الحرام
خاتمة
الحرام
خاتمة
الحرام
الحرام
تأليف
يوسف إدريس
الحرام
في تلك البقعة من شمال الدلتا، حيث يمتد التفتيش واسعا عريضا لا يكاد البصر يصل إلى مداه، كانت الدنيا تمر بلحظة السكون التام حين يكون الليل وما فيه من نقيق وصرير قد ولى، وحين لا يكون النهار الكامل بأصواته وضجيجه قد أقبل بعد. سكون تام مطبق وكأنما ستقوم القيامة بعده، سكون جليل مهيب تتردد حتى أدق الكائنات في خدشه، لم يكن يجرؤ على خدشه إلا نصف كرة أبيض كان يغوص في ماء الترعة ثم يطفو ليعود يغوص، محدثا خرخشة تتعالى وتدوي في رحابة السكون. ظل هذا يحدث عددا غير قليل من المرات، ثم حدث أن غاص نصف الكرة مرة وغاب أكثر من المعتاد، غير أنه لم يلبث أن طفا فجأة مخترقا الماء في ضجة عظمى. وهذه المرة وضح أن لنصف الكرة جبهة ما لبث أن وضح أن لها عينين ثم فما، ثم لم يلبث الوجه أن تكامل واستدار الرأس آخذا طريقه إلى الحافة، وكلما تقدم ينحسر الماء عن رقبة، ثم جسد أبيض من الخلف كثيف السواد من الأمام، وقرب الحافة ظهرت الذراعان هزيلتين بالقياس إلى الجسد الضخم، ولكن على بطن الذراع اليمنى وشم فتاة ممسكة سيفا وكتابة لو دققنا النظر فيها لوجدنا أنها لاسم، والاسم هو عبد المطلب محمد البحراوي.
خرج عبد المطلب من الماء، ومع أن المنطقة بأسرها كانت خالية من الأحياء إلا أنه حين أصبح في العراء انثنى على نفسه، وضم يديه يخفي بهما عورته، وبسرعة كان قد ارتدى ملابسه، ملابس كثيرة مهرأة يضمها جميعا «بالطو» سميك مهيب أصفر اللون ذو تاريخ حافل؛ إذ اشترك في الحرب العالمية الأخيرة مع الحلفاء على هيئة خيمة، ثم انتهى كما ينتهي المحاربون القدماء إلى تلك النهاية.
وأخيرا صلى عبد المطلب ركعتي الحاضر والسنة، ولفع البندقية ذات الروحين على كتفه، ومضى على جسر الترعة يخب في نعليه المصنوعتين من كاوتش العربات.
وبينما كان ماضيا في طريقه إلى العزبة الكبيرة، فوجئ عبد المطلب بجسم أبيض غريب يرقد على جانب من الجسر. وفرح عبد المطلب فهو - ككل الناس - ما يكاد يرى على الأرض شيئا يختلف لونه عن لون الأرض إلا ويعتقد أنه عثر على «لقية»، ويدق قلبه بالفرح.
غير أنه حين بربش بعينيه، وعبد المطلب مع أنه خفير إلا أن نظره على قده خاصة في الضوء، ما كاد يرى الشيء حتى تسمر في مكانه مذعورا ومضى يصرخ: الله حي، الله حي، الله حي.
ذلك أن الشيء لم يكن إلا جنينا حديث الولادة.
دق قلب عبد المطلب دقة عالية واحدة كالطفلة، ثم انزوى يلهث في صدره ويرتجف؛ فهو «صحيح» خفير، ولكن ما يراه أمامه الآن شيء مختلف تماما عن اللصوص وقطاع الطرق؛ ولهذا فقد كان أول ما فكر فيه أن يطلق ساقيه للريح ويجري؛ إذ للوهلة الأولى اعتقد أن ما أمامه عفريت ابن جنية، ما في ذلك شك.
غير أن عبد المطلب لم يجر، بل وجد نفسه بعد ثوان يقهقه قهقهة عالية أعلى من أي قهقهة أخرى أطلقها في حياته؛ إذ كان يضحك على نفسه، فقد أدرك بطريقة ما أن ما أمامه ليس عفريتا أو شيئا من هذا القبيل، ولكنه رضيع ابن حرام على وجه الدقة، وما كاد يتبين هذا حتى قهقه؛ فقد تصور لأمر ما أيضا أن الجنين الذي يراه الآن هو ثمرة لليلة الماضية التي قضاها مع زوجته، ولدته بعد أن غادرها ليستحم في الترعة ويتطهر، ثم ألقت به في الطريق.
كان الخاطر لا معنى له؛ إذ من غير المعقول أن تحمل زوجته وتلد جنينا كاملا في نفس الليلة، ولكنه فكر فيه؛ فالإنسان وهو مرعوب قد يقف عقله ويهرب بجسده، أو قد يحدث العكس فيتسمر بجسمه في مكانه ويهرب بعقله، والعقل في جريانه المفزوع لا يتقيد بأي معقول.
وعلى أية حال لم تطل قهقهة عبد المطلب؛ إذ قطعها عليه إحساسه المفاجئ بالمسئولية، ومع أن البقعة التي وجد فيها الرضيع ليست من اختصاصه؛ إذ هي من اختصاص خفير الجرن، إلا أن بعض الناس أحيانا لا يكادون يجدون ثمة خطأ حتى يلصقوه بأنفسهم ويحس الواحد منهم أنه هو المسئول عنه، ويبدأ يدافع عن نفسه ليتهرب من المسئولية. وهكذا ظل عبد المطلب واقفا أمام اللقيط يدير في رأسه خطط الدفاع عن نفسه أمام الناس وأمام مأمور التفتيش و- لا قدر الله - أمام النيابة والمحاكم، وبينما عبد المطلب يفعل هذا كان قوس الشمس الأعلى قد بدأ يصفر ويبيض ويجوب الأفق مستكشفا، وحين اطمأن إلى أن كل شيء على ما يرام برزت من ورائه الشمس بحجمها الأحمر الهائل، ومع بروزها بدأت الدنيا تزهزه وتدعو الكائنات إلى اليقظة والعمل، وبدأ أبو قردان يصرخ ويرفرف، وبدأ الناس يظهرون، أفرادا متناثرين أول الأمر قادمين من الجامع بعد الصلاة، أو آخذين طريقهم إلى الترعة يغسلون وجوههم ويستحمون.
ومع زهزهة الدنيا كان عقل عبد المطلب هو الآخر قد بدأت تعود إليه رباطة جأشه وبدأ يتفتح، وكانت فكرة ما قد واتته بعد أن فشل في تخليص نفسه من المسئولية:
لم لا يلقي باللفافة في الترعة ولا من شاف ولا من دري؟ وتردد برهة بعد آه، ولاه، ثم لم يلبث أن تقدم من اللفافة باحتراس زائد.
