أن يندفع إلى الجزء الذي ما زال قائما عندما سمع فوق رأسه تماما عددا من الأصوات تصيح، ثم على الأثر قرقعة شيء وجلبة سقوط جسم ثقيل بالقرب منه.
رفع بيير عينيه فشاهد فرنسيين ألقوا منذ فترة بقمطر ممتلئ بالأدوات المعدنية، بينما اقترب جنود فرنسيون آخرون كانوا في الأسفل نحو القمطر الملقى من عل.
صاح أحدهم وهو يرى بيير: «حسنا، ماذا يريد هذا؟»
سأل بيير: «طفل في هذا البيت. ألم تشاهدوا طفلا؟»
هتفت أصوات كثيرة: «هه، ماذا ينفق هذا؟ امض في سبيلك.»
وتقدم أحد الجنود نحو بيير متوعدا وقد خشي بلا ريب أن تكون غايته استعادة الفضيات وموجودات القمطر من البرونز منهم.
صرخ أحد الفرنسيين من الأعلى: «طفل؟ لقد سمعت شيئا يصرخ في الحديقة. لعله صبي الرجل. يجب أن يكون المرء إنسانيا، ويحكم! ...»
سأل بيير: «أين هو؟ أين هو؟»
هتف به الفرنسي الواقف عند النافذة وهو يشير إلى الحديقة وراء البيت: «من هنا! من هنا! انتظر، سوف أنزل إليك.»
وفي الواقع لم تمض ثوان حتى قفز الفرنسي من نافذة الدور الأرضي، وكان فتى في مقتبل العمر أسود العينين، يحمل شامة على وجنته، يرتدي قميصا دون سترته، ووكز بيير في كتفه وقاده إلى الحديقة. صاح يخاطب رفاقه: «أسرعوا أنتم كذلك. بدأت الحرارة تزيد.»
اندفع مع بيير وراء البيت عبر ممشى مفروش بالرمال، وفجأة جذب الفرنسي بيير من ذراعه وأراه شيئا مستديرا. كان ذلك الشيء طفلة في الثالثة من عمرها في ثوب وردي مسجاة فوق مقعد.
قال الفرنسي: «هذا طفلك. آه! طفلة! هذا أفضل. إلى اللقاء أيها الرجل الضخم. يجب أن نكون إنسانيين، وكلنا مائت كما ترى.»
وجرى الفرنسي ذو الشامة للحاق برفاقه.
اندفع بيير وهو يلهث من الفرح نحو الصبية، وأراد أن يحملها بين ذراعيه، ولكن عندما شاهدت الطفلة المصابة بداء الخنازير ذات الوجه المريض الشبيهة بأمها؛ رجلا غريبا، راحت تصرخ وأرادت أن تفر. وفي تلك الأثناء كان بيير قد لحق بها وحملها بين ذراعيه، فصرخت بصوت شرس يائس، وراحت تتخبط محاولة بيديها الصغيرتين أن ترغم بيير على التخلي عنها، بل حاولت كذلك أن تعض يديه. ولقد استولى على بيير شعور بالروع والاشمئزاز شبيه بذلك الذي يعتلج في صدره إذا لمس حيوانا ما تتقزز منه النفس، لكنه بذل مجهودا ليسيطر على نفسه كيلا يطرح الطفل، وعاد يجري وهو يحمل حمله نحو البيت الكبير. لم يعد حينذاك ممكنا أن يمر من الطريق نفسه، كما أن أنيسكا كانت قد اختفت، فضم الفتاة المبللة الباكية إلى صدره بأقصى ما يستطيعه من حنان وهو مفعم النفس بالإشفاق بقدر ما فيها من اشمئزاز، واندفع عبر الحديقة يحاول إيجاد مخرج جديد.
الفصل الرابع والثلاثون
اعتقال بيير
بعد أن اجتاز بيير جاريا عددا من الأفنية والأزقة، عاد بحمله نحو حديقة جروزينسكي عند زاوية بوفارسكاييا. لم يتعرف للوهلة الأولى على النقطة الذي ذهب منها بادئ الأمر باحثا عن الفتاة؛ لكثرة ما تراكمت هناك من أمتعة جرت خارج البيوت ، وما اجتمع من أشخاص هناك. كان هناك - فضلا عن الأسر الروسية المجتمعة بالقرب مما أمكن إنقاذه من البيوت المحترقة - عدد من الجنود الفرنسيين في أزياء مختلفة، فلم يعبأ بيير بهم مطلقا. كان متلهفا للعثور على أسرة الموظف وإعادة الصغيرة إلى أمها، ثم العودة من جديد للمساهمة في أعمال الإنقاذ. وكان يخيل إليه أن أمامه كثيرا مما يجب أن يعمل، وأن الوقت يدركه، ولقد بعثت النيران والجري الدفء في أوصال بيير، فشعر بذلك الإحساس الفتي بأكثر قوة في تلك اللحظة مشفوعا بالعزم والحماس، ذلك الإحساس الذي استولى عليه بادئ الأمر عندما انطلق للبحث عن الطفلة. أصبحت الفتاة هادئة الآن وقد تشبثت بمعطف بيير بيديها الصغيرتين، وقبعت فوق ذراعه، وراحت تنظر حولها بعيني حيوان صغير متوحش. ومن حين إلى آخر كان بيير يتأملها وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة. كان يخيل إليه أن يرى لونا من البراءة يثير الشفقة في تقاسيم هذه الطفلة المريضة المروعة.
لم يبق الموظف وزوجته في مكانهما الأول؛ لذلك فقد راح بيير يسير بخطوات واسعة وهو يتفحص وجوه الجماعات التي تمر بها. لم يستطع الامتناع عن النظر إلى أسرة أرمنية مؤلفة من كهل في سن متقدمة جدا ذي مظهر شرقي جميل يرتدي «فروة» مبطنة وأحذية جديدة، وعجوز في مثل تلك السن وامرأة شابة. كانت هذه لا تزال في مقتبل العمر، بدت لبيير نموذجا للجمال الشرقي الكامل بحاجبيها الأسودين المقوسين الواضحين ووجهها الطويل الجميل ذي اللون الوردي النضير الخالي من أي تعبير، فكانت بين هذه الأشياء المبعثرة وذلك الجمهور من الناس على تلك الساحة، في «فروتها» الثمينة «الساتان» والوشاح البنفسجي الصارخ الذي يغطي رأسها، أشبه بنبتة دقيقة ملقاة على الثلج. كانت جالسة على بعض الرزم إلى وراء المرأة العجوز قليلا تحدق إلى الأرض بعينين سوداوين كبيرتين لوزيتين تظللهما أهداب طويلة، وكان يرى أنها شاعرة بجمالها خائفة عليه، ولقد استلفت وجهها نظر بيير الذي رغم تعجله في السير على طول أحد الحواجز، لم يتمالك إلا أن يلتفت أكثر من مرة. ولما بلغ نهاية الحاجز ولم يجد من يبحث عنهم في أي مكان، توقف بيير وهو في حيرة.
ولقد بات هذا الرجل طويل القامة الذي يحمل طفلة بين ذراعيه يلفت النظر أكثر من ذي قبل، فلم يلبث بعض الروسيين بين رجال ونساء أن التفوا حوله. سألوه: «هل أضعت أحدا أيها الرجل الباسل؟ أنت نبيل. أليس كذلك؟ لمن هذه الطفلة؟»
أجاب بيير بأن الطفلة لامرأة ترتدي «فروة» سوداء كانت جالسة مع أولادها في هذا المكان، وسأل عما إذا كان أحد يعرفها أو يستطيع أن يقول إلى أين ذهبت.
قال شماس عجوز يخاطب امرأة مجدورة: «لا بد وأن يكونوا آل أنفيروف. أيها المولى، أشفق علينا.»
ثم كرر بصوته الخافت الاعتيادي: «أيها المولى، أشفق علينا!»
أجابت المرأة: «أين هم آل أنفيروف؟ لقد رحلوا هذا الصباح. لا بد وأنها لماري نيكولاييفنا أو لآل إيفانوف.»
قال خادم مفسرا: «لقد قال امرأة، وماري نيكولاييفنا سيدة.»
قال بيير: «لا بد وأنكم تعرفونها. امرأة نحيلة ذات أسنان طويلة.»
قالت المرأة وهي تشير إلى جنود فرنسيين: «لكنها ماري نيكولاييفنا نفسها. لقد هربوا إلى الحديقة عندما انقض هؤلاء الذئاب عليهم.»
ردد الشماس: «أيها المولى، أشفق علينا!»
وقالت امرأة أخرى: «مر من هنا. خذ. إنهم هناك. ها هي ذي بالذات! إنها لم تكف عن التأوه والبكاء. إنها هي نفسها، من هنا.»
لكن بيير ما كان يصغي إلى المرأة. لقد كان منذ بضع ثوان لا يرفع عينيه عما يدور على قيد بضع خطوات منه. كان ينظر إلى الأسرة الأرمنية وقد اقترب منها جنديان فرنسيان؛ كان أحدهما قصير القامة، حافي القدمين، يرتدي معطفا أزرق ويتمنطق بقطعة حبل، وعلى رأسه قلنسوة من الفراء. أما الآخر، وهو الذي اجتذب انتباه بيير بصورة خاصة، فطويل أشقر نحيل محدودب الظهر بطيء الحركات بادي الغباء، يلبس معطفا من نسيج صوفي خشن وسراويل زرقاء وأحذية عالية ممزقة. اقترب الفرنسي القصير حافي القدمين ذو المعطف الأزرق من الأرمن وقال شيئا وهو يشير إلى ساقي الكهل الذي سارع إلى حذاءيه يخلعهما. أما ذو المعطف الخشن، فقد وقف أمام الفتاة الأرمنية الجميلة جامدا لا ينبس ببنت شفة ويداه في جيبه، وراح يتأملها.
قال بيير للمرأة وهو يقدم إليها الفتاة بعجلة بحركة لا رد فيها: «خذي، خذي هذه الطفلة.»
وصرخ وهو يضع الفتاة على الأرض دون أن يحول عينيه عن الأسرة الأرمنية والفرنسيين: «ستعيدينها إليهم، هه؟»
كان الكهل قد خلع حذاءيه، وقد نزع الفرنسي الصغير الفردة الثانية من ساقه وراح يضرب بها الأولى. وراح الكهل يغمغم بكلام والدمعة تترقرق من عينيه، لكن بيير لم يلق على هذا المشهد إلا نظرة سريعة. كان يراقب الفرنسي الآخر ذا المعطف الخشن الذي أخذ في تلك اللحظة يقترب من الفتاة متأرجحا ببطء ثم يخرج يديه من جيبه ويمسك بعنقها.
وكانت الأرمنية الحسناء لا تزال جامدة وأهدابها الطويلة مسبلة، وكأنها لا ترى ولا تشعر بما يفعل الجندي.
وبينما كان بيير يجتاز الخطوات القليلة التي تفصله عن الفرنسيين، كان السلاب الطويل ذو المعطف الخشن قد نزع من عنق الأرمنية عقدا كان يحلي جيدها، فرفعت الشابة يديها إلى عنقها وراحت تطلق صيحات ثاقبة.
زمجر بيير غاضبا وهو يطبق على الجندي الطويل المحدودب من كتفيه ويدفعه بعنف: «دع هذه المرأة!»
سقط الجندي ثم نهض وفر بأقصى سرعة، لكن زميله ألقى بالحذاءين على الأرض، وامتشق حسامه وتقدم إلى بيير متودعا وصاح: «هه، كف عن الحماقات.»
كان بيير حينذاك يتلظى بإحدى سوراته التي يفقد معها اتزانه وتتضاعف قواه عشرة أمثالها. ألقى بنفسه على الفرنسي حافي القدمين قبل أن يتيح له الوقت ليرفع سيفه، فألقاه أرضا وانهال عليه لكما، وانطلقت من حناجر الجمهور صرخات مشجعة. ولكن في تلك اللحظة ظهر دورية من الفرسان عند منعطف الشارع، انطلقوا خببا على جيادهم وأحاطوا بيير والفرنسي . ولقد أضاع بيير ذكرى ما حدث فيما بعد. تذكر بغموض أنه ضرب أحدهم وأنهم ضربوه ثم أوثقوا يديه فيما بعد وراء ظهره، ثم شرع الجنود الملتفون حوله في تفتيشه.
كانت الكلمات الأولى التي وعاها بيير: «إنه يحمل خنجرا أيها الملازم.»
قال الضابط الذي راح يخاطب الجندي عاري القدمين: «آه! سلاح. هذا أحسن. ستقص هذا على المحكمة العسكرية.»
ثم استدار إلى بيير وأضاف: «هل تتكلم الفرنسية أنت؟»
سرح بيير حوله عينيه المحقونتين بالدم ولم يجب، ولا بد أن وجهه لم يكن يوحي بالطمأنينة؛ إذ همس الضابط كلاما في أذن أحد الفرسان، فانفصل أربعة من الكوكبة ليحيطوا بيير.
كرر الضابط وهو يقف على مسافة من بيير: «هل تتكلم الفرنسية؟ أحضروا المترجم.»
خرج من الصفوف رجل في ثوب مدني عرف فيه بيير على الفور من ثوبه وحديثه فرنسيا في أحد مخازن موسكو، قال المترجم بعد أن حدج بيير: «لا يبدو عليه أنه من أبناء الشعب.»
فهتف الضابط: «أوه، أوه! يبدو عليه أنه واحد من أولئك الذين دأبوا على إشعال الحرائق.»
ثم أردف: «سله من يكون.»
سأل المترجم بصيغة المفرد: «من أنت؟ يجب أن تجيب على أسئلة السلطة.»
قال بيير فجأة بالفرنسية: «لن أقول لكم من أنا. إنني سجينكم، فخذوني.»
هتف الضابط وهو يزوي حاجبيه: «آه! آه! لنمش.»
تجمهر الناس حول الفرسان وباتت المرأة المجدورة مع الطفلة الصغيرة قريبة جدا من بيير، فلما تحرك الموكب تبعته. قالت: «إلى أين يأخذونك أيها الرجل الباسل؟ والصغيرة، ماذا أصنع بها إذا لم تكن لهم؟»
سأل الضابط: «ماذا تريد هذه الامرأة؟»
شعر بيير أنه أشبه بالسكران، وتعاظم حماسه لمرأى الصغيرة التي أنقذها. قال: «ماذا تقول؟ إنها تحمل ابنتي التي أنقذتها من الحريق. وداعا!»
ودون أن يدري سببا لهذه الكذبة غير المجدية التي أفلتت منه، ابتعد مع حراسه بخطى مهيبة حازمة.
كانت تلك الدورية واحدة من كثير نظمها دوروسنل، وأرسلها إلى مختلف أحياء موسكو لتقمع السلب، ولتضع يدها على الأخص على مشعلي الحرائق الذين كانوا - بحسب الرأي العام المقبول من القيادة الفرنسية العليا - يتعمدون إحراق المدينة. وقد أوقفت الدورية وهي تجتاز عددا من الشوارع، خمسة مشبوهين آخرين: صاحب حانوت، طالبان في معهد ديني، قروي وخادم، فضلا عن بعض السلابين. لكن الرجل الذي بدا أكثر قابلية للشبهة كان بيير. قادوهم لقضاء تلك الليلة في بيت كبير عند حاجز زوبوفو؛ حيث أقيمت هناك وحدة من الحرس، لكن بيير عزل عن الآخرين وبات موضع رقابة صارمة.
الكتاب الرابع
الجزء الأول
1 - رسالة نيافته
2 - موت هيلين
3 - حتى آخر رجل ...
4 - مهمة روستوف
5 - مشروع زواج
6 - الزيارة الأولى
7 - حرية نيكولا
8 - أسباب رسالة سونيا
9 - الاستجواب الأول
10 - الاستجواب الثاني
11 - الإعدام
12 - في السجن
13 - بلاتون كاراتاييف
14 - رحلة ماري
15 - الدلائل الأولى
16 - موت آندريه
الجزء الثاني
1 - سير الجناح
2 - رسالة نابليون
3 - القوقازي شابوفالوف
4 - أوامر إلى إيرمولوف
5 - حركة فاشلة
6 - مقتل باجوفو
7 - معركة تاروتينو
8 - عبقرية نابليون
9 - التنظيمات الإدارية
10 - ... ونتائجها
11 - بيير في السجن
12 - نفسية بيير
13 - يوم الرحيل
14 - المرحلة الأولى
15 - دوختوروف المغمور
16 - الرسول وكونوفنيتسين
17 - في حضرة كوتوزوف
18 - محاولتان
19 - نحو النهاية
الجزء الثالث
1 - هراوة الشعب
2 - س:ق = 4:15
3 - حرب الأنصار
4 - دينيسوف ... وبيتيا
5 - تيخون ستشيرباتي
6 - ما هو السر؟
7 - بيتيا والسجين
8 - دولوخوف
9 - في معسكر الأعداء
10 - ليلة الهجوم
11 - الهجوم
12 - حالة الأسير بيير
13 - حكاية بائع عجوز
14 - مقتل كاراتاييف
15 - الخلاص
16 - تقرير برتييه
17 - في النزع
18 - آراء المؤرخين
19 - أسئلة وأجوبة
الجزء الرابع
1 - ماري وناتاشا
2 - نعي بيتيا
3 - رحيل ماري وناتاشا
4 - بلبلة القيادة الروسية
5 - إنصافا لكوتوزوف
6 - خطاب القائد الأعلى
7 - اليوم الأخير
8 - لغط الجنود
9 - رامبال وتابعه
10 - نهاية المهمة
11 - وصول الإمبراطور
12 - نهاية كوتوزوف
13 - بعد الأسر
14 - بعث جديد
15 - العودة إلى موسكو
16 - زيارة ماري للأميرة
17 - مفاجأة
18 - لقاء مع ناتاشا
19 - الحب
20 - نفسية بيير
21 - اعتراف ناتاشا
الخاتمة
الجزء الأول
1 - القادحون والمادحون
2 - عاملا الصدفة والعبقرية
3 - نابليون بإيجاز
4 - علاقة وليس غاية
5 - إرث الكونت
6 - ماري ونيكولا
7 - نيكولا في ممتلكاته
8 - بناء القصر
9 - عشية العيد
10 - عودة بيير
11 - عتاب ناتاشا
12 - الكونتيس العجوز
13 - حول السماور
14 - في مكتب نيكولا
15 - المذكرات
16 - حلم الصغير
الجزء الثاني
1 - محرك التاريخ
2 - مغالطات المؤرخين
3 - ما هو السلطان؟
4 - مصدر السلطان
5 - الشعوب والشخصيات
6 - القيادة والتنفيذ
7 - تغطية المسئولية الأخلاقية
8 - الحرية الإنسانية
9 - الحرية والضرورة
10 - اتحاد الحرية والضرورة
11 - غرض التاريخ
12 - الضرورة والقوانين
الكتاب الرابع
الجزء الأول
1 - رسالة نيافته
2 - موت هيلين
3 - حتى آخر رجل ...
4 - مهمة روستوف
5 - مشروع زواج
6 - الزيارة الأولى
7 - حرية نيكولا
8 - أسباب رسالة سونيا
9 - الاستجواب الأول
10 - الاستجواب الثاني
11 - الإعدام
12 - في السجن
13 - بلاتون كاراتاييف
14 - رحلة ماري
15 - الدلائل الأولى
16 - موت آندريه
الجزء الثاني
1 - سير الجناح
2 - رسالة نابليون
3 - القوقازي شابوفالوف
4 - أوامر إلى إيرمولوف
5 - حركة فاشلة
6 - مقتل باجوفو
7 - معركة تاروتينو
8 - عبقرية نابليون
9 - التنظيمات الإدارية
10 - ... ونتائجها
11 - بيير في السجن
12 - نفسية بيير
13 - يوم الرحيل
14 - المرحلة الأولى
15 - دوختوروف المغمور
16 - الرسول وكونوفنيتسين
17 - في حضرة كوتوزوف
18 - محاولتان
19 - نحو النهاية
الجزء الثالث
1 - هراوة الشعب
2 - س:ق = 4:15
3 - حرب الأنصار
4 - دينيسوف ... وبيتيا
5 - تيخون ستشيرباتي
6 - ما هو السر؟
7 - بيتيا والسجين
8 - دولوخوف
9 - في معسكر الأعداء
10 - ليلة الهجوم
11 - الهجوم
12 - حالة الأسير بيير
13 - حكاية بائع عجوز
14 - مقتل كاراتاييف
15 - الخلاص
16 - تقرير برتييه
17 - في النزع
18 - آراء المؤرخين
19 - أسئلة وأجوبة
الجزء الرابع
1 - ماري وناتاشا
2 - نعي بيتيا
3 - رحيل ماري وناتاشا
4 - بلبلة القيادة الروسية
5 - إنصافا لكوتوزوف
6 - خطاب القائد الأعلى
7 - اليوم الأخير
8 - لغط الجنود
9 - رامبال وتابعه
10 - نهاية المهمة
11 - وصول الإمبراطور
12 - نهاية كوتوزوف
13 - بعد الأسر
14 - بعث جديد
15 - العودة إلى موسكو
16 - زيارة ماري للأميرة
17 - مفاجأة
18 - لقاء مع ناتاشا
19 - الحب
20 - نفسية بيير
21 - اعتراف ناتاشا
الخاتمة
الجزء الأول
1 - القادحون والمادحون
2 - عاملا الصدفة والعبقرية
3 - نابليون بإيجاز
4 - علاقة وليس غاية
5 - إرث الكونت
6 - ماري ونيكولا
7 - نيكولا في ممتلكاته
8 - بناء القصر
9 - عشية العيد
10 - عودة بيير
11 - عتاب ناتاشا
12 - الكونتيس العجوز
13 - حول السماور
14 - في مكتب نيكولا
15 - المذكرات
16 - حلم الصغير
الجزء الثاني
1 - محرك التاريخ
2 - مغالطات المؤرخين
3 - ما هو السلطان؟
4 - مصدر السلطان
5 - الشعوب والشخصيات
6 - القيادة والتنفيذ
7 - تغطية المسئولية الأخلاقية
8 - الحرية الإنسانية
9 - الحرية والضرورة
10 - اتحاد الحرية والضرورة
11 - غرض التاريخ
12 - الضرورة والقوانين
الحرب والسلم (الكتاب الرابع)
الحرب والسلم (الكتاب الرابع)
إلياذة العصور الحديثة
تأليف
ليو تولستوي
الكتاب الرابع
الجزء الأول
الفصل الأول
رسالة نيافته
خلال ذلك الوقت، في أجواء بيترسبورج العليا، استمر النضال بين أنصار روميانتسيف والفرنسيين وماري فيدوروفنا وألتساريفيتش وشخصيات رفيعة أخرى أشد من ذي قبل، وظل زنابير البلاط كعادتهم يشتركون فيه وهم يدندنون. لكن تلك الحياة المترفة الخالية التي لا يشغلها إلا المظاهر والسراب ظلت تتبع مجراها الطبيعي ، والذين يحيونها كانوا ملزمين ببذل مجهودات كبيرة ليدركوا الخطر والموقف الدقيق الذي تردى إليه الشعب الروسي. ظلت الحفلات الراقصة نفسها والاستقبالات إياها والمسرح الفرنسي ذاته ومصالح البلاط نفسها ومصالح الخدمة والدسائس هي هي. أما في المقامات العليا فكانوا يظهرون ما يكفي من القلق لتذكر خطورة الحالة، كانوا يرون همسا أن الإمبراطورتين في هذا الظرف العصيب تتصرفان تصرفا معاكسا تماما؛ فالإمبراطورة ماري فيودوروفنا المنشغلة بحماية المؤسسات الاستشفائية والثقافية المؤسسة باسمها وتحت حمايتها تتخذ الإجراءات لنقلها إلى كازان، فكان كل ما يخص تلك المؤسسات معدا محزوما. أما الإمبراطورة إليزابيث ألكسييفنا فإنها عندما تسأل عما إذا كان يجب اتخاذ إجراءات الرحيل، تجيب بوطنيتها الروسية المألوفة بأنها لا تستطيع إصدار أي أمر بهذا المعنى، وأن هذا من اختصاص الإمبراطور وحده، ولقد أعلنت أنها في ما يخصها ستكون آخر من يغادر بيترسبورج.
في السادس والعشرين من آب يوم معركة بورودينو بالذات، كانت آنا بافلوفنا تقيم حفلة ساهرة نواتها قراءة رسالة نيافته المرفقة بصورة السعيد القديس سيرج المرسلة إلى الإمبراطور. كانت تلك الرسالة تعتبر نموذجا للوطنية والفصاحة الدينية، وكانوا يعتمدون على الأمير بازيل في قراءتها، وهو المشهور بموهبته كقارئ الذي مارس هذه الموهبة لدى الإمبراطورة نفسها، وكانت تلك الموهبة تقوم على أساس لفظ الكلمات بصوت مرتفع غنائي، تتناوب فيه الخطورة مع العذوبة دون التقيد بالمعنى لدرجة كانت بعض المقاطع الأخرى في ما يشبه الهمس. وكان لتلك القراءة كما لكل حفلات آنا بافلوفنا الساهرة لونا سياسيا، إذ اتفق على أن يحضر عدد من كبار الشخصيات وجب استصراخ شعورهم الوطني وتخجيلهم، لأنهم ما زالوا دءوبين على حضور حفلات المسرح الفرنسي. وكان عدد كبير من المدعوين قد حضر، لكن آنا بافلوفنا لم تر فيهم من تنتظر، لذلك فقد أخرت القراءة وسمحت بإثارة مناقشة عامة.
بطرس يساق أسيرا.
كان النبأ الجديد يومذاك يتعلق بمرض الكونتيس بيزوخوف، لقد شعرت فجأة بتوعك وتغيبت هذه الأيام الأخيرة عن حضور بعض الاجتماعات التي كانت زينتها، تناقلت الألسن أنها لا تستقبل أحدا وأنها منحت ثقتها إلى إيطالي زعم أنه سيشفيها وفق طريقة جديدة خارقة، بدلا من أن تمنحها إلى المشهورين من أطباء العاصمة الذين كانت تعهد إليهم بعلاجها.
وكان كل يعرف أن مرض الكونتيس الفاتنة ناجم عن الارتباك الذي وقعت به بسبب اقترانها برجلين معا، وأن علاج الإيطالي يتوقف على إزالة هذا الارتباك، ولكن ما من أحد كان يجرؤ على التنويه بالشيء في حضرة آنا بافلوفنا، فكانوا جميعا يتظاهرون بجهلهم كل ما له علاقة بهذا الموضوع. - يقولون إن مرض الكونتيس رديء جدا، يقول الطبيب إنه الذبحة الصدرية. - الذبحة؟! أوه، إنها مرض خطير. - يقولون إن المتنافسين قد تصالحوا بفضل الذبحة ...
وكانت كلمة «ذبحة» تنعم بالرضى العام. - إن الكونت العجوز يثير الشفقة كما يروون، لقد بكى كطفل عندما أنبأه الطبيب بأن الحالة خطيرة. - أوه! ستكون خسارة رهيبة، إنها امرأة ساحرة.
قالت آنا بافلوفنا وهي تقترب: إنكم تتحدثون عن الكونتيس المسكينة، لقد أرسلت أستطلع أخبارها فقالوا لي إنها متحسنة بعض الشيء.
ثم أضافت وهي تبتسم لحماسها الشخصي: أوه! لا ريب أنها أكثر نساء العالم فتنة. إننا نمت إلى معسكرين مختلفين، لكن هذا لا يمنع من تقديرها كما تستحق. إنها تعيسة جدا!
ولقد خمن شاب طائش أن كلمات آنا بافلوفنا ترفع قليلا حجاب السر الذي يغطي مرض الكونتيس، فعمد إلى إظهار دهشته من أن المريضة استبقت إلى جانب سريرها مشعوذا إيطاليا قادرا على وصف أخطر العقاقير لها بدلا عن الأطباء المعروفين. فرددت آنا بافلوفنا على الفور بلهجة خشنة على الشاب الغرير: يمكن أن تكون معلوماتك أفضل من معلوماتي، لكنني أعرف من ثقة أن هذا الطبيب رجل عالم جدا وماهر جدا، إنه الطبيب الخاص لملكة إسبانيا.
وبعد أن أعادت الشاب إلى حدوده على هذا النحو، التفتت آنا بافلوفنا إلى بيليبين الذي كان في حلقة أخرى يجعد جبينه ويتأهب لبسطه، وهو يطلق «كلمة» وهو يتحدث عن النمساويين.
قال بصدد وثيقة سياسية أرسلت إلى فينا مع علمين نمساويين غنمهما ويتجنشتاين
1 «بطل بير بيروبول» كما كانوا يسمونه في بيترسبورج: أرى أن هذا رائع .
فقالت آنا بافلوفنا رغبة منها في وضع حد للمناقشات كي تتيح للمدعوين فرصة سماع «الكلمة» التي كانت تعرفها سلفا: ماذا تقول؟
ردد بيليبين الكلمات التالية من الرسالة الدبلوماسية التي دبجها: يعيد الإمبراطور الأعلام النمساوية، وهي الأعلام الصديقة التائهة التي وجدها متنكبة الطريق.
وبسط جبينه عند المقطع الأخير، فهتف الأمير بازيل: رائع! رائع!
وفجأة قال الأمير هيبوليت بصخب: لعلها طريق فارسوفيا.
حطت الأنظار كلها عليه، ولكن ما من أحد أدرك ماذا يريد أن يقول.
وألقى الأمير هيبوليت نظرة حوله لأنه لم يكن هو الآخر يدرك أكثر من سواه المعنى الذي يتصل بكلماته، لقد لاحظ أكثر من مرة خلال حياته السياسية أن كلمة تقال عرضا تبدو فجأة وكأنها منتهى الذكاء، لذلك فقد راح في كل مناسبة يصرف أول الكلمات التي تتوارد على شفتيه وهو يفكر: «لعلها ستكون شيئا جيدا، بل إنهم سيستخلصون منها شيئا ماحقا ولو كانت لا تساوي شيئا.» وفي الواقع أنه خلال الفترة التي أعقبت ذلك والتي ران فيها صمت مربك دخل شخص ما، وكان واحدا من المواطنين شديدي الفتور الذي كانت آنا بافلوفنا تنتظره، فتوعدت هيبوليت بأصبعها ودعت الأمير بازيل وهي بالابتسام إلى الجلوس قرب المائدة وأتت له بشمعتين وبالرسالة، ثم رجته أن يشرع في تلاوتها، وران الصمت.
نطق الأمير بازيل بلهجة خطيرة، وهو يتأمل وجوه المستمعين وكأنه يسألهم عما إذا كان لأحدهم اعتراض: «أيها الإمبراطور والعاهل كثير الجود.»
ولما لم يرمش أحد تابع: «إن موسكو عاصمتك الأولى، أورشليمنا الجديدة، ستستقبل مسيحها»، وحرك الضمير المضاف «ها» بقوة ... «وهي كالأم التي يرتمي بين أذرع أبنائها المولعة، وخلال الضباب الذي يبدو تغني باندفاع وهي تتبصر بمجد حكمك اللامع: هوزانا، ليكن مباركا ذلك الذي سيقدم!»
نطق الأمير بازيل بهذه الكلمات الأخيرة بلهجة ناحبة.
وكان بيليبين يمعن النظر بأظافره بعناية، وعدد من الموجودين متخوفين حقا، يبدو على وجوههم كأنهم يتساءلون عما ارتكبوا من ذنوب. وكانت آنا بافلوفنا تهمس بالكلمات سلفا أشبه بعجوز على استعداد لتناول الخبز المقدس وتغمغم: «لينشر جوليات الجسور السفيه ...» «ولينشر جوليات
2
الجسور السفيه القادم من طرف فرنسا القصي على الأرض الروسية أهواله المجرمة، فإن الإيمان الخاشع، هذا المقلاع لداود
3
الروسي، سيصرع فجأة رأس تجبره الدموي. إن هذه الصورة لسيرج السعيد الغيور القديم على سعادة وطننا ستقدم إلى جلالتكم الإمبراطورية، وإنني آسف لأن قواي المترنحة لا تسمح لي بتأمل طلعتكم الجليلة. إنني أرفع إلى السماء صلوات حارة ليتفضل عظيم القدرة بإكثار نسل العادلين وليتم أماني جلالتكم!»
هتفوا على شرف القارئ والمؤلف: يا للقوة! يا للأسلوب!
تحدث مدعوو آنا بافلوفنا طويلا حول الموقف والوطن، وقد حركت مشاعرهم هذه المقطوعة من البلاغة، وأكثروا من الرجم بالغيب حول نتيجة المعركة التي ستقع دون تأخير، فقالت آنا بافلوفنا: سوف ترون أننا سنتلقى أنباء غدا بمناسبة يوم ميلاد عاهلنا، إن لدي إحساسات مسبقة ممتازة.
الفصل الثاني
موت هيلين
صدقت والحق يقال إحساسات آنا بافلوفنا المسبقة، ففي اليوم التالي، أثناء تلاوة صلاة الشكر «تيديئوم» في القصر بمناسبة عيد ميلاد الإمبراطور، استدعي الأمير فولكونسكي، فخرج من الكنيسة ليتلقى رسالته من لدن كوتوزوف. كانت الرسالة تحوي ذلك التقرير الذي دبج يوم معركة تاتارينوفو، والذي ذكر فيه كوتوزوف أن الروسيين لم يتراجعوا خطوة واحدة، وأن الفرنسيين فقدوا أكثر مما فقدنا بكثير، وأنه يحرر تقريره على عجل دون أن يتريث حتى يجمع المعلومات الأخيرة. وكان ذلك يبدو أشبه بالبشرى التي تزف بمناسبة النصر، لذلك فقد رفعت إلى الله فورا، دون الخروج من الكنيسة، صلوات شكر على المساعدة التي أنعم بها في سبيل النصر.
لقد تحققت إحساسات آنا بافلوفنا المسبقة، وباتت المدينة كلها تكن روح العيد طيلة ذلك الصباح، فكان كل يعتقد بنصر شامل، بل إن بعضهم زعم أن نابليون أصبح سجينا وأنهم خلعوه وانتخبوا في فرنسا رئيسا جديدا.
وكان من العسير جدا أن يدرك المرء بعيدا عن الجيش وفي جو البلاط الوقائع في كل دقائقها وقوتها. إن الأحداث تتجمع تلقائيا حول واقعة خاصة، ففي تلك الآونة كان مبعث أفراد الحاشية بالنصر نفسه أقل مما كانت عليه لورود النبأ نفسه في يوم ميلاد الإمبراطور بالذات، لقد كان أشبه بالمفاجأة الناجحة. كان تقرير كوتوزوف يشير إلى أسماء الضحايا من الروسيين، وفي عدادهم أسماء توتشكوف وباجراسيون وكوتائيسوف. لذلك فإن فاجعة هذه الأنباء اجتمعت بالنسبة إلى الطبقة البيترسبورجية الراقية حول واقعة واحدة هي خسارة كوتائيسوف، فكل منهم يعرفه والإمبراطور نفسه يقدره، لقد كان شابا وفتانا، فكانوا ذلك اليوم إذا ما تقابلوا يقولون لبعضهم: يا له من أمر مذهول! وسط الصلوات! لكن كوتائيسوف، يا للخسارة! آه! للشقاء!
وأصبح فاسيلي يهتف الآن، وهو فخور أن كان متنبئا موفقا: ماذا قلت لكم عن كوتوزوف؟ لقد قلت دائما إنه وحده القادر على هزيمة نابليون.
ولكن في اليوم التالي لم ترد أية أنباء عن الجيش، فمال الرأي العام إلى القلق، وراح أفراد الحاشية يتألمون لرؤية الإمبراطور متألما لافتقاره إلى الأنباء.
أخذ الأنصار يقولون، وقد كفوا عن إطراء كوتوزوف وباتوا يتهمونه بأنه سبب كآبة الإمبراطور: «يا له من موقف، موقفه!» ولم يحاول الأمير بازيل ذلك النهار أن يمتدح «محميه» كوتوزوف، والتزم الصمت كلما ورد ذكر الجنرال القائد الأعلى، بل إن كل شيء ذلك المساء بدا كأنه متواطئ لإبلاغ قلق الأفكار البيترسبورجية إلى الذروة إذا انتشر نبأ رهيب جديد: لقد ماتت الكونتيس بيزوخوف فجأة بتأثير ذلك المرض المريع، الذي كانوا يسرون بذكر اسمه، كانوا يؤكدون رسميا في الأبهاء الكبرى أنها ماتت إثر نوبة ذبحة صدرية، أما في حلقات العارفين فكانوا يروون أن «طبيب ملكة إسبانيا الخاص» وصف لهيلين جرعة صغيرة من دواء خاص يقصد به إحداث بعض الأثر الحسن، لكن هيلين في غمار اضطرابها من أن يظن بها الظنون في ما يتعلق بالكونت العجوز، وبسبب عدم تلقيها أي جواب من زوجها (بيير ذاك التاعس الفاجر)؛ أخذت كمية كبيرة من علاجها وماتت تفترسها الآلام العنيفة قبل أن يمكن إنقاذها. وكانوا يروون أن الأمير فاسيلي والكونت العجوز أرادا توقيف الإيطالي، لكن هذا كان يملك في يده أوراقا تدين المرحومة التاعسة بشدة، حتى اضطر إلى إخلاء سبيله على الفور.
إذن، لقد تركز الحديث حول ثلاث نقاط: التردد الذي كان العاهل عليه وخسارة كوتائيسوف وموت هيلين.
وفي غداة اليوم التالي لتقرير كوتوزوف وصل بيترسبورج خبر سقوط موسكو، فلم يلبث نبأ استسلام موسكو إلى الفرنسيين أن انتشر في المدينة كلها. كان ذلك شيئا مرذولا! وبالنسبة إلى الإمبراطور يا له من موقف ! إن كوتوزوف ليس إلا خائنا. وراح الأمير فاسيلي خلال زيارات التعزية التي كان يتلقاها بمناسبة موت ابنته، يقول عن كوتوزوف هذا نفسه، الذي كان في ما مضى يغطيه بالمديح (ولقد كان مسموحا له في حزنه الأبوي أن ينسى ما قاله من قبل): إنه لا يمكن أن ينتظر خلاف ذلك من كهل أعمى فاجر، ويضيف: إن ما يدهشني هو أن يعهد إلى شخص كهذا بمصير روسيا.
كان يمكن الاحتفاظ ببعض الشكوك طالما ظل النبأ غير رسمي، لكنهم في اليوم التالي تلقوا التقرير التالي من الكونت روستوبتشين:
حمل إلي مساعد عسكري للكونت كوتوزوف رسالة، يسألني فيها ضباطا من الشرطة لمرافقة الجيش على طريق ريازان، ويقول إنه يأسف لترك موسكو يا صاحب الجلالة! إن فعلة كوتوزوف هذه تقرر مصير عاصمة ملككم، سوف تنتفض روسيا عندما تعلم بهجر المدينة التي تمثل عظمتنا، والتي تضم رفات أسلافكم. ولقد أذعنت للجيش وأمرت بنقل كل شيء، فلم يبق لي إلا أن أبكي مصير وطني.
وبعد أن اطلع العاهل على فحوى التقرير، أبلغ كوتوزوف عن طريق الأمير فولكونسكي الكتاب الملكي التالي:
الأمير ميخائيل إيلاريونوفينش، لم أتلق منك أي تقرير منذ التاسع والعشرين من آب، في حين تلقيت يوم الأول من أيلول عن طريق إياروسلافل تقريرا من حاكم موسكو العام ينهي إلي النبأ الكئيب المتعلق بتقريرك هجر هذه المدينة. يمكنك أن تتصور الأثر الذي يمكن أن يحدثه مثل هذا النبأ في نفسي، إنه يدهشني بقدر ما يجعل سكوتك أكثر إقلاقا. أرسل إليك هذه الرسالة بواسطة مساعدي العسكري الجنرال فولكونسكي، الذي عليه أن يطلع على حالة الجيش الحقيقية منك، وعلى الأسباب التي دفعتك إلى اتخاذ قرارك المؤسف.
الفصل الثالث
حتى آخر رجل ...
بعد تسعة أيام على هجر موسكو، حمل رسول من لدى كوتوزوف النبأ رسميا إلى بيترسبورج، وكان ذلك الرسول الفرنسي ميشو الذي لم يكن يعرف الروسية، والذي كان «روسيا قلبا وروحا رغم أنه أجنبي» كما كان يؤكد.
استقبله الإمبراطور على الفور في مكتبه في قصر كاميني - أوستروف. ولقد شعر ميشو الذي لم ير موسكو قط قبل الحرب، والذي لم يكن يعرف اللغة الروسية، بتأثر كبير عندما وجد نفسه في حضرة «عاهلنا الجواد» - كما كتب في ما بعد - ينهي إليه نبأ حريق موسكو «التي كانت نيرانه تضيء طريقه».
وعلى الرغم من أن مبعث «حزن السيد ميشو لا ريب مختلف تماما عنه لدى الروسيين الحقيقيين»، فإن ميشو كان بادي الحزن الشديد عندما أدخل إلى مكتب الإمبراطور، حتى إن هذا بادره على الفور سائلا: هل تحمل إلي أنباء سيئة أيها الزعيم؟
أجاب ميشو زافرا وهو يخفض عينيه: حزينة جدا يا صاحب الجلالة؛ إخلاء موسكو.
سأل الإمبراطور فجأة في انتفاضة غضب: هل سلمت عاصمتي القديمة دون قتال؟!
نقل إليه ميشو باحترام رسالة كوتوزوف التي أورد فيها بصورة خاصة أن كل معركة عند أسوار المدينة مستحيلة، وأن الماريشال عندما وجد نفسه مخيرا بين خسران الجيش وموسكو أو خسران موسكو وحدها فضل خسارة المدينة.
كان الإمبراطور يصغي بصمت دون أن ينظر إلى ميشو، ثم سأل: وهل دخل العدو المدينة؟
فقال ميشو بلهجة مطمئنة: نعم يا صاحب الجلالة، وهي الآن رماد في هذه الساعة، غادرتها وهي تحترق.
لكنه عندما نظر إلى وجه الإمبراطور ذعر للأثر الذي خلفته كلماته فيه، كان الإمبراطور لاهثا ترتعد شفته السفلى وقد امتلأت عيناه الجميلتان الزرقاوان بالدموع.
لكن ذلك لم يدم أكثر من لحظة، قطب حاجبيه فجأة وكأنه يأخذ على نفسه ضعفها ورفع رأسه، ثم قال لميشو بصوت حازم: أرى أيها الزعيم من كل ما وقع أن المشيئة الإلهية تتطلب منا تضحيات جمة ... إنني على استعداد للخشوع لكل إرادتها. ولكن قل لي يا ميشو، كيف غادرت الجيش وهو يرى هكذا، دون أية مقاومة، عاصمتي القديمة تخلى؟ ألم تلاحظ شيئا من خمود العزم ...؟
ولما رأى ميشو أن «عاهله الجواد» استرد هدوءه هدأ بدوره، لكن ارتباكه عاد عندما طرح عليه الإمبراطور سؤالا دقيقا لم يكن قد أعد الرد عليه من قبل، التمس كسبا للوقت: يا صاحب الجلالة، هل تسمح لي بأن أكلمك بصراحة كعسكري وفي؟
فاستأنف الإمبراطور يقول: إنني أتطلب الصراحة دائما أيها الزعيم، لا تخف عني شيئا، أريد مهما كلف الأمر أن أطلع على حقيقة الواقع.
فقال ميشو وعلى شفتيه ابتسامة رقيقة لا تكاد ترى، إذ نجح في أن يعطي جوابه صيغة التلاعب بالكلمات الخفيفة المحترمة: يا صاحب الجلالة، يا صاحب الجلالة، لقد تركت الجيش ابتداء من ضباطه وحتى آخر جندي فيه في رهبة مريعة مخيفة دون استثناء ...
فقاطعه الإمبراطور وقد زوى حاجبيه بعنف: كيف ذلك؟ هل ينهار روسيوي بفعل المصيبة؟! ... أبدا! ...
لم يكن ميشو يتوقع إلا هذا لينعم بنجاح لعبة الكلام التي أعدها، فقال وعلى وجهه ابتسامة تنم عن الاحترام: يا صاحب الجلالة، إنهم يخشون فقط أن تندفعوا جلالتكم بطيبة قلبكم إلى عقد الصلح.
وأكد مبعوث الشعب الروسي: إنهم يتحرقون شوقا للقتال، ليبرهنوا لجلالتكم بتضحية حيواتهم مدى تفانيهم في سبيلكم ...
فقال العاهل المطمئن وقد التمعت عيناه ببريق مهدهد، وربت على كتف ميشو بمودة: آه، لقد طمأنتني يا زعيم.
وأطرق الإمبراطور برأسه وظل بضع لحظات صامتا، وفجأة قال وهو ينصب قامته المديدة ويخاطب ميشو بلهجة مفعمة بالبشاشة والعظمة: حسنا، عد إلى الجيش وقل لبواسلنا، قل لكل أتباعنا الطيبين حيثما تمر إنني عندما لا يبقى جندي واحد سأضع نفسي شخصيا على رأس طائفة النبلاء الغالية وفلاحي الطيبين، وسأنحو على هذا المنوال حتى آخر قطرة من موارد ملكي.
وهتف وهو يزداد حماسا: إن ملكي يقدم لي من الإمكانيات أكثر مما يفكر أعدائي.
وأردف وهو يرفع عينيه الجميلتين اللامعتين من الانفعال نحو السماء: ولكن إذا صدف وكان مكتوبا في ألواح القدر أن ذريتي لن تستمر في اعتلاء عرش أجدادي، حينئذ وبعد أن أستنفد كل الإمكانيات الكائنة تحت سلطتي سأطلق لحيتي حتى تصل إلى هنا - وأشار بيده إلى منتصف صدره - وسأمضي لتناول البطاطا مع الأخير من فلاحي مملكتي، على أن أوقع العار وأمتي العزيزة التي أعرف كيف أقدر تضحياتها ...
نطق الإمبراطور بهذه الكلمات بصوت مضطرب، ثم وكأنه يرغب في إخفاء الدموع التي ملأت عينيه عن ميشو استدار ومضى إلى أقصى مكتبه. وبعد أن تمهل هناك بضع لحظات عاد بخطى واسعة نحو ميشو وضغط على ذراعه فوق المرفق بيد قوية، وكان وجهه الهادئ الجميل متوردا وعيناه تلتمعان بنار العزم والحفظة؛ قال وهو يقرع صدره: أيها الزعيم ميشو، لا تنس ما أقوله لك هنا لعلنا ذات يوم سنستعيد ذكراه بسرور ... نابليون أو أنا لا يمكن لنا بعد الآن أن نملك معا، لقد تعلمت كيف أعرفه ولن يخدعني بعد الآن ...
وصمت الإمبراطور مقطب الحاجبين، ولقد تأثر ميشو بما قاله منذ حين وبأمارات وجهه الحازمة الثابتة، ولقد شعر في تلك اللحظة الجليلة «وهو الروسي قلبا وروحا رغم أنه غريب» - وتلك هي عبارته في مذكراته - بتحمس لكل ما سمعه من أقوال، فكان شعوره الشخصي مضافا إلى شعور الشعب الروسي الذي كان يعتبر نفسه بمثابة الناقل لإرادته، هما ما ظهرا في جواب ميشو الذي قال: يا صاحب الجلالة، إن جلالتكم في هذه اللحظة توقعون على مجد الأمة وخلاص أوروبا.
فصرفه الإمبراطور بإشارة من رأسه.
الفصل الرابع
مهمة روستوف
نحن نتصور رغم أنفسنا، لأننا لم نعش في تلك الفترة التي كانت نصف مساحة روسيا محتلة، وكان سكان موسكو يفرون منها إلى أعماق الأقاليم النائية، وذوو الشأن يجندون الرجال على نطاق واسع للدفاع عن البلاد؛ أن كل الروسيين، من أحطهم قدرا حتى أرفعهم شأنا، ما كانوا يفكرون إلا في التضحية بأنفسهم في سبيل إنقاذ الوطن أو البكاء على ضياعه. والواقع أن كل الروايات عن تلك الحقبة، دون استثناء، مليئة بأعمال التفاني والحب الوطني واليأس والمرارة والبطولة بين الروسيين، لكن الحقيقة لم تكن هذه. إن الأمور تتخذ هذا الشكل لأننا لا نرى في الماضي إلا جانبه التاريخي، الذي يجعلنا نتغاضى عن الجانب الإنساني وعن المصالح الشخصية للأفراد، إن المصالح الشخصية تأخذ في حينه معنى يختلف في شدة أهميته عن معنى الصالح العام دون أن يشعر بذلك أحد. لم يكن السواد الأعظم من أناس ذلك العصر يدركون سير الأحداث لشدة انشغالهم بمصالح الساعة الخاصة، مع ذلك فإن هؤلاء الناس أنفسهم هم الذين كانوا باعثي تلك الأحداث الحقيقيين.
كان أولئك الذين يحاولون فهم سياق الأحداث، والذين يريدون المساهمة فيها بعقلية تجنح إلى التضحية وأعمال البطولة؛ الأعضاء الأقل نفعا في المجتمع، كانوا يرون الأشياء على عكس ما يراها الآخرون فيبدو ما يعملونه بنية حسنة أشبه بالتفاهة والبلاهة، مثلا فيلقا بيير ومامونوف ونهبهما للقرى الروسية، والنسيل الذي كانت السيدات تعده والذي لم يكن يصل إلى الجرحى قط ... إلخ. بل إن أولئك الذين كانوا يحاولون إظهار فهمهم وعواطفهم وهم يناقشون موقف روسيا الحقيقي، كانوا يظهرون في أحاديثهم برغمهم تنويها، سواء بالتكلف أو بالمبالغة أو الكذب، أو يأتون بأحكام خبيثة لا طائل تحتها، فيدينون بعض الرجال حيث لا مجال لإدانة أحد. إن الأكثر بداهة في الأحداث التاريخية هو ممنوعية لمس ثمرات شجرة العلم، والتصرفات اللاشعورية وحدها هي التي تبلغ درجة النضوج، أما الرجل الذي يلعب دورا في حدث تاريخي فإنه لا يفقه قط مدلوله، وهو ما إن يحاول التعمق في فهمه حتى يجدبه فيصبح عقيما.
ولقد كان مدلول ما يحدث حينذاك في روسيا أقل وضوحا بالنسبة إلى رجل يساهم فيه عن قرب منه بالنسبة إلى سواه، ففي بيترسبورج والأقاليم الواقعة على مسافة بعيدة من موسكو كان سادة وسيدات في زي المتطوعين الأنيق يتوجعون على مصير روسيا والعاصمة، ويتحدثون عن التضحية بحياتهم وأشياء أخرى، ولكن في الجيش الذي هجر موسكو ما كانوا يتحدثون عن موسكو تقريبا ولا يفكرون فيها، بل إنهم حتى وهم ينظرون إلى الحريق ما كان أحد يقسم على الانتقام من الفرنسيين، لقد كان كل منشغلا في الدفعة ثلث الشهرية المقبلة من راتبه والمرحلة القادمة، وفي ماتريوشكا بائعة المؤن ... إلخ.
لقد كان نيكولا روستوف الذي فاجأته الحرب وهو يؤدي خدمته العسكرية لا يشعر قط بوجوب التضحية بحياته، مع ذلك فقد كان يضطلع بنصيب عملي في الدفاع عن وطنه، وينظر إلى الأحداث وهي تتعاقب في غير يأس ولا ختم متشائمة، فلو سألوه رأيه عن موقف بلاده الحالي لأجاب بأنه ليس عليه أن يفكر فيه، وأن كوتوزوف وآخرين هم موجودون لمثل هذا العمل، ولكنه بالنظر إلى أنه سمع بإعادة تشكيل الفيالق والأفواج الناقصة، فإنه يعتقد بأنهم سيحاربون وقتا آخر طويلا، وأنه في الظروف الحاضرة لن يصعب عليه في غضون عامين آخرين أن يترأس فيلقا.
وبفضل هذه الطريقة في تصور الأمور قبل بسرور مهمة السفر إلى فورونيج لاستكمال الخيول لفرقته، ليس أن يأسف على عدم استطاعته الاشتراك في المعركة الأخيرة فحسب بل وإنه أظهر ابتهاجه بالذهاب، ووجد زملاؤه ذلك منه طبيعيا تماما.
تلقى نيكولا قبل أيام قليلة من معركة بورودينو المال والأوراق اللازمة، وأرسل طليعة من الفرسان تسبقه، ثم استقل هو نفسه عربة البريد إلى فورونيج.
إن الذي مرت به هذه الظروف، أي الذي ظل خلال أشهر متتالية في جو الحرب وحياة المعسكرات، يستطيع وحده أن يفهم البهجة التي أحس بها نيكولا وهو يغادر منطقة الجيوش بنواجعها وقوافل الأرزاق فيها ومستشفياتها النقالة. ولما وجد نفسه بعيدا عن الجنود وعربات النقل والنفايات المتخلفة عن المعسكرات، ورأى من جديد القرى عامرة بالفلاحين والفلاحات، وبيوت الأسياد والحقول حيث ترعى القطعان، ومنازل عربة البريد بنظارها نصف النائمين؛ استخفه الفرح وكأنه يرى هذه الأشياء للمرة الأولى. والذي أدهشه وفتنه بذات الوقت كان مشهد النساء، كن فتيات صحيحات الأجسام لا يحيط بكل منهن «دزينة» من الضباط، سعيدات راضيات عن دعاباته كضابط عابر سبيل.
وصل نيكولا ليلا إلى نزل فورونيج، وكان على أفضل مزاج فأمر لنفسه بكل ما كان محروما منه في الجيش، وفي اليوم التالي بعد أن أزال لحيته ارتدى أجمل ثوب لديه لم يكن قد لبسه منذ أمد طويل، ومثل لدى الحاكم.
بدا قائد المتطوعين، وهو جنرال مدني عجوز، مفتونا حقا بثوبه ورتبته، استقبل نيكولا بوجه جاهم يعتقد أنه ضرورة ملازمة لمثل منصبه، وسأله بلهجة ذي النفوذ وكأن له الحق بالسؤال أو كان هناك لفحص الموضوع وتقبله أو رفضه. ولقد كان مزاج نيكولا على غاية من الصفاء حتى أن بعث المرح في نفسه.
انتقل إلى مكتب الحاكم بعد أن غادر قائد المتطوعين، وكان الحاكم رجلا قصير القامة نشيطا لطيفا وبسيطا، دل نيكولا على المرابض التي يستطيع أن يحصل على الجياد منها، وزكى له وسيطا ماهرا في المدينة ومالكا يقطن على بعد عشرين فرسخا يستطيع أن يجد عنده أفضل الأفراس، وبالإيجاز قدم له الحاكم كل عون.
قال له وهو يستأذن في الانصراف عنه: أنت ابن الكونت إيليا أندرييفيتش؟ لقد كانت زوجتي صديقة حميمة لأمك، إنني أستقبل الزوار في بيتي كل يوم خميس، ولما كان اليوم يوم خميس فأرجو أن تحضر دون حاجة إلى رسميات.
ولدى خروجه من عند الحاكم استقل نيكولا عربة بريد، ومضى يصحبه رقيب طليعته لزيارته المالك على بعد عشرين فرسخا ومعاينة خيوله، لقد كان كل شيء في بدء إقامته في فورونيج مسليا وسهلا بالنسبة إليه، وسار كل شيء على ما يرام بسبب مزاجه المشرق وحده.
كان المالك الذي ذهب نيكولا لزيارته ضابطا قديما في سلاح الفرسان، عزبا مخشوشنا، عليما خبيرا بالجياد نقية الدم، صيادا ومالكا لكحول الخوخ الذي مر على تقطيره مائة عام، ولخمر هنغاري معتق وخيول أصيلة رائعة.
اشترى نيكولا دون مساومة سبعة عشر مهرا منتقاة، كانت ستساعد على حد قوله في إبراز كتيبته الراكبة، ودفع ستة آلاف روبل. وبعد أن تناول طعاما جيدا أترعت فيه الخمرة الهنغارية، عانق المالك الذي بات يخاطبه بصيغة المفرد، وعاد يجتاز طرقا فظيعة دون أن يخسر شيئا من مزاجه الرائق، وأخذ يحث سواقه باستمرار كي يصل في الوقت المناسب ويحضر سهرة الحاكم.
وبعد أن بلل رأسه بالماء البارد أبدل ثيابه وتعطر، ثم دخل بيت الحاكم رغم تأخره عن الموعد وفي رأسه هذه الجملة المعدة: التأخير أفضل من عدم الحضور.
لم تكن السهرة راقصة، كما لم يعلن أحد عن رقص خلالها، ولكن كل مدعو كان يعرف أن كايترين بيتروفنا ستعزف على بيانها مقطوعات فالس وإيقوسيات، وأنه بالتالي لا بد من الرقص، لذلك فقد توافدت السيدات في ثياب الرقص.
كانت حياة الأقاليم عام 1812 شبيهة تماما بالحياة المألوفة فيها، مع فارق واحد هو أن الحميا قد زادت في المدينة بسبب توافد أسر غنية عديدة من موسكو، وأنه كان يخيم في كل مكان - وهي ميزة اختص بها ذلك العهد التذكاري - إسراف كبير تبعا للمثل القائل: بعدي الطوفان، وأنه بدلا من المحادثات الفارغة حول المطر والصحو وصحة الأشخاص من المعارف التي لا بد عنها في مثل هذا الظرف؛ كان الحديث يدور حول موسكو والحرب ونابليون.
كان الأشخاص المجتمعون لدى الحاكم باقة مجتمع فورونيج.
كان هناك عدد كبير من السيدات عرف نيكولا كثيرات منهن في موسكو، ولكن لم يكن هناك رجل واحد ينافس فارس وسام القديس جورج فارس التعبئة اللامع وبنفس الوقت اللطيف المعتبر الكونت روستوف. وكان بين الرجال أسير إيطالي من الجيش الفرنسي، فشعر نيكولا بوجود هذا الأسير برفعة قيمته الشخصية بوصفه بطلا روسيا، فكان ذلك بالنسبة إليه أشبه بالنصر والافتخار، ولما تمالكه هذا الشعور خيل إليه أن كلا من الموجودين يرى الأمر كما يراه، لذلك فقد أظهر حيال الإيطالي غاية من التأدب المفعم بالحرص والترفع.
لم يلبث روستوف إثر دخوله في زي الفرسان، ناشرا حوله موجات من العطر والخمرة الجيدة، وبعد أن كرر مرات عديدة عبارته «التأخر أفضل من التخلف» وأعيد ذكرها مرارا؛ أن أحيط بجمع غفير وحطت الأنظار كلها عليه فشعر فجأة بأنه مصطفى كل هؤلاء الإقليميين، الأمر الذي يكون مقبولا دائما، والذي كان أكثر تقبلا عنده بسبب حرمانه الطويل من ذلك الإحساس المسكر بالوقوع موقع الرضى في النفوس. ففي المراحل التي قطعها والمنازل التي حل فيها وكذلك لدى المالك المولع بالموسيقى، أعجبت الخادمات بالتفاتاته، أما هنا في سهرة الحاكم فقد راح عدد كبير من السيدات الشابات والأوانس - على ما بدا له - ينتظرن بصبر نافذ أن يتنازل بالالتفات نحوهن ، كانت السيدات والأوانس يتحدثن بظرف معه، وبنفس الوقت لم يعد للكهول من شاغل إلا تزويج هذا الفارس الأنيق، وكانت زوجة الحاكم نفسها في عداد هؤلاء؛ «ولقد استقبلت روستوف وكأنه أحد الأقارب المقربين، ولم تلبث أن راحت تخاطبه بصيغة المفرد وتناديه باسمه المجرد نيكولا.»
بدأت كايترين بيتروفنا بالفعل تعزف الفالس والإيقوسيات، وبدأ الرقص فأسر نيكولا ببراعته كل هذا الجمع من الإقليميين أكثر فأكثر، لقد أدهشهم بطريقته الطليقة الرشيقة في الرقص حتى إنه نفسه فوجئ باندفاعه، إنه لم يرقص قط مثل ذلك في موسكو، بل إنه كان قمينا بأن يجد هذه الطريقة الطليقة مبتذلة ورديئة. لكنه هنا شعر بحاجته إلى إدهاش الموجودين جميعا، وأن يعمل شيئا خارقا يعتبرونه ابتكارا من العاصمة لم يبلغ الأقاليم بعد.
لم تتوقف أنظار نيكولا خلال السهرة كلها إلا على شقراء فاتنة سامنة، ذات عينين زرقاوين، كانت زوجة أحد الموظفين في المنطقة، وكان روستوف ممتلئا بتلك الثقة الساذجة التي للشبان المشتطين في المرح، الذين يعتقدون أن نساء الغير صنعن من أجلهم، لذلك فإنه لم يفارق تلك السيدة لحظة واحدة، وراح يعامل زوجها في ألفة أنيسة بل وفي شيء من التآمر، وكأنهما دون أن ينطقا به يعرفان مدى التفاهم الذي سيجمع بينه هو نيكولا وبين زوجة هذا الزوج. غير أن الزوج رغم ذلك لم يكن يبدو عليه أنه يشاطره هذا الاعتقاد قط، فكان يعمل جاهدا على لقاء روستوف بوجه عبوس. لكن سلامة طوية نيكولا كانت متخطية كل حد، حتى إن الزوج كان أحيانا يرى نفسه رغما عنه مدفوعا إلى مشاطرته ذلك الاعتقاد. وفي تلك الأثناء كان وجه الزوجة يزداد حيوية وتضرجا كلما شارفت السهرة على نهايتها، بخلاف وجه الزوج الذي كان يزداد كآبة ورزانة، وكأن جرعة البهجة محدودة كلما أوفت على جانب منها هبط مستوى المتبقي منها.
الفصل الخامس
مشروع زواج
استلقى نيكولا مبتهجا على مقعده وقد أفرط في الاقتراب من المرأة الشقراء الشابة، وراح يغدق عليها كل أنواع الإطراء.
كان لا يني يعقد ساقيه ويبسطهما وهما ملفوفتان في سراويل ركوب ضيقة الأكمام، تفوح منه رائحة طيبة، يتأمل السيدة فخورا بنفسه وبشكل حذائيه الأنيقين، يحدث الشقراء بأنه ينوي هنا في فورونيج اختطاف سيدة معينة. - وأية سيدة؟ - أكثرهن فتنة وكمالا، عيناها - ونظر نيكولا إلى جارته - زرقاوان وفمها مرجاني وبشرتها ... - ونظر إلى كتفيها - وقامتها تشبه قامة ديانا ...
واقترب الزوج وسأل زوجته عن موضوع الحديث وهو كالح الوجه، فقال نيكولا وهو ينهض بأدب: آه! ها أنتذا يا نيكيتا إيفانيتش.
وكأنه كان راغبا في إعلامه بفحوى دعابته، إذ راح يشرح له نيته في اختطاف شقراء معينة.
ضحك الزوج ضحكة مغتصبة والزوجة بانشراح، واقتربت ربة البيت العطوف وعلى وجهها أمارات لومه وقالت: إن آنا إينياتييفنا تود أن تراك، هيا يا نيكولا، إنك تسمح لي أن أناديك كذلك، أليس كذلك؟
حريق موسكو.
وضغطت على كلمتي آنا إينياتييفنا بشكل خاص، جعل روستوف يدرك على الفور أنها سيدة مهمة. قال يجيبها على سؤالها: بالطبع يا عمتاه، من هي؟ - هي آنا إينياتييفنا مالفنتسيف، ولقد تناهى إليها ذكرك عن طريق ابنة أختها التي أنقذتها ... هل تخمن من هي؟
هتف نيكولا: لقد أنقذت الكثيرات! - إن ابنة أختها هي الأميرة بولكونسكي، إنها هنا في فورونيج مع خالتها، أوه! أوه! كم تضرج وجهك! هل هناك شيء ما؟ ... - أبدا، أوه! أبدا يا عمتاه. - هيا، حسنا ... أوه! كم تبدو فتى مضحكا!
قادته امرأة الحاكم قرب امرأة مديدة القامة ضخمة الجثة ترتدي قلنسوة زرقاء، كانت قد انتهت لتوها من لعب الورق مع أرفع شخصيات المدينة شأنا، وكانت هذه هي السيدة مالفنتسيف خالة الأميرة ماري، أرملة غنية لا أولاد لها، تقضي العام كله في فورونيج، وكانت واقفة تدفع ديونها عندما اقترب روستوف، فنظرت إليه وهي تطرف بعينيها باهتمام، ثم استمرت تعرب عن استيائها للجنرال الذي هزمها في اللعب.
قالت وهي تمسك يده: تفتنني معرفتك يا عزيزي، أدخل السرور على نفسي بالمجيء لزيارتي.
وبعد أن فاهت ببضع كلمات عن الأميرة ماري وأبيها المرحوم الذي لم يبد عليها أنها تحبه، وبعد أن سألته عما إذا كانت لديه أنباء عن الأمير آندريه، الذي بدا هو الآخر غير مرضي عليه كل الرضى من طرفها، صرفته السيدة العجوز الرفيعة وهي تكرر دعوتها.
وعد نيكولا بأن يزورها، واحمر وجهه مرة أخرى وهو ينحني للسيدة مالفنتسيف. كان يشعر وهو يسمع الحديث عن الأميرة ماري بشعور لا يستطيع تفسيره، شعور يمتزج فيه الارتباك بالخوف.
أراد نيكولا بعد أن غادر السيدة مالفينتسيف أن يلحق بجلبة الرقص لولا أن يد زوجة الحاكم السمينة انحطت على ذراعه، قالت له إن لديها ما تحدثه به، وقادته إلى مخدعها فلم يلبث الموجودون في المخدع أن خرجوا متسللين.
قالت زوجة الحاكم وعلى وجهها الصغير الطيب أمارات الجد: حسنا يا عزيزي، هل تعرف تماما الزوجة اللازمة لك؟ هل تريد أن أتحدث باسمك؟
فاستعلم نيكولا: من هي يا عمتاه؟ - الأميرة. إن كايترين بيتروفنا تقول إن ليلي تناسبك، لكنني أرى أنا الأميرة أفضل، هل ترغب في أن أتدخل بالأمر؟ إنني واثقة من أن أمك ستشكرني، إنها فتاة فاتنة حقا! ثم إنها ليست دميمة إلى هذا الحد!
ردد نيكولا وهو يشعر بشيء من المهانة: مطلقا! أنا يا عمتاه بصفتي عسكريا لا أطلب ولا أرفض شيئا أبدا. ولقد أضاف هذه العبارة دون أن يدع لنفسه وقتا للتفكير فيما يقول. - حسنا، فكر إذن. إنها ليست دعابة. - ما هو الذي ليس دعابة؟
قالت وكأنها تخاطب نفسها: كلا، كلا، ثم، في عرض الكلام يا عزيزي، إنك شديد الدأب بالقرب من الأخرى، الشقراء، إن الزوج يثير الشفقة حقا ...
فاعترض نيكولا ببساطة قلبه: ولكن لا، لا، إننا أصدقاء ممتازون. ما كان يخطر له على بال أن هذه الطريقة بقضاء الوقت، المستحبة لديه كثيرا، يمكن أن تكون غير ذلك بالنسبة إلى الآخرين.
حدث نيكولا نفسه فجأة خلال العشاء: «أية رعونة صدرت عني في حديثي مع زوجة الحاكم؟ إنها تريد أن تزوجني بجدع الأنف! وسونيا؟» ولما استأذن ربة البيت منصرفا، وكررت له باسمة: «فكر في الموضوع جيدا»، انفرد بها وقال: على أية حال يا عمتاه يجب أن أقول لك ... - ماذا يا صديقي ؟ تعال من هنا لنجلس.
شعر نيكولا فجأة بالحاجة الملحة إلى الإفضاء بمكنونات نفسه إلى هذه المرأة المجهولة منه تقريبا، وأن يقول لها ما لم يكن ليصرح به إلى أمه أو إلى أخته أو صديقه، ولما تذكر فيما بعد هذه النوبة من الإخلاص التي لا يبررها مبرر، خيل إليه - كما يبدو دائما - أنه ارتكب حماقة جسيمة، مع ذلك فإن هذه النوبة من الإخلاص إضافة إلى بعض الوقائع الصغيرة الأخرى، عادت عليه وعلى ذويه كلهم بنتائج جسيمة، قال: إليك الموضوع يا عمتاه، إن أمي تود منذ زمن بعيد أن تزوجني فتاة غنية، لكن هذه الفكرة وحدها تثير اشمئزازي، إنني لا أريد أن أتزوج كسبا للمال.
فقالت زوجة الحاكم: أوه! إنني أفهم تماما. - بيد أن الأميرة بولكونسكي شيء آخر؛ أولا: أعترف لك بأنها تعجبني كثيرا، إنها توافق قلبي، ومنذ أن قابلتها في ملابسات شديدة الغرابة ما زلت أفكر دائما في أنها مشيئة القدر. فكري معي: لقد كانت أمي تفكر فيها منذ زمن بعيد وأنا ما كنت أجد المناسبة لمقابلتها، ولست أدري كيف كان يقع ذلك، لكننا ما كنا نتقابل قط، وطالما كانت أختي ناتاشا مخطوبة لأخيها ما كنت أستطيع الاقتران بها، ولقد كتب ألا أقابلها إلا بعد أن فصمت عرى زواج ناتاشا، وبعد كل شيء ... نعم، كل ما ... إنني لم أتحدث بهذا قط إلى إنسان، ولست أريد التحدث عنه، إنك وحدك ...
ضغطت زوجة الحاكم على مرفقه بحركة متوددة. - هل تعرفين ابنة عمي سونيا؟ إنني أحبها، ولقد وعدتها بالاقتران بها وسأتزوجها ...
ثم أعقب وهو متردد والحمرة تغزو وجهه: بذلك ترين أنه لا يجب التفكير في هذا الموضوع. - يا عزيزي، يا عزيزي، ما هذا القول؟ ولكن تمعن، إن سونيا لا تملك شيئا، وأنت نفسك تقول إن أمور أبيك في حالة سيئة، ثم أمك؟ إن مثل هذا الزواج سيقتلها، كن واثقا من ذلك. أما فيما يتعلق بسونيا، ماذا ستكون حياتها إذا كانت ذا قلب حساس؟ أمك في يأس وثروتك في خطر ... كلا يا عزيزي، يجب أن تفهما الأمور سونيا وأنت.
صمت نيكولا إذ كانت هذه الاستنتاجات لا تروقه قط، قال بعد فترة صمت: على كل حال يا عمتاه إن هذا لا يمكن أن يكون، ثم هل ترغب الأميرة بي زوجا ...؟ أضف إلى ذلك أنها في حداد، هل يمكن مجرد التفكير في الأمر؟
قالت زوجة الحاكم: وهل تتصور أنني سأزوجك من فوري؟ هناك وسيلة ووسيلة.
فقال نيكولا وهو يقبل يدها السمينة: يا لك من مزوجة بارعة يا عمتاه ...!
الفصل السادس
الزيارة الأولى
بعد لقائها بنيكولا روستوف، وجدت الأميرة ماري عند وصولها إلى موسكو ابن أخيها مع مربيه ورسالة من الأمير آندريه، يشرح لها فيها خط المسير لتصل إلى فورونيج عند عمتها مالفنتسيف. ولقد كبتت مشاغل الرحلة والقلق الذي تشعر به بسبب أخيها وإقامتها في مسكن جديد والوجوه الجديدة والعناية التي وجب أن تصرفها في تثقيف ابن أخيها، كل ذلك كبت في نفسها ذلك اللون من السأم الذي ناءت به طيلة فترة مرض أبيها وبعد موته، وخصوصا منذ أن تعرفت على روستوف، لقد كانت حزينة، وكانت خسارة أبيها تختلط في قلبها بخسارة روسيا. والآن بعد أن قضت شهرا في هدوء عميم، بات حزنها أشد إيلاما من أي وقت مضى، كانت تشعر أنها مهمومة وفكرة الخطر الذي يتعرض له أخوها المخلوق الأقرب إليها الذي بقي لها لا تني تعذبها. وكانت تعنى كل العناية بتثقيف ابن أخيها، وهي المهمة التي ما فتئت تعتبر نفسها عاجزة عن إنجازها، لذلك فقد اتخذت في أعماق نفسها قرارا بخنق الأحلام والآمال التي أيقظها لقاؤها مع روستوف في نفسها.
في اليوم التالي للسهرة جاءت زوجة الحاكم إلى بيت السيدة مالفنتسيف، وتناقشت معها في خططها بعد أن أخطرتها بأن الأمر في الظروف الحاضرة لا يعني خطوبة رسمية، بل مجرد الجمع بين الشابين والسماح لهما بالتعارف، ولما حصلت على موافقة الخالة راحت زوجة الحاكم تتحدث عن روستوف أمام ماري فتمتدحه، وتروي كيف أنه تضرج وجهه عندما نطقت باسم الأميرة. أما ماري فقد شعرت بضيق بدلا من شعورها بالفرح، لأن عزمها القلبي أخذ ينهار من جديد ليترك المجال للرغبات والشكوك واللوم والآمال.
ظلت الأميرة ماري خلال اليومين التاليين تنتظر زيارة روستوف، وهي لا تني تفكر في الموقف الذي ستتخذه حياله، فحينا تقرر أن لا تظهر في البهو عندما يحضر لزيارة خالتها، لأنه لا يليق بها أن تتقبل الزيارات بسبب حدادها، وحينا تفكر أن ذلك سيكون غلظة من جانبها بعد الذي عمله من أجلها، تارة تواتيها فكرة أن لخالتها ولزوجة الحاكم وجهات نظر معينة تتعلق بها وبروستوف، إذ كانت نظراتهما وأقوالهما تؤيد هذا الافتراض أحيانا، وتارة تحدث نفسها بأنها مخطئة بالتفكير على هذا النحو: ألا يجب أن تفكر هاتان السيدتان بأن أفكارا تتعلق بالزواج تعتبر، وهي في وضعها الراهن لم تنزع بعد شارة الحداد، إهانة ليس لها فحسب بل لذكرى أبيها كذلك؟ وعندما تفكر أنها تتقدم نحوه كانت الأميرة ماري تسمع سلفا الكلمات التي سيقولها والتي ستجيبه بها، فكانت تلك الكلمات تبدو لها تارة على جمود لا يحتمل، وطورا حافلة بشتى المعاني. وفضلا عن ذلك، كانت تخاف الاضطراب الذي تشعر به والذي سيستولي ولا بد عليها فيفضحها للنظرة الأولى.
ولكن عندما جاء الخادم إلى البهو بعد صلاة يوم الأحد يعلن قدوم الكونت روستوف، لم تظهر الأميرة ماري أي ارتباك باستثناء الحمرة الخفيفة التي صبغت وجنتيها والتماع عينيها ببريق أشد وميضا.
سألت الأميرة ماري بصوت هادئ، وقد دهشت هي نفسها لقدرتها على الظهور بمثل هذا السكون وعلى مثل هذا المظهر الطبيعي: هل رأيتيه من قبل يا خالتي؟
دخل روستوف إلى الحجرة فخفضت الأميرة رأسها وكأنها تتيح الوقت للزائر لتقديم مجاملاته إلى خالتها، ثم رفعت جبهتها في اللحظة نفسها التي استدار فيها نحوها فلاقت عيناها المتوهجتان نظرته، نهضت بابتسامة مرحة ومدت له يدها الدقيقة الرخصة بحركة كيسة جديرة بها، وراحت تتحدث بصوت اهتزت فيه لأول مرة نبرات نسوية وعميقة، فنظرت الآنسة بوريين التي كانت موجودة في البهو إلى الأميرة ماري بدهشة، لأن أية غنية ماجنة ما كانت تستطيع التصرف على نحو أفضل لدى ظهور رجل تريد أن تروق في عينيه.
تساءلت الآنسة بوريين: «أهو اللون الأسود الذي يناسب وجهها، أم تراها اكتسبت جمالا دون أن ألاحظ؟! من أين لها بهذا الظرف وهذه اللباقة؟!»
ولو أن الأميرة ماري كانت في تلك اللحظة في حالة تفكير، لدهشت أكثر من الآنسة بوريين نفسها للتغيير الذي طرأ عليها، لم تكد ترى ذلك الوجه الفتان الذي تحبه حتى تملكتها حياة قوية جديدة، وجعلتها تتصرف وتتحدث تبعا لقوتها، لقد تحول وجهها فجأة ودبت الحياة في تقاطيعها، كمثل زجاج مصباح رسم عليه فنان خطوطا خشنة قاتمة ومحرومة من أي معنى، لا يكاد يضيء داخله حتى تأخذ تلك الخطوط مظهرا أخاذا بجماله، كذلك أصبحت تقاطيع الأميرة ماري جديدة في مظهرها، لقد بزغ إلى فجر الحياة لأول مرة ما كان يعتلج في روحها النقية من إحساسات قلبية، أخذت حياتها النفسية كلها وكل ما يسبب عذابها وآلامها واندفاعاتها نحو الخير والضراعة والحب والتضحية، كل ذلك أخذ يتألق الآن في عينيها المشعتين وفي ابتسامتها وفي كل قسمة من قسمات وجهها الحاني.
ولقد أحس روستوف بذلك إحساسا مسبقا، بلغ من شدة وضوحه أنه بدا كأنه عرف حياة الأميرة ماري كلها، أدرك أن المخلوقة الماثلة أمامه تختلف كل الاختلاف عن كل من صدفهن في حياته حتى الآن، وأنها أفضل منهن جميعا وبصورة خاصة أفضل منه هو.
لبثت المحادثة من أكثر الأحاديث سطحية، تكلموا عن الحرب وهم يبالغون في إظهار غمهم دون تعمد أسوة بكل الناس، وتكلموا عن مقابلتهم الأخيرة، فأظهر نيكولا لباقة ساعدته على الانتقال إلى موضوع آخر، فتحدثوا عن زوجة الحاكم وعن أقربائهم المتبادلين.
لكن الأميرة ماري لم تنبس بكلمة عن أخيها، بل سارعت بدورها تحول مجرى الحديث عندما نوهت خالتها بالأمير آندريه في سياق الكلام، وكان واضحا أنها إذا كانت تستطيع أن تعبر عن آلام روسيا بعبارات اصطلاحية، فإن أخاها قريب جدا من قلبها حتى ليتعذر عليها أن تتحدث عنه في عرض الحديث. لاحظ نيكولا ذلك كما لاحظ بفراسة من قبل أن ذويه لا يمكن أن يخمنوا درجات نفسية الأميرة ماري، تلك الدرجات التي لم تزد إلا رسوخ الاعتقاد فيه بأنها امرأة ممتازة تماما. لقد كان نيكولا يحس بمثل إحساس الأميرة ماري، لذلك كان يضطرب ويتضرج وجهه احمرارا كلما ذكروا الأميرة أمامه، بل وكلما فكر فيها ، لكنه في حضرتها كان يشعر بارتياح تام ويقول ما يتوارد في ذهنه بساعته وليس ما أعد من قبل، ويجد دائما الكلمة المناسبة الصحيحة.
خلال زيارته القصيرة اقترب نيكولا في فترة صمت من ابن الأمير آندريه الصغير كما هي العادة دائما كلما وجد في المكان أطفال، ولاطفه وسأله عما إذا كان يحب أن يصبح فارسا، ثم حمله بين ذراعيه وجعله يقفز ببهجة، وألقى نحو الأميرة ماري نظرة مختلسة، وكانت هذه تتبع الطفل الذي تحبه بنظرة حانية سعيدة خجلى، وهي بين ذراعي الرجل الذي تحبه، فلاحظ نيكولا تلك النظرة واحمر وجهه من السرور، وكأنه أدرك كنهها ثم قبل الصغير من كل قلبه.
ما كانت الأميرة ماري تخرج بسبب حزنها، فقدر نيكولا أنه ليس من المناسب تكرار الزيارة، لكن زوجة الحاكم لم تكف عن تدابيرها الخاصة بالزواج، وظلت تردد أمام نيكولا ما قالته الأميرة عنه من كلام مفتن، وللأميرة ما يقوله روستوف، وهي تلح دائما على روستوف أن يصارحها برغبته، بل إنها نظمت لبلوغ هذه الغاية لقاء للشابين عند رئيس الكهنة قبل القداس.
ورغم أن روستوف أخطر زوجة الحاكم بأنه لن يعرب عن عزمه للأميرة ماري في ذلك اللقاء، فإنه وعد بالحضور.
ووقع الأمر كما قدر عندما لم يسمح روستوف لنفسه أن يشك في جودة وسمو ما يراه كل شخص كاملا، وبعد صراع قصير ولكن مخلص بين الرغبة في تسوية حياته بشكل معقول والخضوع المتوجب عليه للظروف، اختار الجانب الأخير واستسلم للقدر الذي كان يجرفه بقوة لا تقاوم كما كان يشعر. وكان يعرف أن إعلان عواطفه للأميرة ماري بعد وعوده لسونيا، يعتبر نذالة من جانبه، ويعرف كذلك أنه لن يكون قط نذلا، لكنه كان يعرف أيضا من أعماق نفسه أنه إذا ترك الأشخاص يعملون والأشياء تجرفه إلى الأمام، فإنه لا يرتكب بذلك سوءا بل على العكس ينجز شيئا بالغ الخطورة، خطيرا لدرجة لا يمكن مقارنة كل ما عمله في حياته به.
لم يبد أي تغيير على شكل حياته الخارجي بعد مقابلته مع الأميرة ماري، مع ذلك فإن كل ما كان يفتنه من قبل أخذ يفقد فتنته. كان يفكر فيها غالبا، مع ذلك لم يكن تفكيره في الأميرة ماري كمثل طريقته في التفكير بكل الفتيات اللاتي قابلهن في المجتمع، كما أنه لم يكن يشعر حيالها بالهوس الذي استولى عليه لفترة ما نحو سونيا. كان ككل الشبان الشرفاء تقريبا، عندما يفكر بفتاة يرى فيها الزوجة المنتظرة ويميز في خياله شروط حياته العائلية:
الزوجة الجالسة قرب السماور في ثوب منزلي أبيض، عربة السيدة، الأولاد الذين يقولون ماما وبابا، تعلق أحدهم بالآخر ... إلى آخر ما هنالك. وكانت هذه اللوحات عن المستقبل تملؤه بالارتياح. لكنه عندما كان يفكر في الأميرة ماري التي يريدون أن يزوجوه بها، لم يكن يستطيع أن يتخيل أية حياة زوجية؛ فكلما حاول التخيل بدا له كل ما أقامه خطأ وفي غير محله، فكان ذلك يترك في نفسه شعورا بالقلق العميق.
الفصل السابع
حرية نيكولا
بلغت أنباء معركة بورودينو الرهيبة وخسائرنا الجسيمة بين قتلى وجرحى وكذلك إعلان خسارة موسكو؛ مدينة فورونيج في أواسط أيلول، وعلمت ماري عن طريق الصحف بجرح أخيها، ولما كانت لا تعرف عنه شيئا دقيقا فقد استعدت للسفر بحثا عنه كما تناهى إلى نيكولا الذي لم يرها حين ذلك.
أما روستوف فإن نبأ معركة بورودينو وهجران موسكو لم يحدث فيه يأسا ولا غضبا ولا رغبة في الانتقام ولا أي شعور آخر من هذا النوع، لكنه أحس فجأة بسأم في فورونيج وأنه ليس في مكانه ولا كما يشتهي، فكانت المحاضرات التي يسمعها حول هذا الموضوع تبدو له نشازا، ما كان يعرف كيف يفكر في تلك الحال، لكنه كان يظن أن الأمور ستنجلي له حال عودته إلى فوجه، لذلك فقد عجل في الانتهاء من شراء الجياد وهو يتبرم كيفما اتفق من خدمه ورقيب كوكبته.
أقيم قبل سفره ببضعة أيام قداس جليل في الكاتدرائية احتفالا بنصر الجيوش الروسية حضره نيكولا، اتخذ لنفسه مكانا وراء الحاكم قليلا وعلى سيماه خطورة مصطنعة، وحضر الاحتفال الديني وهو يفكر في شيء مختلف تماما. فلما انتهى القداس استدعته زوجة الحاكم وسألته وهي تشير إلى شبح في ثياب سوداء وراء جوقة المرتلين: هل رأيت الأميرة؟
عرف نيكولا على الفور الأميرة ماري ليس بصورة وجهها الجانبية التي بدت تحت القبعة فحسب، بل كذلك من شعور التحفظ والوجل والحنان الذي استبد به، وكانت على صدرها شارات الصليب الأخيرة قبل خروجها من الكنيسة وهي غارقة في انشغالها.
دهش لمرأي وجهها، لقد كان ذلك الوجه نفسه الذي يعرفه والذي نقشت عليه الأحاسيس الداخلية، لكنه كان مشعا بضوء مختلف، إنه يحمل أمارات الحزن المؤثرة والصلاة والأمل. وكما وقع له من قبل في حضرة الأميرة ماري لم ينتظر نيكولا موافقة زوجة الحاكم ليقترب نحوها، كما لم يتساءل عما إذا كانت الآداب واللياقة تسمح له بالدنو من الأميرة ماري في صلب الكنيسة، بل مضى إليها وقال لها إنه علم بمصيبتها الحديثة، وإنه يشاطرها الأسى من كل جوارحه.
ولم تكد تسمع صوته حتى أضاء وجهها نور متوهج، نور أضاء حزنها وسرورها معا. قال روستوف: كنت أعتزم أن أقول لك يا أميرة بأن الأمير آندريه نيكولا ييفيتش يرأس فوجا، وأنه لو فقد حياته لنشرت الصحف ذلك.
نظرت إليه الأميرة دون أن تدرك كنه أقواله، وهي شديدة السعادة بالحماسة التي قرأتها على قسمات وجهه.
أضاف روستوف: وأعرف أمثلة كثيرة كانت فيها الجروح التي تحدثها القذائف - وكانت الصحف تدعوها القنابل - إذا لم تقتل لفورها تبدو على العكس طفيفة، يجب التأمل بالأفضل وإنني واثق أن ...
فقاطعته الأميرة ماري وشرعت تقول: أوه! سيكون ذلك شديد الهو ... ل...!
وأطرقت برأسها بحركة كيسة ككل الحركات التي تصدر عنها في حضوره، وقد منعتها شدة التأثر عن إتمام جملتها، ثم ألقت عليه نظرة عرفان وتبعت خالتها.
لم يذهب نيكولا ذاك المساء في زيارة إلى أي مكان، بل عكف في غرفته على ترتيب حساباته مع باعة الخيول، فلما فرغ من أعماله كان الوقت متأخرا جدا للخروج ومبكرا جدا للنوم، لذلك فقد ظل يذرع غرفته وهو يفكر في مقدره، الأمر الذي ندر أن وقع له مثله.
لقد أحدثت فيه الأميرة ماري من قبل أثرا عنيفا في سمولنسك، ولقد أدهشته الظروف الخاصة التي التقى بها فيها، هي التي عنتها أمه على اعتبارها أغنى زوجة يمكن الحصول عليها، لذلك فقد راح يتأمل الفتاة بعناية خاصة، وفي فورونيج لم تترك زيارته لها ذكرى مستحبة في نفسه فحسب، بل تركت كذلك تأثيرا قويا. لقد حرك مشاعره جمالها الخاص الجمال الخلقي الذي اكتشفه فيها، وها هو ذا يستعد للرحيل دون أن تواتيه فكرة الأسف على مغادرته المدينة لأنه سيحرم من رؤيتها. لكن اللقاء الذي جرى له معها في الكنيسة، كان ينقش صورة الأميرة في قلب نيكولا - وهو الذي لمس ذلك - نقشا عميقا أكثر مما كان يتوقع، نقشا أعمق مما كان يرجوه لراحته ... كان ذلك الوجه الدقيق الشاحب الحزين وتلك النظرة المشعة والحركات الموزونة المليئة بالانسجام وذلك الفم الضعيف العميق الذي تنطق به قسماتها؛ كل ذلك كان يهز نيكولا ويستفز ميله، ما كان يستطيع احتمال رؤية دلالة تفوق فكري على وجه رجل - وهذا هو سبب امتناعه عن حب الأمير آندريه - كما كان يحس بالاحتقار لكل ما يدعوه فلسفة ولكل أصحاب الأوهام. لكن الحزن عند الأميرة ماري كان ينم عن عمق هذا العالم الفكري المجهول منه، هذا العالم الذي يجذبه بقوة لا تقاوم.
حدث نفسه: «لا ريب أنها فتاة مدهشة! ملك حقيقي! لماذا لست حرا؟ لماذا تعجلت إلى هذا الحد مع سونيا؟!» وراح رغما عنه يقارن بين الفتاتين؛ ففي الواحدة فقرها بهذه المواهب الفكرية التي يقدرها بقدر ما تنقصه هو شخصيا، وفي الأخرى ثروتها منها. أخذ يحاول أن يتمثل ماذا كان سيتم لو وجد نفسه حرا من كل قيد؛ كيف كان سيعلن عن حبه لها؟ كيف كانت ستصبح زوجته؟ ولكن ما فائدة التفكير فيها؟ كان يشعر بالانزعاج فكانت هذه الصور كلها تختلط أمام عينيه، لقد كانت لوحة حياته المقبلة مع سونيا مخطوطة منذ أمد طويل، وكل شيء فيها بسيط وواضح، لأن كل شيء متوقع فيها، ولأنه لا يجهل شيئا عن ابنة عمه، في حين أنه مع الأميرة ماري عاجز عن تكوين صورة للمستقبل، إنه لا يفهمها بل يحبها فحسب.
أن يحلم في سونيا أمر مبهج يشبه اللعب، أما أن يحلم في الأميرة ماري فشيء صعب بل ومخيف بعض الشيء.
حدث نفسه: «كيف كانت تصلي؟! كان واضحا أن روحها كلها تنساب في صلاتها، صحيح أن الإيمان ينقل الجبال وأنني واثق من صلاتها ستقبل، لماذا لا أسأل الله أنا الآخر ما أنا في حاجة إليه؟ ولكن ما هي حاجتي؟ أن أكون حرا، أن أفصم علاقتي مع سونيا، لن ينجم عنها إلا ما يؤسي: الارتباكات المالية، حزن «ماما» ... هذه الهموم ... متاعب، متاعب رهيبة، ثم إنني لا أحبها في أعماق نفسي، كلا، لا أحبها كما ينبغي، آه! يا ربي أخرجني من هذا المأزق البشع الذي لا مخرج له!» وقال فجأة وهو يبتهل رغم أنفه: «نعم، إن الإيمان ينقل الجبال، ولكن يجب أن تكون النفس مشبعة به لا أن نصلي كما نفعل نحن ناتاشا وأنا عندما كنا طفلين، وكنا نسأل أن يصبح الثلج سكرا فما إن تنتهي الصلاة حتى نهرع إلى الفناء لنرى ما إذا كان الثلج قد تحول إلى سكر أم لا. كلا، ليست هذه التفاهات هي ما يجب أن أسأله الآن.» بذلك كان يحدث نفسه وهو يضع غليونه في ركن ويمضي أمام الصور المقدسة فيقيم معقود اليدين، ولقد تحنن لذكرى الأميرة ماري فراح يصلي كما لم يفعل منذ أمد طويل، وكانت الدموع تنبجس من عينيه وتتصاعد إلى حلقه عندما فتح لافروشا الباب وفي يديه بعض الأوراق.
هتف نيكولا وهو يبدل وضعيته بسرعة: أيها الغبي، ماذا دهاك حتى تدخل عندما لا يدعوك أحد؟!
فقال لافروشا بصوت خامل : إنه من لدن الحاكم. لقد وصل بريد يحمل رسالتين لك. - حسنا، حسنا جدا، شكرا يمكنك أن تذهب.
أخذ نيكولا الرسالتين، كانت الواحدة من أمه والثانية من سونيا، وبعد أن تعرف على الخطوط فض رسالة سونيا بادئ الأمر، شحب وجهه لدى تلاوة السطور الأولى، وجحظت عيناه من الخشية والفرح، وقال بصوت مرتفع: كلا، هذا لا يمكن أن يكون!
عجز عن البقاء في مكانه فراح يذرع الغرفة والرسالة في يده يقرؤها، تصفحها بادئ الأمر ثم قرأها مرة وأعاد تلاوتها، وأخيرا تسمر في مكانه متأرجح الذراعين فاغر الفم شاخص العينين، إن ما طلبه منذ حين مع كامل الثقة بأن الله سيستجيبه قبل فكان ذهوله شديدا، إن في هذا الأمر شيئا ما كان يستطيع أن يتوقعه، ولكن السرعة التي استجيب طلبه بها دلت على أن الأمر بدلا من أن يكون تدخلا ربانيا بات مجرد صدفة.
على ذلك، فقد بدا أن تلك العقدة المستعصية على الحل التي كانت تربط حرية نيكولا قد انحلت من تلقاء نفسها في هذه الرسالة غير المنتظرة التي جاءته من سونيا، تلك الرسالة التي لم يكن هناك ما يشير إليها، أو على الأقل هذا ما يراه نيكولا. كانت تخبره في رسالتها أن مصائب الأيام الأخيرة وضياع كل مقتنيات أسرة روستوف في موسكو والرغبة التي أبدتها الكونتيس مرارا في أن تراه يتزوج الأميرة بولكونسكي، وسكوتها وبرودها في الأيام الأخيرة؛ كل ذلك دفعها إلى أن تقرر حله من الوعد الذي قطعه على نفسه، وأن تعيد له الحرية المطلقة.
كتبت:
وإنه سيؤلمني جدا أن أفكر بأنني يمكن أن أصبح سببا للغم أو للتجافي في أسرة أنا مدينة لها بكل شيء، ثم إن غرامي يستهدف شيئا واحدا سعادة من أحب، لذلك فإنني أتوسل إليك يا نيكولا أن تعتبر نفسك حرا رغم أن ما من أحد يمكنه أن يحبك أكثر من سونياك.
كانت الرسالتان صادرتين من تروئيتسا، ورسالة الكونتيس تصف الأيام الأخيرة التي قضتها الأسرة في موسكو وسفرها والحريق وضياع مقتنياتهم، مع ذلك فإن الكونتيس كانت تقول في تلك الرسالة إن الأمير آندريه وعددا كبيرا من الجرحى يسافرون معهم، وإن الأمير آندريه في حالة شديدة الخطورة ولكن الطبيب يؤكد أن هناك الآن أملا قويا في شفائه، وأن سونيا وناتاشا تقومان على تمريضه.
مضى نيكولا غداة اليوم التالي حاملا رسالة أمه إلى الأميرة ماري، لم يعلق هو ولا هي على التنويه الذي تحويه عبارة «ناتاشا تقوم على تمريضه»، مع ذلك فإنهما شعرا بتقارب بفضل هذه الرسالة، بل وأشبه بالأقرباء.
وفي اليوم التالي رافق روستوف الأميرة ماري إلى أيا روسلاف، ثم لحق بفوجه بعد بضعة أيام.
الفصل الثامن
أسباب رسالة سونيا
كانت رسالة سونيا التي استجابت لأماني نيكولا مرسلة من تروئيتسا، وفيما يلي كيف حدث الأمر: باتت فكرة رؤية ابنها يقترن بوارثة غنية، تزيد في تعذيب الكونتيس العجوز وإيلامها يوما بعد يوم، وكانت تعرف أن العائق الرئيسي هو سونيا، وقد أصبحت حياة سونيا خلال الأيام الأخيرة وخصوصا منذ أن أرسل نيكولا رسالة يذكر فيها أنه التقى بالأميرة ماري في بوجوتشاروفو؛ تزداد صعوبة، إذ إن الكونتيس ما كانت تترك سانحة إلا واستغلتها لتوجه إلى الفتاة المسكينة تنويهات جارحة بل وقاسية.
وقبل مغادرة موسكو بأيام استدعت الكونتيس - التي قلبتها الأحداث ظهرا لبطن - سونيا إليها، وبدلا من أن تطالبها بالتضحية وهي تبهظها بالتعنيف توسلت إليها باكية أن تعرب عن عرفانها بكل ما أسدوه إليها من جميل بفصم علاقاتها مع نيكولا، وأضافت: لن يهدأ لي بال قبل أن تعديني بذلك.
داهمت سونيا موجة من الدموع، وأجابت خلال نشيجها أنها ستعمل كل شيء وأنها مستعدة لكل شيء، ولكن دون أن تصرف الوعد القاطع وهي العاجزة في أعماق نفسها عن اعتزام ما يفرض عليها أن تضحي بنفسها في سبيل سعادة الأسرة التي أنشأتها وأطعمتها، وكان من عادتها أن تضحي بنفسها في سبيل الآخرين، ولقد كان مركزها في البيت على حال لا يصلح معه إلا نسيان ذاتها لإبراز قيمتها، لذلك فقد باتت تجد حجب نفسها دائما أمرا طبيعيا. مع ذلك فإنها كلما قامت بتضحية كانت تجد البهجة في أن تقول لنفسها إنها عظمت في عيني نفسها وفي عيون الآخرين، وإنها بذلك تجعل نفسها أكثر جدارة بنيكولا الذي تحبه أكثر من كل الناس، أما الآن فإن ما يطلبونه منها هو هجران المكافأة على تضحياتها، هجران كل ما له معنى في حياتها. وللمرة الأولى في حياتها شعرت بالمرارة حيال هؤلاء الناس الذين لم يغدقوا عليها إحسانهم إلا ليزيدوا في عذابها، شعرت بالغيرة من ناتاشا التي لم تحس قط بمثل هذا الإحساس، والتي لم تعرض لها قط الحاجة إلى تضحية نفسها، والتي أرغمت الآخرين على أن يضحوا بأنفسهم من أجلها وظلت رغم ذلك تنعم بحب الجميع. وللمرة الأولى شعرت سونيا أن غرامها الهادئ الطاهر لنيكولا قد تحول فجأة إلى هوى جامح يطغى على العقل والعرفان والدين، وبتأثير هذا الهوى الجامح أجابت سونيا التي ألفت إخفاء كل شيء عن حياتها المستقلة على طلب الكونتيس بعبارات مبهمة وتحاشت كل تفسير، وقررت بينها وبين نفسها أن تنتظر نيكولا لا لتحرره من كلمته بل لتقترن به إلى الأبد.
ولقد غمرت رهبة الأيام الأخيرة التي قضاها آل روستوف في موسكو ومخاوفها أفكار سونيا القاتمة التي كانت تعذبها، ولقد أسعدها أن وجدت الخلاص في الأعمال المادية، لكنها لما عرفت بوجود الأمير آندريه في البيت استولى عليها رغم كل إشفاقها المخلص عليه وعلى ناتاشا شعور خرافي ومنعش، إن الله لا يريدها أن تفترق عن نيكولا. كانت تعرف أن ناتاشا تحب الأمير آندريه وأنها لم تكف عن حبه، وتعرف أنهما وقد اجتمعا الآن في مثل هذه الظروف المؤسية سيتحابان أكثر من أي وقت مضى، وأن نيكولا لن يستطيع حينئذ أن يتزوج الأميرة ماري بسبب روابط القرابة الجديدة التي ستجتمع بينهما - المعروف أن الديانة الأورثوذوكسية لا تسمح بالزواج بين أخوات الزوج وإخوان الزوجة - وعلى الرغم من كل هول ما كان يقع وصعوبات أيام السفر الأولى، فإن الثقة بأن القدرة الإلهية في سبيل التدخل في شئون سونيا الشخصية كانت تبهجها.
توقف آل روستوف في المرحلة الأولى من يوم سفرهم في دير الثلالون «ترينيتيه».
احتجزوا لهم في فندق الدير ثلاث غرف، احتل الأمير آندريه واحدة منها، وكان الجريح ذاك اليوم في حالة أفضل من حالته في الأيام السابقة وناتاشا لا تبارح سريره. وفي الغرفة الملاصقة كان الكونت والكونتيس يتحدثان باحترام مع رئيس الدير الذي جاء يزور معطيه القدماء وأصدقاءه. وكانت سونيا هناك أيضا تتحرق فضولا وتتساءل عما يتحدث به الأمير آندريه مع ناتاشا، إنها تسمع جلبة صوتيهما خلال الباب. وفجأة فتح ذلك الباب وتقدمت ناتاشا منقلبة الأسارير، اقتربت من سونيا دون أن تلاحظ الرئيس الذي نهض ليتقدم نحوها ويباركها وهو يمسك بيسراه كم جبته العريض ويبقيه فوق ذراعه اليمنى، وأمسكت بيدها، فقالت الكونتيس: ناتاشا، هه؟ تعالي إلى هنا.
فاقتربت ناتاشا وتلقت مباركة الرئيس الذي سألها أن تلتمس عون الله وقديسه - لأن الدير يحوي مومياء القديس سيرج.
وما إن خرج حتى أخذت ناتاشا بيد صديقتها وذهبت معها إلى الغرفة غير المسكونة، هتفت: سونيا، هل صحيح؟ سيعيش؟ سونيا، كم أنا سعيدة وبنفس الوقت تعيسة! سونيا يا عزيزتي، إن الحال كما كانت عليه من قبل تماما، ليعش فقط، ولن يستطيع ... لأن ... لأن ...
وقطعت العبرات صوتها، فقالت سونيا: آه! نعم، كنت أعرف ذلك، حمدا لله! سوف يعيش!
لم تكن سونيا أقل تأثرا من صديقتها التي كانت أحزانها ومخاوفها تختلط بالأفكار التي ما كانت تستطيع الإعراب عنها أمام أحد، عانقت ناتاشا وواستها وهي مجهشة وراحت تفكر: «المهم هو أن يعيش!» وبعد أن بكتا وثرثرتا ما طاب لهما مسحت الصديقتان دموعهما واقتربتا من باب الأمير آندريه ففتحته ناتاشا بهدوء ونظرت داخل الحجرة، وألقت سونيا التي ما زالت بجانبها خلال الباب الموارب.
كان الأمير آندريه مستريحا على ثلاث وسائد، ووجهه الشاحب هادئا وعيناه مغمضتين، وقد اتضح أن تنفسه منتظم. قالت سونيا بصوت أقرب إلى الصراخ وهي تمسك بابنة عمها من ذراعها وتبتعد عن الباب: آه! ناتاشا.
سألت ناتاشا: ماذا بك؟ ماذا بك؟ - إنه لكذلك، كذلك تماما ...
فقالت سونيا ممتقعة الوجه مضطربة الشفتين: أغلقت ناتاشا الباب برفق ، وقادت سونيا قرب النافذة دون أن تفهم ما أرادت أن تقول.
قالت سونيا وعلى وجهها أمارات الذعر والجلال: هل تذكرين عندما نظرت في المرآة من أجلك ... في أوتراندويه مساء عيد الميلاد؟ ... هل تذكرين ماذا رأيت؟
فقالت ناتاشا وقد اتسعت عيناها: نعم، نعم.
تذكرت بإبهام أن سونيا قالت لها حينذاك شيئا ما بصدد الأمير آندريه الذي رأته مستلقيا.
استأنفت سونيا: هل تذكرين؟ لقد رأيته حينذاك، وذكرت ما رأيت لكل الناس، لك ولدونياشا، لقد رأيته في سرير - وراحت تضغط على الكلمات وترفق كل كلمة بحركة من يدها وسبابتها مرفوعة - رأيته في سرير وعيناه مغمضتان، يغطيه غطاء وردي كما هو الآن تماما، ويداه معقودتان.
كانت سونيا مقتنعة أنها وهي تصف تفاصيل ما رأته منذ حين إنما تصف ما شاهدته في المرآة ذلك اليوم، في حين أنها لم تر شيئا مطلقا ولم تقصص إلا ما طاف بخيالها حينذاك. لكن ما تخيلته بدا لها على مثل حقيقة الذكرى، زعمت حينذاك أنه نظر إليها باسما وأنه كان مغطى بشيء أحمر، أما الآن فقد أصبحت واثقة من أنها قالت ورأت أنه مغطى بغطاء وردي هذا الغطاء الوردي بالتدقيق، وأن عينيه كانتا مغلقتين.
هتفت ناتاشا التي باتت هي الأخرى تظن الآن أنها تذكر أن سونيا أخبرتها حينذاك عن هذا الغطاء الوردي، والتي أصبحت ترى في هذه الواقعة تنبئة خارقة في الغموض: نعم، نعم، وردي، صحيح.
ثم سألت ساهمة: ماذا يمكن أن يكون معنى هذا؟
أجابت سونيا وهي تمسك برأسها بين يديها: آه! لست أدري شيئا، لكنه أمر مثير.
وبعد دقائق، قرع الأمير آندريه الجرس فعادت ناتاشا إلى قربه، وظلت سونيا التي نادرا ما شعرت بمثل هذا الانفعال واقفة أمام النافذة تفكر في مثل هذه الصدفة المذهلة.
وفي ذلك اليوم عرضت فرصة إرسال التحارير إلى الجيش، فكتبت الكونتيس لابنها ... ثم قالت وهي تكف عن الكتابة عندما اقتربت سونيا منها: سونيا، سونيا، أليس لديك ما تقولينه لنيكولا؟
وارتعد صوتها عند طرح هذا السؤال، فقرأت سونيا في عيني الكونتيس المتعبتين التي أخذت تنظر إليها خلال نظارتيها كل ما أرادت أن تقوله بهذا السؤال، كانت تلك النظرة تعبر عن توسل وخشية من الرفض، والخجل من وجوب طلبه، وأخيرا الحقد الوشيك الذي لا ينسى في حالة الرفض.
اقتربت سونيا من الكونتيس وركعت أمامها وقبلت يدها، ثم قالت : سأكتب لفوري يا أماه.
كانت سونيا مزعزعة متأثرة متحننة بسبب كل ما وقع أخيرا، وخصوصا تحت دلالة الأمس بذلك الشكل الغامض. أحست الآن، بعد أن أصبحت مصالحة ناتاشا مع الأمير آندريه تمنع نيكولا من الاقتران بالأميرة ماري، بفرح عودة ذلك الشعور بالتضحية الذي كان أليفا لديها. ولقد كتبت الرسالة المؤثرة التي أدهشت نيكولا أيما دهشة، وهي تمسح أكثر من مرة الدموع التي تملأ عينيها السوداوين المخمليتين، وكلها ثقة بأنها إنما تقوم بعمل بطولي.
الفصل التاسع
الاستجواب الأول
عامل الضباط والجنود بيير في مركز الحرس حيث ساقوه معاملة عدائية لكنها لم تخل من الالتفات، فكان واضحا أنهم يخافون أن يكون سجينهم شخصية كبيرة رغم حقدهم عليه بسبب العراك الذي أثاره معهم.
ولكن ما إن أزف الصباح حتى أبدل الحرس، فلاحظ بيير أن الضباط والجنود الجدد لم يعودوا يعاملونه بمثل المعاملة التي لقيها من الذين أوقفوه، كان هذا العملاق الطويل الضخم ذو معطف القرويين في نظرهم، ذلك الرجل القوي الذي اشتبك في معركة بالأيدي مع السلابين وجنود الدورية، والذي تحدث بلهجة مهيبة عن طفل أنقذ من النار وأصبح يعرف برقم 17 على لائحة السجناء الروسيين الذين أوقفوا بناء على أمر القيادة العليا. فإذا كان فيه شيء ما خاص فلم يكن إلا تلك الرزانة التي تبدو على حركاته وذلك الفخار، ثم اللغة الفرنسية التي يتحدث بها بكمال وطلاقة تدهشان الفرنسيين أنفسهم. مع ذلك فقد ألحق بالمشبوهين الآخرين منذ ذلك اليوم، لأن أحد الضباط طلب احتلال الغرفة الخاصة التي أودع فيها.
كان كل الروسيين الذين أوقفوا مع بيير أناسا من طبقة منحطة عرفوا فيه كلهم سيدا، فأخذوا يتحاشونه خصوصا وأنه يتحدث اللغة الفرنسية، بل إن بيير سمعهم يتفكهون على حسابه فكان لذلك وقع أليم في نفسه.
وفي اليوم التالي عرف أن كل الموقوفين - وهو في عدادهم بلا ريب - سيحاكمون على اعتبارهم مشعلي حرائق. وفي اليوم الذي تلاه اقتيدوا جميعا إلى بناء يقيم فيه جنرال فرنسي أشيب الشاربين وزعيمان وفرنسيون آخرون يلفون الأشرطة حول أذرعهم، واستجوب بيير كالآخرين بتلك اللهجة الواضحة الدقيقة التي يستعملها عادة الرجال المتجردون - زعما - عن كل ضعف بشري عندما يستجوبون متهمين؛ من هو؟ إلى أين كان يمضي؟ ماذا كانت غايته؟ ... إلخ.
كانت تلك الأسئلة التي لا علاقة لها مطلقا بصميم القضية، والتي تجعل أي إيضاح مستحيلا لا تهدف إلا إلى دعم الاتهام ككل الأسئلة التي تطرح في القضاء، وإلى تحويل أجوبة المتهم إلى الاتجاه المطلوب أي إلى الاعتراف بجرمه، فكلما شرع يقول شيئا في غير صالح الاتهام كانوا يسارعون إلى إعادته نحو النقطة التي يريدون إيصاله إليها. أضف إلى ذلك أن بيير كان معرضا للنهاية المشتركة التي تنتظر كل الموقوفين، فكان الهدف الذي ترمي إليه الأسئلة التي تطرح عليه، وكان يستطيع أن يخمن أن الحيل التي يستعملها الاتهام ترجع إلى المجاملات أو إلى التأدب الذي يظهرونه حياله، وكان يعرف أنه رهن مشيئة هؤلاء الناس، وأنهم جاءوا به إلى هناك بالقوة، وأن القوة وحدها هي التي تقدر على مطالبته بأجوبة على أسئلتهم، وأن الغاية الوحيدة لهذه الجمعية إنما هي إعلان تجريمه. وبما أن القوة في يدهم وأنهم في حاجة إلى اتهام الناس، فإن بيير لم يكن يرى مبررا للمكر الذي يستعملونه، من البديهي جدا أن كل جواب لا ريب سيفسر على محمل التجريم. ولما سألوه عما كان يعمل حينما أوقفوه قال بيير بلهجة ميلودرامية إنه كان «يعيد طفلة إلى ذويها أنقذها من النيران»، ولما سئل لماذا تعارك مع سلاب أجاب بأنه كان «يدافع عن امرأة، والدفاع عن امرأة أهينت واجب كل رجل، وأن ...» فاستوقفوه قبل أن يستفيض لأن ذلك لا دخل له بالاتهام. ولكن ماذا كان يعمل في فناء بيت يحترق حيث شاهده بعض الشهود؟ أجاب بأنه «ذهب ليرى ماذا يقع في موسكو». ومن جديد استوقفوه ليسألوه ليس إلى أين كان يذهب، بل لماذا كان بالقرب من الحريق، ثم قالوا وهم يستأنفون السؤال الأول الذي رفض أن يجيب عليه: من أنت؟ فأجاب بأنه لا يستطيع أن يذكر اسمه.
قال الجنرال ذو الشاربين الأشيبين والوجه المتضرج بلهجة صارمة: أيها المسجل، اكتب، إن الحالة خطيرة، إن الحالة خطيرة جدا.
شبت النار بعد توقيف بيير بأربعة أيام بالقرب من حاجز زوبوف.
ولقد نقل بيير وثلاثة عشر متهما آخرين إلى «جي دو كريميه» مجازة القرم في بيت مأجور لأحد الباعة، وبينما هو يجتاز الشوارع كاد بيير أن يختنق من الدخان الذي بدا كأنه يخيم على المدينة كلها، لم يكن المرء ليشاهد غير الحرائق في كل مكان، لكنه لم يكن قد أدرك بعد أهمية حريق موسكو، لذلك فقد راح ينظر حوله بذهول.
في ذلك البيت المأجور من منطقة «مخاضة القرم» أمضى بيير أربعة أيام عرف خلالها من حديثه مع الجنود الفرنسيين أنهم ينتظرون يوما بعد يوم القرار الذي سيتخذه الماريشال حيال الموقوفين. مع ذلك فقد ظل يبدو بالنسبة إلى الجنود سلطة غامضة عليا مجسدة فيه ولا ريب.
ولقد كانت تلك الأيام التي سبقت اليوم الثامن من أيلول يوم إخضاع الموقوفين لاستجواب ثان، من أكثر الأيام مشقة وإيلاما بالنسبة إلى بيير.
الفصل العاشر
الاستجواب الثاني
في الثامن من أيلول جاء ضابط رفيع الشأن، إذا روعيت الاعتبارات التي أظهرها الحراس حياله لزيارة المساجين. راح ذلك الضابط الذي كان ولا ريب تابعا لأركان حرب الجيش يتفقد السجناء وبيده قائمة، فنادى بيير: الذي لا يدلي باسمه. ألقى عليهم نظرة غير آبهة متراخية، وأمر ضابط الحرس أن يعنى بتنظيفهم وإلباسهم ثيابا مناسبة قبل أن يصحبهم للمثول بين يدي الماريشال. وبعد ساعة اصطفت فصيلة من الجند، ساقت بيير والمساجين الثلاثة عشر الآخرين إلى ساحة العذارى «شان دي فييرج»، وقد أطلق هذا الاسم على ذلك المكان ذكرى للتتر الذين أمروا بأن تدفع لهم الجزية فضة وعذارى نبيلات في ذلك المكان.
كان يوما مشرقا مشمسا بعد المطر والهواء، يمتاز بنقاء خاص، والدخان بدلا من أن يزحف كما كان شأنه يوم أن نقل بيير من مركز كتيبة الحرس في حاجز زوبوفو، يتصاعد أعمدة في الهواء النقي. لم يكن المرء يرى نارا في أي مكان، لكن موسكو كانت تعس بالدخان المتصاعد من كل أجزائها، وموسكو أو على الأقل ما شاهده بيير منها لم تكن إلا خرابا، ففي كل مكان أراض خواء تناثرت فيها حطام المدافئ والمداخن، وهنا وهناك أجزاء من جدران منهارة متفحمة. ولقد نظر بيير بإمعان لكنه لم يتعرف على أحياء المدينة المألوفة، لقد كانت الكنائس في بعض الأماكن لا تزال قائمة، والكريملن سليما من كل أذى يرتسم بلون أبيض بأبراجه وإيفان الأكبر، وهو برج جرس ارتفاعه 97 مترا، وبالقرب منه قبة دير نوفو - دييفيتشي - واسمه مستمد من ساحة العذارى القريبة منه تلتمع ببهجة، وصوت أجراس تقرع مدوية بشكل خاص يتعالى في الفضاء. ولقد ذكرت الأجراس بيير بأن اليوم أحد، وأنه عيد مولد العذراء، لكن ذلك لم يكن عيدا لأحد؛ لم تكن ترى إلا الأطلال التي خلفتها الحرائق. أما من حيث السكان، فكان المرء يلاقي بين الحين والآخر بعض الأشخاص المساكين الفزعين في أسمال بالية يختبئون لدى رؤية الفرنسيين.
الماريشال دافو.
كان واضحا أن عش روسيا قد دمر وشتت، فكان بيير يشعر شعورا مبهما أن عهدا آخر مختلفا جدا وقاسيا هو عهد الفرنسيين، قائما على أنقاض العهد الروسي المدمر. كان يشعر بذلك من حياة جنود الموكب الذين كانوا يتقدمون بنظام جيد وعلى وجوههم أمارات عرفية مرحة، ويشعر به من رؤية موظف فرنسي هام جاء يلاقيهم في عربة خفيفة يجرها جوادان يقودها جندي، ومن أصوات موسيقى عسكرية جذابة تتصاعد من الجانب الأيسر من ساحة العذارى، بل إنه شعر به بصورة خاصة وتفهمه منذ أن جاء الضابط الفرنسي والقائمة في يده يتفقد السجناء. ولقد أوقف بيير من قبل جنود عاديين واقتيد من مكان إلى آخر مع عشرات من المساجين، فكان يمكن نسيانه والخلط بينه وبينهم. ولكن لا، أبدا! إن أجوبته التي أدلى بها في الاستجواب الأول ظلت تشير إليه، لقد كان «الذي يرفض الإدلاء باسمه»، فكانوا يسوقونه الآن إلى مكان ما تحت ذلك الميسم الذي يخيفه. ما كان يشك من مظهر المواكبين المطمئن أن السجناء الآخرين، وهو بينهم، هم أنفسهم الذين يحتاجون إليهم، وأنهم يقودونهم إلى حيث يجب سوقهم، فأحس بيير بأنه ليس إلا قذى تافها سقط تحت عجلة آلة مجهولة ذات تجهيز آلي شديد الإحكام.
قادوا بيير والمتهمين الآخرين إلى ساحة العذارى من جهة اليمين قريبا من الدير، وأدخلوهم بيتا أبيض تحيط به حديقة كبيرة، ذلك كان بيت الأمير ستشيرباتوف حيث جاء بيير غالبا، وحيث كان يقطن على حد قول الجنود الأمير ديكموهل.
قادوهم نحو المرقاة ثم أدخلوهم واحدا واحدا فدخل بيير السادس، أخذوه عبر الرواق ذي النوافذ الزجاجية والردهة والدهليز التي كانت كلها مألوفة لدى بيير، حتى بلغوا به مكتبا طويلا منخفض السقف وقف على بابه مساعد عسكري.
كان دافو جالسا إلى طاولة عند الجانب الآخر من الغرفة وعلى أنفه نظارتان، اقترب بيير فسأل دافو بصوت خافت دون أن يرفع عينيه عن الورقة المنشورة أمامه التي بدا شديد الانشغال بها: «من أنت؟»
لزم بيير الصمت وهو عاجز عن النطق بكلمة، لم يكن دافو بالنسبة إليه جنرالا فرنسيا فحسب، بل كان رجلا مشهورا بقسوته. كان وجه دافو يذكر الناظر إليه بسحنة أحد التربويين القساة وهو ينتظر هنيهة الجواب المطلوب، وكان بيير يعرف أن كل دقيقة تردد يمكن أن تكلفه حياته، مع ذلك فإنه لم يكن يعرف ماذا يقول. بدا له أن تكرار ما قاله خلال الاستجواب الأول لون من السخف المضحك، كما أن إعلان اسمه ومركزه الاجتماعي عار وخطر بنفس الوقت، فالأفضل إذن أن يلزم الصمت. لكن دافو لم يترك له الوقت لاختيار الجهة التي يتشيع لها، إذ رفع رأسه ورفع نظارتيه إلى جبينه وراح يتأمل بيير محدقا وهو يطرف بعينيه.
قال بصوت مجمد موزون كاف للتأثير على بيير: إنني أعرف هذا الرجل.
سرى البرد في ظهر بيير، ثم شعر بصدغيه وكأنهما بين فكي كلابة. - يا اللامعتين جاءت، لا يمكنك أن تعرفني لأنني لم أرك قط ...
قاطعه دافو وهو يخاطب جنرالا آخر كان هناك لم يلاحظ بيير وجوده: إنه جاسوس روسي.
وأدار دافو له ظهره، وفجأة شعر بيير بلسانه ينطلق فشرع يتكلم بطلاقة، قال وهو يذكر فجأة أن دافو أمير: كلا يا صاحب السعادة، كلا يا صاحب السعادة، لم يتح لك أن تعرفني، إنني ضابط في فرقة المتطوعين ولم أغادر موسكو.
ردد دافو: اسمك؟ - بيزوخوف. - ما الذي يبرهن لي بأنك لا تكذب؟
فهتف بيير بصوت فيه توسل أكثر ما فيه من شعور بالمهانة: يا صاحب السعادة!
رفع دافو رأسه ومن جديد حدق في وجه بيير، تبادلا النظر بضع ثوان فكان هذا هو الذي أنقذ بيير، لقد مرت نظراتهما فوق مسائل الحرب والعدالة لتعود من جديد نظرات رجلين وقفا متقابلين، ولقد شعر كلاهما خلال بضع ثوان بإلف شيء شعورا مبهما، وأدركا أنهما من أبناء الإنسان أخوان.
في الفترة الأولى عندما رفع دافو رأسه عن قائمته التي أشير إلى مصاير عدد من الآدميين بأرقام، لم يكن بيير بالنسبة إليه إلا شيئا ما، فكان يستطيع أن يأمر بإعدامه دون أي تبكيت من ضميره، أما الآن فقد أصبح يرى فيه الإنسان. ظل فترة مفكرا ثم قال ببرود: كيف تثبت لي حقيقة ما تقول؟
تذكر بيير دورامبال، فأشار إلى اسم ذلك الرئيس الفرنسي واسم فوجه والشارع الذي يقطن فيه، فكرر دافو: إنك لست من تزعم.
فقدم بيير بصوت متهدج مرتعد متقطع الأدلة على قوله.
وفي تلك اللحظة جاء المساعد العسكري ينهي إلى دافو شيئا ما.
أشرق وجه هذا بالأنباء التي حملها له المساعد العسكري، فلم يلبث أن زر سترته ومضى دون أن يأبه بعد ذلك إلى بيير.
ولما ذكره المساعد العسكري بسجينه قطب حاجبيه وأشار برأسه نحو بيير ثم أمر بأخذه، ولكن إلى أين وجب أن يسوقوه؟ ما كان بيير يعرف شيئا: هل يأخذونه إلى مستقره القديم أم إلى المكان المعد لتنفيذ حكم الإعدام الذي أروه موقعه على ساحة العذراء؟
أدار رأسه فرأى المساعد العسكري يسأل دافو، فأجاب هذا: نعم، بلا ريب!
ولكن ما معنى نعم تلك؟ وكيف يخمن معناها؟
لم يذكر قط كم سيروه من الوقت وإلى أين أخذوه، لقد كان في حالة من التبلد وفقد الشعور حتى إنه لم يكن يرى ما حوله، لقد ظل يضع قدما أمام أخرى طالما وجب أن يمشي، ولما وقفوا توقف بدوره. ظلت فكرة واحدة مستقرة في رأسه: من، من هو الذي حكم عليه؟ لا بد وأنهم ليسوا أولئك الناس الذين استجوبوه بادئ الأمر، ما من أحد منهم كان يريد ذلك أو يقدر عليه، كذلك لم يكن دافو الذي نظر إليه بحقد. لو أن دقيقة أخرى انقضت لفهم دافو أنهم مخطئون باتهامه، فكان المساعد العسكري بدخوله حينذاك هو الذي منع وقوع ذلك، لكن هذا المساعد العسكري نفسه لم يكن هو الآخر يريد به شرا، لكنه كان يستطيع أن يمتنع عن الدخول. وإذن، من، من هو الذي أراد له أن يموت، أراد أن يحرمه الحياة والآمال والأفكار؟ من كان يريد ذلك؟ أحس بيير بأن ما من أحد كان يريده.
لقد كان ذلك هو النظام القائم وتضافر الظروف.
لقد حكم عليه النظام القائم بالموت، هو، بيير، إنه ينتزع منه الحياة، إنه يسلبه كل شيء، إنه يبيده.
الفصل الحادي عشر
الإعدام
اقتيد السجناء من بيت الأمير ستشيرباتوف إلى أسفل ساحة العذارى على يسار الدير، ومن هناك إلى بستان خضار غرس فيه عمود، ووراء العمود حفرت حفرة كبيرة وقد تناثر التراب الندى وتراكم حولها، وبالقرب من الحفرة والعمود اجتمع جمهور غفير على شكل نصف دائرة، وكان ذلك الجمهور الذي ظهر فيه بعض الروسيين يتألف في غالبيته من جنود عاطلين تابعين لجيش نابليون، فكان بينهم ألمانيون وإيطاليون وفرنسيون في أزياء مختلفة. وإلى يسار الوتد وعلى يمينه وقفت فرقة فرنسية مسلحة يلبس أفرادها المعاطف الزرقاء ذات الشارات الحمراء على الكتفين والرانات والعمرات.
صفوا المحكومين تبعا لترتيبهم على القائمة، وبيير السادس، ثم ساقوهم نحو العمود. وفجأة انبعث قرع طبول من كل جهة، فأحس بيير حيال هذا الدوي بفؤاده يتمزق، فقد ميزه التفكير والتذكر فلم يعد مستبقيا في خدمته إلا عينيه وأذنيه. لم تبق لديه إلا رغبة واحدة، الخلاص بأسرع ما يمكن من ذلك الشيء المريع الذي يوشك أن يقع، مع ذلك فقد جال بطرفه في وجوه رفاقه وراح يتأملهم.
كان للاثنين الأولين رأسان حليقان يشبهان رءوس المحكومين بالأشغال الشاقة؛ الأول طويل نحيل، والآخر أسمر شعراني عاضل ذو أنف أفطس، وكان الثالث خادما تجاوز الأربعين، بدأ الشيب يخالط شعره، تدل هيئته على حسن التغذية، والرابع قرويا جميلا ذا لحية مغراء منبسطة مستديرة وعينين سوداوين، بينما كان الخامس عاملا في شرخ الشباب، فتى لم يتخط الثامنة عشرة بلون صفراوي وجسم ضعيف، يتدثر برداء فضفاض طويل.
