الحرب والسلم (الكتاب الأول): إلياذة العصور الحديثة

ليو تولستوي ت. 1450 هجري
105

الحرب والسلم (الكتاب الأول): إلياذة العصور الحديثة

تصانيف

تعالى ضجيج خلال دقائق حول السرير، ثم ابتعد الناس، بينما جاءت آنا ميخائيلوفنا تلمس ذراع بيير، وتقول له: «تعال»، فتبعها حتى السرير، حيث أجلس المريض عليه بشكل أدعى للاحترام والوقار، شكل يتناسب والطقس الديني الذي أجري له منذ حين، وكان عدد من الوسائد قد رصت وراءه لتجعل جذعه منتصبا، بينما بسطت يداه على طول راحتيهما فوق الغطاء الحريري الأخضر على مسافة إحداهما من الأخرى، فلما اقترب بيير، حدجه الكونت بنظرة من تلك النظرات التي لا يمكن لكائن حي في الدنيا أن يحدد قيمتها ومرماها، فهي إما أن تكون لا تعني شيئا مطلقا، أكثر من حاجة الإنسان الذي يضطر إلى فتح عينيه أن يلقي ببصره إلى جهة ما، أو على العكس، أن تكون محملة بالمعاني مفعمة بها.

توقف بيير مترددا لا يدري ماذا يفعل في ذلك الموقف، والتفت إلى رفيقته مستفسرا، فأشارت إليه بنظرها إلى يد المحتضر وزمت شفتيها على شكل قبلة، فتبع بيير النصيحة، ومد عنقه بتؤدة متجنبا المساس بالغطاء، وألصق شفتيه على يد المريض المكتنزة، لم تتحرك اليد ولم تتقلص عضلة واحدة في وجه المريض، فعاد بيير يستشير آنا ميخائيلوفنا، التي أومأت له أن يجلس على المقعد قرب السرير، فجلس عليه متأثرا، وعاد إلى الاستفسار بالنظر من آنا ميخائيلوفنا عما إذا كان أحسن صنعا بما فعل وفهم مرادها؟ فلما هزت له رأسها موافقة عاد إلى جلسته الكهنوتية الساذجة الشبيهة بالتماثيل المصرية، وهو آسف جدا لرؤية جسده الضخم يشغل كل هذا الفراغ، يحاول الظهور في أصغر حجم ممكن، ولما رفع عينيه إلى وجه الكونت، رأى أن هذا يحدق بعناد في المكان الذي غادره منذ حين محمولا، وأما آنا ميخائيلوفنا فكان مظهرها يدل على الأهمية البالغة التي تقلقها على تلك المقابلة النهائية بين الأب والابن، وبعد دقيقتين خالهما ببيير ساعتين طويلتين، انتفض وجه الكونت المجعد فجأة، وازداد تقلصا، والتوى فمه الجميل محدثا صوتا أجش غير واضح، وعندئذ فقط فهم بيير أن أباه على وشك الموت، راحت آنا ميخائيلوفنا تتفحص حدقة المحتضر، محاولة معرفة رغبته من نظرته، أشارت بيدها إلى بيير ثم إلى الشراب فالغطاء، وغمغمت بصوت منخفض تلفظ اسم الأمير بازيل، غير أن قسمات وجه المريض وعينيه كانت توحي بنفاد الصبر، قام بمجهود جبار لينبه الخادم الذي كان لا يفارق سريره من ناحية القدمين.

غمغم الخادم: إن سعادته يرغب في أن نقلبه على جنبه الآخر.

وراح يحاول القيام بتلك المهمة الشاقة التي تقتضيه تحريك جسد ضخم كبير فاقد الإحساس، فنهض بيير ليساعده في مهمته.

وبينما كان بيير والخادم يبدلان وضعية الكونت، راح هذا يحاول عبثا جذب ذراعه التي ظلت منسدلة لا حياة فيها وراء ظهره، ولعل المريض شاهد نظرة الذعر التي ألقاها بيير على ذراعه المشلولة، أو أن فكرة أخرى خطرت في رأسه؛ لأنه راح يتأمل ذراعه الجامدة، ثم وجه لبيير المذعور ليعود بنظره إلى ذراعه، وأخيرا افتر ثغره عن ابتسامة غامضة أليمة، ما كانت تتفق مع طالعه النشيط، بل تبدو سخرية مرة من عجزه التام، شعر بيير فجأة بانقباض في صدره، ودغدغة في أنفه، وما لبثت الدموع أن طفرت من عينيه.

كان الكونت في تلك اللحظة مستديرا بوجهه إلى الجدار يتأوه.

وجاءت إحدى الأميرات تحل محل آنا ميخائيلوفنا، فقالت هذه لبيير: لعله أغفى قليلا، هيا بنا.

فتبعها بيير صامتا.

الفصل الرابع والعشرون

فشل المؤامرة

صفحة غير معروفة