في تلك اللحظة فوجئ بصوت خشن كفرع السنط يقول: اصباح الخير يا عبده.
وحملق فيه عبد المطلب بعينيه العمشاوين، فقد كان عبد المطلب أبيض أعمش ذا عيون صغيرة ضيقة لا ترى إلا في الليل، حملق فيه وقال جملته المشهورة عنه: إخص ع الناس، الله يكسفم!
كانت كلماته تخرج ملفوفة في سحابات صغيرة من بخار الصبح، وكان القادم «عطية» الذي لا يدري أحد متى جاء إلى التفتيش ولا من أين جاء، ولم يكن له عمل معروف حتى في أثناء إقامته في التفتيش، لا ولم يكن له محل إقامة؛ فهو ينام حيثما اتفق، تراه على الدوام ممسكا ذيل قميصه من الخلف، مظهرا سيقانه الخالية من الشعر، فاتحا عينا مغلقا الأخرى محدقا في محدثه بوجهه النحيف الرفيع الذي لا يطمئن إليه أحد.
ظلت ذرات البخار تخرج من فم عطية لترد عليها ذرات بخار خارجة من فم عبد المطلب، وأيديهما تشير مرة إلى اللفافة ومرات إلى الترعة والناس والعزبة والسموات العلا إلى أن انضم إليهما الأسطى محمد. والأسطى محمد رجل الحادثات بلا منازع؛ ما من واقعة مهمة تحدث في التفتيش إلا ويكون هو أول من يحضرها، ولا يدري أحد كيف تصل إليه أخبارها، ولكنك حتما سوف تجده. هو عجوز تعدى السبعين ذو لحية نابتة بيضاء وشعر أشيب وعين يسرى لا يرتفع عنها جفنه المغلق على الدوام. كان أسطى ماكينات في التفتيش، وحين كبر على العمل فصلوه، ومع هذا فأحيانا يعهدون إليه بمهام مثل إيقاد الوابور الذي يدير ماكينة الدراس أو السهر بجوار طلمبة مياه، ولكنه على أية حال لا يزال يلقب بالأسطى، ولا يزال رجل الحادثات، ورأيه فيها لا يزال هو الرأي السديد، وهذه المرة ما إن عرف ما حدث، ورنا إلى الجنين بعينه اليمنى حتى قال: ده مش ميت يا عبده، ده مخنوق.
واستنكر عبد المطلب هذا، ولكن الأسطى محمد ما لبث أن أقنعه وهو يشير إلى زرقة الجسد واحمرار ما حول الأنف والفم، طالبا منه أن يخلص نفسه من المسئولية ويبلغ مأمور الزراعة؛ إذ هو الوحيد الذي يمكنه التصرف في أمثال هذه الأمور.
ويبدو أن عبد المطلب اقتنع، فما لبث أن مصمص بشفتيه، وقال: أيوه: أحسن طريقة نبلغ المأمور.
قال هذا دون أن تصدر سحاب بخار عن كلماته، فالشمس كانت قد بدأت تبيض، والأجساد قد بدأت تسخن والندى أخذ يزول. •••
ولا أحد يدري كيف تسرب الخبر إلى العزبة؛ فالثلاثة الواقفون أصبحوا ستة، وما أسرع ما تجمهر حولهم الشغيلة السارحون إلى الغيطان وفئوسهم على أكتافهم وغداؤهم في مناديلهم، وما لبث أن انضم إليهم عمال ماكينة الدراس والمزارعون وبعض الأطفال الذين أيقظهم آباؤهم مجبرين ليزيلوا وخم النوم ويغسلوا وجوههم في الترعة.
حتى النساء كن يتركن ما في أيديهن من عجين أو خبيز أو طين ويسرعن ملهوفات إلى الخليج، ويلوثن الرجال وهن يدفعنهم ويفرقنهم ليرين ما هناك.
كل قادم كان يريد رؤية ابن الحرام هذا الذي مات لتوه، فإذا ما زاحم وزاحم حتى وصل إليه وحدق فيه وملأ عينيه من البشرة البيضاء التي ازرقت وكادت تسود، والرأس الصغير وما حوله من مشيمة ودماء، ما إن يرى كل ذلك حتى يدير ظهره ويقفل راجعا، وقد امتلأت نفسه وملامحه بمزيج قابض من الرهبة والغثيان.
وجاء مأمور الزراعة في النهاية، وسبقته الأيدي تدفع الواقفين وتفسح له الطريق، وكان فكري أفندي المأمور لا يقل رغبة في رؤية هذا الحادث - الجديد عليه وعلى العزبة - عن أي من الواقفين، ولكن كان حريصا في الوقت ذاته على ألا يفقده ذلك الشغف هيبته. فما إن قارب المتزاحمين حتى مد يده وأحكم اعوجاج طربوشه فوق رأسه، ثم اكتست ملامحه السمراء طابع الجد، وعقص رقبته في صلف كما يجب أن تكون عليه حين يراه الفلاحون، ثم وقعت عيناه على المشهد، ولم يفلح هذه المرة في إخفاء ما اعتراه هو الآخر من رهبة وغثيان. بل بدت واضحة تمام الوضوح على وجهه وتقلبات شفتيه، ثم استدارته على الفور إلى حيث يستطيع مغادرة المكان والابتعاد عنه.
وتبع المأمور في ذهابه الخولي وخفير الري وطنطاوي والأسطى محمد ونفر قليل من «التملية» والشغيلة، ساروا صامتين واجمين، والمأمور يبصق تارة في منديله الأبيض المكور وتارة على قش الطريق المبتل. •••
وكان من الممكن أن تنتهي مهمة فكري أفندي المأمور عند هذا الحد؛ فهو «صحيح» مسئول عن كل كبيرة وصغيرة تحدث في التفتيش، إلا أن العثور على لقيط ميت أو مقتول ومحاولة العثور على قاتله مسألة لا تدخل في اختصاصه بالمرة.