سمع بيير الفرنسيين يتساءلون عن الطريقة التي سينفذون بواسطتها الحكم بالمحكومين؛ واحدا فواحدا أم اثنين اثنين؟ أجاب الضابط ببرود حازم: «اثنين اثنين»، فقامت حركة بين صفوف الجنود: كان واضحا أنهم متعجلون. لكن عجلتهم لم تكن تشبه عجلة الأشخاص الماضين لأداء مهمة معروفة منهم جميعا، بل كانت عجلة من يريد إنجاز عمل ضروري، ولكنه مع ذلك منفر ومكروه.
وقف موظف فرنسي يحيط ذراعه بشارة إلى يمين رتل المحكومين، وقرأ الحكم بالروسي والفرنسي.
ثم بناء على إشارة من الضابط جاء أربعة جنود أحاط كل اثنين منهما بواحد من المحكومين اللذين كانا على رأس الصف، أسكنت حركة المحكومين بشدهما إلى العمود، فراحا ينظران حولهما خلال الوقت الذي استغرقه وصول من ذهبوا للمجيء بالأكياس نظرة الحيوان المشوش الذي يرى الصياد يقترب منه، يكف أحدهما عن رسم شارة الصليب، بينما انصرف الآخر يحك ظهره وقد عجا وجهه بما يشبه الابتسامة. عصب الجنود عيونهما وألبسوهما كيسين، ثم ربطوهما إلى العمود بحركات سريعة.
خرجت من الصفوف مفرزة من الجنود تعدادها اثنا عشر جنديا، وسارت بخطى موزونة ووقف الرجال على بعد ثماني خطوات من العمود، فأدار بيير رأسه كيلا يرى ما سيحدث. وفجأة دوى انفجار خيل إلى بيير أنه أقوى من أشد الرعود هولا فعاد ينظر من جديد، رأى دخانا وفرنسيين شاحبي الوجوه ترتعد أيديهم وهم منصرفون إلى عمل ما على حافة الحفرة. قدموا الاثنين التاليين فنظرا حولهما بمثل عيون المحكومين الأولين دون أن يصدقا ما سوف يقع لهما أو يفهماه، ما كانا يستطيعان تصديقه لأنهما وحدهما يعرفان قيمة الحياة بالنسبة إليهما، فما كانا يقدران أن يفهما ولا أن يصدقا أنهم سينتزعون الحياة منهما.
أشاح بيير بوجهه من جديد كيلا يرى، ومن جديد دوى انفجار مريع مزق الأذان، ومن جديد شاهد بيير وقت الانفجار بالذات دخانا ودماء ووجوه الفرنسيين الممتقعة وهم منصرفون إلى العمل قرب الحفرة يتدافعون بالمناكب حول العمود بأيديهم المرتعدة. نظر بيير حوله لاهث الأنفاس وكأنه يسأل: «ولكن، ما معنى كل هذا أخيرا؟» فكان السؤال نفسه يقرأ في كل النظرات التي تلاقت مع نظراته.
فعلى وجوه الحاضرين جميعا من روسيين وجنود فرنسيين وضباط، على كل الوجوه دون استثناء، قرأ الهول نفسه والذعر نفسه والصراع نفسه الذي يعتلج في أعماق قلبه، «ولكن، أخيرا من المسئول؟ إنهم جميعا يتألمون بقدر ما أتألم، فمن هو إذن؟ من؟» ولقد اجتازت هذه الفكرة رأسه كومض البرق.
صاح أحدهم: رماة السرية السادسة والثمانين، إلى الأمام!
وقدموا الخامس وحده الذي كان واقفا إلى جانب بيير، فلم يدرك بيير أنه قد نجا وأنه وكل الباقين معه لم يساقوا إلى هناك إلا لحضور تنفيذ الحكم فحسب، ظل ينظر إلى ما يقع بهول آخذ بالازدياد دون أن يحس بفرح أو براحة. كان المحكوم الخامس هو العامل ذو الرداء الفضفاض، لم يكادوا يلمسونه حتى قفز من موضعه وتشبث ببيير، فانتفض بيير وحاول أن يزيحه عنه، كان العامل يزمجر ويرفض التقدم فأمسكوا به من تحت إبطيه وجروه جرا، فلما قيدوه إلى العمود صمت فجأة، بدا عليه أنه فهم أخيرا، فهل فهم أن صرخاته كانت غير مجدية أم أنه يستحيل أن يورد مورد الهلاك؟ على أية حال، لقد وقف منتظرا أن يشد وثاقه مع آخر وراح ينظر حوله بعيني الحيوان الجريح البراقتين.
إعدام الخونة.
لم يستطع بيير هذه المرة أن يأخذ على نفسه الإشاحة بوجهه وإغماض عينيه، لقد بلغ الفضول والتأثر اللذين أخذ يشاطر ذلك الجمهور الإحساس بهما الذروة أمام هذه الجريمة الخامسة. بدا المحكوم الخامس ككل الذين سبقوه هادئا ، فكان متدثرا بردائه يفرك قدميه الحافيتين إحداهما بالأخرى.
وعندما عصبوا عينيه سوى بنفسه العقدة التي بدا كأنها تؤلم قذاله، ثم عندما أسندوه إلى العمود الملوث بالدم مال إلى الوراء، ولما كانت تلك الوضعية غير ملائمة بالنسبة إليه فقد انتصب وجعل قدميه الحافيتين في وضع مستقيم واستند بهدوء، ولم تفت بيير حركة واحدة من حركاته وهو الذي لم يغادره بعينيه.
لا ريب وأنهم سمعوا أمرا، وبعد ذلك الأمر انطلقت ثماني بنادق معا، لكن بيير لم يسمع أي انفجار رغم ما بذله فيما بعد بقصد التذكر، رأى العامل ينهار في وثاقه ثم ظهر الدم من موضعين، وتمدد الحبل بفعل ثقل الجسد. أما الرجل فقد حنى رأسه انحناء شديدا، وانطوت ساقاه تحته وسقط. جرى بيير إلى العمود فلم يستوقفه أحد، تكأكأ حول العامل أشخاص ممتقعو الوجوه يبدو الذعر على قسماتهم، وكان فك الجندي الفرنسي العجوز الأسفل يرتعد وهو يفك الحبل، وانهار الجسد فبادر الجنود بخرق يجرونه وراء العمود ويقذفون به إلى الحفرة.
كانوا جميعا يشعرون بشكل واضح بأنهم مجرمون، تستبد بهم حاجة إخفاء آثار جريمتهم بأسرع ما يمكن.
نظر بيير إلى الحفرة فرأى العامل مسجى وركبتاه على مستوى رأسه تقريبا، وإحدى كتفيه أكثر ارتفاعا من الأخرى، ورأى تلك الكتف ترتفع وتنخفض بحركات تشنجية، لكن المجارف راحت تهيل التراب ملء راحتها فوق الجسد. وصاح أحد الجنود ببيير يطلب إليه التراجع بصوت محنق ساخط أليم، لكنه لم يفهم بل ظل واقفا قرب العمود فلم يطرده من هناك أحد.
وعندما ردمت الحفرة تعالى أمر فأعادوا بيير إلى صفه، وراح الجنود القائمون على جانبي العمود يسيرون بخطى موزونة بعد أن استداروا نصف دائرة. أما الرماة الأربعة والعشرون الذين كانوا وسط الدائرة والذين أفرغوا بنادقهم، فقد هرعوا جميعا راكضين لاستعادة أماكنهم في الصفوف عندما تمر سريتهم بالقرب منهم.
راح بيير الآن يحدق بعينيه دون أي تفكير في الجنود الذين راحوا يغادرون عمود الإعدام مثنى مثنى وهم يجرون، لقد لحقوا جميعهم بسريتهم باستثناء واحد، كان هذا جنديا فتيا على صفرة قاتلة وقد انزلقت عمرته على قذاله، بينما كانت بندقيته بحذاء قدمه، ظل هذا جامدا في المكان الذي أطلق منه النار قبالة الحفرة، كان يترنح كالرجل الثمل وهو يقدم خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء كي يحافظ على توازنه، فخرج صف ضابط مسن من الصف أمسك بكتفيه وأعاده إلى سريته. وأخذ جمع الروسيين والفرنسيين يتبدد، لقد ذهبوا جميعا وقد أطرق كل منهم برأسه، وهتف أحد الفرنسيين: إن هذا يعلمهم كيف يشعلون الحرائق.
نظر بيير إلى ذلك الذي تكلم فوجد أنه جندي راح يبحث عن عذر لما وقع منذ حين بغية تهدئة خاطره دون أن يوفق في إيجاد العذر، على أية حال لم يضف قولا آخر إلى ما قال، بل ندت عنه حركة تدل على اللامبالاة وانصرف.
الفصل الثاني عشر
في السجن
بعد تنفيذ حكم الإعدام فصل بيير عن الموقوفين الآخرين، وحبس وحيدا في معبد متهدم مليء بالقذر.
وحوالي المساء دخل صف ضابط من الحرس يصحبه جنديان، وأعلن لبيير نبأ العفو عنه، وأنه يجب أن ينتقل إلى مبنى أعد لأسرى الحرب، فنهض بيير دون أن يفهم ما يقال له وتبع حرسه. قادوه إلى واحد من أبنية المدن من ألواح الخشب والأعمدة المنتزعة من أنقاض الحريق أقيمت في أعلى حصن، أحاط به في الظلام ما يقرب من عشرين شخصا، فنظر إليهم بيير دون أن يفقه من هم وماذا يفعلون هناك وماذا يريدون منه. سمع الكلمات التي يتفوهون بها، لكنه ظل عاجزا عن استخلاص شيء منها إذ ما كان يفهم معناها، مع ذلك فقد أجاب على الأسئلة التي وجهت إليه دون أن ينتبه إلى أنهم مصغون إليه، وأن أجوبته ستحمل على مختلف المعاني، كان ينظر إلى وجوه وأجساد فكان كل شيء يبدو له مسلوبا من المعنى.
منذ أن حضر بيير ذلك القتل المريع الذي ارتكبه رجال لم تكن بهم أية رغبة في ارتكابه، بدا المحور الذي ترتكز حوله حياته وتقوم كأنه استسلم فجأة، وكأن كل شيء قد انهار ركما من الشظايا لا شكل له، لقد فني إيمانه بالانسجام العام والإنسانية وبروحه نفسها وبالله دون أن ينتبه إلى ذلك، لقد شعر من قبل بمثل هذا الإحساس لكنه لم يكن قط بمثل هذا العنف. كان فيما مضى يلوم نفسه كلما اعتلجت في نفسه مثل هذه الريب، ويشعر في أعماق نفسه أنه سينتهي به الأمر إلى إيجاد سبيل الخلاص خلال يأسه وشكوكه، أما الآن فإن العالم هو الذي ينهار دون أن يكون له دخل فيه، العالم الذي أصبح أمام عينيه ركاما من الخرائب عديمة المعنى، لذلك أحس بأنه ليس في طوقه استعادة إيمانه بالحياة.
أحاط به أناس في الظلام، لا ريب أنهم شديدو الاهتمام بوجوده بينهم، إنهم يروون له شيئا ما ويسألونه، ثم اقتاده بعضهم وأجلسوه في ركن بين رجال أخذوا يتنادون من كل الأركان وهم يضحكون.
قال صوت من الجانب المضاد وهو يضغط على كلمة الذي: «ها هو ذا أيها الإخوان ... ها هو ذا الأمير الذي ...»
جلس بيير صامتا لا حراك على القش مستندا إلى حاجز المبنى، وأخذ يفتح عينيه ويغلقهما، كان لا يكاد يغلقهما حتى يرى وجه العامل المخيف بصورة خاصة في بساطته ووجوه قتلته غير الإراديين أشد هولا، كذلك في القلق المستولي عليها، ثم كان يفتح عينيه ويلقي حوله نظرات تائهة.
جلس إلى جانب بيير رجل قصير القامة لاحظ بيير وجوده فورا إلى جانبه، بسبب رائحة العرق الشديدة التي كانت تفوح منه لدى كل حركة من حركاته، وكان ذلك الرجل يعمل شيئا ما بقدميه في الظل فلم يكن بيير يرى وجهه، لكنه كان يشعر بأنظاره شاخصة إليه، أخيرا أدرك بيير أنه إنما يخلع جوربه، فأثارته الطريقة التي سلكها في هذا السبيل.
لف بحذق عصابته الكتان التي تحيط بإحدى قدميه بعد أن فك الخيط الذي يربطها، ثم اهتم بقدمه الثانية دون أن يكف عن تأمل بيير، وبينما راح يعلق الخيط بمسمار بإحدى يديه أخذ باليد الأخرى يحل عصابة القدم الأخرى، وهكذا خلع جوربين بحذاقة وبحركات دقيقة ناجحة منسقة لا بطء فيها، وعلق حذاءيه إلى وتد مغروس فوق رأسه، ثم أخذ سكينه فقطع به شيئا ما ثم أغلقه ووضعه تحت فراشه من جهة الرأس، وأخيرا جلس بوضع أكثر إراحة وأحاط ركبتيه المرقوعتين بذراعيه وراح يتأمل بيير محدقا في وجهه. شعر بيير بشيء مؤنس مطمئن متآلف في حركات هذا الرجل المنظم، الذي يرتب شئونه المنزلية في ركنه الصغير ذاك، بل إن رائحته النفاذة نفسها لم تنفره، فراح هو الآخر ينظر إليه محدقا.
قال القصير فجأة: لا ريب أنك شاهدت بعضها، أليس كذلك يا سيدي؟
كان لصوته الغنائي انعطافا مهدهدا وبساطة قصوى، حتى إن بيير أراد أن يجيبه لكن فكه راح يرتعد واغرورقت عيناه بالدموع. لم يترك له الرجل الصغير وقتا لإظهار خزيه، إذ قال على طريقة الفلاحات الروسيات العجائز الحانية الرخيمة: إيه! لا تغتم يا قلبي الصغير، لا تغتم يا عزيزي، إنه لا شيء، فترة رديئة يجب قضاؤها، ليس أكثر من هذا يا صديقي الطيب، نحمد الله على أننا ما زلنا أحياء ليس فينا شيء محطم، وإذا كان هناك أناس لا يساوون شيئا فهناك أناس طيبون ...
وركع وهو في سياق الكلام بحركة مرنة، ثم نهض وابتعد وهو يسعل، ثم سمع بيير صوته الرخيم صادرا من طرف القاعة الآخر: آه! أنتذا أيها السافل؟! ها أنتذا أيها السافل، لقد عدت، كفى، هيا، إلى الأسفل!
وراح الجندي وهو يدفع عنه كلبا صغيرا ملفوفا بخرقة، قال وهو يستعيد لهجته المحترمة: خذ، كل يا سيدي.
وأخرج من الخرقة بطاطا مشوية في الفرن قدمها إلى بيير، وأضاف: لقد قدموا لنا حساء وقت العشاء، ولكنه ليس هناك ما يشبه البطاطا! لم يكن بيير قد تناول شيئا من الطعام طيلة يومه، فبدت له رائحة البطاطا لطيفة بشكل خارق، شكر الجندي وشرع يأكل، فقال هذا وهو يبتسم: هه، ماذا؟! أتأكل البطاطا هكذا؟!
وأخذ واحدة، وأضاف: هكذا يأكلون.
استعاد سكينه ففتحه وقطع البطاطا فوق راحة يده، ثم ذر عليهما ملحا أخرجه من الخرقة وقدمهما لبيير وهو يكرر: لا شيء مثل البطاطا، جرب لي هذه.
هتف بيير : إن كل شيء سيان عندي، ولكن لماذا أعدموا أولئك التعساء؟! ...
إن الأخير لم يكن قد بلغ العشرين بعد!
قال الرجل القصير بقوة وكأن الكلمات تتوارد على لسانه من تلقاء نفسها وتفلت من فمه برغمه: صه! ... صه! ... لا يجب أن تقول هذا، لا يجب ...
ثم استرسل: إذن يا سيدي، لقد بقيت هكذا في موسكو؟
قال بيير: ما كنت أظن أنهم سيصلون بهذه السرعة فلبثت في موسكو بمحض الصدفة. - إذن يا عزيزي لقد أوقفوك في بيتك؟ - كلا، لقد ذهبت أرى الحريق وهناك أوقفوني وحاكموني بوصفي مشعلا للحريق.
فرد الرجل القصير: حيث يكون القضاة تكون المظالم!
سأل بيير بعد أن ابتلع آخر قطعة البطاطا: وأنت، أنت هنا منذ أمد طويل؟ - أنا! لقد أخذوني يوم الأحد من مستشفى موسكو. - وأنت جندي؟
نعم، من فوج أبشيرون. كنت أموت من الحمى، لم يقولوا لنا شيئا، كنا عشرين رجلا تقريبا وما كنا نفكر في الأمر ولا نصدقه ...
سأله بيير: وهل تشعر بالسأم هنا؟
كيف لا يسأم المرء يا عزيزي؟ إن اسمي بلاتون - أفلاطون - واسم أسرتي كاراتاييف.
وأضاف تسهيلا لعلاقته مع بيير: ولقد لقبوني في الفوج بالصقر الصغير، آه! كيف لا أسأم، إن موسكو أم مدننا؟! كيف لا نسأم برؤية هذا؟ نعم، لكن الدودة التي تنخر القرنبيط تموت أولا.
وأردف بحميا: نعم، كذلك يقول أسلافنا.
سأل بيير: ماذا؟! كيف قلت؟!
فأجاب كاراتاييف الذي ظن أنه يردد المثل نفسه: أنا؟ أقول: ليس لنا نحن أن نحكم، إنه عمل الله.
ثم استرسل دفعة واحدة: إذن يا سيدي أنت ذو أملاك؟ بيت؟ كل شيء برخاء؟ وربة بيت؟ وأبواك، أما زالا على قيد الحياة؟
ما كان بيير يراه في الظلام، لكنه كان يحس بأن شفتي الجندي تنطويان في ابتسامة ودودة بينما هو يطرح أسئلته، ولقد اغتم بوضوح عندما علم أن بيير فقد أبويه وخصوصا أمه، فقال: إن الزوجة للنصيحة الطيبة، والحماة للاستقبال الحسن، ولكن ما من شيء يوازي أما حانية!
ثم سأل أيضا: وهل لك أطفال؟
اضطرب من جديد لجواب بيير السلبي السريع، لأنه بادر إلى القول: ليس في ذلك ما يسيء، لأنك ما زلت شابا يمكنك والحمد لله أن تنجب أطفالا، المهم هو حسن التفاهم ...
هتف بيير بالرغم منه: إن كل شيء الآن سيان عندي!
فرد بلاتون: إيه يا رجلي الباسل! إن الحرية والخروج من السجن شيئان لا يرفضان.
جلس في جلسة مريحة وسعل، فبان عليه أنه يستعد لحديث طويل، شرع يقول: نعم يا صديقي العزيز، إننا نقطن جميعنا معا، إن ملكنا واسع ولدينا أراض كثيرة، والفلاحون يعيشون عيشة راضية ونحن كذلك، والحمد لله! لقد كنا ستة حصادين حول أبينا، نعم، كنا نعيش عيشة طيبة وكنا مسيحيين طيبين، وهذا ما حصل لنا ...
روى بلاتون مطولا كيف ذهب يقطع الخشب في غابة جاره فأمسك به حارس، وهناك ضربوه بالعصي ثم حاكموه وأرسلوه جنديا عقابا له.
واسترسل بصوت يبدل ابتسامته: إيه! ماذا يا عزيزي؟ إنك تعتبر هذا شقاء وهو سعادة! كان على أخي أن يذهب جنديا لو لم أرتكب خطيئتي، ولأخي أربعة أطفال أما أنا فلم أترك إلا زوجتي، صحيح أنني رزقت بطفلة، لكن الله استردها مني قبل أن أذهب إلى الجندية. يجب أن أقول إنني عدت ذات مرة مأذونا، فماذا رأيت؟ إنهم لا زالوا يعيشون أفضل من ذي قبل؛ إن الفناء مليء بالحيوانات، والنساء يقمن بشئون البيت، واثنان من إخوتي يعملان خارج القرية، وليس هناك إلا ميكائيل الأصغر سنا، ولقد قال لي أبي: «إن أولادي كلهم متساوون في نظري، إذ إن المرء يشعر بالألم أيا كان الأصبع الذي يعض، ولو أنهم لم يأخذوا بلاتون لكان على ميكائيل أن يذهب جنديا.» هل تصدقه؟ لقد استقدمنا جميعا أمام الصور المقدسة وقال: «ميكائيل، تقدم، انحن أمامه، وكذلك زوجك وأولادك أيضا، هل فهمتم؟» هذا هو المعنى يا عزيزي، إن القدر ينتقي ما يعجبه، بينما نحن هنا بسبيل إصدار الأحكام دائما؛ هذا جيد وهذا سيئ ... إن سعادتنا يا عزيزي أشبه بالماء في الشبكة؛ يجرها المرء فتنتفخ فإذا ما أخرجها بدت فارغة، هو كذلك!
وصمت بلاتون وقد غاص في قشه.
وبعد لحظة صمت نهض وقال: حسنا، أظن أن الرغبة في النوم تستبد بي.
وشرع يرسم شارة الصليب مسرعا وهو يدمدم: أيها المولى يسوع المسيح، يا قديس نيكولا، يا قديس فلور، يا قديس لوران، أيها المولى يسوع المسيح ارأف بنا وأنقذنا!
ولما فرغ من صلاته عاد يجلس على القش، ونطق قبل أن يستلقي ويتدثر بمعطفه: وهكذا! أيها الرب، اجعلني أنام كقطعة من الحجر، واجعلني أستيقظ كالرغيف الجيد!
سأله بيير: أية صلاة هي هذه التي تلوتها؟!
فقال بلاتون وقد بدأ ينام فعلا: ماذا؟ ماذا تلوت؟ لقد صليت إلى الله، وأنت ألا تصلي؟
فقال بيير: ولكن بلى، إنني أصلي أنا الآخر، ولكن لماذا قلت: يا قديس فلور، يا قديس لوران؟
رد بلاتون بحميا: لماذا؟ لأنهم حفظة الجياد، ويجب أن يفكر المرء بالحيوانات ... انظر إلى هذه، يا للسافلة! لقد تكورت كالكرة.
وأضاف وهو يلمس الكلب النائم على ساقيه: يا لها من دافئة هذه القذرة!
ثم استدار على جنبه الآخر ولم يلبث أن نام.
وفي الخارج، في مكان ما بعيد، كان بعضهم يبكي ويصرخ، بينما كانت النار ترى خلال خصاص الجدران الخشبية، ولكن كل شيء كان ساكنا في الداخل ومظلما. ظل بيير فترة طويلة مستلقيا دون حراك وعيناه مفتوحتان في الظلام، كان يصغي إلى بلاتون الذي كان يشخر بإيقاع وهو مستلق بجانبه، ويشعر بأن العالم الروحي الذي انهار منذ حين في سريرته أخذ يقوم من جديد على قواعد أخرى، قواعد جديدة كل الجدة، لا تتزعزع في جمالها.
الفصل الثالث عشر
بلاتون كاراتاييف
كان في المبنى الخشبي الذي اقتيد إليه بيير والذي أمضى فيه أربعة أسابيع، ثلاثة وعشرون جنديا أسيرا وثلاثة ضباط وموظفان.
لم يترك هؤلاء كلهم في ذهنه إلا أثرا غامضا باستثناء بلاتون كاراتاييف، الذي انطبع في ذاكرته إلى الأبد بوصفه أقوى ذكرى وأثمنها، وبوصفه المثال الحي لكل ما هو روسي، لكل ما هو جيد ومنسجم. وعندما شاهد بيير أخيرا جاره فجر اليوم التالي، تأكد في نفسه إحساسه الأول بالتناسق والانسجام، فكل شخصية بلاتون في معطفه الفرنسي المخصور بقطعة حبل وقبعته ذات الحافة وحذائيه المصنوعين من قشر القنب؛ كانت منسجمة، لقد كان رأسه كرة حقيقية، وظهره وصدره وكتفاه بل وذراعاه أيضا اللذان لم يكن يكف عن أرجحتهما وكأنه دائما يستعد لتلقف شيء ما مستديرة كلها، وكذلك ابتسامته الأنيسة وعيناه الكبيرتان الداكنتان الهادئتان كانت مستديرة.
لا ريب أن بلاتون كاراتاييف جاوز الخمسين من عمره، إذا روعي في ذلك ما يرويه عن المعارك التي ساهم فيها، إنه نفسه لا يعرف سنه ولا يستطيع ذكره بتأكيد. لكن أسنانه الجميلة ناصعة البياض التي يكشف عن صفين منها كلما ضحك - وهو كثيرا ما يضحك - كانت متينة وسليمة، ولم تكن هناك شعرة بيضاء واحدة في لحيته أو في رأسه، وكان جسمه ينطق بالمرونة بل وبأكثر من ذلك: بالقوة والجلد.
وعلى الرغم من بعض الغضون المحيطة بعينيه، فإن وجهه كان يعكس البراءة والشباب، وصوته ظل لطيفا عذبا. لكن الشيء الأكثر استلفاتا فيه كان نسق كلامه البديهي النشيط، فيبدو كأنه لا يفكر قط فيما سيقوله، لذلك كانت سرعته في الكلام ودقة ألفاظه ونطقه تعطيانه ميزة إقناع على جانب كبير من التأثير.
بلغت مقاومته البدنية واندفاعه حدا لم تبد عليه معه خلال أيام أسره الأولى أية بادرة من بوادر التعب أو المرض، كان يردد في كل صباح وكل مساء عند النوم: «أيها المولى، اجعلني أنام كقطعة من الحجر، واجعلني أستيقظ كالرغيف الجيد»، وفي الصباح عندما ينهض كان يقول وهو يمارس حركة لا تتبدل من كتفيه: «عندما يستلقي المرء ينطوي على نفسه كالكرة، وعندما ينهض ينفض نفسه.» والحقيقة أنه لا يكاد يستلقي حتى ينام كقطعة من الحجر، ثم لا يكاد ينتفض حتى يزاول عملا ما دون أن يتوانى ثانية واحدة، أشبه بالأطفال الذين لا يكادون يستيقظون حتى يعودوا إلى ألعابهم. وكان يحسن كل شيء، وإذا لم يكن ذلك بشكل كامل فعلى الأقل بطريقة لا بأس بها، كان يطهو ويخيط وينجر ويرتق الأحذية، وكان دائم الانشغال لا يسمح لنفسه بالثرثرة والغناء اللذين يميل إليهما كثيرا إلا عندما يهبط الظلام، ثم إنه لا يغني على طريقة المحترفين الذين يعرفون أن الناس يصغون إليهم، بل على طريقة الطيور، فكان بث الأنغام بالنسبة إليه شيئا لا مندوحة منه كالتمطي أو السير، وحينئذ يتخذ وجهه أمارات رزينة، وأيا كان الصوت الذي يخرج من حنجرته فإنه لم يكن يخلو من شيء حنون رخيم نسوي وحزين.
وعندما أصبح أسيرا ونبتت لحيته من جديد، بدا أنه تخلص بشكل واضح من كل مظهر غريب وعسكري مفروض، ليعود رغما عنه ذلك القروي السابق ابن الشعب.
كان يقول: «إن الجندي المأذون يحتفظ بقميصه غير اللائق.»
ما كان يحب التحدث عن أيام خدمته رغم أنه لم يكن يشكو منها، وأنه ردد غالبا أنهم لم يضربوه مرة واحدة، فإذا شرع يروي شيئا تحدث غالبا عن ذكرياته القديمة، العزيزة على نفسه كما يبدو بوضوح، ذكريات الوقت الذي كان فيه «مسيحيا»، وهذا هو الاسم الذي يطلقه على القروي.
1
لم يكن للأمثال التي تزين أحاديثه أية رابطة مع العبارات البذيئة غالبا والخلاعية التي يألفها الجنود، بل كانت دائما أحكاما شعبية، إذا أخذت معزولة عن الحديث فقدت كل معناها، فلا تحوي معنى شديد العمق إلا إذا أوردت في مناسباتها.
غالبا ما كان يحدث له أن يناقض نفسه، مع ذلك فإن ما يقوله كان دائما صحيحا، كان يحب الكلام ويحسن التعبير، يزين أحاديثه بأسماء تصغير ممالقة وبأمثال ينسجها حسب الاقتضاء، كما خيل إلى بيير. لكن الفتنة في أحاديثه كانت تنبعث عن الحوادث الأكثر بساطة، الحوادث التي يراها بيير دون أن يعيرها أي التفات، والتي تأخذ في فمه طابعا من العظمة الحقيقية. وكان يحب الإصغاء إلى الأحدوثات (وهي لم تكن لتتبدل قط) التي يرويها أحد الجنود مساء، ويفضلها على كل أقاصيص الحياة الواقعة، فإذا ما أصغى إلى تلك الأحدوثات ارتسمت على وجهه ابتسامة بهيجة، وعلق عليها بكلمة أو طرح سؤالا، دلالة على أن عقله ميال إلى البحث عن الجانب الخلقي فيما يروى على مسامعه. ما كان يعرف التعلق ولا الصداقة ولا الحب على الطريقة التي يفهمها بيير بها، لكنه كان يحب كل إنسان ويعيش عيشة ودية مع كل الذين تقحمهم الحياة في سبيله، ليس مع هذا وذاك من الرجال بصورة خاصة، بل مع كل الرجال الذين تقع أبصاره عليهم، وكان يحب كليبه وزملاءه والفرنسيين، ويحب بيير الذي هو جاره. لكن بيير كان يشعر بأن كاراتاييف - رغم كل الكلمات الممالقة التي يوجهها إليه والتي كانت تكريما غير إرادي لصفات زميله الخلقية - لا يمكن أن يغتم دقيقة واحدة بسبب ذهابه. وعلى ذلك فقد راح بيير يشعر حيال كاراتاييف بأحاسيس مماثلة.
كان بلاتون كاراتاييف جنديا عاديا تماما بالنسبة إلى السجناء الآخرين، فكانوا ينادونه تارة الصقر الصغير، وطورا بلاتون، ويمازحونه في غير خبث ويوفدونه في سخرات. أما بالنسبة إلى بيير، فقد ظل ووجب أن يظل، كما رآه في الليلة الأولى، مثالا مفعما منيعا خالدا للبساطة والصراحة.
ما كان بلاتون كاراتاييف يحفظ شيئا عن ظهر قلب باستثناء صلاته، فإذا ما شرع في رواية قصة بدا كأنه لا يدري كيف سينهيها.
وأحيانا عندما كان بيير يدهش لعمق غور أقواله فيطلب إليه أن يعيدها، كان بلاتون لا يقدر على تذكر ما قاله منذ حين كما لا يستطيع بالمثل أن يقول لبيير كلمات أغنيته المفضلة، كانت تلك الأغنية تبحث عن «ألسندر أخي الصغير» وعن «القلب الذي يؤلمني»، لكنها تفقد معناها إذا قيلت كلاما. ولم يكن بلاتون يفهم كما لم يكن يستطيع أن يفهم قيمة كلمة مأخوذة وحدها، فكل كلمة من كلماته وكل بادرة كانت ظاهرة خارجية لذلك النشاط اللاشعوري الذي هو حياته، وحياته كما كان يحس بها كانت تبدو عارية من كل معنى إذا أخذت على اعتبارها حياة شخصية، وتأخذ معنى إذا باتت جزءا من كل لا يني يشعر به. كانت كلماته وتصرفاته تصدر عنه بمثل الانتظام والامتثال للضرورة والبديهية التي يخضع لها أريج زهرة، لكن بلاتون لم يكن يقدر أن يفهم قيمة فعل أو كلمة أو معناهما إذا أخذا مستقلين.
الفصل الرابع عشر
رحلة ماري
عندما علمت الأميرة ماري من نيكولا أن أخاها موجود لدى آل روستوف في أياروسلافل، شرعت تعد العدة للرحيل رغم اعتراضات خالتها، وأرادت كذلك أن تصحب ابن أخيها معها، لم تكن تتساءل بل لم تكن تريد أن تعرف ما إذا كان عزمها ميسورا أو حتى ممكن التنفيذ، لم يكن واجبها الذهاب إلى قرب أخيها الذي قد يكون على وشك الموت فحسب، بل أن تعمل على إيصال ولده إليه، لذلك فقد قررت أن تذهب. وإذ لم يكتب لها الأمير آندريه، فقد راحت تفسر ذلك بأنه شديد الضعف لا يستطيع الكتابة، أو أنه يرى السفر الذي ستقوم به مع ابنه طويلا جدا وشاقا جدا وخطيرا جدا.
باتت في غضون بضعة أيام مستعدة للرحيل، فكانت عدتها للسفر عربة الأمير «ألبرلين» الفسيحة التي استعملتها في السفر إلى فورونيج وبعض عربات النقل وعربات الخيزران الخفيفة، وكانت تعتزم اصطحاب الآنسة بوريين ونيكولا الفتى ومربيه والمرضعة العجوز وثلاث خادمات وتيخون ووصيف شاب وحارس قدمته خالتها لمواكبتها.
ما كان يجب التفكير في اتباع الطريق العادي الذي يمر بموسكو، أما الطريق غير المطروق الذي يمر بليبيتسك وريازان وفلاديمير وشوايا، فكان يطيل المسافة ويزيد في المصاعب بسبب فقدان خيول البرد، ولأنه في ضواحي ريازان كان الفرنسيون يظهرون أحيانا - كما يزعم الناس - فيتعرض المسافر للخطر كذلك.
دهشت الآنسة بوريين وديسال والخدم المرافقون للأميرة خلال الرحلة الشاقة من جلد ماري ونشاطها، كانت آخر من ينام وأول من ينهض، لا توقفها صعوبة. وبفضل هذه الهمة الفعالة دون توان التي أبقت على معنويات رفاقها بالسفر، استطاعوا أن يبلغوا إياروسلافل في نهاية الأسبوع التالي.
عادت الأيام الأخيرة التي قضتها الأميرة ماري في فورونيج عليها بأكبر سعادة ذاقتها في حياتها، لم يعد حبها لروستوف يسبب لها عذابا أو قلقا، لم تعد تناضل ضده إذ بات يملأ روحها ويتحد معها في جسد واحد. لقد كانت الأميرة ماري واثقة دون أن تعلن ثقتها أبدا من أنها محبوبة وأنها تحب، ولقد أتتها تلك الثقة المكينة إبان لقائها الأخير مع نيكولا عندما جاء ينبئها بأن أخاها موجود لدى آل روستوف. لم يلمح نيكولا قط عن عودة الأمور إلى سابق عهدها في حال شفاء الأمير آندريه بين الأمير آندريه وناتاشا، لكنها رأت على قسمات وجهه أن تلك المصالحة باتت تشغله. أما طريقته حيالها فقد ظلت متحفظة حانية ودودة، لكنه بدا وكأنه مبتهجا إذ باتت القرابة الآن تتيح له أن يعبر بأكثر حرية للأميرة ماري عن صداقة غرامية تبلغ حد ما كانت تحلم بمثله أحيانا، كانت تعرف أنها تحب للمرة الأولى في حياتها وللمرة الأخيرة، وتشعر بأنها محبوبة فكانت سعيدة بذلك وهانئة.
وتلك السعادة التي كانت خلال ذلك الوقت تملأ كل روحها، لم تمنعها من أن تشعر بغم شديد بسبب أخيها، على العكس فالسلام الذي ربحته من جانب واحد راح يسمح لها الاستسلام كليا وبأكثر كمالا من الجانب الأول إلى عاطفتها الأخوية، بل إن قلقها كان من العنف في أويقات السفر الأولى حتى إن رفاقها بالسفر خافوا عليها من المرض خلال الطريق، لكن الصعوبات والمشاغل المتعلقة بالسفر التي اضطلعت بها بنشاط كبير أنقذتها لوقت ما من حزنها وأعادت إليها قواها.
وكما يحدث دائما نسيت الأميرة ماري التي احتكر السفر نفسه كل عنايتها الغاية من السفر. ولكن عندما باتوا قريبين من أياروسلافل، عندما فكرت فيما يمكن أن ينتظرها ليس في غضون بضعة أيام بل ذلك المساء بالذات؛ تجاوز تأثرها كل الحدود.
وعندما عاد الحارس الذي أرسلوه للاستطلاع عن مسكن آل روستوف في إياروسلافل وعن حالة الأمير آندريه، والتقى بعربة «ألبرلين» التي تقل الأميرة ماري عند مدخل المدينة؛ روع روعا شديدا لشدة ما كان الوجه الذي أطلت عليه به من نافذة العربة شاحبا ومنقلبا.
قال الحارس: لدي كل المعلومات يا صاحبة السعادة، إن آل روستوف يقطنون على الساحة، في مسكن البائع برونيكوف، على ضفة الفولجا تماما.
حدقت الأميرة ماري في وجهه بعينين مذعورتين متوسلتين، دون أن تفقه السبب الذي من أجله تغاضى عن الإجابة على السؤال الرئيسي المتعلق بأخيها، ولقد طرحت الآنسة بوريين ذلك السؤال بدلا من الأميرة، سألت : والأمير؟ - إن سعادته معهم في المسكن ذاته.
فكرت الأميرة: «إن معنى هذا أنه على قيد الحياة»، وأضافت بلهجة هادئة: «كيف حاله؟» - يقول الخدم إنه ما زال على حاله.
لم تسأل الأميرة عما يفهم من هذا القول، بل اختلست نظرة إلى نيكولا الصغير، وهو طفل في السابعة من عمره جلس قبالتها وبدا شديد السعادة بالوصول إلى مدينة، ثم أطرقت برأسها فلم ترفعه إلا عندما توقفت عربتها ألبرلين الثقيلة التي كانت تقفز وتهتز وتصر، واصطفت المرقاة عندما أنزلوها.
فتحوا الأبواب، إلى اليسار ظهر أديم ماء النهر المتسع وإلى اليمين مرقاة، وعلى هذه المرقاة كان عدد من الخدم ينتظرون وبينهم فتاة شابة يانعة ذات ضفيرة سوداء كبيرة وابتسامة مغتصبة ضعيفة البشاشة - أو هكذا خيل للأميرة ماري - هي سونيا، اندفعت الأميرة تريد ارتقاء الدرجات، لكن الفتاة ذات الابتسامة المغتصبة قالت: «من هنا، من هنا!» ووجدت ماري نفسها في بهو في حضرة سيدة ذات طابع شرقي هرعت للقائها وهي بادية التأثر الشديد، تلك كانت الكونتيس العجوز، أحاطت الأميرة ماري بذراعيها وراحت تقبلها وتقول: يا طفلتي! إنني أحبك وأعرفك منذ أمد طويل.
فهمت الأميرة ماري رغم شدة انفعالها أنها في حضرة الكونتيس، وأن عليها أن تجيب بشيء، فنطقت بكلمات مجاملة بالفرنسية على مثل الأسلوب الذي استعمل لاستقبالها دون أن تدرك كيف تم ذلك، ثم سألت: «كيف حاله؟»
فأكدت الكونتيس: إن الطبيب يقول إن الخطر قد زال.
لكنها ناقضت بنفس الوقت أقوالها بأن رفعت عينيها إلى السماء وأشفعت ذلك بزفرة.
سألت الأميرة: أين هو؟ هل يمكن رؤيته؟ هل يمكن؟ - فورا يا أميرة، فورا يا صديقتي.
ثم سألت الأميرة وهي تلتفت نحو نيكولا الذي دخل حينذاك مع ديسال: وهذا هو ابنه؟ لدينا أمكنة كافية لإيوائكم، فالبيت كبير، أوه! يا له من طفل فتان!
أدخلت الكونتيس ماري إلى البهو، وكانت سونيا تتحدث مع الآنسة بوريين. راحت الكونتيس تمطر الطفل بالملق، ودخل الكونت العجوز ليحيي الأميرة، لقد تغير كثيرا منذ أن رأته آخر مرة، لم يعد الكهل الصغير النشيط المليء بالاندفاع والثقة إلا رجلا مسكينا مشوشا يثير الإشفاق، ما كان يكف وهو يتحدث مع الأميرة عن إلقاء نظرات قلقة حوله وكأنه يتأكد من أنه يعمل تماما ما وجب عليه عمله، لقد فقد بشكل واضح الاهتمام بكرامته الشخصية وأصبح يرى نفسه عالة في الحياة بعد أن فقد ثقته بنفسه إثر نكبة موسكو ودماره الشخصي.
لم يكن للأميرة إلا رغبة واحدة، هي رؤية أخيها بأسرع ما يمكن، وترى في غضب أنهم يضيعون عليها وقتا ثمينا بكل هذه المجاملات والتهاني المبالغ فيها التي أغدقوها على ابن أخيها، مع ذلك فإنها لم تتوان عن التطلع إلى ما حولها، وشعرت بضرورة الخضوع لهذه الأساليب الجديدة بالتصرف، كانت تعرف أن كل هذا لا ريب فيه وأنه يجب احتماله مهما بلغت مشقته.
قالت الكونتيس وهي تقدم سونيا: هذه ابنة أختي سونيا، إنك لا تعرفينها بعد يا أميرة.
فالتفتت الأميرة نحو سونيا وقبلتها، وهي تحاول جاهدة كبت شعور العداء الذي استبد بها نحو الفتاة، لكن الأكثر إيلاما بالنسبة إليها حينذاك كان اطلاعها على مدى بعد الاستعداد الفكري لدى كل من حولها عن اتجاهها الشخصي.
سألت من جديد موجهة حديثها إليهم بدون استثناء: أين هو؟
فأجابت سونيا ووجهها يتضرج: إنه في الأسفل، وناتاشا تسهر عليه، لقد ذهبوا يعلنون قدومك، أظن أنك شديدة التعب يا أميرة!
انبثقت دموع الغضب من عيني ماري، فاستدارت وكادت أن تطلب إلى الكونتيس الطريق إلى حيث أخيها عندما ارتفعت عند الباب خطى خفيفة حازمة تبدو كأنها تنبئ بالفرح، فنظرت الأميرة وراءها لترى ناتاشا داخلة في ما يشبه الجري، ناتاشا تلك نفسها التي لم ترق لعينيها قط إبان لقائهما الأخير في موسكو.
لكنها ما كادت تطالع وجهها حتى أدركت من فورها أن ناتاشا هذه هي رفيقة أحزانها المخلصة وبالتالي صديقتها، اندفعت للقائها وطوقتها بذراعيها ثم راحت تبكي على كتفها.
لم تكد ناتاشا الجالسة قرب سرير الأمير آندريه تعلم بوصول الأميرة ماري، حتى خرجت بهدوء من غرفة المريض وجرت إليها بتلك الخطى التي بدت مرحة بادئ الأمر في نظر الأميرة ماري.
ولما دخلت البهو وهي في شبه جري، لم يكن وجهها المنفعل ينم إلا بعاطفة واحدة الحب، الحب الذي لا تحده حدود نحوه، نحوها ونحو كل ما يتصل بالرجل الذي تحب، عاطفة إشفاق وحنان ورغبة جامحة في أن تنذر نفسها للترفيه عن الآخرين، كان يرى في تلك الدقيقة أن ناتاشا لا تفكر في نفسها ولا في علاقاتها مع الأمير آندريه.
ولقد لمست الأميرة ماري كل هذا ببديهتها من النظرة الأولى التي ألقتها على وجه ناتاشا، لذلك فقد انصرفت تبكي على كتفها بفرحة مرة. قالت ناتاشا وهي تأخذها إلى حجرة أخرى: هيا بنا، هيا بنا إليه يا ماري.
رفعت الأميرة ماري رأسها وجففت دموعها وأرادت أن تسألها، كانت تحس بأنها تستطيع معرفة كل شيء عن طريقها، شرعت تقول: إذن؟
لكنها توقفت، شعرت بأنه يتعذر السؤال والجواب باستعمال الكلمات، فوجه ناتاشا وعيناها كانت تنطق بلغة أشد وضوحا وأبعد عمقا.
كانت ناتاشا تنظر إليها ولكنها تبدو كأنها طافحة بالقلق والتردد، ترى هل يجب عليها أن تقول ما تعرفه أم تخفيه؟ كانت تحس بأنه يستحيل إخفاء الحقيقة كما تعرفها هاتين العينين اللامعتين اللتين تتغلغلان إلى أعماق قلبها، وفجأة ارتعدت شفتا ناتاشا وطافت بفمها حركة فغيرته، ثم انخرطت تبكي وقد أخفت وجهها بين يديها. أدركت ماري كل شيء، مع ذلك لقد جنحت إلى الأمل رغم كل شيء، وسألت دون أن تصدق الكلمات التي تنطق بها: وكيف حال جرحه؟ في أية حال هو؟!
فلم تستطع سونيا إلا أن تقول: سوف، سوف ... ترين.
ظلتا بضع لحظات في الأسفل في غرفة مجاورة لحجرة الأمير كي تخفيا دموعهما وتصلا بالقرب منه بوجهين هادئين. سألت الأميرة ماري: كيف كان سير مرضه؟ هل هو أسوأ حالا منذ زمن طويل؟ متى وقع «ذلك»؟
روت ناتاشا أنه خلال الأيام الأولى هدد الألم والحمى حياته بالخطر، ولكنه في تروئيتسا طرأ تحسن على حالته فلم يعد الطبيب يخشى إلا الأكلة، ثم استبعد هذا الخطر كذلك ... أما في إياروسلافل فقد حصل إصداد - ولقد أصبحت ناتاشا خبيرة في هذه الأمور - فأكد الطبيب أن هذا الإصداد سوف ينقطع ثانية، ثم عادت الحمى لكنه أكد ثانية أنها لن تكون خطيرة.
وشرعت ناتاشا تقول: مع ذلك فإن «ذلك» وقع فجأة أول أمس - وابتلعت شهقة لست أدري لماذا - لكنك ستتأكدين بنفسك كيف حاله.
سألت الأميرة: هل هو أشد ضعفا؟ هل هزل؟ - كلا، ليس الأمر متعلقا بهذا، إنه شيء أسوأ كثيرا، سوف ترين، آه! يا ماري، إنه شديد الطيبة، لن يستطيع، كلا، لن يستطيع أن يعيش لأنه ...
الفصل الخامس عشر
الدلائل الأولى
عندما فتحت ناتاشا الباب بحركتها المألوفة، وقدمتها عن نفسها في الدخول، شعرت الأميرة بالعبرات تخنقها، لقد عملت ما بوسعها لتستعد وحاولت جهدها أن تظهر هادئة، لكنها كانت تعرف أنها ستكون عاجزة عن رؤية أخيها دون أن تبكي.
لقد فهمت الأميرة ماري ما أرادت ناتاشا أن تقوله بهذه الكلمات؛ لقد وقع «ذلك» فجأة أول أمس، فهمت أن معنى ذلك أنه أفرط فجأة في التحنان، وأن ذلك الحنو الفجائي من آيات الموت السابقة، عادت ترى في خيالها وهي تقترب من الباب وجه آندريه طفولتها الصغيرة، ذلك الوجه اللطيف المليح الحاني المحتشم، الذي قلما عادت تراه فيما بعد، والذي كان كل مرة يزيد في انفعالها بأكثر قوة من المرة السابقة، كانت تعرف أنه سيقول لها تلك الكلمات الهادئة الحانية نفسها التي قالها أبوها لها قبل وفاته، وأنها لن تحتمل سماعها فتذوب في دموعها، ولكن طالما وجب ذلك آجلا أم عاجلا، فقد حزمت أمرها ودخلت إلى الغرفة، وكلما تبينت عيناها الكليلتان بوضوح شكل أخيها أكثر وتقاطيعه، تدافعت الغصات إلى حلقها، وأخيرا شاهدت وجهه وقابلت نظرته.
كان ممددا فوق أريكة متكئا على وسائد، متدثرا بمعطف منزلي مبطن بفراء السنجاب، وكان شديد النحول شاحبا، وإحدى يديه نحيلة لدرجة الشفف تحمل منديلا، بينما راحت الأخرى تفتل شاربه الرفيع المسترسل بحركة خفيفة من أصابعها، أما عيناه فكانت شاخصتان إليهما.
عندما شاهدت وجه أخيها ولاقت عينيه، أبطأت الأميرة ماري خطاها، شعرت فجأة بدموعها تخف ونحيبها يهدأ ، أحست فجأة وكأنها مذنب أمام هذا الوجه وأمام تلك النظرة.
تساءلت: «ولكن أي ذنب جنيت؟!»
وأجابت نظرة الأمير آندريه الباردة الصارمة: «ذنب الحياة والتفكير في العيش بينما أنا ...» لقد أصبحت تلك النظرة العميقة التي لا ترى ما في الخارج فحسب بل كذلك ما في داخل نفسه، شبه عدائية عندما استدار ببطء نحو الأميرة ماري ونحو ناتاشا.
تعانق الأخ والأخت قلبيا حسب عادتهما، وقال بصوت جامد ضعيف وغريب مماثل في هذه الصفات لنظرته: مرحبا يا ماري، كيف عملت لتصلي إلى هنا؟
ولو أنه أطلق صرخة ثاقبة، لما أذهلت تلك الصرخة الأميرة ماري وروعتها كلهجة ذلك الصوت.
قال بذلك الصوت الهادئ البسيط وهو يبذل جهدا ظاهرا للتذكر: هل جئت بصغيري نيكولا معك؟
سألت الأميرة ماري وهي دهشة لسؤاله: كيف حالك الآن؟
فأجاب: هذا يا عزيزتي يجب سؤال الطبيب عنه.
ولكي يبدو أنيسا قال باستخفاف، وكان واضحا أنه لا يفكر قط في ما يقول: شكرا يا صديقتي العزيزة لمجيئك.
ضغطت الأميرة ماري على يده، فقطب حاجبيه عند ذلك تقطيبا خفيفا، كان ملتزما الصمت بينما لم تكن هي تعرف ماذا تقول، فهمت ماذا جرى له منذ يومين. إن كلماته ورنة صوته وبصورة خاصة نظرته الباردة شبه العدائية، كانت تنطق بذلك التخلي عن كل ما هو دنيوي، ذلك التخلي الذي يروع الإنسان صحيح الجسم. كان الأمير آندريه يبدو كأنه يفهم العالم الحي بصعوبة، وكان يرى أن ذلك غير ناجم عن انعدام ميزة الفهم لديه، بل عن أنه يفهم شيئا آخر لا يستطيع الأحياء فهمه ولا يفهمونه، شيئا يغمره كله.
هتف فجأة وهو يقطع الصمت ويشير إلى ناتاشا: نعم، لقد جمعنا القدر بطريقة غريبة! إنها هي التي تعنى بي الآن.
كانت الأميرة ماري تسمع جيدا، ولكن دون أن تفهم ما كان يقوله أخوها، هو شديد اللطف، شديد الحنان كيف أمكنه أن يتكلم هكذا أمام تلك التي يحبها والتي تحبه؟! لو أنه كان يعتقد بشفائه لما تحدث بمثل هذه اللهجة المتحررة المهينة، ولو علم أنه مائت فكيف لم يشفق عليها؟! كيف يمكنه أن يتكلم في حضورها على هذا النحو؟! لا يمكن إعطاء كلماته إلا تفسيرا واحدا أن كل شيء متساو لديه، وذلك بكل دقة، لأن شيئا ما آخر أكثر أهمية قد كشف له.
وكانت المحادثة الباردة المتواترة تتوقف في كل لحظة.
قالت ناتاشا: لقد جاءت ماري عن طريق ريازان.
لم يلاحظ الأمير آندريه أنها تنادي أخته باسمها الصغير، لكن ناتاشا انتبهت لأول مرة في حضرته، سأل: حسنا؟ - رووا لها أن موسكو أصبحت رمادا كلها وأن ...
وتوقفت ناتاشا، الأفضل أن تصمت، لقد كان يبذل جهدا ظاهرا للإصغاء دون أن يصل إلى بغيته.
نعم، يقولون إن موسكو قد احترقت، وهذا محزن للغاية.
خلال ذلك كانت نظرته شاخصة أمامه وأصابعه تجذب شاربه بحركة آلية.
قال الأمير آندريه فجأة وهو يرغب في الظهور بمظهر المؤنس: وهل قابلت الكونت نيكولا؟
ثم أردف ببساطة وهدوء وكأنه لا يملك القوة على تصور مدى أهمية كلماته بالنسبة إلى أحياء: لقد كتب إلي هنا يقول إنك تروقين له كثيرا!
وأنهى حديثه قائلا بسرعة وكأنه سعيد إذ وجد أخيرا الكلمة التي طال بحثه عنها: فإذا كان يروق لك بالمثل، فإن ذلك يكون لخيركما ... سوف تقترنين به. لم تكن لتلك الكلمات أكثر من معنى واحد عند الأميرة ماري، إنها تشير إلى أن أخاها بعيد الآن بشكل مريع عن عالم الأحياء.
هتف بلهجة هادئة وهي تنظر إلى ناتاشا: لم التحدث عني؟!
وأحست ناتاشا بتلك النظرة تنحط عليها لكنها لم ترفع رأسها. ومن جديد ران الصمت. - آندريه، هل تريد ... هل تريد رؤية صغيرك نيكولا؟
طرحت الأميرة ماري هذا السؤال فجأة بصوت مرتعد، وأضافت: إنه لا يني يتحدث عنك!
طافت على شفتي الأمير آندريه لأول مرة ابتسامة خفيفة، لكن الأميرة التي كانت تعرف وجهه تماما أدركت بهول أنها لم تكن ابتسامة سرور أو حنان لفكرة وجود ولده، بل ابتسامة سخرية رقيقة لبقة موجهة إليها، لأنها استعملت الوسيلة الأخيرة التي - حسب رأيها - كانت قمينة بإيقاظ العاطفة فيه. - نعم، سأكون مسرورا برؤية صغيري نيكولا، هل صحته جيدة؟ وعندما جيء بنيكولا الصغير للأمير آندريه نظر الطفل إلى أبيه بذعر وروع، ولكن دون أن يبكي لأنه لم ير أحدا يبكي، فقبله الأمير آندريه دون أن يعرف ماذا يقول له.
ثم صرفوا الصغير واقتربت الأميرة ماري من أخيها من جديد فقبلته وانفجرت منتحبة وقد عجزت عن امتلاك أعصابها أكثر مما فعلت.
تأملها بنظرة محدقة، ثم سأل: أتبكين بسبب نيكولا؟
فأشارت الأميرة ماري خلال دموعها بحركة إيجابية من رأسها. - ماري، هل تعرفين الانج ...
وصمت فجأة. - ماذا تريد أن تقول؟
فقال وهو يحدق فيها بنظرته عديمة الإحساس: لا شيء هنا، لا يجب البكاء.
عندما رأى أخته تنفجر باكية أدرك الأمير آندريه أن أخته تبكي، لأن نيكولا الصغير سيصبح بعد حين يتيما، فبذل جهدا كبيرا على نفسه ليعود إلى الوراء قليلا في الحياة وليستعيد وجهة نظر الأحياء.
فكر: «نعم، إن ذلك لا بد يؤلمهم كثيرا! مع ذلك كم هو بسيط!» حدث نفسه وهو راغب في أن يشرك أخته في تفكيره ذاك: «إن عصافير الأجواء لا تزرع ولا تحصد، مع ذلك فإن أبانا السماوي يطعمها، ولكن لا، إنهما ستفهمان ذلك على طريقتهما أم لعلهما لن تفهما ذلك؟! إنهما لا تستطيعان فهم هذا، إن كل هذه العواطف التي تعلقان عليها كل هذه الأهمية وكل ما هو شخصي بحت في نظرنا وكل هذه الأفكار التي تبدو لنا بالغة الأهمية؛ إن كل هذا عديم الفائدة! كلا، ما عدنا نستطيع أن نتفاهم!» ثم صمت.
كان ابن الأمير آندريه الصغير على وشك بلوغ السنة السابعة من عمره، فكان بالكاد يعرف القراءة ولم يكن بعد قد تعلم شيئا، ولقد كان عليه منذ ذلك اليوم أن يكتسب خبرة ومعلومات وميزة الملاحظة. مع ذلك لو أنه استطاع أن يستعمل حينذاك كل الكفاءات التي وزعها فيما بعد، لما استطاع أن يفهم معنى المشهد الذي رآه يمثل بين أبيه والأميرة ماري وناتاشا أفضل مما فهمه، لقد فهم كل شيء وخرج من الحجرة دون أن يبكي واقترب بسكون من ناتاشا التي تبعته، ونظر إليها بوجل بعينيه الجميلتين الحالمتين وقد طافت رعدة خفيفة بشفتيه القرمزية الشامخة قليلا، ثم أخفى رأسه في هيكل الفتاة وراح يبكي.
ومنذ ذلك الحين أخذ يتحاشى ديسال وملاطفات الكونتيس، فكان يلبث العليا وحيدا تارة، وتارة يقترب من الأميرة ماري وناتاشا التي بدا أنه يفضلها على عمته نفسها، ويستخلص بخجل ووجل ممالقاتهما.
وعندما خرجت الأميرة ماري من مقابلتها مع أخيها وفهمت كل ما حدثها به وجه ناتاشا، لم تعد تتحدث إلى الفتاة عن أمل بالشفاء. حلت محلها قرب الأريكة حيث كان الأمير آندريه مسجى، وراحت دون أن تبكي أكثر مما بكيت ترفع إلى الأزلي الخالد صلوات من كل روحها، إلى الممتنع الذي جلت معرفته والذي كان حضوره عند رأس المحتضر يكاد يكون ملموسا.
الفصل السادس عشر
موت آندريه
لم يكن الأمير آندريه يعرف أنه سيموت فحسب، بل كان يشعر كذلك أنه يموت، بل إنه أصبح نصف ميت، كان شاعرا تماما بانفكاكه عن الأشياء الدنيوية، يحس بخفة مرحة غريبة، وكان ينتظر الذي لا بد منه دون تعجل ولا قلق. إن ذلك الوجود المنذر الخالد المجهول الذي لم يكف طيلة حياته عن الإحساس به بات الآن قريبا جدا، ولم تكن هذه الخفة الغريبة إلا الدليل الملموس الحساس. •••
لقد خاف الموت فيما مضى وأحس مرتين بالقلق المريع إذ رأى نفسه قريبا من نهايته، أما الآن فإنه لم يعد يشعر بهذا القلق.
شعر به أول مرة حينما كانت القنبلة تدور أمامه وهو ينظر إلى الحصد والأدغال والسماء وهو عارف بدنو الموت، فلما استعاد حواسه بعد جرحه خيل إليه أنه قد تخلص بصورة ما من ثقل الحياة الذي كان يمسك به، ولم تلبث بعد ذلك أن تفتحت في نفسه زهرة الحب الأبدي الحر وقد تحرر من كل رباط مع هذه الحياة، ومنذ ذلك الحين لم يعد يفكر في الموت قط بدلا من أن يخاف منه.
فكر مليا خلال ساعات الوحدة الأليمة ونصف الهذيان التي أعقبت جرحه في ذلك الحب الأزلي الذي اكتشفه حديثا، حتى إنه راح ينفصل أكثر فأكثر عن الحياة الدنيوية دون أن يكون لديه شك في ذلك، حب كل شيء وكل الناس، والتضحية بالذات دائما في سبيل الحب يعني عدم محبة أحد بالذات، وبالتالي عدم العيش حياة دنيوية. وعلى هذا فإنه كلما ازداد تعمقا في ذلك الحب الجديد، ازداد اعتكافا لأشياء هذا العالم، وأزال تماما الحاجز الرهيب الذي لولا الحب يقع بين الموت والحياة، وعندما شعر في الآونة الأولى بأنه على وشك الموت، قال لنفسه: «حسنا، هذا أفضل!»
لكنه بعد تلك الليلة في ميتيشتشي حيث رأى وهو في حالة أقرب إلى الهذيان تلك التي يرغب فيها تظهر أمامه، وحيث سفح دموع فرح حلوة وهو يضغط يدها على شفتيه؛ عاد الحب الذي تسلل خلسة إلى قلبه فأعطاه طعم الحياة، وعادت إليه أفكار مشرقة مقلقة. كان يشعر حينذاك بعجزه عن استعادة ذلك الشعور الذي أحس به عندما رأى كوراجين في مستشفى الميدان وأخذ يتعذب لمعرفة ما إذا كان سيعيش، ولكنه ما كان يجرؤ على طرح ذلك السؤال.
خلال ذلك تبع المرض طريقه الطبيعي، حيث «ذلك» الذي تحدثت عنه ناتاشا قبل وصول الأميرة ماري بيومين. لقد كان النضال الرفيع بين الموت والحياة ذلك النضال الذي تفوق فيه الموت، كان التأكيد غير المنتظر بأنه لا يزال يتعلق بالحياة لأنها تمثل له حب ناتاشا، وكان التمرد النهائي من جانب كيانه كله ضد المجهول الماثل.
كان المساء قد هبط، وكان كعادته بعد أن تناول الطعام مرتفع الحرارة قليلا، ولكن أفكاره كانت من أكثر الأفكار إشراقا، وكانت سونيا جالسة قرب الطاولة وهو يحلم، وفجأة استولى عليه شعور بالسعادة.
فكر: «آه! ها هي ذي!»
والواقع أن ناتاشا دخلت حينذاك وحلت محل سونيا دون أية ضجة.
لقد ظل يشعر منذ أن بدأت تعنى به بذلك الشعور المادي في حضرتها، كانت جالسة على مقعد وثير يظهر منها جانب وجهها، تحجب ضوء الشمعة وتسرد جوربا (لقد تعلمت السرد لأن الأمير آندريه قال لها ذات يوم إنه ما من أحد يحسن العناية بالمرضى أفضل من عجائز المربيات اللواتي يسردن الجوارب، وإن في السرد شيئا مهدئا)، تزلق أصابعها الدقيقة الصنانير بنشاط وهي تشتبك من حين إلى آخر، وكان يرى جانب وجهها الساهم المنحني مرتسما بوضوح على صفحة العتمة، أتت بحركة فتدحرجت كتبها على ركبتيها فانتفضت، وألقت نظرة على الأمير آندريه ثم حجبت ضوء الشمعة بيدها، وبحركة حريصة مرنة وسريعة انحنت فلمت كتبها واستعادت وضعيتها الأولى.
كان ينظر إليها دون أن يتحرك فلاحظ أنها بعد حركتها تلك في حاجة إلى نفس عميق بعد أن انحنت على ذلك النحو، لكنها لا تسمح لنفسها به وتسعى أن تتنفس بهدوء وحذر.
لقد تحدثا عن الماضي في دير الثالوث، فقال له إنه إذا عاش فسينذر إلى الله عرفانا أبديا لذلك الجرح الذي ساقه إليها، لكنهما منذ ذلك الحين لم يتحدثا عن المستقبل أبدا.
فكر الآن وهو ينظر إليها ويصغي إلى قرع الصنانير الفولاذية الخفيف: «هل يمكن؟ نعم هل يمكن؟ هل يمكن أن تكون القدرة قد جمعتني بها على هذا النحو المدهش لكي أموت فقط؟ ... هل يعقل أن تكون حقيقة الحياة لم تكشف لي إلا لتكذبني؟ إنني أحبها أكثر من كل الناس، وإذا كنت أحبها هكذا فماذا علي أن أفعل؟» وفجأة أفلت واحدة من أناته العميقة التي تنتابه في أويقات الألم.
وضعت ناتاشا سردها عند سماعها تلك الأنة وانحنت عليه، فلما لاحظت فجأة عينيه اللامعتين جاءت إليه بخطى خفيفة: ألست نائما؟ - كلا، لقد مضى علي وقت طويل وأنا أنظر إليك، لقد شعرت بك تدخلين، ما من أحد يهبني مثلك تلك الراحة الحلوة ... ذلك الإشراق، وددت، وددت لو بكيت من الفرح.
ازدادت ناتاشا انحناء عليه ووجهها يضيء بفرحة لا توصف. - ناتاشا، أحبك حبا مفرطا، أكثر من كل الناس . - وأنا!
ثم أدارت رأسها فترة، وقالت: ولكن لماذا حبا مفرطا؟ - لماذا مفرطا؟ هه، ماذا تفكرين وجدانيا، من كل وجدانك، هل سأعيش؟ هل تصدقين هذا؟
فقالت ناتاشا في شبه صرخة وهي تمسك بيديه بحركة كلفة: بل إنني واثقة، واثقة!
فصمت، ثم قال وهو يأخذ يدها ويقبلها: كم سيكون ذلك رائعا!
كانت ناتاشا سعيدة وقلقة، لكنها تذكرت فجأة أن المريض يجب أن يبتعد عن التأثر وأنه في حاجة إلى الهدوء، فقالت وهي تخنق فرحتها: وأنت الذي لم تنم حاول أن تنام ... أرجوك.
وازداد ضغطا على يدها ثم تركها تذهب، فعادت ناتاشا تجلس قرب الشمعة في وضعيتها السالفة، ولقد اختلست إليه النظر مرتين ولاقت في كل مرة عينيه اللامعتين، وحينئذ رتبت على نفسها واجبا في حياكة جوربها، ووعدت نفسها بأن لا تنظر إليه طالما لم تفرغ من عملها.
وفي الواقع أنه لم يلبث بعدئذ أن أغمض عينيه ونام، لكنه نام نوما قصيرا إذ سرعان ما استفاق فجأة وقد نضح جسمه بعرق بارد.
لم يفتأ في نومه يفكر في ما ظل يشغله طيلة هذه الحقبة؛ في الموت وفي الحياة، وبصورة خاصة في الموت الذي كان يشعر به أكثر قربا.
حدث نفسه: «الحب! ما هو الحب؟» «إن الحب يعارض الحياة، الحب هو الحياة. إن كل، كل ما أفهمه، لا أفهمه إلا لأنني أحب. إن كل شيء قائم، كل شيء موجود لأنني أحب فقط. إن كل شيء يتعلق بالحب، إن الحب هو الله، والموت في نظري يعني ذرة من هذا الحب، العودة إلى الكل الكبير، إلى المنهل الأزلي.» بدت له هذه الأفكار مواسية ولكنها لم تكن إلا مجرد أفكار، لقد كان شيء ما يسفهها، ففيها شيء ملزم من جانب واحد، شيء شخصي، شيء قياسي بحت، وهي مفتقرة إلى البيان، وهذا يجلب الكآبة والشك. أخيرا، أغفى.
حلم بأنه مستلق في تلك الحجرة بالذات التي هو فيها الآن، لكنه بدلا من أن يكون جريحا كان في عافية جيدة، ومر أمامه أناس كثيرون تافهون وغير مبالين، فكان يحدثهم ويناقشهم حول موضوع عديم الأهمية، وكانوا يستعدون إلى الذهاب إلى جهة ما والأمير آندريه يرى بإبهام أن كل ذلك عقيم، وأن في رأسه عددا من المشاغل الأكثر خطورة، مع ذلك فقد ظل يدهشهم ويحدثهم ببديهة متقدة عن أشياء تافهة. وبالتدريج، ودون أن يشعر بهم، بدأ هؤلاء الناس كلهم يتفرقون ويختفون، ولم يبق إلا مشكلة واحدة مشكلة إغلاق الباب، فنهض واقترب من الباب ليغلقه وليدفع المزلاج، ترى هل سيجد الوقت لإغلاق الباب أم لا؟ هذا ما كان «كل شيء» يتوقف عليه. مضى مستعجلا ولم تعد قدماه تحملانه، إنه يعرف أن الوقت لن يتاح له، خلال ذلك شدد من قواه بشكل مؤلم فاعتصره قلق شديد، وهذا القلق الشديد هو قلق الموت، «إنه» كامن في الجانب الآخر من الباب. وبينما هو منهمك بخرق وعجز في إغلاقه، كان شيء ما مخيف من الجانب الآخر يميل بثقله عليه ويقتحمه شيء ما لا يمت إلى الإنسانية بصلة، الموت يقتحم الباب وهو على وشك الدخول. منع الباب بكل ما تبقى له من قوى، فطالما أنه لا يستطيع إغلاق الباب فلا أقل من أن يمنع الموت من الدخول، لكنه بالغ الخرق شديد الضعف، وفتح الباب تحت الضغط الخارجي الرهيب ثم أغلق.
جاءت دفعة أخيرة من الخارج، ثم مجهود أخير فوق طاقة البشر عقيم، واستسلم المصراعان معا دون جلبة: «هو ذا دخل»، إنه الموت. وأخذ الأمير آندريه يموت.
لكنه وهو في سياق الموت تذكر أنه نائم، فبذل وهو يموت مجهودا عنيفا أيقظه. «نعم، ذاك كان الموت، لقد كنت ميتا واستيقظت، نعم، إن الموت يقظة»، وفجأة أضاءت روحه وارتفع الستر الذي ظل حتى ذلك الحين يحجب عن نظره الداخلي، شعر كأنه تحرر من القوة التي ظلت تفله حتى ذلك الحين، ولم يعد ذلك التخفيف الذي شعر به يفارقه حتى النهاية.
عندما استيقظ سابحا في العرق البارد، تحرك فوق الأريكة فجاءت إليه ناتاشا وسألته عما يريد، فلم يجبها وراح ينظر إليها بنظرة فريدة دون أن يفهم ما تسأله.
ذاك كان ما حصل له قبل وصول الأميرة ماري بيومين، ومنذ ذلك الحين - كما لاحظ الطبيب - أخذت الحمى البطيئة تأخذ طورا مؤذيا. ولكن لم تكن مزاعم الطبيب هي التي تثير الحنو في قلب ناتاشا، لقد شاهدت الأعراض الروحية التي كانت أشد هولا وامتناعا عن الجدل بالنسبة إليها.
وفي الواقع إن الأمير آندريه شرع منذ ذلك اليوم يخرج من الحياة بنفس وقت خروجه من حلمه، ولقد بدا له أن مبارحة الحياة أشد بطئا من الإفاقة من مرئيات حلم.
لم يميز يقظته البطيئة لحياة أخرى شيء مريع أو مثير.
لقد انقضت أيامه الأخيرة وساعاته الأخيرة على نحو أبسط من المعتاد، ولقد شعرت بذلك الأميرة ماري وناتاشا اللتان ما كانتا تفارقانه، لم تبك هذه ولا تلك وكفتا كلتاهما عن تعذيب نفسهما، وباتتا تشعران خلال اللحظات الأخيرة أنه لم يعد هو الذي تعنيان به، وهو الذي لم يعد له وجود إذ كان قد فارقهما، بل ذكراه القريبة وجسده المحتضر. ولقد كان هذا الإحساس من القوة لدى كلتيهما حتى لم يعد الجانب الرهيب الجانب الأبدي من الموت يؤثر فيهما، ولم تعودا تجدان فائدة من إذكاء نار آلامهما، لم تبكيا بالقرب منه ولا بعيدتين عنه ولم تتحدثا عنه فيما بينهما أبدا، كانتا تشعران بأنهما لن تستطيعا التعبير عما فهمتاه بواسطة الكلام.
كانتا كلتاهما تريانه يفلت من أيديهما أكثر فأكثر، ببطء وهدوء، ليمضي بعيدا، وكانتا كلتاهما تعرفان أن ذلك لا بد واقع وأنه حسن.
جعلوه يعترف ويتناول، وجاءوا جميعهم يودعونه. ولما جاءوه بابنه ضغط بشفتيه على وجنته واستدار، ليس لأن ذلك كان أليم الوقع عليه جم الحزن له - وقد فهمت الأميرة ماري وناتاشا ذلك - بل لأنه كان يفترض أن هذا كل ما يتوقعونه منه، مع ذلك فإنه عندما طلب إليه أن يبارك ابنه قام بما طلب إليه، وألقى نظرة محيطة وكأنه يتساءل عما إذا بقي عليه أن يفعل شيئا ما. حضرت الأميرة ماري وناتاشا تنشجان الجسد الأخير الذي فارقه الذهن، وقالت الأميرة ماري عندما بات جسد أخيها لا حراك به أمامهما منذ أكثر من دقائق وأخذ البرد يدب إليه: لقد انتهى!
فاقتربت ناتاشا ونظرت إلى العينين الميتتين وسارعت تغمضهما، أطبقتهما ولم تقبلهما بل وضعت شفتيها بخشوع على ما أصبح الآن الذكرى الأقرب إلى الذهن للأمير آندريه. «إلى أين ذهب؟ أين هو الآن؟ ...»
وعندما أسجي الجسد بعد غسله وإلباسه الثياب في نعشه فوق المائدة، اقتربوا جميعهم منه يودعونه.
أخذ نيكولا الصغير ينشج وهو في تلك الوحشة الأليمة التي كانت تمزق نياط قلبه، وراحت الكونتيس وسونيا تتوجعان على ناتاشا وعلى ذلك الذي لم يعد له وجود. أما الكونت العجوز فكان يذرف الدموع وهو يفكر في أنه هو الآخر سيجتاز قريبا هذه الخطوة الرهيبة نفسها.
الآن أخذت الأميرة وناتاشا تبكيان، لم تكن دموعهما منبعثة عن ألمهما الشخصي، بل من التأثر الخاشع الذي امتلأت به نفسهما أمام هذا السر البسيط الجليل سر الموت الذي وقع وأنجز تحت بصرهما.
الجزء الثاني
الفصل الأول
سير الجناح
إن مجموعة أسباب الظاهرات شيء لا يبلغه العقل البشري، غير أن الرغبة في اكتشاف الأسباب مغروسة فطريا في قلب الإنسان، وعلى هذا فإن الفكر يتعلق بأول حدث وافد سهل المنال، ويقول: هذا هو السبب، لأنه عاجز عن التعمق في شروط الظاهرات المعقدة ومداها اللانهائي. وفي الظاهرات التاريخية حيث الدراسة تقتصر على أفعال الأشخاص، تبدو إرادة الإله أقدم الأحداث المصاحبة، ثم تأتي بعدها إرادة الرجال الذين يشغلون المراكز الأكثر رفعة في التاريخ، أي الأبطال. مع ذلك يكفي أن يتعمق المرء في جوهر كل حدث تاريخي، أي في نشاط الجمهور البشري الذي ساهم فيه، ليتأكد من أن إرادة بطل لا توجه ذلك النشاط الجماهيري، بل إنها نفسها موجهة باستمرار، وفهم حدث تاريخي على هذا اللون أو على نهج آخر يمكن أن يبدو معدوم الفرق. مع ذلك فإن بين من يقول: إن شعوب الغرب اتجهت نحو الشرق لأن نابليون كان يريد ذلك، وبين الذي يقول: إن الأمر قد وقع لأنه لم يكن هناك بد من وقوعه؛ مثل انعدام الفرق بين الأشخاص الذين يؤكدون أن الأرض جامدة والكواكب تدور حولها، وبين الذين يقولون بجهلهم على أي شيء ترتكز الأرض؟ ولكن يؤيدون مع ذلك أن هناك قوانين تنظم حركتها وحركة الكواكب الأخرى. ولا يوجد كما لا يمكن أن يوجد سبب آخر للحدث التاريخي غير سبب الأسباب. لكن هناك القوانين التي تدير الأحداث، وهذه القوانين التي غالبا ما تكون مجهولة تبدو لنا أحيانا محسوسة، واكتشافها غير ممكن إلا عندما نتنكب نهائيا البحث عن أسباب الأحداث في إرادة شخص واحد، كما لم يصبح اكتشاف قوانين حركة الكواكب ممكنا إلا بعد أن أغفلت نظرية انعدام حركة الأرض.
بعد معركة بورودينو واحتلال موسكو واحتراقها باتت أهم مرحلة في حرب عام 1812 في نظر المؤرخين هي سير الجيش الروسي من طريق ريازان نحو طريق كالوجا باتجاه معسكر تاروتينو - وهي قرية واقعة على نهر نارا - أي ما أطلقوا عليه اسم سير الجناح، وراء كراسناييا باخرا وهي قرية وراء باخرا، رافد موسكفا الأيمن. إن المؤرخين يعزون شرف هذه المأثرة إلى مختلفين لم يتفقوا فيما بينهم عليهم، والغرباء أنفسهم والمؤرخون الفرنسيون أنفسهم يعترفون بعبقرية الجنرالات الروسيين عندما يتحدثون عن سير الجناح هذا (راجع تيير الجزء 14، ص405). ولكن لماذا يرى المؤرخون العسكريون والناس كلهم في أعقابهم في سير الجناح ذاك نفاذ بصيرة أو نفاذ بصيرة شخص واحد، ذلك التبصر الذي أنقذ روسيا وقضى على نابليون؟ هذا هو ما صعب على الإدراك.
ففي المرحلة الأولى:
لا يمكن لمس ما في هذه الحركة من عمق وعبقرية؛ لأنه لا يقتضي الحال مجهودا فكريا كبيرا لمعرفة أن أفضل موقع لجيش عندما لا يكون مهاجما هو المكان الذي يجد أكثر الموارد بالنسبة إليه، إن تلميذا في الثالثة عشرة من عمره حتى ولو كان محدود الفكر يستطيع دون عناء أن يدرك أن أفضل موقع للجيش عام 1812 بعد هجر موسكو هو طريق كالوجا، لذلك لا يمكن الفهم للوهلة الأولى بنتيجة أية استنتاجات توصل بعض المؤرخين إلى اكتشاف شيء ما عميق في تلك الحركة.
وفي المرحلة الثانية:
إنه أكثر صعوبة على الفهم معرفة السبب الذي يرى بعض المؤرخين في تلك الحركة خلاص الروسيين وضياع الفرنسيين، لأن سير الجناح ذاك في مناسبات تختلف عن تلك التي سبقته وصاحبته وتبعته لأولى إلى ضياع الجيش الروسي وخلاص الجيش الفرنسي. وإذا كان وضع الجيش الروسي قد تحسن منذ أن أنجزت هذه الحركة، فإنه لا يمكن قط الاستنتاج أن هذه الحركة هي التي كانت السبب.
إن سير الجناح ذاك لم يكن يستطيع إضفاء أي تحسن أو ميزة فحسب، بل كان كذلك يمكن أن يسبب ضياع الجيش الروسي لو لم تتدخل لمساعدته ظروف أخرى، فماذا كان يحدث يا ترى لو أن موسكو لم تحترق؟ ولو أن مورا لم يفقد اتصاله مع الروسيين؟ ولو أن نابليون لم يجد نفسه محمولا على العجز؟ ولو أن الجيش الروسي خاض المعركة في كراسناييا باخرا كما كان يريد بيينجسن وباركلي؟ ماذا كان يقع يا ترى لو أن الفرنسيين هاجموا الروسيين أثناء سيرهم إلى وراء باخرا؟ ثم ماذا كان يحدث لو أن نابليون فيما بعد كان هاجم الروسيين عند مشارف تاروتينو بعشر الحماس الذي بذله أمام سمولنسك؟ وماذا كان يحدث لو أن الفرنسيين مشوا إلى بيترسبورج؟! ... إن حسنات سير الجناح ذاك في كل هذه الافتراضات كان يمكن أن ينقلب إلى دمار تام.
وفي المرحلة الثالثة:
إن أشد ما هو ممتنع عن الإدراك يقوم في رؤية الناس، يدرسون التاريخ ويرفضون بتعمد أن يفهموا أن سير الجناح ذاك لا يمكن أن يعزى قط إلى مشيئة رجل واحد، وأن ما من أحد دبره في أية لحظة، وأن هذه «المناورة» وكذلك الانسحاب في فيلي لم يكن في مجموعها معدة من جانب أحد، بل تكونت خطوة فخطوة، وانتقلت من حدث إلى حدث دقيقة فدقيقة، نتيجة لعدد لا يحصى من المناسبات، وأن سير الجناح ذاك بالاختصار لم يظهر في مجموعه إلا بعد أن تم وأضحى جزءا من الماضي.
قنصل الحرب في فيلي.
في المجلس الحربي المعقود في فيلي كانت الفكرة المسيطرة في القيادة الروسية العامة هي الانسحاب المفروض فرضا بخط مستقيم، أي عن طريق نيجني-نوفجورود. ولقد تأيد هذا بواقعة انحياز أكثر الأصوات في ذلك المؤتمر إلى هذه الفكرة، وخصوصا بالمحادثة الخاصة التي جرت بعد ذلك بين القائد العام ولانسكوي الممون العام؛ عرض لانسكوي للقائد العام أن تموين الجيش قد ركز بصورة خاصة على ضفاف نهر أوكا في حكومات تولا وكالوجا، وأنه في حالة التراجع باتجاه نيجني-نوفجورود فإن التموين سينقطع عن الجيش بسبب عرض مجرى نهر أوكا، الذي يستحيل الشروع في نقل على الزوارق عبره في بدء الشتاء. وكانت هذه الإشارة الأولى الدالة على ضرورة إغفال التقهقر على خط مستقيم باتجاه نيجني-نوفجورود، ذلك التقهقر الذي قدر بادئ الأمر بأنه طبيعي جدا. اضطر الجيش أن يتجه متوغلا نحو الجنوب على طريق ريازان ليقترب من مراكز تموينه، وبالتالي اضطر الجيش أن يسير في انحناء أكثر نحو الجنوب على طريق تولا بسبب جمود الفرنسيين الذي بلغ درجة إغفالهم الجيش الروسي والانشغال في الدفاع عن مصنع تولا، وبصورة خاصة بسبب ميزة الاقتراب من مراكز التموين. وبعد سير غير مأمون بغية الوصول إلى طريق تولا عبر ضفة باخرا الثانية، فكرت القيادة الروسية العليا في التوقف عند بولولسك دون أن تتصور قط حصن تاروتينو، لكن عددا لا يحصى من الظروف ثم ظهور الفرنسيين الجديد الذين أضاعوا أثر الروسيين قبل ذلك ونوايا خوض المعركة، وبصورة رئيسية غزارة المؤن في كالوجا؛ كل ذلك دفع جيشنا إلى الانحناء أكثر نحو الجنوب والوصول إلى مركز تموينه، منتقلا من طريق تولا إلى طريق كالوجا باتجاه تاروتينو، ولم يخطر ببال أحد أن يصدق أن الشيء قد أريد وأعد منذ أمد طويل إلا عندما عسكر الجيش في تاروتينو وبعد أن تدخلت قوى تفاضلية لا تحصى.
الفصل الثاني
رسالة نابليون
قام سير الجناح العتيد فقط على أساس أن الجيش الروسي الذي كان يتراجع بخط مستقيم إلى الوراء على عكس الهجوم، انحرف عن طريقه السابق منذ أن توقف الهجوم، ورأى نفسه أنه غير متبوع واستدار بحركة طبيعية نحو الجهة التي تجتذبه إليها وفرة المؤن.
فلو فرضنا أن الجيش الروسي حينذاك كان محروما من الرؤساء العباقرة أو أنه كان دون رؤساء إطلاقا، فإنه ما كان يستطيع أن يعمل غير حركة عودة نحو موسكو راسما قوس دائرة من الجهة التي تكون فيها الأرزاق أكثر وفرة والأرض أغزر إنتاجا.
فانتقاله من طريق نيجني -نوفجورود إلى طريق ريازان وتولا وكالوجا كان طبيعيا جدا، مثل ما كان اتجاه سلابي الجيش الروسي في ذلك الاتجاه وفرض خط المسير ذاك على كوتوزوف من بيترسبورج طبيعيين تماما. ففي تاروتينو تلقى كوتوزوف ما يشبه التعنيف من الإمبراطور لأنه سلك طريق ريازان، وفرض عليه أن يتمركز قبالة كالوجا في الموقع نفسه الذي كان يحتله عندما وصلت إليه رسالة عاهله.
بعد أن تدحرجت الكتلة التي تشكل الجيش الروسي في الاتجاه الذي فرضته عليها الحملة كلها ثم معركة بورودينو، وبعد أن نجحت من تلقي أية صدمة جديدة بعد توقفها إثر الصدمة الأولى؛ استعادت تلك الكتلة الوضعية التي كانت طبيعة بالنسبة إليها.
فموهبة كوتوزوف إذن ليست فيما يسمونه «مناورة استراتيجية» عبقرية، ولكن في أنه وحده كان يفهم معنى الوقائع الدائرة، كان وحده حينذاك الذي يفهم أهمية جمود الجيش الفرنسي، وحده الذي كان يؤكد أن معركة بورودينو نصر، وحده الذي رغم ما كان يمكن لمركزه كجنرال قائد أعلى أن يحمله على التحيز نحو فكرة الهجوم، ظل يستعمل نشاطه كله ليجنب الجيش الروسي المعارك التي لا طائل تحتها.
كان الحيوان الجريح في بورودينو مسجى الآن حيث تركه الصياد الفار، فهل ما زال حيا؟ هل يحتفظ ببعض القوى أم تراه يتظاهر بانعدام تلك القوى؟ لم يكن الصياد يعرف شيئا عن ذلك، لكن الحيوان الجريح أطلق فجأة زمجرة.
كانت زمجرة الحيوان الجريح الكاشفة عن نهايته الوشيكة تتلخص في عرض الصلح الذي حمله لوريستون
1
إلى معسكر كوتوزوف.
كتب نابليون إلى كوتوزوف متأثرا بقناعته بأن الخير ليس ما هو خير بل ما يخطر له على بال، الكلمات الأولى التي طافت بذهنه، فكانت تلك الكلمات عارية من كل معنى:
سيدي الأمير كوتوزوف، أوفد إليك أحد مساعدي العسكريين الجنرالات ليتحدث معك حول عديد من الأشياء المهمة، إنني أرغب أن تثق سعادتك في كل ما يقوله، خصوصا عندما يعرب عن عواطف التقدير والاعتبار الخاص التي أكنها لشخصكم منذ أمد طويل. ولما كانت هذه الرسالة لا تهدف إلى غرض آخر، فإني أرجو الله يا سيدي الأمير كوتوزوف أن يكلأك بحمايته القديرة المقدسة!
موسكو في 30 تشرين الأول 1812
التوقيع: نابليون
أجاب كوتوزوف الذي ظل يعمل كل ما في وسعه ليمنع الجيش عن الجنوح إلى الهجوم: ستلعنني الأعقاب إذا نظر إلي بوصفي أول محرك لتدبير ما، إن عقلية أمتي الحالية هي على هذا النحو.
خلال الشهر الذي انقضى على الجيش الفرنسي في نهب موسكو والجيش الروسي في استجمامه في تاروتينو، طرأ تبدل على نسبة قوى الجيش في عددهما وفي الفكرة التي تحركهما لدرجة مال معها الميزان إلى الجانب الروسي، فبدت ضرورة الهجوم تكشف عن نفسها بألف دلالة رغم أن الوضع الحقيقي للجيش الفرنسي والرقم الحقيقي لتعداده كانا مجهولين من الروسيين، وتلك الدلالات كانت التالية: سلوك لوريستون، وفرة الأرزاق في تاروتينو، التقارير الواردة من مختلف الجهات حول تعطل الفرنسيين وفوضى صفوفهم، الأفواج المستكملة بوصول الاحتياطي، الطقس البديع، الراحة الطويلة التي نعمت بها القطعات، نفاد الصبر ذاك الإنجاز مهمته الذي يبدو عادة في الجيوش المستريحة، الفضول الدافع إلى الاستعلام عن حركات وأعمال الجيش الفرنسي الذي انقطع كل احتكاك به منذ وقت طويل، الجرأة التي أصبحت تظهرها طلائعنا الآن في التسلل بين الفرنسيين المقيمين في منطقة تاروتينو، أنباء الانتصارات الصغيرة التي حققها القرويون والأنصار ضد الفرنسيين، التنافس الذي كانت تلك الأنباء تحدثه، الرغبة في الانتقام المغروسة في قلب كل جندي منذ أن احتل الفرنسيون موسكو، وزيادة على ذلك الإيمان الغامض الذي توغل في روح كل جندي بأن نسبة القوات لم تعد ذاتها وأن الغلبة في جانبنا. ولما كانت نسبة القوى قد تبدلت فإن الهجوم لا مناص منه، وبمثل السرعة والدقة التي تدق فيها الساعة عندما يطوف العقرب الكبير متمما دورة الميناء، كذلك أحدث ذلك التبدل في الأوساط العليا نشاطا مضاعفا مثل انطلاق النوابض وحركة اهتزاز جرس الساعة وقرع الأجراس.
الفصل الثالث
القوقازي شابوفالوف
كان الجيش الروسي بقيادة كوتوزوف وأركان حربه، ومن بيترسبورج يوجهه الإمبراطور، ففي بيترسبورج أعدوا مخططا مفصلا لكل الحرب حتى قبل أن يتلقوا نبأ تسليم موسكو، وأرسلوه إلى كوتوزوف ليتبع سنته. وعلى الرغم من أن ذلك المخطط كان مبنيا على افتراض وجود موسكو بين أيدينا، فإنه تبني من قبل أركان حرب الجيش ووضع موضع التنفيذ، غير أن كوتوزوف أبدى فقط ملاحظة تقول إن الحركات العسكرية البعيدة الرامية إلى صرف نظر العدو عن نقطة ما تكون عادة صعبة التنفيذ، لذلك ولحسم الصعوبات المعترضة أخذوا يرسلون إليه من بيترسبورج تباعا تعليمات جديدة وأشخاصا جددا مهمتهم مراقبة عملياته ورفع تقارير عنها.
أضف إلى ذلك أن أركان حرب الجيش تعرض الآن لتبديل عميق، إذ وجب تعيين شخص ما مكان باجراسيون الذي قتل وباركلي الذي تنحى بعد أن أهين في كرامته. ولقد فحصت أفضل السبل الواجب اتخاذها بخطورة متناهية: وضع «أ» مكان «ب»، و«ب» مكان «د»، أو «د» مكان «أ»، وكأن كل هذه التسميات كان يمكن أن تهدف إلى أكثر من إرضاء «أ» و«ب».
وبسبب الألفة القائمة بين كوتوزوف ورئيس أركان حربه بيينجسن، وكذلك بسبب التنقلات الواجب إجراؤها، ووجود شخصيات حائزة ثقة الإمبراطور في المعسكر؛ أخذت الأحزاب تلعب دورا أكثر رزانة من المألوف، فكان «أ» يدس على «ب» و«د» على «س» في كل التبديلات والترتيبات. وكانت تلك الدسائس تهدف في الغالب إلى الاستيلاء على إدارة العمليات من جانب مثيريها، لكن الحرب كانت تسير سيرها المعتاد في غنى عنهم، لأنها كانت ناجمة عن ردود الفعل عند الجماهير دون أن تنطبق قط مع الترتيبات المقررة، وكل هذه الترتيبات التي تتلاقى وتشتبك لم تكن تمثل في الأوساط العليا إلا الانعكاس الصحيح لما كان يجب أن يتم.
في رسالة كتبها الإمبراطور يوم الثاني من تشرين الأول وتلقاها كوتوزوف بعد معركة تاروتينو، كتب الإمبراطور:
الأمير ميخائيل إيلاريونوفيتش
منذ الثاني من أيلول وموسكو في يد الأعداء، إن تقاريرك الأخيرة مؤرخة في 20، وطيلة هذا الوقت لم تتخذ أية إجراءات ضد العدو لإنقاذ عاصمتنا الأولى فحسب، بل كذلك تبعا لتقاريرك الأخيرة لبثت تتراجع؛ إن سيربوخوف محتلة من قبل فوج عدو، وتولا بمصنعها الشهير شديد الأهمية بالنسبة إلى الجيش باتت في خطر، وأرى من تقارير الجنرال ونتزبخيرود أن فوجا معاديا تعداده عشرة آلاف رجل يقترب على طريق بيترسبورج، وأن آخر تعداده بضعة آلاف من الرجال يتجه نحو دميتروف، وثالثا يسير على طريق فلاديمير، ورابعا على جانب من ضخامة العدد يعسكر بين روزا وموجائيسك، ولقد كان بالذات لا يزال في موسكو حتى في يوم 25. فإذا كان العدو قد جزأ قواه كما يستنتج من هذه المعلومات إلى فرق كبيرة، في حين أن نابليون نفسه ما زال في موسكو مع كل حرسه؛ فهل لا يزال ممكنا أن تكون إزاء جيش عرم لا تستطيع لوفرة عدده أن تنقلب إلى الهجوم عليه؟ إن الظاهر يوحي بعكس ذلك، ويفرض احتمال مطاردة العدو لك بفيالق إذا قورنت بالحوادث الموضوعة تحت إمرتك كانت أقل عددا وضئيلة جدا، وكان يبدو أنك تبعا لهذه الظروف المواتية كنت تستطيع محاولة القيام بهجوم ضد عدو أضعف منك وأن تبيده أو أن ترغمه على الأقل على التراجع، فتحفظ في أيدينا الجزء الأكبر من الأقاليم المحتلة اليوم، وبذلك تدفع الخطر عن تولا وعن مدن أخرى في الداخل. وإذا كان العدو قادرا على إرسال جانب كبير من القوات إلى بيترسبورج وأن يهدد هذه العاصمة شبه العزلاء تماما، فإنك ستحتمل المسئولية لأن لديك كل الإمكانيات للحيلولة بالجيش الذي تحت إمرتك دون وقوع هذه المصيبة الجديدة إذا عملت بحزم وثبات. تذكر أن عليك حتى الآن مسئولية الرد على سبب ضياع موسكو أمام الوطن الساخط، وأنك تعرف بالتجربة مدى استعدادي لمكافأتك. إن حسن الالتفاتة هذه لم تتبدل، لكن روسيا وأنا من حقنا أن ننتظر منك كل الغيرة والحزم والنجاح، التي يسمح لنا ذكاؤك وميزاتك العسكرية وبسالة الجنود الموضوعين تحت إمرتك أن نتوقعها منك.
ولكن في الوقت نفسه الذي كانت تلك الرسالة الدالة على أن نسبة القوى الصحيحة معروفة كذلك في بيترسبورج، في طريقها فيه نحو كوتوزوف؛ كان هذا في وضع لم يعد يسمح له أن يمنع الجيش الذي بأمره عن اتخاذ الهجوم، وكانت المعركة دائرة فعلا .
في الثاني من تشرين الأول قتل القوقازي شابوفالوف الذي كان في دورية أرنبا برية وجرح أخرى، فاستسلم لرغبة مطاردة صيده الجريح، وتوغل بعيدا في الغابة حتى عثر على الجناح الأيسر لجيش مورا الذي لم يكن قد اتخذ أية حيطة في تلك الجهات، وروى القوقازي لزملائه وهو يضحك أنه كاد يقع بين الفرنسيين، فرفع حامل العلم الذي سمع هذه الرواية تقريرا إلى رئيسه.
استدعي القوقازي واستجوب، وواتت رؤساؤه فكرة انتهاز الفرصة للقيام بغزوة يفوزون فيها ببعض الجياد، لكن أحد أولئك الرؤساء وكان يعرف أرفع ضباط الجيش أبلغ الخبر إلى جنرال من أركان حرب الجيش، وكان الموقف شديد التوتر في الأركان منذ بعض الوقت، ولقد جاء إيرمولوف قبل بضعة أيام يتوسل إلى بيينجسن أن يستعمل نفوذه لدى الجنرال القائد الأعلى ليحمله على القيام بالهجوم.
فأجاب بيينجسن: لو أنني ما كنت أعرفك لظننت أنك تريد العكس تماما، عكس ما تطلب، ليس علي إلا أن أشير بشيء ما حتى يعمد الجنرال القائد الأعلى إلى عمل عكسه تماما.
أيدت الاستطلاعات النبأ الذي حمله القوقازي، وأكدت بشكل نهائي أن الحدث قد نضج، وتمددت نوابض الساعة وصرت ثم قرع الجرس. واضطر كوتوزوف رغم كل سلطانه العظيم وذكائه وخبرته ومعرفته بالرجال أن يأخذ بعين الاعتبار طلب بيينجسن، الذي أرسل من قبل تقريره الشخصي حول هذا الموضوع إلى الإمبراطور، ورغبة كل جنرالاته الموحدة وكذلك الرغبة المفروض أنها تجيش في نفس الإمبراطور نفسه والمعلومات التي قدمها القوقازيون، فلم يعد يستطيع إيقاف حركة أصبحت لا بد منها فأعطى تبعا لذلك أمرا كان يقدر أنه خطير وعقيم: لقد أيد الواقعة الواقعة.
الفصل الرابع
أوامر إلى إيرمولوف
كان تقرير بيينجسن ومعلومات القوقازيين المؤكدة أن جناح الفرنسيين الأيسر مكشوف آخر الدلالات على الضرورة التي تستبد بهم الداعية إلى إعداد الهجوم، وحدد هذا الهجوم لليوم الخامس من تشرين الأول.
ففي اليوم الرابع صباحا وقع كوتوزوف على الأوامر، وقد قرأ تول الأوامر على إيرمولوف وأوعز إليه أن يتخذ آخر التدابير، فقال إيرمولوف: حسنا، حسنا، ولكن ليس لدي الوقت الآن.
وخرج من كوخه الخشبي.
كانت الخطة التي وضعها تول ممتازة، فكان يقرأ فيها، تماما كما في خطة أوسترليتز، كل ما لم يكن مكتوبا بالألمانية.
الطابور الأول يمشي نحو هذه البقعة أو تلك، والطابور الثاني يمشي نحو هذا أو ذاك المكان الآخر وهلم جرا، وكل هذه الطوابير التي تصل على الورق في الساعة المحددة إلى أمكنتها ستسحق العدو. كانت خطة منظمة تماما كما في كل الخطط، وكما في كل الخطط لم يصل طابور واحد إلى مكانه في الوقت المحدد.
وعندما أصبحت كل نسخ الخطة المطلوبة جاهزة، استدعي ضابط وأرسل إلى إيرمولوف كي يسلمه الأوراق للتنفيذ، وراح الضابط وهو فارس شاب في الحرس ومساعد عسكري لكوتوزوف إلى مسكن إيرمولوف، وهو فخور بالمهمة الموكولة إليه.
أجابه تابع إيرمولوف: لقد خرج.
فمضى الضابط الفارس إلى مسكن الجنرال الذي درج إيرمولوف على زيارته: كلا، ليس الجنرال هنا.
فامتطى الضابط صهوة جواده من جديد ومضى إلى مسكن آخر: كلا، لقد ذهب.
فكر الضابط: «المهم أن لا يعتبروني مسئولا عن التأخير! يا لسوء الطالع!» وحث جواده فطاف به المعسكر كله، روى له البعض أنهم شاهدوا إيرمولوف يبتعد مع بعض الجنرالات، بينما أكد البعض الآخر أنه عاد إلى مسكنه حتما. وظل الضابط يبحث عن إيرمولوف حتى السادسة مساء دون أن يتناول طعاما، ولكن ليس من إيرمولوف في أي مكان، وما من أحد يستطيع أن يدله على مكان وجوده! فتناول الضابط لقيمات على عجل لدى أحد زملائه وعاد على الأثر إلى الطليعة عند ميلورادوفيتش، لكن ميلورادوفيتش هو الآخر لم يكن في مركزه، لكنهم قالوا لضابط الحرس إنه في الحفلة الراقصة المقامة في مسكن الجنرال كيكين، وإن إيرمولوف لا بد بالتالي وأن يكون هناك. - ولكن أين هذا المكان؟
فقال ضابط قوقازي وهو يشير إلى بيت أحد السادة في البعد: هناك، في إيتشكينو. - كيف هناك؟! إن هذا وراء خطوطنا! - لقد أرسلوا فوجين على الخط، إنهم الآن يقصفون قصفا مريعا! إن لديهم فرقتي موسيقى الفوج وثلاث فرق من المغنين .
مضى الفارس الضابط إلى ما وراء الخط إلى إيتشكينو، وقبل أن يصل إلى بيت السيد تناهى إلى سمعه إيقاع مرح لأغنية راقصة شائعة بين الجنود. - «في الحقول ... في الحقول!» وكان الغناء يبلغ سماعه مصحوبا بأنغام المزامير وقرع الصنوج، تطغى عليه الأصوات الصاخبة من حين إلى آخر. ولقد نشط الضابط لهذه الأصوات البهيجة وبنفس الوقت ذعر لذنبه، إذ كان يشعر بأنه مذنب لتأخره كل هذا الوقت في نقل الأمر الهام الموكول إليه. وكانت الساعة قد شارفت على التاسعة، ترجل عن جواده وصعد مرقاة بيت أحد السادة ظل سليما لوقوعه بين خطوط الفرنسيين والروسيين تماما، فرأى عددا من الخدم يحملون النبيذ ويعملون في الردهة وفي المقلاد وبعض المغنين مجتمعين تحت النوافذ. أدخلوا الضابط الذي رأى فجأة معظم جنرالات الجيش مجتمعين وفي عدادهم إيرمولوف ذو الوجه المرتفع الوقور، وكلهم متقدة وجوههم تجيش بالحمية، التفوا في نصف دائرة وراحوا يقهقهون ملء حناجرهم، وقد حلوا أزرار ستراتهم الرسمية. وفي وسط البهو أخذ جنرال جميل معتدل القامة مضرج الوجه يرقص بنشاط وحذق رقصة شعبية يتخللها قرع بالكعبين وثني مفاجئ من الركبتين. - ها! ها! ها! انشط! نيكولا إيفانوفيتش! ها! ها! ها!
شعر الضابط الفارس أنه بدخوله الآن حاملا تلك الأوامر المهمة سيكون مذنبا مرتين، فأراد الانسحاب لكن أحد الجنرالات لمحه، فلما عرف سبب وجوده أشار إلى إيرمولوف عليه، فجاء إيرمولوف نحوه مقطب الحاجبين، وبعد أن أصغى إليه أخذ أوراقه دون أن ينبس بكلمة.
قال أحد رفاق الضابط الفارس ذلك المساء في حديث عن إيرمولوف، وكان ذلك الضابط ملحقا بالأركان العامة: هل تعتقد أنه لم يتعمد الاختفاء؟ إنها مؤامرة، إنه تدبير مقصود، إنه يريد أن يخدع كونوفنيتش، انتظر، سترى مدى الفوضى غدا!
الفصل الخامس
حركة فاشلة
في اليوم التالي أوقظ كوتوزوف الهرم في ساعة مبكرة، فتلا صلواته وارتدى ثيابه واستقل عربة خفيفة وهو يحمل بين جنبيه الشعور الكريه باضطراره إلى إدارة دفة معركة لا يقرها، ومضى من ليتاشوفكا على بعد خمسة فراسخ وراء تاروتينو ليلحق بالبقعة التي كان على طوابير الهجوم أن تجتمع فيها، مضى وهو يغفو ويستيقظ ويصيخ السمع ليعرف ما إذا كانوا يطلقون النار على اليمين، وما إذا كانت المسألة لم تبدأ بعد. لكن كل شيء لبث حتى ذلك الحين ساكنا، وكان فجر يوم خريفي رطب ومكفهر، منبثق بالكاد. ولما بلغ تاروتينو لاحظ كوتوزوف فرسانا يأخذون خيولهم إلى الورد وهم يجتازون الطريق التي تسلكها عربته، تأملهم واستوقفهم وسألهم عن الفيلق الذي ينتمون إليه، كان أولئك الفرسان تابعين لطابور كان عليه أن يكون منذ وقت طويل بعيدا إلى الأمام في كمين، فحدث الجنرال القائد الأعلى العجوز نفسه قائلا: «إنه خطأ ولا ريب»، ولكنه بعد ذلك شاهد فيالق مشاة وقد ركزوا بنادقهم باقات متباعدة، يهيئون طعامهم ويجمعون الحطب وهم في سراويلهم الداخلية. استدعى ضابطا فأخبره الضابط أي أمر بالهجوم لم يصدر إليهم.
شرع كوتوزوف يقول: كيف؟! هل هذا مما ...
لكنه صمت وأرسل يستدعي القائد، نزل من عربته مطرق الرأس ضيق الأنفاس وراح ينتظر بصمت وهو يذرع الأرض جيئة وذهابا، وعندما جاء ضابط الأركان إيخن الذي أرسل يستدعيه، تدفقت الدماء إلى وجه كوتوزوف لا لأن هذا الضابط المسئول عن الخطأ المرتكب، بل لأنه شخص يمكنه أن يصب جام غضبه عليه. وبلغ الرجل العجوز أقصى درجات الغضب التي كانت فيما مضى تجعله يتدحرج على الأرض، واندفع نحو إيخن يرتعد لاهث الأنفاس مزمجرا يهدده بقبضتيه وأمطره بأقذع السباب وأحطه. وجاء ضابط آخر، الرئيس بروزين، في تلك اللحظة فلقي مثل مصير زميله رغم أنه لم يكن مذنبا في شيء. راح كوتوزوف يزمجر في صوت أجش وهو يلوح بيديه ويترنح: «ما هذه السفالة؟! ليعدموهم بالرصاص! حقيرون!»
كان يشعر بألم مادي، هو، الجنرال الأول، القائد الأعلى الذي كان الناس كلهم يؤكدون له أنهم لم يروا قط في روسيا نفوذا يضاهي نفوذه، هو الآن في موقف قمين بإثارة سخرية الجيش كله! حدث نفسه: «ما فائدتي من كثرة الصلوات التي تلوتها لهذا اليوم؟! ما فائدة عدم الإغفاء طيلة الليل كي أحسب لكل شيء أفضل الحساب؟! عندما كنت ضابطا صغيرا لم يكن أحد يجرؤ على أن يسخر مني!» كان يشعر بألم مادي، فلم يكن قادرا على الامتناع عن إطلاق صرخات الغضب والألم وكأنه يتلقى جزاء بدنيا. لكن قواه لم تلبث أن فارقته، نظر حوله وشعر بأنه تمادى كثيرا في سبابه، فعاد يصعد إلى عربته وارتد في سيره إلى الوراء صامتا.
ولما انقشعت سحابة الغضب تلك لم تتلبد بعد ذلك، بل أخذ كوتوزوف يصغي وهو يطرف بعينيه إلى المبررات والدفاع ومرافعات بيينجسن وكونوفنيتش وتول حول ضرورة إرجاء العملية الفاشلة إلى الغد، فاضطر كوتوزوف من جديد إلى إبداء موافقته. أما إيرمولوف فإنه لم يمثل أمامه إلا في اليوم التالي.
الفصل السادس
مقتل باجوفو
في اليوم التالي منذ المساء اجتمعت القوات في الأمكنة المعينة وبدأ الهجوم خلال الليل، كانت ليلة من ليالي الخريف حيث الغيوم تكون بلون أسود مشوب بالبنفسجي ولكن دون مطر، والأرض رغم رطوبتها لم تكن موحلة، فكانت القطعات تسير دون جلبة ولا يسمع من حين إلى آخر إلا قرقعة المدفعية المكتومة، وكان قد منع الحديث بصوت مرتفع والتدخين وقدح الصوان، وكانوا يحولون دون صهيل الخيل، فكانت سرية العملية تزيد في فتنتها. أخذ الرجال يتقدمون بانشراح، وتوقفت بعض الطوابير وأقام جنودها بنادقهم باقات متقاربة وناموا على الأرض الباردة، ظنا منهم أنهم بلغوا المكان المحدد لهم. أما البعض الآخر، وهي معظم الطوابير، فقد استمرت في المسير طيلة الليل فبلغت دون ريب المكان الذي لم يكن عليها أن تصل إليه.
إلا أن الكونت أورلوف دينيسوف وحده مع جنوده القوقازيين، وهم أصغر الأفواج عددا، وصلوا إلى أمكنتهم في الوقت المناسب، توقف هذا الفوج عند أقصى حدود الغابة على درب يؤدي من قرية ستروميلوفو إلى قرية دميتروفسكوي .
أيقظوا الكونت أورلوف، الذي كان نائما، قبل الفجر وجاءوا إليه بأحد الجنود الفارين من المعسكر الفرنسي، كان هذا صف ضابط بولوني من فوج بونياتووسكي، شرح لهم أن سبب فراره يرجع إلى هضم حقوقه، لأنه كان يجب أن يرقى إلى رتبة ضابط منذ أمد طويل لأنه أكثر بسالة من كل الآخرين، ولهذا السبب فقد تنكر للفرنسيين وبات لا يفكر إلا في الانتقام، ثم أكد أن مورا يقضي الليل على بعد فرسخ واحد من مكان وجودهم، وأنهم اذا زودوه بمائة رجل استطاع أن يأتي به حيا. تشاور الكونت أورلوف دينيسوف مع زملائه، لقد كانت الفكرة شديدة الإغراء يمتنع طرحها، تطوعوا جميعهم للذهاب وأشاروا جميعهم بالمحاولة. وبعد مناقشات ومحادثات كثيرة قرر الجنرال ماجور جريكوف أن يتبع البولوني مع سريتين من القوقازيين.
قال الكونت أورلوف دينيسوف لصف الضابط وهو يصرفه: ولكن تذكر جيدا أنك إذا كنت كاذبا فسأشنقك كالكلب، أما إذا كنت صادقا فسأمنحك مائة دوكا (عملة ذهبية قديمة).
امتطى صف الضابط جواده دون أن يجيب، ومضى بادي العزم مع جريكوف الذي استعد بسرعة ونشاط فاختفوا في الغابة. تبع الكونت أورلوف الذي كان يرتعد بتأثير برودة النهار البازغ، ويحس بالقلق للمسئولية التي اضطلع بها؛ جريكوف بأبصاره، ثم تقدم خارج ستر الغابة وراح يراقب معسكر الأعداء الذي كان يرتسم كالسراب تحت الضوء الآخذ بالانتشار، ويتأمل نيران مخيماته الآخذة بالخمود. وكانت وحداتنا ستخرج على يمين الكونت أورلوف دينيسوف عند سفح هضبة مكشوفة فنظر في ذلك الاتجاه، ولكنه رغم تيسر الرؤية على البعد لم ير أحدا. وخيل للكونت أورلوف دينيسوف وخصوصا مساعده العسكري الذي كان يمتاز ببصر حاد؛ أن انتعاشا ما يقع في معسكر الفرنسيين.
قال الكونت أورلوف بعد أن تأمل المعسكر: آه! لا ريب أنه فات الوقت!
وكما يحدث غالبا عندما يكون الشخص الذي وضعت الثقة فيه بعيدا عن الأنظار، أدرك أورلوف فجأة بوضوح بين أن البولوني غشاش ماكر كذب عليه، وأنه سوف يبلبل الهجوم بدون تينك السريتين اللتين الله يعلم إلى أين يقودهما ذلك الماكر ، هل كان ممكنا أسر جنرال أعلى في مثل هذه الكثافة من القطعات؟
أضاف: نعم، هذا أكيد، لقد كذب ذلك النذل.
قال أحد ضباط الحاشية الذي طافت بذهنه كالكونت أورلوف دينيسوف شكوك حول نجاح المشروع، منذ أن راح يتأمل معسكر الأعداء: نستطيع استدعاءه. - هه؟ حقا؟ ما قولكم؟ هل يعمل أم لا؟ - هل يصدر الأمر بإعادته؟
فقرر الكونت أورلوف فجأة وهو ينظر إلى ساعته: نعم، نعم، ليعد! لقد فات الوقت وانبلج الصبح تماما.
مضى المساعد العسكري «هدبا» على جواده عبر الغابة ليلحق بجريكوف فلما عاد هذا، قرر أورلوف دينيسوف الهجوم وقد استبد به قلق لهذه المحاولة الفاشلة، وكذلك لانتظاره دون جدوى وصول وحدات المشاة ودنوه من الأعداء، (وهو الشعور الذي شاركه فيه كل رجال وحدته).
أمر بصوت خافت: «إلى الجياد»، فاتخذ كل مكانه ورسم شارة الصليب «في حراسة الله!»
دوت صيحات «هورا» في الغابة، وراح القوقازيون في فصائل مؤلفة من مائة فارس يتبعثرون بمرح مائة بعد مائة أشبه بحبات القمح المنطرحة من كيس، وهجموا على معسكر العدو وقد أرخوا لجيادهم الأعنة واجتازوا نهيرا ...!
انطلقت صرخة رهيبة من حناجر الفرنسيين الأول الذين شاهدوا القوقازيين، وجرى كل من في المعسكر نصف عراة، تاركين المدافع والبنادق والجياد ينفرون فرارا في كل الأنحاء.
ولو أن القوقازيين استمروا يطاردون الفرنسيين دون أن يأبهوا لما وراءهم وحولهم، لأسروا مورا وكل من كان معه، وكان هذا هو ما يريده الرؤساء، ولكن لم يعد في الإمكان زحزحة القوقازيين الذي اقتصر تفكيرهم على الأسلاب والسجناء، لم يعد أحد يصغي إلى الأوامر. ولقد غنموا هناك ألفا وخمسمائة أسير وثمانية وثلاثين مدفعا وأعلاما، وما يثير اهتمام القوقازيين أكثر من سواه خيولا وسروجا وأغطية وألف حاجة أخرى مختلفة، وكان يجب إعداد كل هذه الأشياء: وضع اليد على الأسرى والمدافع، توزيع الأسلاب، التماحك بل والوصول إلى الأيدي، ولم يكن القوقازيون عاجزين عن كل هذا.
استعاد الفرنسيون الذين لم يعد أحد يطاردهم حواسهم، فنظموا صفوفهم وشرعوا يطلقون النار، وكان أورلوف دينيسوف ينتظر دائما سراياه ولا يوغل في هجومه إلى أبعد من ذلك.
في تلك الأثناء تبعا للخطة العسكرية: «الطابور الأول يمشي إلخ ...» تحرك المشاة المتأخرون بقيادة بيينجسن وتوجيه تول في الوقت المناسب وبما يشبه الحقيقة، واتجهوا إلى جهة ما ولكن ليس إلى المكان المعين لهم. وبما يشبه الحقيقة انتهى الأمر بالرجال الذين ذهبوا والبهجة تملأ نفوسهم إلى التوقف، وقد ظهر عليهم الاستياء والشعور بالخجل فعادوا على أعقابهم. وكان المساعدون العسكريون والجنرالات يجرون صهوات خيولهم ويصرخون ويسخطون ويتخاصمون، ويزعمون أنهم ليسوا أبدا في المكان الذي يجب أن يكونوا فيه وأنهم تأخروا ويلقي كل منهم تبعة الخطأ على الآخر، حتى إنهم أخيرا أقلعوا عن ذلك وراحوا يمشون لمجرد المشي، «سوف نصل حتما إلى مكان ما!» والواقع أنهم وصلوا متأخرين جدا، ولكن ليس إلى حيث كان عليهم أن يصلوا، بل ليكونوا بالنتيجة هدفا صالحا للعدو. وكان تول الذي لعب في هذه المعركة دور ويروذر في معركة أوسترليتز يجري على جواده متعجلا من جانب إلى آخر، ليجد في كل جانب أن الأمور سارت على عكس اتجاهها المفروض. وعلى هذا النحو، وقع على فيلق باجوفو في صميم الغابة وقد طلع النهار، في حين كان على هذا الفوج أن يكون منذ وقت طويل مع أورلوف دينيسوف، ولقد غضب تول وشعر بجرح في كرامته لإخفاقه، وافترض أنه لا بد من وجود مذنب مسئول، فجرى على جواده إلى قائد الفوج وأمطره وابلا من اللوم الجارح، قائلا إنه يستحق الإعدام رميا بالرصاص. فخرج باجوفو الذي لم يكن جنرالا للمظاهر بل باسلا عجوزا ابن القتال مجربا في المعارك، خرج للدهشة العامة عن هدوئه الطبيعي، وقد أحنقته كل هذه التوقفات والبلبلة والأوامر المتناقضة مثلما أحنقت تول، واستبدت به ثورة مفاجئة، فأجاب تول بقحة قائلا: لست أريد أن أتلقى درسا من أحد، وأعرف كيف أموت أنا وجنودي كأي آخر تماما.
واندفع إلى الأمام يتبعه فوجه وحده.
ولما أصبح على ساحة المعركة تحت وابل نيران الفرنسيين، لم يتساءل باجوفو الباسل في سورة غضبه ما إذا كان نافعا أو عقيما خوض المعركة في تلك الأثناء بفوجه وحده، بل قاد جنوده مباشرة إلى النار، لقد كان الخطر والقذائف والرصاص كل ما ينبغي له في اندفاعه المحنق، فقتلته إحدى الرصاصات الأولى لفوره، وأردت الرصاصات التالية كثيرا من الجنود، وظل فوجه وقتا ما تحت مرمى النار عبثا دون جدوى.
الفصل السابع
معركة تاروتينو
في تلك الأثناء، إلى الأمام، قدر لطابور آخر أن يقع على الفرنسيين، لكنه كان الطابور الذي أقام كوتوزوف قريبا منه. كان يعرف تماما أن هذه المعركة التي شرع فيها رغم إرادته لن تؤدي إلا إلى الخزي، فكان يستوقف القطعات على قدر طاقته.
كان ساكن الحركة صامتا، ممتطيا صهوة جواده الأشهب الصغير، يجيب دون تلهف على العروض التي يقدمونها إليه حول الهجوم.
قال لميلورادوفيتش الذي كان يسأله أن يتقدم إلى الأمام: ليس على لسانك إلا الهجوم، ولا ترى أننا لا نحسن القيام بحركات معقدة.
وأجاب على آخر: إنك لم تعرف كيف تأخذ مورا حيا هذا الصباح، ولا أن تصل إلى مكانك المحدد في الوقت المعين، والآن فات الوقت.
ولما جاءوا ينبئونه أن في أعقاب الفرنسيين الذين كانوا مكشوفين بادئ الأمر حسب معلومات القوقازيين يقوم الآن لواءان من البولونيين؛ نظر من جانب عينه إلى إيرمولوف الذي لم يوجه إليه كلمة ما منذ أمس، وقال: أرأيت؟ إنهم يطالبون بهجوم ويقدمون رزمة من المشاريع وعندما ينتقلون إلى العمل لا يكون شيء جاهزا، في حين أن العدو الذي أنذر قد اتخذ حيطته. - أغمض إيرمولوف عينيه نصف إغماضة، وطافت على شفتيه ابتسامة خفيفة لذلك الكلام، أدرك أن العاصفة بالنسبة إليه قد تبددت، وأن كوتوزوف سيكتفي بهذا التلميح فحسب.
قال إيرمولوف بصوت خافت وهو يلكز بركبته راييفسكي الذي كان إلى جانبه: إنه يسخر مني.
ولم يلبث بعد أن اقترب إيرمولوف، وقال لكوتوزوف باحترام: لم نخسر شيئا يا صاحب السمو، فالعدو ما زال هنا إذا أردتم إصدار الأمر بالهجوم، وبغير ذلك فإن الحرس لن يشموا حتى رائحة البارود.
لم يجب كوتوزوف بشيء، وعندما أعلنوا له أن قطعات مورا قد انسحبت أصدر الأمر المنتظر، لكنه بعد كل مائة خطوة كان يأمر بتوقف ثلاثة أرباع الساعة.
إذن، لقد اقتصرت المعركة على هجمة القوقازيين التابعين لأورلوف دينيسوف، أما بقية القطعات فقد فقدت دون أي نفع بضع مئات من الجنود.
وكانت النتيجة بالنسبة إلى كوتوزوف وساما من الماس وماسات إلى بيينجسن ومائة ألف روبل، أما الضباط الآخرون فقد أنعم عليهم بحسب رتبهم بهبات ثمينة، أضف إلى ذلك أن تنقلات جديدة وقعت في أركان حرب الجيش.
قال الجنرالات والضباط الروسيون بعد مسألة تاروتينو: «هذا هو النمط الذي تسير عليه الأمور عندنا، كل شيء على عكسه!» كذلك كانوا دائما يتحدثون كلما أرادوا أن ينوهوا بأنه إذا أخطأ أحمق ما في التصرف فإن الأمور كانت ستدور على نحو مختلف، لكن الذين كانوا يتحدثون على هذا النحو ما كانوا يعرفون شيئا عن المسألة التي ينتقدونها أو كانوا يسخرون عارفين، لأن كل معركة، سواء أكانت معركة تاروتينو أم بورودينو أم أوسترليتز، تقع خلافا لما يتوقعها واضعو خططها، وهذا أمر جوهري.
إن عددا لا يحصى من القوى المستقلة يؤثر في سياق معركة ما، لأن المرء لا يكون قط أكثر حرية منه في غمار معركة حيث الأمر يتعلق بالحياة أو الموت، لذلك فإنه يستحيل إذن معرفة سياق المعركة سلفا، ولا يمكن أن تتبع أبدا اتجاها تفرضه قوة واحدة أيا كانت هذه القوة.
وإذا عملت قوى عديدة في آن واحد وفي اتجاهات مختلفة عن جسم ما، فإن اتجاه الحركة المفروضة على هذا الجسم لن يكون اتجاه أية واحدة من هذه القوى، بل يكون دائما الاتجاه المتوسط الأقرب، ذلك الاتجاه لم يعبر عنه في علم «الميكانيك» بخط الزاوية المسطح متوازي أضلاع القدرة.
وإذا قرأنا في حكايات المؤرخين، وبصورة خاصة الفرنسيين منهم، أن حروبهم ومعاركهم اتسعت وجرت وفقا لخطة مسبقة، فإن المغزى الوحيد الذي نستنتجه من ذلك هو أن حكاياتهم غير صحيحة.
من الواضح أن معركة تاروتينو لم تبلغ الهدف الذي رسمه تول، أي إن توجه المعركة تبعا لنظام خطته، ولا الهدف الذي كان يتوخاه الكونت أورلوف بأسر مورا، ولا غاية بيينجسن أو آخرين بإبادة كل هذا الجانب من جيش العدو دفعة واحدة، ولا بغية الضباط الراغبين في الاشتراك في عملية ما لإبراز ميزاتهم، ولا رغبة القوقازي الذي كان يطمع في الاستيلاء على جانب من الأسلاب أكبر مما وجد ... إلخ؛ ولكن إذا كانت الغاية التي بلغ إليها بالفعل والتي كان الروسيون كلهم يطمعون فيها، أي طرد الفرنسيين من روسيا وإبادة جيشهم؛ فإننا نرى إذن بوضوح كالنهار أن معركة تاروتينو انتهت بسبب الأخطاء التي ارتكبت إلى النهاية المتوجبة خلال فترة الحملة كلها، وأنه يصعب بل يستحيل تخيل نهاية أفضل من التي انتهت إليها تلك المعركة، لقد حصلنا على أعظم نتائج الحملة كلها بأقصى درجات الفوضى وبأقل مجهود وبخسائر تكاد تكون تافهة، لقد انقلبنا من التقهقر إلى الهجوم، وكشف الستر عن ضعف الفرنسيين، وأنزلت الضربة بجيش نابليون لتحمله على الشروع بالفرار.
الفصل الثامن
عبقرية نابليون
دخل نابليون إلى موسكو بعد النصر اللامع في موسكوفا، وإنه لنصر لا ريب فيه لأن الفرنسيين ظلوا سادة ساحة المعركة وتراجع الروسيون وسلموا عاصمتهم، وموسكو الطافحة بالأرزاق والأسلحة والذخائر وبالثروات التي لا تحصى باتت بين يدي نابليون، والجيش الروسي الأضعف مرتين من الجيش الفرنسي لا يظهر طيلة شهر كامل أية رغبة في الهجوم، وموقع نابليون من أفضل المواقع وأبرزها يستطيع بجيشه المتفوق مرتين على القوات الروسية أن ينقض على فلول هذه ويبيدها، ويستطيع عقد صلح لمصلحته أو على الأقل في حالة الرفض أن يحاول القيام بحركة تهدد بيترسبورج، بل إنه يستطيع كذلك في حالة عدم النجاح أن يعود باتجاه سمولنسك أو فيلنا أو أن يمكث في موسكو. وبالاختصار، لكي يحافظ نابليون على مركزه اللامع الذي كان الجيش الفرنسي يحتله حينذاك لم يكن في حاجة على ما يبدو إلى أن يكون عبقريا خارقا، كان يكفيه من أجل ذلك أن يعمل أبسط الأشياء وأسهلها، أي ألا يترك جيشه يستسلم للسلب، وأن يعد ألبسة الشتاء التي تستطيع موسكو أن تقدمها للجيش كله ، وأن ينظم بحكمة توزيع الأرزاق التي كانت في المدينة، كافية لأكثر من عشرة أشهر تبعا لأقوال المؤرخين الفرنسيين. غير أن نابليون عبقري العباقرة الذي كانت له السلطة - على قول المؤرخين - لم يعمل شيئا من هذا.
نابليون قبل موسكو.
إنه لم يغفل هذه التدابير كلها فحسب ، بل استعمل سلطانه لينتخب من التدابير الواجب اتخاذها أسوأها وأنحسها، لم يتخذ نابليون بين كل ما يستطيع اتخاذه: قضاء الشتاء في موسكو، الذهاب إلى بيترسبورج، الذهاب إلى نيجني-نوفجورود، التقهقر سواء نحو الشمال أو أبعد إلى الجنوب عن الطريق الذي سلكه كوتوزوف فيما بعد؛ أسوأ وأكثر شؤما مما اتخذ: لقد ظل حتى تشرين الأول في موسكو، وأعطى الإذن لجنوده بنهب المدينة، ثم بعد أن تردد في ترك حامية في موسكو خرج منها واقترب من كوتوزوف دون الالتحام معه وتوجه نحو اليمين فبلغ مالو-إياروسلافيتز، وبدلا من اتخاذ الطريق الذي سلكه كوتوزوف عاد إلى موجائيسك دون أن يحاول فتح أية ثغرة عبر طريق سمولنسك المعبد وسط أقاليم مخربة. وبذلك لم يكن هناك أكثر حمقا وشؤما من هذا التصرف كما دلت النتائج على ذلك، فإذا افترضنا أن غاية نابليون كانت تهدف إلى قيادة جيشه إلى نهايته، فإن أبرع الخطط العسكرية ما كانت تستطيع تنظيم مخطط للعمليات قادر على إلحاق الدمار الكامل المحتوم بالجيش الفرنسي مثل هذه الخطة، بصرف النظر عن كل ما كان يمكن للجيش الروسي أن يقوم به!
