وهم أن يستدير على عقبيه ويغادر الحجرة تأدبا، ولكن صوت أم إبراهيم ارتفع ومضى يصر على بقائه قائلة: هو أنت غريب يا خويا؟! ما غريب إلا الشيطان.
كل هذا ولنده جالسة في مكانها وكأنها في دوامة، لا تستطيع أن تنظر ناحية أحمد سلطان، ولا ناحية أم إبراهيم، ولا في سقف الحجرة أو حتى في أرضها، وبدا أن أحمد سلطان وكأنما استجاب لإلحاح أم إبراهيم فتنحنح وتقدم بضع خطوات، وقال بتلعثم: اتبن باقول البيت منور ليه، مساء الخير يا لنده هانم.
وساد وجود قليل، وحركت لنده شفتيها بلا صوت مع أنها أرادت أن ترد، وتداركت أم إبراهيم الموقف قائلة: يسعد مساك يا حبيبي، إلهي يخليك لشبابك وينولك أمانيك.
ومد أحمد أفندي يده ليسلم على لنده. وارتبكت لنده برهة لا تدري ماذا تفعل، ووجدت أن خير ما تفعله أن تمد يدها هي الأخرى وتسلم عليه، ولحظة واحدة هي التي استغرقها السلام، ولكن أي لحظة! يد أحمد سلطان بأصابعها الكبيرة الجامدة المجربة ذات الشعر، يد تعرف كيف تطمئن البنت البنوت وتأخذها، بأن تؤكد لها أن آخر ما تريده هو أن تأخذها، يده هذه تمتد وتحتوي يد لنده، اليد البضة الطرية المرتجفة ذات الأصابع الطويلة، يد الثمرة التي نضجت على شجرتها وبقيت ناضجة حتى كاد يفوت أوانها، ناضجة تكاد من نضجها أن تسقط من تلقاء نفسها ودون أن يمسها أحد. يد ما إن التقت بها يد أحمد سلطان حتى أحست فيها أرض الواقع الصلبة، الواقع الذي تمقته، ولكنها تحيا فيه، الخبز الذي في حوزة اليد والذي هو - بلا شك - أجمل وأروع من لحم لا تراه إلا في الخيال، وصفوت خيال. وأحمد سلطان هذه يده غريبة عن نفسها وخيالها، ولكن فيها ذكورة، ذكورة تحرك في كامنها أشياء لم تتحرك أبدا من قبل.
لحظة واحدة استغرقها السلام، ولكنها جعلت راحة كف لنده الصغيرة تنضح عرقا، عرقا كثيرا إلى درجة أنها حين سحبت يدها من يده تساقط من راحتها سيل من القطرات. •••
وغير بعيد - عبر القنطرة الحجرية - في بيت فكري أفندي المأمور كان صفوت ابنه يحاول النوم فلا يستطيع. وحين فشل ادعى النوم، فقد كان يعرف أن مصيبة كبرى ستحل به عما قليل، فهمهمة الحديث تأتيه عبر الصالة المظلمة من حجرة الجلوس، الحجرة التي استقبل فيها أبوه مسيحة أفندي من وقت قريب وهو يعجب لتلك الزيارة المفاجئة في ذلك الوقت من الليل.
ولكن عجبه الآن لا بد أنه يزول، فها هي الهمهمة تصله فلا يسمع فيها إلا صوت مسيحة أفندي هو يتحدث بلا انقطاع، وسعال أبيه وهو يستمع دون أن ينطق حرفا. ها هي ذي فترة سكون تحل، لا بد أنه يريد فيها الخطاب. ألا سحقا له وللخطاب ولليوم الذي تحدث فيه عن لنده مع أحمد سلطان يوم عثروا على اللقيط.
فبعد الحديث هاجت في قلبه الأحاسيس، وتملكه خاطر عات يهيب به أن الأوان قد آن ليبوح للنده بكل ما يكنه لها قلبه ويكشف عن أحاسيسه.
وفكر واستغرق يومين في التفكير، ثم كتب ذلك الخطاب الملعون، كتبه بعد عشرات المسودات التي مزقها ولم تعجبه صيغتها. وظل الخطاب في جيبه يومين، يتردد أحيانا في إرساله ويحتار أحيانا أخرى في كيفية إرساله.
ثم فكر في محبوب هذا الذي أشاعوا أنه يرسل لها الخطابات عن طريقه، لماذا لا يستخدمه؟ واستعبط محبوب أول الأمر، ثم لما عرف تردد وخاف، وقال إنه حلف من يوم أن اكتشف خطاب امرأته معه ألا يحمل خطابات من هذا النوع. ولكن صفوت ظل يهدده ويطمئنه ونفحه - بالمرة - ريالا. وبان على محبوب أنه قبل، ولكنه عاد وقال إنه يخاف أن يضبط معه الخطاب فيروح في داهية، وأقسم له صفوت أنه سيكون مسئولا إذا حدث أي شيء. وإلى الآن لا يدري صفوت هل كان رضاء محبوب بتوصيل الخطاب رضاء نابعا من قلبه، أم كان رضاء يخفي وراءه أخبث قصد، وإلى الآن لا يدري هل هي فقط مجرد سذاجة من محبوب أن يذهب إلى بيت مسيحة أفندي ويسأل عن الست لنده من الباب للطاق، فيستوقف سؤاله انتباه مسيحة أفندي فيجذبه إلى الداخل ويضيق عليه الخناق ويفتشه فيعثر معه على الخطاب بكل بساطة. هل هي سذاجة من محبوب حين فعل ذلك، أم إنه الخبث، خبث ذلك الرجل الأمرد القصير الذي أبى أن يمثل دور رسول الغرام لأمر في نفسه، فكشف عن قصده - عن عمد - لمسيحة أفندي، وأصبح ليس عليه بعد أن وجدوا معه الخطاب إلا أن يقول: وأنا مالي؟ سي صفوت بيه هو اللي أمرني ، وأنا عبد المأمور، وليت الموضوع اقتصر على هذا، ليت المصيبة كانت في الخطاب وحده. المصيبة الكبرى أن صفوت - لشدة ما كان يعتريه من قلق على خطته - ظل يراقب بيت مسيحة أفندي من اللحظة التي سلم «محبوب» فيها الخطاب، ولم يتح له أن يرى «محبوب» وهو داخل إلى البيت، فقد فوجئ بعد المغرب بقليل بلنده نفسها خارجة من البيت في أبهى حلة وأتم زينة. وأول الأمر اعتقد أنها ذاهبة إلى بيتهم هم في أمر ما، ولكنها لم تعبر القنطرة الحجرية ولم تأخذ الطريق إلى بيتهم، ولكنها انحرفت ناحية العزبة، وظل هو يتتبعها من بعيد ويخمن قصدها، ولم يتح له أنه يخمن طويلا؛ إذ ما لبث أن وجدها تطرق باب بيت الشيخ «أبو» إبراهيم الفقي وتدخل. ترى ماذا تراها ستفعل في بيت الشيخ «أبو» إبراهيم؟ سؤال ظل يلح عليه طويلا دون أن يعثر له على إجابة ما، وأخيرا أقنع نفسه بأنها ذاهبة - لا بد - لزيارة أم إبراهيم.
صفحة غير معروفة