وذلك فعلا ما كان يدور في رأسه، وهو يمشي الهوينى في الطريق إلى مباني إدارة التفتيش، وخلفه ذلك الجمع الصغير، غير أن حب استطلاع ما بدأ يراوده، ترى ابن من هذا؟
التفتيش مكون من عزب، كل عزبة لا تتعدى بيوتها الثلاثين بيتا، وهذا اللقيط وجد على خليج العزبة الكبيرة المقامة بجوار سراية أصحاب الأرض والإدارة، حيث الإصطبلات والجرن والمخازن وجراجات مكن الحرث. لا بد أن اللقيط ابن لواحدة من أبناء هذه العزبة الكبيرة أو بناتها، والعزبة يكاد يعرف نساءها وبناتها بالواحدة، ترى أيهن هي التي فعلت هذه الفعلة؟ وترى كيف فعلتها؟ فكري أفندي طالما سمع في القصص والحواديت عن أولاد الحرام، وأحيانا كانت تبلغه فضائح مثل هذه كأخبار ليس إلا عن أناس لا يعرفهم ولا يدري أشكالهم ولا ماذا يكونون. وفي أعمق أغواره - وحتى لو كان قد قرأ الخبر في جريدة المقطم نفسها التي يؤمن بكل كلمة تقولها - فإنه كان يجد نفسه لا يكاد يصدق الخبر، لا يكاد يصدق أن أحداثا كبيرة شنعاء حراما مثل هتك العرض أو الحمل سفاحا ممكن أن تحدث فعلا. ولكنه رأى اليوم بعينه جسم جريمة كاملا ميتا يكاد يمد إصبعه، ويضعها في عين كل من لا يصدق. كانت أحاسيس غريبة تلك التي تملكته، وهو واقف يحدق في اللقيط، وكأنه يرى الشيء الحرام الذي كان يأبى أن يصدق وجوده، أو استحالة إقدام الناس على فعله، يراه أمامه مجسدا راقدا على حافة الخليج، أحاسيس كثيرة عصفت به، الحرام إذن موجود لدى الناس، أحيانا لا يستطيعون إخفاءه، ولكنه أحيانا يهزمهم وينتصر على رغبتهم في إخفائه، ويظهر متبلورا في لقيط مسجى أو في بطن منفوخ. الحرام - الذي كنت تسمع عنه يا فكري أفندي ولا تصدقه - موجود، وأمامك الفرصة مواتية لترى فاعلته كما رأيته.
تلك في الواقع هي الفكرة التي كانت تلح على خاطره في أثناء رجوعه إلى مبنى الإدارة. ترى كيف تكون فاعلة ذلك الحرام؟ أو على وجه الدقة كيف تكون الزانية؟ ما من مرة ذكرت أمامه الكلمة إلا واقشعر بدنه، مع أنه كان له - مثلما لمعظم الناس - علاقات قبل أن يتزوج وحتى بعد أن تزوج. ولكن كأنما كان يستبعد أن توجد نساء في العالم يخطئن مثلما تخطئ النساء معه، وكأنما من أخطأن معه لسن زانيات، الزانيات هن من يخطئن مع غيره.
ترى كيف تكون تلك المرأة، وهل تكون جميلة، وهل تشبه الغوازي، وهل هي مثل سائر النساء أو لا ريب تنفرد بألاعيب وحركات وتأودات هي التي جعلت ذئبا من الرجال يستفرد بها ويفعل معها الحرام؟
وقف فكري أفندي في منتصف المسافة بين الخليج وبين الإدارة واستدار، واستدار الجمع الذي خلفه لاستدارته، وراح يستعرض العزبة الكبيرة أمامه: بيوتها الداكنة والدخان الذي كان قد بدأ يتصاعد من الخروق الكثيرة في سقوفها. على رأس العزبة يقع بيت مسيحة أفندي الباشكاتب وبجواره بيت أحمد سلطان الكاتب، الشاب الأشقر ذي الطربوش الغامق المعوج والبالطو الأسود النظيف، الولد الشباب الحلو الذي طالما ضبط وهو يغمز بنتا من البنات الفائرات الكبيرات اللاتي كن أحيانا يغدون للعمل في التفتيش، وغمزته دائما ما كانت تكهرب البنت منهن حتى لتجعل ثدييها يقفزان في الهواء، ولكنه لا يبحث عمن قد يصلح ليكون الأب، هو يبحث عن الأم، فهو مستعد أن يصدق الحرام في الرجال، ولكنه - لأمر ما - يصعب عليه أن يصدق الحرام في النساء. الرجل دوره في الحرام طياري أما المرأة فدورها أساسي. هو يبحث عن الأم. وفي بحثه هذا لم يترك أحدا، حتى امرأة الباشكاتب الست أم لنده تناولها بحثه، ولكنها كانت في زيارة لزوجته في الأسبوع الماضي، ولم تكن أبدا حاملا. ومن بيت إلى بيت تنتقل عيناه، بيوت المزارعين الكبار الذين لدى الواحد منهم أكثر من ثلاثة أزواج من البهائم، وبيوت التملية الذين لا يملك الواحد منهم إلا فأسه. ونساء العزبة جميعا يمررن أمام عينيه: التي يعرفها تماما والتي لا يكاد يعرفها، التي لها ضحكة وابتسامة والتي لها قمطة حمراء أو جلابية فاقعة الألوان، البنت والعانس والعازبة والمطلقة والمشكوك في أمرها التي استجابت لهزاره مرة والتي خجلت ولم تستجب. ولم تتوقف أنظار فكري أفندي عند بيت من البيوت ولا عند واحدة بعينها من النساء، فلا أحد في العزبة يستخبى، النساء كلهن يخرجن حتى من غير أن يرتدين «الملس» الأسود فوق ثيابهن الملونة، وكلهن معروفات، لم يلاحظ أحد على واحدة غير متزوجة حملا أو انتفاخ بطن، لا يمكن أن تكون إحداهن هي أم ذلك اللقيط، مستحيل.
وأفاق المأمور من تأمله الطويل للعزبة ومن فيها ودار بعينيه على وجوه الرجال القليلين الملتفين حوله، وكان يتوقف هنيهة عند كل وجه ويحملق، وعند كل توقف كان يصفر وجه؛ إذ يكاد صاحبه يشك في براءة نفسه ويكاد يصعقه أن تطول تحديقة المأمور فيه مرة ثم يشير إليه قائلا: أنت.
ولكن إدارة المأمور لوجهه وعينيه كانت إمعانا في التفكير ليس إلا وتثبتا من وجاهة الرأي الذي استقر عليه.
وأشار فكري أفندي فجأة بالخيزرانة التي كانت معه، أشار إلى الفضاء الكائن خلف الإصطبلات وقال: لازم واحدة من دول.
وتطلعت العيون والقلوب إلى حيث يشير، وجاءه الجواب من أكثر الواقفين وكأنه فرحة البراءة: هم، ما فيش غيرهم، ودي عايزة كلام؟ دول غرابوة ولاد كلب.
قالوا هذا وتحفزوا جميعا لأي إشارة تصدر عن المأمور.
غير أن المأمور لم يشر بشيء؛ فقد عاد إلى حذائه الكالح يحدق فيه وعادت عصاه الخيزران تعبث برباط حذائه أحيانا وبالقش أحيانا أخرى.