لقد عمل نابليون العبقري كل ذلك. لكن القول بأن نابليون أضاع جيشه لأنه أراد ذلك أو لأنه لم يكن إلا مجرد أحمق، قول خاطئ أيضا يتساوى بالخطأ مع القول بأنه قاد قطعاته إلى موسكو لأنه أراد ذلك ولأنه كان على ذكاء وعبقرية استثنائيين.
ففي كلتا الحالتين لم يكن لتصرفه الشخصي الذي ما كان أكثر أهمية من تصرف أي من جنوده، إلا متفقا مع القوانين التي كانت تسيطر على الأحداث.
وإنه لكذب فاضح الزعم بأن قواته ضعفت في موسكو كما يقول المؤرخون، لمجرد أن الأحداث لم تكن في صالح تصرفات نابليون، ففي تلك الفترة كما من قبلها وكذلك بعدها في عام 1813 بذل ذكاءه وقواه ليتصرف بمصالحه ومصالح جيشه على أفضل وجه. ونشاط نابليون خلال هذه الحقبة ليس أقل إثارة للدهشة منه في مصر وإيطاليا والنمسا وفي بروسيا، ولسنا ندري إلى أي حد كانت عبقرية نابليون في مصر، حيث تأملت القرون الأربعون عظمته، حقيقية، لأن مآثره الرائعة لم تنقل إلينا إلا عن طريق الفرنسيين. وكذلك الحكم على عبقريته في النمسا وفي بروسيا، لأن الشهادات المؤيدة لحركاته لا يمكن أن تنهل إلا من مصادر المؤرخين الفرنسيين والألمانيين، فاستسلام جيوش بكاملها دون قتال والقلاع دون حصار بذلك الشكل الذي لا يصدق، لا بد وأن يدفع الألمانيين إلى الاعتراف بعبقرية نابليون بوصفها المبرر الوحيد للحرب التي وقعت في ألمانيا. أما نحن فليست بنا والحمد لله أية حاجة إلى الاعتراف به كعبقري لنستر عارنا، ولقد دفعنا الثمن ليصبح من حقنا النظر في أعماله ببساطة ودون مواربة، ولن نتخلى عن هذا الحق.
إن نشاطه في موسكو مدهش وعبقري مثله في كل مكان آخر، فالأوامر تلو الأوامر والخطط تلو الخطط كانت تصدر عنه منذ ساعة دخوله موسكو وحتى لحظة خروجه منها، فغياب السكان وممثلي الأشراف بل حتى حريق موسكو لم يقلقه، إنه لم يغفل مصلحة جيشه، ولا حركات العدو، ولا رفاهية الشعوب الروسية، ولا إدارة الأعمال في باريس، ولا الترتيبات الدبلوماسية سعيا وراء الصلح.
الفصل التاسع
التنظيمات الإدارية
أعطى نابليون منذ دخوله موسكو تعليمات مشددة من الوجهة العسكرية إلى الجنرال سيباستياني، الذي عليه أن يتبع حركات الجيش الروسي وأن يرسل وحدات من الجيش إلى مختلف الجهات، وأشار على مورا أن يجد كوتوزوف، ثم اتخذ التدابير الجدية ليحصن الكريملن، ثم رسم على خريطة روسيا الخطة العبقرية المتعلقة بحملته المقبلة.
ومن الناحية الدبلوماسية استدعى نابليون إليه إياكوفليف وهو رئيس مسلوب من كل شيء، لم يكن حينذاك أكثر من صعلوك لا يدري كيف يغادر موسكو، وشرح أمامه سياسته وأظهر له عظمة نفسه. وبعد أن كتب رسالة إلى الإمبراطور ألكسندر أظهر فيها اعتقاده بأن من واجبه إخطار صديقه وأخيه أن روستوبتشين أساء التصرف في موسكو؛ أرسل إياكوفليف يحملها إلى بيترسبورج، كذلك أفاض في إظهار عظمة روحه وشرح وجهات نظره أمام توتولمين، وأرسل هذا الكهل كذلك إلى بيترسبورج ليشرع في محادثات هناك.
أما من الناحية القضائية ، فقد أمر فور شبوب الحريق بالبحث عن الفاعلين وإعدامهم، ولقد أوخذ الوحش روستوبتشين لحريق بيته الشخصي.
روستوبتشين.
بينما جزيت موسكو من الناحية الإدارية بدستور، أقيمت بلدية وعلق النداء التالي:
إلى سكان موسكو
إن محنكم قاسية، لكن جلالته، إمبراطور وملك، يريد أن يضع حدا لها. لقد علمتكم أمثلة رهيبة كيف يعاقب العصيان والجريمة، لقد اتخذت إجراءات صارمة لوضع حد للفوضى وإنعاش الأمن العام. سوف تقوم إدارة أبوية، تنتخب من بينكم، على تشكيل بلديتكم أي حكومة مدينتكم، سوف تهتم تلك البلدية بكم وباحتياجاتكم ومصالحكم، وسيعرف أعضاؤها من الوشاح الأحمر الذي سيضعونه متقاطعا، أما رئيس البلدية فسيتمنطق فوقه بنطاق أبيض، بيد أن الأعضاء البلديين لن يحملوا خارج عملهم إلا إشارة حمراء حول الذراع اليسرى.
إن الشرطة البلدية قد أقيمت على النظام القديم تماما، وبفضل نشاط رجالها استتب حتى الآن نظام أفضل. لقد عينت الحكومة «قوميسيرين» عامين أو صاحبي شرطة وعشرين قوميسيرا أو «تشاستني بريستافس»، وزعوا على كل حي من أحياء المدينة، ستعرفونهم من الشارة البيضاء التي يلفونها حول ذراع كل منهم اليسرى. ثم إن عديدا من الكنائس تقام فيها الطقوس الدينية لمختلف الملل، قد فتحت وأصبحت الصلوات الدينية تقام فيها دون عارض. إن مواطنيكم يعيدون كل يوم تأثيث مساكنهم، ولقد أعطيت الأوامر اللازمة ليجدوا كل عون وحماية عند المحنة. تلك هي الوسائل التي استعملتها الحكومة لإعادة النظام وتسوية وضعكم. ولكن لبلوغ هذه الغاية من الضروري أن تضيفوا مجهوداتكم إلى مجهوداتهم، وأن تنسوا - إذا أمكن - الآلام التي عانيتموها، وأن تملئوا نفوسكم بأمل الوصول إلى نهاية أقل قسوة. كونوا متأكدين من أن الموت المحتوم المرذول ينتظر كل الذين يحاولون الاعتداء على أشخاصكم أو على ما تبقى من مقتنياتكم، وإذن لا يجب أن يتطرق الشك إلى نفوسكم بأن هذه المقتنيات ستحفظ لكم، لأن هذه هي إرادة أكبر سلطان وأعدل ملك. أيها الجنود والسكان من أية ملة كنتم، أعيدوا الثقة العامة هذا المصدر لسعادة الدولة، وعيشوا كإخوان، تبادلوا المساعدة والحماية، واتحدوا لمقاتلة المشاريع الإجرامية، أطيعوا السلطات العسكرية والبلدية، فلن تلبث دموعكم أن تكف عن الانحدار.
ومن ناحية القوت، أوعز نابليون إلى كل قواته أن تهبط موسكو دوريا وبشكل غير ملحوظ، لتجمع الأرزاق سلبا لتأمين مئونة الجيش المقبلة.
وأمر نابليون من الناحية الدينية أن يعاد القساوسة ليقيموا في الكنائس كسابق عهدهم طقوسهم الدينية.
وأعلن في كل مكان تأمينا لناحيتي التجارة وتأمين الأرزاق للجيش ما يلي:
إعلان
إليكم يا سكان موسكو الوادعين، ورجال العمل والعمال الذين أبعدتكم المحن عن المدينة، وأنتم يا عمال الأرض الذين لا يزال خوف وهمي يجعلكم مبعثرين في الأرياف: لقد عاد الهدوء إلى العاصمة واستتب فيها النظام، إن مواطنيكم يخرجون دون خوف من مآويهم وهم واثقون من أنهم سيحترمون، إن كل شدة مستعملة ضدهم أو ضد ممتلكاتهم تقمع من فورها. إن جلالته، إمبراطور وملك، يغطيهم بحمايته، ولا يعتبر أعداء من بينكم إلا أولئك الذين يعصون أوامره، إنه يريد أن يضع حدا لآلامكم وأن يعيدكم إلى بيوتكم وعائلاتكم. تقبلوا إذن تدابيره الرفيقة، وتعالوا إلينا بكل طمأنينة. أيها السكان، نظموا مساكنكم بهدوء، وستجدون فور ذلك إمكانية القيام بأودكم. أيها الصناع والعمال المجدون، عودوا إلى أعمالكم دون مماطلة، إن البيوت والحوانيت ودوريات المراقبة تنتظركم، وستتلقون على عملكم الأجر الذي يتفق معكم. وأنتم أخيرا أيها الفلاحون، اخرجوا من الغابات حيث جعلكم الخوف تختبئون، وعودوا دون خوف إلى أكواخكم، ولتكونوا على تمام الثقة بأنكم ستجدون فينا حماتكم. لقد أقيمت في المدينة مستودعات كبيرة يستطيع الفلاحون أن يحملوا إليها الفائض من حاصلاتهم، ولقد اتخذت الحكومة التدابير التالية لتأمين الرواج الحر: (1) اعتبارا من اليوم يستطيع الفلاحون والمزارعون وسكان ضاحية موسكو الآخرون أن يحملوا دون أي خوف إلى المدينة حاصلاتهم من أي نوع كانت إلى المستودعين المقامين لهذا الغرض في شارع موخوفاييا وفي الأخوتنيرياد. (2) إن هذه الحاصلات ستبتاع منهم بأسعار تقوم على أساس اتفاق بين البائع والمشتري، فإذا لم يحصل البائع على السعر الذي يطالب به بحق فإنه حر في إعادة بضاعته إلى بيته، الأمر الذي لا يستطيع أحد أن يمنعه تحت أي اعتبار. (3) إن يومي الأحد والأربعاء من كل أسبوع خصصا لإقامة السوق الأسبوعية العامة، ولهذا الغرض ستقام فصائل من الجند بعدد كاف على الطرق العامة أيام الثلاثاء والسبت من كل أسبوع لحماية القوافل. وقد اتخذت هذه التدابير نفسها لعودة القرويين في عرباتهم مع جيادهم دون أية صعوبة. (4) ستتخذ تدابير مستمرة لإعادة التجارة الطبيعية.
يا سكان المدينة والقرى، وأنتم يا رجال الصناعة والعمال من أية ملة كنتم، إن الإمبراطور والملك يدعوكم إلى التقيد بتدابير الأبوية، وأن تتعاونوا معه لإعادة الرفاهية العامة، احملوا إلى قدميه احترامكم وثقتكم، ولا تترددوا في الاتحاد معنا!
وكانوا يقيمون استعراضات مستمرة ويوزعون المكافآت كي يرفعوا من معنويات الجيش والشعب، وكان الإمبراطور يجتاز الشوارع على جواده ويطمئن السكان، ورغم كل مشاغله بصدد مشاكل الدولة فإنه كان يرتاد المسارح المقامة بناء على أمره.
وكان نابليون كذلك يعمل كل ما يتعلق به في سبيل الإحسان الذي هو أجمل زخرف في تاج الأمراء، لقد أصدر الأمر أن تنقش على واجهات المؤسسات العلاجية: «بيت أمي»، كي يجمع بهذا التصرف بره الأبوي الحاني إلى رفعته ومروءته كعاهل. لقد زار الميتم، وبعد أن أعطى يده البيضاء للأيتام الذين أنقذهم ليقبلوها تحادث ببشاشة مع توتولمين. وأخيرا، حسب رواية تيير البليغة، أمر أن تدفع رواتب جنوده بالعملة الروسية المزورة التي ضربت بناء على أوامره:
لقد أمر بتوزيع المساعدات على منكوبي الحريق، فشجع على استعمال هذه الوسائل ببادرة جديرة به وبالجيش الفرنسي. أما الأرزاق، وهي أثمن من أن تعطى إلى غرباء جلهم أعداء، فإن نابليون فضل أن يقدم لهم نقودا لكي يتداركوا المؤن بها عن طريقهم، لذلك فقد أمر أن توزع عليهم روبلات من النقد الورقي.
أما فيما يتعلق بنظام الجيش والطاعة فيه ، فإن أقسى التدابير ما فتئت تتخذ لمعاقبة مخالفات فروض الخدمة العسكرية، ولوضع حد لأعمال السلب.
الفصل العاشر
... ونتائجها
مع ذلك فإن كل هذه الاستعدادات وهذه العناية والخطط، التي لم تكن أسوأ من غيرها في مناسبات مماثلة؛ لم تبلغ، لغريب الأمور، غور الأشياء، لكنها كعقارب ساعة على ميناء فصلت عن الجهاز الداخلي أخذت تدور اتفاقا ودون هدف، دون أن تدير معها مجموعة القطع المكملة.
فمن وجهة النظر العسكرية فإن خطة الحملة العبقرية التي قال عنها تيير: «إن عبقريته لم يعد قط أكثر عمقا منها وأكثر براعة وروعة»، والتي دلل بصددها في مجادلته الكتابية مع السيد فن
1
أن تدبيجها يجب أن يرجع به إلى الخامس عشر من تشرين الأول وليس إلى الرابع منه؛ إن هذه الخطة لم تنفذ قط ولم يكن تنفيذها مستطاعا لأنها كانت بعيدة عن الواقع، فأعمال تحصين الكريملن التي وجب هدم الجامع في سبيلها (والجامع هو اللقب الذي كان نابليون يطلقه على كنيسة بازيل السعيد) أظهرت أنها عقيمة تماما. ووضع الألغام تحت الكريملن لم يعد إلا في إرضاء رغبة الإمبراطور، الذي كان يريد نسفه عند خروجه من موسكو، والذي يعني إنزال عقوبة الضرب بأرض لأنها السبب في سقوط طفل صغير. ثم إن ملاحقة الجيش الروسي التي كانت شاغل نابليون الأكبر تقدم ظاهرة خارقة، لقد أضاع قادة الجيش الفرنسي هذا الجيش الروسي المؤلف من ستين ألف رجل، وبحسب تيير يعود الفضل إلى الفن وحده وإلى عبقرية مورا ولا شك في العثور على هذه الآلاف الستين من الجيش الروسي على رأس دبوس.
ومن وجهة النظر الدبلوماسية فإن كل دلائل عظمة النفس والإنصاف التي أظهرها نابليون أمام توتولمين وإياكوفليف - وكان هم هذا الأخير أن يتدبر لنفسه قبل كل شيء معطفا وعربة - لم تجد فتيلا لأن ألكسندر لم يستقبل هذين السفيرين، ولم يجب على العروض التي كانا مكلفين بحملها.
ومن وجهة النظر القضائية، احترق النصف الآخر من موسكو الذي ظل سليما بعد إعدام مشعلي الحرائق المزعومين.
ومن وجهة النظر الإدارية، لم يوقف إقامة بلدية أعمال السلب ولم تكن نافعة إلا للقبضة من الأشخاص الذين شكلوها، والذين لم يترفعوا أنفسهم عن السلب بحجة صيانة النظام أو عن حماية أملاكهم الشخصية من السلب.
ومن وجهة النظر الدينية فإن ما كان غاية في سهولة إقامته في مصر بفضل زيارة جامع واحد ، لم يعط أية نتيجة في موسكو، لقد حاول الكاهنان أو الكهنة الثلاثة الذين وجدوهم أن يخضعوا لرغبة نابليون، ولكن واحدا منهم تعرض للصفع طيلة القداس من قبل جندي فرنسي، وكتب موظف فرنسي التقرير التالي عن آخر:
إن القس الذي وجدته ودعوته لإقامة القداس الديني مرة أخرى نظف الكنيسة وأغلق بابها، ولقد جاءوا هذه الليلة من جديد فاغتصبوا الباب وحطموا الأقفال ومزقوا الكتب، وارتكبوا أعمالا فوضوية أخرى.
ومن وجهة النظر التجارية فإن الدعوة الموجهة إلى الصناع المجدين وإلى القرويين لم تبلغ أية نتيجة، لم يتقدم أي صانع مجد، أما القرويون فإنهم كانوا يطبقون على القوميسيرين الذين يغامرون بالابتعاد قليلا حاملين إعلاناتهم ويقتلونهم.
كذلك لم تسر الأمور على نمط أفضل من حيث المتع والمسرحيات المعدة للجيش وللسكان، إذ لم تلبث المسارح التي أقيمت في الكريملن وفي بيت بوزنياكوف أن أغلقت أبوابها مرغمة فور ما سلبوا الممثلين والممثلات فيها.
والإحسان هو الآخر لم يعد بواحدة من النتائج المرجوة، لقد أغرقت موسكو بأوراق النقد الحقيقية أو الزائفة التي فقدت كل قيمة، ولم يكن الفرنسيون جامعو الأسلاب في حاجة إلا إلى الذهب، ولم تكن العملة الزائفة التي أمر نابليون بتوزيعها بكل كرم على المنكوبين هي وحدها التي فقدت قيمتها، بل إن النقود الفضية نفسها المقايضة بالذهب كانت تروج بقيمة أقل كثيرا من قيمتها الحقيقية.
وأظهر مثال على عدم جدوى التدابير المتخذة في المراجع العليا في ذلك الحين، كان العجز الذي وقع فيه نابليون عن إيقاف السلب وإعادة النظام.
وفيما يلي تقارير السلطات العسكرية:
إن أعمال السلب مستمرة في المدينة رغم الأمر بوضع حد لها، والنظام غير مؤمن بعد، وليس هناك بائع واحد يتجر بشكل مشروع. إن بائعي المؤن وحدهم يغامرون بالبيع لكنهم يبيعون أشياء مسروقة.
إن جانب قطاعي لا يزال عرضة لأعمال السلب من جانب الفوج الثالث، الذين لم يكتفوا بانتزاع ما تبقى لدى التعساء اللاجئين إلى الأقبية، بل بلغ من وحشيتهم أنهم يجرحونهم بضربات من سيوفهم كما شاهدت بنفسي أمثلة كثيرة.
لا شيء جديد أكثر من أن الجنود يسمحون لأنفسهم بأن يسرقوا وينهبوا في التاسع من تشرين الأول.
السرقة والسلب مستمران، إن في قطاعنا عصابة من اللصوص يجب إيقافها بواسطة حراس عديدين أقوياء. في 14 تشرين الأول.
إن الإمبراطور مستاء جدا، إذ يرى رغم التدابير الزجرية المتخذة لإيقاف أعمال النهب فصائل من السلابين من جنود الحرس تدخل الكريملن، إن الفوضى والسلب قد تجددا بشدة تفوق كل حد سابق بين أفراد الحرس القديم أمس والليلة الفائتة واليوم. إن الإمبراطور يرى بألم عميق أن جنودا ممتازين أقيموا لحماية شخصه ووجب عليهم أن يقدموا من أنفسهم مثالا عن الطاعة للآخرين؛ يشتطون في التمرد لدرجة اجتياح الأقبية والمخازن المعدة للجيش، بل إن بعضهم بلغوا من الانحطاط إلى درك عدم احترام الحراس وضباط الحرس وإهانتهم وضربهم.
وقد كتب الحاكم:
إن ماريشال القصر الأكبر يشكو بشدة من أنه رغم الخطر المكرر لا يزال الجنود يقضون حاجاتهم الجسدية في كل الأفنية، بل حتى تحت نوافذ الإمبراطور.
لقد كان هذا الجيش أشبه بالقطيع المسرح الذي يطأ بالأقدام للغذاء الذي يمكن أن ينقذه من المجاعة، سوف ينهار وكل يوم من إقامته غير المجدية في موسكو كان يدفعه أكثر إلى نهايته، مع ذلك لم يكن يتحرك من مكانه.
وفجأة قرر الجيش أن يتحرك عندما دب الذعر في صفوفه إثر نبأ القوافل المأسورة على طريق سمولنسك ونبأ معركة تاروتينو. وهذا النبأ نفسه الذي تلقاه نابليون أثناء عرض عسكري، هو الذي أيقظ في نفسه الرغبة في معاقبة الروسيين كما يقول تيير، فأصدر الأمر بالسير وهو الأمر الذي كان جيشه كله يطالب به.
حمل رجال هذا الجيش في فرارهم من موسكو كل أسلابهم المتراكمة، بل إن نابليون نفسه حمل معه «كنزه» الشخصي. ولقد خاف نابليون - كما قال تيير - عندما رأى القوافل التي تعيق حركة الجيش، لكنه لم يأمر بفضل خبرته في الحرب بأن تحرق العربات الفائضة كما فعل بصدد عربات واحد من ماريشالاته قبل دخوله إلى موسكو، لقد تأمل تلك العربات الخفيفة وعربات «البرلين» الضخمة الغاصة بجنوده، ثم أعلن أن كل شيء على ما يرام، وأنهم سوف يحتاجون إلى كل هذه العربات من أجل الأرزاق والمرضى والجرحى.
لقد كان موقف الجيش كله يشبه موقف حيوان جريح يشعر بدنو أجله ولا يعي ماذا يفعل. ودراسة حركات نابليون وخططه الحكيمة وحركات جيشه منذ دخوله موسكو حتى اللحظة التي دمر فيها هذا الجيش، يعني دراسة القفزات والتشنجات الصادرة عن حيوان جريح جرحا مميتا، إنه غالبا ما يرتمي الحيوان الجريح تحت نار الصياد لأدنى حركة، ويفر بخط مستقيم ثم يعود إلى الوراء وبذلك يعجل بنهايته. وهذا ما عمله نابليون تحت ضغط جيشه كله، لقد دب الذعر في فؤاد الحيوان الجريح لضجة معركة تاروتينو، فاندفع يستقبل الطلقة النارية وبلغ مكان الصياد ثم نكص على أعقابه، وأخيرا اندفع إلى الوراء ككل الحيوانات الجريحة، سالكا أسوأ الطرق وأكثرها خطورة ولكن على آثار قديمة ومعروفة منه.
إن نابليون الذي يبدو لنا أنه يدير كل هذه الحركة، أشبه بالصورة المنقوشة على مقدمة سفينة يعتبرها المتوحشون القوة المحركة لتلك السفينة، في حين أنه في الحقيقة أشبه بطفل صغير في اضطرابه، طفل متشبث بالسيور الجلدية المثبتة داخل عربة ما، يتصور نفسه وهو في مكانه ذلك أنه يقود تلك العربة.
الفصل الحادي عشر
بيير في السجن
خرج بيير في السادس من تشرين الأول من مبناه الخشبي صباحا باكرا جدا وتوقف، بعد أن نكص على أعقابه، على العتبة يداعب كليبا ذا شعر بنفسجي وجسد ممدد فوق قوائم قصيرة عوجاء، كان هذا الكلب الصغير يعيش في المبنى وينام مع كاراتاييف، يفلت أحيانا ولكنه بعد جولة في المدينة يعود دائما، وكان يبدو عليه أنه لم يكن قط لأحد ما لأنه في تلك اللحظة كان دون صاحب ودون اسم ، كان الفرنسيون يسمونه آزور، ولقد عمده جندي مولع جدا بالقصص باسم فمجالكا، أما كاراتاييف والآخرون فقد أطلقوا عليه اسم الأشهب أو فيسلي أي ذي الأذنين المتدليتين. لم يكن ذاك الكليب ذو الشعر البنفسجي منزعجا قط لأنه لا عرق له ولا لون ولا سيد ولا اسم محددة، كان ذنبه ينتصب على شكل حزمة دائرية متينة من الريش، وقوائمه الملتوية تؤدي له خدمات جليلة، حتى إنه غالبا ما كان يغفل استعمال قوائمه الأربع فيرفع إحدى خلفيتيه بظرافة، ويروح يقفز على الثلاث الأخريات برشاقة ملحوظة. لقد كان كل شيء بالنسبة إليه مبعث رضا، فتارة ينبح مسرورا ويتدحرج على ظهره، وتارة يتدفأ تحت الشمس تبدو على وجهه سيماء العظمة والتفكير، وتارة يمرح مداعبا قطعة من الخشب أو ساقا من القش.
كان لباس بيير يتألف الآن من قميص قذر ممزق هو آخر أثر من آثار ثيابه القديمة، ومن سراويل عسكرية ربط أطرافها بخيوط عند كعبيه ليستمد منه قسطا أكبر من الدفء تبعا لنصيحة كاراتاييف، وقلنسوة يضعها الفلاحون. ولقد تبدل بيير من الناحية الجسدية تبدلا كبيرا خلال هذه الفترة، لم يعد بادنا كسابق عهده رغم احتفاظه بمظهره المتين الضخم الذي كان طبيعيا في تكوينه، وأصبحت لحيته وشاربه يغطيان الجزء الأسفل من وجهه، بينما راح شعره الذي نبت واستطال مشعثا مليئا بالقمل يغطي رأسه أشبه بقلنسوة، ولقد اتخذت نظرته طابعا حازما هادئا شديد الثبات لم يسبق له أن وهب مثلها من قبل، وحل محل استسلامه الذي كانت عيناه تنطقان به عزم مكين نشيط وكان يمشي حافي القدمين.
كان بيير ينظر تارة إلى الحقل في الأسفل حيث اجتازه ذلك الصباح أشخاص على جياد وعربات، وتارة إلى الأبعاد إلى ما وراء النهر، وطورا إلى الكليب الذي بدا كأنه يريد أن يعضه جديا، ثم إلى قدميه الحافيتين اللتين كان يتسلى بإعطائهما وضعيات مختلقة وهو يحرك أصابعهما القذرة، وكلما وقعت عيناه على قدميه الحافيتين كانت ابتسامة رضا قوي تطوف على وجهه، كانت رؤيتهما تذكره بما قاساه وتعلمه خلال هذه الحقبة، وكانت هذه الذكرى محببة إلى نفسه.
منذ بضعة أيام كان الطقس هادئا مشرقا مع شيء قليل من الجمد الأبيض عند الصباح، وهو ما يطلقون عليه اسم صيف النساء.
كان الطقس حارا في الخارج تحت الشمس والحرارة بعد برودة الجمد الصباحية المثيرة التي ما زالت تشوب الهواء ، كانت لذيذة بشكل خاص.
كان ذلك الضياء السحري ينتشر فوق كل الأشياء القريبة والبعيدة وهي على حالتها المبلرة التي لا ترى إلا في مثل ذلك الوقت من الخريف، وجبل العصافير مع القرية والكنيسة والبيت الأبيض الكبير ترتسم على البعد، والأشجار العارية والرمال والأحجار والسقوف وسهم الكنيسة الأزرق وزوايا البيت الأبيض كلها تنفصل في زوايا ناتئة دقيقة بجلاء غير مألوف في الهواء الشفوف، وعلى مسافة أقرب ترتسم كذلك خرائب بيت أحد السادة المألوفة الذي احتله الفرنسيون، بأزدرختها الأخضر الداكن الذي نما على طول الحاجز. إن هذا المسكن نفسه المتهدم المدنس الذي كان يصبح في الأوقات الكالحة منفرا لبشاعته، بات الآن في ذلك الإشعاع الضوئي الثابت على جمال يهدئ النفس.
وخرج عريف فرنسي بثوب مهمل وقلنسوة رجال الشرطة من وراء زاوية المبنى وبين أسنانه غليون قصير، فبادر بيير بغمزة عين ودية وقال: أي شمس، هه يا سيد كيريل (وهكذا كان الفرنسيون كلهم يسمون بيير) ليقال إننا في الربيع؟!
واستند العريف إلى الباب، وعرض على بيير تدخين غليون رغم أنه كان دائما يلاقي الرفض من جانب هذا كلما تقدم إليه بذلك العرض.
شرع العريف يقول: لو أننا مشينا في مثل هذا الجو ...
سأله بيير عما يعرفه عن الرحيل المقبل، فقال العريف إن الجيش كان تقريبا سوف يتحرك قريبا، وإن أمرا يوميا ينبغي أن يصدر ذلك اليوم بالذات بصدد السجناء.
كان في المبنى الذي فيه بيير أحد الجنود واسمه سوكولوف يحتضر، فأخطر بيير العريف لتتخذ الإجراءات بصدده، فقال له العريف إنه يستطيع أن يقر عينا لأن لديهم مستشفيات منظمة للغاية اللازمة بالمرضى، وإن كل ما يمكن أن يحصل قد قدر من قبل من جانب القيادة العليا. ثم يا سيد كيريل، ليس عليك إلا أن تقول كلمة واحدة للرئيس وأنت تعرف ذلك، أوه! إنه واحد ... لا ينسى شيئا أبدا، قل للرئيس عندما يقوم بجولته وسوف يعمل كل شيء من أجلك.
وكان الرئيس الذي تحدث عنه العريف قد سبق له أن تحدث مع بيير مطولا مرات عديدة، وغمره دائما بحسن التفاته. - انظر، وحق القديس توماس إنه قال لي ذلك اليوم إن كيريل رجل مثقف يتعلم الفرنسية، إنه سيد روسي أصيب بمحنة لكنه رجل، ثم إنه يمكن التفاهم معه، ال ... فإذا سأل شيئا ليقله لي، لن يرفض له طلب، عندما يكون المرء مثقفا يحب العلم كما ترى، والرجال الأخيار. إنني أقول هذا لك يا سيدي كيريل، فلولا فضلك في مشكلة ذلك اليوم لسارت الأمور على شكل سيئ.
وبعد لحظات ثرثرة مضى العريف. وكانت المسألة التي تحدث عنها العريف هي شجار وقع بين سجناء وفرنسيين استطاع بيير فيه أن يهدئ رفاقه. ولقد سمع بعض السجناء ببيير يتحدث إلى العريف فجاءوا يسألونه عما قاله، وبينما كان بيير يروي لهم أن الأمر يتعلق برحيل وشيك، وصل جندي فرنسي نحيل أصفر رث الثياب إلى الباب، حيا بحركة رشيقة ووجلة معا وهو يرفع أصابعه إلى جبينه، وخاطب بيير ليسأله عما إذا كان الجندي تلاتوس الذي أعطاه قميصا لخياطته في المبنى أم لا.
لقد تلقى الفرنسيون في الأسبوع المنصرم جراية من الجلد والكتان، فأعطوا أحذيتهم وقمصانهم إلى السجناء الروسيين يصنعونها.
قال كاراتاييف وهو يقترب حاملا قميصا مطويا بعناية: إنه جاهز، إنه جاهز يا صقري الصغير.
كان كاراتاييف لا يرتدي إلا السراويل وقميصا ممزقا بسبب الحرارة وتيسير العملة، ولقد كان القميص الممزق بلون السخام، وكان شعره ملفوفا على عادة العمال بشريط من الكتان، ووجهه المستدير يبدو أكثر استدارة وبشاشة من المعتاد.
هتف بلاتون وهو يبسط القميص الجاهز مبتسما: إن الوعد كان مسئولا، لقد قلت إنه سينتهي يوم الجمعة وأنهيته يوم الجمعة.
ألقى الفرنسي حولة نظرة قلقة، ثم نزع سترته الخارجية بسرعة وكأنه حزم أمره على شيء ولبس القميص، ولقد بدت تحت سترة الفرنسي مكان القميص المفقود صدرة طويلة ذات أزهار من الحرير متسخة جدا، تغطي جذعه العاري الأصفر الهزيل، وكان واضحا أن الفرنسي يخاف أن يأخذ السجناء لدى رؤيته على ذلك النحو بالضحك، لذلك فإنه سارع إلى القميص الجديد يدخل رأسه في فتحته، لكن ما من أحد من السجناء نبس بكلمة.
قال بلاتون وهو يجذب أطراف القميص: إنك ترى كم هو حسن الحياكة!
أدخل الفرنسي بادئ الأمر رأسه ثم ذراعيه، ثم راح دون أن يرفع عينيه يتأمل القميص على نفسه ويفحص خياطته.
قال بلاتون مفسرا وقد استدار وجهه بابتسامة عريضة، وبان عليه الرضى العميق على عجلة: ذلك أنني لا أملك مشغلي هنا يا صقري الصغير، ولا أدوات مناسبة جيدة، ولقد قال المثل إنه دون عدة لا يمكن قتل قملة.
قال الفرنسي: هذا حسن، هذا حسن، شكرا. ولكن لا بد وأن لديك قماشا مما بقي منه.
فاسترسل كاراتاييف وهو أكثر اغتباطا بعمله: سوف يسير كل شيء على ما يرام حتى ولو لبسته على جلدك مباشرة، سترى كم ستكون مرتاحا فيه ...
فكرر الفرنسي باسما وهو يخرج ورقة نقدية قدمها إلى كاراتاييف: شكرا، شكرا يا شيخ، الباقي ... ولكن الباقي ...
ولاحظ بيير أن بلاتون ما كان يريد أن يفهم ما يقوله الفرنسي، فراح يراقبهما دون أن يتدخل. وظل كاراتاييف يشكر الفرنسي على الأجر ويطري عمله، غير أن الفرنسي الذي كان متمسكا بما تبقى من الكتان لجأ إلى بيير أخيرا ليترجم له أقواله.
رد كاراتاييف: آرابه؟ ماذا سيعمل بها؟ إنها ستفيدنا نحن فنعمل منها عصابات ممتازة للأقدام، لكنه إذا كان يصر ...
واكفهر وجه كاراتاييف فجأة، فأخرج من قميصه رزمة صغيرة من القصاصة مد يده بها إلى الفرنسي دون أن ينظر، وقال وهو يبتعد: «يا حيف»، واستشار الفرنسي بيير بنظرة ثم احمر وجهه وكأن نظرة بيير علمته شيئا، ونادى فجأة بصوت نياح: بلاتوش، اسمع يا بلاتوش، احتفظ بها لنفسك.
وبعد أن أعطاها له استدار إلى الوراء وانصرف، فقال كاراتاييف وهو يهز رأسه: انظر إلى هذا ! يقولون إنهم ليسوا مسيحيين مع أن لهم نفسا طيبة، إنهم كما يقول آباؤنا: «إن اليد التي يبللها العرق كريمة، واليد الجافة ليست وهابة»، إنه لا يملك شيئا ومع ذلك يعطي.
ظل كاراتاييف فترة صامتا وعيناه شاخصتان إلى آراب القماش وعلى شفتيه ابتسامة حالمة، ثم قال وهو يعود إلى المبنى: ولا ريب يا شيخ أنني سأعمل من هذه عصابات رائعة.
الفصل الثاني عشر
نفسية بيير
كان بيير سجينا منذ أربعة أسابيع، وعلى الرغم من أن الفرنسيين أظهروا نيتهم في نقله من مبنى الجنود إلى مبنى الضباط، فإنه لبث في المبنى الذي قادوه إليه في اليوم الأول.
وكان بيير يتحمل في موسكو المحترقة الممتلئة بالخرائب أقصى ما يمكن لرجل أن يحتمله من الحرمان، لكنه بفضل تكوينه الممتاز وصحته القوية اللذين لم يفكر فيهما حتى ذلك اليوم، وبفضل وقوع ذلك الشظف على درجات لا يكاد يشعر بها حتى ليتعذر تحديد الوقت الذي بدأ فيه، فقد احتمل حالة العري التي وصل إليها ليس دون ألم فحسب بل وفي فرح. والواقع أنه في تلك اللحظة بدأ يشعر بذلك الهدوء وذلك الرضى الداخليين اللذين تمناهما بكثير من اللهفة من قبل، لقد بحث طويلا خلال حياته هنا وهناك عن ذلك الهدوء وذلك التفاهم مع الذات، الذي أدهشه أيما دهشة وجودهما لدى الجنود في معركة بورودينو، لقد بحث عن ذلك في محبة الناس وفي الماسونية وفي مباهج الحياة العامة، في الخمر، في بطولة التضحية، في غرامه الرومانطيقي بناتاشا، لقد بحث عن ذلك في دروب الفكر فخيبته أبحاثه كلها ومحاولاته كلها، وها هو ذا دون أن يعرف كيف يحصل على الهدوء وعلى الرضى الداخليين من خلال أهوال الموت والعري، وخصوصا من خلال ما كان يشعر به في كاراتاييف.
ولقد بدت الدقائق الرهيبة التي قضاها أثناء إعدام مشعلي الحرائق كأنها كنست من ذهنه وذاكرته إلى الأبد الأفكار والمشاعر التي كانت تعذبه، والتي كانت تبدو له من قبل على جانب كبير من الأهمية. لم يعد يفكر في روسيا ولا في الحرب ولا في السياسة ولا في نابليون، بات يرى بوضوح أن كل هذا لا يعنيه في شيء، وأنه لم يدع للحكم على كل هذه الأمور، وأنه عاجز عن الحكم. كان يردد على طريقة كاراتاييف: «روسيا والصيف لا يتماشيان»، وكانت لهذه الكلمات ميزة تهدئة بشكل غريب. بات يرى الآن قراره قتل نابليون غير مفهوم بل ومضحك، وكذلك حساباته حول الرقم السحري ووحش رؤيا القديس يوحنا، وقد بدا الآن أن غضبه على زوجته وخوفه من أن تحط من شرف اسمه يستحقان الهزء اللاذع، بل إنهما صورة مشوهة غريبة، ماذا كان يهمه لو أن تلك المرأة عاشت هناك الحياة التي تروق لها؟ ومن كان يهتم، بل أية أهمية بالنسبة إليه نفسه بصورة خاصة لو أن الفرنسيين عرفوا أن اسم سجينهم هو الكونت بيزوخوف أو لم يعرفوه؟
أخذ الآن يتذكر غالبا حديثه مع الأمير آندريه، وأصبح متفقا معه بالرأي تماما وإن كان فهمه لفكرته على بعض الاختلاف؛ كان الأمير آندريه يزعم ويقول إن السعادة سلبية فقط، لكنه كان يقول ذلك بطابع من السخرية والمرارة، وكان يبدو وهو يتكلم على هذا النحو أنه يريد التعبير عن رأي آخر، ذلك الرأي القائل: إن ميولنا نحو السعادة الإيجابية ليست مغروسة في نفوسنا إلا لتبقى غير مشبعة وبالتالي لتعذبنا. وكان بيير يعترف بحقيقة ذلك دون أية فكرة ضمنية، فغياب كل عامل الأمل وإرضاء كل الاحتياجات، والذي هو بالتالي حرية انتقاء المشاغل الشخصية، أي لون حياة الشخص الخاصة؛ باتت تبدو الآن لبيير السعادة الحقيقية القصوى للإنسان. فهنا، وللمرة الأولى، بات يقدر في سره بهجة تناول الطعام عندما يجوع المرء، والشرب عندما يعطش، والنوم عندما ينعس، والتدفئة عندما يشعر بالبرد، والتحدث عندما يرغب المرء في الحديث وفي سماع صوت إنساني، ولقد بدا إرضاء الحاجات والغذاء الجيد والنظافة والحرية التي كان محروما منها الآن، بدت لبيير السعادة الكاملة، وانتقاء مشاغله وأعني حياته، الآن وقد بات ذلك الانتقاء بالنسبة إليه محدودا جدا بدا له من السهولة حتى إنه كان ينسى أن فرط التسهيلات في الحياة يدمر كل المتعة التي يشعر بها المرء في إرضاء احتياجاته، وأن الحرية المفرطة في انتقاء المشاغل - هذه الحرية التي أغدقتها على حياته ثقافته وثراؤه ومركزه في الحياة - تجعل من جهة ذلك الانتقاء بسيطا لدرجة لا تضاهى، وتهدم من جهة أخرى الحاجة نفسها إلى الحياة بل وإمكانيتها.
باتت أحلام بيير كلها تتجه الآن نحو اللحظة التي سيصبح حرا فيها. وفي تلك الأثناء، بالتالي وخلال كل حياة، تذكر بيير وتحدث بحماس عن شهر الأسر ذاك، وعن تلك الإحساسات القوية المرحة التي لن يجدها مرة أخرى، وخصوصا عن طمأنينة الروح الكلية وتلك الحرية الداخلية الكاملة، اللتين لم يحس بهما إلا في تلك الحقبة فقط.
في اليوم الأول، نهض مبكرا جدا وخرج من المبنى عند الفجر، وعندما شاهد بادئ الأمر القباب المعتمة وصلبان دير نوفودييفيتشي، ثم الجمد الأبيض على الحشائش المغبرة، ثم سفوح جبل العصافير والمنحدر المشجر المتعرج فوق النهر الذي يمتد ليغيب في الأبعاد البنفسجية الزاهية، عندما أحس بالهواء المنعش يدخل إلى أعماق رئتيه، وسمع نعيب غربان الزرع وهي تطير من موسكو عبر السهل، عندما رأى فجأة الضوء ينبعث من المشرق، وطرف قرص الشمس يطلع بجلال من وراء الغيوم، والقباب والصلبان والندى والأبعاد والنهر تتألق ببهجة الضوء؛ شعر بيير شعورا جديدا كل الجدة بالفرح وبعظمة الحياة شعورا لم يسبق له أن أحس به قط.
ولم يغادره ذلك الشعور أبدا طيلة فترة أسره، بل على العكس نما باطراد كلما ازدادت مصاعب موقفه.
ولقد ازداد ذلك الشعور بالتأهب لكل شيء والخضوع فكريا لكل شيء تأصلا في نفس بيير بفضل الفكرة الرفيعة التي كونها عنه رفاقه في المبنى حال دخوله إليه. وبمعرفة لغات عديدة، وبالتقدير الذي أبداه الفرنسي نحوه، وبطريقته البسيطة كل البساطة في إعطاء ما يسأل وهو الذي كان يتلقى أسبوعيا ثلاثة روبلات بوصفه ضابطا، وبالقوة التي برهن عليها أمام الجنود بغرسه المسامير في حاجز المبنى الخشبي بيده، وبالدماثة التي أظهرها في معاملته مع رفاقه، وقدرته غير المفهومة في نظرهم على البقاء جالسا دون حراك ودون أن يعمل شيئا مفكرا؛ بكل ذلك معا اعتبر بيير شخصا رفيعا على بعض من الغموض. وهذه الصفات نفسها التي كانت في العالم الذي عاش فيه من قبل معيقة إن لم تكن مضرة، هذه الصفات: قوته، احتقاره لرفاهيات الحياة، مظهره الحالم، بساطته، كانت تجعل منه هنا بين هؤلاء الناس بطلا تقريبا، فكان بيير يحس بأن مثل هذا التقدير يخلق له واجبات عليه أداؤها.
الفصل الثالث عشر
يوم الرحيل
شرع الجيش الفرنسي يتحرك طيلة ليلة السادس إلى السابع من تشرين الأول: دمروا المطابخ والمباني، وحملوا عربات النقل، ثم بدأ الجنود والأحمال في السير.
في الساعة السابعة صباحا اصطفت فصيلة من الفرنسيين في لباس الحرب، قبعات وأسلحة وأجربة وحزم كبيرة، أمام المبنى. وثارت محادثة حامية بالفرنسية تخللتها السباب من طرف الصف إلى طرفه الآخر.
كانوا جميعا في المبنى على استعداد وقد ارتدوا ثيابهم وحزموا أمتعتهم وانتعلوا أحذيتهم لا ينتظرون إلا صدور الأمر إليهم بالرحيل، باستثناء الجندي المريض سوكولوف الشاحب النحيل لدرجة بدت معها عيناه المحاطتان بدوائر زرقاء وكأنها خارجتان من محجريهما، فقد ظل جالسا في مكانه لم يلبس ثيابه ولم ينتعل حذاءه، بل راح ينظر إلى رفاقه الذين ما كانوا يأبهون له ويطلق بانتظام أنات خفيفة. ولا ريب أن الخوف والقلق من بقائه وحيدا وهو المصاب بالزحار هما اللذان كانا يجعلانه يئن على ذلك النحو، وليس الألم وحده.
اقترب بيير من المريض وقد تمنطق بحبل وانتعل زوجا من الأحذية صنعه كاراتاييف من جلد صندوق للشاي جاء به فرنسي ليجدد به نعليه، وجلس القرفصاء أمامه.
قال بيير: حسنا يا سوكولوف، لا تخف، إنهم لا يرحلون نهائيا، إن لديهم مستشفى هنا، لعلك ستكون فيه أفضل منا جميعا.
فأن الجندي بصوت أقوى: أوه! سأموت! أوه يا ربي!
استأنف بيير يقول وهو ينهض ويتجه نحو باب المبنى: إنني ذاهب توا أعيد مطالبتهم بذلك.
وفي اللحظة التي كاد أن يجتاز عتبة الباب فيها، ظهر العريف الفرنسي الذي قدم إليه أمس تدخين غليون يرافقه جنديان، وكان العريف والجنديان في ثياب الميدان فأجربة وعمرات رباطها مثبتة عند الذقن، الأمر الذي جعل وجوههم الأليفة تبدو مختلفة كل الاختلاف.
اقترب العريف من الباب ليغلقه تبعا لأمر السلطات، إذ كان يجب تفقد السجناء قبل الرحيل.
شرع بيير يقول: أيها العريف، ماذا سيعملون بالمريض؟
لكنه وهو يقول ذلك تساءل مع من يتحدث، وهل يتحدث مع العريف الذي يعرفه أو مع مجهول لشدة ما طرأ على وجه هذا الرجل من تبدل. وبنفس الوقت، دوى قرع طبول من الجانبين معا، فقطب العريف حاجبيه لدى سماعه أقوال بيير وصفق باب المبنى وهو ينطق بسبة غير مفهومة، فغرق كل شيء في الداخل في نصف ظلام، وراح قرع الطبول المنبعث من اليمين واليسار يخنق أنات المريض.
حدث بيير نفسه وقد مرت في فقرات ظهره رعشة غير إرادية: «ها هو ذا، إنه يبدأ من جديد!» ففي وجه العريف غير المعروف وفي رنة صوته وقرع الطبول المحفز المصم للآذان، لمس بيير تلك القوة الخفية التي لا تقهر التي تدفع الإنسان إلى قتل أمثاله من بني الإنسان، تلك القوة التي رآها ناشطة يوم إعدام مشعلي الحرائق، وكان الخوف من تلك القوة أو محاولة الفرار منها أو التوجه بابتهالات أو بنصح إلى الذين يستعملونها أدوات لهم لا يجدي فتيلا، لقد كان بيير يعرف هذا الآن. كان يجب الانتظار والصبر، فلم يعد بيير إلى حيث كان المريض ولم يعد ينظر إليه، وقف قرب باب المبنى صامتا مقطب الحاجبين.
وعندما فتح الباب وراح السجناء يتدافعون بعضا في أثر بعض كقطع من الخراف، شق بيير لنفسه طريقا بينهم واقترب من ذلك الرئيس بالذات الذي كان مستعدا - على حد قول العريف - أن يعمل كل شيء من أجله، لقد كان ذلك الرئيس أيضا وهو في ثياب الميدان متخذا سيماء الجمود، وقد بدا عليه «ذاك» الذي لمسه بيير في أقوال العريف وفي جلبة قرع الطبول.
أخذ الرئيس يكرر وهو مقطب الحاجبين بصرامة، ينظر إلى جمهور السجناء يمر أمامه: اجروا، اجروا.
وكان بيير يعرف أن تصرفه سيكون عقيما، مع ذلك فقد تقدم، فقال له الضباط وفي عينيه نظرة باردة وكأنه لا يعرفه: حسنا، ماذا هناك؟
فشرح بيير حالة المريض.
هتف الرئيس: سوف يستطيع السير، يا للشيطان!
ثم أردف دون أن يلقي بالا إلى بيير: اجروا، اجروا.
رد بيير: ولكن لا، إنه في النزع ...
فزمجر الرئيس وقد ازداد حاجباه تقطيبا كما لم يحدث قط من قبل: هل تريد أن ...
ودوت الطبول بلان، بلان، راتابلان، ففهم بيير أن القوة الخفية قد سيطرت على كل هؤلاء الرجال، وأنه لا جدوى الآن من التحدث في أي شيء كان.
فرز الضباط السجناء عن الجنود البسيطين وصدر إليهم الأمر بالسير في المقدمة، كانوا قرابة ثلاثين ضابطا بما فيهم بيير، والجنود حوالي الثلاثمائة.
كان الضباط الأسرى القادمون من أبنية أخرى غرباء كلهم عن بيير، ولما كانوا جميعا أفضل منه لباسا، فقد راحوا يقيسونه بأنظارهم ويحدقون إلى حذائه بتحفظ عدائي. وعلى مقربة منه كان «ماجور» ضخم يسير وقد بدا عليه أنه ينعم بالتقدير العام، كان يرتدي معطفا منزليا من صنع قازان ويتمنطق بمنشفة ووجهه منتفخ صفراوي حقود، وكان يمسك بإحدى يديه إبطه بجراب التبغ، وبالأخرى يتوكأ على غليونه التركي الطويل. وكان ذلك الماجور الذي ينفخ كالثور لا يفتأ يزمجر ويثور ضد كل الناس بحجة أنهم يدفعون وأنهم يمشون بسرعة كبيرة في حين ليس هناك داع للسرعة، أو أنهم يدهشون عندما لا يدعو شيء إلى الدهشة. وكان ضابط آخر قصير نحيل يناشد كل واحد ليعلم الجهة التي يمكن أن يتجهوا إليها، والمكان الذي سيكون نهاية مرحلة اليوم. وكان موظف ينتعل أحذية عالية من اللبد ويرتدي زي الإعاشة يهرج من جانب إلى آخر ليتأمل أضرار حريق موسكو، وهو يدلي بملاحظاته بصوت مرتفع عما احترق وعما تبقى من هذا أو ذاك من الأحياء. وضابط ثالث، من أصل بولوني تبعا للكنته، كان يتنافس مع ذلك الموظف ليبرهن له على أنه يخطئ في التعرف على الأحياء.
غمغم الماجور بلهجة جافة: ما فائدة النقاش؟ سان نيكولا أو سان بليز، هذا سيان وأنتم تعرفون ذلك لأن كل شيء قد احترق وانتهى الأمر ... ماذا بكم تندفعون بهذا الشكل، أليس عرض الطريق كافيا؟!
ولقد هتف بهذه الملاحظة عاليا وهو يلتفت غاضبا نحو الذي كان يمشي وراءه والذي لم يدفعه قط.
ومن جانب تارة ومن آخر تارة أخرى كان السجناء يهتفون لدى رؤية الانقاض: أوه! أوه! أوه! أوه! ماذا عملوا؟! زاموسكفورييتشييه، وزوبوفو، وفي الكريملن ... انظروا، لم يبق منها النصف. نعم، لقد قلت لك من قبل إن كل زاموسكفورييتشييه ستلقى هذا المصير، وها هي ذي لقد احترقت!
غمغم الماجور: حسنا، طالما تعرفون أن كل شيء قد احترق، فأية فائدة من استمرار الحديث عنه؟
ولما اجتازوا خاموفنيكي (وهو أحد الأحياء النادرة التي ظلت سالمة)، أمام الكنيسة، تكتلت جمهرة السجناء كلها في جانب واحد، وانطلقت الهتافات المشبعة بالهول والاشمئزاز من أفواههم.
آه! يا للحقيرين! إنهم ليسوا مسيحيين، نعم، هذا ميت، إن هذا ميت هنا ... لقد لطخوا وجهه بشيء ما.
حمل بيير نفسه هو الآخر نحو الكنيسة حيث كان يوجد ذلك الذي أحدث كل هذه الهتافات، فشاهد بغموض شكلا مسندا إلى الحاجز، ولقد علم من زملائه الذين كانوا يرون أفضل منه أن ذلك الشكل هو جثة رجل، نصبت واقفة على الحاجز وقد طلي الوجه كله بالسخام.
أخذ الحراس المواكبون يزمجرون وقد استبدت بهم غضبة جديدة فراحوا يطردون جمهور السجناء الذين كانوا يتأملون الجثة، مستعملين عرض سيوفهم: سيروا، اللعنة ... اجروا ... يا لثلاثين ألف شيطان ...!
الفصل الرابع عشر
المرحلة الأولى
اجتاز السجناء أزقة خاموفنيكي مع حراسهم والعربات والعجال التي تتبعهم دون أن يصادفوا أحدا، لكنهم عندما بلغوا على مقربة من مخازن المؤن وقعوا وسط رتل كبير من المدفعية كان يتقدم بصعوبة، وقد تخللت صفوفه عربات خاصة.
ولما بلغوا الجسر اضطروا أن ينتظروا ريثما يجتازه أولئك الذين كانوا في المقدمة، ومن على ذلك الجسر استطاع السجناء أن يروا أمامهم ووراءهم أرتالا لا تنتهي من القوافل الأخرى السائرة. وعلى اليمين، قرب نيسكوتشني حيث طريق كالوجا ينحرف ويضيع في الأبعاد، امتدت القطعات والقوافل إلى ما لا نهاية، كان ذلك هو «جمهرة» جيش بوهارنيه
1
الذي كان أول من خرج من موسكو. وإلى الوراء، على طول الرصيف وعبر جسر بيير، أخذت جمهرة جيش الماريشال ني وعرباته تتقدم.
مرت جمهرة جيش دافو التي يتبعها السجناء من مخاضة القرم، وولج قسم منها شارع كالوجا، بيد أنه كان هناك عدد كبير من العربات حتى إن عجال بوهارنيه التي مرت عن طريق شارع كالوجا، لم تكن قد خرجت من موسكو بعد، عندما وصلت مقدمة قطعات ني أوردنكا الكبرى.
وبعد أن عبر السجناء مخاضة القرم، ساروا بضع خطوات ثم توقفوا ثم عادوا إلى السير، بينما أصبحت العربات من كل صوب متراصة والرجال باتوا يتزاحمون، ولقد استمروا قرابة ساعة في قطع ما يقرب من المائة خطوة التي تفصل الجسر عن شارع كالوجا. وعندما وصلوا الساحة التي يتحد فيها طريقا زاموسكفورييتشييه وكالوجا، اضطر السجناء أن يتوقفوا من جديد وأن يحشروا حشرا وينتظروا ساعات طويلة في تلك المفارق. ومن كل مكان، كانت تنبعث جلبة متواصلة شبيهة بهدير البحر، بين صرير عربات وضربات أقدام وصرخات غضب وسباب، ولقد راح بيتر يصغي إلى هذه الجلبة التي كانت تختلط في خياله بقرع الطبول، وهو واقف ملتصق بجدار منزل محترق.
ولقد تسور بعض الضباط الأسرى جدران البيت المحترق الذي استند بيير إليه لتتاح لهم فرصة إمعان النظر، أخذوا يتحدثون: يا للجمع الغفير! يا للجمع الغفير! ... ولكم كدسوا حتى فوق مدافعهم! انظروا إلى هذا الفرو، آه! يا للسفلة، كم سرقوا من أشياء! ... انظروا إلى هذا، إلى الوراء، في عربته! ... وهذا! ... إن هذه الأشياء ولا ريب مسلوبة من أيقونة مقدسة! إنهم ألمانيون بلا ريب! ... وقروينا، أين مضى؟ آه! يا للقذرين! وهذا، إن لديه حملا ثقيلا جدا حتى إنه لا يستطيع أن يتقدم ... مع عرباتهم ...! وهؤلاء الذين يعتلون الصناديق! آه! مولانا الرب! ... لكن هذا جد، إنهم يتضاربون! إيه، هيا إذن، اضرب وجهه! على الوجه، أقول لك ... أما نحن فإننا سنمكث هنا حتى حلول المساء، خذ، خذ! ... وهذا، هذا لا ريب لنابليون ، هن، يا للجياد! بشعار وتاج! ... وهذه، إنها ضحية قابلة للانطواء، وهذا الذي يدع الرزم تسقط دون أن يلاحظها! ... وأيضا أشخاص يتضاربون. وهذه المرأة مع طفلها، إنها ليست دميمة لعمري! نعم يا صغيرتي، سيدعونك تمرين على الفور! ... انظروا، إن هذا لن ينتهي أبدا ... فتيات روسيات، لعمري ! فتيات، يجلسن مستريحات في عربة خفيفة! «كمان!»
ألقت موجة جديدة من الفضول العام بالسجناء إلى جانب الطريق كما حدث لهم قرب الكنيسة في خاموفنيكي، فاستطاع بيير بفضل قامته المديدة التي تسمح له بالرؤية من فوق رءوس رفاقه أن يرى ما كان يجذب انتباههم، كانت نساء متبرجات في ثياب زاهية الألوان يطلقن صرخات ثاقبة، يخطرن مكومات بعضهن فوق بعض في ثلاث عربات ركوب بين صناديق المدفعية.
منذ اللحظة التي شاهد بيير تلك القوة الغامضة تظهر، لم يعد هناك شيء يبدو له أكثر غرابة، لا الجثة الملطخة بالسخام استهزاء، ولا هؤلاء النسوة اللاتي يسرعن إلى حيث لا يعلم أحد، ولا خرائب موسكو، لم يعد شيء مما يراه الآن يحدث في نفسه أثرا حتى ليقال إن روحه كانت تستعد لمعركة رهيبة وترفض أي انفعال قادر على إضعافها.
مرت قافلة النساء، ثم عاد رتل العربات والجنود والعجلات، ثم جنود من جديد وصناديق وجنود، وهنا وهناك بعض النساء.
أما بيير فإنه بدلا من الأشخاص أنفسهم، كان يرى مجموع حركتهم فحسب، كل هؤلاء الناس والجياد بدوا كأن قوة غير مرئية تطردهم، كانوا جميعا خلال تلك الساعة التي رآهم بيير فيها يفدون من كل صوب، تحركهم رغبة واحدة بعينها: المرور بأسرع ما يمكن، فكانوا جميعا يتساوون بالتدافع بالمناكب والاحتداد والاشتباك بالأيدي. لقد كانت الأسنان البيضاء على أهبة العض، والحواجب تقطب، والسباب بعينها دائما تدوي، وكل وجه يحمل التعبير إياه بالحزم المكين والبرودة الشرسة، اللذين أدهشا بيير ذلك الصباح أيما دهشة على وجه العريف عند وقوع الطبول.
العودة إلى القصر.
ساروا بسرعة فائقة دون توقف أبدا، ولم يتوقفوا إلا عند مغيب الشمس، وحينئذ صفت العربات الواحدة وراء الأخرى، واستعد الرجال لليل. كانوا جميعا على حالة من الكآبة معتكري المزاج، ولقد تناهت من كل جانب السباب والهتافات الساخطة والمشاجرات وقتا طويلا. لقد ارتطمت عربة كبيرة كانت تتبع القافلة بعجلة نقل فحطمتها بمجرها، وهرع بعض الجنود فراح بعضهم يضرب رأس الخيول المقطورة إلى العربة ليجعلها تتراجع، وأخذ البعض الآخر بتلابيب بعض، فشاهد بيير جنديا ألمانيا يصاب بجرح خطير في رأسه بضربة سيف.
الآن وقد توقفوا وسط السهل، في رخاء غسق خريفي، بدا هؤلاء الناس كلهم كأنهم يتحسسون بشعور اليقظة الأليم نفسه بعد تلك اللهفة التي أظهروها في الرحيل والتدافع بالمناكب الذي نجم عنه، لقد بدوا جميعا عندما أخلدوا إلى الراحة يدركون أنهم يجهلون الجهة التي يسيرون إليها، وأنهم في تلك الحركة سيتعرضون ولا ريب لمحن ومصاعب.
عامل الحراس السجناء خلال المرحلة معاملة أسوأ من التي سبقت ساعة الرحيل، ولقد وزعوا عليهم للمرة الأولى لحم خيل.
واعتبارا من الضباط وحتى آخر جندي من جنود الحراسة، بدا كل منهم وكأنه يحس بعداء شخصي نحو السجناء، عداء حل فجأة محل روابط الصداقة السالفة.
ولقد تعاظم ذلك العداء في فترة التفقد عندما تبينوا أن جنديا روسيا فر في غمار المهرج الذي عم عند الرحيل، محتجا بألم في بطنه. ولقد شاهد بيير فرنسيا يضرب جنديا روسيا حاد على الطريق، وسمع صديقه الرئيس يعنف صف ضابط بصدد الجندي الروسي الفار ويهدده بالمجلس الحربي. ولما رد صف الضابط أن الجندي كان مريضا لم يستطع مواصلة السير، أجاب الضابط بأن الأمر كان قد صدر بإطلاق الرصاص على المتأخرين؛ شعر بيير بأن تلك القوة المشئومة التي اجتاحته إبان إعدام مشعلي الحرائق، والتي لم تطهر نفسها طيلة فترة أسره، قد عادت إلى الاستيلاء على شخصه. لكنه شعر كذلك بأنه بقدر ما كانت تلك القوة المشئومة تنوء عليه بشدة بغية سحقه، كانت قوة أخرى حيوية مستقلة عن الأخرى تنمو في روحه.
أكل بيير من حساء طحين الشيلم مع قطعة من لحم الحصان، ثم راح يتحدث مع رفاقه.
لم يتحدث هو ولا واحد من الآخرين بكلمة واحدة عما رأوا في موسكو، لم يتحدث أحد عن غلظة الفرنسيين، ولا عن الأمر بإطلاق النار على المتخلفين والفارين الذي بلغوه إلى السجناء، لقد تظاهروا جميعهم بالنشاط والفرح وكأنهم يحتجون على تفاقم حالتهم، تحدثوا عن ذكرياتهم الشخصية، وعن المشاهد المضحكة التي وقعت أبصارهم عليها خلال المسير ، وتحاشوا التلميح إلى موقفهم الحاضر.
كانت الشمس قد غربت منذ وقت طويل، والنجوم اللامعة قد أخذت تضيء هنا وهناك في قبة السماء، وضوء القمر البدر الذي كان يشرق أحمر كلهب حريق ينسفح على حافة الأفق، فكانت رؤية الكرة الحمراء الضخمة تأخذ بمجامع القلوب. وكان الوقت لا يزال مضيئا، لقد بلغ المساء نهايته لكن الليل لم يكن قد أسدل ستره بعد تماما. نهض بيير وغادر رفاقه الجدد، ثم حاول المسير خلال نيران المعسكر إلى الجانب الآخر من الطريق حيث قيل له إن الجنود الأسرى يقيمون، كان يريد أن يتحدث معهم فاستوقفه حارس فرنسي على الطريق وجعله ينكص على أعقابه.
عاد بيير على آثاره ولكن ليس باتجاه نيران زملائه، لقد ذهب نحو عربة فصلت جيادها، كان إلى جانبها شخص ما، وهناك أقعى وأطرق برأسه واستند إلى العجلات مستريحا على الأرض الباردة، وظل فترة طويلة ساكنا يفكر. ومدت عليه أكثر من ساعة على ذلك النحو فلم يزعجه أحد، وفجأة انفجر مقهقها بضحكته المدوية بجلبة شديدة، حتى إن الرجال التفتوا نحوه من كل الجهات ليروا سبب انبثاق ذلك المرح الغريب المنفرد.
أخذ بيير يضحك ويقول بصوت مرتفع: ها! ها! ها! لم يدعني الجندي أمر، لقد قبضوا علي وسجنوني، وما زالوا يبقونني في الأسر، ولكن من أنا؟ أنا؟ روحي الخالدة؟ ها! ها! ها!
ولقد كان يضحك بقوة حتى إن الدموع ملأت عينيه.
نهض أحدهم واتجه نحوه ليرى من أي شيء يضحك هذا العملاق المتين الغريب، لكن بيير هدأ ونهض ثم ابتعد عن الفضولي وهو يلتفت حوله.
كان المعسكر الكبير الذي يمتد على مرمى البصر، والذي كان يعج بادئ الأمر باحتدام النيران والأحاديث قد هدأ والنيران الحمراء تنطفئ وتشحب، وبات البدر الآن مرتفعا في كبد السماء المنيرة. ولقد كشفت الغابات والمروج التي ظلت حتى ذلك الحين غير مرئية خارج حدود المعسكر الستر عن نفسها، ومن وراء تلك الغابات والحقول أخذ البعد اللامتناهي المضيء يخفق ويدعو المرء إليه. رفع بيير عينيه نحو السماء، نحو الأعماق التي تلمع فيها النجوم السائرة وفكر: «كل هذا لي، كل هذا في، كل هذا هو أنا، وكل هذا هو ما أخذوه وحبسوه في مبنى تحيط به ألواح الخشب!» ابتسم ومضى يتمدد قرب رفاقه.
الفصل الخامس عشر
دوختوروف المغمور
خلال الأيام الأولى من شهر تشرين الأول حمل وسيط مرة أخرى إلى كوتوزوف رسالة من نابليون تحمل شروط الصلح، مؤرخة خطأ من موسكو طالما أن نابليون كان حينذاك على طريق كالوجا القديمة، قريبا جدا من الجيش الروسي وأمامه، فأجاب كوتوزوف على هذه الرسالة أيضا الجواب نفسه الذي رد به على الرسول لوريستون: أعلن أنه لا يمكن أن يكون المجال مجال صلح.
وبعد وقت قصير أخبرت كتيبة الأنصار العاملة تحت إمرة دوروخوف إلى يسار تاروتينو، أنهم شاهدوا قطعات عدوة في فومينسكوييه، وأنها مؤلفة من فوج بروسييه، وأنها منفصلة عن بقية الجيش يسهل إفناؤها. فراح الجنود والضباط يطالبون بالهجوم من جديد، وألح جنرالات أركان حرب الذين شجعتهم ذكرى نصر تاروتينو السهل على كوتوزوف ليحملوه على إقرار فكرة دوروخوف. ولم يكن كوتوزوف يرى من الضروري الهجوم، لذلك اتخذوا الحل الوسط، الحل الذي يجب أن يتحقق، فأرسلوا كتيبة صغيرة إلى فومينسكوييه مزودة بأمر مهاجمة بروسييه.
وبصدفة غريبة أنيطت هذه المهمة، وهي من أكثر المهام صعوبة وخطورة كما ثبت فيما بعد، بدوختوروف، دوختوروف القصير المتواضع ذاك نفسه، الذي لم يصفه لنا أحد قط بأنه واضع خطط حربية، مندفعا على رأس أفواجه، موزعا الأوسمة ملء راحتيه في «بطاريات» المدفعية، إلى آخر ما هنالك. دوختوروف ذاك نفسه الذي كان يبدو مترددا محروما من الفطنة، والذي نجده مع ذلك خلال كل الحروب مع الفرنسيين، ابتداء من أوسترليتز وحتى عام 1813، في المكان الأول حيثما الموقف خطير. ففي أوسترليتز ظل آخر من صمد عند سد أوجر، يجمع الفيالق وينقذ ما يمكن إنقاذه، في حين كان الجميع بين فار وقتيل، ولم يبق جنرال واحد في المؤخرة. وهو الذي في سمولنسك، رغم نوبات الحمى العنيفة التي انتابته، جرى مع عشرين ألف رجل ليدافع عن المدينة ضد جيوش نابليون، لقد أيقظه المدفع في سمولنسك عندما لم يكن قد أغفى بعد قرب باب مالاخوس، تائها في هذيان الحمى، وبفضله صمدت سمولنسك يوما كاملا. وفي بورودينو، عندما قتل باجراسيون، وفقد جناحنا الأيسر تسعة جنود على كل عشرة، وكانت مدفعية العدو الجبارة كلها مسددة إليه؛ أرسلوا على وجه الدقة دوختوروف هذا المتردد المحروم من الفطنة، وبادر كوتوزوف إلى إصلاح الخطأ الذي كاد يقترفه بتعيين ضابط آخر لذلك المركز، وبفضل القصير المتواضع دوختوروف أصبحت بورودينو أحد أمجاد الجيش الروسي. مع ذلك لقد وصفوا لنا نثرا وشعرا عددا كبيرا من الأبطال، لكنهم لم يتحدثوا إلينا قط عن دوختوروف.
وإذن، لقد أرسل دوختوروف أيضا إلى فومينسكوييه، ومن هنا إلى مالواياروسلافيتز حيث دارت آخر معركة مع الفرنسيين، وهو المكان الذي بدأت فيه نهايتهم منذ ذلك الحين وبشكل لا ريب فيه. مع ذلك فإنهم يصفون لنا من جديد أبطالا كثيرين وعباقرة خلال هذه الحقبة من الحملة دون أن يشار إلى دوختوروف، الأمر ببضع كلمات مبهمة جدا، بيد أن الصمت الذى يظهرون به حيال هذا الرجل يبرهن لنا على مؤهلاته بإفاضة. إن من الطبيعي أن يتصور رجل لا يعرف شيئا عن حركة آلة ما وهو يراها تقف عن الدوران أن الجزء الأكثر أهمية فيها هو العصافة، التي سقطت صدفة بداخلها فجعلتها تصر وتقف، ولا يستطيع أن يدرك دون أن يحيط علما بتكوين الآلة أن الأداة الجوهرية ليست العصافة التي تعيق حركتها، بل المسنن الصغير للموصل الذي يدور دون جلبة.
في العاشر من تشرين الأول، وهو اليوم نفسه الذي قطع فيه دوختوروف نصف الطريق إلى فومينسكوييه، وأمر باستراحة في قرية أريستوفو وهو على استعداد للقيام بالمهمة التي أوكلت إليه بكل دقة؛ بلغ الجيش الفرنسي كله في حركته التشنجية مواقع مورا تحت احتمال الاشتباك في معركة هناك. ثم دون أي سبب ظاهر رسم فجأة نصف دائرة إلى اليمين وسار على طريق كالوجا الجديد ودخل قرية فومينسكوييه، حيث لم يكن فيها أول الأمر إلا فيلق بروسييه وحده، ولم يكن تحت إمرة دوختوروف في ذلك الحين باستثناء دوروخوف إلا كتيبتي فينجر وسيسلافين الصغيرين.
وفي مساء 11 تشرين الأول قاد سيسلافين إلى أريستوفو، مركز القيادة، جنديا فرنسيا من الحرس سقط أسيرا بين يديه. أكد ذلك الرجل أن القطعات التي وصلت ذلك اليوم إلى فومينسكوييه تشكل مقدمة الجيش الكبير، وأن نابليون موجود معها، وأن ذلك الجيش قد غادر موسكو منذ خمسة أيام. وفي الأمسية ذاتها أعلن خادم مملوك وصل من بوروفسك أنه شاهد جيشا عرمرما يدخل تلك المدينة، وحمل قوقازيو دوروخوف من جانبهم أن الحرس الفرنسي يسير على بروفسك. فكان واضحا تبعا لهذه المعلومات الأخيرة أنه حيث كانوا يقدرون وجود فيلق واحد أصبح الجيش الفرنسي الخارج من موسكو كله موجودا فيه، متجها اتجاها غير منتظر طريق كالوجا القديم، ولم يكن دوختوروف تواقا إلى الدخول في الحركة لأن واجبه الحالي لم يعد واضحا جليا أمام عينيه، لقد أصدر إليه الأمر بالهجوم في فومينسكوييه، لكنه لم يكن في فومينسكوييه من قبل إلا بروسييه بينما أصبح الجيش الفرنسي كله فيها الآن. وكان إيرمولوف يريد أن يتصرف على هواه، لكن دوختوروف أصر على ضرورة حصوله على أمر من القائد الأعلى، فقرروا إرسال تقرير إلى الأركان.
انتخبوا لذلك ضابطا ذكيا، بولخوفيتينوف، الذي كان عليه أن يقدم علاوة على التقرير الخطي تفصيلات شفهية عن المسألة، وعند منتصف الليل ذهب بولخوفيتينوف مزودا بتقريره المختوم وبأوامره الشفهية، يحث جواده بأقصى سرعته يصحبه قوقازي يقود جياد البدل.
الفصل السادس عشر
الرسول وكونوفنيتسين
كانت الليلة الخريفية حالكة، والمطر الخفيف يهطل منذ أربعة أيام. بلغ بولخوفيتينوف ليتاشوفكا حوالي الساعة الثانية صباحا، بعد أن أبدل جواده مرتين وقطع ثلاثين فرسخا في ساعة ونصف الساعة عبر طريق لزج من الوحل. ترجل عن جواده أمام كوخ خشبي يحمل لافته «أركان حرب»، ودخل الدهليز المعتم.
قال لأحدهم وقد انتصب مرتجفا أمامه في عتمة الدهليز: بسرعة، الجنرال المنوب، عاجل جدا!
دمدم صوت الحاجب وهو يحمي راحة سيده: إنه منحرف المزاج كثيرا منذ أمس مساء، وهذه هي الليلة الثالثة التي لم يغمض له فيها جفن، من الأفضل أن أوقظ الرئيس أولا.
فألح بولخوفيتينوف وهو يعبر بابا مفتوحا متحسسا: إنها مسألة مستعجلة جدا من جانب الجنرال دوختوروف.
دخل الحاجب أولا، وراح يعمل على إيقاظ أحدهم: نبالتكم، نبالتكم، رسول.
هتف صوت يثقله النوم: ماذا؟ ماذا؟ من جانب من؟
قال بولخوفيتينوف وهو عاجز عن تمييز الشخص الذي يستجوبه في الظلام، ولكنه عرف من صوته أنه ليس كونوفنيتسين: من جانب دوختوروف وألكسي بيتروفيتش. إن نابليون في فومينسكوييه.
أخذ الرجل الذي استيقظ يتثاءب ويتمطى، قال وهو يحرك شيئا ما: ليست بي رغبة إلى مناداته، إنه مريض جدا، ولعل هذه إشاعات خاطئة!
فرد بولخوفيتينوف: هذا هو التقرير، لدي الأمر بتسليمه فورا إلى الجنرال المنوب. - انتظر حتي أوقد شمعة.
ثم صرخ الرجل الذي كان يتمطى وهو يخاطب التابع: أين تحشرها دائما أيها الأثيم؟! (وكان هذا هو شتشيربينين، المساعد العسكري كونوفنيتسين) آه! ها هي ذي، ها هي ذي.
قدح التابع الزناد بينما راح الضابط يبحث تحسسا عن الشمعدان، قال باحتقار: آه! يا للقذرين!
لمح بولخوفيتينوف على ضوء الشرر المتطاير وجه شتشيربينين الفتي الذي وجد الشمعدان، وشاهد أمامه في زاوية الحجرة رجلا نائما كان هو كونوفنيتسين.
وعندما انقلب اللهب على أطراف الأعواد المطلية بالكبريت من الأزرق إلى الأحمر عند ملامسته الصوفان، أضاء شتشيربينين قنديلا، الأمر الذي جعل الدويبات التي كانت تقضم الشحم تتراجع هاربة، ثم أخذ يفحص الرسول، كان بولخوفيتينوف مغطى كله بالوحل ولما أراد أن يمسح وجهه بكمه لطخه كله.
سأل شتشيربينين وهو يأخذ الغلاف: من الذي أعطى هذه المعلومات؟
فأجاب بولخوفيتينوف: إن المعلومات صحيحة، فالأسرى والقوقازيون والجواسيس متفقون جميعهم على صحتها.
قال شتشيربينين وهو ينهض ويقترب من الرجل المتقلنس بقلنسوة من القطن المتدثر بمعطفه: إذن لا مناص، يجب إيقاظه.
هتف: بيوتر بيتروفيتش. فلم يتحرك كونوفنيتسين، فأضاف الضابط وهو يبتسم وكأنه واثق من قدرة ما يقوله على إيقاظه: إلى الأركان العامة.
وفي الواقع أن الرأس ذا القلنسوة القطنية لم يلبث أن ارتفع، وظل وجه كونوفنيتسين الجميل النشط ذو الوجنتين اللتين تلهبهما الحمى محتفظا حينا بانعكاس الأحلام المبعدة جدا حول الموقف الحاضر، لكنه بانتفاضة مفاجئة سرعان ما استعاد سماته المألوفة الهادئة الحازمة.
لم يلبث أن سأل وهو يطرف عينيه للضوء، دون أن يكون في لهجته شيء من التلهف: ما الخبر؟ من جانب من؟
فض كونوفينتسين الرسالة، وأخذ يقرؤها وهو يصغي إلى تقرير الضابط، ولم يكد يفرغ من القراءة حتى وضع على الأرض المسواة قدميه المحجوبتين في جوارب من الصوف وشرع ينتعل حذاءيه العاليين، ثم تخلص من قلنسوته القطنية وسوى شعره علي صدغيه ثم وضع عمرته: هل جئت سريعا؟ هيا بنا الي القائد العام.
أدرك كونوفنيتسين على الفور أن المعلومات المحمولة إليه ذات أهمية كلية وأنه لا يجب إضاعة الوقت، هل كان ذلك خيرا أم كان شرا؟ لم يفكر في ذلك، بل ولم يطرح السؤال على نفسه. كانت أمور الحرب تبدو له غير تابعة للذكاء ولا للعقل بل لشيء آخر، وكان يؤمن في أعماق نفسه إيمانا خفيا بأن كل شيء سيسير على ما يرام، لكنه لا يجب تصديقه كما يجب - أقل من ذلك - عدم التحدث عنه، وأن الواجب يقتضي بكل بساطة إنجاز ما يعرض من الأمور، فكان يعمل ما يجب عليه عمله صارفا فيه كل قواه.
يبدو أن بيوتر بيتروفيتش كونوفنيتسين مثل دوختوروف، لم يأت إلا اتفاقا على قائمة أسماء من يدعونهم أبطال 1812، أمثال باركلي وراييفسكي وإيرمولوف وبلاتوف وميلوداروفيتش. إنه مثل دوختوروف اشتهر بأنه رجل محدود الإمكانيات والمعلومات، وأنه مثل دوختوروف لم يضع قط خطة معركة رغم وجوده دائما في الأمكنة الأكثر خطورة، أخذ منذ اللحظة التي رقي فيها إلى رتبة جنرال في الاحتياط ينام دائما وبابه مفتوح، يأمر بإيقاظه عند وصول كل بريد، ولقد كان دائما تحت النار طيلة المعركة، فكان كوتوزوف يلومه على ذلك ويخشى أن يرسله في مهمة. كان مثل دوختوروف إحدى العجلات المسننة التي لا يلحظها المرء، والتي تتألف منها الأجزاء الرئيسية للآلة دون ضجة ولا صرير.
ولما خرج من الكوخ إلى الليل الحالك الرطيب، قطب كونوفنيتسين حاجبيه بسبب ألم رأسه الذي كان في ازدياد، كما بسبب الفكرة المنغرة التي طرأت على رأسه من أن كتلة الأشخاص ذوي النفوذ في الأركان ستصبح في غليان لدى اطلاعها على الأنباء فكان يخشى بيينجسن بصورة خاصة، الذي كان منذ معركة تاروتينو على عداوة مع كوتوزوف؛ سوف يقدمون العروض ويناقشون ويصدرون الأوامر ويلقون قرارات! فكان ما يراه يزعجه سلفا رغم علمه بأنه لا بد وأن يكون كذلك.
والواقع أن تول الذي دخل إليه يعلن النبأ أخذ يعرض آراءه على الجنرال الذى يقطن معه، فاضطر كونوفنيتسين الذي كان يصغي إليه دون أن ينبس ببنت شفة أن يذكره بوجوب الذهاب عند عظيم الرفعة.
الفصل السابع عشر
في حضرة كوتوزوف
كان كوتوزوف ككل الأشخاص المسنين قليل النوم ليلا يغفو غالبا في النهار، لكنه يقضي الليل ممددا في سريره دون أن ينزع ثيابه، وهو في أغلب الأحيان مشغول في التفكير بدلا من النوم.
كان على تلك الصورة في تلك اللحظة مستلقيا فوق سريره، ورأسه الضخم الثقيل الذي يحمل آثار جرح كبير مرتكز على يده المنتفخة، مستغرقا في خواطره وعينه الوحيدة محدقة في الظلام.
أصبح كوتوزوف أكثر هدوءا منذ أخذ بيينجسن، الذي كان يتصل مباشرة مع الإمبراطور ويتمتع بأكبر نفوذ في الأركان العامة، يتجنبه. هدوءا بمعنى أن ما من أحد بات يدفعه إلى إلقاء جيوشه في معركة هجوم عقيمة، فكر بأن درس معركة تاروتينو وأحداث الأمس التي كانت ذكراها أليمة الوقع على نفسه تنفعهم على كل حال.
راح كوتوزوف يحدث نفسه: «يجب أن يدركوا تماما أننا سنخسر كل شيء إذا تحولنا إلى الهجوم، إن الصبر والوقت هذان هما الشجاعان اللذان سيحاربان من أجلي!» كان يعرف تماما أنه لا يجب قطف تفاحة عندما تكون لا تزال فجة، إنها ستسقط من نفسها عندما تنضج، أما بانتزاع التفاحة الفجة فإننا نشوه الشجرة ولا تصلح الثمرة إلا لأضراس الأسنان، وبوصفه صيادا خبيرا كان يعرف أن الحيوان جريح جرحا لا يقدر على مثله إلا مجموعة القوات الروسية، وهل الإصابة قاتلة أم لا، ذلك هو السؤال الذي ظل واجب الإيضاح. لقد كان كوتوزوف الآن، بعد تصرفات لوريستون وبترتيبه وتقارير الأنصار، واثقا من أن الجرح مميت، ولكن كان لا يزال في حاجة إلى البراهين وكان عليه أن ينتظر.
حدث نفسه قائلا: «ليس بهم إلا تلهف واحد، أن يجروا لرؤية كيف قتل الحيوان، انتظروا، وسترون تماما! أبدا «مناورات» وأبدا هجمات! ولماذا؟ بقصد إظهار الذات دائما. وكأن في القتال شيئا يحمل على البهجة! إنه أشبه بالأطفال الذين لا يمكن أن يطلق شيء على شيء لكثرة ما يستبد بهم الشوق إلى إظهار معرفتهم في القتال، في حين أن الأمر الآن لا علاقة له بكل هذا.» «ويا لها من «مناورات» بارعة، تلك التي يعرض هؤلاء الأشخاص عن تطبيقها، إنهم يظنون أنهم بمجرد التبصر في طارئين أو ثلاث حوادث عرضية، تبصروا في كل شيء، كل شيء، (وتذكر مخطط الحملة العام، الذي أرسل من بيترسبورج)، لكن الحوادث العرضية أكثر من أن تحصى!»
منذ أكثر من شهر ظل هذا السؤال معلقا فوق رأس كوتوزوف: هل الجرح الذي أصيبوا به في بورودينو قاتل أم لا؟ إن الفرنسيين يحتلون موسكو وهذه واقعة ملموسة، مع ذلك فإن كوتوزوف كان على ثقة مبعثها كل جارحة من جوارحه بأن الضربة التي وجهها بمجموع القوات الروسية يجب أن تكون قاتلة. ولما كان في حاجة ماسة إلى البراهين، وكان ينتظر منذ شهر طويل، فقد أخذ ينفد صبره أكثر فأكثر كلما مر وقت أطول. وطيلة لياليه البيضاء أخذ يعمل وهو متمدد فوق سريره، مثل ما يعمله جنرالاته الشبان، الشيء بعينه الذي يأخذه عليهم، كان مثلهم يتصور كل العرضيات الممكنة مع هذا الفارق: أنه لم يكن يبني شيئا على تلك الافتراضات، وأنه بدلا من أن يرى افتراضين أو ثلاثة افتراضات يرى الألوف، وكلما ازداد تفكيرا ازداد عدد الافتراضات في خاطره. كان يتصور كل إمكانيات حركة جيش نابليون، سواء كان مركزا أو مقسما إلى جمهرات موجهة ضد بيترسبورج وضده هو للإحاطة به، ويستعرض الافتراض الذي كان يخشاه أكثر وهو عودة نابليون بكل قواته إلى موسكو والبقاء فيها بانتظاره، بل كان كذلك يفكر في حركة تقهقر من جانب جيش نابليون على ميدين وإيوخنوف،
1
لكن الشيء الوحيد الذي لم يخمنه سلفا كان ما وقع، ذلك التنقل المخالف للصواب التشنجي لجيش نابليون طيلة الأحد عشر يوما التي تلت إخلاءه لموسكو، ذلك التنقل الذي جعل ممكنا ما لم يكن كوتوزوف يجرؤ قط أن يتصوره حتى ذلك الحين: التدمير الكامل للجيش الفرنسي. فتقارير دوختوروف حول فوج بروسييه، والأنباء الجديدة التي حملها الأنصار حول ضيقة الجيش الفرنسي، والتفاصيل حول تجمع القطعات الخارجية من موسكو؛ كل ذلك يؤيد نظريته أن الجيش الفرنسي قد تشتت، وأنه يعد العدة لتقهقره. لكن هذه الأشياء كلها لم تكن إلا فرضيات يمكن أن تبدو مهمة في عيون أشخاص أغرار وليس لكوتوزوف، كان يعرف بسنواته الستين التي قضاها في الخبرة أي وزن يجب إقطاعه للشائعات، ويعرف مبلغ استعداد الأشخاص الراغبين في شيء ما لترتيب الحوادث حتى تؤيد رغباتهم، ويعرف في مثل هذه الحالة كيف يدفعون الأشياء التي تنافي تلك الرغبات. وعليه، فإن كوتوزوف كلما ازدادت رغبته في رؤية فرضية تتحقق أمسك بالسماح لنفسه بالإيمان بها، مع ذلك فإن المسألة كانت تحتكر كل مواهبه الفكرية، إذ كان كل ما تبقى في نظره مجرد استرسال للحياة العادية. وعلى هذا النحو كان يرى مناقشاته مع أركان حربه، ورسائله إلى السيدة دوستال
2
التي كتبها من تاروتينو، وقراءة رواية ما، وتوزيع المكافآت، واتصاله ببيترسبورج ... إلخ، لكن هزيمة الفرنسيين التي حدسها وحده كانت سره ورغبته الوحيدين.
وإذن، لقد كان ليلة 11 تشرين الأول ممددا، ورأسه مستند إلى يده يفكر في ذلك.
ندت حركة في الحجرة المجاورة، علت خطوات، كان القادمون هم تول وكوفونيتسين وبولخوفيتينوف . صاح بهم: هيه! من هناك؟ ادخلوا، ادخلوا! ماذا من جديد؟
وبينما كان وصيف يضيء شمعة، قدم تول جوهر الأنباء.
سأل كوتوزوف بوجه أحدث تأثيرا كبيرا على تول، عندما شاهد ما ارتسم عليه من صرامة باردة على ضوء الشمعة: من الذي حمل هذه الأنباء؟ - لا يمكن أن يحوم حولها الشك يا صاحب السعادة. - ائتني به، ائتني به.
جلس كوتوزوف على سريره، وقد تدلت ساقه وثنى الأخرى تحت بطنه الضخم المتهدل، رف بعينه السليمة ليتسنى له تأمل الرسول على نحو أفضل، وكأنه يريد أن يقرأ على قسماته ما كان يشغله.
قال لبولخوفيتينوف بصوت الكهل الهادئ وهو يزر قميصه الذي انفتح على صدره: تكلم، تكلم يا صديقي، اقترب، ادن مني أكثر، أي نبأ تحمله إلي؟ هه؟ لقد خرج نابليون من موسكو؟ هذا صحيح هذا؟ هزه!
شرح بولخوفيتينوف كل شيء بالتفصيل حسب تعليماته، فقاطعه كوتوزوف: تكلم، ادخل في لب الموضوع بسرعة أكثر، لا تدعني في لهفتي.
وبعد أن روى بولخوفيتينوف كل ما لديه صمت وانتظر الأوامر.
وحاول تول أن يتكلم لكن كوتوزوف قاطعه، هم بأن يقول شيئا لكن وجهه تقلص فجأة وتصعر، فأزاح تول بحركة من يده وأشاح إلى الجهة المعاكسة نحو الركن الأفضل من الكوخ، الأكثر حلكة من الأركان الأخرى بسبب الصور المقدسة التي فيه. قال بصوت مرتعد وهو يضم يديه: مولانا، ربي يا خالقي، لقد سمعت صلاتنا ... لقد أنقذت روسيا، أشكرك يا ربي!
وانخرط في البكاء.
الفصل الثامن عشر
محاولتان
منذ اللحظة التي تلقى فيها هذه الأنباء وحتى آخر الحملة، انصرفت حيوية كوتوزوف كلها إلى كبح جماح قطعاته، سواء أكان ذلك بالسلطة أم بالخدعة أم بالرجاء، ومنعهم عن القيام بهجمات و«مناورات» واصطدامات غير مجدية مع عدو هالك لا محالة. لقد اتجه دوختوروف نحو مالواياروسلافيتز، لكن كوتوزوف لم يزد من سرعته مع جيشه بل أصدر الأمر بإخلاء كالوجا، لأن تراجعا إلى ما وراء المدينة بدا له ممكنا كل الإمكان.
ظل كوتوزوف يتابع تقهقره في كل الجهات، بينما العدو الذي لا يتوقع ذلك يتراجع في اتجاه معاكس.
إن مؤرخي نابليون يصفون لنا «مناوراته» البارعة في تاروتينو ومالواياروسلافيتز، ويستخلصون النتائج مما كان يمكن وقوعه لو أن نابليون وجد من الوقت ما مكنه من دخول أقاليم الجنوب الغنية.
لكن ما من شيء كان يمنع نابليون من الدخول إلى تلك الأقاليم الغنية طالما أن الجيش الروسي فتح له الطريق إليها، والمؤرخون ينسون أن جيش نابليون ما كان يمكن أن ينقذ بعد ذلك، لأنه بات يحمل في نفسه بذور الموت الذي لا راد له. كيف كان يمكن لذلك الجيش الذي وجد في موسكو موارد تموين غزيرة وطئها بالأقدام بدلا من أن يحافظ عليها، والذي عرض الأرزاق في سمولنسك للنهب والسلب بدلا من توزيعها؛ كيف يمكن لهذا الجيش أن يعيد قواه بعد دخوله ولاية كالوجا حيث الشعب مؤلف من أولئك الروسيين أنفسهم الذين في موسكو، تثيرهم مثل مشاعرهم فيقدرون على إحراق كل ما يمكن حرقه؟
إن هذا الجيش ما كان يستطيع أن يعيد بناء نفسه بعد بورودينو وسلب موسكو، الشروط الكيميائية - إذا صح هذا القول - لتحلله.
كان رجال هذا الجيش العظيم يفرون مع رؤسائهم دون أن يعرفوا إلى أين، وليست بهم من رغبة (من نابليون وحتى آخر جندي) إلا في شيء واحد: أن يعجل كل لحساب نفسه بأقصى ما يمكن في الخروج من هذا المأزق الذي لا سبيل إلى الخلاص منه، والذي كانوا جميعهم يشعرون به بشيء من الإبهام.
ولهذا السبب وحده بينما كان الجنرالات يزعمون الاجتماع في مجلس حربي في مالواياروسلافيتز ويقدمون الآراء المختلفة، فاز الرأي الأخير الذي عبر عنه أكثر الجنود غباء، موتون
1
الضخم، إذ قال ما كانوا جميعا يفكرون فيه؛ ذلك أنه كان يجب المضي بأسرع ما يمكن. ولقد أغلق هذا القول الأفواه كلها حتى إن ما من أحد، ولا نابليون نفسه، وجد ما يرد به على تلك الحقيقة المعترف بها من قبل الجميع.
لكن الجميع كانوا رغم معرفتهم الأكيدة بضرورة المضي يخجلون من الاعتراف بأنهم مرغمون على الفرار، ولم يكن يستطيع التغلب على ذلك الخجل إلا الصدمة الخارجية، ووقعت تلك الصدمة في الوقت المناسب، فكان ما أسماه الفرنسيون: «هورا الإمبراطور».
في اليوم التالي لذلك المجلس الحربي خرج نابليون صباحا باكرا، بحجة تفقد القطعات وساحة معركة أمس ومعركة الغد، وتقدم مع ماريشالاته وحاشيته بين صفوف القتال، وصدف التقاؤه بقوقازيين سلابين هاجموا الإمبراطور وكادوا أن يأسروه، ولقد أنقذ نابليون بذلك الشيء بالذات الذي سبب ضياع الفرنسيين الرغبة في الأسلاب، التي دفعت القوقازيين هنا كما في تاروتينو إلى الإلقاء بأنفسهم على الغنائم وإغفال الرجال، فراحوا ينهبون دون أن يلقوا بالا إلى نابليون واستطاع نابليون الإفلات.
ثم كاد «أبناء الدون» أن يأسروا الإمبراطور وسط جيشه نفسه، إذ كان واضحا بالنسبة إلى الفرنسيين أنه ليس عليهم من شيء آخر إلا الفرار بأسرع ما يمكن وعلى أفضل الطرق المعروفة وأقصرها، ولم يكن نابليون بكرشه الكبير ذو الأربعين عاما يشعر بمرونة العهد السابق وجرأته فاستوعب الإنذار وفهمه، لذلك فإنه سرعان ما انحاز إلى رأي موتون، تحت تأثير الخوف الذي أحدثه القوقازيون في نفسه، فأعطى الأمر - كما يقول المؤرخون - بالتقهقر عن طريق سمولنسك.
أن يكون نابليون من رأي موتون وأن يكون جيشه قد أخذ يتراجع، لا يدلان على أنه أمر بالتقهقر، بل يدل على أن القوى المتسلطة على ذلك الجيش لتدفعه على طريق موجائيسك تسلطت عليه هو الآخر بالمثل.
الفصل التاسع عشر
نحو النهاية
عندما يشرع رجل ما في الحركة يتصور دائما أنه إنما يجري نحو هدف ما، ولكي يقطع المرء حوالي ألف فرسخ يجب إلزاما أن يفكر في أرض موعودة ليكون له القوة على التقدم.
كانت الأرض الموعودة عند الإفرنسيين لدى غزوهم روسيا هي موسكو، لكن الوطن كان بعيدا جدا، والرجل الذي أمامه ألف فرسخ يقطعها يجب بلا ريب أن يحدث نفسه تاركا جانبا الغاية النهائية، إنه سيجتاز اليوم أربعين فرسخا ثم يستريح وينام، فما إن يقطع المرحلة الأولى حتى يسلبه مكان الاستراحة الغاية النهائية، ويركز كل رغباته وكل أمانيه. وهذه النزعات التي تعتلج في نفس شخص مفرد تتضاعف في أنفس جمهور محتشد.
بالنسبة إلى الفرنسيين المتقهقرين على طريق سمولنسك القديم كان الوطن بعيدا جدا، والغاية القريبة التي يهدف إليها هؤلاء الرجال المتجمهرون في كتل هائلة ويتوقون إليها من كل نفوسهم وكل أملهم هي سمولنسك. لم يكن ذلك لأنهم كانوا يظنون أن سمولنسك مليئة بالمؤن والقطعات المستريحة، إذ لم يحدثهم أحد قط بمثل ذلك، بل على العكس كان أركان حرب نابليون نفسه لا يجهل أن المؤن قد باتت قليلة، بل لأن ذلك يعطيهم الطاقة على التقدم فقط واحتمال ضروب الحرمان الحالية. فكانوا جميعا، الذين يعرفون كالذين لا يعرفون، كلهم يخادعون أنفسهم بالإجماع، ويندفعون نحو سمولنسك كما يندفعون نحو أرض موعودة.
ما إن بلغوا الطريق الكبير حتى هرع الفرنسيون إلى الهدف المنشود بنشاط خارق وسرعة قصوى. وإلى جانب ذلك الاندفاع الجماعي الذي يربط بين هذه الجماعة الكبيرة من الفرنسيين في كل كثيف ويضاعف حاصل نشاطهم، كان سبب آخر يبقيهم معا مرتبطين، ذلك هو عددهم نفسه، إن هذه الحشود الكبيرة من الرجال كانت تجذب إليها الأشخاص كما يعمل في الفيزياء قانون الجاذبية الذرات، لقد كان أولئك الألوف الستمائة من الرجال يتقدمون كتلة واحدة أشبه بدولة كاملة.
لم يكن كل واحد منهم يرغب غير شيء واحد: أن يؤسر ويفلت من هذه الأهوال وكل هذه الآلام، ولكن من جهة كانت القوة الجماعية التي تجذبهم نحو سمولنسك تفرض عليهم جميعا اتجاها واحدا، ومن جهة أخرى كانت جمهرة كاملة من الجند لا تستطيع أن تتحول إلى سرية. وعلى الرغم من كل المناسبات الممكنة التي انتهزها الفرنسيون للانحراف والوقوع في الأسر، فإن الذرائع ما كانت دائما تلتقي بمصادفات سعيدة، لقد كان عددهم الكبير نفسه وسيرهم الحثيث بصفوف متراصة يحرمانهم من هذا الأمل. وبالنسبة إلى الروسيين لم يكن إيقاف تلك الحركة الجماعية التي يبذل فيها الفرنسيون كل حيويتهم صعبا فحسب بل ومستحيلا، وتوقف هذا الجسم ميكانيكيا لا يمكن أن يزيد أبعد من حد معين تطور الانحلال الذي يكاد أن يتم.
لم يكن أحد آخر غير كوتوزوف، بين كل رؤساء الجيش الروسي، يدرك هذه الناحية، فما إن تأكدوا من الاتجاه الذي سار فيه الجيش الفرنسي المنهزم على طريق سمولنسك حتى بدأ يتحقق ما خمنه كونوفنيتسين سلفا ليلة 11 تشرين الأول، أخذ كل كبار الضباط في الجيش رغبة منهم في لفت الأنظار إليهم يطالبون بقطع خط الرجعة على الجيش الفرنسي وتطويقه وأسره وقلبه، وباتوا جميعا يطالبون بالهجوم.
وكوتوزوف وحده راح يستعمل قواه كلها، وليست كبيرة جدا لدى قائد أعلى، للحيلولة دون الهجوم.
ما كان يستطيع أن يقول لهم ما نقوله الآن: ما فائدة المعركة؟ ما فائدة قطع الطريق، وخسران الجنود، وتذبيح التعساء بتجرد عن الإنسانية؟ ما فائدة كل هذا إذا كان ثلث ذلك الجيش قد اضمحل من تلقاء نفسه من موسكو إلى فيازما دون قتال؟ لم يكن يقول لهم في حكمته كشيخ هرم إلا ما كانوا قادرين على فهمه، كان يحدثهم عن الجسر الذهبي فكانوا يسخرون منه ويهجونه ويضطربون ويثورون كثيرا بل وأكثر، ويتصلفون على الحيوان المصاب بضربة قاتلة.
لم يستطع إيرمولوف وميلورادوفيتش وبلاتوف والآخرون في فيازما الذين كانوا إلى جوار الفرنسيين، أن يسيطروا على رغبتهم في تمزيق جمهرتين من الجيش الفرنسي إربا وقلبهما، ولكي يخطروا كوتوزوف بعزمهم أرسلوا إليه على سبيل التقرير غلافا يحوي ورقة بيضاء.
ورغم كل جهود كوتوزوف لضبط الجيش فقد هاجم جنودنا كذلك بغية قطع الطريق على الفارين، وقد روي لنا أن ألوية كاملة تتقدمها الموسيقى الصادحة كانت تمشي إلى النار فتقتل ألوفا من الرجال، وتخسر هي الأخرى الألوف ...
أما من حيث قطع الطريق فإنهم لم يقطعوا شيئا ولم يقلبوا شيئا، لقد أعطى الخطر الجيش الفرنسي مزيدا من التلامم، فظل يتابع سيره وهو يتلاشى تدريجيا على الطريق الذي قاده إلى نهايته، نحو سمولنسك.
الجزء الثالث
الفصل الأول
هراوة الشعب
إن معركة بورودينو ونتائجها: الاستيلاء على موسكو، وتراجع الفرنسيين دون معارك جديدة، تشكل واحدا من أكثر الأحداث التعليمية للتاريخ.
فكل المؤرخين متفقون في تأييدهم أن النشاط الخارجي للحكومات والشعوب يظهر بواسطة الحروب، وأن النتيجة المباشرة لنجاحهم الكبير أو الصغير هو زيادة نشاطهم السياسي أو خموده.
ومهما كانت الروايات التاريخية عن هذا أو ذاك من الملوك أو الأباطرة الذي تخاصم مع هذا أو ذلك من الملوك أو الأباطرة الآخرين فجمع جيشه وتقارن مع العدد، ثم فاز بالنصر وقتل ثلاثة أو خمسة أو عشرة آلاف رجل ، وبعدئذ غزا الدولة هذه والشعب ذاك الذي تعداده بضعة ملايين من الأنفس، ومهما كان غامضا واقع أن هزيمة جيش ما يمثل جزءا من مجموع القوى العامة لشعب ما يجر معه خضوع ذلك الشعب كله؛ فإن الوقائع التاريخية كلها في النطاق الذي نعرفها فيه تؤيد هذه الحقيقة، من أن زيادة تفوق أسلحة شعب ما أو نقصانه عن أسلحة شعب آخر هي السبب، أو على الأقل الدليل على ازدياد قدرة ذلك الشعب أو هبوطها. يربح جيش ما معركة ما فلا تلبث حقوق الغالب حتى تفرض على حساب المغلوب، ولا يمر جيش بهزيمة حتى يفقد شعب ذلك الجيش حقوقه بنسبة الهزيمة، فإذا ما كان الإخفاق كاملا كان كذلك كاملا.
ولقد كان الأمر كذلك - بحسب التاريخ - منذ أقدم العصور وحتى أيامنا هذه، وحروب نابليون كلها ليست إلا تأييدا لهذه القاعدة، فبقدر ما انهزمت جيوش النمسا سلبت النمسا من حقوقها، في حين زادت فرنسا من حقوقها وقوتها. ولقد وضع الانتصاران في إيينا وفي أوئير ستادت نهاية للطاقة البروسية المستقلة.
ولكن بعد حين، عام 1812، انتصر الفرنسيون قرب موسكو واحتلوا هذه المدينة، ولكن بدا أنه دون معارك جديدة ليست روسيا هي التي كفت عن البقاء، بل ذلك الجيش المؤلف من ستمائة ألف مقاتل ومن ورائه فرنسا، «فرانسة» نابليون. أما أن نتجنى على الحوادث لنثنيها امتثالا لقوانين التاريخ فنقول مثلا: إن ساحة القتال في بورودينو قد ظلت بين أيدي الروسيين، وإنه بعد موسكو أبادت المعارك التي نشبت الجيش الفرنسي؛ فإن ذلك مستحيل قطعا.
فبعد نصر بورودينو لم تقع معركة واحدة، لا معركة شاملة فحسب بل ولا حتى على جانب من الأهمية، مع ذلك فقد آب الجيش الفرنسي إلى نهايته. فما معنى هذا؟ لو أن ذلك كان مثلا أخذ من تاريخ الصين، لأمكننا أن نزعم أن هذه الظاهرة ليست تاريخية (وهذا مجال إفلات المؤرخين حالما يعرض شيء لا يتأطر مع نظرياتهم). ولو أن المسألة كانت تتعلق بمناوشات قصيرة الأمد لم تساهم فيها إلا قوات ضئيلة، لأمكننا أن نأخذ هذا الحدث على الاستثناء، لكن الواقعة وقعت تحت أعين آبائنا الذين كان موت الوطن وحياته في يد عفريت بالنسبة إليهم، وكانت هذه الحرب من أكبر كل الحروب المعروفة.
إن فترة حملة 1812 التي تبدأ من بورودينو حتى طرد الفرنسيين، تبرهن على أن معركة رابحة ليست دائما سبب اجتياح بلاد ما، بل وليست حتى دلالة على ذلك الاجتياح، إنها تبرهن على أن القوة التي تقرر مصير شعب ما لم تعد لها علاقة بالغزاة ولا بجيوشهم وبمعاركهم، بل تتعلق بشيء ما آخر.
إن المؤرخين الفرنسيين الذين يصفون موقع الجيش الفرنسي عشية يوم رحيله من موسكو، يؤكدون أن كل شيء في ذلك الجيش العظيم كان على أحسن حال باستثناء الفرسان والمدفعية وسير العربات، وأنه كان يعوزهم العلف للجياد ولذوات القرون من الحيوان، وعليه فإن ما من شيء كان يستطيع معالجة هذا الحرمان طالما أن القرويين كانوا يحرقون العلف، مفضلين ذلك على إعطائه إلى الفرنسيين.
وإذا كانت المعركة المكتسبة لم تؤد إلى أي من النتائج المألوفة، فما ذلك إلا لأن الفلاحين «الموجيك» كارب وفلاس اللذين لم يظهرا بصورة عامة أية بطولة شخصية، واللذين بعد رحيل الفرنسيين جاءا إلى موسكو لنهب المدينة فعملا مقتديين بالسواد الكبير من مواطنيهم، وبدلا من أن ينقلا العلف إلى موسكو رغم السعر المغري الذي دفع لهما أشعلا النار في ذلك العلف.
لنتصور رجلين عازمين على التبارز بالسيف وفقا لكل قواعد لعب السيف، فتطول المبارزة وقتا طويلا وفجأة يدرك أحد الخصمين بعد أن يحس بالجرح الذي أصابه أن المسألة بدلا من أن تكون دعاية تعرض حياته للخطر، فيلقي بسيفه ويمسك بأول هراوة تقع عليها يده ويشرع في إدارتها حول رأسه. والآن لنفرض أن هذا المبارز الذي يستعمل أفضل وسيلة لبلوغ غايته بحكمة فائقة تعتلج نفسه بأعنف العواطف الأبية، وأنه يريد إخفاء ما وقع تماما ويحاول أن يزعم أنه هزم عدوه بالسيف طبقا لكل قواعد الفن؛ نستطيع أن نتصور مقدار ما يؤدي وصف هذه المبارزة من إبهام وغموض.
فالمبارز الذي يتطلب أن تدور المعركة وفقا لقواعد الفن هو الفرنسي، وخصمه الذي طرح سيفه ليمسك بالهراوة هو الروسي، والأشخاص الذين يشحذون هممهم لشرح الموضوع وفقا لقواعد فن المبارزة هم المؤرخون.
بدأت حرب لا سابق لها في التقليد العسكري منذ حريق سمولنسك، فحريق المدن والقرى، والتقهقر بعد المعارك، وصدمة بورودينو التي تبعها تراجع جديد، وحريق موسكو، ومطاردة السلابين، والاستيلاء على القوافل، وحرب الأنصار؛ كل هذه الأشياء خارجة عن قواعد الفن العسكري.
لقد شعر نابليون بذلك منذ اللحظة - الذي وقف في موسكو في وضعية المبارز الصحيحة، فرأى بدلا من السيف الموجه إليه هراوة مشرعة فوق رأسه - ومنذ تلك اللحظة لم يكف عن الشكوى إلى كوتوزوف وإلى ألكسندر بأن الحرب قد سارت ضد كل القواعد، وكأن هناك قواعد لقتل الأشخاص. مع ذلك رغم شكاوى الفرنسيين ضد خرق القواعد، ورغم الخجل الذي شعر به بعض الرجالات البارزين الروسيين، الذين رأوا أن من العار القتال بالهراوة وأرادوا التبارز رباعا أو ثلاثا حسب القواعد، وتوخية ضربة مفاجئة للخصم ... إلخ؛ فإن هراوة الشعب المحارب ارتفعت بكل قوته المتوعدة الجليلة، ارتفعت مزدرية كل ذوق سليم وكل علم ببساطة غليظة حقا، ولكن باتجاه مباشر نحو الهدف دون أي تمييز، ارتفعت وهوت فقرعت الفرنسيين حتى أفنت الغزوة كلها.
والنجاح لا يليق بأولئك الذين كالفرنسيين عام 1813؛ يحيون عدوهم حسب كل قواعد الفن، ويقدمون له سيفهم من المقبض، ثم يسلمونه بكياسة وأدب إلى المنتصر شريف النفس، بل إن النجاح يليق بالشعب الذي لا يتساءل ساعة المحنة عما فعل الآخرون وفقا للقواعد الفنية في ظروف مماثلة، ولكن يشرع ببساطة ودون جهد أول هراوة يلقاها، ويضرب بها حتى اللحظة التي يحل محل الحقد في نفسه على الإهانة الحاصلة له الاحتقار والإشفاق.
الفصل الثاني
س :ق = 4:15
إن أكثر الاستثناءات وضوحا وأعظمها خصبا لما يسمونه قواعد الحرب، هو نشاط بعض الأشخاص المستقلين ضد كتلة كثيفة من الرجال، وهذا النوع من العمليات يحدث دائما في الحرب التي تتخذ صفة قومية. إنها تقوم على أساس أنه بدلا من مقارعة العدد بالعدد ينقسم الرجال إلى فصائل صغيرة، ويهاجمون منفردين ويفرون إذا كانوا أمام قوات متفوقة ليعودوا إلى الهجوم حالما تسنح بذلك، كذلك كان المحاربون في إسبانيا ودفاع الجبليين في القوقاز، وكذلك كان حال الروسيين عام 1812.
ولقد دعيت هذه الطريقة في القتال ب «حرب الأنصار»، وأعتقد أنهم حددوا معناها بهذه التسمية. بيد أن هذا الشكل من الحرب يتنكب كل القواعد، بل إنه يتعارض مع قوانين «التكتيك» الأكثر شيوعا الشهيرة بأنها لا تخيب، وتبعا لهذه القوانين يجب على الذي يهاجم أن يركز قواته بشكل يصبح معه أقوى من خصمه عندما تبدأ المعركة، وحرب الأنصار - وهي دائما حرب رابحة كما يبرهن التاريخ - تتجه دائما بعكس هذا القانون.
وهذا التناقض ينجم عن أن العلم العسكري يحدد قوة جيش ما بعدد ذلك الجيش، والعلم العسكري يقول إنه كلما كان جيش ما كبير العدد كان كذلك أكثر قوة، «إن الألوية الضخمة هي المحقة دائما.»
والعلم العسكري بتأكيده هذا القول يشبه حركة لا تتأثر في دراسة القوى إلا بالعلاقة بين كتلها، وتستنتج على سبيل تساوي القوى واقعة تساوي الكتل فحسب.
في حين أن القوة (كمية الحركة) هي حاصل ضرب الكتلة بالسرعة.
وفي كل حدث حربي تكون قوة جيش ما حاصل ضرب الكتلة بمجهول «س» كذلك.
والعلم العسكري الذي يرى في التاريخ أمثلة لا تحصى كانت قوة القطعات فيها لا تتناسب مع كتلتها، بل كانت فصائل صغيرة تتغلب على أخرى أكبر عددا؛ يتقبل بإبهام وجود ذلك العدد المضروب فيه المجهول ويسعى جاهدا لكشفه، سواء في هندسة خطة ما أو في التسلح أو - وهذه من أكثر الحالات طبيعية - في عبقرية الرؤساء. لكن استعمال كل قيم المضروب فيه المجهول هذا لا تعطي النتائج المطابقة للأحداث التاريخية.
مع ذلك يكفي التنكر للكذبة التي تعزو - دعما لأكبر مصالح الأبطال - الفعالية لاستعدادات القيادة العليا، حتى نكتشف ذلك المجهول «س».
فهذا ال «س» هو معنوية الجنود، أي زيادة الرغبة في القتال وفي التعرض للخطر أو نقصانها، التي يمكن أن تجيش في صدور كل الجنود الذين يشكلون جيشا، وذلك على نحو مستقل كل الاستقلال عن مسألة معرفة ما إذا كانوا يقاتلون تحت إمرة عباقرة، على ثلاثة خطوط أو على خطين، وبالهراوات أو البنادق التي تطلق ثلاثين طلقة في الدقيقة. إن الرجال الذين فيهم رغبة كبرى في القتال يقيمون أنفسهم دائما من تلقاء أنفسهم في المراكز الأكثر قابلية للقتال.
إن معنوية الجنود هي المضروب فيه بالكتلة الذي يكون حاصل ضربه قوة الجيش. وتحديد وتعريف قيمة معنوية جيش ما هذا المضروب فيه المجهول هما المسألة واجبة الحل.
إن هذه المسألة لا يمكن أن تحل إلا على الطريقة التالية: لنكف عن الإدخال الفرضي في المعادلة؛ مكان س، قيمة المجهول كله، شروط ظهور القوة كترتيبات الرئيس والتسلح ... إلخ واعتبارها قيم المضروب فيه، ولنأخذ على العكس هذا المجهول كاملا، أي بوضعه الرغبة القصوى أو الدنيا في القتال والتعرض للموت، وحينئذ فقط بعد أن نضع الأحداث التاريخية المعروفة في المعادلة ونقارن بين كل حالة قيمة ذلك المجهول، نستطيع أن نأمل في تحديد طبيعته.
عشرة رجال أو ألوية أو أفواج في قتال مع خمسة عشر رجلا أو لواء أو فوجا انتصروا، أي قتلوا وأسروا كل خصومهم دون استثناء ولم يخسروا إلا أربعة منهم، وإذن لقد وقع من جانب خسارة أربعة رجال ومن الجانب الآخر خمسة عشر رجلا، وبالتالي تساوى أربعة مع خمسة عشر. ومنها ينجم أن 4س = 15ق وأن س : ق = 15 : 4، وهذه المعادلة لا تعطي قيمة س المجهول بل النسبة بين المجهولين. وبإخضاع مختلف الوحدات التاريخية المأخوذة إفراديا لمثل هذه المعادلة؛ معارك، حملات، أزمنة الحرب، نحصل على سلسلة من الأرقام يجب أن تحتوي على قوانين وأن تكشف قوانين فيها.
والقاعدة «التكتيكية» التي توعز بالتصرف خلال الهجوم الجماعي وبنظام مبعثر خلال التقهقر ، تؤكد - دون أن تتعمده - هذه الحقيقة من أن قوة جيش ما تتوقف على المعنويات التي تحضه. ولكي نقود رجالا تحت القنابل يقتضي ذلك نظاما أكثر من قيادتهم لصد هجوم، وهذا النظام يتطلب حركة جماعية، لكن هذه القاعدة التي تغفل معنوية الجيش لا تني تبرهن على خطئها، وعلى أنها على وجه الدقة معارضة تماما للوقائع حيثما تظهر حمية قوية أو هبوط في معنويات الجنود، وذلك في كل الحروب القومية عامة.
خلال تقهقرهم عام 1812 أخذ الفرنسيون الذين كان عليهم تبعا لقواعد «التكتيك» أن يدافعوا عن أنفسهم مبعثرين، يتكتلون على العكس في جمهرات كبيرة، لأن معنويات الجنود كانت شديدة التدني حتى إن كتلة واحدة تستطيع إيقاف مجموع الجيش. أما الروسيون فعلى العكس كانوا تبعا لنظام «التكتيك» مدعوين إلى الهجوم عليهم كتلة واحدة، في حين أنهم تبعثروا لأن معنوية جنودهم كانت على درجة من الارتفاع حتى إن الأشخاص المستقلين ما كانوا في حاجة إلى صدور الأمر إليهم ليضربوا الفرنسي، وليتعرضوا للمتاعب والأخطار.
الفصل الثالث
حرب الأنصار
بدأت الحرب المسماة ب «حرب الأنصار» منذ أن دخل العدو إلى سمولنسك.
وقبل وقت طويل من اعتراف حكومتنا رسميا بهذه الحرب، استؤصل الألوف من جنود الأعداء، بين متخلف وسلاب ورائد من قبل القوقازيين و«الموجيك» بشكل لا إرادي مثلما يعض الكلاب كلبا مسعورا. وكان دينيس دافيدوف بحاسته الوطنية أول من أدرك القيمة الرهيبة للهراوة، التي كانت تبيد الفرنسيين بصرف النظر عن قواعد الفن العسكري، وإليه يرجع الفخر بأنه قام بالخطوة الأولى لتنظيم هذا النوع من القتال.
في الرابع والعشرين من آب نظمت الفصيلة الأولى من أنصار دافيدوف وتبعه آخرون نهجوا نهجه، وكلما تقدمت الحملة ازداد عدد هذه الفصائل.
أخذ الأنصار يدمرون الجيش الكبير تفصيلا، فكانوا يكنسون الأوراق الميتة التي تتخلف من تلقاء نفسها عن شجرة في طريقها إلى الجفاف - الجيش الفرنسي - بل ويزعزعون الشجرة نفسها أحيانا. وفي تشرين الأول، عندما كان الفرنسيون يفرون باتجاه سمولنسك، كانت هذه الفصائل ذات الأهمية والسمات المختلفة تعد بالمئات، وكان لبعضها كل مظاهر الجيش المنظم بمشاتها ومدفعيتها وأركان حربها وكل وسائل الرفاهية في الحياة، بينما كانت فصائل أخرى تضم فرسانا وقوقازيين فحسب، وفصائل أخرى أصغر منها مؤلفة من خليط من المشاة والفرسان، بل إن بعضها كان مؤلفا من قرويين ومالكين ومدنيين غير معروفين من أحد، إنهم يروون أن شماسا على رأس بعض الأنصار أسر في شهر واحد مئات من الجنود، وكذلك أن زوجة إقطاعي بولوني فاسيليسا قتلت مئات من الفرنسيين.
1
خلال أيام تشرين الأول الأخيرة بلغت حرب الأنصار الأوج، لقد انقضى ذلك الوقت الذي كان الأنصار أنفسهم في دهشة لجرأتهم، يخشون في كل لحظة أن يطوقهم الفرنسيون ويأسروهم، والذي كانوا خلاله لا يترجلون عن جيادهم أو يريحون مطاياهم، ويختبئون في الغابة بانتظار أن يطاردهم العدو. لقد اتخذت هذه الحرب الآن شكلا معينا، وأصبح كل واحد يعرف بوضوح ما يمكن القيام به ضد الفرنسيين وما يتعذر الشروع به، ومنذ ذلك الحين ظل بعض رؤساء الفصائل وحدهم، الذين كانوا يسيرون بعيدا عن الفرنسيين مع أركان حربهم المنظم، على اعتقادهم بأن كثيرا من المشاريع ما زالت مستحيلة التطبيق. أما رؤساء الفصائل الصغيرة الذين بدءوا عملهم منذ وقت طويل ورأوا الفرنسيين عن قرب، فكانوا على العكس يجدون ممكنا ما لم يكن قواد الفصائل الكبرى يجرءون على مجرد التفكير فيه. أما القوقازيون والقرويون الذين كانوا من جانبهم يتسللون إلى صفوف الفرنسيين، فكانوا يقدرون أنهم منذ ذلك الحين يستطيعون عمل أي شيء وبكل قحة.
وفي الثاني والعشرين من تشرين الأول وجد دينيسوف نفسه - وكان على رأس فصيلة في عداد الأنصار - يتحرق بحمى اللهفة، لقد كان ورجاله منذ الصباح يمشون، لقد راقبوا طيلة النهار خلال أغصان الغابة المحاذية للطريق العام قافلة فرنسية تحمل العتاد ولوازم الفرسان ولوازم الأسرى، انفصلت عن مجموع جمهرات الجيش في طريقها إلى سمولنسك تواكبها قوة كبيرة من الحرس، بحسب معلومات الجواسيس والأسرى الهاربين. ولم يكن دينيسوف وحده الذي يعرف خبر مرور هذه القافلة إذ نمى خبرها إلى دولوخوف الذي كان هو الآخر على رأس فصيلة صغيرة من الأنصار ينشط في القطاع نفسه، وإلى رؤساء كتائب أخرى أكبر عددا متمتعة بهيئات أركان حرب خاصة بها، كان الخبر متفشيا في كل مكان إذن، فكان العارفون به على قول دينيسوف نفسه يشحذون أسنانهم سلفا. ولقد أرسل رئيسا كتيبتين كبيرتين، الأول بولوني والثاني ألماني، إلى دينيسوف بأن واحدا تقريبا يسأله كل منهما عما إذا كان يريد أن يتحد معه للهجوم على القافلة.
الأنصار.
هتف دينيسوف وهو يقرأ رسالتيهما: كلا يا إخوان، إن لي شعرا نابتا حول ذقني.
وأجاب الألماني بأنه رغم رغبته المخلصة في العمل تحت إمرة جنرال لامع وشهير مثله، فإنه مضطر إلى حرمان نفسه من هذا الشرف لأنه قد انضم قبل ذلك تحت لواء الجنرال البولوني، وكتب إلى البولوني هذه العبارات بالضبط مؤكدا له أنه انضم قبل ذلك تحت لواء الألماني.
وبعد أن اتخذ هذه الإجراءات قرر دينيسوف أن يهاجم القافلة مع دولوخوف - دون أن يخطر هذين الجنرالين بالأمر - وأن يستوليا عليها بقواتهما الشخصية، وكانت هذه القافلة يوم 22 تشرين الأول تتبع الطريق الذاهب من ميكولينو إلى قرية شامشيفو، وعلى جانب الطريق الأيسر بين هاتين القريتين امتدت أحراش كثيفة كانت في بعض الأماكن تبلغ الطريق وفي جهات أخرى تبتعد عنه مسافة ميل أو أكثر. وفي هذه الأحراش كان دينيسوف يتوغل فيها تارة حتى يبلغ قلب الغابة، ويعود إلى تخومها تارة أخرى، ويمشي طيلة ذلك النهار دون أن تغيب القافلة عن عينيه. وفي الصباح، غير بعيد عن ميكولينو، حيث الغابة تلمس الطريق، أسر قوقازيو دينيسوف عربتي نقل غائصتين في الوحل كانت محملتين بسروج للجياد، واقتادوهما إلى الغابة. ومنذ ذلك الحين وحتى المساء، ظلت الفصيلة تتبع حركة الفرنسيين دون أن تهاجم، كان يجب عدم بث الذعر في نفس العدد وتركه في سلام حتى يبلغ شامشيفو، وحينئذ يتم الاتصال مع دولوخوف، الذي يجب أن يكون متمركزا مساء في مكان ما من الغابة على بعد فرسخ عن القرية، لاتخاذ الاستعدادات الأخيرة، ثم للوقوع فجر اليوم التالي من الجانبين معا على القافلة كالبرد، وقتل كل الجنود ونهب الأشياء كلها دفعة واحدة.
وعلى بعد فرسخين وراء ميكولينو، في المكان الذي تتقدم فيه الغابة حتى تبلغ الطريق، تركوا ستة من القوقازيين مهمتهم إخطار رؤسائهم حالما تظهر لأعينهم على الطريق فرقة فرنسية جديدة.
أمام شامشيفو كان على دولوخوف أن يفحص الطريق، ليعرف المسافة التي تفصل القوات العدوة الأخرى عن مكان القافلة، ولقد قدروا الجنود المواكبين للقافلة بألف وخمسمائة رجل، وكان مع دينيسوف مائتا نصير ومع دولوخوف مثل هذا العدد تقريبا، لكن تفوق العدد ما كان ليعيق دينيسوف، بيد أنه كان في حاجة إلى معرفة شيء واحد: ما هي على الضبط القوات التي تواكب القافلة؟ فكان على دينيسوف والحالة هذه أن يستولي على «لسان»، أي إن يأسر رجلا من القوة العدوة. ولقد كان هجوم الصباح على العربات المحملة سريعا جدا، حتى إن الفرنسيين الذين كانوا قرب العربات قتلوا جميعا ولم يؤخذ حيا إلا قارع طبل صغير، وكان قارع الطبل هذا متخلفا لم يعرف أن يقول شيئا دقيقا عن تشكيلات الحامية.
رأى دينيسوف أن الهجوم مرة ثانية خطير، خشية أن يستنفر الحامية كلها، لذلك فقد أرسل إلى الأمام قرويا من جماعته اسمه تيخون ستشيرباتون، كان عليه إذا أمكن أن يأسر على الأقل رائدا فرنسيا من جنود الطليعة المخيمين هناك في ذلك الحين.
الفصل الرابع
دينيسوف ... وبيتيا
كان اليوم ساكنا مطيرا من أيام الخريف والسماء والأفق مصطبغان بلون موحد لون الماء الكدر، والمطر يهطل تارة رذاذا وتارة قطرات كبيرة تجلد الهواء بخطوط منحنية.
وكان دينيسوف متشحا بردائه الصوفي المبطن على رأسه قلنسوة من الفراء يقطر منهما المطر، ممتطيا صهوة جواد أصيل هزيل ونحيل وكأن حصانه يحني رأسه إلى جانب، متيقظ الأذن، متقلص الأسارير تحت ذلك المطر المنهمر يسبر المساحة التي أمامه بقلق، ووجهه المهزول الذي غطته لحية قصيرة سوداء كثيفة يبدو غاضبا.
وإلى جانب دينيسون، مثله في ردائه الصوفي المبطن باللبد والقلنسوة من الفراء، كان رئيس الفرق القوقازيين مساعده يخيل على صهوة واحد من جياد الدون حسن التغذية ضخم.
وكان الرئيس القوقازي لوفائيسكي الذي يرافقهما في مثل ثيابهما ثالث الثلاثة، إنه فتى عملاق شاحب، رقيق كلوح من الخشب، أشقر ذو عينين صافيتين، يعرب وجهه وكل كيانه عن رجل واثق من نفسه. وعلى الرغم من استحالة قول ما في ذلك الفرس والفارس من شيء خاص لدى النظرة الأولى التي تلقى على الرئيس ودينيسوف، فإنه كان واضحا أن دينيسوف المبلل بالمطر المنزعج في وضعه ليس إلا فارسا اتفاقا، بينما الرئيس المستوي على السرج بهدوء طبيعي وراحة لم يكن مع راحلته إلا قطعة وقوتاهما متوافقتان.
كان القروي الذي يقوم بدور الدليل يسير أمامها متقدما قليلا، وقد تبلل حتى العظام وهو في معطفه الرمادي وقلنسوته البيضاء.