ثم قال: ولا يمكن البت نبوية.
فقال صالح الخولي وقد غير رأيه على الفور: وما يمكنشي ليه؟ دي تاجرة بيض ولعبية.
وقال الأسطى محمد: دي بقالها عازبة زمان، حد عارف؟! يمكن. أستغفر الله العظيم.
وقال عبد المطلب الخفير: والله ما في غيرها.
غير أن المأمور لم يمهلهم، ما لبث أن استدار ومضت عيناه تتأرجحان حتى استقرتا عند الفضاء الكائن خلف الإصطبلات وقال: أبدا! هم دول ما فيش غيرهم.
وغمغم الواقفون حوله يلعنون الغرابوة ويؤيدون. •••
والغرابوة ليسوا من قاطني التفتيش، ولا يمكن لأحد أن يتصور أنهم من قاطني التفتيش؛ إذ أليسوا هم أكثر الناس فقرا في بلادهم الذين يدفعهم الفقر إلى اللجوء إلى العمل في التفاتيش البعيدة، وترك دورهم وقراهم سعيا وراء يومية لا تتعدى القروش القليلة؟ أليسوا هم ذوي الأسمال البالية والرائحة الغريبة، والخلقة الكريهة؟ لا يمكن لأحد أن يتصور أناسا كهؤلاء من قاطني التفتيش، فقاطنو التفتيش كلهم مزارعون محترمون، لكل منهم بيته وأولاده وبهائمه وجلبابه النظيف الجديد الذي يرتديه بعد انتهاء العمل ليسهر به في القهوة ويروح به في المآتم والأفراح، وليس بين قاطني التفتيش عاطل، فالعزب مبنية بحيث تستوعب المزارعين كلهم، وكأنما هي مصنع كبير خصص جزء منه لسكن عماله، وعلى هذا فهم جميعا يعملون، وهم جميعا معهم نقود، والزوجة تدخل على زوجها بسرير ودولاب وأطباق صيني وأحيانا بماكينة خياطة. والعمل ليس مرهقا إلى الدرجة التي لا يتصورها العقل، فالري بماكينات، والحرث بأتومبيلات، والدراس بماكينة كبيرة جدا تحتل وحدها نصف الجرن. وصحيح أن التفتيش يأخذ معظم ما تنتجه الأرض، ولكن يبقى للفلاح ما يستره، ويكسوه، ويطعمه، ويجعله حتما ينظر إلى الغرابوة هؤلاء نظره إلى نفاية بشرية جائعة، مضطرة إلى الهجرة كي تعمل وتأكل وتنال حظا من الحياة. حتى اسمهم لم يتفق عليه أحد، رجال الإدارة يسمونهم «الترحيلة»، والفلاحون يسمونهم «الغرابوة»، أما هؤلاء الذين تعودوا «المقلتة» والتريقة فيسمونهم «الجلب جل الجشج عنه ما جلو يا سيد عنجلو»، ومعناها «الكلب كل الكشك عنه ما كلو يا سيد (السيد البدوي) عنقلو»، إذ هكذا ينطقون الكاف، وهكذا يحتقر فلاحو التفتيش كافهم ولهجتهم وحتى مجرد وجودهم على أرض تفتيشهم.
أما الغرابوة أنفسهم فقد كانوا لا يقيمون وزنا كبيرا لتريقة الفلاحين أو نظرتهم، وكأنما هم معترفون أنهم غرابوة وأنهم ترحيلة وأنهم أي شيء قد يخطر على بال إنسان. فما دام الواحد منهم قد حظي بمكان في الترحيلة وضمن أن يعمل أكثر من ثلاثة شهور كل يوم وبأجر، فليقل عنه القائلون ما شاءوا.
والقطن يزرع في أواخر الشتاء، وما إن تولى طوبة حتى تكون بذوره قد تشققت واخترقت الأرض السمراء ونبت لكل بذرة جذر ونما لها ساق، وحين تكبر العيدان فتغطي المساحات الواسعة السوداء بطبقة خضراء جميلة ريانة، ويحل أوان الدودة ولطعها، حينئذ يدور الجدل حول الترحيلة، يكتب فكري أفندي خطابا للإدارة في مصر والإدارة ترد بخطاب، ثم يأتي الإذن، ويأتي المبلغ، ويستيقظ فكري أفندي ذات يوم مبكرا، ويأخذ أول قطار ويغير في طنطا، ثم تحمله عربة أومنيبوس «لا ينسى أن يقيدها في كشف الحساب عربة أجرة» إلى قرية من قرى المنوفية أو الغربية، غير مهم؛ ففكري أفندي يعرف قرى كثيرة ومقاولين كثيرين، قرى يسميها هو عش النمل، فالناس فيها كثيرون أكثر من اللازم، أكثر من العمل المطلوب والطعام الموجود، وكلهم - ولله الحمد - فقراء، فقراء إلى الدرجة التي كان فكري أفندي نفسه يهز رأسه حسرة حين يراهم في بلادهم، وكيف يعيشون. المهم حالما يضع قدميه في بلدهم ينتشر خبر وصوله بطريقة سريعة غامضة خفية، فيتجمع منهم مئات ويكونون موكبه، يسيرون أمامه وخلفه وعلى جانبيه ويرمقونه في تدله وأمل وكأن لديه أجولة أعمار سيفرقها عليهم بعد حين، يحيونه ويتهافتون على لمسه ولفت نظره، والشاطر من يسلم عليه ويقبل، ويدله ألف على بيت المقاول مع أنه لا يكون في حاجة إلى دليل، فمن أعوام وهو يهبط القرية، والطريق إلى بيت المقاول في قرية صغيرة كتلك لا يمكن أن يضل فيه إنسان كفكري أفندي حباه الله عقلا ومعرفة وطربوشا ونابا أزرق. هناك يجد المقاول واقفا على عتبة البيت، إن لم تكن ضجة قدومه قد وصلت إليه وأوقفته على عتبة الشارع. وسلامات تدور من النوع الثقيل، ولا بأس من دمعة تفر من عين المقاول حسرة على الأيام الحلوة التي مضت، ويصر الرجل على أن ينادي فكري أفندي بحضرة المفتش، ويخجل فكري أفندي ويتواضع ويقول: يا سي الحج. وتطير رقاب الكثير من الحمام والبط، ويأكل المأمور ويحلي ويضطجع، ويحتسي القهوة وينفث في تلذذ دخان السيجارة التي عزم عليه بها المقاول وأقسم بالطلاق أن يدخنها، بينما الضجة خارج البيت تزداد، والنمل الكثير يخرج من جحوره؛ إذ قد جاء الأمل في العمل، يخرجون من جحورهم ويتعانقون أمام البيت ويتصايحون: جاء الفرج يا أولاد والأشيا ح تبقى معدن.
ويتناقش الضيف والمضيف قليلا أو كثيرا حول «الفية» أو الجعل، المأمور يقول النفر بسبعة قروش، وقرش «فيه» يبقى بواقع ثمانية، ويصر المقاول على عشرة، ويقول المأمور: تبقى مكشوفة قدام أصحاب الأطيان.
وينتهي الأمر ربما إلى تسعة، ويخرج المأمور حافظته، ويشعر بالدفء والفجيعة والأوراق الكبيرة الخضراء ذات المادنة تلمس يده بالكاد ليعدها ثم تختفي في كيس المقاول المصنوع من الكتان والمرسوم عليه هلال وثلاثة نجوم مكتوب تحتها - ولا أحد يدري لم؟ - الحكومة المصرية، وما يكاد هذا يحدث حتى يتفرق المنادون المتطوعون في البلدة: النفر بستة يا أهالي، والقبض على خمستاشر يوم، والغايب يعلم الحاضر.
مع أنه لا تكون هناك حاجة إلى منادين أو نداء، فجميع «الأهالي» موجودون متزاحمون عند بيت المقاول في الحارة وعلى الأسطح المجاورة وأمام الأبواب.
ويصبح الصباح وتأتي خمس من عربات النقل الكبيرة ذات التصاريح الخاصة بنقل الأنفار «مثلها مثل التصاريح بنقل أجولة الأرز أو المواشي» تحمل كل منها أكثر من مائة نفر من الرجال والبنات والنساء والأطفال وتحمل أيضا صررهم وقففهم وقد ملئوها لآخرها بزوادة العيش وزلع المش والجبنة، تحملهم في كتلة ضخمة متزاحمة لا تكاد تميز فيها الرجل من المرأة ولا الولد من البلاصي. ومع انطلاق العربات تنطلق الحناجر المتلاصقة المحشورة تغني وتضحك ويصل زعيقها الفرحان إلى عنان السماء، بينما العيون، عيون المرضى والعجزة وكل من لا يستطيع حمل الفأس أو حتى الظهر، عيون المتخلفين الزائدين عن المطلوب، ترقب الموكب المنتصر، الموكب الدالف إلى العمل والأجر ولقمة العيش، وملأ الصدر أنفاس، ترقبه في عجز باك وحسرة، وربما كلمة ذليلة يتصدق بها الجار على جاره: الصبر.
وتعلن العربات قدومها إلى التفتيش بسحابات غبار ضخمة تثيرها وتملأ بها الأفق، ومع هذا فقليلا ما يسترعي ذلك القدوم انتباه من في التفتيش إلا أن يقف أحدهم ويراقب العربات القادمة ويقول لمن يتصادف وجوده وهو يضحك ساخرا: الجلب جل الجشج عنه ما جلو.
وهناك خلف الإصطبل يرص الغرابوة مقاطفهم صفوفا وراء صفوف، وينطلقون إلى الجرن والأرض المجاورة يجمعون قش الأرز والأحجار ويصنعون منها مواقد وأفرشة.
وقبل شروق شمس اليوم التالي تطفح في الجو رائحة المش وقد فتحت أوانيه، وبين الحين والحين تسمع خشخشة بصلة تتكسر وهمهمات وصرخات بنت لم تجد زوادتها، وأصوات خيزرانة الريس، وهي تدق على قفة أحدهم دقا ملحا متواصلا يستعجل به إنهاء الطعام والمسير، ولا يلبث الدق أن ينتقل من القفف إلى الأقفية والأجساد، ولكنه أيضا لا يتعدى الدق، ثم يصرخ الريس، وحينئذ تقوم الترحيلة في كتلة ضخمة غامقة اللون، لا تلبث أن تتبعها مفردات متناثرة، ويكون موكبهم أول من يضع أقدامهم فوق المشاية التي ختمها الندى، وتشرق الشمس وكل منهم قد تسلم خطا، ولا بد ظهر كل منهم محني وعيناه على اللطعة.
وقبل كل غروب يزدحم دكان جنيدي «أبو» خلف وهو الدكان الوحيد في العزبة الكبيرة، يزدحم بالأطباق الفخار والأيدي الجافة الممدودة والأصوات التي جرحتها عيدان القطن، وهي تطلب في إلحاح وبلهجتها الغرباوية المعووجة، بتلاتة ميلم زيت، بميلم ملح، بربع قرش عسل، بتعريفة دفتر بافرة، ويسب جنيدي الغرابوة واليوم الذي جاءوا فيه ولكنه يبيع، ويلعن آباءهم ويبيع، وتتكوم في درجه المزيت ملاليمهم الصدئة ونكلهم، كلها ملاليم ونكل، وأكبر قطعة فئة عشرة مليمات، وفي الغروب تماما وقبل أن تظلم الدنيا، تختلط خلف الإصطبل رائحة الزيت المقدوح برائحة السمك الصغير المشوي برائحة الجبنة القديمة والعدس والبصل والصابون الفنيك، تختلط الروائح في مزيج نافذ غريب مكونة رائحة خاصة، من شدة دلالتها ونفاذها يسميها الفلاحون رائحة الترحيلة. تتصاعد الروائح وتفتح البلاليص، ويوضع كل ما استطاعت اليد انتزاعه من الغيط، فجل أو سريس أو جلاوين أو خنشير، وتحشى البطون بكل هذا كما تحشى الأجولة بالقش، بينما الصمت يسود المكان، صمت لا يسمع خلاله إلا أصوات التشدق بلقم العيش، وأصوات بعيدة لملاعق قليلة تصطدم بالأواني النحاسية وتقتلع منها ما التصق بقاعها من حبات أرز.
وتحمل الريح الضجة والرائحة إلى العزبة الكبيرة وقاطنيها، فتنطلق النكات وتتصاعد القهقهات ويزداد الناس إيمانا بأنهم - حقا وصدقا - نفاية بشرية منحطة، أولئك الناس الذين يدعونهم الترحيلة. •••
طمس فكري أفندي الدائرة التي كان قد رسمها بعصاه على تراب الأرض، ووضع في وسطها نقطة وأخرج منها خطوطا إلى محيط الدائرة، بل دار بقدميه عليها حتى لم يبق منها سوى النقطة وقد خرجت منها خطوط مبتورة، لم تكن لديه خطة واضحة، فحتى مع افتراض أنه قد حدد أن الفاعلة من الغرابوة، فماذا يمكنه أن يفعل ليعثر عليها؟ مضى يعتصر عقله ويده تدق بالخيزرانة على رجل سرواله الأصفر ، وعيناه تائهتان في ملل المفكر، إذا كانت ثمة امرأة من الغرابوة قد فعلت هذا فلا بد أنها راقدة الآن عند مكان الترحيلة، لا بد هذا، فمن غير المعقول أن تضع الواحدة مولودا كهذا وتقتله أو يموت منها وتذهب في الصباح التالي لتعمل وتمسك خطا، والمسألة في يده وليس عليه إلا أن يتأكد.