وإلى الوراء قليلا، على صهوة حصان كرجي أصيل نحيل ذي ذيل وعرف كثين وفم أدماه اللجام، كان ضابط شاب يخيل وهو متدثر بمعطف أزرق فرنسي.
وإلى جانبه فارس شاب كان يردف وراءه فتى صغيرا مرتديا زيا فرنسيا ممزقا وعلى رأسه قلنسوة زرقاء، كان يتشبث بالفارس بيديه الحمراوين من البرد ويحرك قدميه العاريتين محاولا بعث الدفء فيهما، وينظر حوله بدهشة مرفوع الحاجبين، إنه قارع الطبل الصغير الذي أسر صباح ذلك اليوم.
وفي أعقابهم، في طريق الغابة الضيق المعزوق الذي تناثرت عليه الأوراق الميتة، أخذ الفرسان يتقدمون في الطليعة ثلاثة أو أربعة في كل صف، ومن ورائهم القوقازيون بعضهم في أردية وبعضهم في معاطف فرنسية والبعض الآخر يضعون على رءوسهم أجلال الجياد. وكانت الجياد الشقراء أو الكمت تبدو سوداء بسبب المطر الذي كان يسيل عليها، وكانت رقابها تبدو ضيقة بشكل غريب لكثرة ما أصاب أعرافها من بلل، ومجموع شعرها يتصاعد منه البخار. وكل شيء، الألبسة والسروج والأعنة، كلها كانت مبللة، لزجة، تلتمع من الماء، مثل الأرض والأوراق الميتة على الطريق. وكان الفرسان منهم يعملون جاهدين على ألا يتحركوا بغية تدفئة الماء الذي تسلل إلى أجسادهم، والحيلولة دون دخول قطرات أخرى أكثر برودة فوق السرج وعلى أنوفهم وفوق ركبهم. وفي وسط الفرقة، في إطار من القوقازيين، كانت عربتا نقل مقطورتان إلى جياد فرنسية وجياد قوقازية - وهذه مسرجة - ترتعدان فوق أرومات الأشجار والأخشاب الميتة أو تخوضان في الحفر المليئة بالماء.
انتحى حصان دينيسوف جانبا ليتحاشى بركة ماء فاصطدمت ركبة الفارس بشجرة، فزمجر دينيسوف ساخطا: ألف رعد!
وساط الجواد مرتين أو ثلاث مرات، فغطى نفسه بالوحل كما لطخ به جاره .
لم يكن دينيسوف على ما يرام لأن المطر كان ينهمر، ولأنه كان جائعا إذ لم يتناول طعاما منذ الصباح، وبصورة خاصة لأن دولوخوف لم يعطه بعد أية إشارة تدل على وجوده، ولأن الرجل الذي أرسله ليجيء ب «لسان» لم يعد بعد.
أخذ دينيسوف يفكر وهو لا يني يراقب الأبعاد آملا أن يرى رسول دولوخوف قادما: «يصعب إيجاد فرصة مماثلة لمهاجمة قافلة والاستيلاء عليها، لكن أن أهاجم منفردا أمر شديد التعرض للخطر، وأن أرجئ الأمر إلى الغد معناه أن تفلت الطريدة منا لتستولي عليها كتائب الأنصار الكبيرة تحت أنوفنا.»
ولما بلغ بقعة جرداء تمتد الرؤية فيها نحو اليمين، توقف دينيسوف وقال: إن بعضهم آت.
نظر رئيس القوقازيين في الاتجاه الذي عينه دينيسوف.
قال الرئيس الذي كان يحب الكلمات المجهولة من القوقازيين: إنهما اثنان ضابط وقوقازي، غير أنه غير قابل الحدس ما إذا كان نائب الزعيم.
انحدر الفرسان اللذان راحوا يرقبونهما من على منحدر، واختفيا ليعودا بعد بضع دقائق. بدا الآن في المقدمة الضابط يثخن جواده المنهك بضربات السياط وهو يجري متشعثا، يقطر الماء منه وقد رفع أكمام سراويله حتى الركبتين، ومن وراءه راح قوقازي يجري وهو واقف على ركابيتين. اقترب الضابط، وهو حدث ذو وجه كبير مستدير قرمزي وعينين جذلتين حيتين، ومد لدينيسوف غلافا مبللا، وقال: من جانب الجنرال. اعذرني إذا لم يكن جافا تماما.
أخذ دينيسوف الورقة ففضها مقطب الحاجبين، فقال الضابط يحدث الرئيس القوقازي بينما كان دينيسوف يقرأ الرسالة: لقد قالوا جميعا إن الأمر خطير، خطير جدا، لذلك فإن كوماروف وأنا - وأشار إلى تابعه - اتخذنا كل الاحتياطات، فلدى كل منا مسدسان.
ثم سأل عندما رأى قارع الطبل الصغير: وهذا، ما هذا؟ سجين ؟ هل التحمتم في معركة؟ هل يمكن التحدث إليه؟
وفجأة هتف دينيسوف بعد أن قرأ رسالته: روستوف! بيتيا! لماذا لم تقل إنك أنت؟
والتفت إليه باسما ومد يده إلى الضابط الشاب.
والحقيقة أن ذلك الضابط كان بيتيا روستوف.
لقد أعد بيتيا نفسه خلال الطريق ليلاقي دينيسوف لقاء الرجل والضابط دون أن يتظاهر بأنه يذكر علاقاتهما السالفة، ولكن ما إن ابتسم له دينيسوف حتى أضاء وجهه وتضرج من الفرح، فنسي المظهر الرسمي الذي كان يريد الظهور به، وشرع يروي سروره لانتقائه لمثل تلك المهمة، ويقص كيف مر أمام الفرنسيين وشاهد النار في فيازما حيث امتاز واحد من الفرسان ...
قاطعه دينيسوف وقد استعاد مظهره القلق: حسنا، إنني مسرور برؤيتك.
وقال وهو يلتفت إلى رئيس القوقازيين مساعده: يا ميخائيل فيوكليتيتش، إن الرسالة من الألماني، إنه تحت إمرته.
وشرح دينيسوف أن الورقة التي سلمت إليه كانت تأكيدا لأمر الجنرال الألماني بالالتحاق به لمهاجمة القافلة، وأعقب: إذا لم نأسر القافلة حتى غد، ستمر تحت أنفنا.
وبينما دينيسوف يتحدث مع الرئيس، تصور بيتيا الذي اضطرب للهجته الباردة أن كمي سراويله المرفوعين هما سبب ذلك، فمد يده متحسسا من تحت معطفه فأسدلهما بدقة، ثم جاهد ليتخذ أفضل مظهر عسكري ممكن، وقال لدينيسوف وهو يعود إلى وضعه الذي أعده خلال الطريق - وضع مساعد عسكري أمام جنراله - وهو يرفع يده إلى حافة عمرته: ما هي أوامر نبالتكم العلية، أم ترى يجب أن أنتظر إلى جانب نبالتكم؟
قال دينيسوف ساهما: أوامري؟ هه، هل تستطيع الانتظار هنا حتى الغد؟
هتف بيتيا: آه! بكل طيبة خاطر ... وهل أستطيع ملازمتك؟
سأل دينيسوف: نعم، ولكن ما هي الأوامر التي أعطاها إليك الجنرال على الضبط؟ هل قال لك بالعودة فورا؟
غدا وجه بيتيا قرمزيا، وسأل بقلق: هو؟ إنه لم يصدر إلي أي أمر، حسنا، هل أستطيع؟
فأجاب دينيسوف: حسنا، اتفقنا.
والتفت إلى مرءوسيه فأصدر إليهم تعليماته، كان على الفرقة كلها أن تذهب قرب منظرة في المكان المعين من الغابة، في حين يمضي الضابط ذو الحصان الكرجي للبحث عن دولوخوف لمعرفة مكان وجوده، وما إذا كان سيأتي خلال السهرة. وكان هو نفسه ينوي الذهاب مع رئيس القوقازيين وبيتيا إلى تخوم الغابة من جهة شامشيفو، ليتعرف على المكان الذي سيوجه إليه هجوم الغد من موقع الفرنسيين.
قال للقروي الذي كان يقوم بعمل الدليل: هيا أيها الملتحي، قدنا إلى شامشيفو.
واتجه دينيسوف وبيتيا والرئيس، يتبعهم بعض القوقازيين والفارس مردف السجين، إلى اليسار عبر الوادي ليبلغوا تخوم الغابة.
الفصل الخامس
تيخون ستشيرباتي
كف المطر عن الهطول، لكنه ظل الرذاذ يتساقط وقطرات الماء تنثال من الأغصان. أخذ دينيسوف والرئيس القوقازي وبيتيا يتقدمون بصمت وراء القروي ذي القلنسوة، الذي كان بأحذيته المصنوعة من القنب يمشي بخفة ودون صوت على الجذور والأوراق المبللة باتجاه تخوم الغابة.
وبعد أن بلغ مرتفعا توقف القروي وراح يفحص ما حوله، ثم اتجه نحو ستر من الأشجار المتناثرة، وبالقرب من شجرة سنديان لم تكن قد أضاعت أوراقها بعد توقف وأشار بيده بحركة نداء سرية.
تقدم دينيسوف وبيتيا، كان المكان الذي وقف فيه الرجل يسمح برؤية الفرنسيين، فبعد الغابة مباشرة كان حقل من الحنطة ينفتح منحنيا فوق سفح متعرج مضرس، وعلى اليمين، على الجهة المقابلة لواد شديد الانحدار، كانت قرية صغيرة يرى فيها بيت السيد ذو السقوف المتهدمة. وعلى مسافة مائتي «ساجين» من هناك (الساجين 2,1336م) كانت جماعة من الأشخاص ترى وسط الضباب المتحرك، كان الأشخاص في القرية وفي بيت السيد وعلى المنحدر وفي حديقة السيد وعلى مقربة من الآبار والمستنقع وعلى طول الطريق الذي يمر على جسر يربط التل بالقرية، وكانت النداءات التي يتبادلونها والصيحات التي يطلقونها بلغة أجنبية ليحثوا الجياد المقطورة إلى العربات على صعود السفح المنحدر تسمع بجلاء.
قال دينيسوف بصوت خافت دون أن يبارح الفرنسيين بعينيه: جيئوا بالسجين إلى هنا.
ترجل القوقازي وأخذ الغلام فجاء به إلى دينيسوف، فسأله دينيسوف وهو يشير إلى الفرنسيين أن يسمي مختلف القطعات، فراح الفتى الذي دس يديه المقرورتين في جيوبه ينظر إلى دينيسوف برعب رافعا حاجبيه، وعلى الرغم من رغبته الصادقة في أن يقول كل ما يعرف اختلط الأمر عليه في أجوبته فلم يزد على كلمة نعم، يقول في أعقاب كل سؤال يطرح عليه، فأشاح دينيسوف برما وخاطب رئيس القوقازيين يشاطره شعوره.
وكان بيتيا المنشغل المتطلع ينظر حينا إلى الطبال الصغير وحينا إلى دينيسوف، تارة إلى الرئيس وتارة أخرى إلى الفرنسيين المنتشرين في القرية وعلى الطريق، ساعيا إلى ألا يضيع شيئا مما يرى.
هتف دينيسوف وقد أضاءت عيناه ببريق من الغبطة: سواء أجاء دولوخوف أم لم يأت يجب مهاجمتهم! ... هه؟ فرد الرئيس: نعم، فالمكان مناسب.
استرسل دينيسوف: سنرسل المشاة من جهة المستنقعات، وسيتسللون حتى يبلغوا حديقة البيت. وأضاف وهو يشير إلى الغابة التي تستند إليها القرية: وأنت مع القوقازيين ستقدمون من هنا، أما أنا مع فرساني فمن هنا، ولدى أول طلقة نارية ...
قال الرئيس: لا يمكن المرور عبر الصدع فهناك ردغة، وستتعرض الجياد للوقوع فيها، لذلك يجب الالتفات نحو اليسار.
وبينما هما يتناقشان بخفوت على هذا النحو، دوى في أعماق الجانب الآخر من المستنقع طلق ناري تبعته سحابة صغيرة من الدخان الأبيض، ثم طلق ثان، وبعده أطلق مئات الفرنسيين المرصوفين على المنحدر صرخة فزع. قفز دينيسوف والرئيس التابع له إلى الوراء للوهلة الأولى، لقد كانا قريبين جدا من العدو حتى خيل إليهما أنهما كانا مبعث صرخة الفرح وسبب الطلقتين. ولكن لم يكن السبب متعلقا بهما، ففي الأسفل، في المستنقع، توحل رجل مرتديا ألبسة حمراء، فكانت الطلقات والصرخات موجهة إليه.
قال الرئيس: لكن هذا «تيخوننا»! - نعم، إنه هو حقا!
صاح دينيسوف: يا للسافل!
وهتف الرئيس وهو يرمش بعينيه: أوه! سوف يخلص نفسه!
هرع الرجل الذي أسمياه تيخون إلى الساقية فارتمى فيها باعثا الماء من كل جانب، وبعد أن اختفى لحظة ظهر من جديد على الضفة أسود من الطين، وظل يجري على أربع حتى ابتعد، فتوقف الفرنسيون الذين كانوا يتبعونه.
قال الرئيس: حسنا، إنه نشيط!
واستأنف دينيسوف الذي عاد القلق إلى محياه: يا للحيوان! أين أمضى وقته حتى الآن؟
سأل بيتيا : من هو هذا؟ - إنه كشافنا، أرسلته بحثا عن «لسان».
رد بيتيا وهو يهز رأسه لكلمة دينيسوف الأولى وكأنه على علم بالأمر، في حين أنه لم يفهم كلمة واحدة من كل ما سمع: آه! حسنا جدا!
كان تيخون ستشيرباتي واحدا من أكثر أعضاء الفرقة لزوما، إنه قروي من بوكروفسكوييه ، قرب «جات»، ولقد وصل دينيسوف في بدء عملياته إلى تلك القرية واستقدم صاحبها تبعا لعادته ليسأله عما يعرفه عن الفرنسيين، فأجابه الإقطاعي ككل أصحاب القرى الذين يكونون حذرين عادة أنه لا يعرف شيئا. ولكن ما إن أفهمه دينيسوف أن غايته حرب الفرنسيين، وسأله عما إذا كان هناك أمل في مغامرة ما في الجوار، قال صاحب الضيعة إنه شاهد «حوامين» فعلا، لكن تيخون ستشيرباتي هو الوحيد في القرية الذي يهتم بهذه الأمور. وحينئذ استدعى دينيسوف ستشيرباتي هذا، وبعد أن هنأه على عمله قال له بحضور الإقطاعي بضعة كلمات عن الإخلاص للقيصر والوطن وعن الحقد على الفرنسيين الذي يجب أن يعتلج في قلوب الروسيين جميعا.
قال تيخون وقد بان عليه الخجل لأقوال دينيسوف: إننا لا نسيء إلى الفرنسيين، ولقد تسلينا كما تقول باصطياد «الحوامين»، فتيان القرية وأنا، فقتلنا منهم حوالي دزينتين، وباستثناء ذلك لم نسئ إليهم قط.
وفي اليوم التالي كان دينيسوف قد نسي الرجل تماما، مع ذلك فإنه في اللحظة التي هم بأن يغادر القرية فيها جاءوا يقولون له إن تيخون انضم إلى الفرقة وهو يطلب الموافقة على العمل فيها، فوافق دينيسوف.
كلف تيخون بادئ الأمر بأعمال وضعية كإيقاد النار وملء الماء وسلخ الجياد النافعة ... إلخ، لكنه لم يلبث أن أظهر استعدادات كبيرة لحرب الأنصار، كان يمضي إلى الصيد طيلة الليل ويعود دائما ومعه ثياب وأسلحة سلبها من الفرنسيين، بل ويأتي بأسرى عندما يصدر إليه الأمر بذلك، فلم يتركه دينيسوف يعمل بعد ذلك، بل أصبح يصحبه معه في رحلاته ودمجه في سلاح القوقازيين.
وكان تيخون الذي لا يحب ركوب الجياد يمضي دائما على الأقدام، ولكن دون أن يترك الفرسان يسبقونه، كان مسلحا ببندقية يحملها لمجرد الشكل وبرمح وفأس كان يستعملها بكثير من المهارة كما يستعمل الذئب أسنانه فيطرد البراغيث عن جلده كما يمضغ بها عظمة كبيرة، وكان لتيخون مثل هذه البراعة في أن يشطر عمودا إلى جزأين بضربة واحدة، أو أن يمسك بفأسه من رأسها فيجتزئ بها صفائح رقيقة أو ملاعق . لقد كان تيخون يحتل في فرقة دينيسوف مكانا على حدة، مكانا استثنائيا، فإذا كان الأمر يتعلق بالشروع في عمل عسير أو منفر كأن يرفع بكتفه عربة متوحلة، أو أن يجذب جوادا من ذنبه خارج مستنقع ويسلخه، أو أن يتسلل بين الفرنسيين، أو يقطع خمسين فرسخا في مرحلة واحدة؛ فإنهم جميعا يشيرون بأصابعهم إلى تيخون ضاحكين.
كانوا يقولون عنه: ماذا يمكن أن يضر هذا الشيطان؟ إن كل شيء صالح للأكل عنده.
مع ذلك فإن واحدا من الفرنسيين الذين أسرهم تيخون أطلق رصاصة مسدسه على صلبه، ولقد أحدث هذا الجرح الذي عالجه تيخون بالعرق وحده من الداخل والخارج معا، سلسلة مداعبات من أكثرها بهجة بين أفرد الفرقة كلهم، فكان تيخون يصغي إليها دون أن يرمش.
كان القوقازيون يقولون له وهم يقهقهون: حسنا يا أخانا، لن يأخذوك مرة أخرى؟ كدت أن تصبح أحدب.
فيصعر تيخون وجهه، ويغضن وجهه متظاهرا بالسخط، ثم يغطي الفرنسيين بأقذع السباب وأغلظها، غير أن تلك المغامرة لم تمر دون أن تترك فيه أثرا، إذ إنه منذ جرحه ذاك أصبح قليلا ما يعود بأسرى.
لقد كان تيخون الرجل الأكثر نفعا والأكثر جرأة في الفرقة كلها، لم يكن أحد يعرف انتقاء فرصة مد الشرك أفضل منه، ولم يأسر أحد ويقتل بقدر ما أسر وقتل من الفرنسيين، الأمر الذي عاد عليه بأن أصبح مهرج القوقازيين والفرسان كلهم، فكان هو نفسه يحشر نفسه بكل طيبة خاطر في هذا المركز المجيد. ولقد أرسله دينيسوف هذه المرة الليلة الفائتة إلى شامشيفو ليأتيه ب «لسان»، ولكن سواء أنه يكتفي بأخذ فرنسي واحد فحسب أم أنه قضى الليل نائما، فإنه تسلل في وضح النهار بين الأدغال وسط مجموعة العدو ، فاكتشف أمره كما شاهد دينيسوف منذ حين.
الفصل السادس
ما هو السر؟
بعد أن تناقش وقتا ما آخر مع رئيس القوقازيين حول هجوم الغد، الذي بات الآن مقررا بسبب دنوهم من الفرنسيين، لوى دينيسوف عنان جواده وعاد على آثاره.
قال لبيتيا: هيا يا أخي، يجب الآن أن نجفف ثيابنا.
ولما بلغ مركز الحرس في الغابة جمد دينيسوف في مكان وراح يفحص ما يحيط به، شاهد رجلا طويل الساقين، مباعد بين الذراعين، يرتدي سترته ويحتذي أحذية من القنب ويتقلنس بقلنسوة من صنع قازان، متقلدا بندقيته متمنطقا بفأس، يتقدم بخطوات كبيرة بين الأدغال. فلما شاهد دينيسوف بادر الرجل فألقى شيئا ما بين الأشواك النامية، ونزع قلنسوته المبللة ذات الخوافي المنسدلة، ثم اقترب من رئيسه. كان ذاك هو تيخون، كان وجهه المجدر ذو العينين الصغيرتين المكبوحتين، ممتلئا بالغضون، مشرقا بالرضى، فلما وقف أمام دينيسوف رفع رأسه وشخص بعينيه إليه وكأنه يكتم ضحكة تكاد تنفجر من بين شفتيه.
قال دينيسوف: إذن، من أين جئت؟
أجاب تيخون بحماس وجرأة بصوت أجش منخفض رغم رخامته: من أين جئت؟ من مطاردة الفرنسيين. - ولماذا إذن في رابعة النهار؟ حيوان! ثم ألم تنجح؟ ...
رد تيخون: بلى، بلى، لقد أسرت واحدا. - أين هو إذن؟
استرسل تيخون وقد اتخذ له وقفة مريحة أكثر على قدميه الضخمتين المسطحتين في حذاءيهما المصنوعين من ليف القنب: نعم، لقد أطبقت على واحد، وكان ذلك قبل طلوع النهار، نعم، ولقد سقته إلى الغابة، لكنني اكتشفت بعد حين أنه لا ينفع لشيء، وحينئذ فكرت وقلت لنفسي إنه ينبغي لي الحصول على آخر، انتقيته بشكل أفضل.
فقال دينيسوف لرئيس قوقازييه: آه! القذر، هذا هو السبب، ولكن لماذا لم تأتني به إذن؟
قاطعه تيخون برشاقة وهو يهش: وأية فائدة؟ لم يكن ينفع لشيء، ألست أعرف ماذا ينبغي لك؟ - يا للأتان! ... وبعدئذ؟ ...
أعقب تيخون: بحثت عن آخر، وقد زحفت هكذا في الغابة ثم استلقيت (وألقى تيخون بنفسه فجأة على الأرض على بطنه بحركة مرنة ليشرح كيف تصرف)، ثم ها إن واحدا يقترب، ها إنني أضع له الكلاب هكذا (وقفز برشاقة على قدميه وهو يقول هذه الكلمات)، وقلت له: إلى الأمام، إلى الزعيم، وها هو ذا يزمجر فيأتي أربعة آخرون، ارتموا علي بسيوفهم، وأنا هذا ما عملته بفأس (وصرخ تيخون): إلى الوراء! اذهبوا إلى الشيطان! وراح يحرك ذراعيه حركات دائرية، ثم قطب حاجبيه متخذا مسحة متوعدة واتخذ وقفة مريحة.
قال رئيس القوقازيين وهو يرمش بعينيه اللامعتين: نعم، نعم، لقد شاهدنا من الأعلى كيف كنت تلعب بأساطين الخشب عبر الردغات.
وعلى الرغم من رغبة بيتيا العنيفة في الضحك، فإنه لاحظ أن كل واحد من زميليه يحتفظ بأمارات الجد على وجهه، فراحت عيناه تنتقلان بين وجه تيخون ووجهي رئيس القوقازيين ودينيسوف دون أن يفقه ما معنى كل هذا.
هتف دينيسوف وهو يهز رأسه ويسعل سعالا خفيفا: لا تتصنع الغباء، لماذا لم تأتني بالأول؟
أخذ تيخون يحك ظهره بإحدى يديه، بينما انتقلت يده الأخرى إلى رأسه لنفس الغرض، وفجأة أشرق وجهه العريض بابتسامة بلهاء كشفت عن جذور أسنانه التي منها حمل اسمه ستشيرباتي، أي فاقد أسنانه الأمامية، انبسطت الغضون عن وجه دينيسوف، وانفجر بيتيا بضحكة شديدة المرح حتى إن تيخون نفسه انطلق مقهقها.
أكد تيخون: لكن صحيح، إنه ما كان يصلح لشيء، أية فائدة كانت تجنى من الإتيان به وهو في أطماره تلك؟ يا لها من قحة يا صاحب النبالة! أخذ يقول: «أنا، أنا ابن «جناز!» أنا لا أمشي.»
صرخ دينيسوف: أيها الحيوان! وأنا الذي كانت بي حاجة إلى استجوابه! ...
فقال تيخون: أوه! لقد جعلته يتحدث أنا، قال لي: إننا لا نعرف شيئا كثيرا. قال إنهم كثرة ولكن لا قيمة لهم، لا لهؤلاء ولا لهؤلاء.
ثم أعقب وهو يركز على دينيسوف نظرته المرحة الحازمة: اشرعوا بضربة طيبة، وستنالونهم جميعا.
هتف دينيسوف بصرامة: انتظر، سوف آمر بجلدك، ذلك يعلمك كيف تتغابى.
فقال تيخون: ولماذا الغضب؟ ألست أعرفهم، أعرفهم أنا، فرنسييك؟ لينسدل الليل وحينئذ آتيك باثنين، بل وبثلاثة إذا اقتضى الحال.
صاح دينيسوف: هيا، إلى الأمام !
ومشى في طريق مركز الحرس صامتا مقطب الحاجبين.
تبعهم تيخون، فسمع بيتيا القوقازيين يمازحونه بصدد الحذاء الذي ألقى به بين الأشواك.
ولقد حل محل رغبة الضحك التي كانت تعذب بيتيا بسماع تيخون ولرؤيته يبتسم ويمثل في غمرة أجوبته، شعور بالانزعاج مفاجئ، أدرك بيتيا فجأة أن القروي قد قتل رجلا منذ حين، فألقى نظرة على الطبال الصغير وشعر بقلبه ينقبض. لكن ذلك الشعور بالانزعاج لم يدم إلا لحظة، وجد أن من الضرورة أن يرفع الرأس وأن يتخذ أمارات أكثر تغطرسا، فراح يستجوب الرئيس القوقازي بلهجة خطيرة عن مشروع الغد، رغبة في أن يكون على مثل سوية زميليه.
جاء الضابط الموفد بهمة يلاقي دينيسوف على الطريق ليعلمه بأن دولوخوف سيصل بعد حين، وأن كل شيء على ما يرام من هذه الناحية.
وللحال انبسطت أسارير دينيسوف فنادى بيتيا إليه، وقال له: هيا، حدثني عنك.
الفصل السابع
بيتيا والسجين
التحق بيتيا لدى رحيله من موسكو حيث ترك ذويه بغرفته، وهناك لم يلبث أن رأى نفسه يرقى إلى رتبة ضابط ارتباط لدى جنرال قائد كتيبة قوية. ومنذ ترقيته إلى رتبة ضابط، وعلى الأخص منذ أن بات يساهم في الجيش العامل الذي اشترك معه في معركة فيازما؛ راح بيتيا يشعر بمرح مثير يدفعه إلى أن يحس بأنه رجل، فكان يبذل هوسا محموسا لانتهاز أية فرصة يستطيع أن يظهر فيها بطولة حقيقية، كان مفتونا بكل ما رآه وعلمه في الجيش، لكنه كان يخيل إليه دائما أن البطولة الأكثر نقاء تعرض عادة في المكان الذي لا يكون فيه.
ولما أعرب جنراله يوم 21 تشرين الأول عن رغبته في إيفاد أحدهم إلى كتيبة دينيسوف، سأله بيتيا هذه المهمة بلهجة شديدة التوسل، حتى إن الجنرال لم يرفض طلبه، ولكن عندما عزم على إرساله تذكر الجنرال سلوك بيتيا المتهور خلال معركة فيازما: لقد اندفع بيتيا مباشرة إلى الخطوط الأولى تحت نيران الفرنسيين حيث أطلق رصاصتين من مسدسيه، بدلا من أن يتوجه إلى حيث أمره أن يذهب، لذلك فقد حرم عليه تحريما قاطعا أن يشترك في تلك العملية ما دام مع دينيسوف، ولهذا السبب تضرج وجه بيتيا احمرارا عندما سأله دينيسوف عما إذا كان يستطيع البقاء، ظل بيتيا حتى ساعة أن بلغ تخم الغابة يفكر في أنه سيقوم بمهمته بكل دقة ويعود من فوره. لكنه عندما رأى الفرنسيين، وعندما رأى تيخون ، وعندما علم أنهم سيهاجمون بالتأكيد عند هبوط الظلام؛ قرر بذبذبة الشبان الذين ينتقلون من فكرة إلى أخرى أن جنراله رغم كل التقدير الذي ظل يكنه له حتى تلك اللحظة ليس أكثر من ألماني، في حين أن دينيسوف كان بطلا وكذلك رئيس القوقازيين وتيخون أيضا، وأنه سيكون مخجلا من جانبه أن يغادرهم في دقيقة عسيرة مثل تلك الدقيقة.
كان الغسق يهبط عندما وصل دينيسوف وبيتيا والرئيس مركز الحرس، شاهدوا في العتمة الشاحبة الجياد مسروجة والقوقازيين والفرسان يقيمون أكواخا خشبية في الأرض الخالية، ولقد ركزوا مكان نيرانهم في واد مشجر كي لا يفضحهم الدخان.
وعند مدخل كوخ خشبي صغير وقف قوقازي مشمرا عن أكمامه يقطع خروفا، وفي الكوخ نفسه كان ثلاثة من ضباط كتيبة دينيسوف صنعوا لأنفسهم طاولة من باب، نزع بيتيا ثيابه المبللة ليعطيها لتجفيفها وراح لفوره يساعد الضباط في إعداد مائدة الطعام.
وفي غضون عشر دقائق أعدت المائدة بعد أن بسطت عليها منشفة وضعوا عليها العرق وزجاجة من الروم وخبزا أبيض وشواء الخروف وملحا.
ولقد جلس بيتيا مع الضباط وراح يجزئ بيديه اللتين سال منهما الدهن لحم الخروف الشهي وهو طافح بحنان الطفل المهووس حيال الضباط كلهم، ويلاحظ بالتالي أنهم جميعا يعاملونه بالمثل.
سأل دينيسوف: ما قولك يا فاسيلي فيدوروفيتش، أستطيع أن أبقى يوما صغيرا آخر هنا، أليس كذلك؟
وبدلا من أن يأتيه الجواب أجاب نفسه بنفسه: طالما أنهم أرسلوني للاستعلام، حسنا، إنني أستعلم ... بيد أنه يجب أن تضعوني في المكان الأكثر ... الأكثر أهمية ... إنني لا أبحث عن مكافأة ... لست أريد إلا ...
صرف على أسنانه ونظر حوله، ثم رفع رأسه باعتداد وأشار إشارة معبرة.
كرر دينيسوف بابتسامة: في المكان الأكثر أهمية ...
استرسل بيتيا: أرجوك فقط أن تعهد إلي بفصيلة صغيرة حتى أستطيع إصدار الأوامر، هيا، ماذا يكلفك هذا؟
وهتف وهو يستدير نحو ضابط كان يستعد لتقطيع شريحته: أوه! هل تريد سكيني؟
وأخرج له سكينه من جيبه، فجزاه الضابط شكرا.
قال بيتيا ووجهه يتضرج: احتفظ به أرجوك، أبقه معك، لدي الكثير من مثله.
وفجأة هتف: آه! وحق كل القديسين! لقد نسيت تماما! لدي زبيب رائع، لو تعلمون خال من البزر، لدينا ممون جديد لديه أشياء ممتازة، ولقد اشتريت عشر ليبرات لأنني معتاد على الحلويات، هل ترغبون بتذوق الزبيب؟
وعلى الأثر هرع بيتيا إلى الباب حيث ينتظر تابعه القوقازي، وعاد يحمل قفة فيها أكثر من خمس ليبرات من الزبيب: كلوا ما تشتهون أيها السادة، كلوا ما تشتهون.
ثم سأل رئيس القوقازيين: وبالمناسبة، ألست بحاجة إلى إبريق للقهوة؟ لقد اشتريت واحدا ممتازا من مموننا! إن لديه بضاعة جميلة، ثم إنه شريف تماما وهذا الأهم، سوف أقدمه لك دون توان ولعل أحجار النار لديك مهترئة، إنها أشياء تحدث غالبا، لقد حملت معي عددا منها، إنها هنا - وأشار إلى قفته - لدي ما يقرب المائة منها، لقد اشتريتها بمبلغ تافه، خذ منها أرجوك دون حرج، خذها كلها إذا شئت.
وفجأة ذعر بيتيا خشية أن يكون قد مضى في حديثه بعيدا، فصمت وتصعدت الحمرة إلى وجهه.
أخذ يحاول أن يتذكر ما إذا قد ارتكب هفوة ما، وبينما هو يستعرض ذكريات النهار عادت ذكرى الطبال الفرنسي الصغير إلى مخيلته، فكر: «إننا هنا نتفكه ونتلذذ وهو كيف حاله؟ أين وضعوه؟ هل قدموا له طعاما؟ ألم يسيئوا إليه؟» لكنه خاف بعد تبجحاته حول أحجار النار أن يستعلم عن حاله. «هل أستطيع سؤالهم؟ سوف يقولون: ها هو ذا طفل يستعلم عن طفل مثله. لكنني سأريهم غدا ما إذا كنت مجرد طفل، لماذا أخجل من السؤال؟ آه، ليكن!» ولم يلبث أن حدق بالضباط ووجهه يتضرج، وفي نفسه خشية من أن يرى على وجوههم طيف ابتسامة هازئة وسألهم: ألا نستطيع استدعاء ذلك الفتى الذي أسروه ، وأن نعطيه ما يأكل ... لعله ...؟
فقال دينيسوف الذي لم يظهر عليه ما يدل على أنه يجد شعور بيتيا مخجلا: نعم، الصغير المسكين، ليستدعوه، إن اسمه فنسان بوس، ليستدعوه.
قال بيتيا: إنني ذاهب بنفسي.
دينيسوف.
فكر دينيسوف: اذهب، اذهب، يا للصغير المسكين!
ولقد تسلل بيتيا الذي كان قرب الباب لما نطق دينيسوف بهذه الكلمات بين الضباط حتى وصل إلى جانبه، وقال: اسمح لي أن أقبلك يا صديقي العزيز، آه! كم هذا حسن! كم هو حسن!
وصاح بيتيا عندما أصبح على العتبة: بوس، فنسان.
استعلم صوت في الظلام: من تريد يا سيدي؟
فأجاب بيتيا: إنه يريد الفرنسي الصغير الذي أسر خلال النهار، فرد القوقازي: آه، فيسيوني؟
لقد حل اسم فيسيوني محل اسم فنسان عند القوقازيين خلال ذلك الوقت القصير، أما عند الفلاحين الروسيين والجنود فقد أصبح فيسينيا، وفي كلتا الحالتين كان الاسم تنويها بالربيع الذي ترادفه بالروسية كلمة فيسنا، وهي تسمية تناسب تماما الطبال النضير. - إنه يتدفأ هناك أمام النار، إيه! فيسينيا، فيسينيا، فيسيوني! راحت الأصوات الضاحكة تصيح في الظلام. وقال فارس كان إلى جانب بيتيا: إنه شاطر، هذا الفتى! لقد أعطوه ما يأكله منذ حين، لا يمكن تصديق الجوع الذي كان به!
سمعت خطوات في الظل، وراحت أقدام حافية تخوض في الطين، ثم بدا الطبال الصغير أمام الباب. هتف بيتيا: آه! هذا أنت! هل تريد أن تأكل؟
وأضاف وهو يضع يدا ودية خجلى على ذراعه: لا تخف، لن نسيء إليك، ادخل، ادخل.
أجاب الطبال بصوت شديد التهدج، طفولي تقريبا: شكرا يا سيدي.
وراح يحك قدميه الموحلتين على عتبة الباب.
كان بيتيا يود لو يقول أشياء كثيرة لذلك الطفل لكنه لم يجرؤ، ظل واقفا إلى جانبه عند المدخل مترددا، أخيرا أخذ يده في الظلام وضغط عليها، وقال ولكن في وشوشة حانية: ادخل، ادخل!
ردد بيتيا في سره وهو يفتح الباب ويدع الفتى يمر أمامه: «آه! كم أتوق إلى عمل أي شيء من أجله!»
ولما دخل الطبال إلى الحجرة، ذهب بيتيا يجلس بعيدا متأثرا بفكرة جرح كرامته إذا اهتم كثيرا بشأنه بشكل واضح، لكنه راح يتحسس في جيبه النقود التي كان يتساءل عما إذا لم يكن مخجلا تقديمها إليه.
الفصل الثامن
دولوخوف
أمر دينيسوف أن يعطي الطبال الصغير عرقا وشريحة من لحم الخروف ثم معطفا روسيا، كي لا يصرف بين الأسرى الآخرين بل يبقى في الكتيبة. لكن اهتمام بيتيا لم يلبث أن تحول عن الغلام بوصول دولوخوف، لقد سمع بيتيا في الجيش كثيرا عن بسالة دولوخوف الخارقة وعن قسوته حيال الفرنسيين، لذلك فإنه ما إن دخل إلى الكوخ حتى انحطت نظراته عليه لا تفارقه، وكلما أمعن النظر إليه ازداد رأسه انتصابا، وسعى أن يظهر أكثر بسالة حتى يكون جديرا بمثل هذه الصحبة.
ولقد أدهش دولوخوف بيتيا أيما دهشة ببساطة ثيابه.
كان دينيسوف يرتدي التشكمين - معطف قصير يستعملونه في القوقاز - ويحتفظ بلحية كاملة، ويضع على صدره صورة القديس نيكولا صانع المعجزات، يظهر من طريقة كلامه وفي كل حركاته طبيعة مركزه الخاصة. أما دولوخوف، الذي كان من قبل في موسكو يلفت إليه الأنظار بزيه الفارسي، فكان الآن على العكس يظهر في مظهر ضابط حرس شديد التأنق؛ كان حليق اللحية بعناية، يرتدي بزة الحرس الموشاة، وقد تدلى من عروته صليب سان جورج، وعلى رأسه عمرة رتبته. نزع معطفه المبلل في أحد الأركان واقترب من دينيسوف دون أن يحيي أحدا، ثم لم يلبث أن راح يتحدث عن العملية المزمع القيام بها. أبلغه دينيسوف النوايا التي تضمرها الكتائب الكبرى نحو القافلة والعروض التي قدمت عن طريق بيتيا والأجوبة التي وجهها إلى الجنرالين، ثم أطلعه على ما كان يعرفه عن مركز القوات الفرنسية.
قال دولوخوف: حسنا جدا، لم يبق إلا معرفة نوع الفرق وعددها لذلك يجب الذهاب لرؤيتها، إذ لا يمكن الاندفاع في مثل هذا العمل دون التزود بهذه التفصيلات الدقيقة، إنني أحب أن أعمل عملا نظيفا، هيا، ألا يوجد بين هؤلاء السادة واحد يرغب في مرافقتي إلى معسكرهم؟ إن لدي بزة رسمية ...
هتف بيتيا: أنا، أنا ... أنا سأذهب معك!
قال دينيسوف لدولوخوف: لست في حاجة قط إلى الذهاب إلى هناك، أما هو فإنني لن أدعه يذهب لأي سبب في الوجود.
فاعترض بيتيا: ولماذا إذن؟! ولماذا لا يجب أن أذهب؟! - لأن هذا عديم النفع. - أرجو أن تتفضل بمعذرتي، لكنني ... لكنني ... سأذهب رغم ذلك، هذا كل شيء.
ثم سأل دولوخوف: هل ترغب في اصطحابي؟
فأجاب هذا ساهما، وهو يمعن النظر في وجه الطبال الصغير: لم لا؟ ...
ثم سأل دينيسوف: هل أسرت هذا الغلام منذ وقت طويل؟ - منذ اليوم، لكنه لا يعرف شيئا، إنني أحتفظ به إلى جانبي.
فسأل دولوخوف: آه! والآخرون أين تضعهم؟
هتف دينيسوف فجأة وقد تضرج وجهه: أين أصونهم؟! إنني أبعث بهم لقاء وصل بالاستلام، وأستطيع أن أقول بجرأة: إن وجداني غير مثقل بمقتل رجل واحد، أقول لك بصراحة: إن من الأفضل إرسال ثلاثين رجلا بل حتى ثلاثمائة تحت حراسة قوية إلى المدينة على تلويث الشرف العسكري.
رد دولوخوف بابتسامة جامدة: إن مثل هذه الأقوال اللطيفة جديرة بهذا الكونت الشاب ذي الستة عشر عاما، أما أنت فكان يجب أن تلقي بها جانبا منذ وقت طويل.
فقال بيتيا في ذعر وخجل: كيف؟! إنني لم أقل شيئا مطلقا، أنا أؤكد فقط أنني على استعداد لاتباعك.
واسترسل دولوخوف وكأنه يجد متعة في العودة إلى هذا الحديث الذي كان يسخط دينيسوف: أما نحن، كلانا أيها الأخ، فكفانا سخافات! هيا، لماذا احتفظت بهذا الغلام إلى جانبك - وأخذ يهز رأسه - ألأنه أثار شفقتك؟ على أية حال إن قيمة إيصالات الاستلام معروفة، إنك ترسل ما يقارب مائة فيصل منهم قرابة ثلاثين، إنهم يموتون من الجوع ويقتلون في الطريق، ألا تصبح النتيجة واحدة إذا لم يأسروا قط؟
أيد قوله الرئيس القوقازي بطرفة عينيه الصافيتين وبإيماءة من رأسه. - هذا لا يعنيني إذا كانت النتيجة تصبح واحدة، إنني لا أريد تحميل ضميري هذا الوزر. تقول إنهم سيموتون رغم ذلك، لنفرض جدلا صحة هذا القول لكنه لن يكون موتا بيدي.
انفجر دولوخوف ضاحكا: هل تظن أنهم لم يصدروا إليهم الأوامر بإلقاء القبض علي عشرين مرة؟ إنهم إذا وفقوا فسيشنقونك مثلي إلى شجرة حور واحدة رغم عواطفك الفروسية.
وصمت لحظة ثم استأنف: وبالانتظار، يجب أن نعمل ليرسل تابعي القوقازي لأخذ أمتعتي، لدي بزتان فرنسيتان.
وسأل بيتيا معقبا: إذن، اتفقنا، ستأتي معي؟
هتف بيتيا وقد تضرج وجهه حتى كادت الدموع تتساقط من عينيه: أنا؟ نعم، نعم، دون ريب.
ومن جديد شعر بيتيا بالانزعاج والاضطراب خلال المناقشة التي دارت بين دولوخوف ودينيسوف حول ما يجب صنعه بالأسرى، لكن المعنى الحقيقي لكلماتهم استغلق عليه من جديد، فكر: «إذا كان الرؤساء المشهورون يفكرون على هذا النحو فلا ريب أن الأمر يجب أن يكون كذلك، المهم هو ألا يتصور دينيسوف أنني سأطيعه، وأنه يستطيع أن يصدر إلي أمرا ... لقد قررت دون نكول، سأذهب مع دولوخوف إلى المعسكر الفرنسي، إذا كان يستطيع صنع ذلك فإنني كذلك مستطيعه!»
ولقد رد بيتيا على كل ما قاله دينيسوف ليثنيه عن عزمه بأنه هو الآن يفضل تنفيذ عمله بعناية ودقة لا أن يتركه للحظ، وأنه على أية حال لا يفكر من جانبه بالخطر مطلقا. - على أية حال محص الأمر بنفسك، إذا كنا لا نعرف على الضبط عددهم هناك ... إن حياة المئات من رجالنا قد تكون متوقفة على ذلك، بينما نحن لسنا أكثر من اثنين نعرض أنفسنا للخطر.
وأضاف: ثم إن بي رغبة كبيرة في الذهاب إلى هناك، كبيرة جدا، وأريد الذهاب مهما كلف الأمر، فلا تستوقفني أكثر مما فعلت لأنه لن ينجم عن ذلك إلا الأسوأ ...
الفصل التاسع
في معسكر الأعداء
بعد أن تدثرا بالمعاطف الفرنسية ووضعا العمرات على رأسيهما، اجتاز دولوخوف وبيتيا الأرض الخالية التي عاين منها دينيسوف معسكر الأعداء، وخرجا من الغابة في الظلام الحالك ثم هبطا نحو الأعماق، ولما أوغلا في بطن الغور أمر دولوخوف القوقازيين المرافقين أن ينتظروه في ذلك المكان، ثم مضى يخب على جواده على الطريق باتجاه الجسر، وبيتيا يتقدم بمحاذاته تماما وقلبه يتفطر من الانفعال.
همس بيتيا: إذا أخذنا فلن ينالوني حيا، لدي مسدسي.
رد دولوخوف بشدة وبصوت خافت: لا تتكلم بالروسية.
وبنفس الوقت، دوت في الظلام صرخة «من هناك؟» وخشخشة زناد، اندفع الدم إلى وجه بيتيا الذي وضع يده على مسدسه.
أجاب دولوخوف دون أن يبطئ من جري جواده أو يضاعفه: رماحة الفرقة السادسة.
انتصب شبح حارس داكن على الجسر : كلمة المرور؟
أوقف دولوخوف جواده وتقدم خطوا، وسأل: قل لي هل الزعيم جيرار هنا؟
كرر الحارس وهو يسد الطريق دون أن يجيب: كلمة السر؟
صاح دولوخوف وقد استبد به غضب مفاجئ جعله يدفع حصانه على الحارس: عندما يقوم ضابط بجولته لا يسأله الحراس عن كلمة السر ... أسألك عما إذا كان الزعيم هنا.
ودون أن ينتظر الجواب من الحارس الذي تنحى جانبا استمر دولوخوف يرتقي التل في خطى عادية.
وفي العتمة شاهد رجلا يجتاز الطريق، فاستوقفه دولوخوف وسأله: أين القائد والضباط؟ فاقترب الرجل الذي كان يحمل كيسا على كتفه، وكان جنديا بسيطا، من جواد دولوخوف وربت عليه بيده، وقال ببساطة: ورد أن القائد والضباط في الأعلى، على التل، إلى اليمين، في فناء المزرعة (وهكذا كان يسمى بيت السيد).
وبعد أن تبع الطريق الذي تحفه من الجانبين نيران المعسكرات، والذي تتصاعد على جانبيه أصوات الحديث بالفرنسية، انعطف دولوخوف إلى فناء بيت الإقطاعي، وعندما اجتاز العتبة ترجل واقترب نحو نار مشبوبة جلس حولها عدد من الرجال كانوا يتحدثون فيما بينهم بصوت مرتفع. وإلى جانب الموقد ركع جندي على رأسه قلنسوة الشرطة، يرتدي معطفا أزرق، تضيء النيران وجهه إضاءة قوية، يشوي شيئا كان يحركه في قصعة مستعملا قضيب البندقية.
كان أحد الضباط يقول من الجانب الآخر من النار وهو في الظل: أوه! إنه شديد القسوة.
فرد الآخر ضاحكا: سيجعلهم طيعين، الأرانب.
وصمت كلاهما، وأخذا ينظران إلى الظلمات حيث ارتفعت خطوات دولوخوف وبيتيا، اللذين كانا يقتربان ممسكين بأعنة جواديهما.
قال دولوخوف بصوت قوي وهو يفصل مقاطع الكلام: مرحبا يا سادة!
اضطرب الضباط في الظلام ودار أحدهم، وهو فتى عملاق ذو عنق طويل، حول الموقد واقترب من دولوخوف وسأل: أهذا أنت، كليمان؟ من أي ...
لكنه لم يكمل مظهرا بذلك احتقاره، حيا دولوخوف وهو مقطب حاجبيه تقطيبة خفيفة كما يحيي مجهولا، وسأله عما يستطيع أن يكون ذا نفع له فيه.
روى دولوخوف أنه وزميله في طريقهما للحاق بفرقتهما، وسأل دائريا ما إذا كان أحد يعرف أين أصبح الفوج السادس للرماحة، لم يظهر على أحد من الضباط أنه عارف شيئا عن مكان هذا الفوج، ولكن خيل إلى بيتيا أن الضباط كانوا يفحصونهما هو ودولوخوف بحذر عدائي، ولقد صمت الضباط جميعا طيلة ثوان.
قال أحدهم من الجانب الآخر من النار في ضحكة مكتومة: إذا كنتما تعتمدان على طعام المساء فإنكما متأخران جدا.
أجاب دولوخوف بأنهما تناولا طعامهما، وأنهما مضطران لمتابعة سيرهما الليلة بالذات.
سلم زمام حصانه إلى الجندي الذي كان يحرك محتويات القصعة، وجلس القرفصاء أمام النار بالقرب من الضابط ذي العنق الطويل، فراح ذلك الضابط يحدق في دولوخوف بأبصار شاخصة، وسأله مرة أخرى عن الفرقة التي ينتمي إليها، لكن دولوخوف تظاهر بأنه لم يسمع السؤال، بل سأل بدوره وهو يدخن غليونا فرنسيا أخرجه من جيبه عن الحد الذي يخلو الطريق عنده من القوقازيين. - إن المجرمين في كل مكان.
فأكد دولوخوف أن القوقازيين لا يشكلون خطرا إلا على المتسكعين مثله ومثل رفيقه، لكنهم لا يجرءون قط على مهاجمة فرقة كبيرة، فلم يجبه أحد.
كان بيتيا يفكر وهو واقف أمام النار يصغي إلى الحديث: «سوف يذهب الآن.»
لكن دولوخوف استأنف أسئلته المتواصلة، سأل دون مواربة عن عدد الرجال في اللواء وعدد الألوية والأسرى، وقال وهو يستعلم عن الأسرى الروسيين الذين كانوا في تلك الفرقة: يا لها من عملية قذرة أن يجر المرء وراءه تلك الجثث! من الأفضل قتل أولئك السفلة.
ثم انفجر ضاحكا ضحكة شديدة الغرابة، حتى إن بيتيا ظن أن الفرنسيين سينتبهون فورا إلى الخدعة، فخطا رغم أنفه خطوة إلى الوراء.
لم يرجع صدى لضحكة دولوخوف، لكن ضابطا فرنسيا لم يكن في نطاق الرؤية - إذ كان متمددا متدثرا بمعطفه - نهض وهمس شيئا في إذن رفيقه. ونهض دولوخوف ونادى الجندي الذي يمسك بمقود الجوادين.
حدث بيتيا نفسه وهو يقترب من دولوخوف لا إراديا: «هل سيعيدون الجوادين إلينا أم لا؟»
أعادوا الجوادين إليهما فهتف دولوخوف: أسعدتم مساء يا سادة!
أراد بيتيا أن ينطق بمثل تلك الجملة لكن لسانه عجز عن النطق .
أخذ الضباط يتحدثون فيما بينهم همسا. ولقد لبث دولوخوف وقتا طويلا قبل أن يستطيع امتطاء صهوة الجواد لشدة ما كان جواده ينخف جفلا، ثم اجتاز البوابة بخطى وئيدة وتبعه بيتيا وهو لا يجرؤ على الالتفات رغم رغبته الملحة ليرى ما إذا كان الفرنسيون سيتبعونهم أم لا.
ولما بلغا الطريق سار دولوخوف بمحاذاة القرية بدلا من أن يعود أدراجه عبر الحقول، وفي موقف ما توقف ليصيخ السمع قال: «هل تسمع؟» وسمع بيتيا أصواتا تتكلم الروسية، وشاهد حول النيران أشباح الأسرى الداكنة. وبعد أن نزلا حتى بلغا الجسر مر بيتيا ودولوخوف بالحارس، الذي كان يذرع الجسر بخطى كئيبة دون أن ينطق بكلمة، ثم بلغا الغور حيث كان القوقازيون ينتظرونهما.
قال دولوخوف لبيتيا وهو على وشك الابتعاد: والآن إلى اللقاء، قل لدينيسوف إننا سنبدأ عند الفجر بعد أول طلقة مسدس.
لكن بيتيا استوقفه من ذراعه وهتف: كلا! إنك بطل لا مثيل لك! آه كم هذا رائع! آه كم هذا بديع! آه كم أحبك!
فقال دولوخوف: مفهوم، مفهوم.
لكن بيتيا لم يدعه، ولقد رآه دولوخوف في العتمة ينحني عليه كان يريد أن يقبله، قبله دولوخوف وهو يضحك واستدار على جواده، ثم اختفى في الظلام.
الفصل العاشر
ليلة الهجوم
التقى بيتيا لدى عودته إلى مركز الحرس بدينيسوف عند المدخل، لقد كان دينيسوف مضطربا قلقا برما من نفسه لأنه سمح له بالذهاب، ينتظره، ردد وهو يصغي إلى رواية بيتيا الحماسية: حمدا لله! آه! حمدا لله!
واسترسل دينيسوف: ولكن ليأخذك الشيطان! لم أستطع أن أنام بسببك! آه حمدا لله! والآن اذهب ونم فلدينا الوقت للإغفاء قليلا قبل أن ينبلج الصبح.
فرد بيتيا: نعم ... كلا، لست نعسا بعد، ثم إنني أعرف نفسي إذا نمت انتهى كل شيء على أي حال، ليس من عادتي أن أنام عشية معركة.
ظل بيتيا بعض الوقت جالسا في الكوخ الخشبي يتذكر بفرحة كافة تفاصيل مغامرته، ويتصور بشدة كل ما سيقع صباح غد، ثم لاحظ أن دينيسوف قد أغفى فنهض وخرج إلى الفناء.
كان الفناء غارقا في ليل بهيم والمطر قد كف عن الهطول، لكن الأشجار ظلت تسقط القطرات عن أغصانها. وحول مركز الحرس كانت أكواخ القوقازيين وخيولهم المربوطة معا ترى أشبه بكتل داكنة، وإلى الوراء قريبا كانت عربتا نقل تشكلان بقعة سوداء وقد انتصب الجياد بقربها، وفي الوادي راحت بقايا النيران تحترق ملقية حولها إشعاعا أحمر. لم يكن القوقازيون والفرسان كلهم نائمين، فمن هنا وهناك بين أصوات قطرات المياه المتساقطة وحركة اجترار الجياد كانت جلبة أصوات خافتة تتناهى إلى الآذان كالهمس.
سبر بيتيا عندما أصبح في العراء الظلام بنظره ثم اتجه نحو العربتين، كان بعضهم يغط في النوم تحت العربات وحولها جياد مسرجة تأكل علفها، وعلى الرغم من الظلام عرف بيتيا جواده الذي أطلق عليه اسم كاراباخ - وهو اسم جواد قوقازي - رغم أنه كان من نوع الروسي الصغير، واقترب منه.
قال له وهو يعانقه ويشم منخريه: حسنا يا كاراباخ، غدا سنعمل عملا طيبا، كلانا معا معا.
هتف قوقازي كان جالسا تحت إحدى العربتين: كيف، ألا تنام يا سيدي؟ - كلا، ولكن يخيل إلي أنك ليخاتشيف، لقد وصلت لتوي إذ كنا في زيارة الفرنسيين.
وقص بيتيا على القوقازي ليس تفصيل رحلته فحسب، بل وكذلك السبب الذي ذهب من أجله، ولماذا وجد أن تعريض حياته للخطر أفضل من تعريض الرجال كلهم.
قال القوقازي: والآن يجدر بك يا سيدي أن تنام قليلا.
فأجاب بيتيا: كلا، وهذه عادتي. آه! هل حجارة مسدسك غير مهترئة؟ لقد جئت معي بعدد منها، ألست بحاجة إلى بعضها؟ خذ.
وقرب القوقازي رأسه من تحت العربة ليتسنى له رؤية أفضل. استأنف بيتيا: ذلك أن من عادتي أن أعد كل شيء أفضل إعداد، إن الكثيرين يتصرفون تصرفا ارتجاليا، ثم يعضون بنانهم ندما، أما أنا فلست أحب ذلك.
قال القوقازي: إنك محق. - هه، إليك رجاء آخر يا عزيزي، اشحذ حسامي أرجوك! إنه كليل.
وتوقف بيتيا خوفا من كذبته لأن حسامه لم يشحذ قط: هل تستطيع أداء هذه الخدمة لي؟ - لم لا؟ يمكن صنع ذلك.
نهض ليخاتشيف وفتش بين قطع الحديد التي معه، فلم يلبث بيتيا أن سمع صليل الحديد الحربي على حجر الشحذ فتسلق العربة وجلس على حافتها، بينما راح القوقازي يشحذ السيف تحت المكان الذي جلس فيه.
سأل بيتيا: قل لي، هل الرجال كلهم نيام؟ - بعضهم نائم والبعض الآخر يقظان. - والطفل ماذا فعلوا به؟ - فيسيوني؟ إنه هناك نائم عند المدخل، لقد نام لشدة الخوف، ولكن كان مسرورا!
بعد ذلك ظل بيتيا وقتا طويلا صامتا يصغي إلى كل الأصوات، وتعالت خطوات في الظل ثم بدأ شبح أسود.
سأل رجل وهو يقترب من العربة: ماذا تشحذ؟ - إنني أرهف سيف السيد.
قال الرجل الذي ظنه بيتيا من الفرسان: عمل ممتاز، هل حولك هنا قدح ما؟ - نعم، هناك، قرب العجلة.
أخذ الفارس القدح وقال وهو يتثاءب: أظن أن الفجر ليس ببعيد.
وابتعد.
كان على بيتيا أن يذكر أنه في الغابة بين رجال دينيسوف على بعد فرسخ من الطريق، وأنه جالس على عربة نقل سلبت من الفرنسيين كانت الجياد مربوطة حولها، وأن القوقازي ليخاتشيف من تحته يشحذ سيفه، وأن البقعة السوداء الكبيرة إلى اليمين هي مركز الحرس والحمراء في الأسفل هي النار الباهتة على وشك الخمود، وأن الرجل الذي سأل عن القدح فارس استبد به العطش، لكنه لم يعد يعرف ذلك أو يريد معرفته. وجد بيتيا نفسه في عالم مسحور لم يكن فيه شيء يشبه الحقيقة، فالبقعة السوداء الكبيرة يمكن أن تكون مركز الحرس لكنها كذلك يمكن أن تكون مغارة تقود المرء إلى أحشاء الأرض، والبقعة الحمراء قد تكون نارا خابية لكنها قد تكون كذلك عين وحش هائل، وقد يكون جالسا فوق عربة كما يمكن أن يكون في أعلى برج دوراي إذا سقط من أعلاه استمر يوما كاملا بل شهرا كاملا بل دهرا كاملا قبل أن يبلغ الأرض. ولعل القوقازي ليخاتشيف كان تحت العربة فحسب، ولكن يمكن كذلك أن يكون تحتها الرجل الأكثر روعة وكمالا وبسالة، أفضل رجل، ذلك الذي لا يعرفه أحد، ولعل الذي مر باحثا عن الماء كان فارسا حقيقيا، ولكن لعل ذلك الفارس قد اختفى فعلا ولم يكن موجودا إلا في خياله!
لم يعد شيء مما بات بيتيا يراه الآن يدهشه، كان في عالم مسحور كل شيء فيه ممكن الوقوع.
راح يتأمل السماء فبدت له السماء مسحورة كالأرض، كانت السماء تنجلي فوق ذرى الأشجار، والغيوم تهرب وكأنها تريد أن تفضح النجوم، وكان كل شيء أحيانا يبدو منقشعا لتظهر مكانه في ذلك الفراغ سماء سوداء نقية، وأحيانا كان يمكن الظن بأن تلك البقع إن هي إلا غيوم، وأحيانا تبدو السماء شديدة الارتفاع فوق الرءوس، لتخفض أحيانا حتى لتكاد اليد أن تلمسها.
شرع بيتيا يغمض عينيه ويتأرجح.
كانت القطرات تسقط وأصوات وشوشة خفيفة تطرق الأسماع، والجياد تصهل وتتدافع وبعضهم يغط في نومه. «زيك ... زيك، زيك ...» كذلك كان الفولاذ الذي يشحذ يصفر، وفجأة خيل إلى بيتيا أنه يسمع فرقة موسيقية رائعة تعزف نشيدا جليلا ذا طلاوة غير معروفة. كان بيتيا يحب الموسيقى مثل ناتاشا وأكثر من أخيه نيكولا، لكنه لم يدرسها قط أو يفكر فيها، لذلك فإن القطع التي صافحت عقله غريزيا بدت له جديدة كل الجدة بقدر ما كانت جذابة. وكانت أنغام الموسيقى تزداد وضوحا، والتوزيع يزداد اتساعا فينتقل من آلة إلى أخرى، وكان يحدث مما يدعى تسللا رغم أنه لم يكن لدى بيتيا أية فكرة عما يمكن أن يكون تسللا في الموسيقى. وكل آلة موسيقية تارة شبيهة بالكمان وأخرى بالطبل رغم امتيازها الأكثر ندرة وصوتها الأكثر نقاء، كل آلة موسيقية كانت تعزف مقطوعتها الخاصة وقبل أن تتمها تختلط بأنغام آلة أخرى كانت تبدأ المقطوعة نفسها تقريبا، ثم آلة ثالثة فرابعة، ثم تختلط الأنغام كلها في نغم واحد وتنفصل من جديد لتندمج مرة أخرى في غناء كنائسي جليل تارة، وتارة في غناء نصر على وضوح باهر.
حدث بيتيا نفسه وهو يكاد يفقد توازنه: «آه! لكأنني أحلم! إن أذني ممتلئتان بالنغم، ولعلها موسيقاي نفسها، هه، ها هي ذي من جديد، هيا يا موسيقاي، وبنشاط ...»
أغمض عينيه، ومن كل صوب وكأنها آتية من بعيد أخذت الأنغام ترتفع وتتحد وتتفرق ثم تندمج من جديد في النشيد ذاته الرخيم المهيب، وبيتيا يحدث نفسه: «آه! كم هذا بديع! على قدر ما أستطيع وبحسب ما أريد»، ثم أخذ يحاول إدارة مجموعة ضخمة: «هيا، بهدوء، بهدوء، بيانو الآن»، فكانت الأنغام تطيعه، «والآن هيا، أقوى، بأكثر نشاط، أيضا، أيضا، بأكثر مرح!» ومن عمق مجهول أخذت الأنغام ترتفع وتنتشر جليلة، «هيا، الأصوات الآن!» ومن بعيد تناهت بادئ الأمر أصوات رجال ثم أصوات نساء، وأخذت هذه الأصوات تدريجيا تأخذ سعة منتصرة، فشعر بيتيا بأنه مروع ومفتون معا من جمالها الأخاذ.
ذاب الغناء في «مارش» ظفري، وظلت تتساقط والسيف يستمر في لحنه «زيك، زيك، زيك»، والجياد تتدافع وتضرب بحوافرها الأرض دون أن تعكر صفو المجموعة بل تنسجم معها.
ما كان يعرف بيتيا منذ كم من الوقت دام ذلك، فقد ظل يشعر بفتنة اللحن، وهو مدهوش آسف لأنه لا يستطيع مشاطرة أحد ذلك الطرب. وأيقظه صوت ليخاتشيف الودود: يا صاحب النبالة، لقد انتهى، سوف تستطيع الآن أن تشطر به فرنسيا إلى شطرين.
وخرج بيتيا من ذهوله فهتف: ها هو ذا النهار، حقا، لقد طلع الضوء!
أصبحت الجياد التي ظلت حتى ذلك الحين غير واضحة للعين ترى من الرأس حتى الذيل، وخلال الأغصان العارية كان يرى ضوء مبلل بالماء. تمطى بيتيا وقفز من فوق العربة، وأخذ من جيبه روبلا من الفضة أعطاه لليخاتشيف، وأمسك بسيفه فرسم به دائرة حوله، ثم اختبر مضاءه وأعاده إلى غمده. وكان القوقازيون يفكون الجياد ويشدون محازمها من جديد.
قال ليخاتشيف: ها هو ذا القائد.
ولقد استدعى دينيسوف الذي خرج من حينه من مركز الحرس بيتيا، وأمره أن يتخذ أهبته .
الفصل الحادي عشر
الهجوم
أعدوا الخيول بسرعة في نصف العتمة المنتشرة، وأحكموا محازمها من جديد، ثم أخذ كل واحد مكانه في الكوكبة، وكان دينيسوف واقفا أمام مركز الحرس يعطي تعليماته الأخيرة. أخذ المشاة أمكنتهم في المقدمة، فارتفعت جلبة حوالي مائة قدم تجوس خلال الطين، ولم تلبث أن اختفت بين الأشجار في ضباب الصباح. وعاد رئيس القوقازيين يكرر أمره إلى رجاله، بينما أمسك بيتيا جواده من مقوده وراح ينتظر بصبر نافذ أمر اعتلاء صهوات الجياد، وكان وجهه الذي غمسه في الماء البارد، وخصوصا عيناه، يتلظى بالحمى، والقشعريرات تسري في ظهره، وجسمه ينتفض برعدة سريعة منتظمة.
هتف دينيسوف: إذن، هل أنتم على استعداد، إلى السرج!
قدمت الجياد فسخط دينيسوف على قوقازي لأن محازم مطيته كانت رخوة، ثم امتطى جواده بعد أن أطلق بضع سباب. ووضع بيتيا قدمه في الركاب فأراد حصانه كعادته أن يعضه في ساقه، لكنه رفع نفسه كريشة واعتلى السرج في لمح البصر، واقترب من دينيسوف ونظرته شاخصة إلى الفرسان الذين بدءوا يتماوجون وراءه في الظلام، قال: فاسيلى فيدروفيتش، سوف تعهد إلي بمهمة ما، أليس كذلك؟ ... أرجوك!
وبدا على دينيسوف أنه نسي وجود بيتيا فشمله بنظرة، وقال له بصرامة: لا أطلب منك إلا شيئا واحدا أن تصغي إلي، وألا تحشر أنفك حيث لا يعنيك.
ظل دينيسوف يخبل بصمت خلال الرحلة كلها دون أن يوجه كلمة واحدة أخرى إلى بيتيا ... وعندما بلغوا تخم الغابة كان السهل قد أخذ من الضياء حاجته. قال دينيسوف بضع كلمات في أذن رئيس القوقازيين بصوت خافت، فلم يلبث هؤلاء أن عرضوا أمامه وأمام بيتيا، ولما مروا جميعا أعاد دينيسوف جواده إلى الحركة فانحدر به على حافة الوادي، فراحت الأفراس الأخرى تنزلق على آثاره حتى بلغوا بطن الغور، وكان بيتيا يخيل إلى جانب دينيسوف والرعدة التي تنفض جسمه آخذة في العنف، والضياء يزداد انتشارا فلم يعد الضباب يغطي غير الأشياء البعيدة. وعندما بلغوا الأسفل أدار دينيسوف رأسه إلى القوقازي الآتي وراءه، وقال: الإشارة!
فرفع القوقازي يده ودوى طلق ناري، فلم يلبث جري الجياد أن ارتفع وهي تندفع إلى الأمام، وشقت الصيحات عنان السماء مختلطة بطلقات نارية.
في اللحظة التي ارتفع فيها جري أول حصان وعلت الصيحات الأولى، ساط بيتيا جواده وأرخى له العنان، ثم اندفع إلى الأمام لا يصغي إلى دينيسوف الذي كان يصيح به شيئا ما، خيل إليه أن نور النهار الغامر قد حل في الدقيقة نفسها التي أعطيت فيها الإشارة، فجرى بحصانه مباشرة نحو الجسر. وأمامه على طول الطريق كان القوقازيون يركضون على الجياد، وعلى الجسر قلب قوقازيا متخلفا دون أن يخفف من سرعة جواده، وأمامه كان بعض الرجال، فرنسيون ولا ريب، يركضون من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر من الطريق، فسقط أحدهم في الوحل تحت قوائم حصان بيتيا.
كان عدد من القوقازيين مجتمعين أمام كوخ خشر مشغولين في عمل ما، ومن مركز جماعتهم دوت صرخة مريعة، جرى بيتيا إليهم فكان أول ما وقع بصره عليه وجه فرنسي منقلب الأسارير يرتعد فكه الأسفل، كان يمسك بخشبة رمح موجه إليه.
صرخ بيتيا: هورا! أيها الفتيان ... إنهم رجالنا.
وأرخى لجواده العنان وقد أثاره العدو، فمضى كالسهم على طول الشارع أمامه.
وإلى الأمام انطلقت بعض الرصاصات، وراح الفرسان والقوقازيون والأسرى في أسمالهم يجرون من جانب الشارع إلى جانبه الآخر ويطلقون صيحات صاخبة مكتومة، وأخذ فرنسي شاب عاري الرأس أحمر الوجه متقلصه في معطف أزرق يدافع عن نفسه بحربته ضد الفرسان، فلما وصل بيتيا إلى جانبه كان قد سقط، حدث بيتيا نفسه في مثل لمح البرق: «تأخرت هذه المرة أيضا»، ثم اندفع نحو المكان الذي انطلقت منه لعلعة الرصاص، كان الرصاص يلعلع في فناء بيت الإقطاعي حيث كان العشية مع دولوخوف. لقد تمركز الفرنسيون هناك وراء حاجز في البستان تغطيه أعشاب كثيفة، وراحوا يطلقون النار على القوقازيين المتجمهرين أمام الباب الكبير، ولما اقترب من الباب شاهد بيتيا خلال الدخان وجه دولوخوف شاحبا شحوبا ضاربا إلى الزرقة يصرخ بكلام إلى رجاله، وفي اللحظة التي بلغ بيتيا مقربة منه سمعه يزمجر : «خذوهم من الخلف! انتظروا المشاة!»
القوزاق تفاجئ جيش مورات.
هتف بيتيا الذي اندفع دون أن يتأخر ثانية أخرى نحو المكان الذي يلعلع منه الرصاص في غمار الدخان الكثيف: الانتظار؟ ... هورا!
وانطلقت مجموعة من الرصاص راحت التائهة منها تصفر وتفرقع، واندفع القوقازيون ودولوخوف على أعقاب بيتيا خلال البوابة المفتوحة ، وفي الدخان الكثيف المتحرك راح بعض الفرنسيين يلقون أسلحتهم ويجرون خارجين من وراء الدغل للقاء القوقازيين، بينما فر البعض الآخر نحو أسفل التل باتجاه المستنقع. استمر بيتيا يجري بجواده في الفناء، ولكن بدلا من أن يمسك بالأعنة كان يلوح بذراعيه بشكل مضحك سريع، ويزداد انحناء على سرج جواده، ولما وطئ جواده بقائمته جذى نار كانت خابية غير مرئية في ضوء الصباح رفس بخلفيتيه، فانهار بيتيا بتثاقل على الأرض الندية، ورأى القوقازيون ذراعيه وساقيه تتحرك دون أن تشمل الحركة رأسه، لقد اخترقت رصاصة رأسه.
وبعد أن تفاوض دولوخوف مع قائد الكتيبة، الذي خرج من البيت وعلى ذؤابة سيفه منديل أبيض يعلن استسلام رجاله، ترجل عن جواده واقترب من بيتيا الذي كان مسجى على الأرض لا حراك به ممدد الذراعين، قال وهو يقطب حاجبه: لقد نال نصيبه.
ثم مضى إلى البوابة للقاء دينيسوف الذي كان قادما.
صرخ دينيسوف الذي فهم من بعيد معنى الوضع الذي كان عليه بيتيا على الأرض: لقد قتل؟
فردد دولوخوف وكأنه يجد متعة في استعمال هذه الكلمات: لقد نال نصيبه.
واندفع نحو الأسرى الذين أحاط بهم القوقازيون الهارعون في تلك الآونة، وصاح يخاطب دينيسوف: لا أسرى!
لم يجب دينيسوف، اقترب من بيتيا وترجل من على جواده وأدار نحوه وجه الفتى بيدين مرتعشتين، ذلك الوجه المغطى بالدم والوحل الذي كان على وشك الامتقاع.
وقرعت أذنيه عبارات بيتيا «إنني معتاد على الحلويات، زبيب ممتاز، خذوه كله!» وعادت إلى ذاكرته. وراح القوقازيون ينظرون وراءهم بدهشة، وقد سمعوا ما يشبه العواء يطلقه دينيسوف الذي أخذ يبتعد مسرعا ليقترب من الحاجز ويتشبث به.
كان في عداد الأسرى الروسيين المحررين من قبل دينيسوف ودولوخوف بيير وبيزوخوف .
الفصل الثاني عشر
حالة الأسير بيير
لم تتخذ القيادة الفرنسية منذ ارتحالها عن موسكو أي تدبير جديد يتعلق بقافلة الأسرى التي كان بيير في عدادها، ومنذ الثاني والعشرين من تشرين الأول لم تعد هذه الكتيبة مع القطعات والقوافل التي كانت معها عندما غادرت موسكو، وقد نهبت نصف العربات التي كانت تتبعها محملة بالمؤن من قبل القوقازيين خلال المرحلة الأولى من الطريق، أما النصف الآخر فقد أرسل إلى الطليعة. ولم يبق واحد من الفرسان الذين فقدوا جيادهم والذين كانوا يسبقونهم، لقد اختفوا جميعا، والمدفعية التي كانت تشاهد طيلة الأيام الأولى في المقدمة استبدلت بالمتاع الكثير التابع للماريشال جونو
1
يواكبه الوستفاليون. وفي أعقاب السجناء سارت قافلة محملة بتجهيزات الفرسان.
وابتدأ من فيازما، لم يعد الجيش الفرنسي الذي كان يمشي على ثلاثة صفوف إلا قطيعا من السائمة، ولقد بلغت الفوضى التي سجلها بيير منذ المرحلة الأولى بعد موسكو أقصى درجاتها.
تناثر على الطريق الذي يتبعونها جياد نافقة ورجال في أطمار متخلفون تابعون لأسلحة مختلفة، يتبدلون في كل حين فتارة ينضمون إلى الفرقة السائرة وطورا يدعونها تتقدمهم.
ولقد حدث مرات خلال الطريق أن قرع نذير الخطر دون أن يكون له ما يبرره، فكان جنود الفرقة يسددون بنادقهم ويطلقون النار ويفرون بأقصى سرعة، يتدافعون ثم يلتئمون من جديد ويتبادلون اللوم على ذعرهم القاتل العقيم.
كانت هذه العوامل الثلاثة تمشي معا؛ مستودع تجهيزات الفرسان والأسرى ومتاع جونو، وتشكل معا وحدة، لذلك فقد كانت هذه العوامل تذوب بسرعة متعادلة.
لم يبق من مستودع التجهيزات الذي كان يعد بادئ الأمر مائة وعشرين عربة أكثر من ستين عربة، أما القسم الآخر فقد نهب أو هجر، ولقد لاقت عربات كثيرة تابعة لجونو مثل هذا المصير، ونهب متخلفون من جيش دافو ثلاثا معها. ولقد علم بيير من إصغائه إلى أحاديث الألمان أن هذه القافلة تلقت فرقة للحراسة أقوى من حراسة الأسرى، وأن واحدا من مواطنيهم قد أعدم رميا بالرصاص بأمر الماريشال نفسه، لأنهم وجدوا معه ملعقة فضية تخصه.
بيد أن الجزء الذي كان أكثر ذوبانا من الآخرين هو جزء الأسرى، لم يبق من الثلاثمائة أسير الذين غادروا موسكو أكثر من مائة، كانوا يضايقون المواكبين أكثر مما كان يضايقهم متاع جونو ومستودع التجهيزات، فالتجهيزات وملاعق جونو كانت قابلة للاستعمال والاستفادة منها عند الضرورة. ولكن ما فائدة إرغام جنود مجوعين يرتعدون بردا على حراسة روسيين يماثلونهم في الجوع والتأثر من البرد، روسيين كانوا يتجمدون من البرد، وكانت الأوامر تحتم عليهم إطلاق النار على من يبقى منهم في مكانه؟ لم يكن ذلك مستعصيا على الفهم فحسب بل وكريها كذلك، وكأنهم كانوا يخشون أنفسهم في موقفهم الدقيق ذاك أن يأخذهم شعور بالشفقة على الأسرى، فيزيدون بذلك مركزهم الحرج خطورة، لذلك كانوا يجرونهم بقسوة انعدمت فيها الرحمة اطرادا.
وفي دوروجوبوجيه بينما راح الجنود يسلبون مستودعاتهم نفسها، سجن الأسرى في إصطبل فحفر بعضهم ثغرة تحت الجدار فروا خلالها، لكنهم أخذوا من جديد وأعدموا.
ولقد أغفل النظام الذي أقيم لدى الخروج من موسكو، والذي وجب على الضباط تبعا له أن يسيروا منفردين عن الجنود، وبات كل من يستطيع التقدم يمشي مع السائرين، وبذلك لم يلبث بيير أن وجد نفسه إلى جانب كاراتاييف والكلب ذي القوائم الملتوية والشعر المائل إلى البنفسجي الذي اعتبر كاراتاييف سيدا له.
بعد يومين على مغادرة موسكو عادت الحمى إلى كاراتاييف، وكانوا قد أودعوه المستشفى بسببها، وكلما ازداد ضعفه ازداد ابتعاد بيير عنه. لم يدرك بيير السبب الذي بات يدفعه منذ أن بلغ سوء حالة كاراتاييف مداه إلى بذل مجهود على نفسه للدنو منه، بات بيير الآن كلما سمع أنين كاراتاييف الخافت، الذي اعتاد عليه كلما استراحوا عقب مرحلة، وصافحت خياشيمه الرائحة شديدة النفاذ التي تفوح من جسمه؛ يبتعد عنه حتى كف عن التفكير فيه.
فهم بيير في مبنى السجن، عندما احتك مع الأسرى ليس بعقله بل بكل كيانه، أن الإنسان خلق للسعادة وأنه يحمل سعادته في نفسه في إرضاء نزعاته الطبيعية، وأن كل شقاء يصيبه سببه نقص أو زيادة في ذلك الإرضاء. أما الآن بعد هذه الأسابيع الثلاثة من المشي فقد حصل على حقيقة جديدة معزية: اكتشف أنه لا يوجد في العالم شيء مريع حقا، واكتشف بنفس الوقت أنه إذا لم يكن هناك موضع يكون فيه الإنسان سعيدا وحرا سعادة وحرية كاملتين، فإنه كذلك لا يوجد مكان يكون فيه شقيا وأسيرا شقاء وعبودية كاملين.
فهم أن هناك حدا للألم وحدا للحرية وأن هذه الحدود تتلاقى، وأن الرجل الذي يتألم وهو على سرير من الورد لأن إحدى البتلات قد انثنت تحته يتألم مثل ما يتألم هو الآن وهو الذي ينام على الأرض الرطبة العارية وجسده متجمد من جانب ودافئ من الجانب الآخر، وأنه يتألم الآن لأنه دون أحذية - إذ استبعدت أحذيته من الاستعمال منذ أمد طويل - على قدمين حافيتين تغطيهما القروح بقدر ما كان يتألم من خفيه الضيقين، اللذين كان ينتعلهما عند ذهابه إلى الحفلات الراقصة.
فهم أنه عندما تزوج بملء اختياره كما كان يظن لم يكن أكثر حرية مما هو عليه الآن، وهو الذي يحبسونه ليلا في زريبة، وأنه كل ما بات فيما بعد يعتبره آلاما رغم أنه لم يشغل نفسه بها في حينه، فإن أسوأها مرده قدماه الحافيتان اللتان تغطيهما الجروح والقروح، فلحم الحصان بات في نظره لذيذا يفتح الشهية، والخلفة التي يتركها ملح البارود المستعمل بدلا من ملح الطعام في الفم مقبولة طيبة. ولم يكن البرد قارسا، ففي النهار أثناء السير ينبعث الدفء في الأوصال، وفي الليل توقد النيران، والقمل الذي ينهش الجلود يدفئها. فالشيء الأليم الوحيد الذي كان عسيرا عليه في البداية كان قدميه.
وفي المرحلة الثانية بينما وهو يتأمل قروحه على وميض النار، فكر بيير أنه لن يستطيع المسير، ولكن عندما شرع الجميع في السير مشى دون ألم رغم أن جروحه باتت مساء أشد أذى وأبشع للنظر، وحينئذ كف عن تأملها واجتهد في أن يكف عن التفكير فيها.
في تلك الآونة أدرك بيير مدى الاحتمال البشري والقوة المخلصة التي تحول الانتباه، وتعمل في خدمتنا عمل صمامات الأمان التي تطرح الفائض من البخار في المراجل كلما تخطى الضغط الحد الطبيعي.
ما كان يرى أو يسمع إعدام الأسرى المتخلفين رغم أن أكثر من مائة منهم قضوا على هذا النحو، وما كان يفكر في كاراتاييف الذي كان ينهار يوما أكثر من يوم، والذي وجب أن ينتهي يوما ما على ذلك النحو ، بل إنه أصبح أقل تفكيرا في نفسه، وكلما ازدادت حاله سوءا ازداد انفصالا عن كل ما حوله ليجد أكثر عذوبة وعزاء في أفكاره وذكرياته وأحلامه.
الفصل الثالث عشر
حكاية بائع عجوز
في الثاني والعشرين من تشرين الأول كان بيير يرتقي هضبة على طريق موحل زلق وهو يتأمل قدميه وخشونة الطريق، ومن حين إلى آخر كان يلقي نظرة حوله على جمهرة رفاقه ثم يحدق في قدميه من جديد. لقد كان كل شيء مطابقا لنفسه وأليفا، وكان سييري، الكليب ذو الشعر البنفسجي، يجري على جانب الطريق ويرفع إحدى خلفيتيه أحيانا ليظهر براعته، ثم يقفز على الثلاث ثم على أربع ويهجم على الغربان نابحا وهي على الجيف، لقد كان سييري أكثر مرحا وأوفر صحة مما كان عليه في موسكو، فاللحم ملقى في كل مكان - جثث الرجال والجياد - متفاوت التفسخ، ومرور الجنود كان ينفر الذئاب لدرجة تجعل سييري قادرا على أن يتناول منها مشتهاه.
كان المطر يهطل منذ الصباح، يخيل إلى الناظر في كل لحظة أنه على وشك التوقف وأن السماء ستصفو، لكنه لا يلبث حتى ينهمر أقوى من ذي قبل بعد هدأة قصيرة، ولم يعد الطريق المشبع يبتلع أمواها جديدة فكانت السواقي تسيل في آثار العجلات.
كان بيير يمشي وهو ينظر حوله، يحصي خطواته ثلاثا فثلاث وهو يثني أصابعه بعد كل مرة ويقول في سره مخاطبا المطر: «هيا، هيا، أيضا، أيضا.»
كان يظن أنه لا يفكر في شيء، لكن روحه كانت غارقة بعيدا بتعمق في مكان ما من أفكاره الخطيرة المهدئة، لقد كان ذلك نتيجة فكرية لمحادثة دارت أمس بينه وبين كاراتاييف.
ذلك أن أمس مساء، عند نهاية المرحلة، بينما هو يرتعد بالقرب من نار على وشك الخمود، نهض بيير للاصطلاء قرب النار المجاورة الأكثر شبوبا، وكان كاراتاييف جالسا هناك متدثرا من رأسه إلى قدميه بمعطفه وكأنه في حلة القداس، يروي للجنود بصوته المريض الضعيف ولكن العذب قصة معروفة من بيير. وكان الوقت بعد منتصف الليل وهي الساعة التي كان من عادة كاراتاييف أن يصاب خلالها بنوبة من الحمى، فتنبعث الحيوية في أوصاله ويبلغ حالة من الانفعال خاصة، ولما سمع بيير صوت المسكين وشاهد وجهه المثير للرأفة يضيئه اللهب بشدة، أحس بانقباض في قلبه كريه خشي من شفقته وأراد أن يبتعد، ولكن لم يكن هناك غير هذه النار فأقعى وهو يجتهد ألا ينظر إلى بلاتون، سأله: حسنا، كيف حال صحتك؟
قال كاراتاييف الذي استأنف قصته فور الإجابة: الصحة؟ إن البكاء على المرض يؤدي إلى منع الله من إرسال الموت.
واسترسل وعلى وجهه الهزيل الشاحب ابتسامة، وفي نظرته ومضة فرح خاصة: وها إنه يا عزيزي، ها إنه يا عزيزي ...
كان بيير يعرف تلك الحكاية منذ زمن طويل، إذ قصها عليه كاراتاييف خمس مرات أو أكثر وبسرور دائم لم يتبدل، لكنه على الرغم من معرفته لها عن ظهر قلب فقد شعر نحوها بجاذبية الأشياء الجديدة، إذ انتقل الحماس القرير الذي بدا جليا على كاراتاييف إلى روحه. إنها حكاية بائع عجوز يعيش مع أسرته في النزاهة وخشية الله، مضى ذات يوم مع أحد رفاقه الأغنياء وهو بائع مثله إلى معرض ماكارييه، اسم معرض نيجني- نوفجورود الشعبي.
نزل البائعان في خان وناما، ولكن الغني وجد صباح اليوم التالي مقتولا مسلوبا واكتشف السكين الملوث بالدم تحت وسادة البائع العجوز، فحاكموه وساموه عذاب الضرب وانتزعوا له أنفه كما يقتضيه النظام القائم حينذاك - على حد تعبير كاراتاييف - وأرسلوه إلى سجن الأشغال الشاقة.
دنيس دافيدوف.
وها إنه يا عزيزي (ووصل بيير عند هذا الجزء من الحكاية) يقضي هناك أكثر من عشر سنين، والعجوز لا يزال في سجنه الأليم يخضع كما يجب له أن يخضع دون أن يسيء إلى أحد، لكنه يطلب إلى الله فقط أن يدعه يموت. حسنا ... وذات ليلة، ها إن المحكومين يجتمعون، مثلنا هنا، ومعهم العجوز، ويشرع كل منهم في رواية السبب الذي حكم عليه من أجله للآخرين، ولماذا هو مذنب أمام الله. كان كل يروي قصته، فهذا قتل نفسا وذاك اثنين وثالث أشعل النار في مكان ورابع مملوك هارب حكم عليه دون جريرة، ثم سئل: «وأنت يا جداه، لماذا أنت هنا؟» فقال: «آه! يا إخواني الأعزاء، إنني أتألم لخطاياي ولخطايا الآخرين، لأنني لا أحمل وزر نفسي على ضميري ولم آخذ مال الغير، بل إنني تقاسمت ما معي دائما مع إخواني التعساء. إنني بائع يا إخواني الأعزاء، ولقد كنت واسع الغنى.» وإذا به يروي لهم القصة كلها، قال لهم حكايته من طرف إلى طرفها الآخر، وقال: «إنني لا أشكو من أجل نفسي، إنني أنا الذي اختاره الله لأكفر عن خطيئات الناس. لكن شيئا واحدا يؤلمني، هو زوجتي العجوز وأولادي.» وها هو ذا ينخرط في البكاء، وها إنه في عداد الجماعة الرجل إياه الذي قتل البائع، سأل: «جداه، أين وقع الحادث؟ متى وفي أي شهر؟» سأل كل التفاصيل وآلمه قلبه، اقترب هكذا من العجوز وسقط على قدميه، وقال: «بسببي أنا، أيها العجوز الطيب، تتألم أنت! أيها الرفاق، إنها الحقيقة الحقة، هذا الرجل يتألم دون سبب، إنني أنا مرتكب الحادث، وأنا الذي وضعت تحت رأسه السكين الملوث بالدماء! سامحني يا جداه، سامحني محبة بالمسيح!»
وصمت كاراتاييف وراح يرتب الحطب في النار وهو يحدق في اللهب وعلى وجهه ابتسامة سعيدة.
استأنف كاراتاييف الكلام وقد أشرق وجهه أكثر من ذي قبل بابتسامة ظافرة، وكأن ما بقي عليه أن يرويه من القصة كان الجزء الأكثر أهمية وتعبيرا فيها:
وقال العجوز: «إنه الله الذي سيغفر لك، أما نحن جميعنا فإننا خاطئون أمامه. وأنا، إنني أتألم من أجل خطاياي»، وها هو ذا يبكي بدموع حارة. وماذا تظن يا صقري الصغير؟ ماذا تظن يا صقري الصغير؟ لقد ذهب القاتل يشيء بنفسه إلى السلطات بنفسه، قال: «لقد قتلت ستة أشخاص - وكان قاتلا كبيرا - لكن ما يدخل الأسف إلى قلبي أكثر من سواه هو هذا العجوز المسكين، لا يجب أن يبكي بسببي!» لقد وشى بنفسه إذن، فكتبوا ورقة وأرسلوها كما يقتضي الحال، وكان المكان بعيدا فاستغرقت وقتا طويلا قبل أن يلتئم شمل المحكمة وتصدر الحكم وتكتب الأوراق اللازمة من سلطات إلى سلطات، وبلغ الأمر أعتاب القصر، وأخيرا وأخيرا وصل أمر القيصر: ليطلق سراح البائع، وليصرف له التعويض حسب القرار. وأرسلت الورقة فبحثوا عن العجوز: «أين العجوز الذي حكم عليه ظلما؟ إن ورقة القيصر هنا» بحثوا عنه - وهنا ارتعدت ذقن كاراتاييف - لكن الله كان قد غفر له قبل ذلك إذ كان قد مات. وأعقب كاراتاييف مستنتجا: وهذا يا صقري العزيز هو ختام القصة.
وراح يحدق طويلا في الفضاء أمامه وعلى شفتيه ابتسامة صامتة.
ولم تكن القصة نفسها بل معناها الخفي التمجيد المشرق الذي ينير وجه كاراتاييف وهو يرويها، ذلك المعنى الخفي لتلك البهجة هو الذي كان الآن يملأ بيير ارتياحا غامضا حلوا.
الفصل الرابع عشر
مقتل كاراتاييف
وفجأة صاح صوت: «إلى أماكنكم!» وسرت بين الأسرى وجنود الموكب بلبلة بهيجة، وراحوا جميعا ينتظرون شيئا ما سعيدا جليلا. تناهت الأوامر من كل مكان، وإلى يسار الفصيلة ظهر فرسان على جياد مطهمة مجهزة أفضل تجهيز تخطوا الأسرى، واتخذت الوجوه كلها ذلك التعبير الملزم الذي يفيض على وجوه الناس لدى دنو شخصيات رفيعة المقام، وجمع السجناء ودفعوا بعيدا عن الطريق، واصطف الحرس المواكب: الإمبراطور! الإمبراطور! الماريشال! الدوق!
وما إن عرض الرجال الذين ينعمون بأفضل تغذية والذين كانوا يشكلون الحاشية، حتى وصلت عربة «تجرها ستة جياد شهباء مثنى مثنى»، محدثة قعقعة مرتفعة. وشاهد بيير في طرفة عين وجها ضخما شاحبا منتفخا لرجل على رأسه قبعة ثلاثية الزوايا، كان واحدا من الماريشالات، ولقد حطت نظرة ذلك الرجل العظيم على هيكل بيير الضخم، فخيل لهذا أنه رأى في طريقة تغطية حاجبيه وإشاحته برأسه عنه تعبيرا بالإشفاق عليه أراد إخفاءه.
وكان الجنرال الذي يقود القافلة أحمر الوجه مذعور التقاطيع، يدفع حصانه المهرول خببا وراء العربة، واجتمع بعض الضباط واحتشد حولهم الجنود ووجوههم جميعا تنطق بالقلق والتوتر.
سمع بيير: ماذا قال؟ ماذا قال؟
مقتل قائد الفصيل كاراتاييف.
وعند مرور الماريشال جمع الأسرى، فشاهد بيير كاراتاييف الذي لم يكن قد رآه بعد ذلك الصباح. كان كاراتاييف جالسا في معطفه القذر مستندا إلى شجرة سندر ووجهه الذي ظل محتفظا بتحنان العيشة العذب، عندما كان يروي قصة آلام البائع البريء، يشع بالهدوء والإشراق أكثر من ذي قبل.
كان كاراتاييف يتأمل بيير بعينيه الطيبتين المستديرتين المخضلتين بالدموع، ويحاول بشكل ملموس أن يستقدمه إليه ليقول له شيئا ما، لكن بيير كان شديد الخوف على نفسه لذلك فقد تصرف وكأنه لم ير تلك النظرة، وبادر إلى الابتعاد.
وعندما استأنف الأسرى المسير ألقى بيير نظرة إلى الوراء، كان كاراتاييف جالسا حيث كان إلى جانب الطريق مستندا إلى شجرة السندر ذاتها وإلى جانبه فرنسيان يتحدثان وهما يشيران إليه، فلم يستزد بيير من النظر وراح يرتقي المرتفع وهو يعرج في مشيته.
وفي المؤخرة، في المكان الذي كان كاراتاييف جالسا فيه، دوى طلق ناري، ولقد سمع بيير الانفجار بوضوح، لكنه تذكر في اللحظة نفسها أنه لم يفرغ بعد من حساب المراحل إلى سمولنسك، ذلك الحساب الذي بدأ فيه قبل مرور الموكب، فعاد إلى الإحصاء من جديد. ومر جنديان فرنسيان من أمامه وهما يجريان وفي يد أحدهما بندقية ما زال الدخان ينبعث منها، كانا شاحبين كلاهما وفي قسمات وجهيهما - عندما ألقى أحدهما عليه نظرة مذعورة - وجد بيير لونا مما شاهده على وجه الجندي الشاب عند إعدام مشعلي الحرائق، نظر بيير إلى ذلك الجندي فعرف فيه ذاك الذي أمس الأول أحرق قميصه وهو يجففه أمام النار، وتذكر أنه سخر منه.
فظل كلب يزمجر في المكان الذي ظل فيه كاراتاييف، ففكر بيير: «يا للغبي! لماذا يعوي هكذا؟!»
أما الجنود والرفاق الذين كانوا يسيرون إلى جانبه، فإنهم لم يلتفتوا هم كذلك إلى المكان الذي دوت فيه الطلقة النارية ثم ارتفع منه عواء الكلب، لكن الوجوه كلها اتسمت بميسم صارم.
الفصل الخامس عشر
الخلاص
توقفت قافلة التجهيزات والأسرى وأمتعة الماريشال في قرية شامشيفو، واجتمع الأشخاص كلهم حول المعسكرات. اقترب بيير من إحدى النيران، وأكل قطعة من لحم الحصان، ثم اضطجع وظهره إلى النار ولم يلبث أن أغفى، لقد نام بمثل تلك السنة التي استولت عليه في موجائيسك بعد بورودينو.
ومن جديد اختلطت الوقائع الحقيقية بحلمه. ومن جديد أخذ صوت، صوته أو صوت آخر، يشرح له الآراء، تلك الآراء نفسها التي واتته في موجائيسك: إن الحياة هي كل شيء، الحياة هي الله، كل شيء يتحرك ويتحول وهذه الحركة هي الله، وطالما بقيت الحياة تبقى سعادة حمل الشعور بالله في أعماق النفس، وحب الحياة هو حب الله، والأكثر صعوبة الأكثر جزاء وثوابا هو حب الحياة بآلامها، بألمها الظالم.
وتذكر بيير كاراتاييف.
وفجأة وكأنه ما زال على قيد الحياة عاد يرى الكهل اللطيف الصغير، لم يعد يفكر فيه منذ أمد طويل، والذي كان يعلمه الجغرافيا في سويسرا. قال له الكهل الصغير: «انتظر»، وأراه كرة أرضية، كانت تلك الكرة حية تتذبذب دون أن يكون لها محيط دقيق، لقد تشكلت مساحتها كلها من قطرات من الماء شديدة الالتصاق بعضها ببعض، وهذه القطرات كانت تتحرك وتبدل مكانها، فتارة يختلط عدد منها في قطرة واحدة، وطورا كانت واحدة تنقسم إلى ملايين أخرى، وكانت كل قطرة تحاول أن تنتشر وأن تشغل أكبر حيز ممكن، لكن القطرات الأخرى كانت تعمل مثل ذلك فتضغطها تارة وتحذفها تارة أخرى وتختلط معها.
قال المدرس العجوز: هذه هي الحياة.
فكر بيير: «كم هي بسيطة وواضحة! كيف لم أدركها من قبل؟» إن الله في الوسط، وكل قطرة تحاول أن تتمدد كي تعكسه على أوسع مدى ممكن، وهي تكبر وتنبسط ثم تنقبض وتختفي عن السطح وتنزل إلى الأعماق ثم تصعد من جديد، إنها مثل كاراتاييف لقد انبسط ثم اختفى. هل فهمت يا ولدي؟ هكذا كان يقول المدرس العجوز.
وصاح صوت أيقظ بيير: هل فهمت يا ...!
نهض وجلس أمام النار، كان جندي فرنسي مشمر عن أكمامه قد دفع لتوه جنديا روسيا، وجلس القرفصاء ليشوي قطعة من اللحم على طرف قضيب بندقية، وكانت يداه الحمراوان الشعرانيتان بعروقهما المنتفخة وأصابعهما القصيرة المتينة تديران القضيب وتبرمانه بمهارة على النار، ووجهه البرونزي الداكن ذو الحاجبين المزويين كان مضاء بشدة أمام الجمر المحترق.
غمغم وهو يخاطب بحماس جنديا واقفا وراءه: ذلك سيان عنده، يا للص! هه!
وراح الجندي الذي يدير القضيب على النار يلقي على بيير نظرة قائمة، فأشاح بيير وحدق في الظلام. وكان أحد الأسرى، ذلك الذي دفعه الجندي الفرنسي ليجلس مكانه، جالسا أمام النار يربت على شيء بيده، فلما أمعن بيير النظر شاهد الكلب ذا الشعر البنفسجي يبصبص بذنبه وهو جالس قرب الجندي.
قال بيير: آه! هل عاد؟
وشرع يقول: وبلا ... لكنه لم يعقب.
وفجأة تمثل في خياله بآن واحد النظرة التي ألقاها بلاتون عليه وهو جالس تحت شجرته، والطلقة النارية التي سمعها تنبعث في ذلك المكان، وعواء الكلب، ووجها الفرنسيين المجرمين اللذان تجاوزاه راكضين، والبندقية ذات الدخان، وغياب كاراتاييف خلال تلك المرحلة؛ فاستعد لاستيعاب الحقيقة، حقيقة أن التعس قد قتل. ولكن بنفس الوقت، ومن مكان لا يعرفه إلا الله، انبعثت في نفسه ذكرى السهرة التي قضاها مع بولونية حسناء ذات صيف في شرفة داره في كييف، مع ذلك فقد أغمض بيير عينيه دون أن يربط بين هذه الذكرى وذكريات ذلك النهار ودون أن يستخلص منها شيئا. ولم تلبث لوحة من الطبيعة الصائفة أن استلهمت في ذهنه متعة الاستحمام والمحيط السائل الرجراج، وعندئذ انزلق في مكان ما من الماء وانغمر فيه لدرجة أن الماء غمره وأطبق على رأسه.
أوقظ قبل انبثاق الفجر بلعلعة الرصاص والأصوات الصاخبة، وكان الفرنسيون يجرون أمام بيير.
صاح أحدهم: القوقازيون!
ولم يلبث بيير أن أحيط بعدد من الوجوه الروسية.
ولقد ظل طويلا قبل أن يدرك ما وقع، كان رفاقه من كل صوب يطلقون صرخات البهجة.
كان جنود كهول يصيحون وهم يبكون ويعانقون بين أذرعهم الفرسان والقوقازيين: إخواني! أصدقائي الأعزاء! الرفاق!
أحاط الفرسان والقوقازيون بالأسرى، وراحوا يمنحونهم الثياب والأحذية والخبر، وكان بيير الجالس بينهم ينتحب عاجزا عن النطق بكلمة، ضم إليه أول جندي قابله وقبله وهو يبكي.
جعل دولوخوف الواقف قرب بوابة الدار المتهدمة يسير أمامه جماعة الفرنسيين الذين انتزعت أسلحتهم، وكان هؤلاء وقد اضطربوا لما وقع لهم فجأة يتحدثون فيما بينهم بصوت عال، لكنهم إذا ما بلغوا مكان دولوخوف الذي كان يسوط ساق حذائه بضربات خفيفة من سوطه، ويتأملهم بنظرة زجاجية باردة لا تمني بشيء طيب؛ كانت أصواتهم تخبو. وكان قوقازي دولوخوف واقفا إلى الجانب الآخر من البوابة يحصي الأسرى، ويشير إلى المئات بخط بالحكك يرسمه على ضلفتي الباب، سأله دولوخوف: كم؟
أجاب القوقازي: إننا في المائة الثانية.
ردد دولوخوف وقد تعلم هذه العبارة من الفرنسيين: سيروا، سيروا!
وكانت نظرته إذا ما صافحت الأسرى المارين أمامه تلتمع بوميض وحشي، أما دينيسوف فكان يمشي عاري الرأس وراء القوقازيين، الذين يحملون جثمان بيتيا روستوف ليوروه حفرة نبشوها في حديقة البيت، ووجهه كئيب.
الفصل السادس عشر
تقرير برتييه
اعتبارا من الثامن والعشرين من تشرين الأول اتخذ تقهقر الفرنسيين في موسم الرياح والطقس البارد طابعا أكثر إفجاعا، فبعضهم أخذ يتجمد أو يصطلي النار حتى يموت حول النيران، والبعض الآخر يتابع الطريق في معاطف الفراء وفي العربات الخفيفة حاملا أسلاب الإمبراطور والملوك والدوقات، لكن انحلال الجيش الفرنسي وانهزامه ظلا يتبعان سيرهما الطبيعي دون أن يتغير طابعهما.
بين موسكو-فيازما لم يبق من هذه الألوف الثلاثة والسبعين من رجال الجيش باستثناء رجال فرق الحرس، وهؤلاء لم يعملوا شيئا طيلة الحرب غير النهب، لم يبق من هذه الألوف من الجنود أكثر من ستة وثلاثين ألفا، ومن هؤلاء المفقودين لم يزد عدد الذين سقطوا في المعارك على الخمسة آلاف رجل بحال، هذه هي المعادلة الأولى من المسألة الطردية، ولقد حدد حسابيا المعادلات التالية. لقد ذاب الجيش الفرنسي وباد بمثل تلك النسبة من موسكو إلى فيازما ومن فيازما إلى سمولنسك ومن سمولنسك إلى بيريزينا ومن بيريزينا إلى فيلنا، كل ذلك دون أن يكون للبرد الشديد القارس أو الخفيف أو لمطاردة الروسيين أو للعقبات في الطريق وكل الظروف الطارئة الخاصة أي دخل في الأمر. لم يعد الجيش الفرنسي بعد فيازما والصفوف الثلاثة المنظمة يشكل غير قطيع، ولقد ظل كذلك حتى النهاية. ولقد كتب برتييه إلى مولاه ما يلي (وإننا نعرف مبلغ ما يسمح به لأنفسهم الرؤساء الذين يكتبون عن حالة جيش من تحوير للحقائق):
أظن أن من واجبي إطلاع جلالتكم على حالة قطعاتكم في مختلف وحدات الجيش، تلك الحالة التي اطلعت عليها بنفسي منذ يومين أو ثلاثة أيام في مختلف المراحل، إنها تكاد أن تكون مشتتة، وعدد الجنود الذين يتبعون العلم في القطعات لا يكاد يبلغ ربع مرتبات القطعة، أما الباقون فيسيرون منفصلين في وجهات مختلفة وبحسب رأيهم، آملين العثور على أرزاق له، ساعين إلى التخلص من الطاعة للنظام، إنهم على العموم يجدون أن سمولنسك هي النقطة التي يجب أن يعيدوا تنظيمهم فيها. ولقد لوحظ خلال الأيام الأخيرة هذه أن كثيرا من الجنود يلقون بأسلحتهم وذخيرتهم، وفي مثل هذه الحال تتطلب مصلحة خدمة جلالتكم مهما كانت وجهات نظركم الأخرى أن يعاد تنظيم الجيش في سمولنسك باستبعاد غير المقاتلين من الرجال بادئ الأمر، كالذين فقدوا أجيادهم وتجهيزاتهم، والاستغناء عن الأمتعة غير المجدية وأعتدة المدفعية التي لم تعد متناسبة مع القوى الحالية، أضف إلى ذلك أن من الضرورة تأمين الأرزاق أيام الاستراحة للجنود الذين أنهكهم الجوع والتعب، إذ إن كثيرا منهم ماتوا خلال الأيام الأخيرة في الطريق أو في المعسكرات. إن حالة الأمور هذه آخذة بالازدياد، وتجعلنا نخشى في حالة عدم إيجاد دواء سريع حازم ألا نسيطر على القطعات بعد الآن في القتال. في التاسع من تشرين الثاني، على بعد ثلاثين ميلا من سمولنسك.
وبينما الفرنسيون يندفعون في سمولنسك التي كانت بالنسبة إليهم الأرض الموعودة، أخذوا يتذابحون للحصول على الأرزاق، وراحوا ينهبون مستودعاتهم الشخصية، ولما أتلفوا ونهبوا كل شيء انطلقوا فارين إلى أبعد منها.
كانوا جميعهم يسيرون دون أن يعرفوا لماذا وإلى أين يذهبون، ونابليون نفسه بكل عبقريته لم يكن يعرف ذلك أفضل منهم طالما أنه لم يكن يتلقى الأوامر من أحد، مع ذلك فإنه والمحيطين به ظلوا مستمرين في إصدار التعليمات والرسائل والتقارير والأوامر اليومية، ويعامل بعضهم بعضا بقولهم: «مولاي، ابن عمي، الأمير ديكموهل، ملك نابولي» وهلم جرا. لكن التعليمات والتقارير لم يكن لها من وجود إلا على الورق، فلم يكن أحد يفكر في تنفيذها لأنها كانت ممتنعة التنفيذ. وعلى الرغم من الألقاب الضخمة التي كانوا يتبادلونها: عظمتكم، سموكم، أخي، كانوا جميعا يشعرون بأنهم صعاليك يستحقون الشفقة، وأنهم كثيرا ما أساءوا، وأنهم سيرغمون على تقديم حساب عما فعلوا. وبذلك فإن ما من أحد منهم، رغم تظاهره بالاهتمام بشئون الجيش، كان يهتم بغير نفسه وبالوسائل الممكنة لإنقاذ جلده بأسرع ما يمكن.
الفصل السابع عشر
في النزع
كانت تحركات القطعات الروسية والفرنسية خلال التراجع عن موسكو حتى النييمن تشبه لعبة «التغماية»، عندما يكون لاعبان معصوبي العيون فيحرك أحدهما من حين إلى آخر جرسه لينبه الذي يريد أن يمسك به. ففي بادئ الأمر يخطر اللاعب الذي يجب أن يمسك به دون وجل خصمه، لكنه عندما يشعر بأنه أصبح في مركز حرج يحاول جاهدا ألا يثير أية ضجة كي يتمكن من الإفلات، وهو غالبا في هذه الحالة يندفع مباشرة بين ذراعي العدو وفي ظنه أنه يتحاشاه.
ففي البداية كانت جيوش نابليون لا تزال تعلن عن وجودها، وكانوا حينذاك في مرحلة التقهقر الأولى على طريق كالوجا، ولكن فيما بعد عندما بلغت الجيوش طريق سمولنسك راحت تجري منهزمة وهي تمسك بيدها مطرقة الجرس كي لا يدق، وتمضي غالبا إلى الاصطدام بالروسيين وهي تعتقد أنها أفلتت منهم.
وكانت سرعة تقهقر الفرنسيين ومطاردة الروسيين تنهك الجياد، لدرجة أن الوسيلة الرئيسية للاستعلام تقريبا عن وضعية العدو - دوريات الفرسان الاستكشافية - لم يعد لها وجود. على أية حال كانت المعلومات أيا كانت لا تصل في حينها، بسبب التغييرات الكثيرة السريعة في مواقع الجيشين، فإذا علم مثلا في اليوم الثاني من الشهر أن جيش العدو كان في اليوم الأول منه في مكان كذا، فإن ذلك الجيش في اليوم الثالث من الشهر، في حين يمكن عرفا القيام بنشاط ما، يكون قد أصبح على بعد مرحلتين وفي موقع آخر مختلف كل الاختلاف.
كان جيش يجري وآخر يتبعه، وابتداء من سمولنسك كان الفرنسيون قادرين على الاختيار بين طرق عديدة، وكان يظن أنهم بعد أن مكثوا في تلك المدينة أربعة أيام يعرفون مكان العدو، فيعدون خطة لصالحهم ويشرعون في حملة جديدة. ولكن بعد هذه الأيام الأربعة من التوقف عاد قطيعهم إلى الفرار، ليس إلى اليمين ولا إلى اليسار ولكن دون أي خطة للتحركات، عبر الطريق الذي شقوه من قبل طريق كراسنواييه وأورشا القديم وأسوأ كل الطرق.
ولما كانوا يتوقعون أن يكون العدو وراءهم وليس أمامهم، فإن الفرنسيين كانوا يفرون مسرعين تاركين بين مختلف وحدات جيشهم مسافات تقطع في أربع وعشرين ساعة مشي، وعلى رأسهم جميعا كان الإمبراطور يفر ثم الملوك ثم الدوقات. ولما كان الجيش الروسي يعتقد أن نابليون سيتجه يمينا ليجتاز الدنييبر، وهو التصرف المعقول الوحيد، فقد اتجه نحو ذلك الاتجاه وبلغ طريق كراسنواييه الكبير. وهناك كما في لعبة «التغماية» جاء الفرنسيون فاصطدموا بطلائعنا، ولما كشفوا العدو بغتة تجزأ الفرنسيون وتوقفوا ثم فروا وقد استبد بهم ذعر قاتل، تاركين وراءهم الجيش الذي يتبعهم. وخلال ثلاثة أيام ظلت قطعات الجيش الفرنسي تمر بين وحدات الجيش الروسي كما يمر محكوم بالجلد بين صفوف الجلادين: مرت أولا جمهرة نائب الملك، ثم جمهرة دافو فجمهرة ني، وكانت جميعها تهجر إحداها الأخرى، تاركة وراءها المدفعية والأمتعة الثقيلة ونصف رجالها، وتحاول في فرارها ليلا أن تتجنب الروسيين بإجراء أنصاف دوائر إلى اليمنيين.
ولقد كان ني آخر السائرين، «لأنه على الرغم من ذلك الموقف الميئوس منه، أم لعله بسببه، أراد الفرنسيون أن يعاقب تلك الأرض التي سببت لهم كل ذلك الألم، فجاء ني ينسف جدران سمولنسك التي لم تكن تعيق أحدا.» وإذن كان ني آخر السائرين بجمهرته التي يبلغ عدد رجالها عشرة آلاف مقاتل ، ولقد لحق بنابليون في أورشا وليس معه أكثر من ألف رجل بعد أن بعثر قطعاته ومدافعه في مشي ليلي عبر الغابات ليجتاز الدنييبر سرا.
ومن أورشا ظلوا يفرون باتجاه فيلنا، وهم يلعبون أبدا لعبة «التغماية» مع الجيش الذي كان يطاردهم. ومن جديد عاد التشوش في بيريزينا، لقد غرق منهم كثيرون واستسلم كثيرون، ثم استأنف الذين استطاعوا اجتياز النهر عدوهم إلى الأمام، ولقد ارتدى رئيسهم الكبير فراءه واستقل الزحافة، ثم مضى بأقصى سرعة تاركا رفاقه، ولقد فر من استطاع الفرار أما الباقون فقد استسلموا أو ماتوا.
الفصل الثامن عشر
آراء المؤرخين
إزاء هذا الجري السريع من جانب الفرنسيين المستعدين للشروع في كل شيء قمين بضياعهم، وفي الوقت الذي لم تكن أية حركة من حركات هذا الحشد ابتداء من طريق كالوجا وحتى فرار رئيسه، تدل على بادرة من بوادر التعقل؛ كان يعتقد أنه يستحيل على المؤرخين الذين يعزون حركة الجماعة إلى مشيئة شخص واحد، في هذه الحقبة من الحملة على الأقل، أن يقيموا الدليل على نظريتهم في مثل هذا الانحدار. ولكن أبدا، لقد كتبت جبال من الكتب عن هذه الحملة، وفي كل منها يصرون على التدابير التي اتخذها نابليون وعلى عمق خططه، و«المناورات» التي كانت تسير حركات قطعاته، واستعدادات ماريشالاته العباقرة وتدابيرهم.
وتقهقر نابليون ابتداء من مالواياروسلافيتز، حيث كان يستطيع بلوغ بقاع غنية بالأرزاق الوافرة، سالكا ذلك الطريق الآخر الموازي للذي كان يسهل عليه سلوكه، والذي طارده كوتوزوف فيما بعد فيه، ذلك التقهقر العقيم على طول طريق مخرب وإقليم منهوب؛ يفسر لنا بسعة علم مختلفة عميقة. وباسم المعرفة الواسعة المماثلة في العمق أيضا يصفون لنا تقهقره من سمولنسك إلى أورشا ... وبعد ذلك يصفون لنا كذلك بطولة نابليون في كراسنواييه، حيث كما يزعمون كما هو على أهبة خوض المعركة يروح ويجيء وفي يده عصاه من خشب السندر ويقول: كفاني ما كنت إمبراطورا، لقد أزف الوقت لأعمل جنرالا.
الأمر الذي لم يمنعه بعد ذلك بقليل من الفرار، تاركا حطام جيشه المبعثر الذي ظل في المؤخرة لرحمة المصير.
وهم يصفون لنا كذلك بسالة الماريشالات، وبصورة خاصة بسالة الماريشال ني، وهي البسالة التي تقوم على أساس القيام بحركة دائرية واسعة خلال الليل في الغابة لاجتياز الدنييبر والفرار نحو أورشا دون أعلامه، دون مدفعيته، خاسرا تسعة أعشار جنوده.
حتى فرار الإمبراطور العظيم النهائي تاركا جيشه الباسل، صور لنا من قبل المؤرخين بوصفه بادرة من بوادر العظمة والعبقرية. حتى تلك البادرة، ذلك الفرار الذي يسمى في كل اللغات البشرية منتهى النذالة، هذه البادرة التي نعلم الصغار أن يخجلوا منها، تجد في لغة المؤرخين ما يبررها.
وعندما يستحيل عليهم أن يزيدوا في مد خيط مناقشاتهم المرن، عندما يكون الفعل شديد المناقضة لما تعتبره الإنسانية جيدا بل وعادلا؛ يجنح المؤرخون إلى تعبير العظمة الذي ينقذ كل شيء، والعظمة تبدو في نظرهم نافية لإمكانية قياس الخير والشر، والشر لا وجود له بالنسبة إلى من هو عظيم، ولا يمكن قط لأية بشاعة ما أن تعزى كجرم إلى ذلك الذي يكون عظيما.
يكرر المؤرخون «هذا عظيم!» ومنذ ذلك الحين بدلا من الخير والشر يقوم ما هو عظيم وما هو غير عظيم، فما هو عظيم جيد وما هو غير عظيم سيئ، وأن يكون عظيما في نظرهم هو ما هو خاص بأولئك الأشخاص الاستثنائيين الذين يسمونهم أبطالا. ونابليون المتدثر بفرائه الدافئ يعود إلى بيته تاركا لمصيرهم المحتوم ليس رفاقه في السلاح فحسب، بل - حسب اعترافه نفسه - أشخاصا جرهم هو إلى هناك، وهو يشعر أن هذا عظيم وضميره بالتالي مطمئن.
كان يقول: «ليس بين الإعجاز - وكان يرى في نفسه شيئا من الإعجاز - ومحط السخرية إلا خطوة واحدة»، فردد العالم خلال خمسين عاما: «إعجاز عظيم! نابليون العظيم! ليس بين الإعجاز ومحط السخرية إلا خطوة واحدة.»
ولم يخطر على بال أحد أن وضع العظمة خارج قواعد الخير والشر إنما هو اعتراف بصغارها الذي لا يقدر، بعدمها ليس إلا.
بالنسبة إلينا نحن الذين تلقينا عن المسيح مقياس الخير والشر لا يوجد مقياس غيره لهما، ليس هناك عظمة حيث لا محل للبساطة والخير والعدالة.
الفصل التاسع عشر
أسئلة وأجوبة
أي روسي قرأ وصف الحقبة الأخيرة من حمله عام 1812 ولم يشعر بالحزن المصحوب بالغضب وبالتبرم والخزي؟ من الذي لم يطرح هذه الأسئلة: كيف لم يطبقوا على هؤلاء الفرنسيين كلهم ولم يبيدوهم، وثلاثة جيوش تفوقهم بالعدد تفوقا كبيرا كانت تحيط بهم؟ كيف والفرنسيون المشتتون المجوعون النافقون من البرد كانوا يستسلمون كتلا، وهدف الروسيين - كما يروي لنا التاريخ - كان يقوم على إيقافهم وعزلهم وأسرهم جميعا؟
كيف جرى وخاض الجيش الروسي عندما كان أضعف عددا من الجيش الفرنسي معركة بورودينو، في حين أن هذا الجيش بالذات عندما أصبح يطوق الفرنسيين من ثلاث جهات سعيا وراء قصد واحد لم يبلغ هذا القصد؟ هل يعقل أن يكون الفرنسيون حينذاك على تفوق هائل حتى إنهم بعد أن طوقناهم بقوات ساحقة لم نستطع القضاء عليهم؟ كيف أمكن لشيء من هذا القبيل أن يقع؟
التاريخ (أو على الأقل ما يطلقون عليه هذا الاسم) يجيب على هذه الأسئلة قائلا: إن ذلك وقع لأن كوتوزوف وتورماسوف وتشيتشاجوف وهذا أو ذاك لم يعملوا هذه أو تلك من «المناورات».
ولكن لماذا لم يجروا هذه «المناورات»؟ لماذا لم يحاكموهم ويحكموا عليهم إذا كانوا مذنبين لعدم بلوغهم الهدف المقصود؟ وإذا تقبلنا أن هذا «الإخفاق» من جانب الروسيين معزو إلى كوتوزوف وتشيتشاجوف ... إلخ، فإننا مع ذلك لا ندرك لماذا لم يؤسر الجيش الفرنسي كله بماريشالاته وملوكه وإمبراطوره في كراسنواييه وبيريزينا والجيش الروسي كان هناك على ما نعرفه من تفوق ساحق في كلتا الحالتين، طالما أن ذاك كان هو الهدف المنشود.
إن تفسير هذه الواقعة الغريبة، كما يقدمه المؤرخون العسكريون الروسيون، هو أن كوتوزوف كان يعارض في الهجوم، لكن هذا التفسير لا تقوم له قائمة طالما أننا نعلم أن إرادة كوتوزوف لم تستطع منع الجيش من الهجوم في فيازما وتاروتينو.
فلماذا إذن هزم ذلك الجيش الروسي الذي ربح معركة بورودينو رغم قواته الضعيفة على أعداء في أوج قوتهم، هزم في كراسنواييه وبيريزينا رغم تفوقه العددي الساحق أمام قطيع من الفرنسيين المشردين المشتتين؟
إذا كانت غاية الروسيين قطع خط التقهقر على الفرنسيين وأسر نابليون وماريشالاته، يجب أن نتقبل إذن أن هذا الهدف لم يظل ممتنعا عن المنال فحسب، بل وأن المجهودات التي بذلت في كل مرة لبلوغه تحطمت على أكثر ما يدعو إلى الخجل من الصور. وحينئذ يجب القول إن الحقبة الأخيرة من الحملة كانت بالنسبة إلى الفرنسيين سلسلة انتصارات، ويكون المؤرخون الروسيون والحالة هذه مخطئين تماما إذا اعتبروها نصرا لنا.
إن الكتاب العسكريين الروسيين في النواحي التي يتقيدون فيها بالمنطق يبلغون رغما عنهم إلى هذه النتيجة، فهم رغم كل ما يغدقونه من الإطراء الشاعري على بسالة الروسيين وتفانيهم ... إلخ، لا يمكن إلا وأن يعترفوا بأن تقهقر الفرنسيين اعتبارا من موسكو ليس إلا سلسلة من الانتصارات لنابليون ومن الهزائم لكوتوزوف.
لكننا إذا وضعنا الكرامة القومية جانبا نشعر بتناقض رغم ذلك في هذه النتيجة، طالما أن هذه السلسلة من الانتصارات بالنسبة إلى الفرنسيين قادتهم إلى فناء كامل، وأن سلسلة هزائم الروسيين قادتهم على العكس إلى سحق أعدائهم وإنقاذ وطنهم.
ومبعث هذا التناقض ناشئ عن أن المؤرخين الذين يحللون الأحداث في مراسلة الأباطرة والجنرالات وفي العلاقات والتقارير والخطط، يفرضون هدفا كاذبا لم يكن قط موجودا في الحقبة الأخيرة من حرب عام 1812، وهذا الهدف الكاذب هو التطويق وأسر نابليون وماريشالاته وجيشه.
لم يكن هذا الهدف قط موجودا وما كان يمكن أن يوجد، لأنه لم يكن ذا معنى ولم يكن ممكنا بلوغه قط.
لم يكن ذا معنى في الدرجة الأولى، لأن جيش نابليون المنهزم كان يفر من روسيا بكل السرعة الممكنة، أي إنه كان يعمل تماما كل ما كان يتمناه كل روسي، فما فائدة القيام بعمليات ما ضد وحدات تنطلق هاربة بأقصى سرعة؟
وفي الدرجة الثانية كان يستحيل قطع الطريق على رجال ركزوا كل حيويتهم في رغبتهم في الفرار.
وفي الدرجة الثالثة كان من المنافي للعقل كذلك أن يساق الجيش الروسي إلى الخطر لإبادة الجيوش الفرنسية، التي كانت في طريقها إلى الفناء من تلقاء نفسها دون أسباب خارجية وبسرعة عظيمة، حتى إنها دون أي عائق في الطريق ما كانت تستطيع أن تحمل إلى ما وراء الحدود من الوحدات أكثر مما حملت في شهر كانون الأول، أي واحدا من مائة من المرتب العام.
وفي المرتبة الرابعة كان من المنافي للعقل السعي إلى أسر الإمبراطور والملوك والدوقات، وهم الشخصيات التي كان أسرها سيسبب للسياسة الروسية أقصى المتاعب، كما اعترف بذلك أفضل دبلوماسيي العصر «جوزيف دوميستر»
1
وآخرون. وأكثر تنافيا للعقل كذلك الرغبة في أسر قطعات فرنسية كاملة، في الوقت الذي ذاب أكثر من نصف جيشنا أمام كراسنواييه، والذي كان يجب فيه أن يطرح من النصف الباقي أفواج كاملة لمواكبة الأسرى. هذا إضافة إلى أن جنودنا ما كانوا ينالون دائما جرايتهم كاملة، وأن الجنود الذين كانوا في الأسر قبل ذلك كانوا يموتون من الجوع.
إن كل هذه الخطة التي وجب أن تقوم على أساس قطع خط الرجعة على نابليون والاستيلاء على جيشه، تشبه تماما خطة بستاني ما رغب في طرد الماشية التي تعيث في بستانه، فهرع إلى الباب وراح يضرب الحيوانات على رءوسها، إن التفسير الوحيد لتصرف هذا البستاني هو غضبه، ولكن لا يمكن أن نعزو مثل هذا الفرض إلى واضعي هذه الخطة، لأنهم لم يتألموا من العبث في بستانهم وإتلافه.
ثم إن قطع خط الرجعة على نابليون وجيشه ليس منافيا للعقل فحسب بل ومستحيلا.
إنه مستحيل أولا للسبب التالي: كما أن التجربة تبرهن على أن حركة القطعات على مساحة خمسة فراسخ في معركة ما لا تتفق مع الخطط الموضوعة سلفا، كذلك احتمال لقاء بين تشيتشاجوف وويتجنستين في مكان واحد كان من الضعف لدرجة قريبة من الاستحالة. إنه تماما رأي كوتوزوف الذي أعلن منذ تلقيه الخطة أن إشغالات بقصد تحويل الانتباه على مسافات كبيرة لا يمكن أبدا أن تؤدي إلى النتائج المرجوة.
وهو مستحيل في المرحلة التالية، لأنه لكي تشل قوة المقاومة السلبية التي كانت تدفع جيش نابليون إلى الوراء كان يجب أن يكون لدى الروسيين قوات لا تضاهى بالتي كانت لديهم.
وكان مستحيلا في الدرجة الثالثة، لأن التعبير العسكري «قطع جيش» ليس له معنى، يمكن أن يقطع المرء قطعة خبز وليس جيشا. لا يمكن قطع جيش وأعني قطع الطريق عليه، لأنه يوجد دائما في الأماكن المجاورة من الفسحة ما يكفي للالتفاف حول العائق، ولأن هناك الليل الذي تتعذر الرؤية خلاله، وهو الأمر الذي كان يمكن للدكاترة في الفن العسكري أن يقنعوا أنفسهم به، ولو اقتصر ذلك على أمثلة كراسنواييه أو بيريزينا. أضف إلى ذلك أنه يستحيل أسر شخص ما دون موافقته، استحالة مسك السنونو رغم أنه يمكن مسكه إذا حط على يدك. يمكن أسر من يستسلمون، كالألمان، وفقا لقواعد «الاستراتيجية» و«التاكتيك»، لكن الجيش الفرنسي في حقيقته ما كان يجد الاستسلام مفيدا، لأن موتا مشابها كان ينتظره من الجوع والبرد في حالتي الأسر والفرار.
وفي المرحلة الرابعة، وهذه الأكثر أهمية، كان ذلك مستحيلا، لأنه لم يحدث قط منذ أن خلق العالم أن نشبت حرب في مثل الظروف المريعة التي كانت في شتاء عام 1812، ولأن الجيش الروسي كان يستنفد كل قواه لمطاردة الفرنسيين، حتى إنه ما كان يستطيع أن يعمل أفضل مما عمل دون أن يفني نفسه بالمثل.
لقد فقد الجيش الروسي خلال سيره من تاروتينو إلى كراسنواييه خمسين ألف مريض ومتخلف، أي عددا مماثلا لسكان مركز إقليم مهم، لقد اختفى نصف العدد دون قتال.