تجهم وجه فكري أفندي علامة على أنه وصل إلى قرار، وتحرك - ومعه الجمع الصغير - إلى مكان الترحيلة، كان المكان خاويا ليس فيه سوى القفف والمواقد وبقايا الخشب المحترق وروائح الغروب، فالأنفار كانوا قد ذهبوا قبل الشروق، كالعادة، إلى الغيط. أدرك فكري أفندي ومن معه هذا بنظرة واحدة عريضة ألقوها على المكان، ولكنه آثر أن يبحث بنفسه لعل وعسى. وراح يتجول مطأطئ الرأس وقد وضع يديه وإحداهما ممسكة بالخيزرانة وراء ظهره، راح يتجول ويشمشم ويخبط القفف وأجولة الزواد بين آن وآخر من قبيل الاحتياط. ظل سائرا هكذا ووراءه الجمع حتى وصلوا في النهاية إلى «أم الترحيلة» كما كان يدعوها أطفال العزبة، والمرأة عجوز؛ من كثرة كبرها لا تستطيع أن تحدد لها سنا، ومع هذا فهي تحرس صرر الترحيلة وحاجياتهم وترعى الأطفال حتى تعود أمهاتهم في آخر النهار. توقف المأمور أمامها وغالب ابتسامته وهو يرى العجوز وحولها عشرات الأطفال بعضهم في حضنها وبعضهم قد سبح وحبا بين الصرر، بعضهم يصيح والبعض الآخر هادئ ساكن عاقل يعبث بثوب المرأة وقدميها، غالب الابتسامة؛ فالمرأة كانت حائرة ملتاعة لا تعرف كيف تتصرف، ولا ماذا تقول للأطفال أو كيف تحنو عليهم، وبينها وبين خصال الأمومة ورعاية الأطفال أزمان وأحقاب.
وعبثا حاول أن يظفر منها بجواب على كل ما وجهه إليها من أسئلة، فهي في غيبوبة السن والعجز لا تعي إلا حين يقترب بشر ما من المكان فتصرخ فيه أن يبتعد، وإلا حين تحضر الأمهات قبل الغروب وتقوم الجلبة التي تنتهي بانسلال كل أم ومعها طفلها، أو التي لا تنتهي حين تروح تتعثر في البحث مع أم عن ابنها وقد تاه بين الصرر.
ولم يكن فكري أفندي حتى في حاجة لسؤال المرأة، فلم يكن هناك أحد، ومعنى هذا شيء من اثنين: إما أن تكون الفاعلة المجرمة قد تحاملت على نفسها وذهبت مع الأنفار لتعمل حتى لا تكتشف، وإما أنها ليست من الغرابوة وقد تكون من أهل العزبة.
عند هذا الاحتمال الأخير توقف المأمور وراح مرة أخرى يحدق في الفضاء ويجوبه بعين نصف مغمضة وعين مفتوحة، وفكر قلق مخلخل. هو على يقين قاطع أن الفاعلة منهم كيقينه بيوم القيامة والنفس اللوامة، ولكن هناك احتمالا واهيا بسيطا أن تكون الفاعلة من العزبة، خاصة ومكان الغرابوة نظيف، احتمال تافه قد لا يتعدى واحدا في الألف، ولكنه احتمال والسلام، عليه أن يناقشه. لقد استعرض العزبة من هنيهة وكانت النتيجة براءة نسائها جميعا، ولكن من الجائز أنه سها أو نسي، أو فاتته واحدة تكون هي الجانية. من الجائز جدا.
لم يفطن المأمور - وهو يفكر - إلى اقتراب صالح خولي الزراعة منه، لم يفطن إلا حين أصبحت طاقية صالح الصوف التي يتعمم عليها تحت أنفه تماما، وإلا حين رفع صالح ذيل بصره في نظرة ماكرة مقترحة، وقال في همس مبتسم: ما تكونش نبوية هي اللي عملتها ليه؟
خرجت كلماته هامسة، ولكن همساته سمعها كل المرافقين، وعلت الأصوات تحتج وتؤكد أنهم الغرابوة، وتكاد تحلف على المصحف والربعة وتندد بالاتهام والباعث عليه، وتشرح - في كلمة من هنا وأخرى من هناك - قصة نبوية التي كانت زوجة لعربجي من عربجية التفتيش ومات، وترك لها العربة والحصان وبنتا وولدا. فباعت العربة والحصان وتاجرت بثمنهما في «القوطة» وأفلست، وعملت مقاولة أنفار وخبازة، وخدامة في بيت المأمور السابق، واشتغلت، أخيرا، تاجرة بيض، وربت البنت والولد، بل حتى أرسلت الولد ليتعلم في الكتاب، ولم تفرط في أي منهما، ولكن مسألة تفريطها في نفسها كانت موضع أخذ ورد ومساجلات وتكهنات. ارتفعت الأصوات تندد وتحتج وتراقب أثر الكلام على وجه المأمور، ويبدو أن الواقفين حين لم تبد على ملامحه دلائل الاقتناع بدءوا يتراجعون، وبدأ واحد يقول: لا يعلم الغيب سوى الله يا جماعة.
ورد عليه آخر: الشيطان شاطر.
غير أن نبوية التي تتميز عن نساء العزبة بأرداف وارفة وخلخال فضة سميك يكاد يطبق على نهاية ساقيها المكتنزتين، نبوية هذه لم تلبث أن أخرست كل الألسن حين شاهدها المأمور ومن حوله وقد علقت «السبت» في يدها وراحت تطرق الأبواب وهي في أتم صحة وتسأل عن البيض. استدارت الأنظار حينئذ شامتة إلى صالح تكاد من حدتها أن تخرق طاقيته الصوف وعمامته البيضاء وجلبابه الأسود الثقيل الذي لا يغيره أبدا. وتشاغل صالح عن الأنظار المصوبة إليه بأن مد يده في جيبه وأخرج صندوق سجائره وانتحى مكانا بعيدا - من قبيل التأدب - ومضى يلف سيجارة.
أما المأمور فقد غامت ملامحه لدى رؤية نبوية وأسرع بمغادرة المكان وقد بدأ صدره يضيق، وزعق بصوت مرتفع: الركوبة يا عبد المطلب.
لم يعد ثمة أمل إلا أن يجد الفاعلة بين أنفار الترحيلة الذين يعملون في الغيط.
وجاءت الركوبة بعد قليل، حمار ناعم ممتلئ لا يظهر منه عرقوب، ولا تبدو في بياضه الناصع سوادة واحدة، يرن لجامه إذا ما خطا، وخطوه خطو حصاوي أصيل.
استند المأمور إلى كتف عبد المطلب، وبدفعة قوية من جسده كاد ينخ لها الخفير ارتقى السرح المكسو الأنيق.
وما كاد الحمار يحس باستواء راكبه فوقه حتى نهق نهيقا طويلا فيه كبرياء، ثم اندفع إلى الأمام وانطلق وراءه كل الخولة وبعض التملية وعبد المطلب الخفير والأسطى محمد العجوز. •••
كانت الشمس - إذ ذاك - قد غادرت قمم أشجار الكافور العالية المزروعة كالسور المهيب حول أرض التفتيش، وبدأت تحث الخطا إلى قلب السماء. وكان الطريق الذي سلكه المأمور قفرا ليس على جانبيه شجرة، ولا حتى تنبت فوقه حشيشة، بل مجرد خط ثخين من التراب على يمينه مئات الأفدنة وعلى يساره مئات. وكان الغيط أيضا ساكنا ذلك السكون الأبدي الذي يذكرك دائما بوجوده فيئز ذلك الأزيز المتواصل العنيد. ولم يكن يخدش ذلك السكون سوى دقات أرجل الركوبة الأربع. وهي تدق الأرض واحدة وراء الأخرى، فتكاد تغوص في التراب تثير سحاب الغبار، والغبار ينهال على وجوه اللاهثين خلف المأمور وركوبته، غبار كالذباب لاسع وعنيد وشمس لا ترحم بدأت تشوي رءوسهم وظهورهم، حتى ذيول أثوابهم لم تفلح في منع نارها. أما فكري أفندي فقد وضع منديله أسفل الطربوش محاولا أن يجعل منه قبعة، وكال للركوبة ضربتين بكعب حذائه وأعقبهما بنخزة من طرف خيزرانته المدببة التي وضع في آخرها مسمار صغير معد لهذا الغرض بالذات، نخزة جاءت بين الأكتاف، ولم تكن الركوبة في حاجة إلى ضرب أو نخز فقد كانت منطلقة بكل ما تملك من قوة.
ظل الركب الصغير ينهب أرض المشاية، وهو ومأموره وتابعوه وحتى سحب الغبار التي يثيرها، لا يتعدى مجرد نقطة صغيرة متحركة في ذلك المسطح الشمسي الواسع الذي لا تدرك العين مداه. ظل الركب ماضيا في صمت، الركوبة تلهث والرجال يلهثون والعرق يسيل، حتى عرق فكري أفندي - الوحيد الجالس - كان هو الآخر يسيل. ظل الركب ماضيا هكذا مدة أدرك بعدها الأسطى محمد العجوز - وكأنما فجأة - أن لا ناقة له ولا جمل في الأمر، فكف عن الجري ونفض يده من حكاية اللقيط وجلس على حافة الطريق يكمل لهثه ويستريح. جلس على الحشيش القصير النابت على شاطئ الخليج، وكأنه شجيرة عجوز نبتت بينه فجأة، بل ما لبث أن فعل مثل شجيرات الحشيش الجالس عليه، فكما مدت هي جذورها إلى الماء الجاري في الخليج، مد هو الآخر قدميه وساقيه يبللها بالماء، وكأنما يسقي بهذا روحه التي كاد يقضي عليها لظى الشمس.
أما بقية القافلة فقد مضت في طريقها وكأنما لم تحس بتخلف العجوز وكل منهم مشغول بعرقه وشقاه وحاله.
وما من مرة امتطى فيها فكري أفندي الركوبة وسرح الغيط - وهو كل يوم يمتطي الركوبة ويسرح الغيط - إلا وأحس بمتعة، فالحمار لا يمشي ولكنه يرقص، وكل حركة منه فيها رشاقة الأصيل وكبرياؤه، ولكنه، هذه المرة، كان في شغل شاغل عن متعة الركوب، وحتى عن العرق والحر والرجال الذين يلهثون خلفه بتلك المشكلة التي ولدت له ذلك الصباح، كان عليه - لأول مرة - أن يفكر في شيء بعيد كل البعد عن مهنته كمأمور زراعة، تلك التي كان لا يفكر في غيرها، كان عليه أن يفكر في شيء بعيد كل البعد عن التقاوي والسماد والأرض العطشى والأرض التي حان وقت تسميدها ووجب. أما هذا الشيء الذي كان عليه أن يفكر فيه فهو الترحيلة، لا كما اعتاد أن يفكر فيهم، فالواقع أنه ما تعود أن يفكر فيهم إلا كأنفار، أنفار يلتقطون الدودة ويجمعون القطن ويطهرون المصارف. الشايب فيهم نفر والصغير نفر كلهم أرجل شققها الجوع والحفاء وخشنتها الأرض الصلبة، وأيد معروقة حرقتها الشمس، ووجوه متجهمة لا تعرف حزنها من فرحها ولا رجلها من امرأتها، حتى الملابس لا فرق بين ملابس الكبير أو الصغير، ولا بين جلباب الرجل - وقد حال لونه وتناثرت فيه الخروق - وثوب المرأة الأسود الباهت الذي تنسل الخيوط من كل مكان فيه، بل كثيرا ما يحدث أن يستعير الرجل منهم جلباب امرأته، وتستعير المرأة جلباب زوجها دون أن يلاحظ أحد أي فارق أو مميز.
تعود فكري أفندي أن يراهم هكذا، بل الواقع أنه - بينه وبين نفسه - لم يكن ليتصور أن بين هذا القطيع البشري كله امرأة واحدة! كلهم ترحيلة وغرابوة وأنفار. بل أكثر من هذا لقد افترض أن الفاعلة منهم، قال هذا للناس وذهب بنفسه وبحث خلف الإصطبل، ولكنه كان يفعل هذا وكأنه يفعله من وراء عقله. كان متأكدا أن الفاعلة منهم ومع هذا لم يكن ليصدق أن من الممكن أن توجد بين هذه المجموعة امرأة أو بنت تحمل وتلد، حلالا كان أو لقيطا، لم يكن ليصدق وكأن التي ولدت اللقيط لم تكن امرأة بل كانت رجلا.
هو مضطر إذن - والشمس تلهب رأسه رغم المنديل والطربوش - أن يصدق هذا، وأن يبدأ ينظر إلى الترحيلة من زاوية أخرى. فهم «صحيح» أنفار وغرابوة ولكن بينهم أيضا نساء يحملن ويلدن، بل - أكثر من هذا - يحملن ويلدن في الحرام.