وبخصوص هذه الآونة من الحملة، عندما كان الرجال حفاة لا معاطف لديهم، يعانون نقص الغذاء وينامون على الثلج طيلة أشهر في برودة تبلغ 15 درجة في ميزان ريئومور، عندما لم يكن النهار أطول من سبع أو ثماني ساعات بينما يخيم الليل طيلة الوقت الباقي وحيث الانضباط لا أثر له، عندما لا يعود الرجال في جو معركة ويدخلون لبضع ساعات في سلطان الموت، عندما لا يصبح للنظام أثر في حين يناضل الرجال خلال أشهر دقيقة فدقيقة ضد الموت من الجوع أو البرد، وعندما يموت نصف جنود الجيش في شهر واحد؛ بخصوص هذه الآونة من الحملة يحدثنا المؤرخون كيف تصرف ميلورادوفيتش لينقذ «مشية الجناح» تلك نحو مكان كذا، وتورماسوف نحو المكان كذا الآخر، وكيف انتقل تشيتشاجوف وهو يغرز في الثلج إلى أعلى من ركبتيه، وكيف قطع فلان آخر الطريق على العدو ومزقه إربا ... إلخ، إلخ.
إن القطعات الروسية، التي أنقصها الموت إلى نصف عددها، عملت كل ما كان ممكنا عمله لبلوغ الغاية الجديرة بشعبنا، وليس الذنب ذنبهم إذا وضع روسيون آخرون ناعمون بالدفء في غرف مريحة خططا لا يمكن تنفيذها.
إن هذا التناقض الغريب، غير المفهوم اليوم، بين الواقعة والعلاقة التاريخية ناجم فقط عن أن المؤرخين لم يعطونا إلا تاريخ المشاعر الرائعة والخطابات البليغة لمختلف الجنرالات وليس تاريخ الوقائع.
إن ما بدا لهم أكثر أهمية كان كلمات ميلورادوفيتش، والمكافآت التي نالها هذا أو ذاك من الجنرالات والخطط التي اقترحوها، أما مسألة الخمسين ألف تعيس الذين ظلوا سواء أكان في المشافي أم في القبر، فإنها لا تهمهم لأنها خارجة عن حدود أبحاثهم.
في حين أنه يكفي أن يلتفت المرء من دراسة التقارير والخطط الموضوعة من قبل الجنرالات ومعاينة حركات هذه المئات من ألوف الرجال، الذين ساهموا مساهمة مباشرة فورية بكل ما وقع لتتلقى كل المسائل التي كانت تبدو لأول وهلة ممتنعة عن الحل حلا لا يقبل الجدل، فجأة وبسهولة وبساطة خارقتين.
إن الخطة التي وجب أن تهدف إلى قطع خط الرجعة على نابليون وجنوده لم تكن موجودة قط إلا في مخيلة حوالي عشرة أشخاص، ما كان يمكن أن تكون موجودة لأنها منافية للعقل ولأنها كانت مستحيلة.
لم يكن للشعب الروسي غير هدف واحد: تطهير أرضه من الغزاة، ولقد بلغ هذا الهدف أولا بصورة آلية، لأن الفرنسيين كانوا يفرون، فكان يكفي عدم وضع العقبات في طريق فرارهم، وفي المرتبة الثانية بلغ بفضل عمليات الحرب الشعبية التي أبادت الفرنسيين، وفي المرحلة الثالثة لأن جيشا روسيا قويا كان يطارد الفرنسيين ويتبع آثارهم، وهو على استعداد لاستعمال قوته إذا هم أوقفوا حركتهم.
ما كان على الجيش الروسي أن يتصرف إلا على طريقة السوط المشرع فوق رأس الحيوان الهارب، وسائق قطيع مجرب يعرف أن أفضل وسيلة هي إبقاء السوط مشرعا وتهديد الحيوان الهارب به، وليس جلده به على رأسه.
الجزء الرابع
الفصل الأول
ماري وناتاشا
يستولي الروع على الإنسان أمام حيوان نافق، ذلك لأنه هو نفسه - ما يكونه - على وشك الموت والكف عن الحياة تحت عينيه، ولكن عندما يكون المحتضر رجلا، رجلا محبوبا، فإن شعورا بالألم الممزق أو جرحا في الفؤاد يشبه جرح الجسد، يقتل أحيانا وأحيانا يلتئم، ولكن يبقى أليما يخشى دائما أن يثيره مس خارجي يضاف إلى الروع الذي يشعر به أمام فناء الحياة.
ولقد أحس كل من ناتاشا والأميرة ماري هذا الإحساس بعد وفاة الأمير آندريه، كانتا منهارتين معنويا، تغمضان عيونهما أمام غمامة الموت المعلقة فوق رأسيهما ولا تجرؤان على النظر إلى الحياة نظرة صريحة، ما كانتا تفكران إلا في صيانة جرحهما من مساس مهين أو أليم. كان كل شيء: مرور عربة مسرعة في الشارع، إعلان العشاء، سؤال وصيفة عن ثوب يجب إعداده، بل وأكثر من ذلك كلمة عطف مصطنع أو دون حرارة؛ كل شيء كان ينكأ الجرح المحروق ويسيء إليهما كالإهانة، فيهدم ذلك الصمت الذي لا بد منه، والذي كانتا كلتاهما تتحريانه للإصغاء إلى المجموعة الرهيبة الخطيرة التي لا تني تدوي في مخيلتيهما فتمنعهما من النظر إلى الأبعاد الغامضة اللانهائية التي انكشفت لحظة أمامهما.
ما كانتا تشعران بإهانة أو ألم في خلوتهما، وما كانتا تتبادلان شيئا من الحديث خلالها تقريبا، وإذا تحدثتا دار الحديث حول أتفه الأشياء لأن كلتيهما كانتا تتحاشيان أي تلميح إلى المستقبل.
كان الاعتراف بأمل في المستقبل يبدو لهما في الواقع سبة لذكرى الأمير آندريه، لذلك كانتا كلتاهما تحاولان وسعهما أن تتحاشيا كل ما له علاقة به، وكان يخيل إليهما أن ما عانتاه لا يمكن أن يعبر عنه بالكلام، فتفكران أن المساس بأتفه تفصيل لحياة الأمير آندريه مهدم لعظمة السر الذي نفذ بعد تحت أبصارهما وقدسيته.
وكان تحفظهما المستمر في أحاديثهما وجهدهما الدائم لتحاشي كل ما يمكن أن يؤدي إلى الحديث عنه، هذا الأسلوب في إقامة الحراسة على كل مناحي حدود ما لا يجب قوله بأي ثمن، كان يعرض بوضوح ونقاء أعظم ما كانتا تشعران به أمام مخيلتيهما.
لكن الحزن الكلي يشبه في استحالته الفرح الكلي، ولقد كانت الأميرة ماري التي باتت بحكم مركزها السيدة الوحيدة لمصيرها والوصية المسئولة عن ابن أخيها، أول من استدعتها الحياة خارج الحداد الذي انطوت فيه منذ أسبوعين؛ تلقت من أقربائها مراسلات وجب أن ترد عليها. وكانت الغرفة التي يعيش فيها نيكولا الصغيرة رطبة فراح الطفل يسعل، وجاء الباتيتش إلى إياروسلافل يحمل حساباته ونصح الأميرة أن تعود إلى موسكو لتقطن مسكنها في فوزدفيجليكا الذي ظل سليما، والذي كان في حاجة إلى بعض الإصلاحات، فالحياة لم تكن قد توقفت وكان يجب الحياة. ومهما بلغ من إيلام الخروج من عالم الوحدة والتأمل ذاك على نفس الأميرة ماري، التي استسلمت له حتى ذلك الحين، والمتاعب المادية التي كانت تطالب بحضورها؛ فإنها اضطرت إلى الخضوع رغم الإشفاق الذي كانت تحسه نحو ناتاشا والتبكيت النفسي الذي اعتلج في نفسها لفراقها. أخذت تدقق في حسابات الباتيتش وتتناقش مع ديسال حول موضوع ابن أخيها، وتتخذ التدابير اللازمة لعودتها إلى موسكو.
ولبثت ناتاشا وحيدة، فمنذ اللحظة التي شرعت ماري فيها في اتخاذ أهبتها راحت تتحاشاها.
خلال ذلك عرضت الأميرة ماري على الكونتيس أن تسمح لناتاشا بمرافقتها إلى موسكو، فقبلت الأم مثلما قبل الأب هذا العرض بفرح، لأنهما باتا يريان قوى ابنتهما تنهار يوما بعد يوم، ويعتقدان أن تبديل الهواء مضافة إليه عناية طبيب في موسكو سيكونان ناجعين لحالتها.
ولما قدم هذا العرض لناتاشا أجابت: لن أذهب إلى أي مكان، لا أسألكم أن تدعوني بهدوء.
ونفرت إلى غرفتها وهي لا تكاد تضبط الدموع التي انبعثت من عينيها بدافع السخط والانفعال أكثر من دافع الألم.
منذ أن أخذت ناتاشا تشعر بتخلي الأميرة ماري عنها وبقائها وحدها مع ألمها، راحت تقضي معظم الوقت محتبسة في غرفتها، منطوية على نفسها في ركن من الأريكة، تحل وتعقد عملا من أعمال الإبرة بأصابعها الدقيقة الرشيقة وأبصارها شاخصة إلى الأمام، وكانت هذه الوحدة تنهكها وتنخر فيها، لكنها كانت في حاجة إليها. فما إن يدخل بعضهم إلى حجرتها حتى تعتدل بقوة فتبدل من وضعيتها وتعابير وجهها، وتتظاهر بالقراءة أو الحياكة دون أن تخفي نفاد صبرها لرؤية الذي عكر صفو وحدتها.
كان يخيل إليها باستمرار أنها على وشك إدراك المخيف والتعمق فيه، تلك المعضلة المضنية التي كانت نظرتها الداخلية شاخصة إليها.
وفي نهاية كانون الأول كانت ناتاشا مرتدية ثوبا أسود من الصوف، وضفيرتها ملفوفة بإهمال على مؤخرة رأسها، شاحبة ومهزولة، تجلس قابعة في ركن من الأريكة منصرفة تماما إلى لف طرف نطاقها وحله، شاخصة ببصرها إلى زاوية الباب.
كانت تنظر إلى الموضع الذي ذهب منه إلى الجانب الآخر من الحياة، وذلك الجانب الذي لم تفكر فيه قط من قبل، والذي كان يبدو لها من قبل بعيدا كل البعد لا يمكن إدراكه؛ بات الآن أكثر قربا وألفة وأكثر فهما من هذا الجانب، حيث كل شيء ليس إلا خواء ودمارا إن لم يكن ألما وإذلالا.
كانت تنظر هناك حيث تعرف أنه موجود، لكنها ما كانت تستطيع أن تراه على غير الشكل الذي عرفته به في هذا العالم، كانت تراه في ميتيشتشي وتروئيتسا وأياروسلافل.
كانت ترى وجهه وتسمع صوته وتردد كلماته والكلمات التي قالتها له، وأحيانا تتصور موضوعات أخرى كانا يستطيعان تبادلها بينهما.
ها هو ذا ممدد على مقعد وثير في معطفه المنزلي المصنوع من الفراء المغطى بالقطيفة، ورأسه مسند إلى يده البيضاء النحيلة، وصدره مقعر بشكل مخيف، وكتفاه مرفوعتان، وشفتاه متقلصتان بقوة، وعيناه تلتمعان، وعلى جبهته الشاحبة يظهر غضن تارة وتارة يدرس، وإحدى ساقيه ترتعش ارتعاشة سريعة لا تكاد تميز. إن ناتاشا تعرف أنه يناضل ضد ألم معذب، ما هو هذا الألم؟ لماذا جاء؟ ماذا يشعر؟ أين يتألم؟ بذلك كانت ناتاشا تفكر، لكنه يلمس قلقها فيرفع عينيه ويبدأ في الكلام دون ابتسام.
قال: «إن ما يخيف هو أن يرتبط الإنسان مدى الحياة برجل يتألم، إنه عذاب لا نهاية له.» ونظر إليها بعينيه المتفحصتين، فأجابته ناتاشا كعادتها دون أن تترك لنفسها وقتا للتفكير فيما هي بسبيل النطق به، هتف: «إن هذا لا يمكن أن يدوم على هذا النحو، إنه مستحيل، سوف تستعيد صحتك تماما.»
إنها تراه الآن من جديد، وهي تعيش من جديد في كل ما اعتلج في نفسها حينذاك، إنها تتذكر النظرة الطويلة الحزينة المهيبة التي ألقاها عليها بعد هذه الكلمات، وتفهم معنى اللوم واليأس في هذه النظرة الملحة.
فكرت: «لقد اعترفت أنه سيكون أمرا مريعا لو أنه استمر يتألم، ولقد قلت له ذلك لأنه كان سيكون مريعا حقا بالنسبة إليه لو أنه دام، لكنه فهم الجملة على نحو آخر، لقد فكر أن ذلك سيكون مريعا بالنسبة إلي، لقد كان حينذاك لا يزال متعلقا بالحياة وكان يخاف الموت. وأنا تكلمت بقسوة وغباء ما كنت أقصد ذلك، كنت أفكر في شيء آخر مختلف كل الاختلاف، لو أنني قلت ما كنت أفكر فيه لقلت له إنه ولو كان محتضرا بل ولو ظل محتضرا أمام عيني لكنت سعيدة بالقياس إلى ما أنا عليه الآن، لم يعد لي شيء، لم يعد لي أحد، هل كان يعرف ذلك؟ كلا، ما كان يعرفه ولن يعرفه أبدا، والآن لا أقدر قط، قط، أن أصلح ذلك.»
لكنه من جديد عاد يقول لها الكلمات نفسها، فراحت ناتاشا هذه المرة تجيبه في خيالها جوابا مختلفا، استوقفته وقالت: «إنه مخيف بالنسبة إليك وليس بالنسبة إلي، إنك تعرف أن الحياة بدونك بالنسبة إلي ليست شيئا مذكورا، وأن التألم معك أكبر سعادة لي.» فأمسك بيدها وضغط عليها كما ضغط عليها خلال تلك الأمسية الرهيبة قبل موته بأربعة أيام، فراحت تردد على مسمعه بالخيال أيضا كلمات الحنان والحب التي كانت عليها أن تقولها له حينذاك، والتي لا تنطق بها إلا الآن، هتفت: «أحبك! ... نعم، أحبك، أحبك ...» وضمت يديها بحركة تشنجية، وصرفت على أسنانها بقسوة وحشية.
وحينئذ استولى عليها ألم أكثر عذوبة، وانبعثت الدموع من عينيها، وفجأة تساءلت: لمن تحدثت على هذا النحو؟ أين هو؟ وكيف هو الآن؟ ومن جديد نظرت في كآبة مضنية قاسية وهي مكفهرة الوجه مزوية حاجبيها من جديد نحو ذلك الهناك حيث هو، ومن جديد خيل إليها أنها ستكشف السر الغامض ... ولكن، في الدقيقة التي كاد كل شيء أن ينكشف، في الدقيقة التي كاد كل المجهول أن يصبح معلوما لديها، صك أذنها صوت رتاج الباب ودخلت دونياشا الوصيفة، مروعة الوجه منقلبة الأسارير، دخلت دون أي احتراس وقالت وعلى وجهها المنفعل تعبير غريب: إذا أمرت، اذهبي بسرعة إلى أبيك، بسرعة، لقد وقعت مصيبة ... بيوتر إيليتش ... رسالة ...
وشهقت منتحبة.
الفصل الثاني
نعي بيتيا
باتت ناتاشا الآن إلى جانب النفور العام الذي كانت تشعر به نحو الأحياء، تشعر في تلك اللحظة بكره خاص نحو أسرتها، لقد كان ذووها كلهم: أبوها، أمها، سونيا، قريبين جدا منها، مألوفين جدا لديها، حتى إن كل كلمة منهم وكل واحد من مشاعرهم كان ينقلب إلى إهانة لذلك العالم الذي تعيش فيه منذ بعض الوقت، لذلك لم تكن تنظر إليهم بلا مبالاة فحسب بل وبعداء، سمعت دونياشا تتكلم عن بيوتر إيليتش وعن المصيبة، لكنها لم تفهم شيئا.
أخذت ناتاشا تحدث نفسها: «مصيبة لهم؟ كيف يمكن أن تصيبهم المصيبة؟ إن حياتهم تسير دائما وتيرية في سلامها المألوف.»
وعندما دخلت إلى البهو شاهدت أباها يخرج بسرعة من غرفة الكونتيس وأمارات وجهه متقلصة ووجهه مبلل بالدموع، كان يرى أنه اندفع خارجا من تلك الغرفة ليترك للنشيج الذي كان يخنقه حرية الانطلاق، ولما وقع بصره على ناتاشا صدرت عنه حركة يائسة، وأطلق زمجرات تشنجية شوهت وجهه المستدير الطيب: هيه ... بيتيا ... اذهبي بسرعة، إنها ... تدعوك ...
واقترب من كرسي بخطى صغيرة مترنحة وهو يبكي كالطفل، وأسقط نفسه عليه إسقاطا، وغطى وجهه بيديه.
وفجأة طافت بجسد ناتاشا كله شبه انتفاضة كهربائية، وأحست بضربة فظيعة تصيب قلبها، أحست بألم مريع وخيل إليها أن شيئا ما يتمزق في فؤادها، وأنها على وشك أن تموت. لكنها لم تلبث أن شعرت بالخلاص من حجر الحياة الذي كان يحوم فوق كيانها، ولما رأت أباها منهارا وسمعت الصيحات المريعة، الصيحات الوحشية المنطلقة من أمها في الجانب الآخر من الباب، نسيت نفسها ونسيت ألمها الشخصي.
اندفعت نحو أبيها، لكنه أشار إلى حجرة أمها بحركة عاجزة كلية. وظهرت الأميرة ماري شاحبة كل الشحوب، تسري في فكها الأسفل ارتعادة، وجاءت إلى ناتاشا فأخذتها من يدها وهي تقول لها شيئا، لكن ناتاشا ما كانت تراها ولا تسمعها، اقتربت بخطى سريعة ثم توقفت فترة قصيرة أمام الباب وكأنها تستجمع شتاتها ثم اندفعت نحو أمها.
وكانت الكونتيس ممددة على مقعد تتلوى فريسة لحركات عصبية غريبة وتضرب رأسها بالجدار، بينما كانت سونيا وبعض الخادمات يمسكن بذراعيها.
صاحت وهي تدفع المحيطات بها: ناتاشا، ناتاشا! ... هذا غير صحيح، غير صحيح ... إنه يكذب ناتاشا، اذهبن كلكن عني هذا غير صحيح! لقد قتلوه! ... آه! آه! آه! ... هذا غير صحيح!
فوضعت ناتاشا إحدى ركبتيها على المقعد وانحنت على أمها فأحاطتها بذراعيها، وأدارت نحوها وجهها الذي أدنت منه وجهها بقوة غير منتظرة. ... أماه العزيزة! ... إنني هنا يا أماه ...
وراحت تتمتم بكلمات دون أن تصمت لحظة واحدة.
ودون أن تفلت أمها وهي تظهر حيالها مقاومة حانية، أخذت تطلب استحضار وسائد وماء، ثم نزعت عنها ذراعيها ووضعتها بشكل مريح في ثيابها.
استمرت تقول وهي تغمر رأسها بالقبلات ويديها ووجهها وتشعر بدموعها الشخصية التي لم تستطع مسكها تسيل فتدغدغ أنفها ووجنتيها: صديقتي، أمي العزيزة.
ضغطت الكونتيس على يد ابنتها وأغمضت عينيها، ثم هدأت بعض الشيء، وفجأة نهضت بحيوية غير منتظرة وألقت حولها نظرة مجنونة، فلما شاهدت ناتاشا ضمت رأسها بكل قواها بين يديها، ثم أدارت نحوها وجه ابنتها المتقلص بفعل الألم وتأملته طويلا.
قالت بصوت خافت وبلهجة مستسلمة: ناتاشا، إنك تحبينني، ناتاشا، إنك لا تخدعينني؟ ستقولين لي الحقيقة كلها؟
نظرت إليها ناتاشا بعينيها الطافحتين بالدموع فلم يعد وجهها إلا توسلا وحبا. كررت وهي توتر كل قوى مودتها وكأنها تريد أن تحمل نفسها هذه الموجة من الألم التي كانت تسحق أمها: أمي الصغيرة!
وفي صراعها الكليل ضد الحقيقة، وبرفضها الاعتقاد بأنها يمكن أن تعيش بينما قتل منذ حين ولدها العزيز في زهرة شبابه؛ أنقذت هذه الأم نفسها بدخولها عالم الهذيان.
لم تستطع ناتاشا أن تتذكر كيف انقضى ذلك النهار والليل الذي تلاه ثم النهار والليل التاليان، لم تنم ولم تترك أمها، كان حبها الثابت الصبور الذي ما كان يحاول إيجاد التفسير أو إزجاء العزاء، ولكن كان أشبه بنداء إلى الحياة يحيط بالكونتيس من كل ناحية وفي أية لحظة.
وفي الليلة الثالثة هدأت الكونتيس بضع دقائق فأغمضت ناتاشا عينيها مسندة رأسها إلى ذراع الأريكة، وقعقع السرير ففتحتهما، كانت الكونتيس جالسة تتحدث بصوت خافت: كم أنا سعيدة لعودتك! إنك متعب، هل تتناول شايا؟ واقتربت ناتاشا منها، بينما استرسلت الكونتيس تقول وهي تمسك يد ابنتها: كم أصبحت فتى جميلا، إنك الآن رجل! - أماه ما هذا الذي تقولين؟! ... - ناتاشا، إنه قضى، لم يعد له وجود!
وطوقت ابنتها، وراحت الكونتيس تبكي للمرة الأولى.
الفصل الثالث
رحيل ماري وناتاشا
أرجأت الأميرة ماري سفرها، وحاول الكونت وسونيا عبثا أن يحلا محل ناتاشا قرب الكونتيس، كانا يشعران بأنها وحدها القادرة على انتزاع أمها من جنون اليأس، لم تغادرها لحظة واحدة طيلة ثلاثة أسابيع، كانت تنام إلى جانب الكونتيس على المقعد وتقدم لها الطعام والشراب، تحدثها باستمرار لأن صوتها المهدهد الحاني وحده كان قادرا على تهدئتها.
ما كان الجرح المعنوي الذي أصيبت به الأم المسكينة يقبل الشفاء، لقد انتزع موت بيتيا منها نصف حياتها.
وعندما خرجت من غرفتها بعد شهر من تلقيها نبأ موت ابنها لم تعد الكونتيس، التي حملت برشاقة ودون عناء سنيها الخمسين، إلا امرأة كهلة، نصف ميتة، فقدت لذة الحياة، لكن ذلك الجرح نفسه الذي قتل الكونتيس نصف قتل دعا ناتاشا إلى الحياة.
إن جرح الروح الذي ينجم عن انقلاب الكيان الداخلي يشبه، مهما بلغ التشابه من غرابة، جرحا عميقا في الجسد لا يلتئم داخليا بعد شفائه الظاهر إلا نتيجة لاندفاع القوة الحيوية.
وهذا ما حصل بالنسبة إلى جرح ناتاشا، كانت تظن أن حياتها قد انتهت.
وفجأة أظهر لها حبها لأمها أن سبب حياتها الموجب، أي الحب، لا يزال حيا في نفسها، ولقد أظهر الحب نفسه ومعه الحياة.
ولقد ربطت أيام الأمير آندريه الأخيرة ناتاشا بالأميرة ماري، وقربت هذه المصيبة الجديدة بينهما أكثر من ذي قبل، ولما أرجأت الأميرة ماري سفرها أخذت تعنى بناتاشا وكأنها تعالج طفلا مريضا طيلة الأسابيع الثلاثة التي تلت ذلك، إن الأسابيع الأخيرة التي أمضتها ناتاشا في حجرة أمها حطمتها تحطيما.
وذات يوم، في فترة بعد الظهر، شاهدت الأميرة ماري ناتاشا ترتعد من الحمى، فأخذتها إلى غرفتها وأرقدتها في فراشها. تمددت ناتاشا، ولكن عندما أرادت الأميرة ماري أن تخرج بعد أن أسدلت الستر، نادتها ناتاشا إليها: ليست بي حاجة إلى النوم يا ماري، اجلسي بجانبي. - أنت متعبة، حاولي أن تنامي قليلا. - كلا، كلا، لماذا أتيت بي إلى هنا؟ سوف تدعوني الآن. - إنك تعلمين تماما أنها أفضل كثيرا من ذي قبل، لقد تحدثت اليوم بتعقل كبير!
راحت ناتاشا المتمددة على السرير تتأمل وجه الأميرة في عتمة الغرفة، حدثت نفسها: «ترى هل تشبهه؟ نعم ولا، لكن فيها كل شيء خاص، واضح، جديد كل الجدة، مجهول، ثم إنها تحبني، ماذا في أعماق نفسها؟ لا شيء غير طيب. ولكن ماذا؟ ماذا تفكر؟ ماذا ترى في؟ نعم، إنها روح طاهرة طيبة.»
قالت باستحياء وهي تمسك يدها: ماشا، ماشا، لا تفكري في أنني رديئة، أليس كذلك؟ يا عزيزتي ماشا الصغيرة، كم أحبك! لنكن صديقتين، صديقتين حقيقيتين.
وأحاطتها ناتاشا بذراعيها، وراحت تغمر وجه الأميرة ماري ويديها بالقبلات في خجل وسعادة معا.
ومنذ ذلك اليوم قامت بينهما تلك الصداقة المدنفة الحانية، التي لا يمكن أن تكون إلا بين النساء، ما كانتا تكفان عن تبادل القبل والكلمات الودودة، وتقضيان الوقت كله معا تقريبا. فإذا كانت واحدة منهما تبتعد كانت الأخرى تحس بالقلق فتهرع للحاق بها، كانتا تشعران بانسجام كبير كلما كانتا معا أكثر من شعورهما به وهما منفصلتان وكل واحدة حيال نفسها، وكان الشعور الذي يجمع بينهما أقوى من الصداقة كان ذلك الشعور قائما على أساس اعتقادهما الراسخ بعدم استطاعة إحداهما الحياة بدون الأخرى.
كان يقع لهما أن تظلا ساعات طويلة دون أن تتحدثا، ويقع لهما أن تبدأا الحديث بعد أن تستلقيا للنوم وأن تتحدثا حتى الصباح، كانتا ترويان لبعضهما في الغالب ماضييهما البعيد جدا، فتصف الأميرة ماري طفولتها وأمها وأباها وأحلامها. أما ناتاشا، التي كانت تشيح من قبل، بعدم فهم هادئ، عن فكرة الزهد المسيحي، ناتاشا التي باتت مرتبطة بحبها إلى الأميرة ماري؛ فإنها أصبحت تحب ماضي صديقتها نفسه، وتدرك هذا الجانب من الحياة الذي ظل مستغلقا عليها. ما كانت تفكر في أن تطبق على حياتها الشخصية الإذلال والتضحية، لأنها كانت متعودة على البحث عن مختلف المسرات، لكنها أخذت تدرك الفضائل التي كانت ممتنعة الفهم عليها من قبل وتعجب بها في شخص آخر، بينما راحت الأميرة ماري نفسها تكتشف عالما مجهولا منها حتى ذلك الحين: الإيمان بالحياة، الإيمان بمباهج الحياة، وهي تصغي إلى أقاصيص ناتاشا عن طفولتها ويفعتها.
كانتا تتدبران أمرهما بحيث لا تتكلمان أبدا «عنه» حتى لا تدركا بالكلمات - أو على الأقل هذا ما كانتا تظنانه - سمو الشعور الذي تكنانه في نفسيهما، فكان هذا الصمت يعمل بشكل جعلهما تدريجيا تنسيان الأمير آندريه.
هزلت ناتاشا وشحبت، وأصبحت على درجة من الضعف، حتى بات كل الناس يسألون عن صحتها، فكان ذلك يلذ لها. لكنها كانت أحيانا عرضة للخوف ليس من أن تموت فحسب، بل من أن تقع مريضة وأن تضعف وتفقد جمالها وأحيانا برعمها، كانت تتأمل بانتباه ذراعها النحيلة وتدهش لهزالها، أو تلقي صباحا نظرة على وجهها المتقلص في المرآة فيبدو لها مثيرا للشفقة. كان يخيل إليها أنه لا بد وأن يكون الحال على هذا النحو، لكنها رغم ذلك كانت تجده أمرا محزنا ومخيفا.
وذات يوم صعدت مسرعة جدا فبهرت أنفاسها تماما، فلم تلبث أن ابتدعت لا شعوريا سببا آخر للهبوط لتعود إلى الصعود بسرعة كلية مرة أخرى، قصد اختبار جلدها وقوتها وإدراك مداهما.
ومرة أخرى استدعت دونياشا فخانها صوتها فنادتها مرة أخرى - رغم سماعها صوت خطاها - بصوتها الثاقب الذي كانت تغني به، وراحت تصغي إلى صوتها بدورها.
ما كانت تشعر بذلك، بل وما كانت تريد أن تصدقه، ولكن تحت الطبقة الكثيفة التي خيل إليها أنها تغطي روحها أخذت بعض الحشائش النضيرة الدقيقة تطل برأسها، مبشرة بالنمو المطرد ودفع الغم الذي يخنقها بشدة، لدرجة لن يلبث معه أن تدرس آثاره فيتعذر رؤيتها، لقد كان جرحها يلتئم من الداخل.
وفي نهاية كانون الثاني ذهبت الأميرة ماري إلى موسكو، فألح الكونت على ناتاشا أن تذهب معها كي تستشير الأطباء هناك.
الفصل الرابع
بلبلة القيادة الروسية
بعد اصطدام الجيوش في فيازما، حيث لم يتمكن كوتوزوف من منع قطعاته الراغبة في قلب العدو وقطعه، استمر تقهقر الجيش الفرنسي الفار ومطاردة الجيش الروسي له دون قتال حتى كراسنواييه. وكان الجيش الفرنسي سريعا في فراره، حتى إن الجيش الروسي الذي كان يطارده لم يكن يتمكن من اللحاق به، وإن الجياد باتت تنهار تحت فرسانها وتعجز عن أداء عملها في سلاح المدفعية، وإن المعلومات المستقاة عن تحركات الفرنسيين كانت دائما خاطئة.
وبلغ الإعياء بالجنود الروسيين من هذا الانتقال اليومي المستمر، الذي كانوا يقطعون خلاله أربعين فرسخا في اليوم، مبلغا جعلهم عاجزين عن زيادة سرعتهم.
ولإدراك درجة إنهاك الجيش الروسي يكفي معرفة حقيقة أن هذا الجيش منذ تاروتينو لم يخسر إلا خمسة آلاف رجل بين قتيل وجريح وبالكاد مائة أسير، وأنه عندما خرج من تاروتينو بمائة ألف رجل بات عدده الآن لا يتجاوز الأربعين ألفا في كراسنواييه.
فسرعة المطاردة إذن كانت ذات أثر مذيب على الجيش الروسي بمثل ما كان الفرار على الجيش الفرنسي، مع فارق واحد هو أن الجيش الروسي كان يتقدم دون الخوف من الفناء المعلق فوق الجيش الفرنسي، الأمر الذي ينجم عنه أن المتخلفين الفرنسيين كانوا يقعون بين أيدي الروسيين، أما المتخلفون من هؤلاء فيمكثون في بلادهم. والسبب الرئيسي إذن لانحلال جيش نابليون كان ناجما عن سرعة جري هذا الجيش، ولدينا على ذلك الدليل الذي لا يقبل النقض في انحلال الجيش الروسي المماثل.
كان نشاط كوتوزوف كله يهدف فقط، كما في تاروتينو وفي فيازما، إلى عدم إعاقة التقهقر الفرنسي بقدر ما يقع ذلك في نطاق طاقته، خلافا لما كانوا يريدون في بيترسبورج ولما كان يريده جنرالات الجيش الروسي، بل مساعدة تقدم قطعات العدو وتسهيل سيره.
ولكن عدا عن الإنهاك الذي كان الجيش الروسي يظهره، والخسائر الفادحة التي سببها له سيره السريع، فإن سببا آخر كان يدعو كوتوزوف إلى إبطاء حركة قطعاته وتلطيف حدتها، كانت غاية الروسيين مطاردة الفرنسيين، في حين أن الطريق الذي سيسلكه الفرنسيون كان مجهولا منهم، لذلك كلما تقدم رجالنا على آثار الفرنسيين حث هؤلاء خطاهم ليباعدوا المسافة بينهم، فلم يكن ممكنا قطع الخطوط المتعرجة التي كان الفرنسيون يرسمونها في سيرهم باللجوء إلى الطرق المختصرة، إلا عن طريق مرافقتهم طيلة مسافة كبيرة. وكانت التحركات العاقلة كلها التي كان الجنرالات يعرضونها تلخص في حركات تقدم طردية وعكسية عديدة وزيادة في طول المراحل، في حين أن الهدف المعقول الوحيد كان على العكس في تقصيرها. ونحو هذا الهدف تركزت حيوية كوتوزوف خلال كل الحملة من موسكو إلى فيلنا، ليس بمحض الصدفة أو تبعا لعرض مفاجئ بل بذكاء متسلسل محكم، حتى إنه لم يحد مرة واحدة عن الطريق.
كان كوتوزوف يعرف، ليس بفضل استنتاجاته الفكرية أو بمعرفته العسكرية بل بطبيعته الروسية، يعرف ويشعر بما يشعر به كل جندي روسي وهو أن الفرنسيين قد هزموا، أن الأعداء يفرون وأنه يجب مطاردتهم، لكنه كان يحس بنفس الوقت مثل جنوده بثقل هذه الحملة كلها، الفريدة بسرعتها وبالفصل الذي وقعت فيه من السنة.
أثناء ذلك كان الجنرالات، وبصورة خاصة غير الروسيين منهم، الراغبون في إظهار تفوقهم وإحداث الدهشة وأسر دوق أو ملك ليجروا من ورائه بعض الغنم؛ كانوا يفكرون على العكس بأن اللحظة قد أزفت لخوض المعركة والانتصار على عدو ما، ويريدون ارتكاب هذه الخطيئة المروعة المنافية، لكن كوتوزوف كان يكتفي بهز كتفيه عندما كانوا يفدون واحدا إثر آخر يقومون مشاريع تحركات جديدة لتنفيذها برجال شبه حفاة، محرومين من الألبسة الدافئة، نصف مجوعين، ذابوا خلال شهر واحد دون أي قتال حتى بلغوا النصف، كان يجب أن يقطعوا حتى الحدود مسافة أطول كثيرا من التي قطعوها حتى الآن، هذا إذا استمرت مطاردة الهاربين ضمن أفضل الشروط.
وكانت هذه الرغبة العنيفة بالظهور والتحرك وصد العدو وقطعه، تظهر بصورة خاصة عندما كان الجيش الروسي يصطدم بالجيش الفرنسي.
وهذا ما حصل في كراسنواييه حيث ظن أنهم لن يجدوا إلا جمهرة واحدة من جمهرات الفرنسيين الثلاث، فوقعوا على نابليون بالذات على رأس جيش قوامه ستة عشر ألف رجل، وعلى الرغم من كل الوسائل التي لجأ إليها كوتوزوف ليتحاشى ذلك الاصطدام السيئ المغبة وتوفير قطعاته، فإن الجيش الروسي المنهوك انهمك طيلة ثلاثة أيام في كراسنواييه لتحطيم زمر الفرنسيين.
ولقد وضع تول الخطة: القطعة الأولى تتحرك ... وهلم جرا. وكالعادة دائما لم يقع شيء وفقا للخطة، فالأمير أوجين دو وورتمبرج الذي كان يطلق النار من على مرتفع على التجمهرات الفرنسية طلب إمدادات لم تصل، والفرنسيون انتهزوا فرصة الظلام ليلفوا ويخدعوا الروسيين، فتبعثروا واختفوا في الغابات وتوصلوا على شكل ما إلى شق طريق لأنفسهم.
وميلورادوفيتش، الذي كان يزعم أنه لا يأبه لشيء من احتياجات فرقته المادية، والذي ما كان يمكن إيجاده عند الحاجة الماسة إليه، ميلورادوفيتش الفارس الذي لا يهاب ولا يلام كما كان يدعو نفسه بنفسه، ذلك الهادي للمفاوضات؛ أرسل رسلا يطالب باستسلام الفرنسيين فأضاع وقته وعمل عكس ما أمر به تماما.
قال لفرسانه وهو يتقدم أمام قطعاته ويشير إلى الفرنسيين أمامه: يا أولادي! أعطيكم هذه الفرقة.
وراح فرسانه على جيادهم التي كانت تتحرك بشق النفس، والتي كانوا يدفعونها إلى الأمام ضربا بمهاميزهم وسيوفهم، يجرون خببا خفيفا بكثير من الجهد، ويلقون بأنفسهم على الفرقة الفرنسية التي قدمها لهم هدية، أي على رجال بائسين خدرهم البرد كلهم فباتوا نصف متجمدين، ولم تلبث الفرقة أن ألقت سلاحها واستسلمت ، وهو الأمر الذي كانت تتوق إليه منذ أمد كبير.
أسروا في كراسنواييه ستة وعشرين ألف أسير، وغنموا حوالي مائة مدفع وعصا زعموا أنها عصا ماريشال، وبعد أن تناقشوا لمعرفة المبرزين بينهم ارتضى كل منهم بحقه لكنهم أسفوا أشد الأسف لأنهم لم يأسروا نابليون أو على الأقل واحدا من الأبطال ماريشالا ما، وراحوا يتبادلون اللوم ملقين الذنب كله على كاهل كوتوزوف فوق كل ذلك.
هؤلاء الناس الذين تدفعهم أهواؤهم ما كانوا إلا أدوات عمياء لأسوأ الضرورات وأكثرها حزنا، لكنهم كانوا يعتقدون بأنهم أبطال ويتصورون أنهم قاموا بأكثر المآثر نبلا واستحقاقا للثواب. كانوا يتهمون كوتوزوف ويزعمون بأنه منعهم منذ بدء الحملة عن هزم نابليون، وأنه لا يفكر إلا في إرضاء أهوائه وعدم مغادرة إقليم «فيلاتور» - وهو إقليم واقع على طريق كالوجا في مقاطعة ميلاين، يملكه حينذاك كما يملك مصانع النسيج فيه التي استمد منها اسمه، آل جوتشاروف، أسرة زوج بوشكين، وقد توقف كوتوزوف في ذلك الإقليم بعض الوقت عام 1812 - لأنه يعيش فيه بسلام، وأنه في كراسنواييه أوقف الحركة لأنه أضاع صوابه تماما حينما علم بوجود نابليون بالذات، وأنه يمكن الافتراض بأنه على اتفاق مع نابليون وأنه باع نفسه إليه، وهلم جرا (مذكرات ويلسن).
ولم يكن المعاصرون وحدهم الذين أعماهم الهوى هم الذين تخرصوا على هذا الشكل، بل إن الجيل الصاعد والتاريخ ناديا بعظمة نابليون، وقال الأجانب عن كوتوزوف إنه ثعلب عجوز فاجر رجل بلاط غير جريء، أما الروسيون فقد وصفوهم على اعتبارهم مخلوقا لا يمكن تحديد وصفه أشبه بصورة من الورق المقوى، نافعة فقط لأنها تحمل اسما روسيا ...
الفصل الخامس
إنصافا لكوتوزوف
اتهموا كوتوزوف بصراحة خلال سنتي 1812-1813 وكان الإمبراطور شديد الاستياء منه، ولقد جاء في تاريخ حرر بناء على رغبة سامية أن كوتوزوف كان رجل بطانة ماكر وكذاب، يروعه مجرد ذكر اسم نابليون، حرم الجيش الروسي في كراسنواييه وفي بيريزينا بفضل أخطائه من مجد هزيمة الفرنسيين هزيمة كاملة.
ذلك هو مصير ليس الرجل القيم الرجل العظيم الذي ترفض العقلية الروسية الاعتراف به ، بل الرجال النادرون دائمو الانفراد يخضعون مشيئتهم الشخصية لمشيئة القدر التي يتفهمونها. إن حقد الجمهور واحتقاره يعاقب هؤلاء الرجال على تفهمهم النظم العليا.
إن نابليون، أداة التاريخ التافهة تلك، الذي لم يظهر في أي مكان حتى ولا في المنفى ما يدل على الكرامة الإنسانية، نابليون هذا في نظر المؤرخين الروسيين (وهو غريب وبشع أن يقال) موضع إعجاب وحماس، وهو رجل عظيم. أما كوتوزوف، هذا الرجل الذي لم يناقض نفسه مرة واحدة من البداية حتى النهاية طيلة نشاطه عام 1812، من بورودينو وحتى فيلنا، في كل تصرفاته ولا في أقواله، هذا الرجل الذي يبدو في التاريخ كمثال خارق للتضحية بالذات وللتعمق في معرفة المستقبل؛ فإنه يبدو لهم على العكس مخلوقا مترددا يستحق الرثاء، يشعر المرء بلون من الخجل كلما تحدث عنه في عام 1812.
كوتوزوف.
مع ذلك فإن من العسير تصور شخصية تاريخية تبعث نهائيا هدفا واحدا بكل ذلك الدأب والثبات، من العسير تصور غاية أكثر نبلا وأكثر انسجاما مع إرادة شعب بأكمله، وكذلك أنه عسير أكثر إيجاد مثال في التاريخ بلغ الهدف المنشود سلفا من جانب شخصية تاريخية ما؛ بمثل ذلك الكمال الذي بذل كوتوزوف قواه فيه كلها خلال مجرى عام 1812 لبلوغه.
لم يتحدث كوتوزوف قط عن القرون الأربعين التي تطل علينا من أعالي الهرم، ولا عن التضحيات التي كان يبذلها في سبيل وطنه، ولا عما عمله أو ما كان ينوي عمله، ما كان يتحدث عن نفسه قط بصورة عامة، ولا يبحث عن أن يلعب أي دور، يظهر نفسه دائما أكثر الرجال بساطة وسلامة نية. كان يكتب لبناته ولمدام دوستايل، ويقرأ الروايات، ويحب عشرة النساء الجميلات، يمزح مع جنرالاته وضباطه وجنوده، لا يناقض قط أشخاصا يتحدثون إليه بشيء ما. ولما جاء الأمير روستوبتشين راكضا على ظهر جواده عند جسر أياووزا يكيل له اللوم الشخصي ويتهمه بأنه كان سبب ضياع موسكو، ويقول له: «كيف؟! لقد وعدت ألا تهجر المدينة دون قتال»؛ أجابه كوتوزوف: «لست أنوي هجر موسكو دون قتال» رغم أن موسكو كانت حينذاك في أيدي الأعداء. ولما جاء أراكتشييف يقابله من لدن الإمبراطور ليقول له بأنه يجب أن ينيط قيادة المدفعية بإيرمولوف، أجابه: «نعم، هذا تماما ما كنت أقوله شخصيا منذ حين»، رغم أنه كان قبل دقيقة واحدة يقول عكس ذلك، وأية أهمية كانت لذلك في نظره؟ هو الذي كان وحده يدرك المعنى الرائع للأحداث وسط الحشد الأبله الذي كان فيه، أية أهمية لأن يعزو روستوبتشين لنفسه المصائب التي حلت بالعاصمة أو أن يعزوها إليه؟ فكم بالأجدر ألا يأبه لمعرفة من سيعين قائدا للمدفعية!
لقد كان ذلك العجوز ليس في هذه المناسبات فحسب بل بصورة مستمرة، يتفوه بالكلمات العارية عن أي معنى أول ما يتبادر إلى ذهنه من كلمات، وهو الذي اكتسب من الخبرة في الحياة الإيمان بأن الآراء والكلمات التي تعبر عنها ليست هي التي توجه البشر.
لكن هذا الرجل نفسه الذي كان قليلا ما يأبه لما يقول، لم يدع خلال حياته العملية كلها كلمة تفلت منه دون أن تكون متفقة مع الهدف الأوحد الذي كان ينشده طيلة مدة الحرب. ولقد كشف في مناسبات عديدة عن حقيقة فكرته، حيث تسلط عليه التأكد الأليم بأن ما من أحد يفهمه. واعتبارا من معركة بورودينو، التي هي السبب الرئيسي لاختلافاته مع المحيطين به، كان وحده الذي قال: «إن معركة بورودينو نصر»، وكرر ذلك بإلحاح وبصوت مرتفع في تقاريره وفي اتصالاته حتى ساعة موته. وهو وحده الذي قال: «إن ضياع موسكو ليس ضياع روسيا.» وفي جوابه على عروض الصلح التي قدمها لوريستون أعلن أن «السلم غير ممكن، لأن تلك هي مشيئة الشعب». وهو وحده الذي أعلن عند تقهقر الفرنسيين: «إن كل تحركاتنا عقيمة، وإن كل شيء سيسوى من تلقاء نفسه على نحو أفضل مما نتمناه، وإنه يجب أن نصنع للأعداء جسرا من ذهب، وإن معارك تاروتينو وفيازما وكراسنواييه ليست ضرورية، وإن الأمر يتطلب الوصول إلى الحدود بقوات كافية»، وإنه لا يعطي جنديا روسيا واحدا لقاء عشرة جنود فرنسيين.
وهذا الرجل وحده، الذي يصورونه لنا على شكل ملاق مذنب لأنه كذب على أراكتشييف ليرضي الإمبراطور، هو وحده الذي تجرأ في فيلنا على التعرض لغضبة مليكه حين قال: «إن حربا تدفع إلى ما وراء الحدود ستكون حربا ضارة، ولا غاية لها.»
لكن كلماته ليس وحدها التي يمكن أن تكون برهانا على تفهمه لمعنى الأحداث، إن تصرفاته كلها دون أي استثناء تهدف نحو الهدف الثلاثي نفسه: (1) تركيز كل قواته بانتظار اشتباك منتظر مع الفرنسيين. (2) هزيمتهم. (3) وطردهم من روسيا، والإقلال بقدر المستطاع من آلام الشعب والجيش.
إنه هو، كوتوزوف المتمهل، الذي كان شعاره «الصبر وطول الوقت»، كوتوزوف عدو كل نشاط حاسم، الذي يشتبك في معركة بورودينو وهو يضفي على استعداداته جلالا لا مثيل له، إنه هو كوتوزوف هذا نفسه الذي أعلن في أوسترليتز قبل خوض المعركة أنها ستكون هزيمة، والذي أكد في بورودينو رغم ما أكده جنرالاته كلهم من أن المعركة قد خسرت، ورغم المثل الأوحد في التاريخ الذي شوهد فيه جيش ظافر يغادر ساحة المعركة مرغما؛ إنه هو وحده ضد الجمع الذي أكد حتى الموت أن معركة بورودينو كانت نصرا. إنه وحده الذي ألح طيلة تقهقر الفرنسيين على وجوب تحاشي القتال الذي أصبح عقيما منذ أن بدأ التقهقر، كي لا تبدأ حرب جديدة وكي لا يوغل في ما وراء الحدود الروسية.
إن من السهل اليوم فهم معنى الحدث إذا أردنا أن نترك جانبا تلك الكتلة من الأهداف التي كانت تملأ رأس حفنة من الرجال، لأن الحدث في كليته وبكل نتائجه ينبسط تحت أعيننا.
ولكن كيف استطاع ذلك العجوز، الوحيد ضد الجميع، أن يفرق منذ البداية وبمثل هذه الدقة المتناهية غاية الشعور الشعبي في ذلك الحدث، تلك الغاية التي لم يتنح عنها مرة واحدة طيلة فترة نشاطه كلها؟
لكن كان مصدر ذلك التفهم الخارق لمعاني الوقائع الجارية هو ذلك الشعور الشعبي، الذي كان يحمله في نفسه على غاية النقاء وفي كل قوته.
ولمعرفة الشعب بهذا الإحساس في نفسه انتخبه الشعب بوسائله الغريبة، هذا العجوز المغضوب عليه، ضد رغبة القيصر ؛ ليجعل منه ممثلا للحرب الشعبية. إن هذا الإحساس وحده هو الذي سما به إلى الدرجة القصوى من الرفعة الإنسانية، التي كان القائد الأعلى يدير من أعلاها كل قواه لا ليقتل الرجال ويبيدهم، بل لينقذهم ويوفر حيواتهم.
وهذه الصورة البسيطة المتواضعة، وبالتالي العظيمة عظمة حقيقة، ما كان يمكن أن تنطبع في قالب البطل الأوروبي الكاذب الذي زعم أنه مسير الشعوب كما تصوره التاريخ.
ذلك أنه لا يمكن أن يكون هناك رجل عظيم بالنسبة إلى الوصيف، لأن للوصيف طريقته الخاصة به في تفهم العظمة.
الفصل السادس
خطاب القائد الأعلى
كان اليوم الخامس من تشرين الثاني هو اليوم الأول للمعركة المسماة بمعركة كراسنواييه. حوالي المساء، بعد عدد من المناقشات، وبعد تحركات خاطئة من جانب الجنرالات الذين لم يقودوا الجيوش إلى حيث كان يجب أن تكون، وبعد إرسال المساعدين العسكريين إلى مختلف الجهات وهم يحملون الأوامر المناقضة، وبعد أن بات واضحا أن العدو يفر من كل الجهات، وأن أية معركة لن تقع كما لا يمكن أن تقع؛ غادر كوتوزوف كراسنواييه ومضى إلى دوبرواييه حيث نقل مركز القيادة العامة خلال النهار.
كان النهار صاحيا مقرسا، وكوتوزوف ترافقه حاشية ضخمة من الجنرالات النافرين منه المتهامسين وراء ظهره يتجه نحو دوبرواييه على متن جواده الأبيض، وعلى طول الطريق كانت الفرق الفرنسية التي أسرت خلال النهار محتشدة متراصة وعددها يناهز السبعة آلاف رجل تقريبا، تصطلي الدفء حول نيران مشبوبة. وبالقرب من دوبرواييه كان حشد كبير من الأسرى في ثياب خلقة التفوا واتشحوا بأول ما وقعت عليه أيديهم من الأسمال البالية يتناقشون بلفظ، واقفين على الطريق إلى جانب رتل طويل من المدافع الفرنسية المحلولة، فلما اقترب الجنرال القائد الأعلى هدأت الأصوات وشخصت الأبصار كلها إلى كوتوزوف في قلنسوته البيضاء ذات الحافة الحمراء، المتدثر بمعطفه الضخم المبطن المرفوع باحديداب فوق كتفيه المقوستين، وهو يتقدم ببطء على جواده وقد راح أحد الجنرالات يشرح له مصدر المدافع والأسرى.
وكان كوتوزوف بادي الاستغراق حتى لكأنه لا يسمع أقوال الجنرال.
كان يرف بعينيه بامتعاض ، وينظر إلى أشباح الأسرى بثبات متيقظ وهم في مظهرهم المتغرد في الإيلام، كان معظمهم مشوهين بوجناتهم وأنوفهم المتجمدة، وعيونهم جميعا تقريبا كانت حمراء منتفخة ومتقيحة.
وفي زمرة من الفرنسيين الواقفين إلى جانب الطريق وعلى مقربة كان جنديان، أحدهما تغطي البثور وجهه، يمزقان بأيديهما قطعة من اللحم النيء، وكان في النظرة المختلسة التي ألقياها على الجنرالات وفي التعبير الحقود الذي دل عليه الجندي ذو البثور حينما أشاح برأسه عن كوتوزوف بعد أن عاينه مليا واستمر في عمله؛ شيئا من الهول والحيوانية.
تأمل كوتوزوف طويلا وبانتباه هذين الجنديين، فتقعر وجهه المتغضن أكثر من ذي قبل وطرفت عيناه وهز رأسه ساهما. وفي مكان آخر لاحظ جنديا روسيا كان يضحك وهو يضرب على كتف أحد الفرنسيين ويقول له شيئا ما بمودة، فبدت تلك الأمارات الساهمة على وجه كوتوزوف من جديد وهز رأسه أيضا.
سأل الجنرال الذي كان لا يزال يدلي بتقريره، محاولا أن يجتذب انتباه القائد الأعلى على الرايات الفرنسية التي أسرت كذلك، والتي نصبوها على مقدمة فيلق بريوبراجنسكي: ماذا تقول؟ آه! الأعلام.
ولقد نطق بهذه الكلمة وهو ينتزع نفسه بجهد ظاهر من موضوع انشغاله الداخلي، ألقى حوله نظرة ساهمة، كانت ألوف العيون من حوله شاخصة إليه بانتظار ما سيقوله.
توقف أمام فيلق بريوبراجنسكي ثم أطلق زفرة عميقة وأغمض عينيه، وقام أحد مرافقيه بحركة يستقدم بها حملة الأعلام حول الجنرال القائد الأعلى، وبعد بضع ثوان رفع كوتوزوف رأسه وراح يتكلم، مغتصبا أقواله بشكل ملحوظ تمشيا مع متطلبات الموقف، فأحاط به حشد من الضباط أخذ يجول بأبصارهم في دائرتهم وتعرف بعضهم.
صاح وهو يخاطب الجنود أولا ثم الضباط: أشكركم جميعا - ولقد برزت كل كلمة من كلماته بوضوح كامل في ذلك الصمت الذي ران - أشكركم جميعا على خدمتكم الشاقة المخلصة. إن النصر تام، وروسيا لن تنساكم. المجد لكم إلى الأبد!
وصمت وهو ينظر حوله، ثم قال لجندي كان يحمل نسرا فرنسيا خفضه دون قصد أمام راية فيلق بريوبراجنسكي: اخفض رأسه، أكثر انخفاضا، أكثر، هكذا، هكذا!
وصاح يوجه صيحته إلى الجنود وقد ارتجت ذقنه بحركة مفاجئة: هورا، أيها الأولاد!
فزمجرت ألوف الأصوات: هرر ... را ... ا ... ا!
ولقد أطرق كوتوزوف طيلة الوقت الذي ظل الجنود خلاله يزمجرون، وهو منحن فوق سرجه، وفي عينه الوحيدة وميض لذيذ يقارب المكر. ولما هدأت الأصوات قال: وهذا كل ما هناك أيها الإخوان!
كوتوزوف يخطب في الجيش.
وفجأة غير تعابير وجهه وطبقة صوته: لقد تكلم القائد الأعلى، والآن أزف دور عجوز بسيط جدا يريد أن ينهي إلى رفاقه شيئا ما مهما.
ارتفعت في الصفوف بين الجنود وبين الضباط حركة تدل على رغبة هؤلاء في الإصغاء إلى ما سيقوله بشكل أفضل: وهذا كل ما هناك أيها الإخوان! إنني أعرف أن هذا قاس عليكم، ولكن ما العمل؟ اصبروا، سنبلغ الغاية قريبا، سوف نستريح بعد أن نشيع ضيوفنا. أما ثمن خدماتكم فإن القيصر لن ينساكم. هذا قاس، لكنكم رغم ذلك في وطنكم، أما هم - وأشار إلى الأسرى - إنكم ترون إلى أي حال وصلوا، لقد باتوا أسوأ من أسوأ المتسولين! ما كنا نشفق حتى على أنفسنا ما زالوا أقوياء، أما الآن فيجب أن نشفق عليهم أيضا إنهم بشر كذلك، أليس كذلك يا أولاد؟
ونظر حوله مرة أخرى، فقرأ في العيون المتيقظة الخاشعة المتسائلة الشاخصة إليه الانفعال الذي أيقظته كلماته في النفوس، فازداد وجهه إشراقا بابتسامته العجوز الطيبة التي رسمت نجوما من التغضنات عند ركن شفتيه وعينيه.
صمت ثم أطرق برأسه وكأنه حيران، وفجأة صرخ وهو يرفع رأسه: ولكن، من الذي دعاهم إلى المجيء إلينا؟ إنهم يستحقون ما نالهم، يا للألف لعنة!
ثم همز جواده ومضى جاريا لأول مرة خلال الحملة، وسط عاصفة من الضحك البهيج والهتافات المدوية المنطلقة من حناجر الجنود الذين تفرقت صفوفهم.
لم يفهم الجنود الكلمات التي نطق بها كوتوزوف كلها، وما من أحد كان يستطيع ترديد فحوى خطاب الفيلد ماريشال هذا الذي بدأ جليلا ثم أضحى عند نهايته بسيطا وأبويا. لكنهم أدركوا معناه العميق، ذلك الشعور من العظمة الجليلة المتحدة مع الشفقة على العدو ، ومع تفهم الحق الصريح الذي أبرزته البسة الأليفة المقبولة التي فاه بها هذا العجوز، ذلك الشعور المقيم في قلب كل جندي والذي عبرت عنه الهتافات التي دامت طويلا قبل أن تصمت، ولما جاء أحد الجنرالات بعد ذلك يسأل كوتوزوف عما إذا كان يجب استقدام عربته، صعدت إلى حنجرة هذا شهقة وهو يجيبه، شهقة مفاجئة دلت على تأثره العنيف.
الفصل السابع
اليوم الأخير
في الثامن من تشرين الثاني اليوم الأخير لمعركة كراسنواييه، كان الليل قد هبط عندما عاد الجنود إلى معسكراتهم، ولقد كان النهار كله هادئا، مجمدا، تخلله تساقط الثلوج من حين إلى آخر. لكنه حوالي المساء صحا الجو، فكانت السماء السوداء المائلة إلى اللون البنفسجي ترى خلال جوالح الثلج بنجومها المتوهجة، وازداد البرد شدة.
وصل فيلق من الرماة كان يعد ثلاثة آلاف رجل لدى خروجه من معركة بورودينو، فبلغ عدده الآن تسعمائة رجل فحسب، إلى المكان المعين لقضاء الليل، في عداد الفرق التي وصلت إلى أماكنها قبل سواها؛ إلى قرية تقوم على جانب الطريق العام. فجاء بعض رواد الجيش للقائد وشرحوا للرماة أن الأكواخ الخشبية مشغولة كلها بالمرضى والميتين من الفرنسيين والجنود والفرسان والقيادة العسكرية، وأنه لم يبق إلا كوخ واحد لقائد الفيلق.
مضى القائد إلى كوخه، أما الفيلق فقد اخترق القرية، ولما بلغ نهاية البيوت أقام جماعات حول الطريق.
لم يلبث الفيلق أن انصرف إلى العمل أشبه بحيوان هائل ذي أطراف عديدة، بدأ يبني حجرة ويعد معاشه اليومي، فهرع عدد من الجنود والثلج يغمرهم إلى ما فوق ركبهم يتبعثرون في غابة سندر كانت إلى يمين القرية، فلم تلبث جلبة الفئوس أن ارتفعت وأصوات الزناد والأغصان المهشمة والأصوات البهيجة. ومضى قسم آخر يعمل حول عربات النقل التابعة للفرقة والجياد المجمعة كالقطيع، فأعدوا القدور والبسكويت وقدموا العلف للجياد. وآخرون انتشروا في القرية لينظموا إسكان قيادة الفرقة، فأجلوا جثث الفرنسيين عن الأكواخ، واستولوا على الألواح الخشبية والحطب الجاف والقش الذي يغطي السقوف لإيقاد النيران وعلى الحواجز الخشبية لبناء الملاجئ.
وراح حوالي خمسة عشر منهم وراء الأكواخ عند طرف القرية يزعزعون، وهم يطلقون صرخات مرحة، حاجز رواق كبير انتزع سقفه من قبل، كانوا يهتفون: هيا، هيا، معا، لندفع دفعة قوية!
وفي عتمة الليل شوهد جانب كبير من الحاجز المكلل بالثلج يترنح في جلبة الجليد الذي يتحطم، وفرقعت الأوتاد السفلية وأخذت تميل ، ولم يلبث الحاجز كله أن انهار والجنود فوقه، وأفلتت سباب لاذعة من الأفواه وارتفعت قهقهات. - انتظموا اثنين اثنين! عتلة من هنا! هكذا! أين تحشر نفسك؟ - هيا، معا، كلنا! ... انتبهوا! ... بانسجام!
وران الصمت وراح صوت دقيق لطيف رخيم يغني، وفي نهاية المقطع الثالث عندما راح آخر نغم يخبو هتفت أصوات عشرين رجلا مجتمعة: «هو ... و... و! لقد لان! معا! ميلوا عليه يا أولاد!» وعلى الرغم من تلك الدفعة المركزة لم يتزحزح الحاجز، وارتفع في الصمت الذي أعقب ذلك لهث الرجال الثقيل. - هيه، أنتم، يا جنود السادسة! يا للشياطين المقدسة! ساعدونا ... سوف نرد المساعدة لكم!
وكان عشرون رجلا تقريبا من السرية السادسة يمرون حينذاك في طريقهم إلى القرية، فانضموا إليهم وراحوا يدفعون معهم، فراح الحاجز وطوله يزيد على العشرة أمتار وعرضه على المترين، وقد ارتكز ملتويا على أكتاف الجنود اللاهثين الذين كان يسحقهم بثقله ويقطع أنفاسهم، يترنح على طول شارع القرية. - هيا، تقدم يا ... إنك تتعثر أيها الحيوان ... لماذا تتوقف ...؟ هيا، اصمد!
واستمرت السباب اللاذعة المرحة لا تنقطع. وفجأة زمجر صوت صف ضابط آمر هرع صاحبه نحو الحمالين: ماذا تفعلون؟ إن الرؤساء هنا وفي الكوخ «جننار»، يا لطغمة الصعاليك يا هؤلاء! سوف أساعدكم!
وأحكم على ظهر أول جندي وصلت إليه يده دفعة قوة، واستأنف: أما كنتم تستطيعون إثارة أقل من هذه الضجة؟
صمت الجنود، بينما راح الذي تلقى الضربة من صف الضابط يمسح وجهه المغطى بالدم الذي جرح إذ اصطدم بالحاجر، وهو يزمجر مغمغما، وقال بلهجة وجلة عندما ابتعد صف الضابط: آه! الحيوان، يا للضربة التي أصابني بها! آه! إن «بوزي» كله ملطخ بالدم.
فقال صوت ساخر: إنك لا تحب ذلك، هه؟
لكن الجنود استمروا في طريقهم بعد أن خفضوا من هتافاتهم.
وعندما خرجوا من القرية عادوا يتحدثون بصخب، ويطلقون السباب بكل مناسبة ودون سبب.
وفي الكوخ الذي مر الجنود أمامه كانت القيادة العليا مجتمعة، يشرب أعضاؤها الشاي ويتناقشون بحمية حول أحداث النهار والتحركات المقررة لليوم التالي. لقد عرض القيام بمشية جناح على الجانب الأيسر لقطع فرقة نائب الملك وأسره.
ولما جاء الجنود بالحاجز المحطم كانت نيران المطاهي المتنقلة مستعرة في كل مكان والخشب يفرقع والثلج يذوب، وأطياف الجنود السوداء تروح وتجيء على طول المساحة التي يشغلونها المغطاة بالثلج الذي وطئته الأقدام.
كانت الفئوس والأزند تعمل بنشاط، وراح كل يعمل دون أن ينتظر صدور الأمر إليه، جاءوا بالحطب لإذكاء نار الليل، وأخذوا يعدون الأكواخ للرؤساء، ويطهون الطعام في القدور، وينظفون الأسلحة والتجهيزات.
أقيم الحاجز الذي جاء به رجال السرية الثامنة على شكل نصف دائرة من ناحية الشمال ودعم بالأسناد، ثم أوقدت نار المعسكر أمامه، ثم نفخ في البوق إيذانا بالاستراحة، وأجري التفقد، وأكل الجميع، ثم اتخذوا أماكنهم أمام النار لقضاء الليل؛ هذا يرفع حذاءه، وذاك يدخن غليونه، وثالث يخلع ملابسه بحثا عن «قملاته».
الفصل الثامن
لغط الجنود
كان يمكن الظن بأن الجيش الروسي، في الشروط الفظيعة التي لا يمكن تصور قسوتها تقريبا، التي كان الجندي الروسي يعاني منها وهو محروم من الأحذية المبطنة وجلود الخراف مفتقر إلى سقف فوق رأسه في درجة حرارة بلغت 18 تحت الصفر، بل ودون جرايته الكاملة لأن الأرزاق ما كانت دائما تتبع الفرق في تنقلاتها؛ كان يمكن الظن بأن الجيش الروسي يبرز مظهرا من أكثر المظاهر مدعاة للإشفاق والأسى.
على العكس: إن الجيش، حتى في الظروف المادية الأكثر مواتاة، لم يعط مشهدا أكثر وداعة وبهجة وحمية، ذلك أنه مع الوقت كان من يفقد شجاعته أو تخور عزائمه ينشق من الجيش، أي إن العناصر الضعيفة ماديا ومعنويا باتت منذ أمد طويل في المؤخرة، فلم يبق إلا زهرة الجيش القوة الروحية والجسدية.
كانت السرية الثامنة التي يحميها الحاجز تضم عددا كبيرا من الجنود، انضم إليهم رقيبان لأن النيران في السرية كانت أشد استعارا من النيران الأخرى، كان أولئك الجنود يشترطون للجلوس حول النار الإتيان بالحطب ليحق لمن يأتي به الاصطلاء.
صاح جندي أصغر، متورد الوجه، كانت عيناه تطرفان بفعل الدخان دون أن يبتعد عن النار: هيه، يا ماكييف، أين أنت ؟ ... هل ضعت أم هل افترستك الذئاب؟ جئ بحطب.
وصاح آمرا جنديا آخر: هيا، تحرك، يا مصير الخنزير جئ بحطب.
لم يكن الأمغر رقيبا حتى ولا عريفا، لقد كان جنديا قويا يستغل قوته ليتحكم بمن هم أضعف منه. نهض الجندي الصغير النحيل ذو الأنف المدبب الذي وصف بمصير الخنزير واستعد بدعة للخضوع للأمر الصادر، ولكن في تلك اللحظة بالذات ظهر على ضوء اللهب شبح ضامر لجندي شاب محمل بالحطب. - هاته إلى هنا، عال!
وكسر الحطب وحول إلى قطع صغيرة، ثم أضرمت النار وهم ينفخونها ويحركون ذيول المعاطف، ولم يلبث اللهب أن صعد مفرقعا. اقترب الجنود وأشعلوا غلايينهم، وراح الجندي الشاب الجميل الذي جاء بالحطب يقرع الأرض بنعليه بشدة وحذق وقد وضع قبضتيه على وسطه بغية بعث الدفء في قدميه المتجمدتين، ثم شرع يغني وهو يفيق لدى كل كلمة (والمعروف أن قرع الأقدام على طريقة الرقص الشعبي يشفع دائما بأغنية): آه! يا أمي الصغيرة، الندى بارد وجميل وحامل البندقية ...
صرخ الأمغر وقد لاحظ أن نعلي الراقص تالفتان: هيه! إن نعليك «طائرتان»! يا له من سم هذا الرقص!
توقف الراقص وانتزع قطعة الجلد السائبة وألقاها في النار، وقال وهو يجلس: إيه نعم، يا شيخ!
وأخرج من حقيبته قطعة من القماش الأزرق الفرنسي لف قدمه بها، وأضاف وهو يمد ساقيه نحو النار: إن الحرارة تخدرهما. - سوف يسلموننا أحذية جديدة بعد حين. يقولون إنه عندما تنتهي الأمور ستدفع لنا أجورنا مضاعفة.
قال واحد من الرقيبين: قل لي، هذا الكلب بيتروف لقد تخلف في الطريق.
فرد الآخر: كنت أشك في ذلك منذ وقت طويل. ماذا تريد «شقفة» جندي كهذا؟! ...
يقولون: إن تسعة جنود تخلفوا عن تفقد الأمس في السرية التاسعة. - ولكن تعقل قليلا، كيف يمكن متابعة المسير عندما تتجلد الأقدام؟
فهتف صف الضابط: إيه! يا للخرافة!
فقال جندي عجوز بلهجة عتاب، مخاطبا ذاك الذي تحدث عن الأقدام المتجمدة: هل بك رغبة إلى تذوق ذلك؟
سأل وهو ينهض من الجانب الآخر من النار الجندي ذو الأنف المدبب الذي وصف بأنه مصير خنزير: ماذا تريد أن تقول؟
ثم أضاف بصوت حاد مرتعد: مهما كان المرء سمينا فإنه ينحل، والهزال معناه الموت.
وأكد فجأة بلهجة حازمة مخاطبا واحدا من الرقيبين: خذ مثلا أنا، إنني فقدت قواي فاعمل على إدخالي المستشفى لأنني أشعر بأوصالي كلها منعقدة، وإلا فإنني لن أستطيع المثابرة على اتباع الصفوف.
فرد صف الضابط بهدوء: هيا، لا تنطق بهذه الغباوات.
فصمت الجندي الصغير وعاد الحديث، فقال جندي راغب في إثارة موضوع جديد للنقاش: إننا اليوم لم نأخذ شيئا قليلا من أولئك الفرنسيين، أما فيما يتعلق بالأحذية فإن ما من واحد منهم كان يملك زوجا حقيقيا منها، يمكن القول إنها ليست أحذية إلا بالاسم. - إن القوقازيين هم الذين يأخذونها منهم دائما، لقد نظفوا المسكن من أجل الزعيم، وحملوا الجثث إلى الخارج، ولقد فتشوها وقلبوها حتى إن ذلك كان يدعو إلى الشفقة.
وأضاف المتكلم وهو الجندي الذي كان يرقص: كان بينهم واحد لا يزال على قيد الحياة، لو تصدق، وكان يغمغم شيئا ما بلغته.
فاستأنف الأول: ثم إنهم أشخاص نظيفون أيها الأولاد، إنهم بيض، بيض كالسندر، ثم إن بينهم باسلين ونبلاء أيضا! لو علمت! - ماذا كنت تظن إذن؟ إنهم يجندون في بلدهم من كل الفئات.
فقال الراقص بابتسامة دهشة: ثم إنهم لا يعرفون كلمة واحدة من اللغة الروسية، سألت أحدهم: «إلى أي تاج تنتمي؟» فدمدم بما لست أدري ماذا، يا للشعب المضحك!
واسترسل الذي أظهر دهشته للون الفرنسيين الأبيض: ثم إن فيهم شيئا غريبا أيها الإخوان، هل تعرفون ماذا قال القرويون الذين جمعوا جثث الأموات في موجائيسك؟ لاحظوا أن جثثهم كانت هناك منذ شهر، حسنا، لقد قالوا: إنهم كانوا ممددين ولونهم أبيض كالورق، نظيف تماما دون أدنى رائحة.
فرد جندي: لا ريب أن ذلك مبعثه البرد، أليس كذلك؟ - يا للماكر! بسبب البرد! لكن الطقس كان دافئا، فلو أنهم تجمدوا لوجب ألا تتفسخ جثث رجالنا أيضا، مع ذلك فقد بدا أنهم ما إن يجمعوا واحدا حتى يروا أنه كتلة من الديدان فكان يجب لف الفم بمنديل والإشاحة بالوجه وهم يحملونهم مع ذلك ما كانوا يحتملون، بينما هم لا شيء كالورق الأبيض دون أية رائحة.
صمتوا جميعا برهة، فقال واحد من الرقيبين: لا ريب أن ذلك ناشئ عن الطعام، إنهم يأكلون كالسادة.
فلم يعترض أحد. - لقد روى ذلك القروي من موجائيسك حيث دارت المعركة أنهم حملوا الجثث من عشر قرى طيلة عشرين يوما دون أن يستطيعوا نقلها كلها، وقال إنه كانت هناك جموع من الذئاب ...
فأكد جندي عجوز: كانت هذه معركة حقيقية، فيها ما يحمل المرء ذكراه، أما ما دار منذ ذلك الحين ... إنه عبارة عن ألم العالم الفقير. - قل لي يا جداه، لقد تبعوهم أمس الأول لكن لم يتسن لهم الوقت للاقتراب منهم، كانوا قد ألقوا بأسلحتهم، وها هم أولاء على ركبهم ينشدون المغفرة، إنهم جيش في المظهر فحسب، يقولون: إن بلاتوف قد أمسك مرتين ب «بوليون» نفسه، لكنه ما كان يعرف كلمة السر، لقد أمسك به هكذا في يده فتحول «بوليون» إلى عصفور ثم طار وطار. ثم إنه لا يمكن قتله كذلك. - أنت، كيسليف، أراك تقصد أمرا، إنك لا تصلح إلا لرواية الأكاذيب. - كيف أكاذيب؟ إنها الحقيقة الحقة. - وأنا، لو أنني أمسكت به، عندما أمسكه بيدي سأدفنه حيا، ثم سأضربه بعصا من الحور، ذلك لأنه سبب قتل كثير من الناس. (الوتد من الحور يستعمل في ضرب الأرواح الشريرة أو السحرة لمنعهم عن إيذاء الناس، وقد جرت العادة على دفنهم مع وتد من الحور لمنعهم من العودة بعد الموت إلى هذا العالم.)
فأكد الجندي العجوز وهو يتثاءب: لا بأس، إنه لن يفلت دائما، سوف نبلغ النهاية.
وهدأ النقاش واستعد الجنود للنوم. هتف جندي كان يتأمل المجرة: انظر «لي» إلى هذه النجوم، إنها رائعة لا ريب في ذلك! هه هذه النساء اللواتي نشرن غسيلهن! - هذا أيها الفتيان، دليل عام خير. - لا بد من إضافة كمية أخرى من الحطب. - إن ظهرنا يحترق وبطننا متجلد، وهذا هو المزعج. - أوه! يا ربي! - ما بك أيضا تدفع، يا أنت؟ ... هل النار لك وحدك؟ انظر كيف يتمدد هذا!
وفي الصمت الذي خيم سمع شخير بعض النائمين بينما استمر الآخرون يتقلبون ويتقلبون طلبا للدفء، ويتبادلون من حين إلى آخر كلمة. ومن معسكر قائم على بعد حوالي مائة خطوة كانت ضحكة مرحة تبلغ الأسماع على دفعات، فقال أحد الجنود: هيه، إنهم يمزحون في الخامسة، ثم يا لكثرة الناس! هذا يثير الفضول!
ونهض ومضى يستطلع ما في السرية الخامسة، وقال بعد أن عاد: ليس هناك ما يضحك، هناك فرنسيان جاءا، أحدهم متجمد كليا، بينما الآخر غير متأثر، الرجل! إنه ينشد الأناشيد! - غير ممكن! هيا بنا إليهما.
ومضى بعض الجنود بدورهم نحو معسكر السرية الخامسة.
الفصل التاسع
رامبال وتابعه
كانت السرية الخامسة قد عسكرت عند تخم الغابة نفسه، وعلى الثلج شبت نار كبيرة أخذت تضيء أغصان الشجر المثقلة كلها بالجليد.
وفي أعماق الليل سمع جنود السرية الخامسة في صميم الغابة وقع خطى على الثلج وتحطم أغصان جافة، هتف أحد الجنود: أوه! أيها الفتيان، دب!
رفعوا جميعهم رءوسهم ليصغوا، فشاهدوا على ضوء النار النير شكلين آدميين خارجين من الغابة في لباس غريب، يسند أحدهما الآخر.
كانا فرنسيين اختبأا في الغابة، اقتربا من النار وهما يلفظان بصوت أجش كليمات بلغة غير مفهومة من الجنود. كان أحدهما طويل القامة يضع على رأسه عمرة ضابط ويبدو شديد الضعف، فلما بلغ قرب النار أراد أن يجلس لكنه هوى على الأرض تماما. أما الآخر فكان جنديا قصير القامة ربعة، يبدو أكثر قوة من زميله، يغطي رأسه بمنديل، أنهض رفيقه وقال شيئا وهو يدل على فمه. أحاط الجنود بالفرنسيين ومددوا المريض على معطف، وجاءوا لهما بحساء الحنطة السوداء والفودكا .
كان الضابط المريض هو رامبال، أما الرجل ذو المنديل المعقود فموريل.
بعد أن شرب موريل قدح الفودكا وابتلع ملء قصعة من الحساء، استبد به مرح محموم وراح يتحدث دون توقف إلى الجنود الذين ما كانوا يفهمونه. أما رامبال فقد رفض أن يأكل وظل ممددا قرب النار، مستندا إلى مرفقه، يتأمل الجنود الروسيين بعينيه المحمرتين الخاليتين من النظر، ومن حين إلى آخر كان يطلق زفرة حرى ثم ينطوي في صمته، ولقد أشار موريل إلى شارات كتفي رامبال محاولا إفهام الجنود بأنه ضابط يجب تدفئته. ولقد أرسل ضابط روسي اقترب من النار إلى الزعيم يسأله ما إذا كان يوافق على قبول ضابط فرنسي لديه، ولما عاد الرسول يعلن عن سماح الزعيم بحمل الضابط إليه، أشاروا إلى رامبال بالذهاب إلى هناك، فنهض وأراد أن يسير، لكنه كاد أن يسقط لو لم يبادر الجندي الذي كان إلى جانبه إلى إسناده.
قال الجندي لرامبال وهو يطرف بعينه ساخرا: هه، ماذا؟ لن تعود إلى مثلها؟
فهتف الجنود من كل صوب وقد أحنقتهم هذه الدعابة: هه، أيها الأحمق! ماذا تنهق؟! أيها المنحط! نعم منحط!
أحاطوا برامبال فحمله جنديان على أذرعهما المعقودة ومضوا به إلى داخل الكوخ، وكان رامبال وذراعه حول عنق حامليه يقول بصوت شاك: أوه! أيها البواسل، أيها الطيبون، يا أصدقائي الطيبين! ها هم أولاء رجال! أوه! أيها البواسل، يا أصدقائي الطيبين!
وأسلم رأسه كالطفل على كتف أحدهما.
خلال ذلك كان موريل قد جلس في أفضل مكان وحوله الجنود.
كان موريل فرنسيا قصيرا ربعة، أحمر العينين دامعهما، يعقد منديله كالقرويات العجائز فوق عمرته، ويرتدي «فروة» نسائية قبيحة الشكل. كان موريل ثملا بشكل واضح، يحيط عنق الجندي الجالس إلى جانبه بذراعه، ويغني بصوت متهدج أغنية من بلده، أما الجنود فكانوا يمسكون بأضلاعهم وهم يتأملونه.
هتف الذي كان موريل يحيط عنقه بذراعه وهو محب للمزاح والغناء: هيا، هيا، علمنا هذه الأغنية، هه سوف أحفظ اللحن بسرعة، كيف هو؟ ...
أخذ موريل يغني وهو يخزر عينيه: يحيا هنري الرابع، يحيا هذا الملك المقدام، هذا الشيطان على أربع ...
راح الجندي يردد وهو يلوح بيديه: فيفاريكا! فيف سييروفارو! سيديا بلاكا ...
والواقع أنه حفظ اللحن بشكل لا بأس به، فراح رفاقه يهتفون من حوله ويشفعون هتافهم بقهقهات مدوية: يا للبراعة! هو، هو، هو، هو!
فكان موريل يقهقه بدوره وهو يصعر وجهه : هيا، استمر يا شيخ!
الذي له الموهبة المثلثة.
موهبة الشرب والقتال وأن يكون مغازلا كيسا ...
الجيش الكبير يعسكر في الليل. - آه! إن لهذا وقع جميل! هيا، دورك يا زاليتاييف! ...
فراح زاليتاييف يردد بجد ومجهود وقد أبرز شفتيه: كيو، كيو، كيو ... لييتر يبتالا ديي بو ديي بادييترا فاجالا. - مرحى! رائع! مثل الإفرنسي تماما! حسنا! ها! ها! ها! قل يا هذا، ألا زلت جائعا؟ - أعطوه حساء القمح الأسود، إنه لا يشبع بمثل هذه السرعة.
قدموا له الحساء من جديد، فراح موريل يلتهم ملء إنائه الثالث وهو يضحك. كانت وجوه الجنود الشبان كلهم مشرقة لرؤية هذا الفرنسي، أما المسنون الذين كانوا يجدون أن الاهتمام بمثل هذه الترهات غير جدير بهم، فقد لبثوا ممددين إلى الجانب الآخر من النار يتناحرون بين الحين والآخر بالمرافق ليتأملوا موريل وهم يبتسمون.
قال أحدهم وهو يتدثر بردائه: إنهم بشر مثلنا، إن نبات الأفسنتين ينبت هو الآخر على جذوره. (نبات الأفسنتين يعتبر في نظر القرويين الروسيين نبتة سيئة.) - أوه، مولاي الرب! يا لكثرة النجوم! سوف يعقب ذلك الحمد! ...
وصمت كل شيء وكأن النجوم كانت تعرف أنه لم يبق هناك من ينظر إليها، فراحت تستعيد مرحها وحركتها في السماء القائمة، كانت تارة براقة وأخرى منطفئة وتارة ملتمعة، تبدو كأنها تتهامس فيما بينها بشيء بهيج غامض.
الفصل العاشر
نهاية المهمة
استمرت القطعات الفرنسية في ذوبانها المنتظم بحسب توال حسابي صارم، حتى ذلك المرور في بيريزينا الذي كتبوا حوله أقوالا كثيرة، فإنه بدلا من أن يكون حادثا لاحقا حاسما في الحملة لم يكن إلا خطوة أخرى في عملية تهديم الجيش الفرنسي. وإذا كانوا كثيرا ما كتبوا وما زالوا يكتبون عن بيريزينا من جانب الفرنسيين ، فإن مبعث ذلك أن المصائب التي أصابت الجيش الفرنسي والتي كانت من قبل متشابهة كلها احتشدت فجأة هنا حول ذلك الجسر المنهار، في مشهد «تراجيدي» أعد بإتقان ليبقى عالقا في الأذهان. ومن الجانب الروسي إذا كتبوا كثيرا وما زالوا يكتبون حول بيريزينا، فإن سبب ذلك أنهم في بيترسبورج بعيدا عن ساحة المعركة كانوا أعدوا خطة هي خطة «بفوهل»، كانت ترى في ذلك النهر نافورة «استراتيجية» سيغرق فيها نابليون، وكان كل شخص هناك واثقا من أن كل شيء سيجري في الواقع تبعا لتلك الخطة، لذلك فقد راحوا يتهافتون على التأكيد بأن عبور بيريزينا سبب ضياع الجيش الفرنسي على وجه الدقة. وفي الحقيقة أن نتائج هذا العبور كانت أقل تخريبا لهم من خسائرهم بالرجال والمدافع في كراسنواييه، والأرقام تدل على صحة ذلك.
ليس للعبور في بيريزينا غير معنى واحد، لقد أعطى الدليل الواضح الذي لا يقبل الشك على خطأ كل الخطط الرامية إلى قطع العدو وعلى صحة السلوك الوحيد الممكن، ذلك الذي كان كوتوزوف يطالب به قطعاته كلها (السواد الأعظم)، والذي يقوم على أساس تعقب العدو فحسب. كان فرار الفرنسيين يجري بسرعة متزايدة تنشطه حيويتهم الرامية إلى هذا الهدف وحده، كانت حشودهم تفر كالحيوان الجريح، فكان يستحيل عليها الوقوف في الطريق. ولقد دلل على ذلك عبور بيريزينا نفسه فوق الجسور أكثر مما دلل عليه تنظيم العبر، فعندما تحطمت الجسور استمروا جميعهم: الجنود المجردون من الأسلحة، سكان موسكو، النساء والأطفال الذين كانوا في رحال الفرنسيين. استمروا كلهم، وقد استولت عليهم قوة المقاومة السلبية بدلا من الاستسلام، في الفرار إلى الأمام في زوارق أو في المياه المتجمدة.
وهذا التهافت معقول، لأن مركز الفارين ومطارديهم كان سيئا على السواء، ففي البقاء مع بني قومه كان كل واحد يعتمد على مساعدة زملائه في حالة البؤس، في النطاق المحدود للمركز الذي يشغله بينهم. بينما الاستسلام للروسيين معناه البقاء في تلك المصيبة إياها، يزيد فيها واقع كونهم آخر من توزع عليهم الأرزاق. ولم يكن من حاجة بالفرنسيين إلى معرفة أن نصف الأسرى الذين يحتفظ بهم الروسيون دون أن يعرفوا ما هم صانعون بهم، يموتون بردا وجوعا رغم رغبة الروسيين في إنقاذهم، ويشعرون بأن الأمور لا يمكن أن تدور على نهج آخر. ما كان أكثر الرؤساء الروسيين إشفاقا على الفرنسيين - ولا أولئك الذين بهم استعداد خاص للعطف عليهم، ولا الفرنسيون العاملون في خدمة الروسيين - قادرين على مد يد المساعدة للأسرى، فكان ضياع الفرنسيين مرده الخاتمة التي وجد الجيش الروسي نفسه فيها. وما كان يمكن حرمان الجنود المجوعين الذين هم في حاجة إليهم من الخبز والكساء ليقدموه هدية إلى الفرنسيين العزل الذين ما كانوا يحقدون عليهم والذين ما كانوا مذنبين، بل كانوا أفواها عديمة النفع فحسب، ولقد نهج بعضهم هذا النهج رغم ذلك لكنه كان عملا استثنائيا.
في المؤخرة كان الخسران المؤكد، وفي المقدمة الأمل، ولقد أحرقوا مراكبهم فلم يبق من وسيلة للخلاص إلا الفرار المشترك الجماعي، فكانت قوى الفرنسيين كلها تجنح إلى ذلك الفرار.
وكلما طال أمد التقهقر أصبح حطامهم أكثر بعثا للرثاء وخصوصا اعتبارا من بيريزينا، ذلك أن بيريزينا تبعا للخطة الروسية الموضوعة في بيترسبورج خلقت كذلك في نفوس الروسيين آمالا خاصة، الأمر الذي نشطت له أهواء القادة الروسيين الذين كانوا يتبادلون الاتهامات ويتهمون على الأخص كوتوزوف، كانوا يزعمون أن عدم نجاح خطة بيترسبورج على بيريزينا يجب أن يعزى إليه، فكانت السخريات التي وجهت إليه والتبرم الذي كان يوحي به والاحتقار الذي يكنونه له تزداد شدة أكثر فأكثر. ولقد كانت السخريات والاحتقار وهذا واضح جلي يعبر عنها بشكل مفعم بالاحترام، حتى إن كوتوزوف نفسه ما كان يستطيع أن يتساءل بأي شيء ولا لأي شيء يتهمونه، وعندما كانوا يرفعون إليه تقريرا ما ويسألونه أوامره كانوا يتظاهرون بالقيام بحفل مأتمي، فيخزرون عيونهم وراء ظهره ويحاولون في كل لحظة جاهدين أن يخدعوه.
كان هؤلاء الناس كلهم، بسبب عجزهم عن فهمه فحسب، قانعين بعقم مناقشة هذا العجوز الفاني، ويقولون فيما بينهم إنه لا يستطيع قط أن يدرك خططهم إدراكا عميقا، وإنه سوف يجيبهم بجملته المألوفة (وكانت هذه في نظرهم جملا ليس إلا) عن الجسر الذهبي واستحالة تخطي الحدود بجيش من الحفاوة، وهلم جرا. ولقد سمعوا هذه النغمة من قبل حتى حلوها، فمثلا كان كل ما يقوله كوتوزوف عن ضرورة انتظار الأرزاق وافتقار الرجال للأحذية كان كل هذا على بساطة طفولية إزاء عروضهم المعقدة العليمة، فهو إذن ولا ريب رجل عجوز لا يصلح لشيء وهم رجال حرب عباقرة ولكن للأسف عاجزون.
وبعد أن التحق بالجيش الأميرال اللامع ويتجنستن، بطل بيترسبورج، بلغت هذه الاستعدادات العدائية وضجيج أركان الحرب وجعجعتهم الذروة، فكان كوتوزوف يشعر بذلك ويكتفي بهز كتفيه وهو يتنهد، ولقد سخط مرة واحدة بعد بيريزينا فكتب الرسالة التالية إلى بيينجسن الذي كان يبعث إلى الإمبراطور بتقارير خاصة:
نظرا إلى حالتكم الصحية المؤقتة، أرجو سعادتكم الذهاب إلى كالوجا فور تلقيكم هذه الكلمة والانتظار هناك القرار الذي سيتخذ بشأنكم من قبل جلالته الإمبراطورية.
وبنتيجة طرد بيينجسن شاهد الجيش عودة الجراندوق كونستانتان بافلوفيتش، الذي بعد أن نشط في بداية الحملة أبعد من قبل كوتوزوف. ومنذ أن وصل الجراندوق أبلغ كوتوزوف استياء الإمبراطور لأن انتصارات جيوشنا كانت تافهة جدا وحركاتنا بطيئة جدا، وأنهى إليه أن الإمبراطور شخصيا عازم على اللحاق بالجيش.
فأدرك هذا الرجل العجوز الذي كانت به خبرة في شئون البلاط بقدر خبرته بشئون الحرب، كوتوزوف هذا الذي عين في شهر آب من العام نفسه قائدا على رغم إرادة ملكية، ذلك الرجل نفسه الذي أبعد عن الجيش وريث العرش والذي اتخذ من عندياته وضد رغبة الإمبراطور قرار إخلاء موسكو؛ أدرك هذا الرجل أن زمنه قد انصرم، وأن دوره قد انتهى، وأن السلطة الشكلية التي في يده لم يعد لها وجود. ثم إنه لم يكن يفهم ذلك كرجل بلاط فحسب، لقد كان يشعر من جهة أن النشاط العسكري الذي لعب فيه دوره قد أوفى على نهايته وأن مهمته قد أنجزت، ومن جهة أخرى أخذ يحس بنفس الوقت في جسمه الذي حطمته السن بتعب يرغمه على انتجاع سبل الراحة .
الفصل الحادي عشر
وصول الإمبراطور
دخل كوتوزوف إلى فيلنا في التاسع والعشرين من تشرين الثاني إلى مدينته الطيبة فيلنا كما كان يقول، لقد تولى مرتين في حياته العملية ولاية هذه المدينة، كان يستعد في هذه المدينة الغنية التي ظلت سليمة من كل أذى، إلى جانب الرفاهية التي حرم منها زمنا طويلا، أصدقاؤه القدماء وذكريات قديمة. استغرق فجأة، وقد تخلص من كل شاغل عسكري أو سياسي، في حياة منتظمة هادئة بقدر ما كانت الأهواء التي تستعر في أعماقه تسمح له، وتظاهر وكأن كل ما كان يدور حينذاك وما كان سيجري في تاريخ العالم لا يمسه مطلقا.
استقبله تشيتشاجوف، وهو الأكثر حماسا بين أولئك الراغبين في قطع العدو وصده، تشيتشاجوف هذا الذي كان بادئ الأمر يريد القيام بحركة لإلهاء العدو في اليونان ثم في فارسوفيا، ولكنه يرفض دائما الذهاب إلى حيث يرسلونه، تشيتشاجوف هذا الشهير بأجوبته الجريئة للإمبراطور، تشيتشاجوف هذا الذي كان يعتبر كوتوزوف مدينا له لأنه عام 1811 عندما أرسل إلى تركيا لعقد الصلح وجد أن الصلح قد عقد فعلا، فاعترف أمام الإمبراطور بأن موهبة كوتوزوف هي التي أدت إلى هذه النتيجة، تشيتشاجوف هذا هو الذي كان أول من استقبله في قصر فيلنا حيث كان يجب أن يحل. سلم تشيتشاجوف، وهو في ثوب أميرال والسيف القصير عريض النصل إلى جنبه والعمرة تحت ذراعه، إلى جانب مفاتيح المدينة تقريرا عن حالة الحامية إلى كوتوزوف. وكان الاعتبار المحتقر الذي كان الشباب يظهرونه لهذا العجوز الذي بات يجنح في نظرهم إلى الطفولة يظهر في أجلى معانيه في تصرفات تشيتشاجوف، الذي كان على علم بالاتهامات الموجهة حتى ذلك الحين إلى كوتوزوف.
قال كوتوزوف لتشيتشاجوف خلال محادثة معه، في جملة ما، قال إن الجياد والعربات التي سلبت منه في بوريسوف، والتي كانت تحوي آنيته، لم يمسها الأذى وأنها ستعاد إليه.
فرد تشيتشاجوف بانفعال: إنك تريد بذلك أن تقول إنني لا أملك ما أقدم الطعام فيه ...؟ مع أنني أستطيع على العكس أن أقدم من كل شيء، حتى في الحالات التي ترغب فيها أن تقيم الولائم.
وكان يريد بكل كلمة من كلماته أن يثبت بأنه غير مسئول للإخفاق الحاصل على بيريزينا، وأنه بالتالي يعتقد أن كوتوزوف يحمل في نفسه هذا الشاغل بالذات.
فرد كوتوزوف وقد طافت على شفتيه ابتسامته الدقيقة المؤثرة وهو يهز كتفيه: لم أقل لك ذلك إلا لأقول ما قلت.
أوقف كوتوزوف في فيلنا، ضد رغبة الإمبراطور، سير معظم قطعات جيوشه. ولقد ضعف وخار بشكل خارق - على زعم المحيطين به - خلال مكوثه في تلك المدينة، كان يهتم مرغما بشئون الجيش، ويحيل الأعمال كلها إلى جنرالاته، يحيا حياة مفرجة بانتظار وصول الإمبراطور.
ولقد وصل الإمبراطور إلى فيلنا في الحادي عشر من كانون الأول، بعد أن غادر بيترسبورج في السابع منه مع حاشيته والكونت تولستوي والأمير فولكونسكي وأراكتشييف وآخرين، ومضى مباشرة إلى القصر في زحافة السفر. وأمام القصر، رغم البرد الشديد، كان حوالي مائة جنرال وضابط أركان حرب ينتظرون في ثياب العرض مع حرس شرف من فيلق سيميونوفسكي.
ولقد وصل الرسول الذي يسبق الإمبراطور بسرعة هائلة على زحافة يجرها ثلاثة جياد يغطيها الزبد، وصاح: «إنه يصل!» فاندفع كونوفنيستلين إلى الدهليز لإخطار كوتوزوف، الذي كان ينتظر في غرفة البواب الصغيرة.
وبعد دقيقة بدا شبح العجوز الضخم في ثوب العرض تزين الأوسمة صدره ويقطع بطنه وشاح، وتقدم نحو المرقاة بخطى غير ثابتة. وضع كوتوزوف العمرة الملائمة لثوبه وأمسك بقفازين بيده، ونزل الدرجات بصعوبة وهو يمشي متمايلا، فبلغ أسفل السلم حاملا في يده الطليقة التقرير المعد للملك.
ثار لغط وهمس، ومن جديد مرت زحافة كبيرة بأقصى سرعة، وانتقلت الأنظار كلها إلى زحافة كانت تقترب، كان شبح الإمبراطور ظاهرا فيها ومعه فولكونسكي.
وعلى الرغم من اعتياده تلك المظاهر طيلة خمسين عاما، فإن ذلك أحدث اضطرابا حسيا على الجنرال العجوز، فراح يتحسس نفسه بحركة محمومة وأصلح قبعته، ثم رفع عينيه إلى الإمبراطور في اللحظة التي كان ينزل فيها من الزحافة، واستعاد ثقته فاتخذ وضعية الاستعداد ومد يده بالتقرير وراح يتكلم بصوت متزن مفرط في المجاملة.
شمل الإمبراطور كوتوزوف بنظرة سريعة من رأسه إلى أخمص قدميه وقطب حاجبيه ثانية، لكنه لم يلبث أن تمالك نفسه ففتح ذراعيه وطوق الجنرال العجوز. ومرة أخرى أحدثت هذه الضمة في نفس كوتوزوف أثرها المألوف، إذ انفجر منتحبا تحت تأثير عادة قديمة مدفوعا بفكرته الشخصية.
حيا الإمبراطور الضباط والحرس من فيلق سيميونوفسكي، ثم بعد أن شد مرة أخرى على يد العجوز دخل معه إلى القصر.
ولما انفرد بكوتوزوف راح العاهل يعرب له عن استيائه لبطء مطاردته وللأخطاء التي ارتكبت في كراسنواييه وبيريزينا، وأطلعه على آرائه حول حملة مقبلة في الخارج، فلم يعترض كوتوزوف ولم يقدم أية ملاحظة، كان وجهه يعكس مثل ذلك الخضوع السلبي الذي ظهر عليه قبل سبع سنين عندما كان يصغي إلى أوامر مولاه على ساحة القتال في أوسترليتز.
وعندما خرج كوتوزوف بخطاه الثقيلة المترنحة من الحجرة واجتاز البهو مطرق الرأس استوقفه صوت، قال أحدهم: يا صاحب السمو!
رفع كوتوزوف رأسه وحدق طويلا في وجه الكونت تولستوي الذي كان واقفا أمامه يقدم له شيئا على طبق فضي، بدا على كوتوزوف أنه لم يدرك ما يطلبونه إليه.
وفجأة، وكأنه استعاد حواسه، طافت على وجهه المنتفخ ابتسامة لا تكاد ترى وغالى في الانحناء، ثم أخذ ذلك الشيء بمزيد من الاحترام من فوق الطبق الفضي، وكان ذلك الشيء صليب القديس جورج من الدرجة الأولى.
الفصل الثاني عشر
نهاية كوتوزوف
وفي اليوم التالي أقام الماريشال حفلة عشاء تبعتها حفلة راقصة شرفها الإمبراطور بحضوره، لقد تلقى كوتوزوف وسام القديس جورج من الدرجة الأولى، وكان الإمبراطور يظهر حياله منتهى الرعاية والالتفات، لكن ما من أحد كان يجهل أن الإمبراطور مستاء من كوتوزوف. وعلى ذلك فإن اللياقة كانت مرعية والإمبراطور نفسه أعطى المثال عليها، لكنهم كانوا يعرفون جميعا أن العجوز مذنب، وأنه لم يعد صالحا لشيء. خلال الحفلة الراقصة، وتبعا لتقليد قديم يرجع إلى عهد كاتيرين، عندما ولج الإمبراطور قاعة الرقص أمر كوتوزوف على أن تلقى عند أقدامه الأعلام التي غنمت من العدو، فنطق الإمبراطور ببضع كلمات وهو مقطب حاجبيه تقطيبة عدائية، خيل إلى بعضهم أنه جاء فيها: «أيها المهرج العجوز!»
ازداد استياء العاهل من كوتوزوف في فيلنا أيضا، لا ريب أن العجوز ما كان يريد ولا يستطيع فهم معنى الحملة المزمع القيام بها.
وفي صبيحة اليوم التالي قال الإمبراطور للضباط المجتمعين حوله : «إنكم لم تنقذوا روسيا فحسب، بل أنقذتم كذلك أوروبا» ففهموا جميعهم حينذاك أن الحرب لم تنته.
بيد أن كوتوزوف وحده ما كان يريد فهم ذلك، بل كان يدلي برأيه بصراحة حول هذه الحملة الجديدة التي لا يمكن أن تحسن وضع روسيا ولا أن تزيد مجدها، بل على العكس لا تصلح إلا لزيادة الحالة سوءا وتقليل درجة المجد الرفيعة التي بلغتها روسيا الآن كما كان يقول. كان يحاول جاهدا أن يبرهن للإمبراطور على استحالة تجنيد قطعات جديدة، ويتحدث عن موقف الشعب العسير وعن إمكانية السقوط في إخفاق، وهلم جرا.
فكان واضحا أن كوتوزوف بات بمثل هذه الأفكار شيئا مزعجا موقفا لعجلة الحرب المقدرة.
ولتحاشي كل اصطدام مع العجوز وجدوا بشكل طبيعي المخرج المناسب، المخرج نفسه الذي وجدوه في أوسترليتز وفي بدء الحملة مع باركلي: لقد سحبوا من القائد الأعلى أدوات سلطته دون جلبة ودون مزيد من التفسير، ليسلموها إلى الإمبراطور بالذات.
ولهذه الغاية شرع في تحقيقها على مراحل بإعادة تشكيل هيئة الأركان.
وبالتدريج أحيلت كل السلطة التي كانت لهيئة أركان كوتوزوف إلى لا شيء، وأصبح للإمبراطور اليد العليا على العمليات، وتلقى تول وكونوفنيتسين وإيرمولوف مناصب جديدة، فكان كل منهم يعلن جهارا أن الماريشال بات شديد الضعف شديد المرض.
والواقع أن صحته كان يجب أن تكون معتلة تماما حتى سلم مناصبه إلى خلفه بهذا الشكل، وكان ذلك صحيحا إذ كان مصابا في صحته.
وبمثل البساطة التي شرع فيها كوتوزوف من قبل في ممارسة أعماله تدريجيا في الوزارة وتأسيس فرق المتطوعين ليعود إلى الجيش في اللحظة التي لم يكن هناك بد من وجوده فيها، وكان ذلك إثر عودته من تركيا إلى بيترسبورج؛ بمثل تلك البساطة وبذلك الشكل الطبيعي أقاموا بدلا عنه سيد الإبداع الجديد، الذي كانت الظروف تطالب به الآن وقد انتهى هو من دوره.
ولقد وجب أن تأخذ حرب عام 1812، إضافة إلى معناها الشعبي العزيز على النفس الروسية، معنى أوروبيا كذلك.
كان يجب أن يعقب سير شعوب الغرب إلى الشرق سير شعوب الشرق نحو الغرب، وكان يجب لهذه الحملة الجديدة رجل جديد يتحلى بصفات أخرى، بوجهات نظر أخرى، بدوافع أخرى، غير صفات ودوافع كوتوزوف.
وكان ألكسندر الأول، بالنسبة إلى سير شعوب الشرق على شعوب الغرب وبالنسبة إلى إعادة تنظيم الحدود، الشخص الذي لا بد منه، كما كان كوتوزوف لا بد منه من قبل في سبيل خلاص روسيا ومجدها.
ما كان كوتوزوف يعقل معنى الكلمات: أوروبا، توازن، نابليون، وما كان يستطيع فهمها. الآن وقد هزم العدو وتحررت روسيا، لم يعد لخالق المجد لممثل الشعب الروسي بوصفه روسيا ما يعمله، لم يبق لذلك الذي تجسدت فيه الحرب الشعبية إلا أن يموت، ولقد مات.
الفصل الثالث عشر
بعد الأسر
كما يحدث دائما تقريبا لم يحس بيير بكل عبء الحرمان والتعب الجسديين والآلام التي قاساها خلال فترة أسره، إلا عندما انتهت تلك الآلام والحرمان والتعب. مضى إلى أوريل بعد أن استعاد حريته، لكنه بعد ثلاثة أيام عندما كان يستعد لمغادرة أوريل إلى كييف سقط مريضا، واضطر إلى ملازمة الفراش في أوريل طيلة ثلاثة أشهر لأنه أصيب على زعم الأطباء بحمى مرارية، وعلى الرغم من العناية التي لقيها منهم، وعلى الرغم من الأدوية وتكرار الفصاد فقد استعاد صحته.
لم يخلف كل ما وقع له منذ تحريره وحتى مرضه أثرا في ذاكرته، كان يتذكر فقط وقتا كالحا كئيبا ممطرا تارة ومثلجا تارة أخرى وبخدر جسدي وآلام في الأضلاع والساقين، ويذكر الأثر الذي كان البؤساء المتألمون من الناس يخلفونه في نفسه بصورة عامة، والأسئلة المزعجة التي كان الضباط الجنرالات الفضوليون يطرحونها عليه، وكل تدابيره ليجد لنفسه عربات وجيادا لها، وعلى الأخص عجزه عن التفكير أو الإحساس بالمكان الذي كان فيه حينذاك . شاهد يوم تحرره جثة بيتياروستوف، وفي اليوم نفسه علم أن الأمير آندريه ظل حيا شهرا كاملا بعد معركة بورودينو وأنه مات أخيرا في أياروسلافل، في بيت آل روستوف وفي اليوم ذاته أيضا لمح دينيسوف، الذي جاء يحمل إليه هذا النبأ، إلى موت هيلين خلال الحديث، مفترضا أن بيير لا بد وأن يكون على علم بالأمر من قبل، ولقد بدا له كل ذلك في حينه غريبا فحسب، لقد كان بيير يشعر بعجزه عن فهم معنى هذه الأنباء. لم يكن يتعجل إلا أمرا واحدا، أن يبتعد قدر المستطاع عن هذه الأمكنة حيث يقتل الرجال بعضهم بعضا، والذهاب إلى مكان هادئ يلجأ إليه، وهناك يجمع أفكاره ويستريح ويفكر في كل هذه الأشياء الغريبة الجديدة التي عرفها خلال هذه الحقبة. لكنه لم يكد يصل إلى أوريل حتى مرض، فلما استيقظ من مرضه شاهد بيير نفسه محاطا باثنين من خدمه جاءا من موسكو هما تيرانتي وفاسكا، ثم بكبرى الأميرات من بنات عمه التي كانت تقطن في مسكنه في إقطاعيته في إيليتز، التي ما كان بلغها نبأ تحرره ومرضه حتى هرعت للعناية به.
لم يتخلص بيير طيلة فترة نقاهته من المشاعر التي باتت أليفة لديه خلال الأشهر الأخيرة إلا بشكل لا شعوري، ما كان يألف إلا تدريجيا فكرة أن ما من أحد غدا سيطرده طرد السائمة، وأن ما من أحد غدا سينتزع منه فراشه الدفيء، وأنه سيحصل حتما على غدائه وعشائه، ولقد ظل فترة طويلة يرى نفسه في الحلم كما كان في الأسر، كما أن بيير لم يدرك معنى الأنباء التي عرف بها يوم أن تحرر: موت زوجته، إبادة الفرنسيين، إلا مع الزمن.
ملأت نفس بيير فرحة عودته حرا وامتلاك تلك الحرية الكاملة غير المنقوصة الملازمة للطبيعة البشرية، تلك الحرية التي شعر بها للمرة الأولى عند أول مرحلة بعد مغادرة موسكو طيلة مدة نقاهته. وما كان يدهشه على الأخص هو الشعور بأن هذه الحرية المعنوية المستقلة عن كل ظرف خارجي تأتلف الآن مع أريحية مع بذخ من الحرية الخارجية. كان وحيدا في مدينة غريبة لا يعرف فيها أحدا، وما كان أحد يطالبه بشيء، ولا أحد يرسله إلى أي مكان، وهو يحصل على كل ما يمكن أن يشتهيه، حتى إن عذابه الفكري الخالد قد اختفى طالما أن زوجته لم تعد على قيد الحياة.
كان يقول عندما كانوا يقربون منه مائدة بديعة التنسيق وعليها آنية من مرق عطر، أو عندما كان يتمدد لقضاء الليل على سرير نظيف لين، أو يتذكر أن كل شيء قد انتهى، أو يذكر زوجته والفرنسيين: آه! كم هذا جيد! كم هذا رائع! آه! كم هذا جيد! كم هذا حسن!
كان يطرح على نفسه حسب عادته القديمة هذا السؤال: «والآن، ماذا سأعمل؟» ثم لا يلبث أن يجيب نفسه بنفسه: «لا شيء، سأعيش، آه! كم هذا جيد!»
وذاك نفسه الذي طالما عذبه من قبل، والذي طالما بحث عنه باستمرار، هدف حياته؛ لم يعد يؤثر عليه. لم يكف هدف الحياة ذاك الذي كان يبحث عنه عن أن الكون في نظره في تلك الدقيقة فحسب، بل بات يشعر أنه لم يكن هناك هدف قط وأنه ما كان يمكن أن يكون، فكان غياب الهدف ذاك هو الذي يخلق فيه ذلك الإحساس المفعم المرح بحريته، الذي كان حينذاك مبعث سعادته.
ما كان يمكن أن يكون هناك هدف، لأنه بات الآن يملك الإيمان، ليس الإيمان ببعض القواعد الخاصة أو بعض الأفكار، بل الإيمان بإله حي دائم الشعور به، كان سابقا يبحث عن الله في الغاية التي يعرضها على نفسه، فكان ذلك البحث عن الغاية هو البحث عن الله. وفجأة، طيلة أسره، اكتشف ليس بالكلام وليس بالمناقشات الفكرية ولكن بلون من الوحي الخاص، ما كانت مربيته العجوز تقوله له من قبل: إن الله هنا، هناك، في كل مكان. لقد تعلم خلال أسره أن إله كاراتاييف أكبر وأجل من أن يدرك، وأكثر امتدادا وامتناعا عن التحديد من الله الذي يسميه الماسونيون مهندس الكون الأعظم. كان يعتلج في نفسه شعور الرجل الذي يجد عند قدميه ما كان يبحث عنه جاهدا في الأبعاد، لقد أمضى حياته كلها ينظر إلى البعد إلى نقطة ما فوق الرءوس التي تحيط به، في حين أنه لم يكن عليه إلا أن ينظر ما هو أمامه دون أن تجحظ عيناه.
الجيش الكبير يبدأ بالتقهقر.
من قبل لم يعرف كيف يرى في أي مكان هذه العظمة التي لا تدرك والتي لا يحاط بها، كان يحس بها فحسب أنها ولا ريب موجودة في مكان ما لذلك كان يبحث عنها. وكان كل ما هو قريب منه مفهوم منه يبدو له محدودا سخيفا مبتذلا ومنافيا، كان يتسلح بنوع من المنظار المقرب الفكري لينقب في الأبعاد، حيث كانت أشياء عقيمة ساخرة يحجبها الضباب تبدو له عظيمة غير محدودة، لمجرد أنها لم تكن مرئية بوضوح، ولقد تمثل حياة أوروبا على هذا النحو والسياسة والماسونية والفلسفة ومحبة البشر. ولكن ابتداء من هذه الآونة، في اللحظة نفسها التي كان يقيس فيها ضعفه، والتي كانت روحه فيها تتغلغل في ذلك البعيد؛ كان يرى ذلك الغرور إياه وتلك الحقارة وذلك السخف نفسه. لقد تعلم الآن رؤية العظمة، الخلود المحيط بكل شيء، ولكي يتأمل هذا الكل وينعم بتأمله ترك منظاره المقرب، الذي ظل حتى تلك اللحظة يستعمله للنظر فوق رءوس الرجال، راح بمرح يتأمل حوله مشهد الحياة المتبدلة أزليا، الكبيرة أزليا، الممتنعة التي لا حدود لها. ولم يعد السؤال الرهيب «لماذا؟» الذي كان من قبل يهدم كل ما تشيده أفكاره، يطرح عليه، لقد أصبحت نفسه الآن متمسكة بجواب معد على «لماذا؟» تلك «لماذا؟» لأن الله موجود، هذا الله الذي لا تسقط شعرة من رأس إنسان دون إرادته.
الفصل الرابع عشر
بعث جديد
لم يبدل بيير شيئا تقريبا من طرق الظاهرية، بل ظل يقدم المظهر إياه، كان ساهما كحاله من قبل، يبدو منشغل البال ليس بما يقع تحت عينه بل بشيء ما خاص، شخصي. فكان الفارق بين حاله القديم وحاله الحاضر يرتكز على أنه من قبل عندما كان يفقد عن إبصاره ما هو أمامه أو ما كان يقال له، كانت تغضنات أليمة تقلص جبينه وكان يبذل مجهودا عقيما لمشاهدة شيء ما بعيد جدا، أما الآن فإنه ما زال ينسى ما يقال له وما هو أمامه، لكنه بات يملك ابتسامة دقيقة ساخرة للنظر إلى ما هو أمامه وللإصغاء إلى ما يقال له ، على الرغم من أنه كان بكل تأكيد يرى ويسمع شيئا مختلفا تماما. كان من قبل يبدو تعيسا رغم مظهر الطيبة الذي يكسو وجهه، لذلك فإن الناس كانوا يبتعدون عنه لا إراديا، أما الآن فإن ابتسامة تعبر عن الفرحة بالحياة كانت تتلاعب على شفتيه، وتشع عيناه بجاذبية وكأنهما تسألان: هل ما زالوا مسرورين مني؟ فكان الناس في حضرته يشعرون بالارتياح.
كان من قبل يكثر الكلام، وينفعل أثناء الحديث ولا يكاد يصغي أبدا، أما الآن فإن المحادثة قليلا ما باتت تجتذبه، وبات يحسن الإصغاء، حتى إن الناس أصبحوا يقصون عليه بيسر أعمق أسرارهم الشخصية.
والأميرة ابنة عمه، التي لم تحبه قط، والتي كانت تغذي كراهية خاصة منذ اليوم الذي شعرت فيه بعد موت الكونت العجوز بأنها مدينة له، والتي جاءت إلى أوريل بقصد واحد هو أن تبرهن له على أنها رغم عقوقه تعتبر العناية به كواجب لها؛ هذه الأميرة شعرت بسرعة بعد مكوثها القليل بأنها تحبه وذلك لفرط سخطها ولمزيد دهشتها، في حين أن بيير ما كان يعمل شيئا لكسب مودتها، كان يكتفي بأن يتأملها بفضول. وكانت الأميرة من قبل تشعر في النظرة التي يوجهها إليها بلا مبالاة وسخرية، لذلك فقد كانت في حضرته كما في حضرة الآخرين تنطوي على نفسها فلا تظهر إلا مزاجها الباسر، أما الآن فعلى العكس أخذت تشعر بأنه تغلغل إلى أعمق حنايا نفسها مجازا، فراحت تكشف له في حذر بادئ الأمر ثم بعرفان عن النواحي الخيرة في عقليتها.
ما كان لأكثر الرجال مكرا أن يتعمق بأكثر مهارة في ثقة الأميرة، حتى ولو استعرض معها أفضل ذكريات شبابها وأظهر اهتمامه بذلك، مع ذلك فإن براعة بيير كلها كانت ناجمة عن شعوره الشخصي بالمتعة في إيقاظ المشاعر البشرية في نفس هذه المرأة المتغطرسة الجافة الساخطة.
كانت الأميرة تحدث نفسها: نعم، إنه فتى باسل عندما يكون تحت تأثير أشخاص مثلي بدلا من أن يكون تحت أشخاص سيئين.
ولقد لوحظ التبديل الذي وقع لبيير من جانب خادميه تيرانتي وفاسكا كذلك، اللذين شعرا على طريقتهما بذلك الفارق، وجدا أنه أصبح أكثر بساطة من ذي قبل. كان تيرانتي غالبا بعد أن يخلع عن سيده الثياب ويتمنى له ليلة سعيدة ينسحب ببطء حاملا حذاءيه وثيابه بين يديه، أملا أن يحدث بيير عن شيء ما، وكان بيير غالبا ما يلاحظ هذه الرغبة فيستوقف تيرانتي ويسأله: قل لي لحظة ... كيف عملت حتى تدبرت لنفسك ما تأكله؟
فيبسط تيرانتي قصة عن دمار موسكو أو عن الكونت المرحوم، ويمكث طويلا وثياب بيير فوق ذراعه، يتحدث تارة ويصغي تارة أخرى، فلا يمضي إلى الردهة إلا وبنفسه اعتقاد بأنه بات أكثر قربا إلى مولاه وأنه ينعم بتعلقه به.
وكان الطبيب الذي يعالجه، والذي يحضر لزيارته كل يوم، يعتقد أن من واجبه ككل طبيب يحترم نفسه أن يظهر بمظهر الرجل الذي تعتبر كل دقيقة من وقته ثمينة في حساب الإنسانية المعذبة، مع كل ذلك فإنه كان يمكث ساعات طويلة عند بيير يروي له أفضل أقاصيصه، ويحيطه علما بملاحظاته عن عادات مرضاه بصورة عامة والسيدات منهم بصورة خاصة، كان يقول: هذا شخص يجد المرء متعة في التحدث معه، خلافا لما هو عندنا في الإقليم.
وكان في أوريل عدد من ضباط الجيش الفرنسي وقعوا في الأسر، فجاء الطبيب ذات يوم بأحدهم معه وكان إيطاليا.
ولقد ألف هذا الضابط زيارة بيير، حتى إن الأميرة ابنة عمه ما فتئت تسخر من الشعور الحاني الذي يظهره ذلك الإيطالي حيال ابن عمها.
ما كان يبدو سعيدا إلا عندما كان يستطيع المجيء لزيارة بيير والتحدث معه عن ماضيه وعن حياته العائلية وغرامياته، ويسهب في إظهار سخطه على الفرنسيين، وخصوصا على نابليون.
كان يقول لبيير: لو أن الروسيين كانوا يشبهونك ولو قليلا، فإنه من الخزي محاربة شعب كشعبكم، أنت الذي لشدة ما تألمت بسبب الفرنسيين لا تكاد تحمل في نفسك ضغينة عليهم.
ولقد كسب بيير هذه المحبة القوية من الإيطالي بكل بساطة لأنه أيقظ في نفسه أفضل جوانب روحه، وراح يتأمل تلك الجوانب.
خلال المدة الأخيرة من إقامته في أوريل، تلقى بيير زيارة أحد معارفه القدماء من العالم الماسوني، الكونت فيلارسكي، الذي استقبله في المحفل عام 1807، ولقد تزوج فيلارسكي روسية غنية جدا تملك عقارات كبيرة في ولاية أوريل، وأصبح يشغل مركزا مؤقتا في تموين المدينة.
عندما علم بوجود بيزوخوف في أوريل، جاء فيلارسكي لزيارته رغم عدم وجود روابط صداقة وثيقة بينهما من قبل، مظهرا بوادر الصداقة والألفة التي يظهرها عادة الأشخاص الذين يتقابلون في صحراء. كان فيلارسكي دائم السأم في أوريل، فشعر بسعادة لوقوعه على رجل لا بد وأن يكون بحسب ظنه منصرفا إلى مثل المشاغل التي انصرف هو إليها.
لكن فيلارسكي لعظيم دهشته لم يلبث أن رأى أن بيير لم يكن قط في المكانة التي وضعه فيها، وأنه وقع - كما أخذ يحدث نفسه - في الجمود والأنانية، فرغ إلى القول أخيرا: لقد تطبعت يا عزيزي.
وعلى الرغم من ذلك باتت عشرة بيير تبدو له مستطابة أكثر من ذي قبل، فكان يأتي كل يوم لزيارته، أما بيير فإنه بإصغائه إلى فيلارسكي وبالنظر إليه كان يفكر بذهول غير مصدق بأنه كان قبل وقت قريب جدا مثله تماما.
كان فيلارسكي متزوجا ورب أسرة، منشغلا بأملاك زوجته وبوظيفته وأولاده معا، وكان ينظر إلى هذه المشاغل المختلفة نظرته إلى عقبة في الحياة فيحتقرها، لأن هدفه الأوحد كان سعادته الشخصية وسعادة ذويه، وكانت المشاغل العسكرية والإدارية والسياسية والماسونية تحتكره كليا، فكان بيير يهتم بهذه الحالة الغريبة المعروفة منه تماما، دون أن يحاول التأثير عليه لإبدال وجهة نظره، أو يحكم عليه بسخرية مرحة هادئة لا تتزعزع.
كان بيير في علاقاته مع فيلارسكي والأميرة والطبيب ومع كل الأشخاص الذين بات يقابلهم الآن، يظهر بادرة جديدة عادت عليه بميل الجميع إليه، أخذ يعترف بحق كل فرد في التفكير والشعور والنظر إلى الأشياء على طريقته، ويعترف كذلك باستحالة إقناع إنسان ما بالكلام. وهذه الشخصية الشرعية لكل إنسان التي كانت تقلق بيير من قبل وتسخطه، باتت اليوم بالنسبة إليه سبب الاهتمام والانجذاب إلى الناس اللذين يشعر بهما الآن. وطرق النظر إلى الأمور التي يتمتع بها الأشخاص مختلفة، والتي كانت أحيانا متعارضة تماما مع وجهات نظره؛ كانت تبهجه وتخلق على شفتيه ابتسامة وديعة ساخرة.
وفي الأمور ذات الطابع العملي بات بيير الآن يشعر بدهشة أنه يملك مركز الثقل الذي كان يفتقده بالأمس، فقديما كانت كل المسائل المادية وبصورة خاصة طلبات الإخراج التي كانت غالبا ما يتعرض لها بوصفه رجلا واسع الثراء، تحدث في نفسه اضطرابا وترددا ما كان يجد لهما حلا، كان يتساءل: «هل يجب العطاء أم لا يجب؟ إن لدي مالا وهو في حاجة إليه، لكل هذا الآخر أشد حاجة إليه منه فأيهما أساعد؟ لعل الاثنين محتالان معا!» ولما لم يكن يصل إلى التحلل من افتراضاته، فقد كان يعطي الجميع بقدر ما يستطيع العطاء، ويعود دائما إلى ذلك التردد إياه كلما عرضت له مسألة تمس بمصالحه، وأشار عليه أحدهم أن ينهج هذا النهج، بينما يشير آخر عليه بذاك.
أما الآن، لدهشته الكبيرة، أخذ يجد أن الشكوك والتردد في هذه المسائل لم يعد لها مكان، بات الآن يحمل في نفسه حكما يحكم تبعا لقوانين مجهولة منه، ويقرر ما يجب عمله وما لا يجب صنعه.
ظل لا مباليا كسابق عهده فيما يتعلق بالمسائل المادية، لكنه لم يعد الآن يؤوي أي شك حول ما يجب وما لا يجب عمله. ولقد أصدر ذلك القاضي الجديد حكمه الأول خلال زيارة زعيم فرنسي أسير جاء يعوده وأخذ يسهب في التحدث عن مآثره، وفي النهاية طالبه في شبه إلحاح بإعطائه أربعة آلاف فرنك يرسلها إلى أسرته في فرنسا، فرفض بيير طلبه هذا دون أي تردد أو ارتباك، وقد دهش من نفسه فيما بعد إذ استطاع أن يعمل بمثل هذه السهولة ما كان من قبل يبدو على صعوبة لا تذلل، لكنه بينما رفض للزعيم ذلك الطلب قرر أن يتصرف قبل مغادرته أوريل بأسلوب لبق، حتى يجعل الإيطالي يقبل منه مبلغا من المال كان في حاجة ظاهرة إليه. ولقد كان الدليل الجديد على ثباته في الشئون العملية هو القرار الذي اتخذه بشأن ديون زوجته وإعادة ترميم بيوته في موسكو وفي الريف.
ولقد جاء وكيله الرئيسي يزوره في أوريل، فأقام بيير معه بيانا تاما بريوعه المخفضة، وبحسب تقدير وكيله سبب حريق موسكو لبيير خسارة تبلغ حوالي مليوني روبل. لقاء هذه الخسارة قدم له الوكيل بيانا مشفوعا بالأرقام يثبت أن عائداته ستزداد بدلا من أن تنقص إذا رفض بيير سداد الديون التي تركتها الكونتيس، والتي لا يمكن لأحد أن يرغمه على دفعها، وإذا عدل عن تجديد منزلي موسكو والضاحية اللذين يقتضيان مصروفا يبلغ ثمانين ألف روبل في العام دون أن يعودا عليه بأي نفع.
فقال بيير بابتسامته الفكهة: نعم، نعم، هذا صحيح، لست في حاجة إلى كل هذا، لقد أغناني دماري كثيرا.
لكن سافليتش هو الذي جاء من موسكو في شهر كانون الثاني، تحدث عن حالة المدينة وعن التصميم الذي وضعه المهندس لإعادة بناء بيت في المدينة وآخر في الضاحية، وراح يتكلم عن هذه الأمور وكأنها قضية منهية. وفي تلك البرهة تلقى بيير رسالة من الأمير فاسيلي ورسائل أخرى أرسلها أصدقاؤه من بيترسبورج. كان موضوع هذه الرسائل يدور حول الديون التي تركتها زوجته، وحينئذ قرر بيير أن المشروع المهم جدا الذي قدمه وكيله له خطأ، وأن عليه أن يذهب إلى بيترسبورج لتسوية شئون زوجته، وعليه كذلك أن يعيد بناء بيت موسكو. لماذا كان كل هذا ضروريا؟ لم يكن يعرف، لكنه كان يدرك أن عليه أن يتصرف على هذا النحو دون أي شك، ولقد نقصت موارده من جراء ذلك بمعدل ثلاثة أرباعها لكن الأمر كان إلزاميا، ذلك كان شعوره.
كان فيلارسكي ينوي الذهاب إلى موسكو، فعملا على أن يترافقا خلال الطريق.
شعر بيير خلال نقاهته في أوريل كلها بإحساس بالفرج والاستقلال والتجدد، فلما سار في الطريق ووجد نفسه في الهواء الطلق وشاهد مئات الوجوه المعروفة ازداد هذا الشعور امتدادا. كان خلال كل الوقت الذي استغرقه الطريق أشبه بطالب في عطلته: كل الأشخاص الذين قابلهم؛ سائق المركبة، مدير بريد، القرويون على الطريق أو في القرى، كل شيء اتخذ سمة جديدة في نظره، وما كان وجود فيلارسكي وملاحظاته وشكاواه المستمرة عن الفقر ومن تأخر الزحف على أوروبا وجهل روسيا إلا لتزيد من سرور بيير. كان بيير يرى قوة حيوية خارقة حيث لا يرى فيلارسكي إلا مظهر الموت، هذه القوة المتسلطة التي تدعم في ذلك الثلج الذي يغطي المساحات وجود هذا الشعب الذي لم يمس، الخاص الوحيد. ما كان يتأمل صديقه، ولكنه وكأنه يؤيده في رأيه، لأن التظاهر بالموافقة أقصر سبيل إلى تحاشي محاولات عقيمة، كان يصغي إليه بابتسامة مرحة.
الفصل الخامس عشر
العودة إلى موسكو
كما أنه يصعب بيان أين يذهب النمل، ولماذا يدب فيه النشاط عندما تنهار مدينته فيبتعد بعضه جارا معه البيوض والجثث والقش والدقيق ويعود البعض الآخر إلى المدينة، ولماذا يتدافع ويتقاتل ويطارد بعضه؛ كذلك يصعب تفسير الأسباب التي دفعت الروسيين بعد ذهاب الفرنسيين إلى التجمع في ذلك المكان الذي كان يدعى من قبل موسكو. وكما يلمس المرء عند ملاحظته النمل المنتشر حول مدينته المخربة، وجلد هذه الحشرات التي لا تحصى ونشاطها وحيويتها رغم انهيار مدينتها الكامل، أن كل شيء قد دمر باستثناء شيء ممتنع عن الدمار، شيء غير مادي هو أساس كل قوة مدينة النمل؛ كذلك موسكو في شهر تشرين الأول، فقد ظلت موسكو نفسها رغم عدم وجود سلطات ولا كنائس ولا أشياء مقدسة ولا ثروات ولا بيوت، ظلت كما كانت في شهر آب، كان كل شيء متهدم فيها باستثناء شيء قوي وغير قابل الهدم.
كانت دوافع الأشخاص المنتقلين نحو موسكو بعد جلاء العدو عنها من أكثر الدوافع اختلافا، دوافع شخصية وذات طابع بدائي حيواني في الآونة الأولى. وكان الشعور الوحيد المشترك بين الجموع هو رغبتهم في العودة إلى ذلك المكان الذي كان يدعى من قبل موسكو وممارسة نشاطهم فيه.
في غضون أسبوع أصبحت موسكو تضم خمسة عشر ألف ساكن، وبعد أسبوعين قفز العدد إلى خمسة وعشرين ألفا وهلم جرا، ومضى الرقم في تزايد مستمر حتى إن عدد السكان في خريف عام 1813 فاق عددهم في عام 1812.
كان الروسيون الأول الذين دخلوا موسكو هم قوقازيو فيلق وينتزبخيرود، وقرويون من القرى المجاورة، والسكان الهاربون الذين اختبئوا في الريف المتاخم، وعندما دخلوا موسكو الخربة ووجدوا أنها منهوبة شرعوا هم كذلك بالسلب، لقد أتموا ما بدأه الفرنسيون، كان القرويون يقدمون بعرباتهم ليحملوا إلى مساكنهم كل ما بقي في المنازل المتهدمة وفي الشوارع، وحمل القوقازيون كذلك إلى معسكرهم كل ما استطاعوا حمله، ووضع ملاك البيوت أيديهم على كل ما وجدوه لدى الآخرين، ونقلوه إلى مساكنهم بحجة أن هذه الأشياء تخصهم.
وبعد هؤلاء النهابين الأولين جاء آخرون ثم آخرون كذلك، وبات السلب آخذا في الصعوبة كلما ازداد عدد السلابين حتى بدأ يأخذ أشكالا منهاجية.
لقد وجد الفرنسيون موسكو فارغة ولكن حية بأعضاء منتظمة وبكل ما ينفع لممارسة التجارة والمهن والترف والإدارة والدين، كانت أعضاء جامدة ولكن صالحة للعمل بعد، كانت هناك أسواق ودكاكين وحوانيت ومستودعات وأماكن لبيع الخضار وجلها مليء بالسلع، وكانت هناك مصانع ومعامل وقصور ومساكن غنية مليئة بالأشياء الثمينة، وكانت هناك مستشفيات وسجون ومكاتب وكنائس وكاتدرائيات. وكلما طال أمد مكوث الفرنسيين راحت إطارات حياة المدينة هذه تختفي، حتى إن موسكو غدت في النهاية ساحة كبيرة متسعة للموت والنهب.
وكلما طال أمد نهب الفرنسيين نضبت ثروات موسكو وطاقة السلابين. أما سلب الروسيين، الذي اتصفت به أيام عودتهم الأولى إلى العاصمة، فكان على العكس: كلما طال أمده وكثر عدد المساهمين فيه، أقام ثروة المدينة وحياتها الطبيعية بسرعة أكثر ...
وإلى جانب السلابين جاء أناس من مختلف الألوان بعضهم بدافع الفضول، وبعضهم بدافع واجبات عمله، وبعضهم بدافع المصلحة، بين ملاكين وطلبة دينيين وموظفين كبار وصغار وباعة وصناع وقرويين، توافدوا من كل حدب إلى موسكو كما يندفع الدم إلى القلب.
ولم يكد يمضي أسبوع حتى صودرت عربات القرويين، الذين جاءوا بها فارغة لينقلوا عليها ما يستطيعون حمله إلى منازلهم، واستعملت من جانب السلطة في نقل الجثث خارج المدينة. وآخرون علموا بإخفاق رفاقهم، كانوا يفدون إلى المدينة حاملين على عرباتهم الحنطة والعلف والخرطال، ويخفضون الأسعار بشكل مناسب حتى باتت أكثر انخفاضا من سابق العهد. وراحت فرق من النجارين تفد باستمرار يجذبها ارتفاع الأجر، وشرعت هذه الفرق تعيد البناء أو تصلح البيوت المحترقة. وأخذ الباعة يقيمون لأنفسهم الدكاكين في مبان من الخشب، وفتحت الخانات والفنادق في الدور المحترقة. وراح رجال الدين يقيمون الاحتفالات الدينية في عدد كبير من الكنائس ظلت سليمة، وشرع بعض الواهبين يعيدون إلى الكنائس الأشياء ذات الطابع الديني المسروقة. وراح الموظفون يقيمون في حجرات صغيرة مكاتبهم المغطاة بالقماش وخزائن. وراحت سلطات البوليس توزع الأمتعة والأشياء التي تركها الفرنسيون. وراح أصحاب البيوت الذين وجدت لديهم أمتعة كثيرة مصدرها بيوت أخرى يحتجون مشتكين بمغدوريتهم في نقل كل الأشياء المنقولة إلى قصر فاسيت (في الكريملن)، وآخرون أخذوا يحتجون بأن الفرنسيين جميعا وضعوا كثيرا من أثاث البيوت في بيت واحد، وأنه ليس من العدل تقديم ذلك المتاع المجموع هدية إلى صاحب البيت الذي وجد فيه، وكانوا يشتمون رجال الشرطة ويقدمون إليهم الرشوات، ويغالون في تقدير قيمة الممتلكات المحترقة حتى يصلوا إلى عشرة أضعافها ويطالبون بمساعدات مادية. أما الكونت روستوبتشين فكان يدبج بلاغاته.
الفصل السادس عشر
زيارة ماري للأميرة
وصل بيير إلى موسكو حوالي نهاية كانون الثاني وأقام في جناح من مسكنه ظل قائما، قام بزيارة لروستوبتشين وإلى آخرين من معارفه الذين عادوا إلى المدينة، واستعد منذ غداة اليوم التالي لوصوله بمتابعة السفر إلى بيترسبورج. وكان الناس كلهم يتباهون بالنصر وكل شيء يجيش بالحياة في العاصمة المنبعثة. وكان كل واحد سعيدا برؤية بيير من جديد، يستقبله كل واحد ويستجوبه عما رآه، فكان يشعر في نفسه بأكثر الميول صداقة نحو كل الذين يقابلهم، لكنه أصبح رغما عنه يحتفظ الآن ببعض التحفظ الذي كان يسمح له بعدم الدخول في التزام ما. كان يجيب على كل سؤال يوجه إليه سواء أكان السؤال مهما أم تافها، عندما يسأل أين سيقطن، هل سيعيد بناء مساكنه، هل يقبل حمل صندوق صغير معه إلى بيترسبورج؛ كان يجيب: نعم، يمكن أن يكون، آمل ذلك، أو جوابا آخر من هذا القبيل.
علم أن آل روستوف موجودون في كوستروما، لذلك فإن التفكير في ناتاشا راح يراوده بين حين وآخر، وعندما كانت الفكرة تراوده لم تكن أشبه بذكرى فاتنة لماض يطل منذ زمان طويل، كان يظن أنه تحرر ليس من فروض الحياة كلها فحسب، بل كذلك من ذلك الإحساس الذي يصور له أنه تقبل موضوعا متعمدا.
علم غداة اليوم التالي لوصوله إلى موسكو من آل دروبتسكوي أن الأميرة ماري موجودة في موسكو، فراحت آلام وموت وأيام الأمير آندريه الأخيرة تغزو مخيلة بيير الآن بشكل أقوى من أي وقت مضى، فلما علم خلال الغداء أن الأميرة ماري في المدينة وأنها تقطن بيتها في فوزدفيجنكا الذي ظل سليما، مضى لزيارتها ذلك المساء بالذات.
لم يكف خلال الطريق عن تمثل الأمير آندريه وتصور صداقتهما ولقاءاتهما العديدة، وبصورة خاصة لقائهما الأخير في بورودينو.
راح يحدث نفسه: «هل يمكن أن يكون قد مات وهو في حالة الانفعال والثورة التي كان عليها حينذاك؟ هل يمكن ألا تكون الحياة قد تكشفت له قبل موته؟» وفكر في موت كاراتاييف، فراح رغما عنه يقارن بين كليهما رغم الود شديد الاختلاف شديد التقارب مع ذلك الذي كان يكنه لهما، ويقارن بين الطريقة التي عاش فيها كل منهما ومات.
ولقد وصل بيير إلى مسكن الأمير العجوز وهو على تلك الحالة الفكرية الخطيرة، ولقد ظل ذلك المسكن سليما يحمل آثار التلف لكنه ظل محتفظا بطابعه. وكان للوصيف العجوز الذي استقبل بيير وجه صارم، وكأنه كان يريد بذلك أن يشعر الزائر بأن غياب الأمير لم يغير شيئا من عادات الدار، قال له: إن الأميرة أوت إلى مخادعها منذ حين لاستقبال يوم الأحد.
قال بيير: اذهب وأخطرها بوجودي لعلها تستقبلني.
فأجاب الوصيف: حسب أوامركم. تفضلوا بالدخول إلى قاعة اللوحات.
عاد الوصيف بعد حين يتبعه ديسال، لقد جاء ديسال يخطر بيير على لسان الأميرة ماري بأنها سعيدة جدا لرؤيته، وأنها ترجوه إذا لم يجد مانعا لهذه الطريقة غير المتكلفة أن يصعد إليها.
كانت الأميرة جالسة في حجرة صغيرة منخفضة السقف تنيرها شمعة واحدة، في صحبة إنسان متشح بالسواد. تذكر بيير أنها تحتفظ دائما إلى جانبها بسيدات مرافقات، أما فيما يتعلق بمن كن أولئك السيدات وكيف كن، فإنه لم يكن يذكر أبدا. فكر وهو يلقي نظرة على السيدة المتشحة بالسواد: «إنها إحدى مرافقاتها.»
نهضت الأميرة بنشاط وجاءت تستقبله وتمد له يدها، وتقول وهي تتأمل التغيير الذي طرأ عليه بعد أن فرغ من تقبيل يدها: نعم، هذا هو الشكل الذي نلتقي عليه.
ثم أضافت وهي تنقل بصرها على السيدة المرافقة في شيء من الارتباك جعل بيير يدهش لحظة: لقد تحدث عنك كثيرا في الأويقات الأخيرة. كم كنت مسرورة إذ علمت أنك أنقذت! إنه الخبر الطيب الوحيد الذي تلقيناه منذ أمد طويل.
ومن جديد ألقت نظرة أكثر قلقا على السيدة المرافقة، وأرادت أن تضيف شيئا ما لكن بيير قاطعها ليقول: تصوري أنني ما كنت أعرف عنه شيئا، كنت أظن أنه قتل، وكل ما عرفته نقل إلي من قبل آخرين، أشخاص ثالثين، لقد رووا لي أنه وجد نفسه لدى آل روستوف ... يا للقدر الغريب!
كان بيير يتحدث بحماس وحميا. نظر بدوره إلى السيدة المرافقة فشاهد النظرة المحبة التي ترمقه بها، وكما يحدث غالبا في بحر الحديث شعر دون أن يدري السبب أن هذه المخلوقة ذات الرداء الأسود لطيفة طيبة، وأنها مخلوقة ممتازة لا تزعج في شيء سياق حديثه مع الأميرة ماري.
لكنه عندما نطق باسم آل روستوف ازداد دهشة للارتباك الذي بدا على الأميرة ماري، لقد انتقلت نظرتها من جديد من وجه بيير إلى السيدة ذات الثوب الأسود، وقالت: كيف؟ ألا تعرفها؟
ألقى بيير من جديد نظرة على ذلك الوجه الهزيل الشاحب ذي العينين السوداوين والفم الغريب الذي للسيدة المرافقة، كان هناك شيء ما أليف، شيء منسي منذ زمن طويل، شيء عزيز جدا ينظر إليه بتينك العينين اليقظتين.
فكر: «كلا، هذا لا يمكن أن يكون! هذا الوجه الشاحب الهزيل الصارم الضعيف! لا يمكن أن يكون هي مجرد شبه!» لكن الأميرة ماري قالت في تلك اللحظة: «ناتاشا»، وبدا الوجه ذو العينين المتيقظتين كأنه يتفتح بعناء وبجهد كما يفتح باب علاه الصدأ وأضاء بابتسامة، ومن خلال ذلك الباب المفتوح لفحت بيير فجأة نفحة عطرة من تلك السعادة المنسية منذ وقت طويل، التي كان في تلك اللحظة بالذات أبعد ما يكون عن التفكير فيها، شمله ذلك العطر وتسلل إلى كليته، ولما ابتسمت لم يعد للشك مجال، إنها ناتاشا دون ريب وإنه ليحبها.
منذ الدقيقة الأولى كشف بيير رغما عنه لناتاشا والأميرة ماري وخصوصا لنفسه عن السر الذي كان يجهله، تضرج وجهه من الفرح والألم وأراد إخفاء انفعاله، لكنه كلما جاهد لإخفائه كان يكشف عن حبه لنفسه ولناتاشا وللأميرة ماري بشكل أوضح من التعبير عنه بدقيق الكلام.
حدث بيير نفسه: «لا بد وأن ذلك ناجم عن المفاجأة»، لكنه عندما أراد أن يستأنف الحديث مع الأميرة ماري، نظر مرة أخرى إلى ناتاشا فغطت وجهه حمرة قانية واكتسحه تأثر أقوى مبعثه القلق والفرح، وراح يتخبط في أقواله ثم توقف في منتصف جملة.
لم يلاحظ بيير وجود ناتاشا بادئ الأمر، لأنه ما كان يتوقع أن يراها هناك، ثم إنه لم يعرفها بسبب التغيير الكبير الذي طرأ عليها منذ آخر مرة رآها فيها، لقد هزلت وشحبت. ولكن لم يكن كل هذا هو الذي يجعلها غير معروفة له، كان يستحيل عليه أن يعرفها للوهلة الأولى لأن على ذلك الوجه، في تينك العينين اللتين كانت بهجة الحياة تشع منهما فتلتمع بها ابتسامة غامضة، لم يكن على ذلك الوجه حتى ولا شبح ابتسامة، لم يبق إلا العينان المتيقظتان الطيبتان الحزينتان المستفسرتان.
لم ينتقل اضطراب بيير منه إلى ناتاشا، لكن ابتهاجا لا يكاد يلحظ أضاء وجهها.
الفصل السابع عشر
مفاجأة
قالت الأميرة إنها جاءت تقضي بعض الوقت معي، ولسوف يصل الكونت والكونتيس في حالة مريعة بعد حين أن الكونتيس، بيد أن ناتاشا نفسها في حاجة إلى معالجة طبيب، وقد أرغموها على مرافقتي.
فقال بيير مخاطبا ناتاشا: نعم، هل هناك أسرة لا ألم لها؟ إنك تعرفين أن ذلك وقع يوم تحريرنا بالذات، لقد رأيته، يا للفتى الفتان!
أخذت ناتاشا تتطلع إليه وكجواب على كلماته اتسعت عيناها وأضاءتا بوميض أقوى. استأنف بيير: ماذا يمكن أن يقال أو أن يتصور مما يبعث العزاء؟ لا شيء، لماذا كان يجب أن يموت فتى على مثل لطفه؟ مثله طافح بالحياة.
فقالت الأميرة ماري: نعم، في العصر الذي نعيش فيه يصعب العيش بدون الإيمان.
فبادر بيير يجيب: نعم، نعم، هذه هي الحقيقة الحقة.
سألت ناتاشا وهي تحدق بانتباه في عيني بيير: لماذا؟
استأنفت الأميرة: كيف لماذا؟ لمجرد التفكير فيما ينتظر ...
بيد أن ناتاشا لم تصغ إلى النهاية، بل راحت من جديد تحدق في عيني بيير بنظرة مستفسرة، استرسل بيير يقول: لأن الإنسان الذي يؤمن بأن هناك إلها يسيرنا يستطيع وحده أن يحتمل خسارة مثل خسارتها و... خسارتكم.
فتحت ناتاشا فمها لتجيب لكنها صمتت فجأة، وأسرع بيير يشيح بوجهه وراح يخاطب الأميرة ماري مستفسرا منها عن أيام صديقه الأخيرة.
ولقد تبدد اضطراب بيير تقريبا، لكنه كان يشعر بذات الوقت أن حريته السابقة كلها قد اختفت بالمثل، شعر الآن أن لكل كلماته وتصرفاته حكما يعتبر حكمه أغلى وأثمن من حكم العالم أجمع، فراح وهو يتكلم يجزع للأثر الذي تحدثه كلماته على ناتاشا، ما كان يبحث عن الكلمات التي يمكن أن تروق لها، لكنه كان يحكم على كل ما يقوله من وجهة نظرها هي.
وكعادتها دائما راحت الأميرة ماري تتكلم دون حماس عن الحالة التي وجدت الأمير آندريه عليها، لكن أسئلة بيير ونظرته المتقدة الجزعة ووجهه المضطرب من التأثر دفعتها تدريجيا إلى الدخول في تفاصيل كانت تخاف على نفسها من أن تجدد ذكراها.
كرر بيير وهو منحن بكل جسده إلى الأمام نحو الأميرة ماري يصغي بفهم إلى روايتها: نعم، نعم، هو ذلك، هو ذلك ... نعم، نعم، إذن لقد هدأ؟ لقد رق؟ ذلك أنه ما كان يبحث إلا عن أمر واحد بكل قوة روحه، كان يريد أن يكون جيدا بكمال وما كان ولا ريب يخاف الموت، والأخطاء التي كانت فيه - إذا كانت لديه أخطاء - لم تكن صادرة عنه، إذن لقد رق؟
وقال فجأة مخاطبا ناتاشا والدموع ملء عينيه: يا لسعادته إذ شاهدك!
طافت على وجه ناتاشا انتفاضة، وقطبت حاجبيها وخفضت عينيها فترة، وترددت ثانية في الكلام، ثم قالت بصوتها الحلو الخطير: نعم، كان ذلك ولا ريب سعادة لي.
ثم بعد صمت أردفت: وهو ... هو ... لقد قال لي إنه كان يرغب في رؤيتي في اللحظة التي جئت فيها إليه ...
وتحطم صوت ناتاشا، تضرج وجهها وتقلصت يداها أعلى ركبتيها، وفجأة بذلت مجهودا ظاهرا على نفسها فرفعت رأسها وراحت تتحدث بسرعة: ما كنا نعرف شيئا عندما غادرنا موسكو، وما كنت أجرؤ على الاستعلام عنه، إن سونيا هي التي أخطرتني فجأة بأنه معنا، ما كنت أفكر في شيء ولا أقدر على تمثل الحالة التي هو عليها.
وأضافت وهي تتغضن وتتنفس بصعوبة: كنت أريد فقط أن أراه وأن أكون معه.
ودون أن تسمح بمقاطعتها روت ما لم تتحدث به بعد إلى أحد، روت كل ما عانته طيلة أسابيع سفرهم الثلاثة وفي مكوثهم في إياروسلافل.
وكان بيير يصغي إليها فاغر الفم وعيناه الممتلئتان بالدموع شاخصتان إليها، لم يكن وهو يصغي إليها يفكر في الأمير آندريه ولا في الموت ولا في ما تقول، كان يشفق عليها فقط للألم الذي تسببه الرواية لنفسها.
أما الأميرة التي كان وجهها متقلصا كله لرغبتها في كبت دموعها، فقد كانت جالسة إلى جانب ناتاشا تصغي للمرة الأولى إلى قصة أيام الغرام الأخيرة بين أخيها وناتاشا.
وكانت رواية هذه الآلام المشفوعة بالفرح ضرورة لناتاشا كما كان ذلك واضحا.
كانت تتحدث خالطة أتفه التفاصيل بأعمق الأسرار الشخصية، تبدو كأنها لم تعد تستطيع التوقف، ولقد كررت مرارا الأشياء ذاتها.
وارتفع صوت ديسال من وراء الباب يسأل عما إذا كان نيكولا الصغير يستطيع الدخول لإلقاء تحية المساء، فأعقبت ناتاشا: وهذا كل شيء، كل شيء ...
ونهضت بشدة في اللحظة التي دخل فيها نيكولا ، ولقد اصطدم رأسها وهي تسارع إلى الخروج بالباب الذي يحجبه ستر، فاندفعت خارجة وهي تزمجر من الألم بقدر ما يطفح في نفسها من الحزن.
نظر بيير إلى الباب الذي خرجت منه دون أن يدرك لماذا ظل فجأة وحيدا في العالم.
أخرجته الأميرة ماري من تأملاته، جاذبة انتباهه إلى ابن أخيها الذي دخل لتوه، ولقد أحدث وجه نيكولا الشديد الشبه بوجه أبيه في نفسه وهو على تلك الحالة من التحنان أثرا كبيرا، حتى إنه بعد أن عانق الفتى نهض بشدة وأخرج منديله ثم ابتعد نحو النافذة، أراد أن يستأذن الأميرة ماري منصرفا لكنها استبقته: كلا، لا تذهب، إن ناتاشا وأنا نسهر أحيانا حتى قرابة الساعة الثالثة صباحا، عد إلى الجلوس أرجوك، سوف آمر بإعداد العشاء، انزل، لن نتأخر عن اللحاق بك.
وفي اللحظة التي هم بيير فيها بالخروج قالت له الأميرة: هذه هي المرة الأولى التي تحدثت فيها عنه بهذا الشكل.
الفصل الثامن عشر
لقاء مع ناتاشا
اقتيد بيير إلى غرفة طعام كبيرة جيدة الإضاءة، ولم يلبث بعد بضع دقائق أن تناهى إليه وقع خطى، ودخلت الأميرة ماري إلى الحجرة مع ناتاشا، كانت ناتاشا هادئة وإن كان وجهها قد اتخذ طابعه الصارم الخالي من الابتسام. ولقد شعر ثلاثتهم، الأميرة ماري وناتاشا وبيير، بذلك الانزعاج الذي يعقب عادة حديثا شخصيا جديا، إذ تتعذر العودة إلى الحديث السابق ويخجل المرء أن يتحدث عن التفاهات، كما أنه يحس بالانزعاج إذ يصمت لأن به حاجة إلى الكلام، ولأن الصمت المطبق الذي يلزمه صمت ملزم. جلسوا إلى المائدة صامتين، وأبعد الخدم الكراسي ليسمحوا لهم بالجلوس ثم عادوا فقربوها. ونشر بيير منشفته الباردة، ونظر إلى ناتاشا ثم إلى الأميرة ماري وبه رغبة في قطع حبل الصمت، كانتا دون ريب تحسان بمثل تلك الرغبة، لقد كانت عينا كليهما تشع بالرغبة في الحياة، وتبدوان شاهدة على أن هناك مكانا للفرح رغم الحزن.
سألت الأميرة ماري: هل ترغب في شرب الفودكا يا كونت؟
فطردت هذه الكلمات فجأة أطياف الماضي. أضافت : حدثنا عنك، إنهم يروون عنك أشياء لا تصدق.
أجاب بيير وعلى شفتيه تلك الابتسامة الطافحة بسخرية حلوة التي أصبحت مألوفة لديه: نعم، لقد رووا إلي شخصيا أشياء مدهشة حقا لم أرها بنفسي قط. لقد دعتني ماري إبراموفنا إلى منزلها وقصت علي حكاية ما وقع لي أو بالأحرى ما وجب أن يقع لي، ثم إن ستيبان ستيبانيتش علمني هو الآخر ما يجب أن أرويه عن نفسي. لقد لاحظت بصورة عامة أن كون المرء شخصا مهما عمل يحوي كل عناصر الراحة، ولما كنت الآن أحد المهمين فإنهم يستدعونني ويسردون حكايتي.
ابتسمت ناتاشا وكادت أن تفتح فاها لتقول شيئا غير أن الأميرة ماري قالت تستوقفها: لقد أكدوا لنا أنك تعرضت لخسارة مليوني روبل في موسكو، هل هذا صحيح؟
فهتف بيير: لكنني الآن أغنى ثلاث مرات مما كنت قبلا.
لقد ظل بيير يؤكد رغم ديون زوجته وضرورة إعادة البناء التي تبدل وجه أعماله أنه أغنى ثلاث مرات من ذي قبل.
أضاف بيير بصوت خطير: على أية حال فإن ما ربحته بشكل لا يتطرق إليه الجدل هو حريتي.
لكنه امتنع عن الاستمرار في الحديث واجدا أن من الأنانية الاقتصار في الحديث على نفسه من جانبه. - وتريد إعادة البناء؟ - نعم، إن سافيليتش يرغب في ذلك.
قالت الأميرة ماري: قل لي، ما كنت تعرف بموت الكونتيس بعد عندما كنت في موسكو، أليس كذلك؟
واحمر وجهها إثر ذلك عندما شعرت بأنها طرحت عليه هذا السؤال فور إعلانه نبأ استرداده حريته، وأن ذلك يمكن أن يعطي لكلماته معنى قد لا يكون عناه بها.
أجاب بيير الذي لم يظهر عليه أنه يعتبر الطريقة التي فسرت فيها الأميرة توريته إلى حريته مربكة: كلا ، لقد عرفت الأمر في أوريل، ولا يمكنك أن تتصوري الأثر الذي أحدثه ذلك في نفسي.
وأردف بحمية وهو يختلس نظرة إلى ناتاشا ويلاحظ على وجهها الفضول الذي ارتسم عليه بانتظار أن يتحدث عن زوجته: لم نكن زوجين مثاليين لكن موتها هذا أحدث في نفسي أثرا مريعا. عندما يتخاصم شخصان يكون كلاهما على خطأ، والمرء يشعر بخطئه أوقع على نفسه حيال شخص لم يعد على قيد الحياة، ثم إن موتا بهذا الشكل ... دون أصدقاء ولا أعزاء.
وأعقب وهو يلاحظ مسحة من التأييد المرح على وجه ناتاشا: إنني أشفق عليها كل الإشفاق، كل الإشفاق!
فقالت الأميرة ماري ملاحظة: وعلى هذا ها إنك عزب من جديد، وصالح للزواج.
فتضرج وجه بيير فجأة وبذل جهده كي لا ينظر ناحية ناتاشا لفترة طويلة، ولما قرر النظر إليها كانت قد اتخذت وجها جامدا صارما بل ومحتقرا على ما بدا له.
سألت الأميرة ماري: إذن، هل صحيح أنك رأيت نابليون وتحدثت إليه كما قالوا لنا؟
فراح بيير يضحك: ولا مرة واحدة، أبدا، يبدو للناس جميعا أن الوقوع في الأسر معناه المكوث في ضيافة نابليون، إنني لم أره أبدا فحسب، بل كذلك لم أسمع أحدا يتحدث عنه. لقد كنت في صحبة أسوأ مما تظنين.
كادوا أن يفرغوا من الطعام، ووجد بيير نفسه مساقا إلى التحدث عن أسره، وهو الذي تحاشى بادئ الأمر الخوض في هذا الموضوع.
سألته ناتاشا وهي تبتسم ابتسامة خفيفة: هل صحيح أنك مكثت في موسكو لتقتل نابليون؟ لقد خمنت ذلك عندما التقينا قرب برج سوخارييف، هل تذكر؟
اعترف بيير بأن ذلك صحيح. واستسلم أخيرا، تدفعه تدريجيا أسئلة الأميرة ماري وخصوصا أسئلة ناتاشا، إلى رواية مغامراته بالتفصيل.
تحدث أولا بتلك المسحة الساخرة اللطيفة التي باتت الآن ترافق أحكامه على الآخرين وعلى نفسه بصورة خاصة، لكنه عندما بلغ في حديثه إلى الأهوال والآلام التي شهدها احتد دون أن يشعر بذلك، وراح يعبر عن مشاعره بالانفعال الكامن الذي يعتلج في نفس إنسان عاش فترات أليمة مؤثرة.
كانت الأميرة ماري تنظر تارة إلى بيير وأخرى إلى ناتاشا وعلى شفتيها ابتسامة أنيسة، كانت ترى في كل ما تسمعه بيير وطيبته فحسب. أما ناتاشا فكانت متكئة بمرفقيها إلى المائدة تتبدل أمارات وجهها باستمرار، تتابع ما يقوله بيير دون أن تغادره بعينيها دقيقة واحدة وكأنها تحيا معه في كل ما يرويه، ولم تكن نظرتها وحدها تبرهن لبيير على أنها فاهمة كل ما يريد التنويه عنه، بل كذلك هتافات الدهشة التي كانت تطلقها والأسئلة المختصرة التي كانت تطرحها عليه. وكان يستنتج أنها لم تكن تستوعب القصة التي يرويها فحسب، بل كذلك ما لم تكن الكلمات قادرة على التعبير عنه. وفيما يلي الأسلوب الذي روى فيه بيير قصة المرأة والطفل اللذين أنقذهما واللذين كانا سبب توقيفه: كان مشهدا مريعا، أطفال مهجورون، وبعضهم في أحضان اللهب ... ولقد أخرجوا واحدا أمامي من النار ... نساء كانوا يسلبونهن ما معهن وينتزعون الأقراط من آذانهن ... وتضرج وجه بيير فجأة وتمتم: وحينئذ برزت دورية من العسس فاقتادت كل الرجال، كل الذين ما كانوا يسلبون، وأنا بينهم.
قالت ناتاشا: إنك لا تذكر كل شيء، لا بد وأنك عملت شيئا.
ثم أردفت بعد توقف: شيئا ما جميلا.
تابع بيير حديثه، ولما بلغ مرحلة إعدام مشعلي النار أراد أن يكتم تفاصيل مريعة جدا، لكن ناتاشا أرغمته على عدم إسقاط شيء.
وكان بيير، الذي نهض عن المائدة وشرع يذرع الحجرة وعينا ناتاشا شاخصتان إليه، يريد أن يتحدث عن كاراتاييف، لكنه توقف. - كلا، لا يمكنكما أن تفهما كل ما علمنيه ذلك الأمي، البسيط الفكر.
فقالت ناتاشا: ولكن بلى، ولكن بلى، استمر. ماذا وقع له؟ - لقد قتلوه تحت بصري تقريبا.
وروى بيير أيام تقهقرهم الأخيرة مع الجيش الفرنسي، ومرض كاراتاييف وموته وصوته دائم التهدج.
كان يروي مغامراته وكأنه لم يستعرضها قط في ذاكرته من قبل، لقد اتخذ كل ما قاساه معنى جديدا الآن في نظره. وبينما هو يتحدث إلى ناتاشا كان يتذوق تلك المتعة النادرة التي تسبغها على الرجال النساء اللاتي يصغين إليهم، ليس النساء الحاذقات اللاتي يبذلن جهدهن وهن يصغين إلى استيعاب ما يقال لهن لإغناء فكرتهن، ولكي يعدن الرواية عند حلول المناسبة مرتبة وفق هواهن، ويروجنها بوضعها إنتاجا أعد في مطبخهن الفكري الصغير؛ بل إن المتعة التي كان يشعر بها كانت تلك التي تسبغها النساء الحقيقيات، أولئك اللاتي يعرفن كيف ينتقين أفضل ما يقال لهن ولا يشبهنه إلا بالأفضل. كانت ناتاشا دون أن تدري كلها آذان صاغية، ما كانت تضيع كلمة ولا نبرة صوتية ولا نظرة ولا حركة من حركات بيير ولا ارتعاشة عضلة من عضلات وجهه، كانت تلتقط الكلمة قبل أن يكاد يفوه بها وتنقلها مباشرة إلى قلبها وهو على أتم استعداد لتلقيها، ولقد خمنت المعنى المستتر لكل ما يعتلج في نفس بيير.
وكانت الأميرة ماري تفهم القصة وتساهم فيها، لكنها كانت ترى بنفس الوقت شيئا آخر احتكر كل انتباهها، كانت ترى إمكانية قيام حب وسعادة بين ناتاشا وبيير، ولقد ملأتها هذه الفكرة التي واتتها للمرة الأولى بالفرح.
بلغت الساعة الثالثة صباحا، وجاء الخدم بوجوههم الصارمة يبدلون الشموع ولكن لم يلق إليهم أحد بالا.
أنهى بيير حديثه وظلت ناتاشا تتأمله شاخصة الأبصار وعيناها تلتمعان بحيوية، وكأنها ترغب في أن تعرف ما تبقى له أن يقول مما يمكن أن يكون قد أخفاه، وراح هو يختلس النظر إليها مضطربا سعيدا، ويتساءل عن الموضوع الذي يجب أن يثيره لإذكاء الحديث، بينما كانت الأميرة ماري صامتة، ولم يكن أحد من الثلاثة يشعر بأن الساعة الثالثة وأن وقت النوم قد أزف.
هتف بيير: إنهم يتحدثون عن الشقاء والألم، لكنهم لو قالوا لي الآن في هذه الدقيقة: هل تفضل أن تعود إلى ما كنت عليه قبل الأسر، أم أن تحيا من جديد كل هذه المغامرة من بدايتها؟ لأجبتهم: بحق الله، أعيدوا إلي الأسر ولحم الحصان! إن المرء يعتقد بأنه ضائع منذ أن يلقى خارج الطريق المألوف، في حين أن هنا يبدأ شيء جديد طيب، إن السعادة موجودة ما وجدت الحياة، ولدينا أمامنا سعادة، كثير من السعادة.
وأضاف مخاطبا ناتاشا : إنني أوجه هذا القول إليك بصورة خاصة.
فأجابت وأفكارها نائية: نعم، نعم، أما أنا فإنني لا أرغب في أكثر من أن أحيا الحياة التي عشتها من قبل.
تأملها بيير بانتباه فقالت مؤيدة: نعم، ولا شيء أكثر!
صاح بيير: هذا خطأ، كل الخطأ! إنني لست مسئولا أن أعيش وأن أرغب في العيش، ولا أنت كذلك.
وفجأة أسقطت ناتاشا رأسها بين يديها وانخرطت في البكاء. سألت الأميرة ماري: ناتاشا، ما بك؟! - لا شيء، لا شيء، (وابتسمت لبيير خلال دموعها) إلى اللقاء، لقد حان وقت النوم.
فنهض بيير واستأذن منصرفا.
تقابلت الأميرة ماري وناتاشا كعادتها في غرفة نومها، وتحدثتا عما رواه بيير. لكن الأميرة ماري لم تقل رأيها في بيير، وكذلك ناتاشا فإنها لم تتحدث عنه.
قالت ناتاشا: هيا، عمي مساء يا ماري، إنني غالبا ما أخاف كما تعلمين من كثرة عدم تحدثنا عنه (عن الأمير آندريه)، وكأننا نخشى أن ندنس عاطفتنا فننساه.
زفرت الأميرة ماري زفرة عميقة، وكان معنى تلك الزفرة أنها تجد أن ناتاشا قد صدقت القول، لكنها مع ذلك لم تعرب لها عن تأييدها، قالت: وهل يمكن النسيان؟
فقالت ناتاشا: لقد أفادني جدا أن تحدثنا على هذا الشكل اليوم، كان ذلك أليما صعبا لكنه أفادني، إنني واثقة من أنه كان يحبه حقا، ولهذا السبب قصصت عليه ...
وفجأة سألت وقد تضرج وجهها: هل كنت مخطئة؟
فهتفت الأميرة ماري: بتحدثك إلى بيير؟ أوه! كلا، إنه شديد الطيبة.
استأنفت ناتاشا فجأة وعلى شفتيها الابتسامة الكيسة، التي لم تعد الأميرة ماري تراها على وجهها منذ أمد طويل: هل تعلمين أنه أضحى شديد النظافة، شديد الوضوح، منتعشا جدا وكأنه خارج لتوه من الحمام، هل تفهميني؟ حمام معنوي أليس كذلك صحيحا؟
فردت الأميرة ماري: نعم، لقد كسب كسبا كبيرا. - ومعطفه الرسمي القصير، وشعره المعنى به، نعم، تماما مثل الخارج من الحمام ... مثل أبي سابقا ...
قالت الأميرة ماري: أفهم «أنه» (الأمير آندريه) لم يحبب قط إنسا بقدر ما أحبه. - نعم، مع أنه ليس بينهما شيء مشترك، يزعمون أن الصداقات بين الرجال تقوم بين أفراد مختلفين كل الاختلاف، ويجب الاعتقاد بصحة ذلك إذ هل يشبهه في شيء حقا؟ - على أية حال إنه فتى رائع!
ردت ناتاشا: هيا، عمي مساء.
وظلت الابتسامة الكيسة على وجهها فترة طويلة وكأنها نسيت عليه.
الفصل التاسع عشر
الحب
مكث بيير طويلا قبل أن استطاع النوم ذلك اليوم، كان يمشي في طول غرفته وعرضها يقطب حاجبيه تارة وهو مستغرق في أفكار خطيرة، ويهز كتفيه تارة أخرى وكأن الرعشة تسري فيه، وتارة يبتسم باغتباط سعيد.
كان يفكر في الأمير آندريه وناتاشا وفي غرامها، فيشعر تارة بالغيرة من ناتاشا وماضيها، ويأخذ على نفسه غيرته تلك تارة أخرى، ويعتذر عن نفسه تارة ثالثة. وكانت الساعة السادسة صباحا وهو لا يزال في نزهته عبر غرفته.
حدث نفسه وهو يخلع ثيابه بعجلة ويتمدد في سريره متأثرا، ولكن دون أن يشعر بشك ولا بتردد: «ولكن ما العمل في ذلك طالما لا يمكن معالجته في شيء؟ ما العمل في ذلك؟ لا ريب أن الأمور يجب أن تكون على هذا النحو.»
وحدث نفسه: «مهما بلغت غرابة هذه السعادة واستحالتها، يجب علي أن أعمل كل شيء لنصبح زوجا وزوجة.»
لقد حدد قبل أيام سفره إلى بيترسبورج، فلما استيقظ وكان يوم خميس جاء سافيليتش يسأله أوامره بصدد استعدادات السفر.
تساءل بيير رغما عنه: «لماذا السفر إلى بيترسبورج؟ ولم أذهب؟ وما عملي هناك؟ ماذا يوجد هناك؟» ثم تذكر: «آه! نعم، كنت مزمعا الذهاب إلى هناك قبل أن يحدث ذلك، لم لا؟ سأذهب فيما بعد.» وفكر وهو ينظر إلى سافيليتش العجوز: «يا له من رجل باسل! ويا لحسن عنايته! إنه يفكر في كل شيء! ثم يا لابتسامته اللطيفة!»
سأل بيير: إذن ما زلت يا سافيليتش لا ترغب في أن تصبح حرا؟ - ماذا أعمل بالحرية يا صاحب السعادة؟ لقد عشنا أفضل حياة تحت أوامر المرحوم سيدي الكونت - ليتغمد الله روحه - وتحت أوامرك أيضا، دون أن يكون لنا قط ما نشكو منه. - ولكن أطفالك؟ - إن الأطفال سيعملون مثلنا يا صاحب السعادة، يستطيعون أن يعيشوا مع أسياد مثلك.
سأل بيير: وورثتي؟
وأضاف وعلى شفتيه ابتسامة لا إرادية: قد أتزوج ذات يوم ... وهذا ممكن الوقوع. - وإنني أسمح لنفسي أن أقول يا صاحب السعادة إن ذلك سيكون جيدا جدا.
ففكر بيير: «ها إنه يعتقد ذلك بسيطا كل البساطة، إنه لا يدرك مبلغ ما هو مريع وخطير وهو واقع إن آجلا أو عاجلا ... إنه شيء مريع!»
سأل سافيليتش: ما هي أوامر سيدي؟ ألا يسافر سيدي غدا؟
فقال بيير: كلا، لقد أرجأت السفر قليلا إلى ما بعد، وسوف أخطرك. اعذرني إذ سببت لك كل هذه المصاعب.
ولما رأى سافيليتش يبتسم فكر: «كم هذا يثير الفضول! إنه لا يشك قط في أن المسألة لم تعد مسألة سفر إلى بيترسبورج، وأنه قبل ذلك يجب الفراغ من أمر ما. على أية حال إنه يرتاب وإن كان يتظاهر بأنه لا يدري شيئا»، ثم تساءل: «هل يجب أن أحدثه بالموضوع؟ أن أسأله رأيه فيه؟ كلا، سيكون ذلك مرة أخرى.»
حدث بيير ابنة عمه خلال الطعام بأنه كان بالأمس عند الأميرة ماري، وأنه شاهد هناك «هل تستطيعين أن تتصوري من؟ ناتاشا روستوف».
تظاهرت بأنها لا تجد ذلك خارقا أكثر مما لو قال لها بيير إنه شاهد هناك مثلا ذات آنا سيميونوفنا.
سأل بيير: هل تعرفينها؟
فأجابت: لقد رأيت الأميرة، وسمعت بأنها مخطوبة إلى روستوف الشاب. سيكون ذلك ذا نفع كبير لآل روستوف، إنهم يشيعون بأنهم في دمار كامل. - كلا، الآنسة روستوف، هل تعرفينها؟ - لقد سمعتهم يروون قصتها، وإنها لقصة محزنة.
حدث بيير نفسه: «إنها بالتأكيد لا تفقه شيئا، أم لعلها تتظاهر بأنها لا تفقه شيئا؟ يجدر بي ألا أحدثها هي الأخرى بشيء.»
ولقد أعدت ابنة العم هي الأخرى بعض الزاد لسفر بيير. فكر هذا: «كم هم طيبون! إنهم يفكرون في كل هذا في حين أن لا فائدة لهم منه، وكل ذلك من أجلي، كم يدهشني ذلك!»
وفي ذلك اليوم بالذات جاء رئيس الشرطة يعلم بيير بوجوب إرسال رجل أهل للثقة إلى قصر فاسيت (في الكريملن)، ليشرف على توزيع الأمتعة التي ستمنح لأصحاب الأملاك.
فكر بيير وهو يتأمل وجه رئيس الشرطة: «وهذا أيضا، يا له من رجل باسل! يا له من ضابط جميل! ويا له من إنسان طيب! الاهتمام «الآن» بمثل هذه التفاهات! في حين أنهم يزعمون بأنه غير شريف، وأنه يقبل الرشوات، كم هذا غباء! ثم لماذا لا يتقبل المال؟ لقد عودوه على ذلك، إنهم جميعا يعملون هذا العمل، ولكن يا له من وجه طيب أنيس! ويا لها من ابتسامة حلوة عندما ينظر إلي!»
ذهب بيير يتناول طعام الغداء لدى الأميرة ماري.
وبينما هو يجتاز الشوارع بين أنقاض الخرائب، أدهشه جمال تلك الدور المتهدمة، كانت هناك أنابيب مدافئ وأجزاء من جدران خربة تذكره بقوة بضياع الرين والكوليزيه،
1
تمتد مختبئة بعضها وراء بعض في الأحياء المحترقة. وكل الأشخاص الذين كان يقابلهم؛ سائقي العربات، النجارين وهم ينظمون الألواح، الباعة، البقالين، كلهم كانوا ينظرون إليه ببهجة، وكأن وجوههم المشرقة تقول: «آه! هذا هو! لنر ماذا سينتج من كل ذلك!»
ولما دخل إلى منزل الأميرة، تساءل بيير عما إذا كان حقا قد جاء إلى هنا أمس، وإذا كان حقا رأى ناتاشا وتحدث معها: «لعلني حلمت بذلك! لعلني سأدخل فلا أجد أحدا.» لكنه ما كاد يجتاز عتبة البهو حتى أشعره اختفاء حريته الكامل بوجود ناتاشا شعورا أحسه بكل كيانه، كانت ترتدي ذلك الثوب الأسود إياه ذا الثنيات الرخوة وتسريحة الشعر تلك التي بدت فيها مساء أمس، مع ذلك فقد كانت مختلفة كل الاختلاف، ولو أن شكلها هذا كان هو شكلها بالأمس لما دخل، لما كان يمكن أن يعرفها للوهلة الأولى.
كانت مثلما عرفها عندما كانت طفلة تقريبا ثم مخطوبة الأمير آندريه، وكانت ومضة سرور تشع في عينيها المستفسرتين، ووجهها يحمل تعبيرا حانيا وكيسا كياسة غريبة في آن واحد.
وكان بيير بعد الغداء يود لو مكث طيلة السهرة هناك، لكن الأميرة ماري كانت تريد حضور قداس المساء، فاضطر بيير إلى الانصراف عندما انصرفت الصديقتان.
وفي اليوم التالي عاد مبكرا فتناول الطعام وأمضى السهرة كلها. ولكن على الرغم من اللذة الواضحة التي أظهرتها كل من الأميرة ماري وناتاشا لرؤيته، وعلى الرغم من أن كل ما في حياته من غرض قد تركز الآن في ذلك البيت؛ فإن الحديث ظل كثير التقطع ينتقل من موضوع تافه إلى آخر مثله وينقطع غالب الأحيان. ولقد تأخر بيير كثيرا حتى إن الأميرة ماري وناتاشا تبادلتا النظرات وتساءلتا عما إذا كان سينصرف بعد حين، وكان يرى ذلك لكنه لا يستطيع الذهاب، لقد شعر كثيرا بالانزعاج والارتباك لكنه ظل مع ذلك جالسا لأنه «ما كان يستطيع» النهوض والانصراف.
ولما لم تجد الأميرة ماري نهاية للموقف نهضت واقفة متذرعة بصداع، واستأذنت منه منصرفة.
قالت: إذن سيكون غدا موعد سفرك إلى بيترسبورج؟
فرد بيير بدهشة وكأن السؤال يهينه ويأخذه على حين غرة: كلا، لست مسافرا، نعم ... كلا ... إلى بيترسبورج؟ غدا.
وأضاف وهو واقف أمام الأميرة ماري متضرج الوجه ولكن دون أن يبدي رغبته في الذهاب: لكنني لا أقول لكما الوداع، سأحضر لأسألكما ما تريدان أن أقوم به لكما من خدمات.
مدت ناتاشا له يدها وانصرفت، وبدلا من أن تنحو الأميرة ماري نحوها عادت إلى أريكتها تغرق فيها، وتشمل بيير بنظرة مشعة عميقة خطيرة ويقظة، ولقد اختفى التعب الذي تظاهرت به منذ حين، أطلقت زفرة عميقة وكأنها تتأهب لحديث طويل.
ولقد تبدد فجأة كل تشوش بيير وارتباكه بذهاب ناتاشا، وحل محلهما حيوية متأججة. أسرع يقرب مقعده من أريكة الأميرة ماري، وشرع يقول جوابا على نظرتها وكأنها سؤال: نعم، كنت أريد أن أقول لك يا أميرة ساعديني، ماذا يجب أن أعمل؟ هل يمكنني أن أطمح؟ أيتها الأميرة، يا صديقتي العزيزة، اصغ إلي، إنني أعرف كل شيء، أعرف أنني لا استحقها، وأعرف أنه لا يمكن التطرق إلى هذا الموضوع في الوقت الحاضر، لكنني أريد أن أكون أخا لها، كلا، ليس هذا، لست أريد، لا أستطيع ...
توقف، ومر بيده على عينيه ووجهه، واستأنف: حسنا، إليك الموضوع.
وبذل مجهودا ظاهرا على نفسه كي يتحدث باطراد متماسك: لست أدري منذ متى أحبها، لكنها هي، هي وحدها، التي أحببتها طيلة حياتي، والتي أحبها لدرجة يتعذر معي أن اتصور الحياة بدونها. إنني لا أسعى إلى طلب يدها على الفور، لكن التفكير في أنها يمكن أن تكون لي وأنني قد أفوت على نفسي هذه الفرصة ... هذه الإمكانية ...! منها مخيفة. قولي لي هل لي أن آمل؟ قولي لي ماذا يجب أن أعمل يا أميرتي العزيزة!
وبعد فترة صمت لمس يدها حين رأى أنها لا تجيب.
قالت الأميرة ماري: إنني أفكر في ما فرغت من قوله لي، وهذا ما أفكر فيه أنك على حق أن تحدثها الآن عن الحب ...
وتوقفت الأميرة، أرادت أن تقول أن تحدثها الآن عن الحب أمر مستحيل، لكنها لم تستطع النطق بهذا الرأي حتى النهاية وهي التي لاحظت منذ أمس الأول تبديلا مفاجئا طرأ على ناتاشا، ورأت أنها إلى جانب عدم اعتبار حديث بيير إليها عن الحب إهانة لها لا ترغب إلا في ذلك الحديث.
رغم ذلك أتمت الأميرة ماري جملتها: أن تحدثها عن الحب الآن ... مستحيل. - إذن ماذا يجب أن أعمل؟
فقالت الأميرة ماري: دعني أعمل، إنني أعرف ...
فنظر بيير إلى عينيها وقال: قولي، قولي ...
صححت جملتها: إنني أعرف أنها تحبك ... وأنها ستحبك.
ولم تكد تنطق بهذه الكلمة حتى انتفض بيير وأمسك بيدها وعلى وجهه أمارات الهلع: لماذا تظنين ذلك؟ هل تظنين أن بوسعي التمسك بالأمل؟ هل تظنين؟
فأكدت الأميرة ماري باسمة: نعم، أظن ذلك، اكتب إلى ذويها واعتمد علي، سوف أحدثها عندما يحين الوقت، إنني أرغب في ذلك، وقلبي يحدثني بأن ذلك سيتم. - كلا، كلا، هذا لا يمكن أن يكون! كم أنا سعيد! ... كلا هذا غير ممكن ... كم أنا سعيد!
وأخذ بيير يردد: كلا، هذا غير ممكن. وهو يقبل يدي الأميرة ماري.
قالت له: ولكن اذهب إلى بيترسبورج ذلك أفضل، وسوف أكتب لك. - إلى بيترسبورج؟ السفر؟ نعم، حسنا جدا، سأذهب، ولكن هل أستطيع الحضور لرؤيتك غدا؟
وفي اليوم التالي جاء بيير يودعها. كانت ناتاشا أقل حيوية من الأيام السابقة، لكنه ذلك اليوم عندما كان ينظر في عينيها كان بيير يشعر بأنه يختفي وبأنه ليس هناك بيير ولا ناتاشا، بل الشعور بالسعادة وحده قائم، كان يكرر تساؤله لنفسه: «هل هذا ممكن؟ كلا، ذلك لا يمكن أن يكون!» ويردد ذلك بعد كل نظرة وكل حركة وبعد كل كلمة من كلمات ناتاشا، وكلها أشياء تطفح لها روحه من البهجة.
وفي لحظة الفراق أخذ يدها الدقيقة المهزولة واستبقاها في يده فترة ما بالرغم منه: «هل يمكن أن تكون هذه اليد وهذا الوجه وهاتان العينان، كل هذا الكنز من الجمال النسائي الغريب عني، هل يمكن أن يصبح كل هذا ملكي إلى الأبد، أن يصبح لي مثل نفسي؟ كلا، هذا لا يمكن أن يكون ...!»
قالت له بصوت مرتفع: إلى اللقاء يا كونت.
ثم أضافت بصوت خافت: سوف أنتظرك بفارغ الصبر.
ولقد كانت هذه الكلمات البسيطة والنظرة والتعبير اللذان رافقاها منبع ذكريات لا ينضب بالنسبة إلى بيير طوال شهرين، ومبعث افتراضات وأحلام سعيدة: «سوف أنتظرك بفارغ الصبر ...» نعم، نعم، كيف قالت ذلك؟ نعم، «سأنتظرك بفارغ الصبر» آه! كم أنا سعيد! كيف يمكن أن يكون ذلك؟! كم أنا سعيد!
ولم يفتأ بيير يردد ذلك.
الفصل العشرون
نفسية بيير
لم يكن يعتلج في نفس بيير في تلك الآونة شيء مماثل لما كان يحس به في مناسبات مماثلة أثناء فترة خطوبته لهيلين.
لم يكن يكرر على نفسه كذلك العهد الكلمات التي فاه بها بخجل مرضي ولا يحدث نفسه قائلا: «آه! لم لم أقل هذا؟ لماذا، لماذا قلت أحبك؟» أما الآن فعلى العكس كان يكرر في ذاكرته كل كلمة من كلماتها وكل كلمة من كلماته، وهو يرى بعين الخيال الأمارات نفسها والابتسامة ذاتها، دون أن يرغب في إبدال شيء وإضافة شيء مهما كان نوعه، كان كل ما يرغب فيه هو ترديد تلك الأقوال أيضا. وأيضا لم يتساءل لحظة واحدة عما إذا كان ما يشرع به سيئا أم جيدا، مع ذلك فإن نوعا من الرهبة كان يتسلط عليه أحيانا: «ولكن أليس كل هذا أضغاث أحلام؟ ألم تخطئ الأميرة ماري؟ ألست شديد التيه بنفسي مفرط الثقة بها؟ إنني مطمئن، وفجأة يقع ما يجب أن يقع، سوف تكلمها الأميرة ماري، وعندئذ سوف تبتسم وتجيب: كم هذا غريب! إنه مخدوع بلا شك، ألا يعرف بأنه مجرد رجل، لا أكثر من رجل، في حين أني أنا ... شيء آخر مختلف كل الاختلاف؟ إنني مخلوق متفوق كل التفوق؟!»
كانت تلك الخشية وحدها تعذب بيير، ما كان يضع أي مشروع للمستقبل إذ إن السعادة التي تنتظره كانت تبدو بعيدة التصديق لدرجة كان يكفيه أن يراها تتحقق، وبعد ذلك لا يمكن لأي شيء أن يكون موجودا، سوف يتم كل شيء.
استحوذ على بيير خبل مفاجئ، كان يعتقد أنه عاجز عن مثله، كان كل معنى الحياة ليس بالنسبة إليه فقط بل بالنسبة إلى العالم أجمع يتلخص في حبه وفي إمكان أن يكون محبوبا منها. كان يخيل إليه أحيانا أن الناس كلهم منشغلون بشيء واحد بسعادته المقبلة، ويخيل إليه أنهم جميعا مبتهجون بقدر ما هو مبتهج، لكنهم يتظاهرون بإخفاء تلك الفرحة متظاهرين بأنهم منصرفون إلى مصالحهم الأخرى. كان يرى في كل كلمة وفي كل حركة تلميحا إلى سعادته. وكان غالبا ما يفاجئ الذين يقابلونه بنظراته وابتساماته المعبرة طافحة بمشاركة سرية ومشعة بالسعادة، لكنه عندما كان يلاحظ أن الأشخاص يمكن أن يكونوا جاهلين بسعادته كان يرثي لهم من كل نفسه، ويشعر بالرغبة في إفهامهم بأن كل ما يشغلهم ليس إلا تفاهة وبلادة لا يستأهلان عناء الالتفات إليهما.
وعندما كانوا ينصحونه بالاضطلاع بأعباء خدمة ما أو يصدرون في حضرته الحكم على مسألة ذات طابع عام تتعلق بالدولة أو بالحرب، ويزعمون أن هذا الحل أو ذاك هو الذي تتوقف عليه سعادة الجميع؛ كان يصغي إلى المحاضر وعلى شفتيه ابتسامة لطيفة مشفقة، ويدهش الذين يتحدثون معه بغرابة ملاحظاته. لكن كل الذين كانوا يبدون له أنهم فاهمون معنى الحياة الحقيقي أي شعوره هو، مثل التعساء الذين بلا ريب ما كانوا يفهمونه؛ كل هؤلاء كانوا يبدون له في هذه الحقبة من حياته تحت الضوء الساطع المنبعث من الشعور الذي يضيء روحه، لذلك فإنه يرى كأنه يرى دون أي عناء في أول من يقع بصره عليه كل ما هو جيد وجدير بالحب.
فحص أوراق زوجته المتوفاة، فلم يشعر لذكراها بأية عاطفة، كان يرثي لها فقط لأنها لم تتعرف على السعادة التي بات يتذوقها الآن. وبدا الأمير فاسيلي شديد الفخار بوسامه الجديد وبالمركز الجديد الذي حصل عليه، بدا لعيني بيير عجوزا يثير الشفقة والرثاء طيبا.
تذكر بيير غالبا في ما بعد هذه الفترة من الجنون السعيد، لقد ظلت الأحكام كلها التي أصدرها حينذاك على الناس والأشخاص عادلة في نظره لا يتطرق إليها الشك، ولم يكتف بعدم التنكر في ما بعد لأية وجهة نظر ارتآها حينذاك، بل كان على العكس يهرع دائما إلى الفكرة التي تبناها خلال فترة جنونه كلما تطرق إلى نفسه الشك العميق أو التردد. وكانت تلك الفكرة تبدو دائما صحيحة.
كان يفكر: «لعلني بدوت حينذاك غريبا ومثيرا للضحك، لكنني ما كنت حينذاك مجنونا بقدر ما يظنون، لقد كنت على العكس أكثر إحساسا ونفاذ بصيرة مما لم أكنه قط، وكنت أفهم كل ما يجدر أن يفهم في الحياة لأنني كنت سعيدا.»
وكان بيير يقوم على أساس أنه لم يعد كسابق عهده ينتظر أن تكون لديه أسباب شخصية ليحب الناس على أساسها، أسباب كان يدعوها ميزان أولئك الناس، بل إن الحب كان يطفح من قلبه فكان يحب الناس دون سبب، ويجد أسبابا لا تقبل الجدال تدفعه إلى محبتهم.
الفصل الحادي والعشرون
اعتراف ناتاشا
منذ ذلك المساء الذي قالت فيه ناتاشا، بعد ذهاب بيير للأميرة ماري بابتسامتها المرحة الفكهة، إنه كان «تماما، حقا تماما كأنه خارج من الحمام، بسترته الرسمية القصيرة وشعره المعنى به»؛ منذ تلك اللحظة استيقظ في أعماق نفس ناتاشا شيء سري مجهول منها ولكن لا يمكن مقاومته، ولقد تبدل وجهها واختلفت أماراتها ونظرتها، انبعثت في نفسها قوة حيوية ما كانت تشتبه بوجودها وآمال في السعادة وأخذت تطالب بنصيبها. ومنذ الليلة الأولى بدت ناتاشا وكأنها نسيت كل ما اجتازته منذ حين، لم تعد تشكو مرة واحدة في الأيام التالية من وضعها، ولا تنوه ولو مرة واحدة بماضيها، ولا تخشى أن تبيت المشاريع البهيجة للمستقبل. كانت قليلة الكلام عن بيير، ولكن عندما كانت الأميرة ماري تشير إليه كانت نار خمدت في نفسها منذ أمد طويل تعود إلى الاتقاد في عينيها، وتنفرج شفتاها عن ابتسامة غريبة.
ولقد أدهش التبدل الذي طرأ على ناتاشا الأميرة ماري بادئ الأمر، ولما أدركت السبب أحست بالكآبة، فكرت الأميرة ماري عندما لبثت وحدها تمعن النظر بذلك التحول: «أتراها كانت تحب أخي محبة سطحية حتى يتيسر لها الآن أن تنساه بمثل هذه السهولة؟» لكنها عندما كانت تجتمع بناتاشا لم تكن تحقد عليها ولا توجه إليها أي لوم. كانت القوة الحيوية المستيقظة في نفس ناتاشا مستولية عليها بشكل لا يقبل المقاومة حقا، شكل لم يكن متوقعا من جانبها نفسها، حتى إن الأميرة ماري أخذت تشعر في حضرتها بأنها لا تملك حق اتهامها حتى ولا سرا في أعماق نفسها.
أما ناتاشا فكانت مستسلمة إلى إفعام كلي وإخلاص تام لشعورها الجديد، حتى إنها ما كانت تحاول إخفاء حلول المرح والابتهاج محل الكآبة والحزن.
وعندما مضت الأميرة ماري إلى حجرتها بعد تفاهمها مع بيير، جاءت ناتاشا تستقبلها على العتبة، سألتها بإلحاح: هل تعلم؟ نعم؟ هل تعلم؟
وارتسم على وجه ناتاشا تعبير مرح وأليم بنفس الوقت يسأل الصفح عن فرحتها: كنت أريد أن أصغي وراء الباب، لكنني كنت أعرف أنك ستحدثينني بكل شيء.
ومهما بلغت النظرة التي شملت بها ناتاشا الأميرة ماري من امتناع عن الإدراك عند هذه وإثارة للعطف، ومهما بلغ إشفاقها عليها لانفعالها وقلقها؛ فإن أقوال ناتاشا آلمتها بادئ الأمر، تذكرت أخاها وغرامه، فكرت: «ولكن ماذا أعمل؟ لا يمكنها أن تكون غير ما هي عليه.»
وكررت على ناتاشا بلهجة حزينة فيها بعض الصرامة كل ما قاله بيير منذ حين، ولقد دهشت ناتاشا عندما علمت بأنه سيسافر إلى بيترسبورج. رددت وكأنها لا تفهم المعنى: إلى بيترسبورج!
لكنها عندما لمحت تعبير الحزن الذي انطبع على وجه الأميرة ماري خمنت السبب، وفجأة انخرطت في البكاء.
قالت: ماري، قولي لي ماذا يجب أن أعمل، إنني أخشى أن أكون رديئة، سوف أعمل ما تشيرين علي بعمله، أعلميني ... - هل تحبينه؟
فهمست ناتاشا: نعم.
قالت الأميرة ماري التي غفرت لناتاشا ابتهاجها بالنظر إلى دموعها: وإذن لماذا تبكين؟ إنني سعيدة من أجلك. - لن يكون الأمر فوريا، بل فيما بعد ... فكري بالسعادة التي ستغمرنا عندما أصبح أنا زوجته، وتصبحين أنت زوجة نيكولا. - ناتاشا، لقد سألتك من قبل ألا تتحدثي عن هذا الأمر، إن المسألة تتعلق بك الآن.
وصمتتا كلتاهما.
وفجأة استأنفت ناتاشا: ولكن، لماذا يسافر إلى بيترسبورج؟
بيد أنها سارعت تجيب نفسها على سؤالها قائلة: كلا، كلا، يجب ذلك، أليس كذلك يا ماري؟ يجب أن يسافر ...
الخاتمة
الجزء الأول
الفصل الأول
القادحون والمادحون
بعد سبع سنين عاد محيط التاريخ الصاخب إلى شطآنه فبدا هادئا، لكن القوى الخفية التي تحرك الإنسانية، خفية لأننا نجهل قوانين حركتها، ظلت على حركتها.
وعلى الرغم من أن كل شيء بدا ساكنا على سطح هذا المحيط من التاريخ، فإن الإنسانية ظلت مثابرة على حركتها الدائمة كسابق العهد، فاتحدت جمهرات بشرية كثيرة أو انفرط عقدها، ونضجت أسباب جديدة لتشكيل حكومات وتجزئتها وأعدت هجرات شعوب.
لم يعد محيط التاريخ يندفع كسابق عهده فجأة من شاطئ إلى الشاطئ الآخر، لقد أخذ يغلي في الأعماق. ولم تعد الشخصيات التاريخية تجرف بالأمواج من شاطئ إلى آخر، بل بدت الآن تدور في مكانها، فالشخصيات التاريخية التي كانت من قبل على رأس القطعات تعبر عن حركة الجماهير بأوامر حربية وحملات ومعارك، باتت تبحث الآن عن التعبير عن تلك الحركة بترتيبات سياسية ودبلوماسية وقوانين ومعاهدات.
والمؤرخون يطلقون على هذا النشاط من جانب الشخصيات التاريخية اسم «رد فعل».
والمؤرخون بوصفهم نشاط الشخصيات التاريخية الذي هو سبب ما يسمونه «رد فعل» على حد زعمهم، إنما يحكمون على تلك الشخصيات. وكل الأشخاص المعروفين في ذلك العصر من ألكسندر ونابليون ومدام دوستال وفوسيوس
1
وشيلنج
2
وفيخته
3
وشاتوبريان
4
وآخرين، كانوا يمثلون أمام محكمتهم الصارمة، فيبرءون أو يحكم عليهم تبعا لمساهمتهم في التطور أو في رد الفعل.
وتبعا للمؤرخين كان هناك رد فعل يتبدى في روسيا نفسها في ذلك العهد، وكان المسئول الأول عن ذلك هو ألكسندر الأول، هذا نفسه الذي كان دائما، تبعا لهم، المحرض الرئيسي للمبادهات المتحررة المتعلقة ببدء حكمه وبخلاص روسيا.
واليوم، في الأدب الروسي، ابتداء من الطالب العادي وحتى أوسع المؤرخين علما، ليس هناك رجل لا يلقي اللوم على ألكسندر الأول بسبب الأخطاء التي ارتكبت في تلك الفترة من عهده. «كان عليه أن يتصرف على هذا النحو أو ذاك. في هذه المناسبة أحسن التصرف وفي تلك أساء. لقد تصرف تصرفا رائعا في بدء عهده وفي عام 1812، لكنه أساء إذ منح بولونيا دستورا، وأقام الحلف المقدس، وأعطى لأراكتشييف ملء السلطان، وأيد جوليتسين ومذهب التصرف، ثم بتشجيعه شيشكوف وفوسيوس. لقد أساء صنعا إذ اهتم بالتدريبات العسكرية وحل فيلق سيميونوفسكي ... إلخ.»
ويقتضي لتعداد المظالم، التي أحاطه المؤرخون بها باسم علم سعادة البشرية هذا الذين يزعمون امتلاك ناصيته، صفحات وصفحات.
ما معنى تلك المظالم؟
ألم تنجم التصرفات التي يؤيد المؤرخون ألكسندر الأول فيها، وأعني مذهب التحرر عند بدء حكمه ونضاله ضد نابليون، والثبات الذي أظهره طيلة عام 1812 ثم حملة 1813، عن المصادر إياها التي صدرت عنها التصرفات التي يذمونها؛ مثل الحلف المقدس وإعادة الملكية إلى بولونيا ورد فعل عام 1820؟ وهذه المصادر هي التركة، الثقافة، شروط الكينونة، التي جعلت من شخصية ألكسندر الأول على ما كانت عليه.
وعلى أي أساس تقوم تلك المظالم على وجه الدقة؟
على الأساس التالي: شخصية تاريخية من وزن ألكسندر الأول موضوعة على رأس السلطة البشرية، وبمعنى آخر في المركز الباهر الضوئي الذي تتركز فيه كل الإشعاعات التاريخية، شخصية خاضعة لأقوى تأثيرات العالم، تلك التأثيرات التي لا تنفصل عن سلطة الحكم: دسائس، كذب، إطراء، إعماء عن الذات، شخصية يشعر صاحبها في كل لحظة بمسئوليته عن كل ما يدور في أوروبا، شخصية كانت محرومة من الفضيلة.
وذم المؤرخين لا ينصب على هذه الناحية، بل لأنه كان لها رأي آخر حول سعادة الإنسانية، مختلف عن رأي أستاذ اليوم الذي انصرف إلى العلم منذ حداثته، والذي يستودع في دفتر ما قراءات ومحاضرات.
ولكن إذا فرضنا جدلا أن ألكسندر الأول قد أخطأ منذ خمسين عاما في وجهات نظره حول سعادة الشعوب، فإننا بالتالي نستطيع أن نفرض كذلك أن المؤرخ الذي يحكم عليه سيبدو خلال زمن ما مخطئا في وجهات نظره حول سعادة الإنسانية هذه بالذات، وهذا الفرض طبيعي لا مراء منه بقدر ما. إذا تتبعنا تطور التاريخ نجد أن وجهة النظر حول السعادة البشرية تختلف عاما بعد عام ومن مؤرخ إلى آخر، لدرجة أن ما بدا لأول وهلة خيرا يصبح بعد عشرة أعوام شرا، والعكس بالعكس. بل إننا نجد أكثر من ذلك، آراء في التاريخ نشرت في آن واحد متناقضة كل التناقض حول مدلول الخير والشر، فبعضهم يطرون ألكسندر الأول بسبب الدستور الذي منحه لبولونيا ولعقده الحلف المقدس، وآخرون يعتبرون هذه التدابير جريمة.
لا يمكن القول عن نشاط ألكسندر الأول ولا عن نشاط نابليون إنه كان ضارا أو نافعا إذا تعذر بيان كيف كان، فإذا كان ذلك النشاط لا يروق لهذا أو ذاك فلأنه لا يتفق فقط والمعرفة المحدودة التي اتخذها عن طبيعة الخير، وإذا كان الخير بالنسبة إلى بقاء بيت أبي في موسكو سليما عام 1812، أو ظفر الجيوش الروسية أو ازدهار جامعة بيترسبورج أو أي مركز علمي آخر، أو حرية بولونيا أو قوة روسيا، أو ذلك الشكل من الحضارة الأوروبية المعروف تحت اسم تطور؛ فإنني بنفس الوقت مرغم على الاعتراف بأن نشاط كل شخصية تاريخية استهدف باستثناء هذه الاهداف غايات أخرى ذات طابع أعم يفوق حد مفاهيمي.
ولكن لنفترض أن ما يسمونه العلم حاصل على قدرة تحويل كل المتناقضات ما لك وسيلة لا تخطئ لقياس الخير والشر، سواء بالنسبة إلى الشخصيات التاريخية أو إلى الأحداث.
لنفترض أن ألكسندر كان قادرا على التصرف في كل ظرف خلافا لما عمل، لنفترض أنه كان قادرا تبعا لإرشادات أولئك الذين يتهمونه والذين يزعمون معرفتهم بالهدف النهائي الذي تتوق الإنسانية إليه، لنفترض أنه كان قادرا على اتباع منهاج المصلحة القومية والحرية والمساواة والتطور (وليس هناك شيء أكثر جدة من هذا على ما يبدو)، الذي يضعه له مشنعوه اليوم، ولنفترض أن هذا البرنامج كان ممكن التطبيق جيد الإعداد، وأن ألكسندر الأول سار عليه؛ ماذا كان يحدث لنشاط الأشخاص كلهم الذين كانوا يعارضون حينذاك التوجيه المتخذ من قبل الحكومة، وهو النشاط الذي تبعا لآراء المؤرخين كان نافعا وخيرا؟ ما كان ذلك النشاط ليكون وما كانت الحياة لتكون وما كان ليحدث أي شيء.
فافتراض أن حياة الإنسانية يمكن أن تسير بواسطة العقل إنما هو نكران كل إمكانية للحياة.
الفصل الثاني
عاملا الصدفة والعبقرية
الافتراض، كما ينهج المؤرخون، أن الرجال العظام يقودون الإنسانية نحو تحقيق الأهداف المعروفة، سواء أكانت عظمة روسيا أم عظمة فرنسا أم التوازن الأوروبي أم التطور العالمي أم أي هدف آخر، يجعل تفسير أحداث التاريخ مستحيلا دون اللجوء إلى مدارك «الصدفة» و«العبقرية».
وإذا كانت غاية الحروب الأوروبية في غرة قرننا عظمة روسيا، فإن هذا الهدف كان قابل البلوغ دون أية من الحروب التي سبقت الغزو ودون الغزو نفسه. ولو كانت الغاية هي عظمة فرنسا، فإنها كان يمكن إدراكها بدون الثورة والملكية. ولو كان الهدف نشر بعض الأفكار، فإن المطبعة كانت قادرة على القيام به أفضل بكثير مما قدر الجنود. ولو كانت الغاية تطور المدنية، فإن بالإمكان التقبل دون أي صعوبة بأن هناك من الوسائل الناجعة لنشر المدنية أفضل بكثير من إفناء الرجال وثرواتهم.
فلماذا إذن وقعت الأمور على هذا النحو وليس على نهج آخر؟ لأنها وقعت كذلك.
ف «الصدفة» خلقت الموقف الفلاني، فاستخدمته «العبقرية»، هذا ما يقول التاريخ. ولكن ما هي الصدفة؟ ما هي العبقرية؟
إن كلمتي صدفة وعبقرية لا تعنيان شيئا ما موجودا، لذلك لا يمكن تحديدهما. إن هاتين الكلمتين لا تعنيان إلا درجة محدودة في مضمار فهم الظاهرات، فأنا لا أدري لماذا حدثت هذه الظاهرة أو تلك، وأفكر بأنني لا أستطيع دراية السبب، وبالتالي لا أستطيع إدراكه فأقول: صدفة، وأرى قوة تحدث أثرا فوق النسبة المتفقة مع إمكانيات الإنسان الشائعة فلا أدرك سبب هذا الحدث وأقول: عبقرية.
وبالنسبة إلى قطيع يجب أن يكون الخروف الذي يقوده الراعي كل مساء إلى مزرب خاص ليعلف على حدة، والذي يصبح بالتالي ضعف حجم الآخرين، يجب أن يكون هذا الخروف عبقريا، أما واقع أن هذا الخروف نفسه الذي بدلا من أن يمضي كل مساء إلى الحظيرة يقاد إلى زريبة خاصة ليتلقى علفه خاصة، وواقع أن هذا الخروف بالذات عندما يصبح سمينا شحيما يذبح من أجل لحمه، هذه الواقعة يجب أن تبدو على صورة مقارنة مدهشة للعبقرية ولسلسلة من الصدف الخارقة.
ولكن يكفي للخراف أن تكف عن التفكير في أن ما يقع لها ناجم عن واقع وجوب بلوغهم أهدافا مختارة لفصيلة الخراف، يكفيها أن تتقبل أن لكل ذلك غاية مجهولة منها، وحينئذ سترى وحدة وتسلسلا منطقيا في ما يقع لأحدهما بعد تسمينه. وإذا ما كانت تعرف السبب الذي من أجله علف الخروف على حدة، فإنها ستعرف على الأقل أن كل ما وقع لم يحدث دون سبب، وحينئذ لن يعود بها حاجة إلى اللجوء إلى الصدفة والعبقرية.
ولن نرى تسلسلا منطقيا في حياة الشخصيات التاريخية إلا إذا تخلينا عن محاولة معرفة الهدف القريب المفهوم واعترفنا بأن الغاية النهائية مجهولة منا، حينئذ فقط نكتشف سبب التفاوت الكائن بين تصرفاتها واستعداد النشاط الشائع عند كل البشر، ولن تعود بنا حاجة إلى كلمتي صدفة وعبقرية.
يكفي أن نفترض بأن غاية هياج شعوب أوروبا مجهولة منا، وأننا لا نعرف إلا الوقائع القائمة على شكل مجازر في فرنسا أولا ثم في إيطاليا وأفريقيا وبروسيا والنمسا وإسبانيا وروسيا، وأن حركة الغرب نحو الشرق والشرق نحو الغرب تشكل جوهر الأحداث وغايتها، وحينئذ لا تعود بنا حاجة إلى رؤية شيء ما على لون من العبقرية أو الاستثناء فحسب في طبيعة نابليون وألكسندر، بل إننا لن نعود في حاجة كذلك إلى تصور هذين الرجلين على شكل يختلف عن بقية الرجال، ولا تعود بنا حاجة إلى اللجوء إلى الصدفة لتفسير أتفه الأحداث التي جعلت من هذين الرجلين ما كانا عليه فحسب، بل نرى كذلك بوضوح أن كل تلك الحوادث التافهة كانت ضرورة لازمة.
فإذا عزفنا عن الاعتراف بالهدف النهائي، فهمنا بجلاء أنه كما لا يمكن أن نتصور لنبتة ما لونا أو بذارا أفضل لطبيعتها من اللون والبذار اللذين تنتجهما، كذلك يستحيل علينا أن نتصور رجلين آخرين بماض كامل يستطيعان أن يجيبا بكل هذه الدقة وحتى في أدق التفاصيل على المهمة التي كان عليهما الاضطلاع بها.
الفصل الثالث
نابليون بإيجاز
إن المعنى العميق للأحداث الأوروبية في بداية القرن التاسع عشر يكمن في حركة الجماهير الشعبية الأوروبية الحربية، جماهير الغرب نحو الشرق ثم الشرق نحو الغرب. إن حركة الغرب نحو الشرق كانت الأولى، ولكي يصبح ممكنا للشعوب الغربية أن تدفع تقدمها الحربي حتى موسكو كان لزاما: (1) أن تتحد في كتلة حربية على امتداد كبير، حتى تصبح قادرة على تحمل صدمة الكتلة الشرقية المحاربة. (2) أن تتنكر لكل تقاليدها ولكل عاداتها. (3) أنه لكي يبلغ هجومها الغاية، وجب أن يكون على رأسها رجل يستطيع أن يبرر لنفسه ولها المداجاة والسلب والمذابح التي لا بد من وقوعها والتي رافقت الحركة.
أولا: التجمهر القديم للقوات قليل الأهمية انحل في فرنسا بفعل الثورة، وأبيدت التقاليد والعادات القديمة، وقام تجمهر جديد تدريجيا على نطاق أوسع وبعادات جديدة وتقاليد جديدة، وعندئذ تجهز الرجل الذي يجب أن يقوم على رأس الحركة المقبلة ويحمل كل مسئولية الأحداث التي يجب أن تتم.
وهذا الرجل عديم البراهين عديم الماضي والتقاليد، المحروم من الاسم، بل وغير الفرنسي أيضا؛ يتسلل بمساعدة أكثر الظروف غرابة على ما يبدو بين كل أحزاب فرنسا وهي في حالة الغليان، وحمل نفسه إلى الصف الأول دون أن يرتبط بحزب منها.
وجهالة مرافقيه وضعف أخصامه وتفاهتهم وقلة الحياء وضيق فكر هذا الرجل اللامع المغرور؛ وضعته كلها على رأس الجيش. وقيمة جنود الجيش الإيطالي، ونفور خصومه من القتال، واستهتاره وزهوه الصبيانيان؛ عادت عليه بالمجد العسكري. إن عددا لا يحصى من «الصدف» تواكبه دائما. ففقد الحظوة التي نزلت به من جانب المديرين الفرنسيين خدمته، والمحاولات التي شرع فيها لتبديل اتجاهه لا تنجح، إذ يرفض عرضه الخدمة في روسيا ولا يتوصل إلى الاستقرار في تركيا. وأثناء الحرب الإيطالية يصبح مرتين قاب قوسين أو أدنى من نهايته، وفي كل مرة يفلت بطريقة غير منتظرة. والجيوش الروسية الوحيدة القادرة على تهديم مجده لا تتقدم في أوروبا بنتيجة تدابير دبلوماسية مختلفة ما زال هو فيها.
وعند عودته من إيطاليا إلى باريز وجد الحكومة في حالة من التفسخ جعلت المساهمين فيها عرضة للتبدد والفناء بشكل لا مناص معه، فتعرض وسيلة من تلقاء نفسها لإنقاذه من موقفه الخطير: بعثة غير مصيبة منافية إلى أفريقيا. ومن جديد تعود «الصدف» نفسها إلى مواكبته، فمالطة المشهورة بامتناعها تستسلم له دون أن تطلق رصاصة واحدة، والقرارات الأكثر عرضة للخطر تكلل بالنجاح، فالأسطول العدو الذي لا يدع بالتالي زورقا واحدا يمر يوسع المجال لمرور جيش كامل. وفي أفريقيا ارتكبت أسوأ الشناعات ضد شعب شبه أعزل تقريبا، فيجد فاعلو هذه المساوئ ورئيسهم على رأسهم كل هذا رائعا، وأنه جدير بقيصر وبالإسكندر المقدوني، وأنه خير.
وهذا المثل الأعلى من المجد والعظمة الذي لا يقوم فقط على الظن بأنهم لا يأتون منكرا، بل كذلك على الافتخار بكل هذه الجرائم التي يرتكبونها بعز وتفسير لها غير مفهوم وفوق طبيعي. هذا المثل الأعلى الذي وجب أن يسوس هذا الرجل ككل المتصلين بمصيره، نضج في الرقعة الأفريقية المتسعة، إذ إن كل ما شرع به هناك أصاب النجاح، وتنكبه الطاعون، ولم ينسب إليه أي جرم عن تقتيل الأسرى الوحشي. ومغادرته أفريقيا بخرق صبياني لا معنى له وهجران مرافقيه في البؤس عاد عليه بالنفع، ومن جديد ترك له الأسطول العدو مجال الإفلات للمرة الثانية. وفي تلك الأثناء عندما كان رأسه ثملا بنجاح كل جرائمه، وصل إلى باريز وهو على استعداد ليلعب دوره ولكن دون أن تكون له غاية محددة، وتفسخ الحكومة الجمهورية الذي كان منذ عام مضى يمكن أن يسبب ضياعه، كان قد بلغ مرحلته النهائية. فلم تكن صنعته، صنعة البعد عن كل الأحزاب، إلا لتبرز ميزته وتخدم علوه.
نابليون يبعث رسالة.
ليس لديه أية خطة للعمل، وهو خائف من كل شيء، لكن الأحزاب تسعى إلى التعلق به وتطالب بمعاونته.
فهو وحده، بالمثل الأعلى من المجد والعظمة الذي خلقه لنفسه في إيطاليا وأفريقيا ومصر، وبعبادته المجنونة لذاته، وجرأته في مضمار الجريمة ووقاحته؛ هو وحده يستطيع أن يقرر الأحداث التي يجب أن تتم.
إنه الرجل الملازم للمكان الذي ينتظره. وهكذا بشكل خارج عن إرادته تقريبا، رغم قلة حزمه وافتقاره للبرنامج وكل الأخطاء التي يكدسها، جر في مؤامرة تهدف إلى رفعه إلى سدة الحكم ونجحت هذه المؤامرة.
وجروه إلى جلسة من جلسات حكومة المديرين، فذعر وحاول أن يفر ظنا منه أنه ضائع، وتظاهر بالغشيان وألقى خطبا منافية كانت كافية للقضاء عليه، لكن المديرين الفخورين حتى ذلك الحين الفطينين شعروا الآن بأن دورهم قد انتهى، ففاهوا هم كذلك وهم أشد جزعا منه بكلمات هي أقل ما يصلح لحفظ السلطان لهم وجر الخراب على هذا الرجل.
إنها «الصدفة»، إنها ملايين «الصدف» التي سلمت إليه السلطان، وراح كل الناس وكأنهم خاضعون لكلمة سر واحدة يساهمون في تدعيم هذا السلطان. إنها «الصدف» التي كونت شخصيات مديري فرنسا حينذاك، إنها الصدف التي كونت شخصية بول
1
الأول، الذي اعترف بسلطانه، وهي الصدفة التي دبرت ضده مكيدة دعمت سلطانه بدلا من أن تودي به، وهي الصدفة التي سلمته الدوق دانجيان
2
ودفعته إلى العمل على قتله غيلة، ساعيا عن هذا السبيل الأقوى من كل السبل الأخرى إلى إقناع الجمهور بأن له الحق طالما بيده القوة. وهي «الصدفة» التي جعلته يوجه كل قواه للقيام بحملة ضد إنجلترا كانت ولا ريب ستسبب دماره الكامل فلا يحقق هذه الغاية أبدا، لكنه يقع فجأة على ماك
3
وجماعته النمساويين الذين يستسلمون دون قتال. وهي «الصدفة» و«العبقرية» اللتان منحتاه النصر في أوسترليتز. ومن قبيل «الصدفة» كذلك أن كل الرجال ليس رجال فرنسا فحسب، بل رجال أوروبا كلها باستثناء إنجلترا التي لم تساهم أبدا في أي من الأحداث الجارية؛ كل الرجال رغم هولهم الأصلي وحقدهم على جرائم هذا الرجل يعترفون الآن بسلطانه وباللقب الذي منحه لنفسه وبمثله الأعلى عن العظمة والمجد، الذي يتبارى كل منهم إلى اعتباره شيئا ما رائعا ومعقولا.
وكأن القوات الغربية أرادت أن تجرب سلفا حركتها المقبلة، فاتجهت مرات عديدة نحو الشرق في أعوام 1805 و1806 و1807 و1809، وكل مرة بأكثر قوة وأوفر عدد. وفي عام 1811 ذابت الكتلة من الرجال المتكتلة في كتلة أخرى هائلة من شعوب وسط أوروبا، وكلما ازدادت هذه الكتلة ضخامة وقوة ازداد تبرير تصرف الرجل القائم على رأس الحركة. وخلال حقبة العشر سنوات التي أعدت هذه الحركة دخل هذا الرجل في مفاوضات مع كل الرءوس المتوجة في أوروبا. وسلطات هذا العالم المسلوبة من سلطانها لا يمكن أن تعترض على مثل نابليون الأعلى بالعظمة والمجد، ذلك المثل الأعلى الخالي من أي معنى، بأي مثل أعلى آخر معقول.
فراحت الواحدة تلو الأخرى تتهافت على تقديم مشهد تفاهتها إليه، فملك بروسيا يرسل زوجته لاستجداء التفاتات الرجل العظيم، وإمبراطور النمسا يعتبر نعمة أن يتفضل هذا الرجل العظيم باستقبال ابنة القياصرة في سريره، والبابا حارس كنوز الشعوب المقدسة يسخر دينه لرفعة الرجل العظيم. إن نابليون بالذات لم يعد نفسه لإشغال دوره بقدر ما جرفه من حوله وألجأه إلى احتمال كل مسئولية الأحداث الحاضرة والمقبلة على عاتقه، إنه لم يرتكب غشا أو جرما أو خيانة وضيعة إلا وانقلبت في فم من حوله إلى عمل رائع، لم يجد الألمان لإرضائه خيرا من الاحتفال بهزيمتهم في إيينا وأويرستادت. ثم إنه ليس وحده العظيم بل أسلافه وإخوانه وأبناء زوجته وأصهاره وإخوان زوجاتهم كلهم عظماء كذلك، فكل شيء يساهم في حرمانه من آخر آثار تعقله وإعداده لدوره المريع، ولما أعد كانت القوى التي أعدته جاهزة كذلك.
نشر الغزو قلوعه باتجاه الشرق فبلغ هدفه النهائي الذي هو موسكو، وأخذت العاصمة، وأبيد الجيش الروسي إبادة لم يقو مثلها على جيوش الأعداء في الحروب السالفة من أوسترليتز إلى واجرام. وفجأة بدلا من هذه «الصدف» ونوبات «العبقرية» التي حملت نابليون بكثير من الاستمرار من ظفر إلى ظفر حتى الهدف المحدد، ظهرت سلسلة لا تحصى من «الصدف» العكسية، ابتداء من حالة الزكام في بورودينو وحتى برد الشتاء القارس والشرارة التي أشعلت النار في موسكو، وبدلا من العبقرية ظهر غباء ونذالة لا مثيل لهما.
الغزو يتقهقر ويعود إلى الوراء ويفر من جديد، والآن ودون توقف أصبحت الصدف ضد نابليون بدلا من أن تكون معه.
وقامت حركة عكسية من الشرق نحو الغرب تمثل مجانسات مرموقة مع السابقة حركة الغرب نحو الشرق، نفس المحاولات الأولية للشرق ضد الغرب كما في أعوام 1805 و1806 و1809 قبل التزعزع الأكبر، نفس تركيز الرجال الهائل واشتراك شعوب وسط أوروبا نفسه في الحركة، والتردد في منتصف الطريق نفسه، ومضاعفة السرعة نفسها كلما ازداد القرب من الهدف.
وبلغت الغاية الأخيرة باريز، فدمرت حكومة نابليون كما دمر جيشه، فلم يعد لنابليون نفسه سبب للوجود، فكل تصرفاته باتت منذ ذلك الحين منحطة تستدر الشفقة. لكن صدفة جديدة لا يمكن تفسيرها تتدخل في الأمر من جديد، إن الحلفاء يكرهون نابليون الذي يتهمونه بأنه سبب تعاساتهم، فلما جرد من قوته وسلطانه وثبتت عليه جرائمه وغدره، كان يجب أن يظهر لهم كما كانوا يرونه منذ عشرة أعوام خلت وكما رأوه بعد عام آخر: مجرما خارجا عن القانون، لكن ما من أحد بصدفة غريبة رأى ذلك. إن دوره لم ينته بعد، فالرجل الذي قبل عشرة أعوام مضت وعام قدم اعتبر مجرما خارجا عن القانون، أرسل إلى مسافة سفر يومين عن فرنسا في جزيرة منح فيها السيادة المطلقة مع حرس وملايين، الله يعلم في أي شيء نفعته.
الفصل الرابع
علاقة وليس غاية
بدأت حركة الشعوب تتعقل في شواطئها، وانحسرت موجات المد الكبير، وأخذت الحلقات تتشكل على صفحة البحر الهادئ، طفا فوقها الدبلوماسيون الذين كانوا يتصورون أنهم هم الذين جاءوا بهذا الهدوء.
لكن البحر الهادئ ماج، فلم يلبث الدبلوماسيون أن ظنوا أنهم هم باختلافاتهم سببوا هذا التوتر الجديد من القوى، وتوقعوا حربا بين ملوكهم، وبدا لهم الموقف لا مخرج له. لكن الموجة التي شعروا بارتفاعها لم تنتشر من حيث توقعوا أنها دائما الموجة إياها، نقطة الانطلاق نفسها، باريز. إنها آخر تفجر للمد المتدفق من الغرب، تفجر عليه أن يحل المصاعب الدبلوماسية ذات الطابع الممتنع عن الحل، ووضع حد للحركات الحربية في ذلك العهد.
عاد الرجل الذي دمر فرنسا إلى فرنسا هذه وحيدا، دون أن يكون في حاجة إلى مؤامرة ودون جنود، يستطيع أي حارس غابة أن يطبق على عنقه. ولكن بصدفة غريبة لا يطبق أحد على عنقه فحسب، بل إنهم جميعا يهرعون لاستقبال هذا الرجل الذي كانوا يلعنونه بالأمس، والذي سيلعنونه بعد شهر، استقبالا حماسيا.
ما زال هذا الرجل ضروريا لتبرير آخر حركة جماعية.
ولقد أنجزت هذه الحركة.
لعب الدور الأخير، وطلب إلى الممثل أن يخلع ثوبه وينزع ما على وجهه من مساحيق، إذ لم تعد بهم حاجة إليه.
وتمضي بضع سنين، يلعب هذا الرجل خلالها في وحدة جزيرته مسرحية مضحكة مثيرة للعطف، فيدس ويكذب ليبرر أعماله حيث لا نفع في أي تبرير، ويظهر للعالم أجمع قيمة ما كانوا يعتبرونه قوة، في حين أن يدا خفية كانت تقوده، وبعد أن تأدى الدور وخلع الممثل ثيابه أخذ المخرج يرينا الممثل. - انظروا إلى الذي آمنتم به! ها هو ذا! هل رأيتم الآن أنه ليس هو الذي كان يوجهكم بل أنا؟
لكن الرجال الذين أعمتهم القوة التي جعلتهم يتماوجون ظلوا طويلا لا يفهمون ذلك.
والمنطق والضرورة اللذان يمثلان حياة ألكسندر الأول، الشخصية التي كانت على رأس الحركة في الاتجاه المعاكس، من الشرق إلى الغرب؛ كانا أعظم من ذلك.
ماذا كان يجب للرجل الذي سيتخذ مكانا على رأس هذه الحركة كاسفا الآخرين؟
كان عليه أن يمتلك شعور الحق، ويساهم في مشاكل أوروبا ولكن عن بعد كي لا تعكر المصالح الدنيئة رؤيته، كان عليه أن يطغى بعظمته الخلقية على شركائه ملوك ذلك الزمان، وأن يكون صائرا على شخصية فتانة محبوبة، وعليه كذلك أن يكون قد تلقى من قبل إهانة شخصية من نابليون. ولقد اجتمعت هذه الشروط كلها في ألكسندر الأول، وكل ذلك ثمرة ل «صدف» لا تكاد تحصى غرست على طول حياته الماضية، وفي ثقافته وميوله المتحررة، وفي المستشارين من حوله، وعن طريق أوسترليتز وتيلسيت وإيرفورت.
ظل عاطلا عن النشاط خلال الحرب الشعبية، لأن الحاجة لم تكن تدعو إليه. ولكن ما كادت ضرورة حرب أوروبية تبدو، حتى ظهرت شخصية في مكانها في اللحظة المناسبة، فجمع شتات الشعوب الأوروبية كلها وقادها إلى الهدف.
بلغ الهدف، ووجد ألكسندر نفسه بعد حرب 1815 الأخيرة في أوج القوة الذي يمكن لإنسان أن يبلغه، فبأي شكل استغله؟
ألكسندر الأول، معيد السلم إلى أوروبا، الرجل الذي لا يبحث منذ نعومة أظفاره إلا عن سعادة شعبه، المحرض على التشكيلات التحريرية التي أدخلت إلى وطنه في اللحظة التي على ما يبدو كان يملك أوسع سلطة وبالتالي الوسائل لتحقيق سعادة شعبه. في اللحظة التي شرع نابليون في منفاه يضع الخطط الصبيانية المخادعة حول الطريق التي سيجعل العالم سعيدا بها لو ترك له مجال العمل، في هذه اللحظة بالذات بعد أن أنهى ألكسندر الأول مهمته وشعر بيد الله عليه، اعترف بالعدم فجأة عدم تلك السلطة المزعومة، فأسلمها إلى أيدي أشخاص محتقرين يستحقون الاحتقار، وقال ببساطة: «كلا، ليس لأجلنا مولانا، ليس من أجلنا، ولكن من أجل اسمك!» إنني رجل مثلكم فدعوني أعش كرجل، دعوني أفكر في روحي وبالله.
وكما أن الشمس، ككل ذرة من الأثير، كرة كاملة في نفسها وبنفس الوقت ذرة واحدة في اللامتناهي الذي لا يمكن للإنسان بلوغه في أقصى سعته، كذلك يحمل كل شخص في نفسه أهدافا خاصة به، مع ذلك فإنه يحملها لخدمة أغراض عامة لا يطولها الإنسان.
لقد لسعت نحلة وقفت على زهرة طفلا، والطفل يخاف النحل ويقول إن غايته لسع الناس، والشاعر يتأمل النحلة التي تمتص ما في كم الزهرة، ويقول إن غايتها امتصاص أريج الزهور. ومربي النحل عندما يلاحظ أن النحلة تجمع غبار الطلع وتحمله إلى الخلية يقول إن غاية النحلة هي إنتاج العسل له، ومرب آخر درس حياة الثول بأكثر تعمق يقول إن النحلة تجمع غبار الطلع لتغذي الفقس الصغير ولكي تربي الملكة، وإن غايتها هي المحافظة على النوع. وعالم النبات يرى أن النحلة تحمل غبار اللقاح من الزهرة ثنائية المسكن إلى الزهرة الأنثى فتلقحها، ويرى أن غاية النحل تنحصر في هذا العمل. وآخر يهتم بانتشار النبت يرى أن النحلة تساهم فيه، فيستنتج هذا البحاثة أن غاية النحل هي هذه، في حين أن غاية النحل الأساسية لا تقتصر على الأولى ولا على الثانية أو الثالثة من الغايات التي استطاع الفكر البشري اكتشافها، وكلما ارتقى الفكر البشري في اكتشاف هذه الغايات ازداد إدراكه بوضوح كلي أن الغاية الكامنة وراءها لا يمكن بلوغها.
إن شيئا واحدا ميسور للإنسان: ملاحظة الارتباطات الكامنة بين حياة النحل وظاهرات الحياة الأخرى. وهذا هو الحال بالنسبة إلى الشخصيات التاريخية والشعوب والغايات التي يسعون إليها.
الفصل الخامس
إرث الكونت
كان زواج ناتاشا وبيزوخوف الذي تم عام 1813 آخر حدث سعيد وقع للأسرة العجوز، أسرة روستوف. لقد مات الكونت إيليا أندريئيفيتش ذلك العام، وكما يحدث دائما أدى ذلك الموت إلى تجزؤ الأسرة.
لقد أبهظت أحداث السنة الفائتة، حريق موسكو وفرار آل روستوف من المدينة وموت الأمير آندريه ويأس ناتاشا وموت بيتيا وألم الكونتيس، كل هذا أبهظ الكونت العجوز، ما كان يفهم على ما يبدو ولا يحس بقوة لفهم معنى كل هذه الأحداث، فكان يطأطئ رأسه العجوز معنويا وكأنه يتوقع أو يلتمس الضربة التي ستجهز عليه، كانوا يرونه تارة مروعا ومرتبكا، وتارة ممتلئا بحماس ونشاط مصطنعين.
ولقد شغله زواج ناتاشا بعض الوقت من جانبه الظاهري، أعد الحفلات والولائم وعمل جاهدا ليظهر مرحا، لكن مرحه بدلا من أن يكون ساريا كعادته ما كان يوقظ إلا الإشفاق في نفوس الذين كانوا يعرفونه ويحبونه.
ولقد هدأ بعد رحيل بيير وزوجته، وبدأ يشكو آلامه فلم يلبث أن سقط مريضا ولازم الفراش. ولقد فهم منذ أيام مرضه الأولى، رغم تأكيدات الأطباء، أنه لن يبلى منه، وأمضت الكونتيس أسبوعين كاملين أمام سريره دون أن تخلع ثيابها، وكلما جرعته الدواء كان يقبل يدها ويبكي دون أن ينطق بكلمة. وفي اليوم الآخر سأل زوجته وابنه الغائب الصفح وهو يجهش على تبذيره ثروته، وهي الخطيئة الرئيسية التي شعر بنفسه مذنبا لارتكابها. وبعد أن تناول وتلقى المسحة الأخيرة مات بهدوء، وملأت جمهرة المعارف الذين جاءوا في اليوم التالي يشيعون المتوفى حجرات المسكن الذي استأجره آل روستوف، كان هؤلاء الأشخاص كلهم الذين كثيرا ما تناولوا الطعام على مائدته ورقصوا في بيته والذين كثيرا ما سخروا منه، كلهم؛ باتوا الآن يشعرون شعورا موحدا بتبكيت الضمير والتحنان، يقولون كلهم ليبرروا سلوكهم: «نعم، يمكن أن يقال كل شيء، لكنه كان رجلا ممتازا، إن أشخاصا مثله لم يعد ممكنا إيجادهم ... ثم، من ذا الذي لا يحمل أخطاء في نفسه؟ ...»
في الفترة التي بلغت أعماله من الارتباك حدا جعله لا يستطيع أن يتصور كيف سينتهي الأمر إذا دام طيلة عام آخر؛ مات الكونت فجأة.
وكان نيكولا مع الجيش الروسي في باريز عندما بلغه نبأ موت أبيه، فطلب من فوره إحالته على المعاش، ودون أن ينتظر النتيجة استأذن وسافر إلى موسكو. ولقد أقيم كشف عن حالة الكونت المادية بعد شهر من وفاته، فذهل كل الناس من ضخامة المبلغ الذي شكلته الديون التافهة المختلفة التي لم يكن أحد قط يتوقع وجودها، لقد بلغت الديون ضعف قيمة ممتلكاته.
أوصى الأقرباء والأصدقاء نيكولا أن يرفض الإرث، لكن نيكولا وجد في ذلك الرفض مسبة لذكرى أبيه المقدسة، لذلك فإنه امتنع عن الإصغاء إلى أي نصح وقبل الميراث، مع الوعد بتسديد الديون كلها.
وراح الدائنون الذين صمتوا طويلا يستوقفهم في حياة الكونت التأثير غير الممكن تحديده والمعترف بقوته ، الذي كان لطيبة الكونت المضطربة عليهم؛ يطالبون بسداد الديون، كلهم، وبشكل مفاجئ. وقامت بينهم، كالعادة، خصومات حول من سيدفع له قبل غيره، وراح الذين بأيديهم أوراق رهن وليس اعتراف بدين، أمثال ميتانكا وغيره، يظهرون أكثر إلحاحا، لم يتركوا لنيكولا متسعا للراحة أو الاستمهال. وأولئك الذين أشفقوا على العجوز المسئول عن خسارتهم - مع فرض تعرضهم لهذه الخسارة - أخذوا الآن يتكالبون على الوارث الشاب الذي تعهد طائعا أن يسدد كل ديونهم.
لم يوفق واحد من الوسطاء ولم يقبل أي عرض قدمه نيكولا، فبيعت الأملاك بالمزاد العلني بنصف قيمتها وبالتالي ظلت نصف الديون دون سداد، ولقد قبل نيكولا مبلغ ثلاثين ألف روبل من صهره بيزوخوف ليسدد ما يعترف به من ديون نقدية، ديون حقيقية، ولكي يتحاشى إلقاءه بالسجن كما كان دائنوه يهددونه عاد إلى الخدمة.
استحال عليه العودة إلى الجيش حيث كان يمكن أن يصبح برتبة زعيم عند أول شاغر، لأن أمه باتت شديدة التعلق به، تعتبر أنه غايتها الأخيرة الوحيدة في الحياة. وعلى ذلك فقد قبل وظيفة في موسكو رغم زهده في البقاء في المدينة في الجو نفسه الذي كان فيه من قبل، ورغم كراهيته للخدمات المدنية. وبعد أن خلع الزي العسكري الذي طالما أحبه أقام مع آن وسونيا في مسكن صغير في سيفنتسيف-فراجيك، وهو شارع ذو بيوت متواضعة وراء متحف ألكسندر الثالث، باتجاه حاجز دراجوميلوفسكاييا.
وكان بيير وناتاشا اللذان كانا يقطنان بيترسبورج حينذاك يجهلان حقيقة وضع نيكولا، لقد أخذ هذا يعمل جاهدا بعد اقتراضه المال من صهره على إخفاء شروطه الحياتية المؤقتة، لقد كانت شئونه المالية سيئة بشكل خاص حتى إنه لم يكن مضطرا إلى أن يقوم بأوده بألف ومائتي روبل، هي كل مرتبه، وبحاجات سونيا وأمه فحسب، بل كذلك أن يسهر على أن تحيا أمه بشكل لا يجعلها تشعر بفقرهم. وكانت الكونتيس عاجزة عن تقبل الحياة بدون الترف الذي ألفته منذ طفولتها، فكانت في كل مناسبة دون أن تشعر بما تحدثه لولدها من منغصات، تطالب سواء بالعربة التي ما عادوا يملكونها لتستقدم صديقة، أو بطعام نادر لها أو بخمر ثمينة لولدها، أو بمال لتقدم هدايا مفاجئة لناتاشا وسونيا ونيكولا نفسه.
وكانت سونيا منصرفة إلى شئون البيت، تعنى بعمتها فتقرأ لها وتحتمل نزواتها وكرهها السري، وتساعد نيكولا على أن يخفي عن الكونتيس العجوز الارتباك الذي كانوا واقعين فيه. وكان نيكولا يشعر بأنه مدين نحو سونيا لقاء كل ما كانت تعمله من أجل أمه، دينا من العرفان لن يقدر على سداده، فكان يعجب بصبرها وتفانيها لكنه كان يتركها دائما عند حد ما.
كان يبدو ناقما عليها من أعماق قلبه، لأنها مفرطة الكمال مفرطة في الامتناع عن اللوم، كانت تملك كل ما يزيد التقدير، لكنها ما كانت تستطيع أن تجعل نفسها محبوبة منه. ولقد أدرك نيكولا نفسه أنه كلما سما بها السماك قل حبه لها، ولقد أخذ عليها كلمتها في الرسالة التي وجهتها إليه تعيد إليه حريته، فبات الآن يتصرف حيالها وكأن كل ما وقع بينهما نسي منذ أمد طويل، لا يمكن أن يعود بأي حال إلى الحياة.
ازداد مركز نيكولا المالي سوءا، ولم تكن فكرة الاقتصاد من مرتبه إلا أضغاث أحلام، لم يكن عاجزا عن الاقتصاد من راتبه فحسب، بل إنه كذلك اضطر إلى التورط في قروض صغيرة ليرضي متطلبات أمه، كان يرى نفسه في ورطة لا خلاص منها، تسيء إليه فكرة الزواج من وارثة غنية كما كان ذووه يشيرون إليه بها وتنفره. أما المخرج الثاني موت أمه، فما كان يتوارد إلى خاطره، ما كان يرغب في شيء ولم يعد يأمل شيئا، كان يتلذذ في أعماق نفسه برغبة قاتمة شرسة توحي إليه بتقبل مصيره دون تذمر، وأخذ يعمل على تجنب معارفه السابقين الذين كانت رأفتهم وعروض المساعدة التي يقدمونها تجرح كبرياءه، وبات يتحاشى كل أنواع التسرية والتسلية حتى في مسكنه، فلا يهتم إلا بقطع الوقت بفتح «فأل» مع أمه أو بذرع حجرته جيئة وذهابا وهو صامت يدخن غليونا إثر غليون، كان يبدو صارفا عنايته إلى رعاية المزاج الباسر في نفسه بعناية الذي ما كان يشعر بقدرته على حمل عبئه إلا به.
الفصل السادس
ماري ونيكولا
عادت الأميرة ماري في أوائل الشتاء إلى موسكو، واطلعت من ثرثرات المدينة على وضعية آل روستوف، والطريقة التي كان «الابن يضحي بنفسه بها من أجل أمه» - على حد تعبير الإشاعات.
حدثت الأميرة ماري نفسها وهي تشعر بفرح بثقة أقوى من أي وقت مضى بحبها له: «ما كنت أتوقع شيئا خلافا لذلك منه.» ولقد ظنت أن من واجبها استنادا إلى علاقات الصداقة بل والقرابة تقريبا التي تربطها مع الأسرة كلها، أن تقوم بزيارة لآل روستوف، مع ذلك فإنها لمجرد التفكير فيما جرى لها مع نيكولا في فورونيج كانت تخاف من تلك الزيارة، وبعد أن قامت بمجهود كبير على نفسها مضت لزيارة آل روستوف بعد بضعة أسابيع من وصولها إلى موسكو.
كان نيكولا أول من قابلته إذ كان يجب اجتياز غرفته قبل بلوغ حجرة الكونتيس، وللنظرة الأولى التي ألقاها عليها اتخذ وجهه بدلا من تعبير الفرح الذى كانت تتوقعه أمارات البرود والجفاء والتعالي، التي لم ترها من قبل قط على وجهه. استعلم نيكولا عن صحتها وقادها إلى أمه، وبعد أن جلس خمس دقائق انسحب متسللا.
وعندما خرجت الأميرة من لدن الكونتيس، جاء نيكولا يلحق بها فقادها الى الردهة بأدب احتفالي مفرط، لم يجب بكلمة واحدة على الملاحظات التي أبدتها حول صحة الكونتيس، وكأن نظرته كانت تقول: «ماذا يهمك؟ دعيني بسلام.»
قال بصوت مرتفع أمام سونيا بعد أن ابتعدت عربة الكونتيس، وقد بدا عليه عجزه عن كبت سخطه: لماذا جاءت تحوم هنا؟ ماذا ينبغي لها؟ إنني لا أستطيع احتمال أولئك الغبيات الثرثارات وتوددهن!
قالت سونيا التي وجدت صعوبة في إخفاء سرورها: آه! كيف يمكنك التحدث على هذا النحو يا نيكولا؟! إنها شديدة الطيبة و«ماما» تحبها كثيرا.
لم يجب نيكولا بشيء، كان يود لو لم يرد ذكر الأميرة قط بعد ذلك، لكن الكونتيس ما فتئت تتحدث عنها منذ زيارتها وتمتدحها وتلح على ابنها بالذهاب لزيارتها معبرة عن رغبتها في رؤيتها أغلب الأحيان، ولكن ينتهي بها الأمر دائما إلى الانفعال وهى تتحدث عنها.
وكان نيكولا يسعى إلى التسلح بالصمت كلما تحدثت أمه عن الأميرة، لكن صمته هذا كان يثير حفيظتها.
كانت تقول: إنها فتاه كريمة جدا، فتانة كل الفتنة، يجب أن تزورها، إن ذلك يتيح لك زيارة بعضهم وبدون ذلك سينتهي بك الأمر الى السأم. - لكننى لا أنوي زيارتها يا أماه. - لقد كنت راغبا في ذلك أشد الرغبة من قبل، والآن بات هذا لا يروق لك، حقا يا عزيزي إنني لا أفهمك، إنك تتضجر فجأة، وفجأة لا ترغب في رؤية أحد. - لم أقل إنني متضجر. - كيف؟ لقد أعربت لي منذ حين أنك غير راغب في رؤيتها، مع أنها فتاة عظيمة القيمة كانت دائما تروق لك. والآن ما هي هذه الأسباب؟! إنكم تخفون عني كل شيء. - ولكن أبدا يا أماه! - لو أنني كنت أسألك تصرفا كريها لجاز الأمر، غير أنني لا أسألك إلا أن تذهب لترد زيارتها، يخيل إلي أن الآداب تفرض ذلك ... لقد رجوت مرارا أن تفعل ذلك، لكنني منذ الآن لن أتدخل في شيء طالما أن لديك ما تخفيه عن أمك. - حسنا، سأذهب طالما أنك تصرين على ذلك. - أنا، سيان عندي. إنني أطالب بذلك من أجلك.
أطلق نيكولا زفرة، وعض على شاربه، ثم نشر أوراق اللعب بغية اجتذاب انتباه أمه إلى موضوع آخر.
ولقد تجدد هذا الحديث في الغد واليوم الذى تلاه والأيام التالية.
حدثت الأميرة ماري نفسها بعد اللقاء الفاتر غير المنتظر، الذى أظهره لها نيكولا بأنها على صواب حينما كانت ترغب في عدم الذهاب إلى زيارة آل روستوف أولا؛ حدثت نفسها وهى تتسلح بالكبرياء لمساعدتها: ما كان لي أن أتوقع شيئا آخر، إنه لا يعنيني بحال، ما كنت أريد إلا رؤية الكونتيس العجوز التي كانت طيبة دائما معي، والتي أنا مدينة لها بالكثير.
لكن هذه المبررات ما كانت تستطيع تهدئتها، كان هناك لون من الندم لا يكف عن تعذيبها كلما فكرت في تلك الزيارة. وعلى الرغم من قرارها المكين بعدم العودة إلى زيارة آل روستوف، ونسيان ما حدث، فإنها كانت تشعر دائما بأنها في موقف قليل الجلاء، وعندما كانت تتساءل عما يعذبها كانت مرغمة على الاعتراف بإنهاء علاقاتها مع نيكولا. إن اللهجة المهذبة الفاترة التي اتخذها حيالها غير صادرة عن الشعور الذى يكنه لها - وهي تعرف ذلك تماما - إنه يخفي شيئا ما، وهذا «الشيء» هو الذى يجب أن تستجلي غموضه، وبانتظار ذلك كانت تشعر بأنها لن تستقر.
كانوا في منتصف الشتاء، وكانت مستقرة في حجرة درس ابن أخيها وهي تراقب درسه عندما جاءوا يعلنون لها زيارة روستوف. ولما كانت مقررة ألا تفضح شيئا من سرها وألا تظهر أي ارتباك، فقد استدعت الآنسة بوريين ودخلت معها الى البهو.
أدركت من النظرة الأولى التي ألقتها على نيكولا أنه لم يحضر إلا لأداء واجب من واجبات اللياقة، فوعدت نفسها بحزم بأن تحتفظ بمثل هذا التحفظ الذي ظهر عليه.
تحدثوا عن صحة الكونتيس وعن أصدقائهم المشتركين وعن أخبار الحرب الأخيرة، ولما انقضت الدقائق العشر التي تفرضها اللياقة، والتي يستطيع الزائر اللبق بعدها أن ينهض وأن ينسحب، قام نيكولا لينصرف.
ولقد أدارت الأميرة الحديث بمساعدة الآنسة بوريين خير إدارة، لكنها في الدقيقة الأخيرة عندما نهض نيكولا شعرت بإعياء شديد من الكلام عما لا يهمها التكلم عنه، واستولت عليها فكرة حرمانها من أتفه أسباب المرح في الحياة، لدرجة أنها لم تلحظ في فترة شرود ونظرتها المضيئة شاخصة الى الأمام أنها ما زالت جالسة لا تتحرك وأن نيكولا واقف.
نظر إليها نيكولا ورغب في ألا يظهر بمظهر الملاحظ شرودها، فقال بضع كليمات إلى الآنسة بوريين ثم عاد ينظر إليها من جديد، ما كانت تتحرك وكان وجهها الوديع يعبر عن الألم. وفجأة شعر بإشفاق عليها، وشعر بإبهام أنه قد يكون هو سبب الألم الذى يفضحه وجهها، وود لو يبادر إلى مساعدتها وأن يتفوه بكلمات ودودة، لكنه لم يستطع إيجاد شيء.
قال: وداعا يا أميرة.
فعادت إلى نفسها وتضرج وجهها، ثم زفرت زفرة عميقة وهتفت وكأنها استيقظت لتوها: آه! عفوا، إنك ذاهب يا كونت؟ حسنا، إلى اللقاء إذن! ولكن ماذا بشأن وسادة أمك؟
فقالت الآنسة بوريين التي غادرت الحجرة من فورها: انتظر، سأحضرها على الفور.
لزم كلاهما الصمت وتبادلا النظر من حين الى آخر، وأخيرا قال نيكولا بابتسامة حزينة: نعم يا أميرة، يبدو ذلك وكأنه من أمس، ولكن كم من المياه مرت تحت الجسور منذ أن تقابلنا للمرة الأولى في بوجوتشاروفو! كنا نعتقد حينذاك أننا تعساء حقا بينما يا لكثرة ما أدفع لكي يعود ذلك الزمن ...! ولكن لا يمكن إعادته.
كانت الأميرة تنظر إليه بإلحاح بعينيها المضيئتين وهو يتحدث، كانت تبدو وكأنها تبذل جهدها للتوغل في معنى الكلمات السري التي يفوه بها ذلك المعنى، الذي يستطيع أن يكشف لها عن حقيقة شعوره نحوها.
قالت: نعم، نعم، ولكن لا تأسف على الماضي يا كونت، إنني على قدر ما أستطيع أن أفهم حياتك الحالية أعتقد أنك واجد متعة أبدا في الذكرى طالما أن حياتك الآن ترتكز على التضحية.
قاطعها نيكولا بحدة: لا أقبل إطراءاتك، إن العكس كل العكس هو ما يحدث، وليس لي إلا أن أوجه اللوم إلى نفسي ... لكن هذا لا يثير الاهتمام ولا المرح إذا دار الحديث حوله.
واستعادت نظرته تعبيرها الفاتر الجاف، ولكن الأميرة ماري كانت قد وجدت الرجل وحده. - كنت أظن أنك ستسمح لي أن أقول ذلك، ولقد كنت شديدة القرب منك ومن أسرتك حتى إنني ظننت أنك لن تأخذ مودتي في غير محلها، لكنني أرى أنني كنت واهمة.
وارتعد صوتها فجأة ثم استأنفت وهي تتمالك: لست أدري السبب، لكنك لم تكن من قبل على هذا النحو و... - إن هناك ألف سبب ل «لماذا» هذه. وضغط على هذه الكلمة، ثم قال بصوت خافض جدا: أشكرك يا أميرة، إن ذلك شديد القسوة أحيانا.
وهتف صوت سري في نفس الأميرة ماري: «آه! هذا هو السبب! هذا هو السبب! إنني لم أحبب فيه فقط هذه النظرة المرحة الصريحة الطيبة، ولم يكن هذا المظهر الجميل وحده هو ما أحببت، بل خمنت كذلك النفس النبيلة الحازمة القادرة على التفاني. نعم، إنه الآن فقير وأنا غنية ... نعم، هذا هو السبب ... نعم، لو أن هذا لم يقع ...»
ولما تذكرت رقته السابقة ونظرت الآن إلى وجهه الطيب الحزين، أدركت فجأة سبب بروده.
وفجأة قالت وهى تصرخ تقريبا وتقترب منه لا إراديا: لماذا إذن يا كونت ؟ لماذا؟ قل لي لماذا، يجب أن تقوله لي.
ظل صامتا فاسترسلت: لست أفهم «لماذاك» يا كونت، لكن ذلك يؤلمني ... أعترف لك بذلك. إنك تريد أن تحرمني صداقتي السالفة، لا أعرفه وهذا يؤلمني. وكانت عيناها ممتلئتين بالدموع وكذلك صوتها: لقد لقيت النزر التافه من السعادة في حياتي حتي إن كل خسارة تبهظ كاهلي، اصفح عني! الوداع ...
وانفجرت باكية فجأة، وخرجت من الحجرة.
هتف نيكولا وهو يحاول جاهدا استيقافها: يا أميرة، امكثي حبا بالله! يا أميرة!
التفتت وتبادلا النظر خلال بضع ثوان بصمت، وفجأة بات كل ما كان مستحيلا ونائيا قريبا، ممكنا، لا مناص منه.
الفصل السابع
نيكولا في ممتلكاته
في خريف 1814 تزوج نيكولا الأميرة ماري وذهب مع زوجه يقيم مع سونيا وأمه في ليسياجوري.
وفي مدة أربعة أعوام استطاع، دون أن يمس ثروة زوجته، أن يسدد ما تبقى من ديون، بل وسدد دين بيير كذلك بفضل إرث خلفته له بنت عم له.
وبعد ثلاث سنين، أي في عام1820، استطاع نيكولا أن يسوى أوضاعه المادية حتي إنه استطاع شراء أرض صغيرة قرب ليسياجوري، وراح يدخل في مفاوضات لاستعادة أرض أبيه في أوتراندويه، وهو ما كان يحلم به.
ولما اتخذ بحكم الضرورة إدارة أملاكه بنفسه وسيلة، كلف بالزراعة حتى باتت شاغله المفضل، بل والأوحد. كان نيكولا مالكا بسيطا ما كان يحب التجديدات وبصورة خاصة تجديدات الإنجليز التي كانت شائعة حينذاك، وكان يسخر من دراسات فن الزراعة النظرية، لا يحب مرابض تجويد نسل الخيل، ولا منتجات الترف وزراعة الحبوب الغالية، ولا يركز عنايته في ناحية مميزة من نواحي انتفاعه، لقد كانت إقطاعيته، وإقطاعيته كلها هي الماثلة أمام عينيه وليس جانبا منها . لم يكن الآزوت أو الأكسجين الموجودان في الأرض أو في الهواء هما ما يثيران انتباهه، ولا محراث أو مرعى خاصان، ولكن الأداة الرئيسية التي تحرك الآزوت والأكسجين والمرعى والمحراث، وأعني العامل، الفلاح.
وعندما أكب نيكولا على مهمته كمالك عقاري واستطاع أن يتأمل عن قرب كل تفصيل، اجتذب الفلاح انتباهه بصورة خاصة، ورأى أنه لا يمثل بالنسبة إليه أداة فحسب، بل كذلك الغاية الواجب بلوغها والحكم. وفي بادئ الأمر عندما درس الفلاح حاول أن يدرك حاجته وما يعتبره جيدا وما يراه رديئا، ولقد كان نيكولا يتظاهر فقط بأنه يتخذ التدابير ويلقي الأوامر، لكنه كان في الحقيقة يتثقف باحتكاكه بالفلاح، ويدرس آراءه ومواضيعه وأحكامه على ما هو خير أو شر. وبعد أن فهم أذواق الفلاح وميوله، وبعد أن تعلم لغته وأدرك المعنى المستتر فيها، وبعد أن تقرب إليه تقربه إلى قريب؛ راح يوجهه بنشاط، أي يقوم حيال الفلاح بالواجبات نفسها التي كان يطالبه بتحقيقها، ولقد انتهى انتفاع نيكولا إلى ألمع النتائج.
ولما اتخذ نيكولا أعباء إدارة ممتلكاته مهمة له، عين بلون من التكهن لكل الوظائف العامة من حكم ووكيل ومساعد، وهم الرؤساء الذين كان الإقطاعيون ينتخبونهم على عهد الرقيق، الرجال أنفسهم الذين كان القرويون سينتخبونهم لو كان لهم الحق، فلم يعد به حاجة قط إلى إبدال هؤلاء الرؤساء. وقبل أن يحلل خصائص السماد الكيميائية، وقبل أن يعد ال «من» وال «إلى» - كما كان يحب أن يقول ساخرا - كان يستعلم عن كمية الحيوانات التي يملكها الفلاحون، ويزيد تلك الكمية بكل الوسائل الممكنة. كان يقيم الأسر على أوسع رقعة من الأرض ممكنة دون أن يسمح لها بالتقسيم، أما الكسالى والفاجرون والعمال الرديئون فكانوا يطاردون، وكان يعمل ما بوسعه لإقصائهم عن الاشتراك.
وخلال فترات البذار وحصاد الهشيم كان يراقب بمثل العناية المفرطة حقوله وحقول الفلاحين، فكان قليل من المالكين يرون حقولهم مزروعة بمثل هذه العناية ومحصودة، وقليل يستخلصون إنتاجا يضاهي إنتاج نيكولا.
ما كان يحب الاهتمام بالخدم الأرقاء وكان يدعوهم «طفيليات»، ويترك لهم على ما كانوا يزعمون كل الحرية بل ويكثر من تدليلهم. فإذا ما اقتضى الأمر اتخاذ التدابير حيال واحد منهم، وبصورة خاصة عندما كان يجب معاقبته، كان نيكولا لا يرتبك ويأخذ رأي أهل البيت جميعهم، ولم يكن يتصرف دون أي تردد إلا عندما يقتضي الحال تقديم مملوك من البيت للجندية بدلا من فلاح عامل، ما كان قط يشك في أي تدبير يتخذه حيال الفلاحين، كان يعرف أن كل قرار يتخذه سيلاقي الموافقة العامة.
على أية حال لم يكن يسمح لنفسه أن يبهظ أحدهم بالعمل أو أن يعاقبه تبعا لرغبته، إلا بقدر ما كان يسمح لنفسه بتخفيف خدمته ومكافأته تبعا لرضاه الشخصي، وما كان يستطيع القول على أي شيء ترتكز القاعدة التي تقرر ما إذا كان يجب أن يعمل أو ألا يعمل، لكن هذه القاعدة كانت دائما ثابتة في نفسه لا تتزعزع.
كان غالبا ما يقول باحتداد في معرض الكلام عن إخفاق أو عن سوء تصرف ما: «مع شعبنا الروسي هذا»، ويتصور أنه لا يطيق احتمال الفلاح.
لكنه كان يحب بكل ما في نفسه من قوة «شعبنا الروسي هذا»، يحبه ويحب طرقه في الحياة، ولهذا السبب وحده أدرك وتبنى الأسلوب الأوحد في الاستغلال الذي يعود على صاحبه بنتائج طيبة.
وكانت الأميرة ماري تحس بغيرة من حب زوجها هذا، وتأسف ألا تستطيع مشاطرته فيه، لكنها ما كانت تتوصل إلى فهم أفراح عالم غريب عنها إلى هذا الحد وأتراحه. ما كانت تتوصل إلى فهم سبب شدة حمية نيكولا وسعادته عندما يعود من البذار، بعد أن يكون قد استيقظ منذ الفجر وأمضى الصباح كله بين الحقول أو في أرض الدراس أو في حصاد الهشيم أو الحصاد، ليتناول الشاي معها. ما كانت تدرك سبب حماسته الشديدة عندما يحدثها عن الفلاح الثري «ماتفيئي إيرميشين»، الذي أمضى الليل مع أسرته ينقل الحزم بجد حتى إنه أول من بدأ الحصاد وأول من جهزت عرمه. ما كانت تفهم لماذا يبتسم بمرح تحت شاربيه، ويرف بعينيه وهو يروح ويجيء من النافذة إلى الشرفة عندما كان المطر يهطل مدرارا قويا فاترا على خرطاله النامي الذى يكاد أن يجف، ولا لماذا كان نيكولا يقول إذا ما طردت الرياح سحابة سوداء متوعدة قاتمة في موسم الحصاد أو حصاد الهشيم، وعاد من البيدر متضرج الوجه لاهث الأنفاس ينضح بالعرق، يفرك يديه مبتهجا وفي رأسه خليط من الأفسنتين والنعنع: «حسنا، يوم آخر صغير كهذا اليوم وسيتم إيداع كل شيء في المكادس، حصادي وحصاد القرويين.»
بل وكانت تعجز أكثر من ذلك عن فهم السبب الذي من أجله يخرج عن طوره رغم كل طيبة قلبه ومبادرته الدائبة على إشباع رغباتها، عندما كانت تنقل إليه طلبات القرويين أو القرويات الراغبين في إعفائهم من عملهم، ولماذا كان نيكولا «ها» شديد الطيبة يجيبها بإصرار وعناد بالرفض، راجيا منها ألا تتدخل في مثل تلك اللحظات. كانت تدرك أن له عالما خاصا به، عالما يتعلق به بكلف، وأن لهذا العالم من القواعد ما لا تصل هي إلى إدراكه.
وعندما كانت أحيانا تجهد نفسها لفهمه فتحدثه عن فضله في الخير الذي يعممه على أتباعه، كان يتوقف ويرد عليها: «ولكن مطلقا، إن ذلك لا يتبادر إطلاقا إلى ذهني، إنني لا أحاول قط أن أبني سعادتهم، إن سعادة الغير ليست إلا حلما شاعريا وثرثرة بين النساء. إن ما أنا في حاجة إليه هو ألا يقع أبناؤنا في الفاقة، وما ينبغي هو أن أنمي ثروتنا ما دمت حيا ليس إلا، ومن أجل ذلك يجب استعمال النظام والصرامة. هذا كل شيء!» وهنا يقبض قبضتيه القويتين ويضيف: «يجب كذلك تحري العدالة، وهذا بديهي، لأن الفلاح إذا كان سيئ اللباس مجوعا لا يملك إلا جوادا هزيلا فإنه لا يستطيع أن يعمل، لا من أجل نفسه ولا من أجلى.»
ولعل نيكولا بسبب امتناعه عن التفكير في أنه يعمل عملا خيرا للغير باسم الفضيلة، لعله لهذا السبب بالذات كان كل ما يشرع به يؤتي أكله، كانت ثروته تتضخم بشكل واضح، والقرويون من الجوار يفدون إليه راغبين إليه أن يشتريهم، ولقد ظل الشعب طويلا بعد موته يحتفظ بذكراه بورع: «لقد كان سيدا ... الفلاح أولا وبعده هو، لا شك أنه لم يكن متساهلا. ولكن لا مجال للجدل، لقد كان سيدا.»
الفصل الثامن
بناء القصر
كان الشيء الوحيد الذي يعذب نيكولا أحيانا في علاقاته مع مماليكه هو انفعاله، مضافة إليه عادته القديمة كفارس وهي استعمال يده. ما كان في المرحلة الأولى يجد شيئا معيبا في ذلك، لكنه في السنة الثانية لزواجه تبدل رأيه فجأة حول هذه العدالة الموجزة.
وذات يوم، أثناء الصيف، استدعى من بوجوتشاروفو الوكيل الذي خلف المتوفى درون، وقد اتهم باختلاسات مختلفة وإهمالات، مضى نيكولا للقائه على المرقاة فلم تلبث الصيحات والضربات أن بلغت الردهة إثر أجوبة الوكيل الأولى. ولما عاد لتناول الطعام في البيت اقترب نيكولا من زوجته الجالسة أمام نول الوشي مطرقة الرأس، وراح يروي لها حسب عادته ما فعله في الصباح فتحدث عن الوكيل في سياق الكلام، احمر وجه الكونتيس ماري ثم شحبت وزمت شفتيها، ولكن دون أن تتحرك أو أن ترفع رأسها أو تنظر إلى زوجها.
هتف وهو يحتد لمجرد الذكرى: يا له من نذل وقح! ولو أنه كان ثملا لوضح الأمر ...
وفجأة سأل: ولكن، ماذا بك يا ماري؟
رفعت الكونتيس ماري رأسها وأرادت الكلام، لكنها سارعت إلى الإطراق برأسها وزم شفتيها.
ماذا بك؟ ماذا بك يا صديقتي؟
كانت الكونتيس ماري الدميمة تصبح جميلة كلما بكت، ما كانت قط تبكي بسبب ألم جسماني أو لسأم ولكن بسبب حزن وإشفاق، وحينئذ كانت عيناها المضيئتان تتخذان فتنة لا تعبر.
ما إن أمسك نيكولا بيدها حتى عجزت عن كبت عواطفها أكثر مما فعلت، فانهارت باكية: نيكولا، لقد رأيت ... أنه مخطئ ... ولكن أنت لماذا عملت ... نيكولا؟!
وغطت وجهها بيديها.
صمت نيكولا وتضرج وجهه، ثم ابتعد عنها وراح يذرع الحجرة صامتا.
لقد أدرك سبب دموعها، لكنه ما كان يستطيع للوهلة الأولى أن يتفق معها في أعماق نفسه، وأن يعترف بأن كل ما عمله منذ طفولته ويعتبره كشيء من أكثر الأشياء طبيعة يستوجب الذم، تساءل: «هل هذا شيء من الشعورية؟ هل هذا شيء من الشعورية؟ هل هي قصص تجعل المرء ينام وهو واقف أم أنها في واقع الحياة؟» ودون أن يحسم الموضوع بنفسه ألقى نظرة جديدة على وجه زوجته حيث كان الألم والحب يقرأان عليه، وفهم فجأة أنها هي التي على حق، وأنه كان مذنبا منذ أمد طويل حيال نفسه.
قال لها بصوت خافت وهو يقترب منها: ماري، لن يقع ذلك فيما بعد أبدا، أعدك بذلك.
وكرر بصوت متهدج، صوت فتى صغير يستجدي صفحها: أعدك يا ماري لن يقع أبدا.
انبعثت الدموع من عيني زوجته بقوة أكثر فأمسكت بيده وقبلتها. قالت لتبدل الحديث وهي تنظر إلى يده والتي تحمل خاتما يحمل رأس لاوكون: نيكولا، متى حطمت الحجر الثمين؟ - اليوم، إنها المسألة نفسها أيضا! آه! ماري، كفي عن الحديث، عن هذا.
وتضرج وجهه من جديد: أمنحك كلمة الشرف أن هذا لن يعود مطلقا.
وأضاف وهو يظهر الحجر الثمين المحطم: عسى أن يذكرني هذا بوعدي دائما.
ومنذ ذلك الحين ما إن تجعل مناقشة ما مع وكيل أو مسجل، حتى كانت الدماء تتصاعد إلى رأسه ويبدأ بضم قبضته؛ حتى يشرع نيكولا بإدارة خاتمه المحطم حول إصبعه ويطرق برأسه أمام الرجل الذي أثار سخطه. لكنه كان كذلك ينسى نفسه مرة أو مرتين خلال العام، وحينئذ كان يعود إلى قرب زوجته ويعترف لها، ثم يجدد الوعد بأن هذه ستكون المرة الأخيرة.
كان يقول لها: ماري، سوف تحتقرينني حقا، وإنني لأستحق ذلك.
فكانت الكونتيس ماري تقول له وهي بادية الحزن، محاولة تعزيته: ولكن ابتعد مسرعا عندما تشعر بأنك لم تعد تملك القوة على ضبط أعصابك.
كان النبلاء من أفراد الحكومة يضمرون الاحترام الجزيل لنيكولا ولا يحبونه إلا قليلا، وما كان يعنى بمصالح هذه الطبقة بحيث كان البعض ينظرون إليه كرجل متكبر، والآخرون يعتبرونه أقرب بالأحرى إلى البلاهة. وكانت المعاينة بمزرعته تشغل وقته كله منذ موسم الزراعة في الربيع حتى الحصاد، فإذا حل الخريف انطلق إلى الصيد بمثل ذلك النشاط الجدي يبديه في العناية بحقوله، وتغيب عن الدار حوالي شهر أو شهرين بصحبة قطيع من كلاب الصيد. وفي الشتاء كان يزور القرى البعيدة أو يطالع الكتب، وكانت مطالعاته تنحصر بكتب التاريخ على الأخص، فيخصص لها سنويا مبلغا كبيرا من المال، وكان يتضح من حديثه أنه يؤسس مكتبة محترمة، مقيدا نفسه بقراءة سائر ما يبتاع من كتب، وكانت تلوح عليه مظاهر الجد عندما يتخذ مجلسه في مكتب عمله، مستسلما لمطالعاته التي كانت إلزاما بادئ الأمر، ثم أصبحت عنده عادة توفر له في نفس الوقت لذة خاصة والشعور بالانشغال بعمل جدي. وإذا استثنينا الأسفار التي يقوم بها بسبب من أعماله، فهو يقضي في الشتاء القسم الأعظم من وقته في داره في أحضان العائلة، وكان يشارك في أمثال تفاصيل حياة زوجته وأولاده اليومية، وهو يحس انجذابا متزايدا إلى ماري ويكتشف فيها كل يوم كنوزا روحية جديدة لم يكن يعرفها.
وكانت سونيا تعيش في بيت نيكولا منذ زواجه، وكان نيكولا قد روى لماري قبل زواجهما كل ما جرى بينه وبين سونيا، متهما لنفسه ممتدحا خصائل الفتاة، راجيا ماري أن تكون طيبة ومحبة تجاه ابنة عمه. وكانت الكونتيس ماري تشعر بما ارتكب زوجها من جرم بحق سونيا، وتشعر بذنبها الخاص أيضا، وكانت تحسب أنه كان لثروتها تأثير على اختيار نيكولا، فما كانت تضمر لسونيا أي عتاب بل تود بالأحرى أن تحبها. بيد أنها لم تكن بعيدة عن حبها فحسب، بل غالبا ما كانت تكتشف أيضا في نفسها عواطف عدائية تجاهها تعجز عن التغلب عليها.
وذات يوم تحدثت إلى صديقتها ناتاشا في موضوع سونيا وظلمها لها، فقالت لها ناتاشا: أتعلمين، ما دمت قرأت الإنجيل كثيرا ففيه مقطع ينطبق بالضبط على سونيا.
فسألت الكونتيس ماري في دهشة: أي مقطع؟ - «من معه يعطى ويزاد ومن ليس معه يؤخذ منه.»
1
أتذكرين ذلك؟ من ليس معه؟ إنها هي، لماذا؟ لست أدري! لعلها بعيدة عن أدنى أنانية، لا أعلم، لكن سيؤخذ منها كل شيء، ولقد أخذ كل شيء منها. وإنها لتبعث في أحيانا الرأفة بصورة فظيعة، ولقد أردت يوما من صميم قلبي أن يتزوج نيكولا منها، ومع ذلك فقد كنت أشعر على الدوام أن ذلك لن يتحقق، إنها «الزهرة العقيم، كما يوجد مثل هذه الأزهار في شجرة القريز»، إني أرثي لها أحيانا، وأحيانا أفكر أنها لا تحس ذلك كما نحس نحن.
ورغم أن الكونتيس ماري أوضحت وقتئذ لصديقتها أنه ينبغي فهم كلمات الإنجيل هذه بصورة مغايرة، فقد كان يكفيها أن تتطلع إلى سونيا كي توافق على تفسير ناتاشا، ولقد كانت تقول: في الحقيقة أن سونيا اعتادت مصيرها ك «زهرة عقيم» بدلا أن تتألم له، وكان يبدو عليها أنها تحب العائلة ككل واحد، منها بالأحرى تحب الأفراد في هذه العائلة، فمثلها مثل القط الذي يتعلق بالدار أكثر من تعلقه بأشخاصها. كانت تعنى بالكونتيس العجوز، وتداعب الأولاد وتدللهم، وهي أبدا على أهبة القيام بأدق الخدمات التي تستطيع إنجازها. ولكن ذلك كله يؤخذ على أنه أمر مفروغ منه، دون أن يقابل بشيء من الامتنان والعرفان بالجميل.
وكان قصر ليسياجوري المعاد بناؤه يختلف عنه أيام الأمير الراحل.
فقد كانت الأبنية المرفوعة في زمن لا بد من أخذ المال فيه بعين الاعتبار أكثر من محتقرة. وكان البناء الفخم ذو الأسس الحجرية مصنوعا من خشب، قد طلي باطنه بالجص بكل بساطة، وكانت الحجرات الواسعة ذات الأرض الخشبية البيضاء مؤثثة بكنبات بسيطة ومقاعد كبيرة على درجة عظيمة من القسوة، وبطاولات وكراسي مصنوعة من خشب السندر المستمد من الغابات التابعة للملكية بأيدي نجارين من المنطقة أيضا. ولما كانت الدار فسيحة الأرجاء، فقد كانت تضم غرفا للخدم وجناحا خاصا للمدعوين، وكان أقرباء آلي روستوف وبولكونسكي يجتمعون في هذه الدار من حين لآخر، فتأتي عائلاتهم بنصابها الكامل، يرافقهم حتى ستة عشر جوادا لجر المركبات وعشرات من الخدم، وكانوا يقيمون هناك أشهرا طويلة.
وعدا ذلك فإن حوالي مائة مدعو كانوا يحلون في الدار يوما أو يومين أربع مرات في السنة، وذلك بمناسبة عيد ميلاد سيدي الدار وعيد شفيعهما. أما في غير ذلك من الأوقات، فقد كانت الحياة تجري بانتظام ودونما أي اضطراب بمشاغلها العادية، والاجتماعات حول الشاي أو في الإفطار والغداء والعشاء التي تقدم جميعا على ما تنتجه الملكية من مواد غذائية.
الفصل التاسع
عشية العيد
كان ذلك عشية عيد القديس نيكولا الشتوي، الخامس من كانون الأول عام 1820، وكانت ناتاشا تلك السنة تقيم مع زوجها وأولادها عند أخيها منذ بداية الخريف. وكان بيير قد قصد بيترسبورج حيث تدعوه على زعمه مشاغل خاصة تستغرق من وقته ثلاثة أسابيع، ولقد مضت حتى الآن ستة أسابيع منذ رحيله، فهم يتوقعون مجيئه من لحظة لأخرى.
وفي الخامس من كانون الأول، فيما عدا عائلة بيزوخوف، كان ثمة ضيف آخر هو صديق نيكولا القديم الجنرال المتقاعد فاسيلي فيدوروفيتش دينيسوف، وكان نيكولا يعرف أن من واجبه في اليوم السادس من الشهر، وهو يوم الاحتفال الذي سيتدفق الضيوف فيه، أن يخلع سترته الواسعة التترية، ويرتدي بذلة الاحتفال الرسمية، ويلبس حذاء ضيق المقدمة، ويذهب إلى الكنيسة الجديدة التي بنيت تحت إشرافه ثم يتقبل التهاني، ويقود ضيوفه إلى أمام مائدة عامرة، ويتكلم عن انتخابات النبلاء، وعن الموسم، لكنه كان لما يزل يحس عشية ذلك اليوم الحق في أن يحيا حسب عاداته. وهكذا قضى الوقت حتى موعد الغداء في مراجعة حسابات وكيل قرية قريبة من ريازان تابعة لملكية ابن أخ زوجته، وكتب رسالتين تتعلقان بأعماله، وقام بجولته على البيادر والزرائب والإسطبلات. وبعد أن اتخذ التدابير اللازمة ضد السكر العمومي المنتظر في الغداة، وهو يوم عيد للجميع، رجع من أجل الغداء، واتخذ مكانه إلى المائدة الطويلة حيث رتبت الصحون العشرون الخاصة بأهالي الدار، دون أن تسنح له فرصة مبادلة زوجته كلمة واحدة على انفراد. وكان الجميع قد اتخذوا أماكنهم إلى المائدة: أمه، والعجوز بيسلوخا التي ترافقها دائما، وزوجته، وأولاده الثلاثة، ومربيتهم وأستاذهم، وابن أخيه مع مربيته، وسونيا، ودينيسوف، وناتاشا وأبناؤها الثلاثة، ومربيتهم، والعجوز ميخائيل إيفانيتش مهندس الأمير الراحل، الذي ينهي حياته بطمأنينة في ليسياجوري.
وكانت الكونتيس ماري تجلس إلى الطرف الآخر من المائدة، وما كاد زوجها يقصد كرسيه حتى أدركت من الحركة السريعة التي قام بها بعد أن نشر فوطته كي ينقل قدح الماء وقدح الشراب الموضوعين أمامه؛ أنه مضطرب المزاج، الأمر الذي يقع له أحيانا وعلى الأخص قبل تناول الحساء عندما يعود إلى الدار من الحقول مباشرة. وكانت الكونتيس ماري تعرف هذه الحال الروحية جيدا، فإذا كانت هي نفسها حسنة المزاج انتظرت بهدوء حتى يتناول حساءه كي تشرع في الحديث وتحمله على الاعتراف بأن لا مبرر لامتعاضه، لكنها نسيت تماما في ذلك اليوم هذه الخطة، وراحت تتألم لرؤيته ممتعضا منها دونما سبب وأحست بتعاسة عظيمة تجتاحها، وسألته أين كان فأجاب عن سؤالها، فعادت تسأله إذا كان كل شيء على ما يرام في الملكية، فكانت لهجته قاسية حين كشر باكتئاب وأجاب بشيء من العنف.
وقالت الكونتيس ماري في نفسها: «لم أكن مخطئة إذن، ولكن ماذا يأخذ علي؟» كان كل شيء في جواب نيكولا يشير إلى امتعاضه منها فلا يهمه سوى أن يضع حدا للحديث، وكانت تشعر بأن أسئلتها لا تبدو طبيعية ولا تستطيع مع ذلك امتناعا عن طرح أسئلة جديدة عليه.
وسرعان ما احتدم الحديث بفضل دينيسوف وشمل الجميع، بيد أن الكونتيس ماري لم تتحدث بعدئذ إلى زوجها مطلقا. وعند الانتهاء من الطعام اقترب كل بدوره من الكونتيس العجوز ليقدم إليها بشكره، فقبلت الكونتيس ماري زوجها وهي تمد له يدها ليقبلها
1
وسألته عن امتعاضه منها، فقال: إن أفكارا تراودك دائما، لماذا تريدينني أن أكون ممتعضا؟
ولكن كلمة «لماذا» في جوابه كانت تعني بالنسبة إلى الكونتيس: «أجل، إني ممتعض ولا أريد أن أقول لماذا.»
كان نيكولا يعيش في وئام تام مع زوجته، بحيث ما كانت سونيا والكونتيس العجوز، وهما تتمنيان بدافع من الغيرة بعض سوء التفاهم بينهما، تجدان ذريعة لتوجيه أي نقد مطلقا. ولكن بعض التوتر كان يقوم أحيانا على أية حال بين الزوج وزوجته، وفي الأحايين وخاصة بعد الأوقات الأكثر سعادة كان يجتاحهما شعور بالتباعد والنفور، وكان هذا الشعور يولد خاصة أثناء حمل الكونتيس ماري، ولقد كانت حاملا في هذه الأيام.
قال نيكولا بصوت مرتفع ولهجة مازحة (كان يلوح للكونتيس ماري أنه يتحدث بهذه اللهجة عمدا لإغضابها): حسنا أيها السادة والسيدات، إني أقف على ساقي منذ ست ساعات، ومن المؤكد أنه لا بد لي غدا من الاستمرار في الوقوف حتى النهاية، أما اليوم فإني ذاهب أنال قسطا من الراحة.
وبدون أن يضيف شيئا خاصا بالكونتيس ماري، انتقل إلى المخدع الصغير حيث تمدد على كنبة. وفكرت الكونتيس ماري: «تلك هي الحال دائما، فهو يوجه كلمة إلى الناس جميعا، أما لي فلا يقول شيئا، إني أرى جيدا أني أنفره وخاصة عندما أكون هكذا»، وتطلعت إلى بطنها المتضخم، ونظرت في المرآة إلى وجهها المشدود الشاحب والمصفر، حيث تبدو العينان أكبر منهما في أي وقت آخر.
وإذا كل شيء يصعب عليها بصورة مباغتة: رنين الأصوات، وضحكة دينيسوف، وأحاديث ناتاشا، وبصورة خاصة النظرة السريعة التي رمقتها سونيا بها.
ولقد كانت سونيا على الدوام الذريعة الأولى التي تقع الكونتيس ماري عليها عندما تكون في ثورة وامتعاض.
وبعد أن أمضت بضع دقائق مع ضيوفها دون أن تفهم شيئا مما يقولون، غادرتهم دون ضوضاء واتجهت إلى غرفة أولادها.
وكان الأطفال الراكبون مقاعد ذاهبين إلى موسكو فدعوها لمرافقتهم. جلست ولعبت معهم، بيد أن فكرة زوجها وامتعاضه ما كانت تفارقها البتة، وما أسرع أن نهضت وغادرت الغرفة وهي تسير بحذر على أطراف أصابعها نحو المخدع الصغير!
قالت في نفسها: «لعله لم ينم بعد فأسوي الأمور معه»، وكان آندريه الصغير بكر أبنائها يتبعها وهو يقلدها ويسير مثلها على أطراف أصابعه، لكنها لم تنتبه إليه.
والتقت بسونيا في قاعة الاستقبال، سونيا هذه التي تصطدم بها في كل مكان (فيما يخيل إلى الكونتيس ماري)، فقالت لها: يا ماري العزيزة، إنه ينام فيما أعتقد، إنه على درجة عظيمة من الإعياء، حاذري فسوف يوقظه آندريه.
فالتفتت الكونتيس ماري ورأت الصغير الذي يتأثر خطاها فأدركت أن سونيا على حق، ولأنها كانت مخطئة فقد احمرت وجنتاها وكادت تتفوه بكلمة جارحة، لاذت بالصمت. لكنها أرادت أن تبرهن أنها لا تأبه لما تقول سونيا، فأشارت للصبي أن يتبعها دون ضوضاء، ثم اقتربت من الباب، بينا اختفت سونيا في الباب المقابل. ودفق من الحجرة حيث ينام نيكولا أصداء تنفسه المنتظم الذي تعرف أدق تفاصيله، وكانت ترى حيالها وهي تسمع هذا التنفس جبين زوجها المرتفع المغضن وشاربيه، وكل هذا المحيا الذي كثيرا ما تتأمل فيه وهو ينام في هدأة الليل وسكونه. وبغتة تحرك نيكولا وسعل، فما أسرع أن صاح آندريه الصغير في خلف الباب: «أبتي، إن أمي هنا!» فعلا الشحوب وجه الكونتيس ماري ذعرا، وأشارت لابنها أن يلوذ بالصمت فأطاع، فران طوال دقيقة سكون أليم بالنسبة إليها، كانت تعرف كم يكره نيكولا أن يوقظه من نومه وعلى حين بغتة. تردد في الجانب الآخر من الباب سعال جديد، فتحرك نيكولا مرة أخرى وقال بصوت فيه دلائل الاستياء: ليس من سبيل إلى الراحة دقيقة واحدة؟! أهذه أنت يا ماري؟ لماذا جئت به إلى هنا؟ - جئت لألقي نظرة فقط، ولم أر ... اعذرني ...
فسعل نيكولا وسكت، وابتعدت الكونتيس ماري عن الباب، ورجعت بولدها إلى غرفة الأطفال. بيد أن الصغيرة ناتاشا، وهي طفلة في الثالثة من سنيها جميلة العينين السوداوين، والابنة المفضلة عند أبيها، أسرعت بعد خمس دقائق وقد عرفت من أخيها أن أباها تألم وأن أمها ذهبت إلى المخدع تبحث عن نيكولا من دون علم والدتها. وفتحت الصغيرة السوداوية العينين الباب بجرأة، وتقدمت من المكتبة بخطوات حازمة على قدميها غير الثابتتين، ووقفت هناك تتأمل برهة أباها الذي ينام وقد أدار لها ظهره، ثم تطاولت على رءوس أصابعها وطبعت قبلة على اليد التي تسند رأس نيكولا، فاستدار إليها وعلى شفتيه ابتسامة حنون.
ومن خلف الباب همست الكونتيس ماري بذعر: ناتاشا! ناتاشا! هلا تركت أباك نائما.
فهتفت الصغيرة ناتاشا ببهجة ظافرة: ولكن لا يا أماه، ليست به رغبة في النوم، إنه يضحك.
فوضع نيكولا قدميه على الأرض وجلس على الكنبة، وأخذ الصغيرة بين ذراعيه.
قال لزوجته: ادخلي يا ماري.
فدخلت الكونتيس ماري وجلست بجانب زوجها .
قالت بتردد: لم أكن أعلم أنه يتبعني، ولقد جئت هكذا.
فتطلع نيكولا ممسكا بابنته الصغيرة بذراعه الواحدة إلى زوجته وشاهد سيماها المضطربة، فأحاط قامتها بذراعه الطليقة وطبع على شعرها قبلة سريعة.
استفهم من ناتاشا: أيمكن تقبيل ماما؟
فافترت شفتا ناتاشا عن ابتسامة خجول.
قالت وهي تشير بحركة آمرة إلى المكان حيث قبل نيكولا زوجته : أيضا!
قال نيكولا مجيبا على السؤال الذي يعرف أنه يدور في خلد زوجه: لا أدري لماذا تحسبين أني سيئ المزاج ...! - لست تستطيع أن تتصور مبلغ تعاستي وشدة وحدتي عندما تكون على هذه الحال، ليخيل إلي على الدوام ...
فهتف في مرح: صه يا ماري، فتلك حماقات، كيف لا تخجلين من نفسك؟ - يصور لي أنك لا تستطيع أن تحبني، وأني قبيحة جدا ... وخاصة ... الآن ... في هذا الو ... - آه! ما أسخفك! إن الجمال لا يصنع الحب بل الحب هو الذي يصنع الجمال، إن مالفينا وأشباهها نحبهن من أجل محياهن الجميل، أما بالنسبة إلى زوجتي فلست أشعر بالحب بل بشيء آخر، ولا أدري كيف أفسر لك ذلك حين لا تكونين ها هنا أو يمر ظل بيننا كما حدث قبل لحظة، فأشعر كأنني ضعت ولم أعد أساوي شيئا. إليك، هذه الإصبع هل أحبها؟ كلا لست أحبها، ولكن هيا وجربي أن تقطعيها مني! - كلا، أنا لست كذلك، لكنني أفهم. إذن فأنت غير ممتعض مني؟
فقال مبتسما: ممتعض بصورة فظيعة!
ونهض، وأمر يده في شعره المشعث، وراح يذرع أرض الغرفة بخطواته. قال على الفور وقد تم الصلح بينهما، فهو مستعد إذن أن يفكر أفكاره بصوت مرتفع أمام زوجته: أتعرفين يا ماري في ما فكرت؟
لم يسأل نفسه ما إذا كانت مستعدة للاستماع إليه فذلك لا يهمه كثيرا، ينبغي منذ أن تراوده فكرة أن تشاركه فيها أيضا. وعرض عليها نيته في دعوة بيير إلى قضاء الربيع معهم.
وأصغت الكونتيس ماري إليه، وقدمت بضع ملاحظات، وجعلت بدورها تفكر بصوت مرتفع، كانت تفكر في أبنائها.
قالت بالفرنسية مشيرة إلى ناتاشا الصغيرة: كم تحس فيها المرأة منذ الآن! أنتم تأخذون علينا نحن النساء انعدام المنطق عندنا، ولكن إليكن منطقنا؛ إني أقول: بابا راغب في النوم، فتجيب: «كلا، إنه يضحك!»
ثم هتفت وعلى شفتها ابتسامة سعيدة: وإنها على حق. - أجل، أجل.
وأخذ نيكولا ابنته في ذراعيه القويتين ورفعها عاليا ووضعها على كتفه، ثم عاد يذرع أرض الغرفة بخطاه وقد أمسك بها من فخذيها، وكان من الصعب أن نقول أيا من الأب والابنة كان أعظم سعادة وهناء.
همست الكونتيس ماري بالفرنسية: اسمع، أنت تتعرض لأن تكون ظالما، إنك تحب هذه كثيرا. - ماذا تريدين أن أفعل؟ ... إني أسعى كي لا أظهر ذلك ...
وفي تلك اللحظة سمع في الغرفة المجاورة والدهليز أصوات خطى ثقيلة، شبيهة بالأصوات التي تعلن عن وصول مسافر من مكان بعيد.
قال نيكولا: جاء شخص ما.
فقالت الكونتيس ماري وهي تخرج من الغرفة: أنا متأكدة أنه بيير.
واغتنم نيكولا فرصة غياب زوجه كي يخب بابنته قليلا ثم توقف منقطع الأنفاس، ورفع بسرعة الصغيرة الضاحكة عن كتفه وشدها إلى صدره، كانت القفزات التي قام بها لتوه تذكره ببعض الخطوات الراقصة، وحين تأمل الوجه الصغير المدور المشع فرحا فكر فيما ستكون عليه حين يصير عجوزا، وكيف سيخرج بها إلى ما بين الناس ويرقص المازوركا معها كما كان المرحوم والده يرقص الدانيوكوبر مع ناتاشا.
صاحت الكونتيس ماري بعد دقائق قليلة وهي تعود إلى الغرفة: هذا هو يا نيكولا، والآن عادت حبيبتنا ناتاشا إلى الحياة، ولو رأيت بأية حمية استقبلته ثم كيف عنفته لتأخره! هيا تعال، تعال سريعا.
وأضافت أخيرا وهي تبتسم وتنظر إلى الصغيرة المتعلقة بأبيها: هلا انفصلتما أخيرا!
فرح نيكولا ممسكا ابنته من يدها، بينما تباطأت الكونتيس في المخدع.
همست: أبدا، أبدا، لم أفكر أني يمكن أن أكون على هذه الدرجة من السعادة.
وتألق وجهها بابتسامة، بيد أنها صعدت زفرة في الوقت نفسه، ومر في نظرتها العميقة انعكاس حزن صموت، فكان ثمة سعادة أخرى إلى جانب السعادة التي تحس، سعادة لا تبلغ في هذه الحياة لكنها تتردد الآونة في ذهنها رغما عن إرادتها.
الفصل العاشر
عودة بيير
كانت ناتاشا قد تزوجت في الأيام الأولى من ربيع 1813، وفي عام 1820 كانت قد ولدت ثلاث بنات بالإضافة إلى الابن الذي طالما تاقت إليه والذي كانت ترضعه من ثدييها، كانت قد سمنت قليلا وازدهرت بحيث كان يصعب على المرء أن يعرف في هذه الأم المخصاب للعائلة ناتاشا الأيام السابقة، النحيلة والدائبة الحركة. وكانت سيماء وجهها قد اتضحت واتخذت تعبيرا في الوضوح والليونة الهادئة، وبارحتها تلك الشعلة من الحياة الملتهبة أبدا التي كانت تشكل فتنتها في الأيام الغابرة. إن المرء لا يشاهد منها الآن في غالب الأحيان سوى وجهها وجسدها، أما نفسها فصارت غير مرئية، لم يعد يرى منها سوى الأنثى القوية، الجميلة والمخصابة. وكان لهيب الماضي يعادل الاشتعال فيها في حالات استثنائية، مثلها اليوم لدن قدوم زوجها، أو حين يقوم أحد أبنائها من الفراش بعد مرض ألم به، أو حين تتحدث مع الكونتيس ماري عن الأمير آندريه (لم تكن تتحدث البتة عن الأمير آندريه أمام زوجها، مفترضة أنه يغار من الذكرى التي تحفظها عنه)، أو حتى يدفعها شيء ما مصادفة إلى الغناء بعدما أهملته تماما منذ زواجها. وفي أثناء هذه اللحظات النادرة حيث يتأرث لهيب الماضي في هذا الجسد الجميل اليانع، كانت تصير أشد إغراء منها قبلا.
كانت ناتاشا تقيم منذ زواجها من زوجها في موسكو، وفي بيترسبورج، أو في ملكيته الواقعة في ضواحي موسكو، أو عند أمها يعني عند نيكولا. ونادرا ما كانت الكونتيس بيزوخوف الشابة ترى في المجتمعات، وأولئك الذين كانوا يقابلونها هناك ما كانوا يسرون منها كثيرا، فهي بعيدة عن كل لطف ومودة، ولم يكن دافعها إلى ذلك تفضيلها للوحدة (ما كانت تعرف إذا كانت تحبها أم لا، بل كانت تعتقد أن لا). غير أن حملها المتكرر، وواجب إرضاع أطفالها، ومساهمتها في كل من لحظات حياة زوجها، هذه الأمور جميعا كانت تحملها على الابتعاد عن الناس، وكان سائر الذين عرفوها قبل الزواج يدهشون لذلك التبدل الطارئ عليها فكأنه أمر فوق العادي . وكانت الكونتيس العجوز وحدها بمظهرها الأمومي قد فهمت أن سائر انطلاقات ناتاشا ناشئة من مجرد رغبتها في تأسيس عائلة، والحصول على زوج كما أعلنت ذلك ذات يوم في أوتراندويه جادة في ذلك أكثر منها مازحة. وكانت تدهش في قلبها الأمومي من عجب الناس الذين لا يفهمون ناتاشا، فهي لا تني تردد أنها قد عرفت على الدوام أن ابنتها ستكون زوجة دائما مثالية.
وكانت تضيف: سوى أنها تذهب أبعد قليلا مما يجب في حبها لزوجها وأولادها، بل إن ذلك يجانب السخف قليلا.
ولم تكن ناتاشا تتبع تلك القاعدة الذهبية التي ينادي بها الناس الأذكياء، والفرنسيون بصورة خاصة، القائلة إن الفتاة إما تتزوج يجب ألا تتنازل عن مواهبها أو تدفنها، بل أن تعنى بشخصها أكثر من ذي قبل ساعية لإغراء زوجها بقدر ما كانت تجهد لإغراء خطيبها. بيد أن ناتاشا على العكس من ذلك قد أهملت دفعة واحدة سائر فتنها التي كان الغناء أشدها قوة، ولقد أهملت الغناء بسبب وحيد ألا وهو كونه أفضل فتنة تتمتع بها. ولم تكن ناتاشا تأبه للياقة في سلوكها، أو الرقة في أحاديثها، أو الأوضاع المغرية التي يجب أن تتخذها حيال زوجها أو بزينتها، وكذلك لم تكن أكثر اهتماما بعدم إزعاج زوجها بطلباتها. كانت تتصرف ضد هذه القواعد تماما، فهي تشعر أن الإغراءات التي كانت غريزتها تحملها على إظهارها من قبل، ستلوح سخيفة مضحكة في عيني الرجل الذي استسلمت إليه بكليتها، يعني بكل روحها، دون أن تحتفظ بزاوية خفية عليه. وكانت تشعر أن اتحادها مع زوجها لا يعود إلى تلك المشاعر الشعرية التي اجتذبته إليها، بل إلى شيء آخر لا يمكن تحديده لكنه ثابت، صلب، مثله مثل اتحاد نفسها الخاصة بجسدها.
أما أن تتخذ أوضاعا مسرحية، وتحمل سلالا وتنشد أغاني غرامية كي تجعل زوجها عاشقا لها، فذلك عندها أمر غريب مثل تزينها كي تعجب نفسها، أما أن تتزين كي تعجب الآخرين فلعل ذلك كان يلاقي قبولا عندها، إنها لا تعرف على وجه الدقة لكنها لا تجد الوقت له مطلقا. وفي الحقيقة أن السبب الرئيسي الذي هجرت من أجله الغناء والزينة والرقة في الحديث، هو عوزها للوقت الضروري في سبيل هذه الأمور جميعا.
نحن نعلم أن الإنسان يملك القدرة على الاستغراق بكليته في أي مشاغل مهما تكن تافهة، ونعلم أيضا أنه لا يوجد أي مشاغل تافهة إلا دعته أن يتعاظم في الأهمية حتى ما لا نهاية عندما يتركز الانتباه عليه بصورة كلية.
وما كان يشغل ناتاشا بصورة كلية هي العائلة، يعني الزوج الجاهدة للاحتفاظ به كي يكون لها دون شريكة، والبيت والأطفال الذين ينبغي حملهم وولادتهم وتغذيتهم وتربيتهم.
وبقدر ما كانت تستغرق لا بعقلها بل بكل روحها وبكل كينونتها في هذا الشيء المفضل، كان هذا الشيء يزداد أهمية في عينيها فتبدو لها قواها غير كافية، بحيث لا بد لها من تركيز سائر هذه القوى على ذات النقطة، دون أن تتوصل أبدا إلى تحقيق كل ما يلوح لها ضروريا لا استغناء عنه.
وكانت المناقشات والمحاكمات العقلانية عن حقوق الزوجة، والعلاقات بين الزوجين، وحرياتهما وحقوقهما المتبادلة، رغم أن الناس يومئذ ما كانوا يسمونها «مشاكل» كما يفعلون اليوم؛ موجودة مثلها هذه الأيام بالضبط، بيد أن هذه القضايا ما كانت تثير اهتمام ناتاشا، وهي بكل تأكيد ما كانت تفهمها.
هذه القضايا في الماضي كما في الحاضر ما كانت توجد سوى بالنسبة إلى الناس الذين لا يجدون في الزواج سوى اللذة التي يتبادلها الزوجان، يعني عنصرا واحدا من عناصره وليس معناه الكامل الذي هو العائلة.
هذه المناقشات وهذه المشاكل التي تطرح اليوم، وهي كثيرة الشبه بقضية معرفة كيف نستخرج أقصى ما نستطيع من لذة من وجبة طعام، ما كانت تطرح وقتئذ أكثر منها اليوم بالنسبة إلى الناس الذين يعتبرون أن الغاية من وجبة الطعام هي تغذية الجسد، وأن الهدف من الزواج هي العائلة.
فإذا كانت الغاية من الطعام هي تغذية الجسد، فذاك الذي يتناول في وقت واحد وجبتين من الطعام ربما أحس متعة أعظم بيد أنه لن يبلغ الهدف المطلوب، لأن المعدة لا تستطيع أن تهضم وجبتين في وقت واحد.
وإذا كان الهدف من الزواج هي العائلة فذاك الذي يريد أن تكون له زوجات متعددات، أو تلك التي تطلب أزواجا كثيرين؛ ربما حصلا على لذة عظيمة، لكنه لن يكون لهما عائلة في حال من الأحوال.
إذا كانت الغاية في الطعام تغذية الجسد، والغاية في الزواج تشكيل العائلة ، فالمسألة تعود إذن بكل بساطة إلى الامتناع عن تناول أكثر مما تستطيع المعدة أن تهضم من طعام، وإلى الامتناع عن الاقتران بعدد من الزوجات أو الأزواج أكبر مما تتطلب العائلة، يعني عدم الاقتران بأكثر من واحدة أو واحد. وكانت ناتاشا تحتاج إلى زوج، وقد أعطي هذا الزوج لها، ولقد منحها هذا الزوج عائلة، وهي لم تكن عمية عن ضرورة الحصول على زوج أفضل فحسب، بل لما كانت سائر قوى نفسها لا تسعى سوى لتكريس ذاتها لخدمة زوجها وعائلتها، فهي ما كانت تستطيع أن تتصور وما كانت ترى أية أهمية في تصور ما كان يحدث لو كانت الأمور تختلف عنها الآن.
وما كانت ناتاشا على العموم تحب الناس، فهي لذلك تفضل مجتمع أهليها: الكونتيس ماري، وأخيها، وأمها، وسونيا. كانت تحب مجتمع الكائنات اللائي تستطيع أن تأتي إليهن في ثياب النوم شعثاء الشعر، قادمة من غرفة الأولاد تطلعهن بمحيا سعيد على أحد قمط الرضيع الملوث بالصفرة بدلا من الخضرة، كي تسمع كلمات مطمئنة تقال لها في موضوع الرضيع الذي صارت حالته الصحية باعثة على الارتياح.
وكانت ناتاشا تهمل هندامها بحيث إن أثوابها وزينتها وكلماتها التي تتفوه بها بغير مناسبة، وغيرتها - كانت تغار من سونيا، ومن المربية، ومن كل امرأة جميلة أو قبيحة - الموضوع العادي لعبث سائر أقربائها. وكان الرأي المنتشر أن بيير واقع تحت خف زوجه، ولقد كانت تلك هي الحقيقة فمنذ الأيام الأول لزواجهما أعلنت ناتاشا له عن طلباتها. ولقد دهش بيير كثيرا من وجهات النظر الجديدة بالنسبة إليه التي تبشر بها زوجته حتى تزعم بأن كل دقيقة من حياته ملك لها وللعائلة، لقد دهش بيير كثيرا من متطلبات زوجه لكنه سر بها ورضخ لها.
كان خضوع بيير على درجة عظيمة من الكمال، بحيث لم يكن يجسر لا على مغازلة امرأة أخرى فحسب، بل حتى على محادثتها وهو يبتسم، كما أنه لم يكن يجسر على الذهاب إلى النوادي لتناول طعام العشاء أو «هكذا» كي يجري الوقت، أو أن يصرف المال على أهوائه، أو على القيام بسفرة طويلة سوى من أجل أعماله، التي تدخل زوجته في عدادها أعمالها في علوم تعلق عليها أهمية قصوى دون أن تفهم شيئا منها.
وبالمقابل فقد كان بيير يملك كل الحق في التصرف كما يشاء لا بذاته فحسب بل بكل عائلته، وكانت ناتاشا جعلت من نفسها عبدة لزوجها حين تكون وحيدة معه، فسائر سكان الدار يسيرون على رءوس أصابعهم حين يعمل بيير، يعني حين يقرأ أو يكتب في مكتبه، وكان يكفي أن يظهر رغبة ما كي تتحقق أمنيته في الحال، كان يكفيه أن يعبر عن رجاء حتى تنطلق ناتاشا على الفور وتنجز رجاءه.
كان البيت بأسره يسير حسب أوامر الزوج المزعومة، يعني برغبات بيير التي تجهد ناتاشا في سبيل تخمينها. كان أسلوب الحياة، ومكان الإقامة، والعلاقات مع الناس، وروابط الصداقة، ومشاغل ناتاشا، وتثقيف الأولاد؛ كانت هذه الأشياء جميعا مقررة حسب إرادة بيير كما أعلن عنها. والأكثر من ذلك أن ناتاشا كانت تجهد لتخمن ما يمكن أن ينبثق من الأفكار التي يصوغها بيير خلال أحاديثه، ولقد كانت تصيب دائما في تخمين هذه الأفكار والرغبات، بحيث إذا ما خمنتها مرة تعلقت بحزم بما قد اختارته، وحين كان بيير نفسه يحاول أن يذهب ضد رغبته الخاصة فقد كانت تقاومه بنفس أسلحته.
وهكذا فقد اضطرت ناتاشا في ظروف صعبة سيحتفظ بيير بذكراها على الدوام، إثر ولادة طفل بكر هزيل، أن تغير المرضعة ثلاث مرات حتى قد أمضها اليأس، وعندئذ أوضح لها بيير نظريات روسو التي كان يؤمن بها كل الإيمان عن استخدام المرضعات المخالف للطبيعة ومضارهن وهي. ولد الطفل الآخر، صمدت ناتاشا رغم معارضة أمها والأطباء وزوجها نفسه، وقد هبوا جميعا يقاومون إرادتها في إرضاعه، الأمر الذي كان يعتبر وقتئذ شيئا لا مثيل له بل ضارا، ومنذ ذلك الحين وهي ترضع سائر أبنائها.
وكثيرا ما كان يحدث في لحظات الغضب أن يتخاصم الزوجان، بيد أن بيير يكتشف بعد الخصام بوقت طويل - وكان ذلك يبعث فيه فرحا عظيما ودهشة كبيرة لا في كلمات زوجه بل في أفعالها أيضا - فكرته الخاصة التي كانت تقاومها، ولم يكن يجد هذه الفكرة فحسب بل كان يجدها أيضا وقد عريت عن كل المبالغة التي وضعها فيها في حميا النقاش والجدال.
وبعد سبع سنوات من الزواج، اكتسب بيير - وهو فرح - اليقين الحازم أنه لم يكن زوجا شريرا، وكان يحس ذلك بصورة خاصة لأنه كان يراه منعكسا في زوجه، كان يشعر أن الصالح والرديء في باطنه يشكلان مزيجا، ويقللان من حدة بعضهما بعضا. بيد أن ما ينعكس في زوجه كان الشيء الصالح حقا منه، أما كل ما لم يكن صالحا تماما فقد كانت تبعده، ولم يكن هذا الانعكاس ينشأ عن فترة منطقية، بل عن انعكاس آخر مباشر وخفي.
الفصل الحادي عشر
عتاب ناتاشا
قبل شهرين، وكان بيير قد استقر عند آل روستوف، تلقى رسالة من الأمير فيدور تدعوه إلى بيترسبورج لمناقشة مسائل هامة مع أعضاء الجمعية، التي كان بيير أحد مؤسسيها الرئيسيين.
وبعد أن قرأت ناتاشا هذه الرسالة (وكانت تقرأ رسائل زوجها)، نصحت له من تلقاء نفسها بالذهاب إلى بيترسبورج رغم كل ما يسببه لها غيابه من ألم. كانت تسبغ على سائر القضايا الفكرية والمجردة التي يعنى بها زوجها أهمية عظمى من دون أن تفهم شيئا منها، وكانت تخشى دائما أن تكون عائقا في سبيل هذا النوع من النشاط الذي يقوم به، وأجابت على النظرة الخجول المتسائلة التي رماها زوجها بها بعد قراءتها رسالة بأن توسلت إليه أن يذهب لكن بشرط أن يحدد لها بدقة موعد عودته، ومنحته فرصة مدتها شهر واحد.
ومنذ انتهى موعد هذه الفرصة، يعني منذ خمسة عشر يوما، وناتاشا قلقة دون انقطاع، حزينة مكتئبة.
وكان دينيسوف، هذا الجنرال المتقاعد الممتعض من حالته هذه وقد وصل الدار في هذين الأسبوعين الأخيرين، ينظر إلى ناتاشا بشيء متساو من الدهشة والحزن كما ينظر المرء إلى صورة كائن عزيز عليه لكنها قليلة الشبه به، وكان كل ما يراه أو يسمعه من فتنة الماضي نظرة ملأى بالضجر، وأجوبة مقتضبة، وأحاديث لا تخرج عن موضوع الأطفال مطلقا.
وكان الاكتئاب والامتعاض ينتاب ناتاشا بصورة خاصة أثناء هذه الفترة، حتى تجرب أمها أو أخوها أو سونيا أو الكونتيس ماري أن يجدوا أعذارا تبرر تأخر بيير، وهدفهم في ذلك تعزيتها وتشجيعها.
كانت ناتاشا تقول وهي تتحدث عن ذات هذه المشاغل التي كانت تؤمن بحزم بأهميتها العظمى: ما تلك سوى حماقات وسخافات، سائر مشاغل بيير هذه التي لا تؤدي إلى شيء، وسائر هذه الجمعيات البلهاء أيضا.
وتغدو إلى غرفة الأطفال تعطي ثديها للصغير بيتيا ابنها الوحيد، ولم يكن في مكنة أي إنسان أن يقول لها أشياء معزية عاقلة قدر هذا الكائن الصغير البالغ ثلاثة أشهر من العمر، بينا هو يرتاح على صدرها فتحس حركة شفتيه والأنفاس المترددة من أنفه الصغير، كان يقول لها: «أنت تغضبين، أنت تغارين، أنت تريدين الانتقام منه، أنت خائفة. أما أنا فإني ها هنا، وأنا هو، فماذا يلزمك أكثر من ذلك؟» وما كانت تعرف بم تجيب، فذلك أكثر من الحقيقة.
وخلال هذين الأسبوعين من القلق ما أكثر ما لجأت ناتاشا إلى الصغير كي تطمئن نفسها! ولقد عنيت به كثيرا حتى قد أفرطت في تغذيته فوقع مريضا وأصابها الهلع لمرضه، ومع ذلك فقد كان ذلك بالضبط ما تحتاج إليه، فالعناية التي تقفها عليه تخلصها من قلقها على زوجها.
وكانت ترضع الصغير عندما دقت أصداء عربة بيير لدى وقوفها عند عتبة البوابة، فجاءت المربية العجوز وهي تعرف كم ستسعد سيدتها الآن إلى الباب في الحال، دون أن تثير أي ضوضاء، وأطلت منه بمحياها المشعشع.
وسألت ناتاشا في همس سريع وهي تخاف أن تأتي حركة توقظ الرضيع المتلفلف في غلائل النوم: أهذا هو؟
فأجابت المربية العجوز بصوت خفيف: أجل يا عزيزتي، هذا هو.
فوثب الدم إلى محيا ناتاشا وأتت قدماها بحركة غير إرادية، بيد أن تلك اللحظة لم تكن أوان القفز والركض، وفتح الطفل عينيه من جديد وتطلع إليها فكأنه يقول: «أنت هنا!» ثم عاد يرضع الثدي في كسل.
وسحبت ناتاشا الثدي من فمه بلطف، وأسلمته إلى المربية العجوز وهي تهدهده، ثم توجهت بخطى سراع نحو الباب بيد أنها توقفت عند الباب، فكان ضميرها يؤنبها لما ألم بها من فرح عجول قليلا إذ تركته، ثم رجعت إليه وكانت المربية العجوز مرفوعة المرفق تمرر الرضيع من فوق حافة مهده.
همست مبتسمة وصوتها ينم عن تلك الألفة القائمة بينها وبين سيدتها: اذهبي، اذهبي يا عزيزتي، كوني مطمئنة، اذهبي!
فانطلقت ناتاشا سريعة الخطى نحو الغرفة الأخرى.
وشاهد دينيسوف من جديد للمرة الأولى ناتاشا القديمة، وهو يمر في تلك اللحظة من المكتب إلى قاعة الاستقبال الكبيرة وغليونه في فمه، كان نور مغتبط مشعشع متألق يغمر بأمواج متدفقة محياها المتجلي.
صاحت به وهي تركض: هذا هو!
فأحس دينيسوف أنه سعيد بعودة بيير رغم أنه لا يضمر له كثيرا من الحب.
وإما بلغت ناتاشا الدهليز شاهدت شخصا طويل القامة يرتدي معطف الشتاء، منهمكا في رفع الحزام الذي يغطي أنفه، وكانت تردد في نفسها: «هذا هو! هذا هو حقا! إنه هنا!» ثم اندفعت وعانقته، والتصقت به بشدة مسندة رأسها إلى صدره، ثم ابتعدت عنه لتنظر إلى محياه الأحمر السعيد المغطى بالجليد: «أجل، هذا هو! إنه سعيد، مسرور ...»
ولكنها تذكرت بغتة سائر عذابات انتظارها خلال هذين الأسبوعين المديدين فتلاشى الفرح الذي كان ينير محياها، فعقدت ما بين حاجبيها وصبت على زوجها سيلا من العتابات والكلمات المريرة: أجل، أنت مسرور، أنت مسرورا جدا، وقد تسليت جيدا ... وأنا أثناء ذلك؟ ... لو كنت تشفق على الأطفال فقط، إني أرضع وقد فسد حليبي وقد كاد الصغير يلاقي حتفه. أما أنت فتتسلى، أجل تتسلى ...
كان بيير يعرف أنه غير مذنب ما دام لم يستطع مجيئا بصورة أقل، وكان يعرف أن انفجار الغضب هذا من قبل ناتاشا في غير محله وأنه سيخمد في دقيقتين على أية حال، وكان يعرف على الأخص أنه هو سعيد مبتهج، وكان يود أن يبتسم لكنه لم يجرؤ على التفكير في ذلك، وساد الهلع ملامحه وانحنى ظهره، وقال: لم أستطع! أقسم لك، لكن بيتيا كيف حاله؟ - الآن هو في حالة حسنة، هيا، تعال! كيف لا تخجل من نفسك؟ لو عرفت إلام صرت أثناء غيابك والعذاب الذي عانيت ... - أنت لست مريضة؟
فأجابت دون أن تفلت يده: تعال، تعال.
وانتقلا إلى جناحهما.
وعندما جاء نيكولا وزوجته يفتشان عن بيير، وجداه في غرفة الأطفال يحمل على راحة يده اليمنى العريضة رضيعه الذي استيقظ فكان آخذا في تدليله، وكان وجه الصغير العريض بفمه الخالي من الأسنان والمفتوح كل سعته يحمل ابتسامة هانئة مرحة، وكانت العاصفة قد مرت منذ زمن طويل، وشمس مرحة تضيء الآونة محيا ناتاشا، بينا هي تنظر بحنان إلى زوجها وابنها معا.
استفهمت: وهل ناقشت الأمير جيدا في سائر القضايا؟ - أجل جيدا. - أترى كيف يمسك به؟ (كانت ناتاشا تعني رأسه) لكنه لشد ما أخافني! والأميرة هل رأيتها؟ أصحيح أنها عاشقة ذلك ... - أجل، تصوري ...
وفي هذه اللحظة دخل نيكولا والكونتيس ماري، فانحنى بيير يقبلهما دون أن يترك ابنه وراح يجيب عن أسئلتهما، لكنه كان من الواضح أن الرضيع الصغير بطاقيته ورأسه المتأرجح أخذ كل انتباه بيير رغم كل ما في الحديث الذي يتبادلونه من أهمية.
قالت الكونتيس ماري وهي تنظر إلى الطفل وتلاعبه: ما ألطفه!
واسترسلت تقول وهي تلتفت نحو زوجها: هذا ما لا أستطيع أن أفهمه يا نيكولا، لماذا لا تحس فتنة هذه الكائنات الصغيرة الرائعة؟
فأجاب نيكولا وهو يرمي الرضيع بنظرة باردة: لا أفهم شيئا في ذلك ولا أستطيع، إنه قطعة من اللحم لا أكثر. هل تأتي يا بيير؟
فأضافت الأميرة ماري مبررة زوجها: ومع ذلك فليس أب أشد حنانا منه، لكنه ينبغي أن يكون لهم سنة واحدة من العمر على الأقل، وإما ...
فقالت ناتاشا: أما بيير فهو يعرف جيدا كيف يكون مربية أطفال، وهو يدعي أن يده صنفت على قالب تفاهم، انظري بالأحرى ...
وصاح بيير بغتة وهو يضحك: أجل، لكن ليس من أجل ذلك وحده ...
ثم أخذ الصغير وأعاده إلى المربية العجوز.
الفصل الثاني عشر
الكونتيس العجوز
كانت عوالم عديدة مختلفة تحيا في ليسياجوري ، كما هي الحال في كل عائلة حقيقية كان كل فرد يحتفظ بعاداته الخاصة ويتسامح مع ذلك في علاقاته بالآخرين، بحيث كان الكل يذوبون في مجموع متناسق، فإذا ما نزل حادث بساحة البيت فهو فرح أو حزن بالنسبة إلى سائر هذه العوالم على حد سواء. وعلى أية حال فقد كان لكل من هذه العوالم بصورة مستقلة عن العوالم الأخرى أسبابه المخصوصة تماما التي تجعله يغتبط أو يتألم لهذا أو ذاك من الأحداث.
وهكذا فإن عودة بيير، هذا الحادث المفرح الهام، قد اعتبره الجميع هكذا دون استثناء.
وكان الخدم، وهم أفضل حكام على أسيادهم لأنهم يدينونهم لا تبعا لأحاديثهم وتعابيرهم عن عواطفهم، بل تبعا لأفعالهم وأسلوبهم في الحياة؛ سعداء بمقدم بيير لأنهم كانوا يعرفون أن الكونت سيكف بعد الآن عن الخروج يوميا لتفقد ملكيته، وأنه سيكون أكثر مرحا ولطفا، وفيما عدا ذلك فإن كلا منهم سيتلقى هدية ثمينة بمناسبة العيد.
وكان الأولاد والمربيات مغتبطين بمقدم بيير، فهو نسيج وحده في قدرته على إشراكهم في الحياة العامة، كان هو الوحيد الذي يعرف كيف يعزف على البيان هذه القطعة الأسكتلندية (المعزوفة الوحيدة التي يعرفها)، التي يزعم أنها يمكن أن ترافق سائر الرقصات التي يمكن أن يتصورها الخيال - دون حساب للهدايا التي يحملها بكل تأكيد للجميع دونما تفريق.
وكان نيكولا الصغير، وله من العمر الآن خمسة عشر عاما، وهو فتى ذكي، ناحل، ممروض، كستنائي الشعر المجعد، كثير جمال العينين؛ مغتبطا لأن العم بيير، كما كان يناديه، هو عنده موضوع إعجاب وحب جموحين. ولم يجرب أي إنسان أن يوحي إليه بحب مخصوص لبيير، الذي ما كان يراه إلا في النادر من الأحايين . وكانت الكونتيس ماري، التي أخذت أمر تربيته على عاتقها، قد جهدت بكل ما أوتيت من قوى كي تحمل نيكولا الصغير على حب زوجها بقدر ما كانت تحبه هي نفسها. وكان الصغير يحب عمه في الحقيقة، لكن بشيء غير محسوس من الازدراء، بينا هو يعبد بيير عبادة حقيقية. وما كانت به رغبة في الصيرورة فارسا ، أو الحصول على صليب القديس جورج مثل عمه نيكولا، كان يريد أن يكون عالما، ذكيا، طيبا مثل بيير. وكان محياه يتألق سعادة على الدوام في حضرة بيير، لكنه يحمر خجلا ويضيق نفسه عندما يخاطبه عمه. وما كان ينطق كلمة واحدة تسقط من شفتي بيير، ومن ثم يتذكر ذلك وحده أو مع ديسال، ويحاول أن يخمن معنى كل ما سمعت أذناه. وكانت حياة بيير الماضية، وأحزانه حتى عام 1812 (كان قد شكل عنها صورة غامضة شعرية بناء على الأحاديث التي سمعها)، ومغامراته في موسكو، ووقوعه في الإسار، وأفلاطون كاراتاييف (الذي حدثه بيير عنه)، وحبه لناتاشا (التي كان الصبي يحبها أيضا بعاطفة خاصة)، وبصورة خاصة صداقته لأبيه الذي ما كان يستطيع أن يتذكره؛ هذا كله كان يجعل من بيير في عينيه بطلا وقديسا.
لقد استنتج الفتى من بعض نقط الحديث الذي تساقط إليه عن أبيه وناتاشا، ومن العاطفة التي تتردد في صوت بيير حين يتحدث عن المرحوم، ومن الحنان المتحفظ والحار الذي تتحدث به ناتاشا أيضا عنه؛ استنتج وقد بدأ يستيقظ على عاطفة الحب أن أباه قد أحب ناتاشا وسلمها لصديقه عند موته، وكان هذا الأب الذي لا يتذكره يشكل في نظره ألوهية لا يمكن أن تسبغ عليها صورة معينة، وما كان يفكر فيه إلا وينقبض قلبه وتترقرق دموع الحزن والحمية في عينيه. وهكذا فقد كان نيكولا الصغير سعيدا إذن لعودة بيير.
وكان المدعوون سعداء أيضا، كان بيير بفضل بشاشته وجذله يمكن من أواصر أعضاء الجمعية بأسرها.
وكان سائر الكبار في الدار بالإضافة إلى زوجته مغتبطين، إذ التقوا مجددا بالصديق الذي تصير الحياة إلى جانبه أخف وطأة وأكثر هدوءا .
وكانت النساء العجائز مسرورات بالهدايا التي يحملها، وبصورة خاصة بكون ناتاشا ستستعيد مرحها وتذوقها للحياة.
وكان بيير وهو يشعر أساليب النظر المختلفة التي ترى إليه بها هذه العوالم المتعددة، يمنح كلا منها ما كان يتوقع منه.
كان بيير، هذا الرجل الأكثر سهوا ونسيانا بين البشر، قد ابتاع كل ما تشير إليه لائحة وضعتها زوجته ، من دون أن ينسى شيئا من توصيات حماته وصهره، ولا قطعة القماش من أجل ثوب بيلوفا العجوز، ولا الدمى من أجل أبناء أخيه. ولقد وجد من الغرابة في الأيام الأولى من زواجه أن تطلب زوجه منه ألا ينسى شيئا مما يجب أن يشتري، والأغرب من ذلك أيضا أنها غضبت بصورة جدية حين نسي كل شيء في رحلته الأولى بعد الزواج، لكنه اعتاد هذا الأمر في ما بعد. وإما أدرك أن ناتاشا لا تطلب لنفسها ولا توصيه على شيء من أجل الآخرين إلا عندما يتطوع لذلك من تلقاء نفسه؛ فقد صار يجد الآونة لذة غير منتظرة، لذة صبيانية بأن يتبضع الهدايا لسائر أهل الدار، وما كان ينسى واحدا منهم قط، وإذا استحق أي لوم ناتاشا بعد الآن، فذلك لابتياعه أشياء كثيرة وبثمن غال جدا أيضا. لقد كانت ناتاشا إلى جانب ما يسميه الناس عيوبها (إهمالها لهندامها وزينتها)، وهي أمور كان يراها بيير صفات حميدة؛ تجمع البخل أيضا.
ومنذ أخذ بيير يحيا في سعة مع عائلة تتطلب مصاريف باهظة، وحبه والدهشة مستولية عليه أنه يعرف أقل من قبل بمرتين، وأن أعماله التي ساءت في الماضي خاصة بفضل ديون زوجته الأولى قد بدأت تتحسن الآن.
كان يعيش بمصاريف أقل لأنه أصبح مرتبطا بعلاقات عائلية، فقد تنازل عن الزينة الأشد كلفة، ألا وهي ذلك الأسلوب في الحياة الذي يبدله المرء في كل لحظة، وما عاد يرغب فيه بعد الآن. كان يشعر أن مجرى حياته قد ثبت من اليوم فصاعدا بصورة نهائية حتى وفاته، وأنه ما عاد في طاقته أن يغيره، وبالتالي فإن مجرى هذه الحياة قد قلت تكاليفه.
كان بيير ينشر مشترياته باسم الوجه مرح السيماء، قال وهو يغرد مثل بائع قطعة من قماش: إيه! أهي جميلة؟!
ونقلت ناتاشا، وهي تضع ابنتها البكر على ركبتها، نظراتها المتألقة من زوجها إلى ما يريها إياه بين يديه، وقالت: أهو من أجل السيدة بيلوف؟ رائع!
ولمست النسيج بيدها، واسترسلت تقول: هذا يساوي روبلا على الأقل للمتر الواحد .
فأعلن بيير لها عن سعره فهتفت: إنه غالي الثمن! لكن لشد ما سيكون الصغار مسرورين وأمي أيضا!
وأضافت دون أن تتمكن من كبح ابتسامة علت شفتيها، وهي تعجب بمشط ذهبي مزين باللآلئ قد انتشر زيه في تلك الأحيان: لكنك أخطأت إذ ابتعت لي هذا الشيء! - إن السيدة أديل قد أجبرتني على شرائه: اشتر، هيا اشتر. هذا ما ألحت به علي. - ولكن متى أحمله؟
وزرعته ناتاشا في ضفائرها: سأحمله يوم آخذ ماشا إلى ما بين الناس، لعل موضته تعود فتنتشر وقتئذ. هيا، فلنذهب.
وبعدما جمعا الهدايا مرا أولا بغرفة الأطفال، ثم توجها إلى غرفة الكونتيس العجوز.
وكانت هذه الكونتيس تجلس كعادتها مع السيدة بيولوف يلعبان الورق عندما دخل بيير وناتاشا إلى الصالة ورزمهما تحت إبطهما.
كانت الكونتيس العجوز قد تجاوزت الستين، وكان شعرها أبيض تماما، وهي تلبس طاقية من الصوف تؤطر كل محياها، وكان وجهها يغص بالغضون، وقد انقلبت شفتها العليا إلى الداخل قليلا، بينا أظلمت عيناها وتلاشى لونهما.
كانت تحس أنها منسية بصورة غريبة في العالم، لا تتذوق العيش ولا تجد له مبررا، وذلك منذ وفاة ابنها وزوجها في فاصل قصير من الزمن. كانت تأكل وتشرب وتنام وتقعد بين الناس، لكن لا تحيا البتة، كانت الحياة تتركها لا مبالية تماما، فهي لا تنتظر منها بعد الآن سوى الراحة، وهذه الراحة لا تمكن أن تجدها سوى في الموت، ولكن ما دام الموت لم يأت بعد فلا بد من الاستمرار في الحياة، يعني لا بد من استخدام الإنسان لقواه الحية. كان المرء يلاحظ عندها ما يلاحظ عادة عند الأطفال الصغار والأشخاص الذين تقدمت السن بهم كثيرا وقد بلغ حده الأقصى، فليس في حياتها أي هدف خارجي، ولم يبق منها في ما يبدو سوى الحاجة إلى تحريك ميولها وقابلياتها المختلفة. كانت في حاجة إلى الأكل، والنوم، والتفكير، والحديث، والبكاء، والاشتغال بأمر ما، والغضب ... إلخ، وذلك بمقادير قليلة، فقط لأنها تملك معدة، ودماغا، وعضلات، وأعصابا، وكبدا. وكانت تنجز ذلك كله دون أن يحثها عليه أي دافع خارجي. وليس مثل الأشخاص المتقدمين في السن من لا يرى خلف الهدف الذي يسعى إليه الهدف الآخر، الذي هو بكل بساطة استخدام طاقتهم. كانت تتحدث بمجرد أنها تحتاج حكميا أن تقوم بقليل من العمل كي تشغل رئتيها ولسانها. وكانت تبكي مثل طفل صغير لأنها في حاجة إلى التمخط، وهكذا دواليك. إن كل ما هو غاية عند الكائنات المكتملة القوة لم يكن عندها سوى ذريعة.
وهكذا في الصباح، خاصة إذا كانت تناولت طعاما دسما في العشية، كانت تشعر بالحاجة إلى الغضب فتختار لذلك أول ذريعة تقع عليه، ألا وهي صمم السيدة بيولوف.
وتبدأ تقول لها أي شيء كان اليوم حين استيقظ من طرف الحجرة الآخر، فتهمس مثلا: اليوم أظن أن الطقس شديد الحرارة يا عزيزتي.
وعنده تجيب السيدة بيولوف: «ولكن أجل، إنهم ها هنا.» فهي تهمهم في غضب إذن: «يا إلهي! لشد ما هي حمقاء وسخيفة!»
وكانت الذريعة الثانية لغضبها هي الطباق الذي تتنشقه، والذي تجده تارة كثير الجفاف، وتارة كثير الرطوبة، وتارة خشنا قليل النعومة. وبعد هذه الفترات من الغضب، كانت الصفراء تتدفق إلى محياها. وهكذا كانت الوصيفات يعرفن بدلائل يقينية متى ستعيد بيولوف صماء من جديد، ومتى سيصير الطباق كثير الرطوبة من جديد، ومتى سيصفر لون سيدتهن مجددا. وكما أنها كانت تحتاج في الأحايين إلى تشغيل صفرائها، كذلك لم يكن لها بد من استخدام الإمكانيات الباقية لها ومن التفكير، بحيث إن الألعاب الطويلة بالورق تصلح ذريعة لها في سبيل ذلك. وإما تحتاج إلى البكاء فهي تفكر في الكونت المرحوم، وإما تحتاج إلى القلق فهي تعنى بنيكولا وصحته. وإن كانت تحتاج إلى قول أشياء خبيثة، فالكونتيس ماري هدف هجومها إذن. وإن كانت تحتاج إلى تمرين أعضائها الصوتية، الأمر الذي يحدث في غالب الأحيان حوالي الساعة السابعة بعدما تأخذ قسطها من الراحة والنوم في النور المعتم لغرفتها؛ فذريعتها هي إذن تكرار نفس القصص لنفس المستمعين.
وكان سائر المستمعين في الدار يدركون حالة السيدة العجوز، رغم أن أيا منهم لم يتحدث عنها، وكانوا جميعا يبذلون جهدهم لإرضائها. وكانت النظرات الخاطفة ونصف الابتسامات المكتئبة التي يتبادلها نيكولا وبيير وناتاشا والكونتيس ماري، تشهد وحدها أن الجميع يفهمون هذه الحال التي صارت إليها.
بيد أن هذه النظرات فيما عدا ذلك كانت تقول أشياء أخرى، كانت تقول إن الكونتيس العجوز قد أنهت مهمتها في هذا العام، وإنها لم تكن على الدوام كما هي الآن، وإننا جميعا سنصير مثلها يوما ما، وإنه ينبغي أن نكون سعيدين بالنزول عند رغباتها وأهوائها، وأن نتمالك أنفسنا من أجل هذا الكائن الذي كان عزيزا جدا في الماضي، والذي كان يطفح حياة من أجلنا في غابر الأيام، والذي صار اليوم باعثا على الشفقة حتى درجة بعيدة. كانت سائر هذه النظرات تقول:
ولم يكن في الدار سوى الأشخاص الأغبياء تماما أو الخبثاء، والأطفال الصغار لا يفهمون ذلك فيتجنبون لهذا السبب الكونتيس العجوز ويبتعدون عنها.
الفصل الثالث عشر
حول السماور
عندما دخل بيير وزوجه إلى الصالة، كانت الكونتيس في تلك الحال العادية، حيث تمس الحاجة إلى ممارسة ذكائها بالقيام بتمرين من الصبر الطويل. وهكذا كان من الواضح، بالرغم من تفوهها بالكلمات التي تكررها كلما عاد بيير أو ابنها من السفر: حسنا، «لقد حان وقت العودة يا عزيزي، لقد انتظرناك كفاية، وهذا أنت أخيرا، شكرا لله!» وكلما تلقت هدية ما: «ليست الهدية التي تسرني يا صديقي الصغير، شكرا لأنك فكرت أن تأتي بشيء ما لعجوز مثلي»؛ كان من الواضح أن بيير يزعجها في تلك اللحظة، إذ يعكر صفو لعبتها التي لم تكن تسير في طريق النجاح، وأنهت اللعبة. وعندئذ فقط التفتت صوب الهدايا التي كانت تتألف من علبة لورق اللعب ذي صنع جميل للغاية، ومن قدح فني أزرق اللون له غطاء لطيف قد رسمت عليه جماعة من الرعيان، ومن علبة طباق ذهبية يزينها رسم الكونت قد أوصى بيير عليها عند عميل في بيترسبورج (وهي ما كانت الكونتيس تتوق إليه منذ زمن طويل). ولم تكن بها رغبة في البكاء في تلك اللحظة، ولذا فقد نظرت إلى الصورة بلا مبالاة كي لا تهتم سوى بالعلبة وحدها.
قالت مكررة جملها المعتادة: شكرا يا صديقي، لقد منحتني سرورا عظيما، لكن الأمر الأفضل هو وجودك ها هنا بلحمك وعظمك، وإلا فلا معنى لذلك كله. ينبغي أن توبخ زوجته على الأقل، فهي عديمة الحس السليم! إنها أشبه بالمجنونة حين تكون غائبا، فهي لا ترى شيئا ولا تتذكر شيئا.
واسترسلت تقول: آنا تيمو فييئيفنا، انظري العلبة التي جاءنا ابننا بها.
فأعجبت السيدة بيولوف بالهدايا، وأشرقت فرحا حين رأت قطعة النسيج الخاصة بها.
كان ثمة أشياء كثيرة يريد بيير وناتاشا ونيكولا والكونتيس ماري ودينيسوف أن يتبادلوا الحديث في موضوعها، ولا يستطيعون ذلك أمام الكونتيس العجوز، ليس لأنهم يخفون هذه الأشياء عنها بل لأنها ما كانت تعرف إلا الشيء القليل مما يجري حولها، بحيث إذا فتح حديث في حضورها فهي تروح تطرح الأسئلة ذات اليمين وذات اليسار، وتطلب أن يعاد على مسامعها من جديد ما سبق، فقيل لها مائة مرة: إن فلانا مات، وإن فلانا تزوج، وهي أمور ما كانت تنجح في تذكرها، وتجمع أهل الدار أثناء ذلك كما هي العادة في الصالون حول السماور، حيث اضطر بيير أن يجيب عن عدد كبير من أسئلة الكونتيس العجوز العديمة النفع، فيقول لها وإن الأمير فاسيلي قد شاخ، وإن الكونتيس ماري ألكسيفنا ما برحت تذكرها وهي ترجوها ألا تنساها، وهكذا دواليك.
واستمر هذا الحديث الذي لا يثير اهتمام أحد، لكن الضروري رغم ذلك، طوال فترة تناول الشاي. وكانت سونيا تجلس بجانب السماور، وقد اجتمع سائر أشخاص العائلة الكبار حول المائدة المستديرة، بينا الأطفال والمربيات والمربون قد تناولوا نصيبهم من الشاي من قبل، وأصواتهم تدف الآونة من المخدع المجاور حيث تجمعوا. وكان كل يحتل مكانه المعتاد، فنيكولا يجلس بجانب المدفأة أمام مائدة صغيرة يقدم له الشاي عليها. وكانت ميلكا العجوز، الكلبة العداءة، ابنة ميلكا الأولى، وهي ذات رأس أبيض تماما تبرز فيه عينان سوداوان كبيرتان؛ ترتاح على مقعد إلى جانبه. وكان دينيسوف، بشعره المصفف وشاربيه وسالفيه اللذين وخطهما المشيب وبزة الجنرال المفكوكة الأزرار التي يرتديها؛ يجلس بجانب الكونتيس ماري. أما بيير فكان موقعه بين زوجته والكونتيس العجوز، وكان يروي حديثا يعرف أنه يهم السيدة العجوز ويمكن أن يفهم منها، فهو يتحدث عن الحوادث السياسية وعن الأشخاص الذين كانوا يشكلون في الماضي حلقة الكونتيس - حلقة تعج بالحياة والنشاط في أيامها - لكن أعضاءها قد تبعثر اليوم معظمهم في مختلف أرجاء العالم، وهم يكملون بقية أيام عمرهم مثلهم مثلها يلتقطون الثمرات الأخيرة لما زرعوه في ماضي أيامهم. وعلى أية حال فإن معاصري الكونتيس هؤلاء يشكلون بالنسبة إليها العالم الحقيقي الجدي الوحيد.
وكانت ناتاشا تدرك في حيوية بيير أن الرحلة قد أثارت اهتمامه كثيرا، وأن في جعبته أشياء كثيرة يرويها، لكنه لا يجرؤ على المباشرة بذلك في حضرة الكونتيس العجوز. ولم يكن دينيسوف وهو ليس عضوا في العائلة بقادر على فهم تحفظ بيير، فهو رغم امتعاضه يعنى كثيرا بالحوادث الجارية في بيترسبورج، ولا يني يستحث بيير كي يقدم التفاصيل عن القضية الجديدة الخاصة بفرقة سيميونوفسكي، وأراكتشييف، وجمعية الكتاب المقدس. وكان بيير ينحرف أحيانا فيروي قصة ما، لكن ناتاشا ونيكولا يسرعان فيردانه في الحال إلى الحديث عن صحة الأمير إيفان والكونتيس ماري أنتونوفنا.
وسأل دينيسوف: هيا، إنما هذا جنون، وغوستر ذاك وتاتارينوفا،
1
أيمكن أن يستمر هذا الأمر؟
فهتف بيير: أجل، هذا يستمر وأكثر من أي وقت مضى: إن جمعية الكتاب المقدس
2
هي كل الحكومة الآن.
فسألت الكونتيس العجوز التي أنهت قدحها فهي تبحث الآن عن حجة تتذرع بها كي تغضب: عما تتحدث يا صديقي العزيز؟ ماذا قلت؟ الحكومة؟ أنا لا أفهم.
فتدخل نيكولا في الحديث قائلا وهو يعرف كيف يترجم الأشياء إلى لغة والدته: لكنك تعرفين جيدا يا أماه أن الأمير ألكسندر نيكولافيفتش، غوليتسين قد نظم جمعية وهو لذلك على قدر من القوة فيما يقولون.
فقال بيير: أراكتشييف وغوليتسين إنهما كل الحكومة اليوم، وأية حكومة! إنهما يريان المكائد في كل مكان، ويخافان من كل شيء.
فقالت الكونتيس العجوز ممتعضة: كيف ؟ كيف يمكن أن يكون الأمير ألكسندر ونيكولافيفتش مذنبا؟ إنه رجل كريم للغاية، وقد التقيت به عند ماري أنتونوفنا.
ولما شاهدت أن الجميع يلوذون بالصمت، فقد ازدادت حنقا وأضافت: في هذه الأيام يريد كل امرئ أن يدين سائر الناس جمعية إنجيلية، أين الشر في هذا؟
ونهضت صارمة الوجه فنهض الجميع أيضا، واتجهت إلى مخدعها لتعاود اتخاذ مكانها إلى مائدتها.
ودق في الغرفة المجاورة في ملء الصمت الأليم الذي ساد المكان ضحكات الأطفال وأصداء أصواتهم، مما لا ريب فيه أن شيئا يبعث على المرح بصورة خاصة قد اجتاح ذلك العالم الصغير.
كان صوت ناتاشا الصغيرة الحاد الفرح يهتف فوق بقية الأصوات: لقد تم، لقد تم.
فتبادل بيير نظرة مع الكونتيس ماري ونيكولا (أما ناتاشا فكان لا ينقطع البتة عن النظر إليها)، وافترت شفتاه عن ابتسامة سعيدة.
صاح: يا لها موسيقى رائعة!
فقالت الكونتيس ماري: إنها آنا ماكاروفنا قد أنهت الجوربين.
فهتف بيير وهو يقفز من مكانه: أوه! أنا ذاهب لأرى.
وتوقف عند الباب وقال: أتعرفين لماذا أحب هذه الموسيقى بصورة خاصة؟ ذلك أنهم أول من يخبرني أن الأمور جميعا تسير على ما يرام، اليوم وأنا قادم كان خوفي يتفاقم بقدر ما أقترب من البيت، وما كدت أدخل الدهليز حتى سمعت أندريوشا يضحك بأعلى صوته، فقلت في نفسي: كل شيء على ما يرام.
فوافق نيكولا على كلامه بقوله: إني أعرف، وأنا لا أجهل هذا الشعور، لكنه ينبغي ألا أذهب للاطلاع فهذان الجوربان مفاجأة يخبئونها لي.
ومر بيير إلى غرفة الأطفال حيث كانت الهتافات والضحكات تزداد رنينا، وسمع صوته ينادي: هيا آنا ماكاروفنا أنت والأطفال، هنا إلى وسط الغرفة تحت إمرتي، واحد، اثنان، وعندما أقول ثلاثة ... أنت، ابق هنا، وأنت بين ذراعي ... مفهوم؟ واحد، اثنان ...
وكان صمت قصير ... - ثلاثة!
وملأ الأطفال الغرفة بزمجرة ظافرة وهتفوا: اثنان، هناك اثنان!
كان ثمة جوربان تحيكهما آنا ماكاروفنا معا بسر لا يعرفه أحد سواها، فإذا اكتملا أخرجتهما الواحد من الآخر بمهابة واحتفال في حضور الأطفال جميعا.
الفصل الرابع عشر
في مكتب نيكولا
وما أسرع أن جاء الأطفال ليتمنوا لأهل البيت ليلة سعيدة، وبعدما قبلوا والديهم انحنى المربون والمربيات وذهبوا بعالمهم الصغير ولم يبق سوى ديسال مع تلميذه، ودعا المربي نيكولا الصغير إلى الخروج بصوت خفيض، فأجاب التلميذ بصوت خفيض أيضا: كلا، إنه السيد ديسال، سأطلب من عمتي السماح بالبقاء.
وقال مقتربا من الكونتيس ماري: عمتاه، اسمحي لي بالبقاء.
كان محياه يعبر عن الرجاء، والانفعال، والحماسة. وتطلعت الأميرة ماري إليه والتفتت صوب بيير وقالت له: عندما تكون هنا فهو لا يستطيع الذهاب.
فقال بيير وهو يمد يده إلى الأستاذ السويسري: سأجيئك به حالا يا سيد ديسال، عم مساء.
وتوجه مبتسما إلى نيكولا الصغير: يلوح لي أننا لم نلتق بعد نحن الاثنين؟
والتفت إلى الكونتيس ماري وأضاف: آه! لشد ما شرع يشبهه يا ماري!
فسأل الطفل وقد أصبح قرمزي اللون بغتة، وراح يتطلع إلى بيير من أسفل إلى أعلى بعينين تتألقان إشراقا: أبي؟
فأشار بيير برأسه ووصل ما انقطع من حديث مع الأطفال. وتابعت الكونتيس ماري عملها التطريزي، بينا عينا ناتاشا لا تغادران زوجها لحظة واحدة. وكان نيكولا ودينيسوف قد نهضا وتناول كل منهما غليونه، وراحا يطرحان الأسئلة على بيير وهما يدخنان ويتناولان الشاي من يد سونيا التي تقف بعناد ودلائل الحزن على سيماها قريبا من السماور. وكان الصبي المريض الملامح ذو الشعر المجعد والعينين البراقتين، قد انزلق في زاوية من الغرفة دون أن يلاحظه أحد، وأدار رأسه ذا العنق الناحل البارز من ياقة ضيقة نحو الجهة حيث يقف بيير وكان يرتعش من حين لآخر، واقعا كما يظهر تحت سلطان إحساس قوي جديد، ويهمس بشيء ما بينه وبين نفسه.
كان الحديث يدور في موضوع الإشاعات المنتشرة اليوم والصادرة من طبقات الحكومة العليا، والتي يجد معظم الناس أن كل أهمية السياسة الداخلية متمركزة فيها. وكان دينيسوف المستاء من الحكومة بسبب ما لحق به من فشل في حياته السياسية، يتلقى بفرح أنباء الحماقات التي ترتكب في رأيه في بيترسبورج في الوقت الراهن ، ويقدم ملاحظات مريرة حادة عن كل ما يقدم بيير من تقارير.
فيما مضى كان يجب أن يكون المرء ألمانيا، أما اليوم فيجب أن يرقص مع تاتارينوفا والسيدة دي كرودنر،
1
يجب أن يقرأ ... إيكهارتشوش وشركته
2
آه! لو كان يمكن أن نصف ها هنا شجاعة بونابرت: لقد كان يعرف إذن كيف يتدبر أمره كي يكنس سائر هذه الحماقات.
وأضاف بصوت مرتفع: أسألكم بربكم ما معنى أن تعطى فرقة سيميونوفسكي للجندي شوارتز؟
3
وكان نيكولا يعتبر، رغم عدم إحساسه بالحاجة إلى أن ينظر إلى الأشياء نظرة الشر مثل دينيسوفسكي، أنه من الواجب والمهم جدا أن يقول كلمته في الحكومة، كان يرى أن تعين فلان وزيرا لهذه الوزارة أو تلك وتعين فلان حاكما عاما لهذه المقاطعة أو تلك، وأن هذه الكلمة التي تفوه بها الإمبراطور، أو تلك الكلمة التي تفوه بها ذاك الوزير؛ هي شئون ذات أهمية عظمى، فهذا يسأل بيير عنها. وكانت أسئلة هذين المتحدثين لا تسمح للحديث أن يخرج من إخبار هذا النوع من الشائعات الثقات المعهودة في الطبقات العليا من الجهاز الإداري.
بيد أن ناتاشا، وهي التي تعرف سائر أحاسيس زوجها وأفكاره، خمنت أن بيير يود منذ زمن طويل دون أن يتمكن من ذلك أن ينتقل إلى موضوع آخر، فيتحدث عن المسائل الخصوصية التي حثته إلى القيام بهذه الرحلة إلى بيترسبورج كي يسأل الصفح من صديقه الجديد الأمير فيدور. وهكذا فقد أسرعت إلى معونته فسألته عن قضيته مع الأمير فيدور.
فسأل نيكولا: ما هي القضية؟
فقال بيير وهو يدور بنظره حواليه: الشيء نفسه دائما. إن الجميع يرون أن الأمور لا تسير باستقامة، وأن هذا لا يمكن أن يدوم . إن واجب كل امرئ شريف أن يفعل في حدود قواه.
فقال نيكولا وهو يعقد ما بين حاجبيه: وما يستطيع الناس الشرفاء أن يفعلوا؟ ماذا نستطيع أن نفعل حقا؟ - حسنا بالضبط ...
فقال نيكولا: فلننتقل إلى مكتبي.
وسمعت ناتاشا صوت المربية العجوز، وكانت تتوقع منذ فترة طويلة أن ينادوها لإرضاع صغيرها، فغدت إلى غرفة الأطفال ولحقت الأميرة ماري بها، بينما انتقل الرجال إلى مكتب نيكولا يتبعهم الصغير نيكولا بولكونسكي دون أن يلاحظه عمه، وذهب ينزوي في الظل قريبا من النافذة بجانب طاولة العمل.
وسأل دينيسوف: إذن ماذا تفعل أنت؟
وقال نيكولا: أوهام دائما.
وشرع بيير يقول دون أن يجلس وهو يذرع أرض الغرفة بخطاه تارة ويتوقف تارة أخرى يتابع الإشارات بيديه، بينما ينطلق الصوت من فمه صافرا: حسنا إليكم رأيي، إن الوضع في بيترسبورج هو كما يلي: إن الإمبراطور لا يتدخل في أي شيء على الإطلاق، بل يستسلم للصوفية تماما (كان بيير في تلك الفترة لا يغفر لأي إنسان كونه صوفيا)، هو لا يطلب سوى طمأنينته، وطمأنينته لا يمكن أن يوفرها له سوى هؤلاء الناس الذين لا إيمان لهم ولا ناموس، الذي يسطون على كل شيء ويخنقون كل شيء، أمثال ماغنيتسكي
4
وأراكتشييف ومن ألف لهم ...
وتوجه إلى نيكولا بقوله: أتوافق أنه إذا لم تشرف بنفسك على أمور أملاكك، بل كنت لا تسعى سوى وراء الطمأنينة، فإنك بالغ هدفك بسرعة أعظم بقدر ما يكون وكيلك أشد قسوة وعنفا؟
فأجاب نيكولا: ولكن بلى، لم سؤالك هذا؟ - إذن فكل شيء ينهار؛ في المحاكم تسود السرقة، وفي الجيش العصا ومشية العرض
5
والمستعمرات العسكرية.
6
إنهم يضطهدون الشعب، ويخنقون التعليم، ويدمرون كل ما هو شريف وفتي. ويدرك الجميع أن ذلك لا يمكن أن يستمر على هذا المنوال، فالحبل قد توتر حتى الدرجة القصوى ولا بد أن ينقطع.
لم يكن بيير يقول شيئا جديدا، بل ذلك هو رأي الناس دائما منذ كانت الحكومات، وكلما تفحص المرء أفعال أية حكومة كانت.
واسترسل يقول: قلت لهم شيئا واحدا في بيترسبورج.
فاستفهم دينيسوف: من هم؟
فقال بيير بنظرة ذات مغزى: أنتم تعرفون ذلك جيدا، الأمير فيدور وسائر الآخرين، أن نشر التعليم وأعمال الخير شيء رائع من دون ريب. إنه هدف مدهش، بيد أنه لا بد من أشياء أخرى في الظروف الراهنة.
وفي هذه اللحظة لاحظ نيكولا وجود ابن أخيه فأظلم محياه، واقترب منه قائلا: ماذا تفعل هنا؟
فأخذ بيير نيكولا من ذراعه واسترسل: ما بالك؟ دعه. قلت لهم: هذا لا يكفي، بل لا بد من شيء آخر في هذا الحين. ما دمتم تنتظرون أن ينقطع الحبل المشدود كثيرا، ما دمتم تتوقعون جميعا من لحظة لأخرى انقلابا محتوما، فيجب أن نتكاتف بقدر المستطاع، أن يتماسك أكبر عدد ممكن منا بالأيدي، وذلك كي نقف في سبيل الكارثة العمومية. كل ما هو فتي وقوي يجتذب هناك ويفسد؛ فهذا يغرونه بالنساء، والآخر بالهبات، والثالث بالغرور أو بالمال، وإنهم لينتقلون جميعا إلى المعسكر الآخر. أما المستقلون، مثلك ومثلي، فلم يبق منهم أحد. وإني لأكرر ذلك: وسعوا حلقة الجمعية، وليكن شعاركم لا الفضيلة فحسب، بل الاستقلال والعمل أيضا.
وقرب نيكولا مقعدا وقد نسي ابن أخيه، واستقر فيه والامتعاض باد في سيماه، وكان يسعل ويعقد حاجبيه أكثر فأكثر بقدر ما يرهف أذنيه لأقوال بيير.
صاح: أجل، ولكن العمل لأي هدف؟ وماذا ستكون علاقاتكم مع الحكومة؟ - العلاقات؟ ستكون علاقات تعاون، فيمكن ألا تكون الجمعية سرية، وأن تسمح الحكومة لها بالعمل، وهي ليست معادية للحكومة ما دامت تتألف من عناصر محافظة حقا. إنها جمعية نبلاء بكل معنى الكلمة، وكل ما تريد هو منع مخلوق مثل بوغاتشوف من ذبح أولادك وأولادي، ومنع مخلوق مثل أراكتشييف أن يرسلني إلى مستعمرة عسكرية. من أجل هذا فقط نتماسك بالأيدي، وهدفنا الوحيد هو الخير العام والسلامة العامة. - أجل، ولكن جمعية سرية لا يمكن أن تكون سوى معادية للحكومة وضارة بها، ولا يمكن أن ينشأ عنها سوى الشر. - لماذا؟ هل كانت جمعية توغن التي أنقذت أوروبا (ما كانوا يجرءون بعد أن يفكروا أن روسيا هي التي أنقذت العالم) ضارة؟ ولقد كانت هذه الجمعية جمعية خيرية، كانت المحبة، والتعاون المتبادل، وهذا هو ما يشبه به المسيح على الصليب ...
كانت ناتاشا، وقد دلفت إلى الحجرة في ملء هذا الحديث، تتأمل زوجها بفرح، كانت مبتهجة لا بما يقول، فهذا لا يثير اهتمامها بل يبدو لها كله بسيطا تماما ومعروفا منذ زمن طويل، كانت تملك هذا الشعور لأنها كانت تعرف ينبوع هذا كله ألا وهو نفس بيير، كانت مغتبطة إذ ترى الحيوية المتدفقة في كل شخصه.
وكان الصبي الصغير ذو العنق الرقيق المنبثق من ياقته الضيقة، وقد نسيه الجميع، يلتهم بعينيه بشيء من البهجة والحماسة يفوق ما في نظرة ناتاشا إليه. كانت كل كلمة تسقط من فم عمه تلهب قلبه، فيحطم بحركة عصبية من أصابعه دون أن ينتبه الشمع والأرياش الموجودة تحت متناول يده على مكتب عمه نيكولا. - ليس هذا كما تحسب مطلقا! إليك ما كانت الجمعية توغن الألمانية، والاتحاد الذي أقترحه أنا ...
فقاطعه دينيسوف بلهجة حاسمة عنيفة: هيا أيها الأخ، إنها تصبح لآكلة اللحم المقدد تلك الجمعية الألمانية. أما أنا فلا أفهم شيئا منها، ولا أستطيع أن ألفظ هذه الكلمة جيدا، كل شيء يذهب من سيئ إلى أسوأ، هذا ما أوافق عليه، لكن الجمعية فهذا ما لا أفهمه، كما أنه لا يروقني. إذا أردت ثورة فباق معكم.
وتبسم بيير وانفجرت ناتاشا ضاحكة، بيد أن نيكولا رفع حاجبيه أكثر من ذي قبل وشرع يبرهن لبيير أن الانقلاب شيء غير منتظر، وأن الخطر الذي يتحدث عنه لا يوجد سوى في مخيلته، وكان بيير يبرهن له العكس في ذلك، ولما كان يملك فكرا أقوى وأخصب مواد فما أسرع أن أحس نيكولا الغلبة! الأمر الذي ضاعف حنقه لأنه كان يشعر في أعماق نفسه بدافع في حدس باطني أكثر منه بدافع من منطق عقلاني، إن فكرته صحيحة بصورة لا يتطرق الشك إليها.
هتف وهو ينهض ويضع غليونه على الطاولة بحركة عصبية وأخيرا يرميه أرضا: اسمع ما سأقول لك، وإن كنت عاجزا عن برهانه. تزعم أن كل شيء عندنا يسير بصورة رديئة، وأننا نمشي صوب ثورة جارفة، وأنا لا أرى شيئا من هذا كله، وأنت تقول: إن القسم مجرد عهد واتفاق، أما أنا فأجيبك هكذا: أنت أفضل صديق لي، وهذا ما تعرفه. ومع ذلك فإذا شكلت جمعية سرية وقمت ضد الحكومة مهما تكن هذه الحكومة، فأنا أعرف أن من واجبي إطاعتها، وإذا أمرني أراكتشييف في هذه اللحظة أن أهاجمك على رئيس فرقة عسكرية وأقتلك، فسوف أسير دون تردد على الإطلاق. والآن قل في ذلك ما تشاء.
وخيم سكون ثقيل بعد هذه الأقوال المباغتة، وكانت ناتاشا سباقة إلى الكلام للدفاع عن زوجها بالهجوم على أخيها، وكان دفاعها ضعيفا أخرق، لكنها توصلت إلى غايتها. واتصل الحديث بعد أن فقد تلك اللهجة المشبعة بعداء كريه، والتي ختم نيكولا حديثه بها.
وعندما نهض الجميع ليذهبوا لتناول العشاء، اقترب نيكولا بولكونسكي الصغير من بيير شاحب الوجه متألق العينين، وسأل: أيهما العم بيير ...؟ أنت ...؟ لا ... لو كان أبي حيا بعد ... أفلا يكون من رأيك؟
وأدرك بيير بغتة أي عمل عنيف، خاص، مستقل ومعقد قد قام في دماغ هذا الطفل وقلبه أثناء الحديث، وإما تذكر كل ما تفوه به آسفا أن يكون هذا الصغير قد أصغى إليه، ومع ذلك لم يكن له بد من الجواب. - أظن أن بلى.
قال ذلك في شيء من الضيق، ثم خرج من الغرفة.
فأحنى الصبي رأسه، وعندئذ رأى للمرة الأولى ما أحدث من أضرار على مكتب عمه، فاحمرت وجنتاه واقترب من نيكولا.
قال مشيرا إلى الشمع والأرياش الممزقة: عفوا يا عماه! فأنا الذي ارتكبت هذا ...
فانتفض نيكولا في شيء من الحنق.
تمتم وهو يرمي بقطع الشمع والأرياش تحت المائدة: حسنا، حسنا.
واستدار عن الصغير باذلا جهدا أليما فيما يبدو ليكبح جماح غضبه، وصاح: ما كان لك مكان ها هنا.
الفصل الخامس عشر
المذكرات
ولم يجر الحديث أثناء العشاء عن السياسة أو الجمعيات السرية، بل انتقل على العكس إلى الموضوع الأحب إلى قلب ناتاشا، ألا وهي ذكريات عام 1812 التي أثارها دينيسوف، وكان بيير جذلان متحمسا بصورة غير معهودة وافترق الجميع أخيرا في صداقة ووئام تامين.
وإثر الطعام خلع نيكولا ثيابه في حجرته، وأصدر أوامره لوكيل أملاكه الذي كان في انتظاره منذ مدة طويلة، ثم دخل بثياب النوم إلى غرفة النوم فوجد زوجته جالسة إلى مكتبه تكتب.
استفهم: ماذا تكتبين يا ماري؟
فاحمارت الكونتيس ماري، كانت تخاف ألا يفهم زوجها جيدا ما هي بسبيل كتابته، وبالتالي لا يوافق عليه.
ولذا فقد كانت تفضل أن تخفي ما تكتب عنه، لكنها كانت سعيدة في الوقت ذاته لأنه اكتشفها أثناء هذه الكتابة، فهي مضطرة بالتالي أن تحدثه عنها.
قالت وهي تمد إليه دفترا أزرق مغطى بكتابتها الكبيرة الثابتة: إنه مذكراتي.
فأجاب نيكولا بشيء من السخرية وهو يتناول الدفتر منها: مذكرات؟!
وقرأ فيه بالفرنسية:
4 كانون الأول
اليوم حين استيقظ آندريه رفض أن يرتدي ثيابه، فأرسلت السيدة لويز في طلبي. ولقد تصلب في رغبته الطارئة، فجربت توبيخه لكن ذلك لم يفد سوى في مضاعفة حنقه، وعندئذ قررت أن تتركه على هواه قائلة له: إني لا أحبه بعد الآن، وشرعت أعني بمساعدة المربية بقية الأطفال. وبقي فترة طويلة في ستون فكأنه مصعوق، ثم ارتمى علي بقميصه، وراح ينشج طويلا بحيث لم أتمكن من تعزيته. وكان من الواضح أن ما يعذبه أكثر من كل شيء آخر هو كونه أحزنني، وحين أعطيته دفتر علاماته مساء شرع يبكي من جديد بصورة تثير الشفقة وهو يعانقني، ليمكن أن ننال منه كل شيء عن طريق الحنان.
وسأل نيكولا: ما هو دفتر العلامات هذا؟ ... - إني أضع الآن كل مساء علامة سلوك للكبار.
والتقى نيكولا بالنظرة المتألقة المثبتة فيه، وراح يتصفح الدفتر من جديد ويقرؤه. كانت المذكرات تروي كل ما يبدو ذا أهمية في عيني الأم في الحياة الطفولية، كل ما يكشف عن خلق الأطفال أو يؤدي إلى تأملات من المرتبة العامة في موضوع مناهج التثقيف. وكان معظمها تفاصيل صغيرة تافهة، لكنها ما كانت تلوح هكذا في نظر الأم أو في نظر الأب الذي كان يقرأ للمرة الأولى هذه المذكرات التي تدور حول الأطفال وحدهم.
وكان يقرأ فيها بتاريخ الخامس من كانون الأول:
لقد أساء ميتيا التصرف على مائدة الطعام، وقد أمر أبوه أن تمنع الحلوى عنه، ولم تعط له. يا لهيئته المحزنة اللهوف وهو يرى الآخرين يأكلون! أعتقد أن العقاب بالحرمان من الحلوى لا ينقل سوى مضاعفة الجشع. سأقول ذلك لنيكولا.
ووضع نيكولا الدفتر وتطلع إلى زوجه، كانت العينان المتألقتان ترمقانه وتسألانه ... «أيوافق على المذكرات أم لا يوافق عليها؟» ولم يكن ثمة ريبة: لم يكن يوافق فحسب، بل كان يقف معجبا حيال امرأته.
كان يفكر: «لعل هذا التحذلق كله لم يكن ضروريا، لعله عديم الجدوى تماما.» بيد أن هذا التوتر الفكري الدائم الذي لا يهدف سوى لغاية واحدة ألا وهي خير الأطفال، يلذ له ويرضيه. ولو استطاع نيكولا أن يحلل عاطفته فقد كان يكتشف إذن أن حبه المتين لزوجه، الحنون والفخور في نفس الوقت، يستند بصورة خاصة إلى تلك الدهشة التي يحس تجاه هذه الحياة الروحية المتدفقة، تجاه هذا الشعور الأخلاقي الرفيع، العصي على إدراكه، المتميز به العالم الداخلي حيث تعيش بصورة دائمة.
كان فخورا بأن تكون على هذه الدرجة العظيمة من الذكاء والطيبة، ويعترف بتأخره عليها في عالمه الباطن، لكنه يغتبط أكثر فأكثر لأنها لم تكن بمثل هذه الروح ملكه، بل كانت أيضا جزءا من ذاته.
قال بلهجة حنون: أوافقك تماما يا صديقتي.
وأضاف بعد برهة من الصمت: لقد أسأت التصرف اليوم، لم تكوني في المكتب حيث تناقشنا مع بيير، ولقد احتددت لكني ما كنت أستطيع أن أفعل سوى ذلك، إنه طفل صغير حتى لأتساءل إلام كان سيصير لو لم تكن ناتاشا تضبط عنانه؟ أتستطيعين أن تتصوري لماذا ذهب إلى بيترسبورج؟ ... لقد أسسوا هنالك ...
فقاطعته الكونتيس ماري بقولها: أعرف ذلك، فقد روت لي ناتاشا ...
فعاد نيكولا يقول وقد أحقد لمجرد ذكرى ذلك النقاش: آه! تعرفين ذلك! إنه يريد أن نعنى بأن واجب كل إنسان شريف هو القيام ضد الحكومة، بينا القسم والواجب ... آسف أنك لم تكوني هناك، ولقد هاجمني جميع الحاضرين، دينيسوف وناتاشا على السواء، إن ناتاشا تضحكني فرغم سيطرتها عليه في أمور العقل والمنطق، فهي لا تجد كلمة واحدة في جعبتها ولا تفعل سوى تكرار ما يقول.
كان نيكولا يقول ذلك بصوت مرتفع، مستسلما لميله الجموح إلى انتقاد أولئك الأعز على قلبه والأقرب إليه ، ناسيا أن ما يقوله عن ناتاشا يمكن أن ينطبق عليه كلمة كلمة في علاقاته مع زوجته.
وقالت الكونتيس ماري: أجل، لقد لاحظت ذلك. - حين قلت له: إن الواجب والعهد فوق كل شيء آخر، راح يبرهن لي الله يعرف ماذا. آسف أنك لم تكوني موجودة، وإلا فقد كنت بينت له ضلاله!
فأجابت الكونتيس ماري: عندي أنك على حق تماما، وهذا ما قلت لناتاشا، إن بيير يزعم أن البشر يتعذبون، ويتألمون، ويفسدون، وأن واجبنا هو مساعدة قريبنا، وإنه لعلى حق من دون ريب، بيد أنه ينسى أن ثمة واجبات أعجل تقع على أكتافنا قد فرضها الله نفسه علينا، وأننا نستطيع أن نفرض حياتنا الخاصة للخطر أما حياة أطفالنا فلا.
فهتف نيكولا معتقدا أن ذلك هو بالضبط ما أفحم بيير به: أجل، أجل، هذا هو بالضبط ما قلته له، لكنهم انطلقوا في سبيلهم يتحدثون عن محبة الغريب والمسيحية ... وذلك كله أمام نيكولا الذي انزلق إلى المكتب وحطم كل شيء!
فعادت الكونتيس ماري تقول: آه! أتعرف يا نيكولا، هذا الصغير كثيرا ما يعذبني، إنه صبي غير مألوف وأخاف أن أهمله بسبب من أطفالي، نحن إن لنا أبناءنا وعائلتنا به، أما هو فليس له أي إنسان، إنه أبدا وحيد مع أفكاره. - ولكن فلنتركه يخيل إلي أنه ليس ثمة ما تؤنبين نفسك عليه من أجله، مثل ما تستطيع أكثر الأمهات حنانا أن تفعل لأبنائها قد صنعته له، وأنت تصنعينه بعد من أجله، ومما لا ريب فيه أني مسرور بذلك فهو صبي صغير طيب، طيب جدا.
ولقد كان اليوم في نوع من الإشراق وهو يصغي إلى بيير، وهل تستطيعين أن تتصوري هذا؟ حين نهضنا متجهين إلى غرفة الطعام رأيت أنه دمر كل شيء على مكتبي، وإذا هو يعتذر عن ذلك في اللحظة عينها! أبدا لم أمسك به يقول كذبة واحدة، إنه طفل طيب للغاية.
كان يكرر ذلك رغم أنه في صميم نفسه ما كان يحب ابن أخيه، الأمر الذي يزيده تمسكا بامتداحه.
قالت الكونتيس ماري: ومع ذلك فالأمر يختلف عما إذا كانت أمه موجودة. إني أشعر أن الأمر يختلف وهذا ما يعذبني، إنه طفل رائع وأنا أخاف عليه بصورة فظيعة، وإن العيش بين الناس ليفيده كثيرا.
فقال نيكولا: بكل تأكيد، وسريعا ما سيتحقق ذلك، فأنا سأرسله هذا الصيف إلى بيترسبورج.
وأضاف عائدا إلى الحديث الذي جرى في مكتبه، والذي يثير اضطرابه فيما يبدو: أجل، هذا صحيح، فبيير لم يكن أكثر من حالم، وهو ما برح كذلك. قولي ماذا يهمني مما يجري هنالك، وما إذا كان أراكتشييف رجلا لعينا؟ ما عسى أن يهمني ذلك وقد تزوجت، وتراكمت علي الديون بحيث تكفي لزجي في السجن، بينما أمي لا ترى أو تفهم شيئا من ذلك؟ ومن بعد فهناك أنت، والأطفال، والعمل، وهل أقضي أيامي في الحقول أو في المكتب للذتي الخاصة؟ كلا، لكني أعرف أنه ينبغي أن أعمل كي تعيش أمي في طمأنينة، وكي أوقع لك ما أنا مدين لك به، وكي لا نترك أطفالنا فقراء كما كنت.
وكانت الكونتيس ماري تود أن تقول لزوجها إن الإنسان لا يحيا من الخبز وحده، وإنه ربما يعلق كثيرا من الأهمية على «أعماله» لكنها كانت تدرك أن ذلك سيكون عديم النفع وفي غير محله، فاكتفت بأن تأخذ يده وتقبلها. ورأى في هذه الحركة علامة تأييد له وتأكيد لأفكاره، فعاود حديثه الشخصي بعد برهة بصوت مرتفع: أتعرفين يا ماري، إن إيليا ميتروفانوفيتش (هو وكيل أعماله) قد رجع اليوم من قريتنا في حكومة طاموف، وقال لي إنهم يقدمون منذ الآن ثمانين ألف روبل من أجل الغاية.
وطفق نيكولا متأرث المحيا يشرح لها كيف سيكون في الإمكان في برهة من الزمن استرداد أوتراندويه من جديد: «عشر سنوات أخر، وأترك الأطفال ... في وضع ممتاز.»
وكانت الكونتيس ماري تصغي إلى نيكولا دون أن تفلت منها كلمة واحدة مما يقول، كانت تعرف أنه حين يفكر هكذا بصوت مرتفع، فإنه سيعود ليسألها عما قال، وسوف يغضب حين يعلم أنها كانت تفكر في شيء آخر، لكنها كانت مضطرة أن تقوم بجهود عظيمة، لأن هذه الأحاديث ما كانت تعنيها على الإطلاق. كانت تنظر إليه إذن، وإذا لم تكن تفكر في شيء آخر فقد كانت عواطفها في مكان آخر على أية حال، كانت تحس حبا حنونا مستسلما لهذا الرجل الذي لن يفهم قط كل ما تفهم هي، فهي تزداد حبا له ربما لهذا السبب بالضبط بشيء من الحنان اللاهب.
وإلى جانب هذا الشعور الذي كان يتملكها جميعا ويمنعها من الاهتمام بتفاصيل مشاريع زوجها، كانت أفكار أخر تجتاز رأسها غريبة تماما عما يروي لها، كانت تفكر في ابن أختها (فحديث زوجها عن انفعال الصبي الصغير وهو يصغى إلى بيير قد أثر فيها بشدة)، كانت دلائل مختلفة من خلقه الحساس اللطيف تمر في ذهنها، فتفكر في أفعالها حين تفكر فيه. لم تكن تقارن ما بينه وبين أبنائها، بل كانت تقارن عاطفتها تجاهه بالمعاطفة التي يثيرها أطفالها في نفسها، فتشاهد في شيء من الأسى أن في العاطفة التي تمنحها للصبي الصغير شيئا ناقصا.
وكانت تفكر في الأحايين أن سبب هذا الفرق هو السن، لكنها كانت تشعر مع ذلك أنها مذنبة في حقه، فتقطع على نفسها عهدا مخلصا أن تصلح نفسها وتصنع المستحيل، يعني أن تحب في هذه الحياة رجلها، وأولادها، وابن أختها وسائر أقاربها، مثلما أحب المسيح الإنسانية.
كانت نفس الكونتيس ماري تتوق دون انقطاع إلى اللانهاية، إلى الأبدي، نحو الكمال المطلق، وبالتالي ما كانت تستطيع أن تطمئن قط، وكان محياها يحمل الطابع العميق لهذا العذاب السري الذي تقاسيه نفس يئيد الجسد عليها. وتطلع نيكولا إليها في تلك اللحظة بالضبط، وقال في نفسه: «يا إلهي! ألام نصير إذا ماتت؟ ولشد ما أفكر في ذلك دائما عندما يصير محياها هكذا!» ووقف حيال الأيقونات وأنشأ يتلو صلوات المساء.
الفصل السادس عشر
حلم الصغير
إما صارت ناتاشا وحيدة مع زوجها، شرعت هي الأخرى تتحدث كما لا يجري الحديث إلا بين الزوج والزوجة، يعني بتخمين الفكرة قبل أن توضع في قالب الكلمات، وتينك الحدة والسرعة فوق العاديتين، عن طريق متناف لسائر قواعد المنطق دون محاكمات ودون استقراءات ودون استنتاجات، بل بأسلوب مخصوص تماما. وكانت ناتاشا قد اعتادت كثيرا محاورة زوجها هكذا، بحيث إن العرض الأكيد للخلاف بينهما هو دائما مشروع بيير بالتعبير عن فكرته بصورة منطقية. كانت تعرف بيقين تام حين يشرع يبرهن ويقدم الحجج بمهابة فتنجرف هي به وتروح تصنع صنيعه؛ كانت تعرف إذن أن المناقشة ستنتهي إلى الخصام بصورة أكيدة ثابتة.
وما صارا وحيدين حتى اقتربت ناتاشا من زوجها بلطف متمددة العينين فرحا، وأمسكت برأسها بصورة مباغتة، وشدته إلى صدرها وهي تهتف: «الآن، أنت لي بكليتك، ولن تفلت مني بعد الآن أبدا!» وفي الحال قام بينهما حديث مناف لسائر قوانين المنطق ولو لمجرد شموله لمواضيع متناقضة تماما، وكانت هذه الطريقة في طرق عدة مواضيع في وقت واحد لا تخل بوضوح الحديث مطلقا، بل تكشف على العكس بيقين تام عن تفاهم الزوجين المطلق.
وكما أن كل شيء في الأحلام غير معقول ومضاد للمنطق وسخيف باستثناء العاطفة التي تثير تلك الأحلام، كذلك هو هذا التبادل للأفكار حيث المحاكمة لا دخل لها، حيث ليست الكلمات هي التي تتمتع بالوضوح والترتيب، بل العاطفة التي تمليها.
كانت ناتاشا تروي لبيير كيف يحيا أخوها، وتقول له إنها تتعذب ولا تستطيع حياة بدون رجلها، وتقول له إنها تزداد حبا للكونتيس ماري، وكيف تتجاوزها زوجة أخيها في كل مضمار صلاحا وطيبة قلب. وكانت تعترف بإخلاص حين تتفوه بهذه الكلمات بتفوق ماري عليها، لكنها لا تتساهل في طلبها من بيير أن يفضلها على ماري وعلى سائر النساء الأخريات، وكان لا بد له من تكرار ذلك على مسامعها، خاصة هذه الآونة إثر رجوعه من بيترسبورج حيث شاهد كثيرا من النساء.
ونزل بيير عند إصرار ناتاشا فروى لها كم من دعوات الغداء والسهرات في بيترسبورج مع نساء من المجتمع الراقي لم يتمكن أن يطيقها!
قال: لقد فقدت تماما عادة التحدث إلى السيدات، فليس شيء أكثر ضجرا من ذلك، وعلى أية حال فقد كنت مشغولا.
فرنت ناتاشا إليه بثبات وأضافت : إنها الإغراء نفسه ماري هذه، لشد ما هي تفهم الأطفال لتقول إنها ترى نفسهم! فالبارحة مثلا ركب الهوى رأس ميتيا الصغير.
فقاطعها بيير قائلا: إنه صورة أبيه.
وفهمت ناتاشا لماذا قدم هذه الملاحظة عن البشر بين ميتيا ونيكولا، إنه يأسف لمناقشته مع صهره ويريد أن يأخذ رأي زوجته في الموضوع.
قالت وهي تكرر الكلمات التي سمعت بيير يتفوه بها: أجل، إن لنيكولا هذه الناحية الضعيفة التي تجعله لا يقبل شيئا لا يقبل الجميع به، لكنني أفهم فأنت على العكس تريد أن تنطلق.
فأجاب بيير: كلا، بل الأمر الأساسي هو أن الأفكار والمحاكمات تسلية بالنسبة إلى نيكولا، تكاد تكون أسلوبا لتزجية الوقت، لقد أسس مكتبة واتخذ قاعدة لنفسه هي ألا يبتاع كتابا جديدا قبل أن يقرأ آخر كتاب تلقاه، وسيسموندى وروسو ومونتسكيو ...
قال ذلك مبتسما وأضاف راغبا في تلطيف كلماته: وأنت تعرفين على أية حال كم ...
فقاطعته ناتاشا مشعرة إياه أن ذلك غير ضروري: إذن فأنت تعتقد أن الأفكار تسلية بالنسبة إليه. - أجل، أما بالنسبة إلي فإن كل شيء آخر هو التسلية، وخلال إقامتي في بيترسبورج كنت أشاهد كل شيء فكأني في حلم، وحين تتملكني فكرة فليس أي شيء آخر أوفى أهمية إذن.
فقالت ناتاشا: آه! لشد ما آسف لأني لم أرك تتمنى للأطفال صباحا سعيدا! أي واحدة كانت أكثرهن سرورا؟ ليز بكل تأكيد.
فأجاب بيير: أجل.
واسترسل فتحدث عما يشغل فكره: يزعم نيكولا أنه لا ينبغي لنا أن نفكر، أما أنا فلست أستطيع. هذا إذا استثنينا أني كنت أحس في بيترسبورج (أنت، أستطيع أن أعترف لك بذلك) أن كل شيء يتعرض للانهيار بدوني، وأن كل واحد يشد الغطاء إلى جانبه، ومع ذلك فقد نجحت في توحيدهم جميعا، وعندئذ صار فكري بسيطا جدا وواضحا جدا. وأنا لا أقول إنه ينبغي لنا القيام في وجه فلان أو فلان، فقد نخطئ في هذه الحال، إني أقول فقط: تعاونوا، أنتم الذي تحبون الخير، ولتكن رايتكم الوحيدة الفضيلة الفاعلة. إن الأمير سيرج رجل ممتاز، وهو ذكي أيضا.
ما كانت ناتاشا تشك في عظمة فكرة بيير، لكن شيئا واحدا كان يزعجها ألا وهو أن يكون ذلك هو زوجها بالضبط: «أيمكن أن يكون رجل على مثل هذه الأهمية والضرورة للمجتمع زوجي في الوقت نفسه؟ وكيف أمكن حدوث ذلك؟» وأرادت أن تعبر له عن شكها فهي تتساءل، مستعرضة في ذهنها سائر الذين يضمر لهم بيير عظيم الاعتبار، ولكن من هم إذن الذين يستطيعون أن يقرروا ما إذا كان حقا أذكى بكثير من الآخرين. وما كان يحترم أحدا كما يفهم من أحاديثه مثل احترامه لأفلاطون كاراتاييف.
صاحت: أتعرف فيمن أفكر؟ في أفلاطون كاراتاييف، ما عساه يفعل هو؟ أهو يوافقك؟
ولم يدهش بيير مطلقا لهذا السؤال، فقد كان يفهم تسلسل أفكار امرأته، قال: أفلاطون كاراتاييف؟
واستغرق في التفكير ساعيا بكل إخلاص أن يتصور أي حكم يمكن أن يصوره كاراتاييف في هذا الموضوع، وأخيرا قال: ما كان يفهم، ولكن من يدري؟ لعله كان يفعل!
فقالت ناتاشا بصورة مباغتة: ذلك يخيف، مبلغ حبي لك، إنه مخيف!
وقال بيير بعد برهة في التفكير: كلا، لن يوافقني، ما كان يوافق عليه هو حياتنا العائلية، لقد كان يود كثيرا أن يشاهد الجمال في كل مكان، والسعادة والسلام، بحيث أكون فخورا بأن يرانا، إليك، أنت تشكين أمر الفراق، ولكن لو تدرين أية عاطفة مخصوصة أضمر لك بعد الفراق ...
وأرادت ناتاشا أن تعترض: ولكن ... - كلا، ليس هذا، أنا لا أنقطع البتة عن حبك، ولا يمكن لمرء أن يحب أكثر من هذا، ذلك أنه خاصة ... حسنا، أجل ...
ولم يكمل الحديث لأن نظرتيهما التقتا، فتبادلتا بقية الحديث.
قالت ناتاشا على حين غرة: ما أحمق ذلك الحديث عن شهر العسل والقول إن المرء يكون سعيدا في الأيام الأولى! الأمر على العكس، فالآن نحن أفضل من قبل، لو كنت لا تسافر فقط، أتذكر كيف تخاصمنا وكنت أنا المخطئة دائما؟ أنا دائما، ولماذا؟ أنا لا أذكر أبدا.
فقال بيير مبتسما: للسبب نفسه دائما، الغيرة.
فهتفت ناتاشا: لا تقل ذلك فأنا لا أطيق سماعه.
واشتغل لهيب بارد في عينيها، وأضافت بعد سكوت قصير: أرأيتها؟ - كلا، وعلى أية حال فلن أعرفها إذا ما شاهدتها.
وجنحا إلى الصمت.
صاحت ناتاشا راغبة بصورة بينة في طرد السحابة التي تقترب: وهل تعرف؟ حين كنت تتحدث في المكتب كنت أنظر إليك، إنك تشبهها مثل قطرتين من الماء، «الصغير» (هكذا كانت تدعو ابنها)، آه! لقد حان الوقت لأذهب وأعنى به ... هذا هو الميعاد ... لكنه يؤلمني أن أذهب.
ولاذا بالصمت بضع ثوان، ومن ثم وبصورة مفاجئة التفتا نحو بعضهما بعضا، وشرعا يتكلمان في وقت واحد. كان بيير يتحدث بلطف وحرارة وناتاشا بابتسامة عذبة سعيدة، وإما تصادما فقد توقفا وتراجعا أمام بعضهما البعض: إذن، ماذا كنت تريدين أن تقولي؟ تكلمي، تكلمي.
فصاحت ناتاشا: كلا، بل أنت الذي يجب أن تتكلم، أما أنا فما تلك سوى حماقات. فرجع بيير إلى الموضع الذي افتتحناه، واستمر يتوسع بلهجة راضية عن نجاحاته ببيترسبورج، كان يعتقد في تلك الساعة اللحظة أنه مدعو لتوجيه المجتمع الروسي والعالم بأسره في منحى جديد. - كنت أريد فقط أن أقول: إن سائر الأفكار التي تؤدي إلى نتائج عظيمة هي بسيطة دائما. وكانت كل فكرتي تقول: إن كان الناس الشريرون يؤلفون قوة باتحادهم، فما أمام الناس الشرفاء إلا أن يفعلوا مثلهم، وأنت ترين بساطة ذلك. - أجل. - وأنت ماذا كنت تريدين أن تقولي؟ - لا شيء، لا شيء. - ولكن؟
فأصرت ناتاشا وعلى شفتيها ابتسامة تزداد اتساعا: أقول لك لا شيء، كنت أريد فقط أن أحدثك عن بيتيا، لقد جاءت المربية اليوم لتأخذه، وكان يعتقد ركبتي فطفق يضحك، والتصق بي وهو يغلق عينيه فكأنه يريد أن يختبئ، إنه لطيف حتى الدرجة القصوى، وهذا هو يصيح، هيا، إلى اللقاء!
وخرجت من الغرفة.
وفي الوقت نفسه، في الطابق السفلي في غرفة نوم نيكولا بولكونسكي الصغير، كانت الساهرة مشعلة كالعادة (كان الصبي يخاف الظلام، ولم تنجح أية محاولة في تخليصه من هذا الضعف). وكان ديسال ينام مرتفعا على وسائده الأربع، ومن أنفه الروماني ينطلق شخير منظم. وكان نيكولا الصغير، الذي استيقظ لتوه متصببا عرقا باردا، جالسا في سريره يحملق باستقامة إلى الأمام منه، كان كابوس مريع قد أيقظه، فقد شاهد فيما يشاهد النائم أنه يرتدي وعمه بيير قناعين شبيهين بتلك الأقنعة المصورة في مؤلفات بلوتارك، وهما يسيران في مقدمة جيش عظيم، وكان هذا الجيش مؤلفا من صفوف بيض منحرفة تملأ الهواء مثل هذه الخيوط تتطاير في الخريف، ويسميها ديسال خيوط العذراء. وإلى الأمام منهما كانت الطليعة المصنوعة من نفس الخيوط لكنها أقوى بقليل، وكان كلاهما - العم بيير وهو - ينطلقان خفيفين فرحين ويقتربان من الهدف أكثر فأكثر وبغتة، أخذت الخيوط التي تحملها تنحل وتتشابك، وصارا في وضع خطر، وإذا العم نيكولا إيليتش يقف حيالهما في وضع صارم متوعد.
قال مشيرا إلى بقايا ريش وشمع يستخدم في ختم الغلافات: «أأنتما اللذان فعلتما هذا؟ لقد كنتما عزيزين علي، لكن أراكتشييف أمرني أن أقتل من يتقدم منكما خطوة واحدة إلى أمام»، وأدار نيكولا الصغير بصره نحو بيير، لكن بيير لم يكن هناك، كان بيير قد صار أباه، الأمير آندريه، ولم يكن لأبيه حدود أو شكل رغم أن الواقف بجانبه كان أباه عينه. وإما رآه أدرك نيكولا الصغير أن الحب يحرمه قواه، فأحس أنه لا موطن له ولا قوام ولا هيكل، فكأنه تميع، وكان أبوه يربت عليه ويعزيه، بيد أن العم نيكولا إيليتش يهاجمهما ويقترب منهما أكثر فأكثر، فتملك الذعر الصبي الصغير واستيقظ من نومه.
فكر في داخله: «أبي (كان في البيت صورتان لأبيه على درجة عظيمة من الشبه، ومع ذلك فإن نيكولا الصغير لم يتصور الأمير آندريه في صورة بشرية قط)، لقد كان أبي بجانبي وكان يداعبني، وكان يوافقني، ويوافق العم بيير، ومهما سيقل لي رفاقي فإني فاعله. إن موسيوس شيفولا قد أحرق يده، فلم لا أفعل أنا مثله في حياتي؟ أعرف أنهم يريدونني أن أتعلم، ولسوف أتعلم ولكني سأنتهي من ذلك يوما، وعندئذ أفعل. ولست أسأل الله سوى شيء واحد ألا وهو أن يصيبني ما أصاب الرجال العظام الذين يتحدث بلوتارك عنهم، وسوف أصنع مثل صنيعهم، بل سوف أصنع أفضل من صنيعهم، وسوف يعرف جميع الناس ذلك، ويحبونني، ويعجبون بي.»
وأحس نيكولا الصغير على حين بغتة بالبكاء يغص به حلقه وينقبض له صدره، فانهمرت عبراته مدرارة غزيرة.
قال صوت ديسال: هل تشعر بوعكة؟
فأجاب الصغير وهو يعاود النوم على وسادته: كلا.
قال في نفسه وهو يفكر في ديسال: «إنه شريف وطيب، وأنا أحبه، وعمي بيير آه! يا له من إنسان رائع! وأبي، أبي ... أجل، سوف أصنع أشياء يكون هو نفسه ...»
الجزء الثاني
الفصل الأول
محرك التاريخ
إن غرض التاريخ هو حياة الشعوب والإنسانية، بيد أن الإدراك المباشر لا لحياة الإنسانية بل حتى لحياة شعب واحد، وحصر هذه الحياة في حدود الكلمات ووضعها لأمور تبدو مستحيلة تماما.
ولقد لجأ سائر مؤرخي الأزمان القديمة إلى ذات الطريقة كي يصفوا ويدركوا هذا العنصر الممتنع، ألا وهو حياة شعب من الشعوب، لقد وصفوا نشاط زعمائه لكن بصورة منعزلة، وكان هذا النشاط يعبر بالنسبة إليهم عن فاعلية الشعب بأسره.
أما السؤالان: كيف كان الأفراد المنعزلون يجبرون الشعوب على الفعل حسب إرادتهم؟ وماذا كان يوجه هذه الإرادة؟ فإن مؤرخي الأزمان القديمة قد أجابوا عنهما هكذا: أجابوا عن السؤال الأول بأن أرجعوا إلى إرادة الألوهية أمر خضوع الشعوب لشخص واحد، وأجابوا عن السؤال الثاني مؤكدين أن تلك الألوهية نفسها كانت توجه إرادة المنتخب نحو هدف معين سلفا.
إذن فقد حلت هذه المسائل بالنسبة إلى القدماء بالإيمان باشتراك الألوهية المباشر في القضايا الإنسانية.
لكن التاريخ المعاصر قد رفض في نظريته هاتين الفرضيتين.
وكان يمكن أن نعتقد أن التاريخ الحديث بتخلصه من العقيدة القديمة عن خضوع البشر للألوهية ولهدف معين سلفا تتجه الشعوب نحوه، قد اختار أن يدرس بدلا من مظاهرات السلطة الأسباب العميقة لها. لكن التاريخ الحديث لم يفعل ذلك، وإذا كان يرفض المفاهيم القديمة نظريا فهذا يتأثرها في الممارسة.
فالتاريخ الحديث يقدم لنا، بدلا من شخصيات متمتعة بسلطان إلهي توجهها إرادة الألوهية بصورة مباشرة، إما أفرادا يتمتعون بصفات غير مألوفة وفوق إنسانية، إما بكل بساطة أفرادا لهم جرارات مختلفة، منذ الملوك حتى الصحفيين، وهم يقودون الجماهير ويوجهونها. وبدلا من الأهداف المعينة قبلا من لدن الألوهية لبعض الشعوب، العبرانيين، والإغريقيين، والرومانيين، في سبيل توجيه خطى الإنسانية؛ فالتاريخ الحديث يضع أهدافه الخاصة: سعادة الشعب الفرنسي، والألماني، والإنكليزي. وإذا رفعنا التجريد حتى الدرجة القصوى فخير حضارة البشرية بأسرها، هذه البشرية التي يحصرها عادة في الشعوب المحتلة للقسم الشمالي الشرقي من الكرة الأرضية وحدها.
ولقد رفض التاريخ الحديث معتقدات القدماء دون أن يقدم بديلا عنها، فإذا المنطق يجبر المؤرخين الذين زعموا رفض السلطان الإلهي للملوك والقدر القديم، أن يعودوا بطريق آخر إلى نقطة الانطلاق ألا وهي الاعتراف: (1) بأن البشر موجهون من قبل أفراد منعزلين. (2) بأنه يوجد هدف محدد تماما تسير الشعوب والإنسانية نحوه.
وإن سائر المؤلفات الحديثة التي كتبها المؤرخون، منذ جيبون حتى باكل، رغم اختلافاتها الظاهرية والجدة الظاهرية لنظراتها؛ أساسها هاتان البديهيتان القديمتان المحتومتان.
فالمؤرخ يصف بادئ الأمر نشاط بعض الأفراد المنعزلين الذين يقودون الإنسانية في رأيه، ولا يحسب بعض المؤرخين في عداد هؤلاء سوى الملوك، والجنرالات، والوزراء، ويضع مؤرخ آخر إلى جانب الملوك الخطباء، والعلماء، والمصلحين، والفلاسفة، والشعراء. ومن ثم فالهدف الذي تسعى إليه الإنسانية معروف تماما من المؤرخ، وهذا الهدف هو عند هذا المؤرخ عظمة الدولة الرومانية أو الإسبانية أو الفرنسية، وهو عند ذاك المؤرخ المساواة وحضارة عرق معين من هذا القسم من العالم المسمى أوروبا.
وحدث اضطراب في باريس عام 1789، ولقد كبر هذا الاضطراب وماج واتخذ شكل تحرك لشعوب الغرب إلى الشرق، ولقد اتجهت هذه الحركة مرارا صوب الشرق واصطدمت بحركة معاكسة من مروح الشرق إلى الغرب، وفي عام 1812 بلغت حدها الأقصى موسكو، ورجعت نفسها بتناظر مرموق من الشرق إلى الغرب، خارقة معها في الذهاب والإياب على حد سواء شعوب أوروبا الوسطى، وقد رجعت هذه الحركة المعاكسة إلى نقطة انطلاقها باريس وتوقفت هناك.
وخلال هذه المرحلة التي دامت عشرين عاما، ظل مقدار عظيم من الحقول نهبا للثوار، وأحرقت منازل وبدلت التجارة وجهتها، وأملق ملايين الناس، أو أثروا، أو تنقلوا، وكان ملايين من المسيحيين الذين يمارسون محبة القريب يتذابحون.
ماذا يعني كل هذا؟ ومن أين صار كل هذا؟ ما الذي كان يدفع هؤلاء الناس إلى إحراق الدور وقتل أشباههم؟ ما هي أسباب هذه الحوادث؟ أية قوة دفعت هؤلاء الناس إلى مثل هذه الأعمال؟ هذه هي الأسئلة غير الإرادية، الساذجة والمشروعة جدا مع ذلك، التي يطرحها المرء على نفسه عندما يقف حيال أنصاب المرحلة المنصرمة من هذه الحركة وتقاليدها.
وإنا لنلتفت في نحل هذه المسائل صوب عالم التاريخ، الذي يهدف إلى أن يكشف للشعوب والإنسانية عن معرفة ذواتها.
ولو كان التاريخ يتقيد بوجهة النظر القديمة، فقد كان ينبغي له أن يقول: إن الألوهية كي تكافئ شعبها أو تقتص منه قد منحت السلطان إلى نابليون، وحصلت منه أداة أرادتها في سبيل إنجاز غايتها. ويكون هذا الجواب إذن واضحا وكاملا، ويمكننا أن نؤمن إلا أن نرفض الإيمان برسالة نابليون الإلهية، بيد أن ذاك الذي يؤمن يتضح مجمل تاريخ تلك الفترة، بحيث لا يبقى ثمة مجال تناقض على الإطلاق.
بيد أن التاريخ الحديث لا يستطيع أن يجيب على هذا القرار، فالعالم ما عاد يقبل الفكرة القديمة عن التدخل المباشر للألوهية في أفعال الإنسانية، وبالتالي فلا بد له تدبير أجوبة أخرى.
وإما يجيب التاريخ الحديث عن هذه الأسئلة يقول لنا: أنتم تريدون أن تعرفوا معنى هذه الحركة وأصولها، وأية قوة انتخبت مثل هذه الأحداث؟ اسمعوا إذن:
لقد كان لويس الرابع عشر إنسانا متكبرا مدعيا بصورة مخصوصة، وكان عنده الخليلات العلانيات والوزراء الفلانيون، وكان يسوس فرنسا بصورة رديئة، وكان خلفاؤه رجالا ضعفاء قد حكموا البلاد هم أيضا بصورة سيئة، كان لهم هم أيضا الخلان الفلانيون والمحظيات الفلانيات، وفيما عدا ذلك فبعض الناس قد كتبوا كتبا في تلك الفترة. وفي أواخر القرن الثامن عشر اجتمع في باريس قرابة عشرين رجلا راحوا يقولون إن سائر البشر متساوون وأحرار، ونتج عن ذلك أن الناس أخذوا في كل مكان في فرنسا يقتلون أشباههم ويغرقونهم، ولقد قتل هؤلاء الناس مليكهم كما قتلوا أشخاصا آخرين عديدين. وفي تلك الفترة بالضبط كان في فرنسا إنسان عبقري هو نابليون، وكان يسجل الانتصارات في كل مكان، يعني أنه كان يقتل عددا كبيرا من الناس لأنه كان عبقريا عظيما. الغد غدا يقتل، ولا ندري السبب، الأفريقيين في بلادهم، ولقد قتلهم بصورة رائعة. وكان عظيم الحيلة كثير الذكاء، بحيث استطاع لدى عودته إلى فرنسا أن يصدر الأمر للجميع كي يطيعوه، ولقد أطاعه الجميع. وإما جعل نفسه إمبراطورا فقد ذهب أيضا إلى إيطاليا والنمسا وبروسيا يقتل البشر، ولقد قتل الكثيرين. ويومذاك كان يحكم في روسيا الإمبراطور ألكسندر، الذي قرر أن يعيد النظام كما كان في أوروبا، وكان يحارب نابليون بسبب ذلك. لكنه صار في 1807 صديقه بصورة مفاجئة، وظل كذلك حتى عام 1811 حين اختصم وإياه من جديد، وحين قتل كلاهما معا عددا كبيرا من الناس مرة أخرى.
وقاد نابليون ستمائة ألف شخص إلى روسيا واحتل موسكو. لكن الإمبراطور ألكسندر وقد نصحه شتين وآخرون وحد أوروبا بأسرها ضد ذلك الذي يعكر طمأنينته، فإذا سائر حلفاء نابليون يصيرون بغتة أعداء له، ويقومون هبة واحدة ليقابلوا القوى الجديدة التي جمعها نابليون، وانتصر الحلفاء ودخلوا باريس وأجبروا نابليون أن يتنازل عن عرشه، وأرسلوه إلى جزيرة إلبا لكن دون أن ينزعوا عنه لقبه الإمبراطوري، مبدين مختلف ضروب التكريم لهذا الرجل الذي كان الجميع قبل خمس سنوات يعتبرونه - وسيعلنون ذلك بعد سنة واحدة أيضا - لصا خارجا عن القانون، وجعل لويس الثامن عشر، الذي لم يفعل الفرنسيون والحلفاء حتى ذلك الحين سوى السخرية منه، يحكم فرنسا، بينا تنازل نابليون عن سلطانه وهو يذرف بضع عبرات أمام حرسه العجوز، وغدا إلى المنفى. ومن بعد اجتمع في فينا للتشاور رجال دولة ودبلوماسيون ماهرون (وبصورة خاصة تاليران الذي تمكن من الجلوس في تلك الأثناء في مقعد معين ومن توسيع حدود فرنسا بهذه الواسطة)، وكان من نتاج أحاديثهم أن صيروا الشعوب سعيدة أو شقية. ولكن هؤلاء الدبلوماسيون قد تخاصموا بغتة، فإذا هم على استعداد كي يصدروا الأوامر إلى جيوشهم لتتذابح. بيد أن نابليون رجع إلى فرنسا في ذلك الحين برفقة فرقة عسكرية، فإذا سائر الفرنسيين الذين كانوا يكرهونه يخضعون له في الحال، وغضب الملوك لذلك فعادوا يحاربون الفرنسيين، ولقد انتصروا على الجنرال نابليون ونفوه إلى جزيرة القديسة هيلانة، وجعلوا يعاملونه بغتة كأنه قاطع طريق. وهناك بعيدا عن الكائنات العزيزة على قلبه، وعن وطنه الحبيب فرنسا، مات المنفي موتا بطيئا فوق إحدى الصخور، جاعلا من الأجيال اللاحقة ورثة أفعاله الرفيعة. وفي أوروبا تمكنت الرجعية من الحكم مجددا، وراحت سائر الحكومات تضطهد الشعوب مرة أخرى.
ولمن العبث أن نحسب أن هذا كله ليس سوى مزاح أو صورة كاريكاتورية للأقاصيص التاريخية. وعلى العكس فهو التعبير الأشد لطفا عن هذه الأجوبة المتناقضة التي لا تجيب عن أي سؤال، والتي تقدم لنا التاريخ بأسره منذ صانعي الأبحاث والقصص عن الدولة المنفصلة حتى مؤلفي التواريخ العامة أو تواريخ «الثقافة» هذا النوع المعاصر الجديد.
وغرابة هذه الأجوبة وسخفها ينشأان عن كون التاريخ يشبه أصم يجيب عن أسئلة لم يطرحها عليه أحد.
وإذا كانت غاية التاريخ هي وصف حركات الإنسانية والشعوب، فالسؤال الأول الذي يتطلب جوابا بالضرورة، والذي يكون كل ما يتبع ممتنعا عن الفهم بدونه، هو السؤال التالي: ما هي القوة التي تحرك الشعوب؟ وجوابا عن هذا السؤال يروي لنا التاريخ الحديث بشيء من دلائل الاهتمام إما أن نابليون كان يتمتع بقوة عليا، وإما أن لويس الرابع عشر كثير التفكير، وإما أيضا أن هؤلاء أو أولئك من المخالفين قد كتبوا هذه الكتب أو تلك.
وهذا كله شيء ممكن تماما، والإنسانية على استعداد للقبول به، بيد أن السؤال يكمن ها هنا: هذا كله يمكن أن يكون باعثا على الاهتمام إذا كنا نريد القبول بأن قوة نابليون ولويس الرابع عشر والمؤلفين، ولكننا لا نعترف بهذه القوة. ولذا فإنه ينبغي قبل الحديث عن أمثال نابليون ولويس الرابع عشر والمؤلفين أن يكون لدينا الرابطة القائمة بين هذه الشخصيات وتحركات الشعوب .
وإذا كانت قوة أخرى قد اتخذت مكان الألوهية، فيجب أن نوضح قوام هذه القوة لأن أهمية التاريخ تقوم فيها بالضبط.
ويفترض المؤرخ أن هذه القوة أمر مفروغ منه وأن الجميع يعرفونها، ومع ذلك وبالرغم من الرغبة العامة في افتراض هذه القوة معروفة، فذاك الذي ينقب عددا كبيرا من المؤلفات التاريخية يشك رغما عنه ويتساءل ما إذا كانت هذه القوة، المهدمة بصورة مختلفة جدا من قبل المؤرخين أنفسهم، هي معروفة حقا منهم جميعا.
الفصل الثاني
مغالطات المؤرخين
ما هي القوة التي تحرك الشعوب؟ إن مؤلفي الترجمات الفردية ومؤرخي الشعوب المنعزلة يعتبرون أن هذه القوة سلطان خاص بالأبطال والزعماء، وتبعا لما يسردون من أوصاف فالأحداث ناتجة عن مجرد إدارة أمثال نابليون وألكسندر، أو بصورة عامة أولئك الأشخاص الذين يصف المؤرخ حياتهم المخصوصة. وإن الأجوبة التي يقدمها هذا النوع من المؤرخين عن هذا السؤال المتعلق بالقوة التي تحرك الأحداث لمرضية لكن في حدود معينة فقط، ألا وهي أن يكون ثمة لكل حادث مؤرخ واحد. ولا يكاد مؤرخون من قوميات وآراء مختلفة يشرعون في وصف نفس الحادث الواحد حتى تفقد الأجوبة المقدمة من قبلهم كل قيمة، لأن كل واحد منهم يفهم هذه القوة لا بصورة مختلفة فحسب، بل في الأحايين بصورة معاكسة تماما لفهم جاره لها. ويؤكد الواحد أن الحادث مسبب عن قوة نابليون، ويؤكد آخر أنه ناشئ عن قوة ألكسندر، ويؤكد ثالث أن مثاره قوة شخص ثالث، والأكثر من ذلك أن المؤرخين من هذا النوع يناقضون بعضهم بعضا حتى في التفسيرات التي يعطون عن القوة التي يتولد منها سلطان نفس الشخصية. وهكذا فإن تييرس، وهو بونابرتي النزعة، يرجع سلطان نابليون إلى فضيلته وعبقريته، أما لانغري، وهو جمهوري النزعة، فيرجعه إلى سرقاته واحتيالاته حيال الشعب، وبالتالي فإن المؤرخين من هذا النوع حين يطور كل منهم أطروحته وفرضياته الخاصة، يدمرون بذلك مفهوم القوة التي تقوم في أصل الأحداث، ولا يعطون أي جواب عن السؤال الأساسي للتاريخ.
والمؤرخون الذين يعنون بالتاريخ العام، باعتبارهم ينظرون إلى سائر الشعوب، يقبلون كما تشير الظواهر بخطل وجهة نظر المؤرخين المخصوصين في موضوع القوة القائمة في أصل الأحداث، إنهم لا يعترفون بهذه القوة كسلطان لاصق بالأبطال والزعماء، بل كحاصلة قوى عديدة ذات اتجاهات مختلفة، وإما يصفون حربا أو غزوا لشعب ما، فإنهم ينقبون عن سبب الحوادث لا في سلطان شخص واحد، بل في الفعل ورد الفعل المتبادلين لعدد كبير من الأشخاص ذوي العلاقة بالحادث المطروح على بساط البحث.
وتبعا لوجهة النظر هذه، فسلطان الشخصيات التاريخية المعتبر كحاصلة قوى متعددة ما عاد يمكن بعد الآن، فيما يبدو، النظر إليه كقوة تكفي بذاتها في سبيل إحداث الحوادث. ومع ذلك فإن مؤلفي التواريخ العامة يلجئون إلى هذا المفهوم عن هذا السلطان المعتبر كقوة تكفي ذاتها بذاتها في سبيل إحداث الحوادث، وتسلك حيال هذه الحوادث سلوك المسبب. ويفهم من عرضهم تارة أن الشخصية التاريخية تتابع زمنها، فليست سلطتها سوى حصيلة القوى المختلفة، وتارة أن سلطانها هو القوة التي تخلق الحوادث. ومثال ذلك أن جيرفينوس وشوسر وآخرين أيضا يبرهنون تارة أن نابليون هو نتاج الثورة وأفكار عام 1789، جير، وتارة يعلنون أن حملة عام 1812 وكذلك بضعة حوادث تاريخية أخرى لا تروقهم مسببة فقط عن إرادة نابليون السيئة التوجيه، وأن أفكار عام 1789 نفسها قد قضى عليها، في تطورها، سلوكه الاعتباطي. إن الأفكار الثورية والحالة الفكرية العامة قد صنعت سلطان نابليون، وسلطان نابليون قد خنق الأفكار الثورية والحالة الفكرية العامة.
وليس هذا التناقض الغريب مسببا عن الصدفة، ونحن لا نلقاه لدى كل خطوة فحسب، بل إن الأوصاف التي يقدمها مؤلفو التواريخ العامة إنما تتألف أيضا من تسلسل حازم لتناقضات مماثلة، وإن هذا التناقض لناشئ عن الواقع التالي ألا وهو أن المؤرخين من هذا النوع بعدما ينطلقون في ميدان التحليل يتوقفون في منتصف الطريق.
وفي ما نجد الأجزاء المركبة المادية للمركب أو الحصيلة، فيجب تساوي الأجزاء المركبة. وهذا هو بالضبط الشرط الذي لا يلاحظه مؤلفو التواريخ العامة، ولذا لم يكن لهم بد كي يفسروا الحصيلة أن يقبلوا، إلى جانب الأجزاء المركبة غير الكافية، قوة جديدة لا تفسير لها تعمل تبعا للمركب.
وإن المؤرخ الفردي النزعة الذي يصف حملة 1813 أو عودة آل بوربون إلى العرش، يؤكد بصورة حازمة أن هذه الحوادث مسببة عن إدارة ألكسندر، لكن جيرفينوس وهو مؤلف تاريخ عام يدحض هذا التأكيد، ويسعى أن يبرهن أن حملة 1813 وعودة البوربونيين إلى العرش مسببان فيما عدا إرادة ألكسندر عن نشاط شتين ومترنيخ ومدام دي ستال وتاليران وفخته وشاتوبريان وآخرين عديدين. ومن الواضح أن جيرفينوس قد جزأ ألكسندر إلى أجزائه المركبة: تاليران، شاتوبريان ... إلخ، وأن مجموع هؤلاء يعني العمل المتبادل لشاتوبريان وتاليران ومدام دي ستال والآخرين لا يساوي الحصيلة، يعني حقيقة خضوع ملايين الفرنسيين للبوربونيين. أما أن شاتوبريان ومدام دي ستال وآخرين قد تبادلوا هذه الأحاديث أو تلك، فهذا لا ينشأ عنه سوى علاقاتهم المتبادلة وليس خضوع ملايين الناس.
وكي تفسر كيف نتج هذا الخضوع عن تلك العلاقات، يعني كيف خرج من أجزاء مركبة مساوية للمقدار «ب» حصيلة تساوي «أ ب»، فالمؤرخ مجبر على قبول تلك القوة التي ينكرها معرفا إياها كحصيلة عدة قوى، يعني أنه ملزم بقبول قوة لا تفسير لها ناتجة عن المركب. وهذا هو بالضبط ما يفعل سائر مؤرخي التواريخ العمومية، وإنهم ليقعون في التناقض لذلك السبب أيضا، التناقض مع مؤلفي التواريخ المخصوصة والتناقض مع أنفسهم.
إن سكان الأرياف، الذين لا يعرفون من أين تأتي الأمطار بالضبط، يقولون تبعا لرغبتهم في الغيث أم الطقس الجميل إن الريح قد طردت السحب، أو إن الريح قد جاءت بالسحب، وهذا هو بالضبط ما يفعله مؤلفو التواريخ العامة، وإنهم ليقولون حين يناسب ذلك نظرياتهم إن السلطان هو نتيجة الحوادث ، وحين يحتاجون أن يبرهنوا شيئا آخر فإنهم يقولون إن السلطان قد أدى إلى الحوادث.
وثمة مقولة ثالثة من المؤرخين يدعون أنفسهم بمؤرخي «الثقافة»، ويدعي هؤلاء أحيانا متأثرين خطى مؤرخي التواريخ العامة أن الكتاب والسيدات هم الذين ينتجون الحوادث. بيد أن هؤلاء المؤرخين يفهمون أيضا هذه القوى على صور مختلفة تماما حين يكتشفونها في «الثقافة » أي في الفعالية الفكرية. وإن مؤرخي الثقافة لحازمون تماما حيال أولئك الذين أعطوهم مولدا، يعني مؤرخي التواريخ العمومية. لأنه إذا كان في الإمكان أن نفسر الحوادث التاريخية بكون بعض الشخصيات قد ارتبطت بعلاقات متبادلة معينة، فلم لا نفسرها أيضا بكون هؤلاء الناس أو أولئك قد كتبوا كتبا معينة؟ إن هؤلاء المؤرخين يستخرجون من الجمهرة الضخمة للتظاهرات التي ترافق كل ظاهرة حية إشارة فعالية فكرية، ويعلنون أن هذه الفعالية هي سبب كل شيء آخر. ولكنه بالرغم من سائر جهودهم للبرهان على أن سبب الحوادث قائم في الفعالية الفكرية، فلا بد من مقدار عظيم من الإرادة الطيبة في سبيل الاعتراف بوجود صلة مشتركة بين الفعالية الفكرية ومحركات الشعوب. ولا يمكننا في حال من الأحوال أن نقبل بأن هذه الفعالية الفكرية توجه الأمم، لأن بعض الظواهر كالمذابح الرهيبة للثورة الفرنسية الناتجة عن إعلان حقوق الإنسان، والحروب التي لا رحمة فيها والإعدامات الفظيعة الناتجة عن بشارة بناموس المحبة؛ هذه الظواهر تناقض تلك الفرضية بصورة مطلقة.
وعلى أية حال فلنقبل بصحة سائر هذه المقالات الفطنة التي يكيلها هؤلاء المؤرخون، فلنقبل أن الشعوب مسيرة بقوة ممتنعة عن التعريف تحمل اسم «الفكرة»، فالقضية الأساسية للتاريخ تظل غير محلولة مع ذلك، وإلا فإن قوة جديدة هي الفكرة تتطلب صلتها مع الجماهير تفسيرا جديدا، تنضم أيضا إلى قوة الملوك المأخوذة سابقا بعين الاعتبار، وإلى التأثير الذي قبله مؤلفو التواريخ العمومية سلفا، والذي هو خاص بالمستشارين والشخصيات الأخرى، ويمكننا أن نفهم وقوع الحادث الفلاني باعتبار أن نابليون يسيطر على دفة الحكم، ويمكننا كذلك أن نفهم بشيء من التسامح أن يكون نابليون معضوضا ببعض التأثيرات الأخرى سبب بعض الحوادث. أما أن العقد الاجتماعي كان نتيجة تذابح الفرنسيين، فهذا ما يعني إدراكنا دون إيضاح للرابطة السببية الموجودة بين هذه القوة الجديدة والحوادث.
إن الرابطة الموجودة بين سائر الأفراد الذين يعيشون في عصر واحد لا يتطرق الشك إليها مطلقا، وهكذا فإنه من الممكن أن نجد بعض العلاقة بين فعالية الناس الفكرية وحركتهم التاريخية ، تماما كما نجد مثل هذه العلاقة بين تحركات الإنسانية والتجارة والمهن وزراعة البساتين وأي شيء آخر.
ولكن كم تتراءى فعالية بعض الرجال الفكرية في نظر مؤرخي الثقافة كسبب كل حركة تاريخية أو التعبير عنها؟ إن هذا لأمر يصعب فهمه، ولم ينته المؤرخون إلى مثل هذه النتيجة إلا بالاعتبارات التالية: (1) إن العلماء هم الذين يكتبون التاريخ، ولذا فمن الطبيعي والمستحب بالنسبة إليهم أن يعتقدوا أن فعالية طائفتهم تبث الحياة في حركة الإنسانية بأمرها، تماما كما يلذ بصورة طبيعية للتجار والمزارعين والجنود أن ينطووا على الفترة ذاتها (وإذا لم يعبروا عنها فما ذلك إلا لأن كتبة التاريخ ليسوا من عدادهم). (2) إن الفعالية الفكرية والثقافة والحضارة والمدنية والفكرة، هذه جميعا مفاهيم مجردة غير محددة، يسهل تحت غطائها حتى الدرجة القصوى استعمال كلمات أشد غموضا أيضا بحيث يمكن بالتالي تكييفها مع أية نظرية كانت.
ولكنه فيما عدا الجرارات الباطنية لهذا النوع التاريخي المفيد من دون ريب لشخص ما أو لشيء ما، فتواريخ الثقافة التي شرعت تمتص سائر التواريخ العامة يلفت النظر فيها أنها تفصل بصورة جدية حساب العقائد الدينية والفلسفية والسياسية التي تجد فيها أسباب الحوادث، ومن ثم لا تكاد تتقدم من وصف حادث تاريخي حقيقي كحملة عام 1812 مثلا حتى تصفه رغما عنها كنتاج سلطان معين، وتعلن دون تردد أن أصل هذه الحملة موجود في إرادة نابليون. وحين يتحدثون هكذا فإن مؤرخي الثقافة إما أن يتناقضوا دون إرادة لذلك منهم، وإما أن يبرهنوا أن الشكل الجديد الذي أبدعوا لا يفسر الحوادث التاريخية، وأن الطريقة الوحيدة لفهم هذه الحوادث هي الرجوع إلى ذلك السلطان الذي يتظاهرون بأفكاره.
الفصل الثالث
ما هو السلطان؟
إن القاطرة حركة، وليتساءل المرء ما هي الحركة؟ فيقول فلاح ما: إن الشيطان يدفعها، ويقول آخر: إن القاطرة تتقدم لأن دواليبها تدور، ويؤكد ثالث أن سبب الحركة هو في الدخان الذي تنفخه الريح وتبعثره.
ولا يمكننا أن نبرهن للفلاح الأول أنه على ضلال، إذ يجب إذن أن نجد الوسيلة الناجعة لإقناعه بأن الشيطان غير موجود، أو يبرهن له فلاح آخر أن من يحمل القاطرة على السير ليس هو الشيطان بل الألماني، والتناقض وحده يمكن أن يثبت لكليهما الخطأ الذي يقعان فيه. بيد أن ذاك الذي يقول إن الحركة ناشئة عن الدواليب يناقض نفسه، وبما أنه انطلق في طريق التحليل فلا بد له من الذهاب قدما وتفسير سبب حركة الدواليب، ولن يكون له حق التوقف في التنقيب عن الأسباب ما لم يصل إلى السبب الأخير لحركة القاطرة، ألا وهو ضغط بخار الماء في المرجل. أما من فسر حركة القاطرة بالدخان الذي تبدده الريح فقد اتضح له أن تفسير الحركة بالدواليب غير مقنع، فلجأ إلى الظاهرة الأولى التي وقع عليها ليجعل منها سببا.
فالمفهوم الوحيد الذي يستطيع أن يوضح حركة القاطرة هو مفهوم قوة مساوية للحركة الظاهرة.
بالتالي فالمفهوم الوحيد الذي يستطيع أن يوضح حركة الشعوب هو مفهوم قوة مساوية لهذه الحركة.
وعلى أية حال فالمؤرخون المختلفون يفهمون من هذا المفهوم فعل قوى متنافرة وليس مساوية للحركة، ويرى البعض فيه قوة لاصقة بالأبطال كما يرى الفلاح شيطانا في القاطرة، ويرى آخرون فيه قوة منتجة عن قوى أخرى كحركة الدواليب مثلا، ويرى فيه آخرون أيضا تأثيرا فكريا مثل الدخان الذي تبدده الريح.
وما دمنا لا نكتب سوى تاريخ الشخصيات المنعزلة ولو كانت قيصرا أو ألكسندر أو لوثر أو فولتير، لا تاريخ سائر الأفراد دون استثناء هؤلاء الذين اشتركوا في حادث ما؛ فلن يكون من الممكن تفسير تحركات الإنسانية دون تصور قوة تجبر البشر على توجيه فعالياتهم نحو هدف وحيد، والمؤرخون لا يعرفون لهذا المعنى سوى قوة واحدة ألا وهي السلطان.
وهذا المفهوم هو القبضة الوحيدة التي تسمح لتمليك زمام مادة التاريخ كما تفهم في أيامنا الحاضرة. وإن تحطيم هذه القبضة دون حيازة أداة أخرى كما فعل باكل، يعني خسارة آخر إمكانية لبحث مادة التاريخ، وإن استحالة عدم اللجوء إلى مفهوم السلطان يبرهنها على أفضل وجه ومؤرخو التواريخ العامة أنفسهم ومؤرخو الثقافة على السواء، وهؤلاء الأخيرون يتظاهرون برفض هذا المفهوم، ومع ذلك فهم يستعملونه بصورة لا خلاص منها لدى كل خطوة.
وفي ما يتعلق بالقضايا المرتبطة بالإنسانية، فقد كان العلم التاريخي حتى يومنا الراهن شبيها بالنقد المتداول أكان ورقا أم معدنا. إن ترجمات الحياة والتواريخ المخصوصة هي أنواع من الورق النقدي، ويمكنها الدخول في التداول، وتقوم بواجبها دون إلحاق الضرر بأي شخص كان، بل بشيء من الفائدة أيضا ما دمنا لا نثير قضية تغطيتها بالذهب. ويكفي ألا نسأل كيف يمكن لإرادة الأبطال أن تنتج الحوادث، كي تصير تواريخ أمثال بيترس باعثة على الاهتمام ومفيدة، بل لا تخلو من الشاعرية أيضا.
ولكنه سرعان ما نشك في القيمة الحقيقية لورق النقد حين نفكر حتى أية درجة تدفعنا سهولة صنعه إلى إنتاج مقدار أكبر منه، أو إذا أردنا إحالته إلى ذهب. وكذلك فإننا نشك في المعنى الحقيقي للتواريخ من هذا النوع عندما نأخذ بعين الاعتبار عددها الكبير، أو عندما نتساءل بكل بساطة ما هي القوة التي أثرت في نابليون، يعني حين نريد أن نستبدل ورق النقد بقيمته المضبوطة من الذهب.
إن مؤلفي التواريخ العمومية ومؤرخي الثقافة يشهدون أناسا قرروا بعدما أدركوا عدم صلاح الأوراق النقدية أن يصفوا نقدا معدنيا لاستبدالها، وذلك بمعدن لا يملك الثقل النوعي للذهب ويكون ذلك في الحقيقة نقدا رنانا لكنه لن يكون أكثر من رنان، ذلك أن الورق النقدي يمكن بعد أن يخدع الجاهلين، أما النقد الرنان الذي لا قيمة له فلا يمكن أن يخدع أحدا. وكما أن الذهب لا يكون ذهبا حقا إلا حين يمكن استعماله لذاته وليس للمقايضة فحسب، كذلك لن يكون مؤلفو التواريخ العامة ذهبا حقا إلا حين يتمكنون من الجواب على هذا السؤال الأساسي للتاريخ: ما هو السلطان؟ إنهم يعطون عن هذا السؤال أجوبة متناقضة، بينما زملاؤهم الذين يدرسون الثقافة ينفونه تماما ويتكلمون عن أشياء مختلفة كل الاختلاف، إن استعمال الحجارة مكان الذهب لا يمكن أن يتم إلا بين أناس يريدون عن طيبة خاطر أن يقبلوها على ذلك الاعتبار أو لا يعرفون أيضا قيمة الذهب. وكتب المؤرخين العموميين ومؤرخي الثقافة تلعب دورا مماثلا، فهم حين لا يعطون أجوبة عن الأسئلة الأساسية للإنسانية يخدمون كحجارة لعب لغاياتهم المخصوصة في الجامعات وعند جمهور القراء هواة الكتب الجدية في ما يزعمون.
الفصل الرابع
مصدر السلطان
بعد رفضي العقيدة القديمة عن الخضوع المفروض من قبل الألوهية، خضوع إرادة شعب لرجل واحد مختار وخضوع هذه الإرادة للألوهية؛ يصير من المحال على التاريخ أن يتقدم خطوة واحدة دون أن يصطدم بالتناقضات إذا لم يختر أحد أمرين: إما الرجوع إلى الإيمان السابق بالتدخل المباشر للألوهية في القضايا البشرية، وإما إعطاء تفسير دقيق لهذه القوة التي تنتج الحوادث وتدعي السلطان.
والرجوع إلى التأكيد الأول أمر مستحيل فقد قضي على الإيمان، ولذا كان من الضروري تفسير هذا السلطان.
لقد أصدر نابليون أمره بجمع جيش والسير إلى الحرب، ولقد ألفنا بهذه الطريقة في النظر إلى الأمور حتى درجة بعيدة، بحيث إن مسألة معرفة لماذا ينطلق ستمائة ألف رجل إلى الحرب بكلمة واحدة من نابليون تلوح لنا سخيفة لا معنى لها، لقد كان يتربع على سدة السلطة فتنفذت أوامره.
وهذا التفسير يرضينا تماما إذا كنا نؤمن بأن نابليون يستمد سلطانه من الألوهية، ولكنه لا يرضينا حين نرفض أن نصدق ذلك، فيصير عندئذ من الضروري تحديد طبيعة هذه السلطة التي يملكها رجل واحد على الآخرين جميعا.
ولا يمكن أن تكون هذه السلطة هي السلطة المباشرة الناشئة عن التفوق الحكمي الذي يكون لكائن قوي على كائن ضعيف، وهو تفوق يعتمد على استخدام القوة الحكمية أو التهديد باستخدامها وتلك هي سلطة هرقل، وكذلك لا يمكن أن تقوم على التفوق الأخلاقي كما يعتقد ذلك بسذاجة بعض المؤرخين الذين يؤكدون أن صنعية التاريخ هم أبطال، يعني رجالا يتحلون بقوة أخلاقية وذهنية استثنائية تدعى العبقرية. هذه السلطة لا يمكن أن تقوم على تفوق القوة الأخلاقية، لأنه إذا تركنا جانبا العباقرة الأبطال من طراز نابليون الذين يحكم على صفاتهم الأخلاقية بصورة مختلفة، فالتاريخ يبرهن لنا أن أمثال لويس الرابع عشر ومترنيخ، الذين كانوا يحركون ملايين البشر، ما كانوا يملكون ما يؤلف القوة الأخلاقية بالمعنى الصحيح، بل كان معظمهم على العكس من ذلك أضعف أخلاقيا من كل واحد من تلك الجماهير التي كانوا يحكمونها. فإذا كان مصدر السلطة لا يقوم في الصفات الحكمية للمرء الذي يملك السلطة ولا في صفاته الأخلاقية، فلا بد أن يكون قائما من دون ريب خارجا عنه، يعني في علاقته بالجماهير التي يمارس سلطته عليها.
هكذا يرى إلى الأمور علم الحقوق هذا المصرف للتاريخ، الذي يعد باستبدال التفهم التاريخي للسلطة بالذهب الخالص.
إن السلطة هي مجموع إرادات الجماهير الممنوحة للأشخاص المختارين من قبل الجماهير باتفاق علني أو ضمني. كل هذا واضح في ميدان علم الحقوق، هذا العلم المصنوع من اعتبارات عن كيفية وجوب تنظيم الدولة والسلطة، إذ في حال تمكننا من فعل ذلك. ولكن هذا التعريف للسلطة يتطلب إيضاحا إذا كنا سنطبقه على التاريخ.
إن عالم الحقوق ينظر إلى الدولة والسلطة كما كان القدماء ينظرون إلى النار، يعني بصفتها شيئا قائما في ذاته. أما بالنسبة إلى التاريخ فالدولة والسلطة هما على العكس ظاهرتان بكل بساطة، تماما كما أن النار بالنسبة إلى فيزياء ليست هي عنصرا بل مجرد ظاهرة.
وينتج عن هذا الخلاف الأساسي في وجهات النظر بين التاريخ وعلم الحقوق أن علم الحقوق يستطيع أن يتحدث ما شاء عن الأسلوب الذي ينبغي اتباعه في تنظيم السلطة، وعن طبيعة هذه السلطة المعتبرة ثابتة خارج الزمان، لكنه يعجز عن تقديم جواب عن المسائل التي يثيرها التاريخ المتعلقة بمعنى هذه السلطة التي يبدل الزمان في أشكالها.
فإذا كانت السلطة تمثل مجموع إرادات الجماهير الممنوحة لحاكم معين ، فهل يكون بوغاتشيف ممثل إرادة الجماهير؟ وإذا لم يكن كذلك فلم يكون نابليون هذا الممثل إذن؟ وكم كان نابليون الثالث الموقوف في بولون مجرما؟ وكم صار المجرمون فيما بعد هم الذين أوقفوا بأمره؟
وفي ثورات البلاط، التي يقوم بها شخصان أو ثلاثة أشخاص، هل تمنح الإرادة الشعبية أيضا للمختار الجديد؟ وفي النزاعات الدولية هل تمنح إرادة جماهير شعب ما إلى ذاك الذي غزا هذا الشعب؟ وفي عام 1808 هل منحت إرادة عصبة الدين إلى نابليون؟ وهل منحت إليه إرادة الجماهير الروسية عام 1809 بينما كانت جيوشنا المخالفة لفرنسا تسير إلى قتال النمسا؟
يمكننا أن نجيب بثلاث طرق عن هذه الأسئلة: (1)
إما أن نقبل بأن إرادة الجماهير تتجه دائما دون أي شرط إلى ذاك أو إلى أولئك الذين تختارهم، وبالتالي فإن كل تدخل لسلطة جديدة وكل نضال ضد السلطة الممنوحة من الشعب يجب أن يعتبر عدوانا على السلطة الحقيقية. (2)
وإما أن نقبل بأن إرادة الجماهير تعطى للحكام في بعض الشروط المعينة والمعروفة، وفي هذه الحال فإن كل تحديد أو نزاع أو حتى تدمير للسلطة القائمة ينشأ عن كون الحكام لم ينفذوا الشروط التي منحت السلطة لهم بموجبها. (3)
وإما يجب أن نقبل بأن إرادة الجماهير تمنح للحكام بصورة مشروطة تبعا لعقود مجهولة غير محددة، وأن تدخلات السلطات الأخرى وصراعها وانهيارها لا تنشأ إلا عن مبالغة أو تقصير من قبل الحكام في تنفيذ هذه الشروط المجهولة، التي تنتقل إرادات الجماهير تبعا لها من شخص إلى آخر.
ويفسر المؤرخون علاقات الجماهير بالحكام بهذه الطريقة الثلاثية الجوانب.
وإن المؤرخين الذين لا يفهمون في سذاجتهم مشكلة السلطة، هؤلاء المؤلفون للسير المذكورة آنفا هم وحدهم الذين يقبلون في ما يبدو بأن مجموع إرادات الجماهير تمنح لبعض الأشخاص دون أي شرط، ولذا فإنهم حين يضعون سلطة ما يجعلون منها شيئا حقيقيا ومطلقا، لا يكون أية سلطة مناهضة سلطة حقيقية حيالها، بل تهجما واعتداء على السلطة ليس غير.
وتوافق نظرياتهم العصور البدائية المسالمة من التاريخ، لكنها حين تطبق على العصور حيث تعقدت حياة الشعوب واضطربت، وحيث تقوم في وقت واحد سلطات متعددة تقاتل بعضها بعضا؛ فإنها تبدي السيئة التالية: إن مؤرخا ملكيا يبرهن إذن أن الجمعية التأسيسية وحكومة الإدارة وبونابرت هم جميعا مغتصبون للسلطة، بينما يبرهن مؤرخ جمهوري وآخر بونابرتي أن الجمعية التأسيسية بالنسبة إلى الأول والإمبراطورية بالنسبة إلى الثاني هما السلطة الحقيقية، وكل شيء آخر لا يعدو كونه اعتداء على السلطة. ومن الواضح أن التفسيرات المقدمة من قبل هؤلاء المؤرخين لا يمكن أن تصلح بمثل تلك التناقضات سوى لأطفال صغار العمر.
ولكن نوعا آخر من المؤرخين الذين يعترفون بخطل هذا الرأي يزعمون أن السلطة تعتمد على تسليم مجموع إرادات الجماهير للحكام بصورة مشروطة، وهكذا لا تملك أية شخصية تاريخية السلطة إلا بقدر ما تنفذ البرنامج الذي أملته إرادة الجماهير عليها ضمنا. بيد أن هؤلاء المؤرخين لا يقولون في أي شيء يقوم ذلك البرنامج، أو إذا تحدثوا عنه فكي يناقضوا بعضهم بعضا بصورة أبدية.
ويوافق هذا البرنامج عند كل مؤرخ وجهة نظره عن غاية حركة شعب ما على صورة العظمة، والثروة، والحرية، وثقافة المواطنين في فرنسا أو في دولة أخرى. ولكننا إذا غضضنا النظر بعد الآن عن التناقضات التي يقع فيها المؤرخون في موضوع طبيعة هذا البرنامج، وحتى إذا قبلنا بأن ثمة برنامجا مشتركا بينهم جميعا؛ فالوقائع التاريخية تناقض مع ذلك هذه النظرية بصورة دائمة تقريبا، فإذا كانت الشروط التي تمنح السلطة بموجبها تقوم في الثروة والحرية وتطور الشعب، فكم كان حكم أمثال لويس الرابع عشر وشارل الأول؟ ويجيب المؤرخون عن هذا السؤال بأن أفعال لويس الرابع عشر التي كانت منافية للبرنامج قد وقعت نتائجها على لويس السادس عشر. ولكن لماذا لم تقع نتائجها على لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر نفسيهما؟ ولماذا وقعت بالضبط على لويس السادس عشر؟ وأخيرا ما هي مدة هذا الانعكاس؟ ليس هناك ولا يمكن أن يكون أجوبة عن هذه الأسئلة. وكذلك فإنهم يسيئون في هذه النظرية تفسير السبب الذي تظل السلطة من أجله طوال قرون عديدة بين أيدي الحكام وخلفائهم، ثم تنتقل بعدئذ بصورة مباغتة خلال خمسين عاما إلى الجمعية التأسيسية، وحكومة الإدارة، ونابليون، وألكسندر، ولويس الثامن عشر، ونابليون، وشارل العاشر، ولويس فيليب، وجمهورية 1848، ونابليون الثالث. وفي سبيل تفسير هذه الانتقالات السريعة للسلطة في ملء المضاعفات الدولية والغزوات والأحلاف، فلا بد لنفس المؤرخين من الاعتراف رغما عنهم بأن جزءا من هذه الأحداث ليست مسببة عن التحويل المنتظم لإرادة الجماهير، بل عن الصدفة التابعة تارة لخداع، وتارة للأخطاء، أو ضعف دبلوماسي معين، أو ملك، أو رئيس حزب. وهكذا فإن معظم الأحداث التاريخية من حروب أهلية وثورات وغزوات؛ لم تعد بعد الآن في نظر هؤلاء المؤرخين نتاج تحويل إرادات حرة، بل بالأحرى نتاج الإدارة الموجهة بصورة مغلوطة لفرد واحد أو عدة أفراد، يعني مرة أخرى نتاج اعتداءات على السلطة، وبالتالي فإن الأحداث التاريخية تقدم من قبل المؤرخين من هذا النوع على اعتبارها نقضا ومخالفة للنظرية.
هؤلاء المؤرخون أشبه ما يكونون بعالم نباتي يدعي بعدما شاهد بعض النباتات تنمو بفلقتين، أن كل ما ينبت لا ينمو إلا بفلقتين، وأن شجرة النخيل والفطر والسنديانة أيضا التي بلغت نموها الكامل وهي لا تظهر لنا الفلقتين البدئيتين ليست سوى استثناءات للقاعدة العامة.
ويزعم المؤرخون من المقولة الثالثة أن إرادة الجماهير تتجه بصورة مشروطة إلى شخصية تاريخية، بيد أن شروط هذا الاتجاه مجهولة منا، ويقولون إن الشخصيات التاريخية لا تتمتع بالسلطة إلا بقدر ما تنفذ الإرادة التي ألقتها الجماهير على عاتقها.
وفي هذه الحال إذا كانت القوة التي تحرك شعبا ما تقوم لا في الشخصية التاريخية بل في الشعب نفسه، فما هو معنى هذه الشخصيات إذن؟
ويقول المؤرخون إنهم يعبرون عن إرادة الجماهير، وفعاليتهم تفيد في تمثيل فعالية الجماهير.
ولكن سؤالا جديدا يطرح إذن: هل تعبر سائر أفعال الشخصيات التاريخية عن إرادة الجماهير، أو عن أحد مظاهر الإرادة فقط؟ فإذا كانت جميع أفعال الشخصيات التاريخية تعبر عن إرادة الجماهير كما يعتقد البعض، فسيرة نابليون وكاتيرين الثانية بسائر تفاصيلها المستمرة من إشاعات البلاطات وثرثرتها تمثل إذن نفس حياة الشعوب، وهذا سخف واضح. فإذا كانت فعالية الشخصيات التاريخية لا تمثل إذن سوى مظهر واحد من حياة الشعوب، كما يقول ذلك بعض المؤرخين الآخرين المزعومين فلاسفة؛ فالقضية هي تعين ماهية هذا المظهر، وعندئذ يصير من الضرورة أن نعرف في ما تقوم حياة الشعوب.
وحيال هذه الصعوبة تخيل المؤرخون من المقولة الثالثة التجريد الأشد غموضا والتباسا وشمولا، الذي نستطيع أن نضع أكبر عدد من الوقائع تحت جناحه، وهم يقولون إن هذا التجريد هو هدف حركة الإنسانية، وإن التجريدات الأكثر عمومية وانتشارا والمقبولة من سائر المؤرخين تقريبا هي التالية: الحرية، المساواة، التطور، التقدم، المدنية، الثقافة. ويستدير المؤرخون بعد أن يعينوا أحد هذه المجردات كهدف لحركة الإنسانية إلى الشخصيات الذين تركوا خلفهم أكبر عدد من الذكريات، من ملوك ووزراء وجنرالات ومؤلفين ومصلحين وبابوات وصحفيين، لكن بقدر ما يلوح لهم أن هؤلاء الشخصيات قد عملوا من أجل هذه المجردات أو ضدها. ولما لم يكن ثمة برهان على أن الأهداف التي تنمو صوبها الإنسانية هي الحرية والمساواة والتطور أو المدنية، ولما لم يكن للرابطة بين الجماهير والحكام والمصلحين أساس سوى الفرضية الاعتباطية القائلة إن مجموع إرادات الجماهير تنصب دائما على الشخصيات الشهيرة؛ فإن فعالية ملايين البشر الذين يهاجرون، ويحرقون المنازل، ويتركون الأرض بائرة، ويفنون بعضهم بعضا، لا يؤتى حتى على ذكرها في وصف أفعال عشر شخصيات يحرقون المنازل ولم يعنوا بالزراعة، يقتلون أشباههم.
ويقدم لنا التاريخ برهان ذلك لدى كل خطوة، وهل يفسر غليان الشعوب الغربية في أواخر القرن الأخير ومطامحهم المتجهة نحو الشرق بنشاط لويس الرابع عشر، ولويس الخامس عشر، ولويس السادس عشر، وعشيقاتهم ووزرائهم، وبحياة نابليون، وروسو، وديدرو، وبومارشيه، وسواهم؟
وهل تفسر حركة الشعب الروسي نحو الشرق، نحو قازان وسيبريا، بتفاصيل الخلق المرضي لإيفان الرابع وبمراسلاته مع كوريسكي؟
وهل تفسر هجرات زمن الحروب الصليبية بسيرة غودفروا دي بويون والقديس لويس وزوجتيهما؟ إن هذه الحركة التي قامت الجماهير بها من الغرب نحو الشرق دون هدف محدد ودون زعماء جديرين، لعصابة من الحفاة، مع بطرس الناسك؛ تظل عصية على الإدراك بالنسبة إلينا. وإن توقف هذه الحركة بعدما أعطى كبار ذلك العصر هدفا عقلانيا ومقدسا للحروب الصليبية، وهو إنقاذ أورشليم، لأشد امتناعا عن الفهم. إن البابوات والملوك والفرسان قد استحثوا الشعوب إلى تحرير أماكن مقدسة، بيد أن الشعب لم يتحرك، إما تلاشى السبب المجهول الذي حمله قبلا على الحركة. إن تاريخ أشباه غودفروا والشعراء الجوالين لا يمكن أن يحتوي كل حياة الشعوب، إن تاريخ أشباه غودفروا والشعراء الجوالين يظل تاريخهم الخاص، بينا تاريخ حياة الشعوب ودوافعهم يظل مجهولا.
وتاريخ الكتاب والمصلحين أيضا أقل منه إيضاحا لحياة الشعوب.
بيد أن تاريخ الحضارة يفسر لنا، مع ذلك، دوافع كاتب أو مصلح وشروط حياته وأفكاره. نحن نعرف أن لوثر كان غضوب الطبيعة، وقد ألقى هذا الخطاب وذاك، ونحن نعرف أن روسو كان متشككا، وأنه كتب هذه الكتب وتلك، بيد أننا لا نعرف السبب الذي جعل الشعوب تتذابح بعد الإصلاح، ولماذا حكم الناس بالإعدام على بعضهم البعض زمن الثورة الفرنسية.
وإذا ما جمعنا هذين النوعين من التاريخ معا، كما يفعل ذلك المؤرخون المحدثون، فإننا لن نحصل أيضا سوى على تاريخ الملوك والكتاب وليس تاريخ حياة الشعوب.
الفصل الخامس
الشعوب والشخصيات
إن حياة الشعوب غير منطوية في حياة بعض الشخصيات، ما دمنا لم نجد الرابطة التي تربط هذه الشخصيات القليلة وتلك الشعوب، وليست النظرية التي تقول إن هذا الرباط يقوم في وقف مجموع إرادات الجماهير على شخصية معينة سوى فرضية لا تؤيدها الحقائق مطلقا.
ومما لا ريب فيه أن في مكنة هذه النظرية تفسير أشياء كثيرة في ميدان علم الحقوق، كما أنها ضرورية من دون شك في سبيل غايتها المخصوصة، لكننا إذا طبقناها على التاريخ فلا يكاد تحدث ثورة أو غزوة أو حرب أهلية، يعني لا يكاد التاريخ يبدأ، حتى تصير هذه النظرية عاجزة عن تفسير أي شيء البتة.
ومهما يكن الحادث، ومهما تكن الشخصية القائمة على رأس هذا الحادث، ففي قدرة هذه النظرية أن تنزع دائما إلى أن تلك الشخصية إنما وضعت في ذلك المكان بمجموع الإرادات الموقوفة عليها.
والأجوبة التي تعطيها هذه النظرية عن القضايا التاريخية أشبه ما تكون بأجوبة امرئ يرى قطيعا من الغنم أثناء مسيره، فلا يأخذ بعين الاعتبار صفة الكلأ المغايرة في مختلف مناطق الرعي، أو فعالية الراعي نفسه، فلا يعنى، كي يعير هذا أو ذاك من الاتجاهات التي يسلكها القطيع، سوى بالحيوان السائر في الطليعة. «إن القطيع يذهب في هذا الاتجاه، لأن الحيوان السائر في المقدمة يقوده، ولأن مجموع إرادات سائر الحيوانات الباقية قد أحيل إليه»، هكذا يعفى المؤرخون من المقولة الأولى الذين يقبلون بالتحويل غير المشروط للسلطان. «إذ كانت الحيوانات السائرة في الطليعة تتغير، فلأن مجموع إرادة القطيع كله من قائد إلى آخر حسب مقدرة هذا القائد على قيادة القطيع بصورة أفضل أو أسوأ في الاتجاه الذي اختار أداءه بمجموعهم»، هكذا بعض المؤرخين الذين يزعمون أن مجموع إرادات الجماهير الحكام تبعا لشروط غير معلومة، وغالبا ما يحدث للمتفرج في مثل هذه الحال أن يتخذ أدلاء له تبعا للاتجاه الذي اختاره أولئك الذين يقومون، منذ حدوث تبدل في الاتجاه الذي يتبعه الجمهور، على جانب القطيع بدلا أن يكونوا في طليعته، أو يكونوا في مؤخرته في الأحايين. «إذا كانت الحيوانات السائرة في الطليعة تتبدل باستمرار، وإذا كان الاتجاه الذي يتبعه القطيع يتبدل أيضا، فذلك ناشئ عن كون الحيوانات كي تبلغ هذا الاتجاه المعروف من قبلنا تضع إراداتها تحت تصرف أولئك الذين نميزهم بين الآخرين. وبالتالي لا بد لنا كي ندرس حركة القطيع أن نراقب سائر هذه الحيوانات التي نميزها، والتي تسير على جوانب القطيع المختلفة»، هكذا يصرح المؤرخون من المقولة الثالثة الذين ينظرون إلى سائر الشخصيات التاريخية، منذ الملوك حتى الصحفيين، على اعتبارهم تعبيرا عن زمنهم.
إن نظرية وقف إرادة الجماهير على شخصية تاريخية ليست أكثر من اجترار لنفس الكلمات، ليست سوى التعبير عن جوانب المسألة نفسها بكلمات أخرى.
ما هي أسباب الحوادث التاريخية؟ السلطة، ما هي السلطة؟ مجموع الإرادات المنقولة إلى شخص واحد، بأية شروط يحدث هذا النقل؟ بشرط أن يعبر الشخص المنتخب عن إرادة الجميع. وبكلام آخر فالسلطة هي السلطة، وبمعنى آخر فالسلطة كلمة لا ندرك معناها. •••
لو كان ميدان العلم البشري ينحصر بالفكر المجرد وحده، فقد كانت الإنسانية تتوصل، بعدما يخضع للنقد تفسير السلطة المعطاة من قبل العالم، إلى هذه النتيجة، ألا وهي أن السلطة ليست أكثر من مجرد كلمة، وهي غير موجودة في الحقيقة. بيد أن الإنسان يملك في سبيل معرفة الظواهر أداة أخرى غير الفكر المجرد، وهي التجربة التي يراقب بواسطتها محاكماته التجريدية، وإن التجربة لتثبت أن السلطة ليست كلمة بل حقيقة.
وإذا تركنا جانبا أنه ليس ثمة وصف لفعالية البشر الجماعية يستطيع الاستغناء عن تعريف للسلطة، فإن وجود السلطة يثبته التاريخ ومشاهدة الأحداث المعاهدة على السواء.
وكلما وقع حادث ما نرى ظهور شخص أو عدة أشخاص يتم هذا الحادث بفضل إرادتهم: إن نابليون الثالث يصدر أمره فينطلق الفرنسيون إلى المكسيك. إن ملك روسيا وبسمارك يصدران أمرهما فتسير جيوشهما على بوهيميا. إن نابليون الأول يأمر وتسير جيوشه على روسيا. إن ألكسندر الأول يأمر ويخضع الفرنسيون للبوربونيين. إن التجربة تبين لنا أن أي حادث كان مرتبطا بإرادة شخص أو عدة أشخاص قد أمروا به.
ويريد المؤرخون بفضل ما اعتادوه قديما من مشاهدة تدخل الله في قضايا العالم أن يقوم سبب كل حادث في إرادة شخص يتمتع بالسلطة، بيد أن هذا الاستنتاج لا تؤكده المحاكمة العقلية ولا التجربة العملية.
فمن جهة تبرهن المحاكمة أن التعبير عن إرادة الإنسان - أي كلامه - ليس سوى جزء من الفعالية الكلية المتظاهرة في حادث ما، الحرب مثلا، أو الثورة أيضا، وبالتالي فإذا لم نعترف بوجود قوة مجهولة فوق طبيعية، يعني بوجود المعجزة، فمن المستحيل القبول بأن الكلمات وحدها يمكن أن تكون سبب تحرك ملايين الناس. ومن جهة أخرى فالتاريخ يبرهن، حتى إذا قبلنا ذلك، أن التعبير عن إرادة الشخصيات التاريخية لا يؤدي في معظم الحالات إلى أية نتيجة، يعني أن أوامرهم لا تظل دون تنفيذ فحسب، بل إن عكس ما أمروا به يحدث في بعض الأحيان.
فإذا لم نقبل بالتدخل الإلهي في القضايا البشرية، فإننا لا نستطيع أن نرى إلى السلطة على أنها سبب للحوادث.
فالسلطة، من وجهة نظر التجربة، ليست سوى علاقة التبعية القائمة بين الإرادة المعبر عنها لإنسان ما، وتحقيق هذه الإرادة من قبل أناس آخرين .
وكي نفسر شروط هذه التبعية ينبغي بادئ ذي بدء أن نرجع مفهوم الإرادة المعبر عنها لا إلى الله بل إلى إنسان ما.
فإذا كانت الألوهية، كما يقول لنا القدماء، تصدر الأوامر وتعبر عن إرادتها، فتعبير هذه الإرادة غير تابع للزمان، وغير مسبب عن أي شيء كان، ما دامت الألوهية لا تملك أية علاقة بالحوادث. أما فيما يتعلق بالأوامر المعبرة عن إرادة بشر يتحركون في الزمان ويتمثلون ببعضهم بعضا، فينبغي لنا كي نفسر العلاقة الموجودة بين الأوامر والحوادث أن نبين: (1) الشرط الضروري لكل ما يقع، ألا وهو اتصال الحركة في الزمان والحوادث وأوامر الشخصية المعينة. (2) الشرط الضروري لوجود رابطة بين من يصدر الأمر والذين ينفذونه.
الفصل السادس
القيادة والتنفيذ
إن إرادة ألوهية مستقلة عن الزمان تستطيع وحدها أن تؤثر في سلسلة من الأحداث لا بد من وقوعها خلال بضع سنوات أو بضعة قرون، إن الألوهية وحدها تستطيع بإرادتها غير المشروطة أن تحدد اتجاه مسير الإنسانية، أما الإنسان فيفعل على العكس من ذلك في الزمان، ويشارك بنفسه في الأحداث.
وإما حققنا هذا الشرط الأول المهمل عادة، شرط الزمان، فسوف نرى أنه لا يمكن تنفيذ أي أمر كان ما لم يسبقه أمر آخر يسمح بتنفيذه.
أبدا لا يظهر الأمر بتوالد عفوي، أو يحتوي في ذاته سلسلة كاملة من الأحداث، كل أمر ينشأ بالضرورة عن أمر آخر، وتكون علاقته لا بسلسلة كاملة من الأحداث بل بلحظة وحيدة في حادث واحد فقط.
فعندما نقول، مثلا، إن نابليون أرسل جيوشه إلى الحرب، فإنا نرجع إلى أمر وحيد، يلفظ في لحظة معينة من الزمان سلسلة من الأوامر المتتابعة المترابطة. ما كان في مكنة نابليون أن يأمر بالحملة على روسيا، وهو لم يفعل ذلك قط، لقد أمر ذات يوم بإرسال هذه الأوراق أو تلك إلى فينا وبرلين وبيترسبورج، وأمر في الغداة بإرسال هذه المراسيم والمعلومات أو تلك إلى الجيش، والأسطول، ومركز الإدارة، وهلم جرا. إذن فهو قد أصدر آلاف الأوامر المتعلقة بتلك الحلقة من الحوادث التي قادت الجيش الفرنسي إلى روسيا.
وإذا كان نابليون لم يكف، طوال فترة حكمه، عن إصدار الأوامر المستهدفة الحملة على إنكلترا، وبذل في ذلك من الجهد أكثر مما بذل في سبيل أي من مشاريعه الأخرى، وإذا لم يجرب مرة واحدة رغم ذلك كله أن يحقق مشروعه، بل انهمك في حملته على روسيا التي كانت محالفتها، كما أكد مرات عديدة؛ تعود عليه بالفائدة الجمة، فمنشأ ذلك أن أوامره الأولى لم تكن تتجاوب مع سلسلة من الحوادث، بينما كانت الأوامر التالية تتجاوب معها.
فالأمر لا يمكن أن يوضع موضع التنفيذ ما لم يكن صادرا بصورة يمكن تنفيذه معها، وإن معرفة ما كان يمكن وما كان لا يمكن تنفيذه هو الشيء المستحيل، لا فقط بالنسبة إلى حملة نابليون على روسيا حيث يساهم ملايين البشر، بل كذلك بالنسبة إلى أبسط حدث، لأن تنفيذ الأمر يمكن أن يصدم في كلتا الحالتين بملايين العقبات. وإنا لنجد مقابل كل أمر تم تنفيذه عددا من الأوامر الأخرى التي لم تنفذ، فالأوامر المستحيلة لا علاقة لها البتة مع الحوادث ولا يمكن إنجازها، والأوامر القابلة للتنفيذ هي وحدها التي ترتبط بسلاسل من الأوامر الموافقة لسلاسل من الأحداث، وإنها لتنفذ.
فإذا ما تخيلنا بصورة خاطئة أن الأمر السابق لحادث ما هو سبب هذا الحادث، فمنشأ ذلك أننا ننسى وقوع الحادث وحقيقة تنفيذ الأوامر التي كانت ذات علاقة به من بين آلاف الأوامر الصادرة، تلك الأوامر التي لم تنفذ لأنه لم يكن في الإمكان تنفيذها، وفي ما عدا ذلك فالمصدر الرئيسي لضلالنا هو أن سلسلة لا حصر لها من الوقائع التافهة، ومثالها كل ما جر الجيوش الفرنسية إلى روسيا، يذوب في العرض التاريخي للحقائق في حدث وحيد تبعا لنتيجة تلك السلسلة من الوقائع، وبالتالي فإننا نصهر، بصورة متفقة مع ذلك الذوبان، سلسلة كاملة من الأوامر في أمر واحد يعبر عن إرادة الزعيم.
إننا نقول: لقد أراد نابليون الحملة على روسيا وحققها. وفي الحقيقة أننا لا نجد في أي كان من نشاطه شيئا يشبه التعبير عن هذه الإرادة، إننا نرى فقط سلسلة من الأوامر أو في تعبير إرادته موجهة بصورة على أشد ما تكون من التنوع والالتباس، ولقد استخرج من السلسلة اللامتناهية لأوامر نابليون غير المنفذة سلسلة من الأوامر القابلة للتنفيذ المتعلقة بحملة عام 1812، ليس لأن هذه الأوامر الأخيرة تتميز في أي شيء كان على الأوامر السابقة، بل لأن هذه السلسلة في الأوامر تتطابق مع سلسلة الوقائع التي قادت الفرنسيين إلى روسيا. وتلك هي الحال بالضبط حين تصور شخصا بالاستناد إلى أصل مرسوم، فنحن لا نعنى إذن كيف ومن أي جانب تنطبق الألوان، بل نمر فقط اللون على سائر ملامح الوجه الذي يصوره ذلك الأصل.
وهكذا، فعندما نأخذ بعين الاعتبار، في زمن معين، العلاقات بين الأمر والحادث، فإننا نرى أن الأمر لا يمكن في حال من الأحوال أن يكون سبب الحادث، بل إن ثمة علاقة محددة بينهما.
وكيما نفهم جوهر هذه العلاقة، فلا بد لنا من تحقيق الشرط الثاني الذي سكتنا عنه حتى الآن الخاص بكل أمر صادر لا عن الألوهية بل عن الإنسان، والقائم في أن الإنسان الذي يصدر الأمر يساهم هو نفسه في الحادث.
وإن هذه العلاقة بين الآمر والمنفذ هي بالضبط ما نسميه السلطة، وهذه العلاقة تقوم في ما يلي:
إن البشر كي يعملوا بصورة مشتركة يتحدون على الدوام في جماعات، تظل فيها العلاقة بين البشر الذين يساهمون في الفعل واحدة، وذلك بالرغم من الفارق القائم بين الهدف المطلوب والعمل الجماعي.
وإما يتحد البشر هكذا فهم على الدوام تربطهم العلاقة التالية: إن العدد الأكبر يقوم بالنصيب الأكبر المباشر، والأقلية الزهيدة تقوم بالنصيب الأصغر في العمل الجماعي الذي اتحدوا من أجله.
وفي عداد هذه التجمعات حيث يلتقي البشر في سبيل إنجاز أفعال مشتركة، نرى أن الجيش هو في أوضحها وأكثرها تحديدا.
فالجيش يتشكل بادئ الأمر من أحط العناصر في التراتب العسكري الجنود الذين هم العدد الأكبر به، ومن ثم من أولئك الذين يلحقون بهم في هذا التراتب الجنود الأولون، والعرفاء، وصف الضباط الذين عددهم أقل من ذلك، حتى القيادة العليا المركزة في فرد وحيد.
ويمكن تشبيه التنظيم العسكري بمخروط يشكل الجنود قاعدته، والضباط المقاطع المسطحة منه المتناقصة بقدر ما ترتفع نحو القمة، التي رأسها هو القائد العام.
فالجنود الذين هم الغالبية العظمى يشكلون إذن القسم الأسفل قاعدة المخروط، وإنه الجندي الذي يضرب ويطعن ويحرق ويسلب، وهو يتلقى الأمر بذلك من رؤسائه دوما، بينما هو نفسه لا يصدر الأوامر قط. وإن صف الضباط، وهم أقل عددا، لا يقومون بنفس العمل إلا في حالات أندر، لكنهم يأمرون قليلا، أما الضابط فيساهم في الفعل بنصيب أقل من ذلك، ويصدر الأوامر أكثر فأكثر. ولا يفعل الجنرال سوى قيادة مسير القوى المسلحة نحو هدف يبينه لها، لكنه يكاد لا يلمس السلاح مطلقا، أما القائد العام فإنه لا يستطيع مطلقا أن يساهم في الفعل مباشرة، بل يكتفي بأن يصدر الأوامر باتخاذ التدابير الضرورية المتعلقة بالحركة الكتلية للجيوش. وإن الصلة نفسها بين الأفراد تتكرر في كل جماعية تجمعت مستهدفة فعلا مشتركا، أكان ذلك في ميدان الزراعة أم التجارة أم أي مشروع آخر. وهكذا، من دون أن نضاعف بصورة مصطنعة مقاطع المخروط أو رتب الجيش أو ألقاب ومراكز دائرة ما أو أية منظمة عامة؛ نرى أن ثمة قانونا ينبثق من ذلك كله ينص على إيجاد العلاقات بين مراكز الرجال المعينين لإنجاز عمل مشترك، بحيث ينقص اشتراكهم في القيادة بقدر ما يزداد عددهم ومساهمتهم المباشرة في هذا العمل. وبالمقابل، فبقدر ما ينقص نصيبهم من العمل المباشر ينقص عددهم ويتضاعف اشتراكهم في العمل القيادي، وهكذا بحيث نرتفع من الأسفل إلى الأعلى حتى شخصية وحيدة وأخيرة توجه، رغم أن نصيبها في العمل المشترك هو أقل من نصيب أي شخص آخر، نشاطها نحو القيادة أكثر من الآخرين جميعا.
وإن العلاقة بين الشخص الذي يقود وأولئك الذين يخضعون للقيادة هي التي تشكل جوهر المفهوم المسمى سلطة.
ونحن لم نكتشف أن الأمر لا ينفذ إلا عندما يرتبط بالسلسلة الموافقة في الوقائع سوى بتحقيق شروط الزمان التي تتم الأحداث فيها. ولقد اكتشفنا بتحقيقنا لذلك الشرط الذي ينص على ضرورة وجود رباط بين من يأمر ومن ينفذ، أن أولئك الذين يصدرون الأوامر يكون لهم النصيب الأدنى تبعا لماهيتهم نفسها في الحادث بمعناه الصحيح، وأن نشاطهم موجه نحو القيادة وحدها من دون أي شيء آخر.
الفصل السابع
تغطية المسئولية الأخلاقية
عندما يلوح حدث ما في الأفق فكل امرئ يقدم إذن رأيه الخاص، ولا بد دائما أن يوجد شخص يقترب رأيه أكثر أو أقل من الحقيقة، بحيث يرتبط الرأي بالحادث في ذهننا ارتباط السبب بالمسبب.
هؤلاء رجال يجرون كتلة من الخشب، إن كل واحد منهم يعطي رأيه عن كيفية جرها، والمكان الذي يجب أن توضع فيه، وينتهي الرجال من جر الكتلة فيتبين أن الشيء قد تحقق تبعا لأقوال واحد من عدادهم، ويفكرون أن هذا الرجل هو الذي قام بدور القيادة. وإليكم الأمر والسلطة حسب شكلهما البدائي: إن من اشتغل بيديه أكثر من الجميع كان أقلهم تفكيرا في ما يصنع، وبالتالي كان أقلهم تفكيرا أيضا في ما يمكن أن ينتج عن الفعالية المشتركة وفي الأوامر التي يجب إصدارها. أما الذي قام بدور القيادة أكثر من سواه فقد انحصر فعله في الكلام، وهو بالتالي كان أقوى الجميع عملا بيديه.
وبقدر ما يعظم تجمع الناس الذين يوجهون فعلهم نحو هدف واحد، فإن مقولات الرجال الذين تنقص مساهمتهم في العمل العام بمقدار ما يكون نشاطهم موجها نحو القيادة، تزداد هذه وضوحا.
إن الإنسان حين يعمل لوحده يملك على الدوام عددا من الأسباب وجهت في اعتقاده نشاطه السابق، وهي تبرر نشاطه الراهن وتوجهه في اختيار أفعاله المقبلة. وإن الجماعيات لتفعل بالصورة عينها إذ تترك لغير المساهمين في الفعل أمر تخيل الاعتبارات والمبررات والفرضيات المتعلقة بعملهم المشترك.
لقد أخذ الفرنسيون يغرقون بعضهم بعضا أو يتذبحون لأسباب معروفة أو مجهولة منا، وإن هذه الحادث لترافقه مبرراته الخاصة الموجودة في إرادات الفرنسيين الواضحة، هؤلاء الفرنسيين الذين كانوا يعتبرون هذا الحادث ضروريا من أجل سعادة فرنسا ومن أجل الحرية والمساواة، ولا ينتهون من التذابح حتى يترافق هذا الحادث أيضا بمبرراته: ضرورة سلطة وحيدة، وضرورة الصمود في وجه أوروبا ... إلخ، ويسيرون من الغرب في اتجاه الشرق، وهم يتبعون أشباههم. ويترافق هذا الحادث أيضا بخطابات عن عظمة فرنسا وسفالة إنكلترا ... إلخ. ويبين التاريخ أن هذه المبررات كانت خالية من الحس السليم، وأنها تتناقض مثلها مثل قتل الإنسان إثر إعلان حقوق الإنسان ومقتل ملايين الناس في روسيا في سبيل إذلال إنكلترا، بيد أن لهذه المبررات عند الناس المعاصرين مغزى ضروريا.
وإن الغاية منها هي تغطية المسئولية الأخلاقية لمرتكبي هذه الحوادث، فهذه الغايات لأشبه بالمكانس الموضوعة في مقدمة القطارات بغية تنظيف الخط الحديدي، إنها تنظف طريق مسئولية البشر الأخلاقية. وإن أبسط سؤال ليظل من دون هذه المبررات دون جواب لدى تفحص كل حادثة على حدة، كيف يمكن لملايين الناس أن يرتكبوا بصورة مشتركة الجرائم والحروب والمذابح ... إلخ؟
أيمكننا في الأشكال المعقدة للحياة الحديثة، السياسية والاجتماعية، في أوروبا أن نتخيل أية حادثة كانت لم يقدرها سلفا الملوك أو الوزراء أو البرلمانيون أو الصحف، ويأمرون بها ويقررون حدوثها؟ أثمة نشاط جماعي لم يجد تبريره في وحدة الدولة أو الدفاع عن الأمة أو التوازن الأوروبي أو مصلحة الحضارة؟ إن كل حادثة واقعة توافق بالضرورة رغبة تم التعبير عنها، وهي تعتبر في سبيل تبريرها كنتاج لإرادة واحد أو أكثر من هذه الشخصيات.
ومهما يكن اتجاه سفينة ما فإننا نجد على الدوام في مقدمتها دوارا مائيا ناتجا عن الموجة التي تخترقها، وإن هذه الدوامة بالنسبة إلى المسافرين على سطح السفينة هي الحركة الوحيدة المنظورة.
ونحن لا ندرك أن كل حركة من حركات الموجة تحددها حركة السفينة ، وأن ما يوقعنا في الخطأ هو كوننا نتقدم نحن أنفسنا دون أن نلاحظ ذلك، نحن لا ندرك هذا إذن إلا إذا تمعنا عن قرب لحظة إثر لحظة في حركة دوامة المياه وقارنا تجربة السفينة نفسها.
ونصل إلى نفس النتيجة إذا تتبعنا خطوة فخطوة حركات الشخصيات التاريخية، يعني إذا ما حققنا الشرط الضروري لكل ما يجري من حوادث: اتصال الحركة في الزمان، وإذا لم يغب عن أنظارنا الرباط الضروري القائم بين الشخصيات التاريخية والجماهير.
ومهما يكن من أمر فإن الحادث يبدو أنه ذلك الحادث الذي كان متوقعا ومأمورا به مهما يكن اتجاه السفينة، فالدوامة التي تطرطش عند مقدمة السفينة لا توجد حركتها كما أنها لا تقوي هذه الحركة، ومع ذلك فهي تلوح لنا عن بعد لا نابضة بحركة مستقلة فحسب، بل موجهة لحركة السفينة أيضا. •••
إن المؤرخين حين لا يأخذون بعين الاعتبار سوى هذه التعابير عن إرادة الشخصيات التاريخية التي ترتبط بالأحداث على صورة أوامر، قد افترضوا أن الأحداث تابعة لهذه الأوامر. ولكننا حين تفحصنا الحوادث ذاتها والرابطة التي تجمع بين الشخصيات التاريخية والجماهير وجدنا أن هذه الشخصيات، مثلها مثل أوامرها، هي التي تقع في تبعية الحوادث. والبرهان على ذلك أن الحادث لا يقع مهما تكن الأوامر كثيرة متعددة إذا لم يكن ثمة أسباب أخرى، ولكن الحادث مهما يكن لا يكاد يقع حتى نجد بين الإرادات التي عبر عنها شخصيات مختلفة أسبابا يمكن أن تنسب، تبعا لمنحاها وساعة وقوعها، للحادث كأوامر أدت إلى وقوعه.
وإما وصلنا إلى هذه النتيجة فإننا نستطيع أن نجيب بوضوح ويقين عن المشكلتين الأساسيتين للتاريخ: (1)
ما هي السلطة؟ (2)
ما هي القوة التي تحرك الشعوب؟ (1)
إن السلطة تنشأ عن علاقات شخصية معينة بشخصيات أخرى، وإن هذه العلاقات منظمة بحيث إن هذه الشخصية تعبر عن عدد أكبر من الآراء والفرضيات والمبررات المتعلقة بالحادثة الجارية بقدر ما تنقص مساهمتها في العمل المشترك. (2)
إن حركة الجماهير لا تحدثها السلطة ولا الفعالية الفكرية ولا اتحاد فلان أو فلان كما يحسب ذلك المؤرخون ، بل بفعالية سائر الذين يشتركون في الحوادث والذين يتجمعون، بحيث إن الذين يساهمون في الفعل بصورة أشد مباشرة هم أقل الجميع مسئولية، والعكس بالعكس.
ومن وجهة النظر الأخلاقية يبدو أن السلطة هي سبب الحادث، ومن وجهة النظر الحكمية يبدو أن الخاضعين للسلطة هم سبب ذلك الحادث. ولكنه لما كانت كل فعالية أخلاقية مستحيلة بدون فعالية حكمية، فأسباب الحادث لا توجد إلا في اجتماع كلتيهما.
وبتعبير آخر: إن مفهوم السبب لا ينطبق على الظاهرة التي نحن في سبيل تفحصها.
وإننا لنصل في آخر تحليل إلى الدائرة الأبدية إلى هذا الحد الأقصى الذي يبلغه الذهن البشري في ميدان الفكر، إذا لم يكن لاهيا في دراسة موضوعه؛ إن الكهرباء مولدة للحرارة والحرارة تنتج الكهرباء، إن الجواهر الفردة تتجاذب وإن الجواهر الفردة تتدافع.
وحين نتحدث عن التفاعلات المتبادلة بين الكهرباء والحرارة، فإننا لا نستطيع أن نقول أين تنشأان، نحن نقول إذن إن ذلك يحدث على هذه الصورة المعينة لأنه يبدو لنا مستحيلا بأية صورة أخرى، لأن ذلك يجب أن يكون هكذا، لأن هذا قانون مطلق. وكذلك الأمر بالنسبة إلى القضايا التاريخية، فنحن نجهل لماذا توجد هذه الحرب أو تلك الثورة، ولا نعرف سوى أن البشر يتحدون في جماعية يساهم كل منهم فيها كي ينجزوا هذا الفعل أو ذاك، ونحن نقول إن الأمور هكذا، وإن الأشياء غير معقولة بصورة أخرى، وإن ذلك هو القانون.
الفصل الثامن
الحرية الإنسانية
لو كانت علاقة التاريخ منحصرة بالظواهر الخارجية فحسب، فقد كان يكفي طرح هذا القانون في بساطته ووضوحه، وبذلك تنتهي محاضرتنا، بيد أن قانون التاريخ يرتبط بالكائن الإنساني؛ إن ذرة في المادة لا تستطيع أن تقول لنا مطلقا إنها تحس حاجة الانجذاب أو الدفع، وهي لا تستطيع أن تقول لنا أيضا إن هذا القانون مغلوط. أما الإنسان الذي هو غرض التاريخ فيؤكد على العكس بصورة حازمة: إني حر وغير خاضع للقوانين.
وإن هذا الوجود الخفي لقضية الحرية الإنسانية ينبثق أمامنا لدى كل خطوة يخطوها التاريخ.
ولقد انتهى سائر المؤرخين الجديين، بصورة غير إرادية، إلى هذه المشكلة. وما منشأ سائر تناقضات التاريخ وشكوكه، وتلك الطريقة الخاطئة التي يسلكها هذا العالم، سوى من بقاء هذه القضية دون حل.
فإذا كانت إرادة كل من الأفراد حرة، يعني إذا كان في مكنة كل امرئ أن يتصرف بحرية يعني على هواه، فمن الواضح أن فعلا وحيدا حرا يقوم به هذا الشخص بصورة مناقضة للقوانين يقضي قضاء مبرما على إمكانية وجود أية قوانين بالنسبة إلى الإنسانية بأسرها.
وإذا كان ثمة قانون واحد يسير الأفعال البشرية فلا يمكن إذن أن تكون ثمة حرة، لأن إرادة كل امرئ يجب عندئذ أن تكون خاضعة لذلك القانون.
ويطرح هذا التناقض مشكلة حرية الاختيار التي تشغل منذ العصور القديمة أدمغة النخبة دون أن تفقد قط شيئا من أهميتها العظيمة.
وتطرح هذه القضية كما يلي: إما ننظر إلى الإنسان كموضوع للملاحظة من أية وجهة نظر كانت، لاهوتية أم تاريخية أم أخلاقية أم فلسفية، فإننا نجد على الدوام قانون الضرورة المحتوم المشترك بين سائر الكائنات الحية. وإما ننظر إليه على العكس من وجهة نظر تجربتنا الصميمية، من وجهة نظر وجداننا، فإننا نحس الحرية إذن.
فالوجدان هو ينبوع معرفتنا بذاتنا، المنفصلة والمستقلة تماما عن العقل. إن الإنسان يتمكن بفضل العقل أن يراقب نفسه بنفسه إلا بواسطة الوجدان.
وبدون وعي الذات لن يفيدنا شيئا أن نفكر في أية ملاحظة أو أي تطبيق عملي للعقل.
وينبغي للإنسان كي يفهم ويراقب ويستنتج أن يعي نفسه في البدء بصفته كائنا حيا، ولا يعرف الإنسان ذاته كائنا حيا إلا حين يدرك أنه يتحلى بالإرادة، وبتعبير آخر فهو لا يعي سوى إرادته، وهذه الإرادة ماهية حياته لا يمكنه أن يتصورها سوى حرة.
وخلال ملاحظاته عن نفسه إذا أدرك الإنسان أن إرادته موجهة بصورة متصلة نحو نفس الهدف الواحد، أكان هذا الهدف ضرورة إيجاد غذائه أم قيام دماغه بالعمل أم أي شيء آخر، فإنه لا يستطيع أن يفسر ذلك لنفسه سوى كتحديد لإرادته. إن ما ليس هو حر لا يمكن حده، والإنسان يعتبر إرادته محدودة بالضبط لأنه لا يتصورها سوى حرة.
أنت تزعم أنك غير حر، وأنا أستطيع مع ذلك أن أرفع ذراعي وأخفضه، وإن كل امرئ ليفهم أن هذا الجواب غير المنطقي هو برهان على الحرية لا يمكن دحضه، بيد أن هذا الجواب ينشأ عن الوعي غير الخاضع للعقل.
فإذا كان الوعي الذي نملكه عن حريتنا غير مستقل عن عقلنا، فهذا الوعي سيكون إذن خاضعا للعقل وللتجربة، بيد أن مثل هذا الخضوع غير موجود مطلقا في الواقع، بل هو غير معقول البتة.
إن سلسلة من المحاكمات والتجارب تبرهن لكل امرئ أنه خاضع بصفته موضوع الملاحظة لبعض القوانين؛ وأنه ليخضع لها، إنه لا يتمرد أبدا على قانون الجاذبية أو قانون عدم النفوذ عندما يلم بهما مرة. بيد أن هذه السلسلة عينها من التجارب والمحاكمات تبرهن له أن الحرية التامة التي يعيها في ذاته مستحيلة، وأن كلا من أفعاله تابع لعضويته، وخلقه، والمحركات التي تؤثر عليه، ومع ذلك فإنه لا يخضع قط لهذه الاستنتاجات.
إنه يعرف بالتجربة والمحاكمة أن الحجر يسقط، إنه يعتقد ذلك دون تحفظ، وينتظر في مختلف المناسبات أن يجد هذا القانون الذي يعترف به مطبقا.
ولكنه رغم معرفته بمثل ذلك اليقين أن إرادته خاضعة لقوانين، فإنه لا يؤمن بذلك ويرفض أن يؤمن به.
ومهما يكن عدد المرات التي برهنت له فيها التجربة والعقل أنه سيفعل في ذات الشروط ونفس الخلق بالضبط ما قد فعله سابقا، ورغم أنه توصل آلاف المرات عندما يفعل في نفس الشروط ونفس الخلق إلى نتائج متماثلة، فإنه لا يبرح يؤمن دون أدنى ارتياب في حريته في التصرف على هواه، تماما كما كان يؤمن بذلك قبل تجاربه تلك. فكل إنسان، المتوحش والمفكر على السواء، يحس رغم المحاكمة والتجربة اللتين برهنتا له بصورة لا تدحض تماثل أفعاله في الشروط المتماثلة، أنه لا يستطيع دون هذا الإيمان غير المعقول الذي يشكل ماهية حريته أن يتصور الحياة لحظة واحدة. إنه يحس أن ذلك حقيقي مهما يكن نصيبه من المحال، وأنه إذا ما حرم من هذا الاعتقاد في الحرية فلن يكون عاجزا عن فهم الحياة فحسب، بل لن يستطيع أيضا أن يعيش لحظة واحدة.
إنه لا يستطيع أن يعيش لأن كلا من جهود الإنسان وكلا من انطلاقاته لا يستهدفان سوى زيادة حريته. الغنى والفقر، المجد وعدم الشهرة، السلطة والخضوع، القوة والضعف، الصحة والمرض، المعرفة والجهل، العمل والبطالة، الشبع والجوع، الفضيلة والرذيلة؛ ليست هذه الأمور جميعا سوى درجات أكثر أو أقل ارتفاعا من الحرية.
وإن تصور إنسان محروم من الحرية يعني تصوره محروما من الحياة.
وإذا كانت فكرة الحرية لا تخلو من تناقض سخيف بالنسبة إلى العقل، مثلها مثل فكرة إنجاز فعلين في وقت واحد أو فكرة نتيجة دون سبب، فذلك لا يبرهن سوى كون وجداننا غير خاضع لأحكام العقل.
وإن هذا الوعي لحريتنا، هذا الوعي الذي لا يتزعزع ولا يتدمر، غير الخاضع للتجربة أو للمحاكمة، الذي يعترف به سائر المفكرين، ويحسه سائر البشر دون استثناء؛ إن هذا الوعي الذي لا غنى عنه ليفهم الإنسان هو ما يشكل المظهر الآخر من القضية.
إن الإنسان خليقة إله كلي القوة، كلي الطيبة والصلاح، قادر على كل شيء، فما هي الخطيئة إذن هذه التي ينشأ مفهومها عن وعي حرية الإنسان؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه عالم اللاهوت.
إن أفعال الإنسان خاضعة لقوانين عامة لا تتغير قد سجلتها الإحصائيات، ففي أي شيء تقوم إذن مسئولية الإنسان حيال المجتمع التي ينشأ مفهومها عن وعي حريته؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه عالم الحقوق.
إن أفعال الإنسان تنشأ عن صفاته الموروثة، وعن المحركات التي تحمله على الفعل، فما هو الوجدان ومفهوم الخير والشر في الأفعال التي تصدر عن وعي حريته؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه عالم الأخلاق.
إن الإنسان المرتبط بحياة الإنسانية العامة يبدو خاضعا للقوانين التي تسير هذه الحياة، بيد أن الإنسان يظهر بصورة مستقلة عن هذا الرباط كأنه مطلق الحرية. كيف ينبغي لنا أن ننظر إلى الحياة الماضية للشعوب والإنسانية، أهي نتيجة فعالية الناس الحرة أم المقيدة؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه عالم التاريخ.
وإن قضية الإرادة الحرة لم تنته إلى ميدان لا يمكنها حتى أن تطرح فيه سوى في عصرنا المغرور الذي يدعي تعميم المعرفة، وبفضل هذه الأداة الكلية القوة لنشر الجهل التي هي المطبعة. وإن غالبية الناس الذين يدعونهم الطليعة في عصرنا يعني هذه الجمهرة من الجاهلين، قد حسبوا أنهم وجدوا في أعمال العلماء الطبيعيين الذين لا ينظرون سوى إلى جانب واحد من القضية حل المشكلة كلها.
وإنهم ليقولون وينشرون: ليس ثمة نفس أو إرادة حرة ما دامت حياة الناس تتظاهر بحركة عضلاته، وما دامت العضلات تخضع لأوامر الجهاز العصبي. ليس ثمة نفس أو إرادة حرة ما دام الإنسان قد انحدر عن القرد في زمن غير معروف، ولا يخطر في بالهم مطلقا أن سائر الديانات وسائر المفكرين منذ آلاف السنين لم يعترفوا فحسب، بل لم يفكروا لحظة واحدة في إنكار نفس قانون الضرورة، هذا الذي يتكبدون هم كل هذه المشقات كي يثبتوه اليوم بواسطة الفيزيولوجيا وعلم الحيوان المقارن. إنهم لا يدركون أن دور العلوم الطبيعية لا يقوم ها هنا سوى في إيضاح جانب واحد من القضية. وفي الحقيقة أن المناداة بأن الملاحظة والعقل والإرادة ما هي سوى إفرازات دماغية، وأن الإنسان الخاضع للقوانين المشتركة قد تمكن في زمن مجهول أن يتملص من الحيوانية السفلى، لا تعني سوى تفسير مستحدث لهذه الحقيقة المعترف بها منذ آلاف السنين من قبل الأديان والفلاسفة، ألا وهي أن الإنسان من وجهة نظر العقل يرتبط بقوانين الضرورة. بيد أن هذا لا يتقدم بالمشكلة حتى ولا خطوة واحدة نحو الحل المرجو، لأن لتلك المشكلة وجها آخر مقابلا يتركز على وعي الحرية.
فإذا كان الإنسان قد انحدر في زمن مجهول من القرد، فإننا نستطيع كذلك أن نقبل بخروجه في زمن معروف من قبضة من تراب، وإن الزمن هو المجهول في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية فالمجهول هو أهل الإنسان. بيد أن المشكلة لا تكمن ها هنا، المشكلة هي أن نعرف كيف يتحد الوعي الذي يملكه الإنسان عن حريته بقوانين الضرورة التي يخضع لها، وهذه المشكلة لا يمكن حلها بالفيزيولوجيا وعلم الحيوان المقارن، لأننا نلاحظ في الضفدع والأرنب والقرد مجرد فعالية عضلية وعصبية ليس غير، بينما نلاحظ في الإنسان بالإضافة إلى هذه الفعالية العضلية العصبية وجود الوعي.
إن العلماء الطبيعيين والمعجبين بهم الذين يزعمون حل هذه المشكلة، لأشبه بعمال بناء قد تلقوا الأمر بتكليس أحد جوانب كنيسة ما، فهم يغتنمون فرصة غياب رئيس العمل كي يزيدوا، بدافع من فرط الحمية الدينية، في طلي النوافذ والصور والصقلات والجدران التي لم تصبح ثابتة مكينة بعد، ثم يسيرون بعملهم لأن سائر أقسام البناء، من وجهة نظرهم كبنائين، قد تلقت نفس الطبقة من الطلاء.
الفصل التاسع
الحرية والضرورة
إن حل مسألة الحرية والضرورة يعطي التاريخ ميزة على سائر فروع المعرفة الأخرى التي سعت إلى حلها، ألا وهي أن هذه المسألة لا تتعلق بذات ماهية الإرادة البشرية بل بتظاهرها في الماضي وفي شروط معروفة.
وفي هذه القضية يجد التاريخ نفسه حيال العلوم الأخرى في مركز العالم التجريبي حيال العلوم النظرية.
فليس غرض التاريخ إرادة الإنسان نفسها، بل الفكرة التي تشكلها عنه. وهذا هو السبب في أن التاريخ لا يقف مثل اللاهوت والأخلاق والفلسفة حيال ذلك السر الغامض الذي لا يسبر غوره، سر اتحاد النقيضين الحرية والضرورة، إن التاريخ يدرس تظاهرات الحياة البشرية التي تحقق فيها سلفا هذا الاتحاد.
ففي الحياة الواقعية يصير إدراك كل حدث تاريخي وكل فعل إنساني بوضوح ودقة كاملين ودون أن يبين فيه أدنى تناقض، هذا رغم ظهوره بعد اكتماله حرا ومحددا في وقت واحد.
وحين يتوجب حل قضية اتحاد الحرية والضرورة وقضية ماهية هذين المفهومين، ففلسفة التاريخ يمكنها ويجب عليها أن تسلك طريقا معاكسا للطريق الذي تتبعه العلوم الأخرى. فالتاريخ ينبغي له بدلا من محاولة تعريف مفهومي الحرية والضرورة في ذاتهما قبلا، ومن ثم إخضاع ظواهر الحياة لهذا التعريف؛ أن يستخرج من كتلة الظواهر الضخمة المطروحة أمامه بصفتها مسيرة بالحرية والضرورة ، وتعريف هذين المفهومين.
فبأية صورة تطلعنا إلى أفعال إنسان واحد أو عدة أشخاص، فإننا نجد فيها أثر الحرية الإنسانية من جانب وأثر قوانين الضرورة من جانب آخر.
وسواء أخذنا بعين الاعتبار هجرات الشعوب، أم غزوات البرابرة، أم سياسة نابليون الثالث، أم العمل الذي أنجزه شخص ما قبل ساعة واحدة والذي لم يكن سوى اختياره القيام بنزهة في هذا الاتجاه بالأحرى منه في أي اتجاه آخر؛ فإننا لا نجد في ذلك كله أدنى تناقض البتة، فنصيب الحرية والضرورة الذي حدد هذه الأفعال يبدو لنا بكل وضوح.
وتختلف الآراء غالبا حول نصيب الحرية الموجودة في فعل ما، وذلك تبعا لوجهة النظر التي نتفحص القضية منها، بيد أن الفعل الإنساني يتراءى على الدوام في جميع الحالات كمزيج محدد من الحرية والضرورة، وأن كل حالة نتفحصها تظهر لنا مقدارا معينا من الحرية والضرورة التي نراها في هذه الحالة نفسها، وبقدر ما يعظم نصيب الضرورة نرى أن الحرية قد تناقضت وتقلصت.
فعلاقة العنصرين اللذين يزداد أحدهما أو ينقص تبعا لوجهة النظر، تظل على الدوام متناسبة عكسا.
الإنسان الذي يغرق فيتعلق بإنسان آخر يجره معه، الأم الجائعة التي ينهكها إرضاع وليدها والتي تسرق الغذاء، الرجل الخاضع للانضباط الذي يقتل تنفيذا لأمر يتلقاه رجلا آخر أعزل؛ هؤلاء جميعا يتراءون أقل جرما يعني أقل حرية وأكثر خضوعا لقوانين الضرورة في عيني الإنسان الذي يعرف أية شروط كانوا يخضعون لها؛ وإنهم ليتراءون أكثر حرية على العكس في عيني الإنسان الذي لا يعرف أن ذلك الرجل كان بسبيل الغرق، وأن هذه الأم كانت جائعة، وأن ذلك الجندي كان في الصف ... إلخ. وتلك هي الحال أيضا بالنسبة إلى رجل ارتكب جريمة قبل عشرين عاما، وهو يعيش منذ ذلك الحين في المجتمع حياة هادئة دون أن يلحق الأذى بأي مخلوق البتة؛ إنه يبدو أقل جرما، ويبدو عمله في عيني من يحكم على ذنبه بعد عشرين سنة أكثر خضوعا لقوانين الضرورة، وإن الجريمة عينها تلوح أكثر حرية في نظر من يتفحصها بعد اقترافها بيوم واحد. وكذلك الأمر في حال أفعال رجل مجنون أو سكران أو مهتاج، فهي تبدو أقل حرية وأكثر ضرورة عند من يعرف الحالة الذهنية لهؤلاء الناس، وأكثر حرية وأقل ضرورة في عيني من يجهلها. فالحرية والمسئولية تزدادان وتتناقضان في هذه الحالات المتنوعة، حسب ما تعظم الضرورة أو تنقص، وتبعا لوجهة النظر التي نتطلع منها . إننا نجد على الدوام أن الضرورة أعظم حين تكون الحرية ضئيلة، والعكس بالعكس.
وإن الدين والحس السليم وعلم الحقوق والتاريخ نفسه يفهم هذه العلاقات بذات الطريقة.
وإن جميع الظروف دونما استثناء التي تعظم فيها أو تنقص فكرتنا عن الحرية والضرورة، ليس لها سوى ثلاثة أسس: (1)
علاقات الإنسان الذي ينجز عملا مع العالم الخارجي. (2)
مع الزمان. (3)
مع الحركات التي تدفعه إلى العمل.
الأساس الأول للفحص:
العلاقات الأكثر أو أقل وضوحا لأعيننا التي تربط الإنسان بالعالم الخارجي، وتفهم المكان المضبوط الذي يحتله كل إنسان بالنسبة إلى وسطه. ومن هنا نرى أن الإنسان الذي يغرق هو أقل حرية وأكثر ضرورة من الإنسان الواقف بثبات على الأرض الصلبة. وكذلك نرى من هنا أن أفعال إنسان يختلط بجمهور كبير من الناس الآخرين في مكان مزدحم، وأن أفعال إنسان مرتبط بقيود عائلته وخدمته ومشروعه، لهي بكل تأكيد أقل حرية وأكثر خضوعا لقوانين الضرورة من أفعال إنسان وحيد منعزل.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار إنسانا وحيدا، دون الاهتمام بعلاقاته مع محيطه، فإن كلا من أفعاله يبدو لنا إذن حرا طليقا. ولكننا إذا رأينا إلى أية علاقة كانت من علاقاته مع وسطه، إذا رأينا إلى الروابط التي تقيده إلى أي شيء كان: الإنسان الذي يحدثه، الكتاب الذي يقرؤه، العمل الذي يشغله، حتى الهواء الذي يحيط به والنور الذي يقع على الأشياء التي يستخدمها؛ رأينا أن لكل من هذه الشروط صداه، فهو يوجد مظهرا واحدا على الأقل من مظاهر فعاليته. وبقدر ما ندرك هذه المؤثرات بصورة أفضل، فإن فكرتنا عن حريته تنقص، ويزداد شعورنا بخضوعه للضرورة.
الأساس الثاني للفحص:
العلاقات المؤقتة، الأكثر أو أقل بينة، بين الإنسان والعالم، الفكرة الأكثر أو أقل وضوحا عن المكان الذي تشغله فعاليته في الزمان. ومن هنا يبدو أن سقوط الإنسان الأول الذي كان مولد الجنس البشري نتيجة له، وأقل حرية من دون ريب من زواج الإنسان في الأيام الراهنة. وكذلك فإن حياة وفعالية البشر في القرون المنصرمة وهم مرتبطون بي في الزمان، لا يمكن أن تلوح لي على مثل حرية حياة البشر المعاصرين لي، التي لما تبرح نتائجها مجهولة عندي.
وهكذا فإن درجة الحرية أو الضرورة التي ننسبها إلى فعل تابعة لفترة الزمن الأكثر أو أقل امتدادا، التي انقضت بين تحقيق ذلك العمل والحكم الذي تصدره بحقه.
فإذا نظرت إلى عمل أنجزته لقوي قبل لحظة في شروط مماثلة تقريبا للشروط التي أنا فيها حاليا، فإن عملي يلوح لي حرا بصورة لا تقبل الجدل. بيد أني إذا حكمت على العمل بعد شهر من إنجازي له حين أكون في شروط مختلفة، فإني أعترف إذن مرغما أن عددا كبيرا من الأشياء النافعة والمسرة، بله الضرورة، التي نشأت عنه ما كانت تحدث لو لم يكن ذلك العمل. وإذا عدت بالذاكرة إلى عمل أقدم من ذلك يبعد عني عشر سنوات ونيفا، فإن نتائجه تلوح لي أشد وضوحا أيضا، حتى ليصعب علي أن أتصور ما كان يمكن أن يحدث لولا ذلك العمل. وهكذا فبقدر ما تعود الذاكرة بي القهقرى، أو بقدر ما أتقدم إلى الذاكرة في أحكامي، وهذا يؤدي إلى ذات الشيء، ازدادت استنتاجاتي عن حرية أحد أفعالي ترددا وحيرة.
وإننا لنرى في التاريخ مثل هذا التقدم تماما بشأن اعتقادنا في مساهمة الإرادة الحرة في الأفعال الإنسانية، فهذا الحادث الذي تم حديثنا يلوح لنا كعمل لا يتعرض للشك قامت به شخصيات معروفة. بيد أن الحادث لا يكاد يبتعد عنا حتى تمنعنا نتائجه المحتومة الواقعة تحت أنظارنا عن رؤية أي شيء آخر سواها بعد الآن، وبقدر ما نعود القهقرى في تفحص الحوادث فهي تظهر لنا أقل حرية وعضوية.
إن الحرب النمساوية البروسية تلوح لنا كنتيجة حتمية لأحابيل بسمارك ... إلخ، وتبدو الحروب النابليونية لنا، مع بعض الشكوك الآن، مسببة عن إرادة بعض الأبطال. بيد أننا نرى حقا في الحروب الصليبية حادثة تشغل مكانا محددا كان تاريخ أوروبا الحديث يخلو بدونها من كل معنى، ومع ذلك فإن كتاب القرون الوسطى لم يجدوا فيها يومذاك سوى نتيجة لإرادة بعض الأشخاص. وإذا ما نظرنا إلى الغزوات الكبيرة، فإن أحدا لن يعتقد اليوم أن تجدد العالم كان متعلقا بهدى أنيلا، فبقدر ما تعود القهقرى في التاريخ تنقص شكوكنا حول حرية فعلة الحوادث، بينما يزداد قانون الضرورة يقينا.
الأساس الثالث للفحص:
القدر الأكبر أو الأقل المتوفر لنا في إمكانية النفوذ إلى تسلسل الحوادث الذي لا نهاية له، والذي هو من متطلبات عقلنا المحتومة، والذي يجب أن يكون فيه لكل حادث معقول وبالتالي كل فعل من أفعال الإنسان، مكانه المحدد كنتيجة للحوادث السابقة وسبب للحوادث اللاحقة به.
وينتج عن ذلك أن أفعالنا وأفعال الآخرين تتراءى لنا أكثر حرية وأقل خضوعا للضرورة بمقدار ما تزيد معرفتنا للقوانين الفيزيولوجية والبسيكولوجية والتاريخية المستخرجة في الملاحظة الخاضع الإنسان لها، وبقدر ما ندرس بدقة أعظم السبب الفيزيولوجي والبسيكولوجي أو لحادث ما. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الفعالية الخاضعة للمراقبة تبدو لنا أشد بساطة بقدر ما يكون خلق وفكر الإنسان الذي نعرفه أقل تعقيدا.
عندما لا نفهم سبب عمل ما شرير أو صالح أو معتدل بالنسبة إلى الخير والشر، فإننا نميل نحو أن نرى فيه أعظم مقدار من الحرية. وإذا كان جريمة فإننا نطلب عقابه قبل كل شيء، وإذا كان عملا فاضلا غمرناه بالإطراء والمديح، وإذا كان معتدلا وجدنا فيه دلالة على قوة الشخصية والجدة والحرية، ولكننا إذا عرفنا حتى مجرد سبب واحد من أسباب هذا العمل رحنا نجد فيه إذن مقدارا معينا من الضرورة، فنحن أكثر تسامحا عندئذ بالنسبة إلى الجريمة وأقل حماسة لعمل الخير، نرى مقدارا أقل من الحرية في العمل الذي كان يلوح لنا جديدا مستحدثا. فحقيقة نشوء المجرم في وسط من الأشراف يخفف من ذنبه، والتضحية التي يقوم عليها أب أو أم وتترافق بإمكانية المكافأة لأقرب إلى أفهامنا من التضحية التي ليس لها سبب ظاهر، ولذا فهي أقل إثارة لعطفنا وأقل حرية في أنظارنا. وإن مؤسس عصبة أو حزب يصير أقل إثارة لدهشتنا عندما نعرف كيف وبأي شيء تم تحضير عمله ومهنته. وإذا كنا نملك سلسلة طويلة من التجارب، وإذا كانت ملاحظتنا موجهة بصورة متصلة نحو التفتيش عن العلاقات الموجودة بين الأسباب والنتائج، فإن الأفعال البشرية تبدو لنا أشد ضرورة وأقل حرية بقدر ما نربط بيقين أعظم بين النتائج والأسباب. وإذا كانت الوقائع التي نتفحصها بسيطة، وإذا كنا نملك لدراستها كمية عظيمة من الوقائع المماثلة، فإن الفكرة التي نشكلها عن ضرورتها تصير أكمل إذن. إن عدم أمانة ابن أب شرير، والسلوك الشائن لامرأة وقعت في وسط شرير، وعودة سكير إلى عربدته؛ هي جميعا وقائع تبدو لنا أقل حرية بقدر ما تزداد معرفتنا بأسبابها. وإذا كان الرجل الذي نتفحص سلوكه يقف في أخفض درجة من سلم الذكاء، إذا كان طفلا أو مجنونا أو معتوها، فإننا نرى فيه إذن وقد عرفنا أسباب سلوكه وحالة خلقه المنحطة، نصيبا كبيرا من الضرورة ونصيبا ضئيلا جدا من الحرية، بحيث لا نكاد نعرف الدافع الذي يحركه حتى نستطيع أن نتنبأ بالعمل الذي سينتج عن ذلك الدافع.
على هذه العناصر الثلاثة في الفحص ترتكز عدم المسئولية في الجرم والظروف المخففة المقبولة من قبل سائر التشريعات، فالمسئولية تبدو أكبر أو أصغر بقدر ما نعرف أكثر أو أقل الظروف التي كان المجرم خاضعا لها، وتبعا للفاصل الزمني الأطول أو الأقصر الذي يفصل بين الفعل والحكم، وتبعا لدرجة المعرفة التي نملكها عن أسباب الفعل.
الفصل العاشر
اتحاد الحرية والضرورة
وهكذا فالتعقيب الذي ننسبه للحرية والمسئولية ينقص أو يعظم حسب الرابطة الأشد أو الأضعف بين العقل والعالم الخارجي، ودرجة بعده في الزمان وتبعيته العظمى أو الصغرى للأسباب، التي نرى في ما بينها بروز ظاهرة في ظواهر الحياة البشرية.
فإذا أخذنا بعين الاعتبار حالة امرئ معروفة جيدا علاقاته مع العالم الخارجي، الذي يطول بالنسبة إليه الفاصل الزمني بين العمل والحكم عليه حتى الدرجة القصوى، والذي دوافعه واضحة لنا كل الوضوح؛ فإننا نرى في هذه الحالة المقدار من الضرورة، والمقدار الأقل عظما من الحرية. أما إذا أخذنا بعين الاعتبار على العكس حالة امرئ أعماله أقل ما تكون تبعية للعالم الخارجي، فإذا كان عمله قد جرى هذه اللحظة بالذات، وإذا كانت أسباب هذا العمل غامضة علينا؛ فإننا نجد أدنى مقدار من الضرورة وأعظم مقدار من الحرية.
ولكننا في كلتا الحالتين مهما بدلنا في وجهة نظرنا، ومهما دققنا في رابطة الإنسان مع العالم الخارجي أو اعتبرنا هذه الرابطة ممتنعة على معرفتنا، ومهما أطلنا الفاصل الزمني بين العمل والحكم عليه أو قصرناه، ومهما فهمنا الأسباب أو جهلناها؛ فإننا لن ننتهي قط إلى حرية تامة أو إلى ضرورة تامة. (1)
فمهما تصورنا الفرد غير خاضع لأي تأثير خارجي فإننا لن نتوصل إلى فهم الحرية في المكان. إن كلا من أعمال الإنسان مشروط أن لما يحيط به أو بذات جسده، إني أرفع يدي وأخفضها ويبدو لي أن حركتي حرة، بيد أنني حين أتساءل عما إذا كان في مكنتي أن أرفع يدي في سائر الاتجاهات أجد أن حركتي قد تمت في الاتجاه حيث مقاومة الأشياء المحيطة بي وجسدي نفسه هي أقل ما يمكن، فإنا قد اصطفينا من سائر الاتجاهات الممكنة الاتجاه الذي يكلفني أقل جهد ممكن، وكي تكون حركتي حرة لم يكن بد من انعدام أية عقبة تماما. إذن فنحن لا نستطيع أن نتصور إنسانا حرا إلا خارجا عن المكان، الأمر المستحيل بكل تأكيد. (2)
ومهما قربنا الحكم على عمل ما من الزمن الذي ارتكب هذا العمل فيه، فإننا لن نتمكن قط أن نفهم الحرية في الزمان. وفي الحقيقة أني إذا أخذت بعين الاعتبار عملا حدث قبل لحظة واحدة فقط، فإني لا أستطيع أن أحكم عليه بالحرية ما دام مقيدا إلى الوجهة التي صار إنجازه فيها. هل أستطيع أن أرفع ذراعي؟ إني أرفعها لكنني أتساءل عما إذا كنت أستطيع ألا أرفعها في هذه اللحظة التي انقضت لتوها، وكي أتأكد من ذلك فأنا لا أرفع ذراعي في الثانية التي تتلو ذلك، بيد أنني لم أرفع في ذات اللحظة التي تساءلت فيها عما إذا كنت أملك الحرية لذلك، لقد فرق الزمان وما كنت أملك القدرة على الإمساك به، والذراع التي رفعها الآونة والهواء الذي قمت بالحركة فيه لم يعودا لا ذلك الهواء الذي كان يحيط بي في اللحظة المعينة، ولا الذراع التي أحتفظ بها ثابتة الآن. إن البرهة التي تمت فيها الحركة الأولى لن تعود قط، وفي تلك البرهة كنت أستطيع أن أفعل سوى حركة واحدة، ومهما تكن هذه الحركة فلا يمكن أن تكون سوى وحيدة. ومهما يكن من أمر فكوني لم أرفع ذراعي في الثانية التي أعقبت ذلك لا يبرهن قدرتي على عدم رفعها عندئذ، وما دمت لا أستطيع أن أفعل سوى حركة واحدة في تلك اللحظة المعينة فهذه الحركة لا يمكن أن تكون حركة أخرى البتة. فلا بد لي كي أتصور هذه الحركة حرة من شعورها في الوقت الحاضر عند حدود الماضي والمستقبل، يعني خارج الزمان، الأمر الذي يستحيل حدوثه. (3)
ومهما عظمت صعوبة الوصول إلى السبب فإننا لم نتوصل مطلقا إلى تصور حرية تامة، يعني إلى شعور عدم وجود أي سبب. مهما يكن تظاهر الإرادة في فعل ما نقوم به نحن أو الآخرون غامضا علينا، فإن أول متطلبات فكرنا هو البحث عن السبب الذي لا يمكن بدونه أن نتصور أية ظاهرة مطلقا. إني أرفع يدي كي أقوم بعمل لا سبب له، بيد أن مجرد إرادتي عملا سبب له يشكل له سببا في الحال.
وحتى إذا افترضنا امرءا حرا تماما من أي تأثير، فإننا لن نستطيع قط إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أحد أعماله في ذات اللحظة التي يقوم فيها إنجازه دون أن نربطه بأي سبب، بل حتى بقبولنا لبقية في الضرورة لا متناهية في الصغر تساوي صفرا، لن نستطيع قط إذن أن نتوصل إلى فهم حرية الإنسان التامة، ذلك إن كان خارجا عن أي تأثير خارجي، خارجا عن الزمان ومستقلا عن كل سبب، هذا الكائن لا يمكن أن يكون إنسانا.
وكذلك يستحيل علينا أن نتخيل فعلا بشريا تغيب فيه الحرية ويكون خاضعا لقانون الضرورة وحده. (1)
مهما تكن معرفتنا بالشروط المكانية التي يخضع لها الإنسان واسعة فلا يمكن أن تكون كاملة، لأن عدد هذه الشروط لا متناه تماما كما أن المكان لا متناه، وبالتالي فما دامت الشرور التي تؤثر في أحد الأفراد غير محددة جميعا فليس ثمة ضرورة مطلقة، ويبقى بعدئذ نصيب ما من الحرية. (2)
مهما فعلنا كي يظل الفاصل الذي يفصل الظاهرة المفحوصة عن اللحظة التي نحكم عليها فيها، فإن الفترة المأخوذة بعين الاعتبار تظل محددة على الدوام، بينما الزمان نفسه لا متناه، وبالتالي فلا يمكن أيضا من وجهة النظر هذه أن يكون ثمة ضرورة تامة. (3)
مهما تكن معرفتنا بتسلسل الأسباب التي أدت إلى فعل معين، فإننا لا نبلغ حتى معرفتها التامة ما دام هذا التسلسل لا متناه، وبالتالي فإننا لا نبلغ الضرورة المطلقة أيضا.
وفي ما عدا ذلك فحتى إذا قبلنا بوجود بقية من الحرية لا متناهية في الصغر مساوية للصفر، فإننا نتحقق في أية حالة كانت؛ حالة رجل يموت، أو جنين، أو أبله، من الغياب المطلق للحرية، وبذلك نقضي تماما على مفهوم الإنسان، لأنه حيث لا يوجد حرية فالإنسان غير موجود. ولذا كان تصور الفعل الإنساني خاضعا لقانون الضرورة وحده دون أي أثر من الحرية، مستحيلا بقدر استحالة تصور ذلك الفعل حرا بصورة مطلقة.
وهكذا فكي نعتبر فعلا إنسانيا أنه خاضع لقانون الضرورة وحده، ينبغي لنا أن نعترف بأننا نعرف الكمية اللامتناهية من الشروط المكانية، والفترة اللامتناهية لزمن الديمومة، والسلسلة اللامتناهية من الأسباب.
وكيما نتخيل على العكس إنسانا حرا تماما من قانون الضرورة، ينبغي لنا أن نعتبره بصفته وحيدا خارج المكان والزمان والسببية.
ففي الحالة الأولى:
إذا كانت الضرورة ممكنة دون الحرية، فإننا نصل إلى تعريف لقانون الضرورة بالضرورة نفسها، يعني إلى شكل بدون محتوى.
وفي الحالة الثانية:
إذا كانت الحرية ممكنة بدون الضرورة، فإننا نبلغ إلى حرية غير مشروطة خارج الزمان والمكان والسببية، حرية لن تكون لكونها غير مشروطة أو محددة بأي شيء سوى محتوى بدون حاو.
وإننا نصل بصورة عامة إلى هذين الأساسين لكل فلسفة: ماهية الحياة العصية على الإدراك، والقوانين التي تعرفها.
وإليكم ما يقول العقل: (1)
إن المكان، مع سائر الأشكال التي صار بها مرئيا يعني المادة، هو لا متناه ولا يمكن إدراكه بصورة أخرى. (2)
إن الزمان حركة لا متناهية دون لحظة واحدة من التوقف، ولا يمكن إدراكه بصورة مغايرة. (3)
إني خارج أي سبب كان، لأني أستشعر أني سبب كل تظاهرة في حياتي.
إن العقل يعبر عن قوانين الضرورة، والوعي يعبر عن ماهية الحرية.
إن الحرية غير المشروطة هي ماهية الحياة في وجدان البشر، وإن للضرورة محتوى هي العقل البشري تحت أشكاله الثلاثة.
إن الحرية هي ما نتفحصه، والضرورة هي ما جرى فحصه، إن الحرية هي دون المحتوى، والضرورة هي الحاوي.
ونحن إذ نفصل هذين الينبوعين للمعرفة، اللذين هما بالنسبة إلى بعضهما بعضا مثل الحاوي والمحتوى، نتوصل بذلك وحده إلى مفاهيم عن الحرية والضرورة تنفي بعضها البعض، وتظل ممتنعة على الإدراك.
ونحن إذ نوحد بينهما نتوصل بذلك وحده إلى تصور واضح عن الحياة الإنسانية. وخارج هذين المفهومين اللذين يحددان بعضهما بعضا في اتحادهما، تماما مثلما يتحد المحتوى بالحاوي؛ ليس ثمة أي تصور ممكن عن الحياة.
وكل ما نعرفه عنها لا يعدو كونه علاقة ما بين الحرية والضرورة، يعني بين الوجدان وقوانين العقل.
وكل ما نعرفه عن عالم الطبيعة الخارجي لا يعدو كونه علاقة ما بين قوى الطبيعة والضرورة، أو بين ماهية الحياة وقوانين العقل.
إن القوى الحياتية للطبيعة موضوعة خارجا منا ومن وجداننا، ونحن ندعوها الثقالة، وقوة العطالة، والكهرباء، والقوة الحياتية ... إلخ، بيد أن قوة الإنسان الحياتية معروفة عندنا بواسطة وجداننا، ونحن ندعوها الحرية.
والثقالة التي يحسها كل إنسان ممتنعة عن إدراكنا في ماهيتها، ونحن لا نستطيع أن نفهمها سوى بقدر ما نعرف قوانين الضرورة التي تخضع لها (منذ أول فكرة عن سقوط الأجسام حتى قانون نيوتن)، وكذلك فإن قوة الحرية التي يحسها الوجدان لهي ممتنعة عن الإدراك في ماهيتها أيضا، وهي لا تصير مفهومة عندنا إلى بقدر ما نعرف قوانين الضرورة التي تخضع لها منذ حقيقة موت كل إنسان، حتى أكثر القوانين الاقتصادية أو التاريخية تعقيدا.
فكل من معارفنا ليست سوى فعل خضوع من ماهية الحياة لقوانين الضرورة.
وتتميز حرية الإنسان عن سائر القوى الأخرى لأننا نعيها، بيد أنها عند العقل لا تختلف البتة عن أية قوة أخرى، إن قوة الثقالة والكهرباء والجاذبية الكيموية لا تتميز عن بعضها البعض إلا لأن عقلنا قد عرفها كلا على حدة.
وكذلك الأمر فيما يتعلق بقوة الحرية، إنها لا تتميز بالنسبة إلى العقل عن قوى الطبيعة الأخرى سوى بالتعريف الذي يمنحها إياه هذا العقل، فالحرية دون الضرورة يعني دون قوانين العقل التي تحددها لا تتميز عن الثقالة والحرارة، أي عن قوة الإنبات، ما هي سوى إحساس آني غير محدد عن الحياة. وكما أن الماهية غير المحددة للقوة التي تحرك الأجرام السماوية والقوة الحرارة والقوة الكهرباء وقوة الانجذاب الكيموي أو القوة الحياة، تشكل محتوى علم الفلك والفيزياء والكيمياء وعلم النبات وعلم الحيوان ... إلخ؛ كذلك فإن ماهية القوة الحرية تشكل محتوى التاريخ. ولكنه كما أن غرض كل من العلوم هو تظاهر هذه الماهية المحولة للحياة، وأن هذه الماهية بدورها يمكن أن تكون غرض ما وراء الطبيعة فقط؛ كذلك فإن تظاهر الحرية الإنسانية في المكان والزمان والسببية يشكل غرض التاريخ، بينا الحرية هي غرض ما وراء الطبيعة.
في العلوم التجريبية ندعو ما هو معروف عندنا قوانين الضرورة، وما هو غير معروف عندنا القوة الحياتية، وليست القوة الحياتية سوى الاسم المعطى للأثر المجهول مما نعرفه عن ماهية الحياة.
كذلك في التاريخ ندعو ما هو معروف عندنا قوانين الضرورة، وما هو غير معروف الحرية، وليست الحرية بالنسبة إلى التاريخ سوى التعبير عن الأثر الباقي غير المعروف لما نعرفه من قوانين الحياة البشرية.
الفصل الحادي عشر
غرض التاريخ
إن التاريخ يدرس تظاهرات الحرية البشرية في علاقاتها مع العالم الخارجي ومع الزمان وفي تبعيتها حيال السببية، يعني أنه يحدد الحرية تبعا لقوانين العقل، ولذا ما كان يمكن أن يكون عالما إلا بقدر ما تخضع الحرية لهذه القوانين.
وإن الاعتراف بالحرية الإنسانية كقوة على قدر كاف من الكبر بحيث يكون لها تأثيرها في الحوادث، يعني أنها غير خاضعة لأية قوانين، ليعادل بالنسبة إلى التاريخ الاعتراف بقوة تحرك الأجرام السماوية بالنسبة إلى علم الفلك.
وإن القبول بذلك يعني القضاء على إمكانية وجود أية قوانين وبالتالي وجود أي علم كان، فإذا كان في مكنة جسم واحد أن يتحرك بحرية فقوانين كبلر ونيوتن لم يعد لها وجود إذن، وما عاد في الإمكان تصور حركة الأجرام السماوية، وكذلك إذا كان ثمة فعل إنساني واحد حر فليس ثمة إذن أي قانون تاريخي ويصير من المستحيل تصور وقائع التاريخ.
وبالنسبة إلى التاريخ فإن الإرادات الإنسانية تتحرك تبعا لخطوط يختبئ أحد أطرافها في المجهول، بينما وعي الحرية في البرهة الراهنة يتحرك عند الطرف الآخر في المكان والزمان والسببية.
وبقدر ما يبتعد حقل هذه الحركة في أنظارنا فإن قوانينها تزداد وضوحا، وإن إدراك هذه القوانين وتعريفها يشكلان غرض التاريخ.
وإذا انطلقنا من وجهة نظر العلم الراهن، وإذا سلكنا الطريق التي يتبعها في البحث عن أسباب الظواهر في الإرادة الإنسانية الحرة؛ فإنه من المستحيل تعريف هذه القوانين، ذلك أنه مهما تكن الحدود التي نعينها للحرية فإن وجود القانون يصير محالا منذ اعترافنا بها كقوة غير خاضعة لقوانين.
ولن نقتنع باستحالة النفوذ حتى الأسباب بصورة مطلقة إلا بإبعادنا حدود هذه الحرية إلى ما لا نهاية، يعني باعتبارنا إياها كمية لا متناهية في الصغر، وعندئذ يأخذ التاريخ على عاتقه بدلا من البحث عن هذه الأسباب مهمة البحث عن قوانين.
ولقد بدئ هذا البحث منذ زمن طويل، وإن طرق التفكير الجديدة التي يجب أن يتمثلها التاريخ تنضج، بينما التاريخ القديم الذي كان يجزئ أكثر فأكثر أسباب الحوادث يتهدم من تلقاء نفسه في الوقت ذاته.
وعلى أية حال فالعلوم البشرية تسلك نفس الطريق، إن الرياضيات هذه العلوم المضبوطة حتى الدرجة القصوى تهمل طريقة التجزيء المتدرج عندما تبلغ اللامتناهي في الصغر، في سبيل الطريقة الجديدة عن تكتيل العناصر المجهولة اللامتناهية في الصغر. إن الرياضيات تتنازل عن مفهوم السبب كي تفتش عن قانون، يعني عن خصائص مشتركة بين سائر العناصر المجهولة اللامتناهية في الصغر.
وتفعل العلوم الأخرى الشيء نفسه وإن بصورة مغايرة، عندما برهن نيوتن قانون الجاذبية لم يقل إن الشمس أو الأرض تملكان خاصة جذب الأجسام الأخرى، بل قال إن سائر الأجسام من أكبرها حتى أصغرها تملك خاصة التجاذب، يعني أنه عبر وقد ترك جانبا سبب حركة الأجسام عن خاصة مشتركة بين سائر الأجسام، من اللامتناهي في الكبر حتى اللامتناهي في الصغر. وهذا ما تفعله أيضا العلوم الطبيعية، لقد وضعت الأسباب جانبا كي تفتش عن القوانين. وإن التاريخ ليسلك الطريق نفسه، وإذا كان غرضه دراسة حركات الشعوب والإنسانية لا وصف مقاطع مخصوصة من الحيوات، فينبغي له أن يبعد مفهوم الأسباب كي يفتش عن القوانين المشتركة بين سائر عناصر الحرية اللامتناهية في الصغر، المتساوية والمتماسكة بصورة متينة لا سبيل إلى حلها.
الفصل الثاني عشر
الضرورة والقوانين
منذ صار اكتشاف قانون كوبرنيك وبرهانه، فإن تأكيد دوران الأرض حول الشمس قد دمر كل علم الفلك القديم، ولقد كان في الإمكان رفض هذا القانون والاحتفاظ بالمفهوم القديم عن حركة الأجسام، بيد أننا إذا لم نرفضه فقد كان يتراءى من المستحيل الاستمرار إذن في دراسة عوالم بطليموس، ومهما يكن من أمر فإن عوالم بطليموس قد استمرت دراستها فترة طويلة حتى بعد اكتشاف قانون كوبرنيك.
ومنذ أن أعلن رجل وبرهن للمرة الأولى أن عدد الولادات أو الجرائم خاضع لقوانين رياضية، وأن ظروفا جغرافية وسياسية اقتصادية معينة تؤدي إلى هذا الشكل أو ذاك من الحكومة، وأن علاقات معينة بين الأرض والسكان الذين يشغلونها تنتج حركات هؤلاء السكان، منذ ذلك الحين انهارت القواعد التي بني عليها التاريخ من أساساتها.
وإنه لفي الإمكان رفض هذه القوانين الجديدة والاحتفاظ بوجهة النظر القديمة، بيد أنه كان يبدو من المستحيل دون رفضها الاستمرار في دراسة الوقائع التاريخية على اعتبارها نتائج إرادة البشر الحرة، ذلك أنه إذا كان هذا الشكل المعين من الحكومة وهذه الهجرة المعينة للشعوب مسببين عن هذه أو تلك من الظروف الجغرافية والقومية والاقتصادية، فإن إرادة البشر الذين يلوح لنا أنهم أقاموا ذلك الشكل من الحكومة أو أدوا إلى تلك الهجرة التي قامت الشعوب بها لا يعود في الإمكان اعتبارها سببا فعالا.
ومع ذلك فإن التاريخ القديم ما برح يدرس إلى جانب القوانين الجديدة للإحصاء والجغرافيا والاقتصاد السياسي، ويقارنها مع الفلسفة وعلم طبقات الأرض التي لها مبادئ معاكسة بصورة مباشرة لهذه التأكيدات.
أما عن فلسفة الطبيعة فقد كان الصراع داميا ها هنا بين النظريات القديمة والجديدة، لقد كان اللاهوت يقوم بواجب الحراسة حول المبادئ القديمة ويتهم المبادئ الجديدة بتدمير الوحي، ولكن الحقيقة ما انتصرت حتى تمركز اللاهوت في الأرض الجديدة بما لا يقل من ثبات عنه قبلا.
وإن الصراع القائم في عصرنا بين المفهومين القديم والجديد عن التاريخ قد ظل غامضا عنيدا، إن اللاهوت لما يبرح يقوم بواجب الحراسة حول وجهة النظر القديمة، وهو يتهم دوما وجهة النظر الجديدة بإنكار الوحي.
وفي كلتا الحالتين تثير المعركة الأهواء وتخنق الحقيقة، فمن جهة يظهر الخوف والأسف على البناء الذي رفع طوال قرون، ومن الجهة الثانية يبدو حب التدمير.
وإن الناس الذين يرفضون الحقائق الجديدة في حقل فلسفة الطبيعة يحسبون أن قبولهم لهذه الحقائق يعني دمار الإيمان بالله وبخليقة العالم وبمعجزة يشوع بن نون، أما المدافعون عن قوانين كوبرنيك ونيوتن، فولتير مثلا، فقد كان يبدو لهم أن قوانين علم الفلسفة تدمر الدين، ولقد كان فولتير يستخدم قوانين الانجذاب كسلاح ضد الإيمان.
ويبدو اليوم بذات الطريقة بالضبط أنه يكفي أن نعترف بقوانين الضرورة كي تنهار مفاهيم النفس، والخير والشر، والمؤسسات الحكومية والإكليريكية المبنية عليها.
إن حماة قانون الضرورة يجعلون اليوم، فولتير تماما، من هذا القانون سلاحا ضد الدين. إن قانون الضرورة في التاريخ مثله مثل قانون كوبرنيك في علم الفلك بالضبط، لا يدمر المؤسسات السياسية والدينية بل يزيد أسسها متانة وثباتا.
فنحن نقع اليوم إذن في التاريخ على نفس القضية التي واجهت علماء الفلك، إن الفارق بين النظريات يقوم على قبول أو رفض وحدة مطلقة تخدم كمقياس للحوادث الظاهرة، وفي الفلك كانت هذه الوحدة هي ثبات الأرض، وفي التاريخ كانت استقلال الشخص، حرية الإنسان.
وفي علم الفلك كانت صعوبة قبول حركة الأرض والكواكب الأخرى تقوم في كوننا نتنازل عن الإحساس المباشر بثبات الأرض وبحركة الكواكب، وفي التاريخ تقوم صعوبة قبول خضوع الشخص لقوانين المكان والزمان والسببية في ضرورة التنازل إذن عن الإحساس المباشر، الذي يملكه كل شخص عن استقلال ذاته. ولكنه كما أن النظرية الجديدة في علم الفلك تقول: «هذا صحيح، نحن لا نملك إحساسا بحركة الأرض، لكننا نتوصل إلى أشياء غير معقولة إذا قبلنا بثباتها، أما إذا قبلنا على العكس هذه الحركة التي لا نحسها فإننا نتوصل إلى قوانين»، كذلك تقول النظرية الجديدة في التاريخ: «صحيح أننا لا نملك الإحساس بتبعيتنا، لكننا إذا قبلنا بحريتنا فإننا نتوصل إلى شيء غير معقول، أما إذا قبلنا على العكس بتبعيتنا حيال العالم الخارجي والزمان والسببية، فإننا نتوصل إلى قوانين.»
ولقد اضطررنا في الحالة الأولى أن نتنازل عن إحساس الثبات في المكان والقبول بحركة لا تدركها حواسنا، وإنه لينبغي لنا في الحالة الراهنة أيضا أن نتنازل عن هذه الحرية التي نعيها ونقبل بتبعية لسنا نشعر بها.
كانون الثاني، 1956م
صفحة غير معروفة