الحقيقة لم يسترح عقل فكري أفندي أبدا لهذا التصور، فقد كان من العسير عليه أن يغير نظرته إلى الترحيلة في لحظة، وكان من الصعب أن يستحيل النفر منهم في خاطره إلى امرأة أو بنت تنام مع الرجل وتحمل وتنجب أطفالا. ولكن فكري أفندي كان من الصنف الذي لم يتعود قلقلة الحقائق في رأسه كثيرا قبل أن يصدقها، فليكن هذا، فلتكن الفاعلة منهم، فعليه أن يعثر عليها ويراها رأى العين ويرى كيف استطاعت أن تفعل هذا. بل لم ينتظر فكري أفندي أن يصل إلى الأنفار، بدأ خياله يسرح ويسبقه، بل ويسبق حادثة اليوم، ويتصور - وثمة لذة خفية تصاحب تصوره - القصة التي انتهت بمشهد ذلك الصباح، راح يتحسس بخياله على القصة في غير قليل من الخجل، وهو مستعد أن يكف عن تصوره في أية لحظة، راح يسبح مع قصة الحب التي لا ريب أنها نشأت بين البنت وأحد فتيان الترحيلة المفتولي العضلات المكشوفي الصدر الملوحي الوجوه، وكيف تسرب إليها ذات ليلة وكان ما كان.
وتعثر الحمار وكاد يقع، ولكنه تمالك نفسه في قوة. وفي نفس الوقت تعثر خيال فكري أفندي السارح في شيء خطر له حالا، فقد أحس باستنكار غاضب يجتاحه، معنى هذا أن الخطيئة ارتكبت فوق أرض التفتيش، وصحيح أنه ليس مالك التفتيش وليس أبدا حامي حمى الفضيلة فيه، ولكن مجرد شعوره بهذا جعله يغضب وينهال على الحمار بالعصا الخيزران ضربا جزاء له على تعثره. ولكنه - وهو في قمة انفعاله - لم يفته أن يلاحظ أن اللقيط الذي عثروا عليه اليوم كامل النمو، والترحيلة لها في التفتيش ما لا يزيد على الشهرين، هنا فقط كف فكري أفندي عن ضرب الحمار ونخزه وأحس براحة داخلية تهب عليه من صدره. الجريمة إذن لم تحدث على أرض التفتيش، فالبنت قد جاءت وهي ليست بخير، ثم لما تكامل الشر في بطنها وضعته هكذا بلا ضوضاء في سكون الليل ودون أن يشعر بها أحد، ثم خنقته حتى دون أن يكون هناك داع لخنقه.
يا لها من عاهرة!
ثم لم تكتف بهذا، وإنما تحاملت على نفسها، وسرحت مع الأنفار - على خيوط الفجر - حتى لا يتسرب إنسان إلى سرها.
يا لها من جبارة!
ولكز فكري أفندي الحمار لكزة قوية وهو يمر بيده ليمسح العرق الذي تكاثر حول فمه وتساقط من طرف أنفه، ويقول في زئير خافت: أعوذ بالله! •••
ارتفع نهيق الركوبة، ولم يكن نهيقها كأي نهيق، كان كل من بالتفتيش يعرفه وتستطيع أذنه أن تميزه من بين أصوات آلاف الحمير، فكلهم يخاف ذلك النهيق ويعمل له ألف حساب.
وهذه المرة أيضا تضايق فكري أفندي واغتاظ، فذلك النهيق كان عيب الركوبة الوحيد في نظره وكأن بينه وبين المقاولين والأنفار والخولة اتفاقا. ما يكاد يخرج للمرور ليفاجئهم - وهم عنه في غفلة - حتى تفاجئه الركوبة وتنهق ذلك النهيق العالي، الذي يصل إلى آخر الدنيا ويوقظ النومى في مضاجعهم، ويجعل كل شيء في الغيط على أتم ما يرام، وعلى استعداد مجهز لاستقباله.
حين ارتفع النهيق كان الركب قد بدأ يدخل في الأرض المزروعة قطنا وقد غادر لتوه غيط القمح. كان الغيط لا آخر له بحيث يبهرك أن تعرف أن شخصا واحدا فقط هو الذي يملكه، وبحيث تود في الحال لو كنت أنت ذلك الشخص. وشكل الغيط المزروع يذكرك حتما بالجنة، فوأنت سائر على المشاية ترى القناة التي بجوارها صحيحا، وترى عيدان القطن بكامل هيئتها ولوزها وأوراقها، ولكن شجيرات القطن لا تلبث - كلما بعدت - أن تتداخل وتتداخل، وإذا بالتربيعة تبدو أمامك مجرد مستطيل أخضر. والأرض مقسمة إلى ترابيع، والترابيع القريبة محدودة المعالم، وبين كل تربيعة وأخرى مصرف صغير، ولكن الترابيع كلما بعدت تختفي المصارف والفواصل حتى لا يعود الإنسان يرى سوى مسطح واسع غير محدود من الظلام الأخضر، الذي يضيئه عدد لا نهاية له من فوانيس أزهار القطن الصفراء.
ومن بعيد لاح خط الأنفار لا تكاد تميزه عن الخضرة المتكاثفة التي يغمق لونها كلما بعدت حتى يستحيل إلى ظلام تام، لا تكاد تميزه إلا بأعمدة الدخان المتصاعدة من الحفر التي يحرقون فيها أوراق القطن المصابة باللطع.
وأرهق الحمار نفسه كثيرا وهو يضم رئتيه لينهق بآخر ما يستطيع، ومع أن فكري أفندي لا يقرأ كثيرا لأن القراءة تتعب عينيه، وعيناه لا تستطيعان تمييز الحروف جيدا مهما قربهما من الأوراق، إلا أنه في الغيط ثاقب النظر كالصقر. وهكذا - ورغم نهيق حماره - استطاع أن يلحظ أن الخولة يقومون فجأة من جلستهم في الظل وراء الأنفار، وترتفع خيزراناتهم في الهواء وتهوي على ظهور الأنفار أو عيدان القطن ضربا وطرقعة، وأصواتهم تأتي صارخة من بعيد: وطي يا وله، وطي يا بنت.
تلك تمثيلية يعرفها فكري أفندي تماما ومل من تكرارها، وما كاد موكبه يهل على «العمل» حتى اندفع أكثر من سائق من سائقي الأنفار يجري «وتلك في رأي فكري أفندي تمثيلية قديمة أخرى» يجري ليفوز بشرف إمساك الركوبة لحضرة المأمور وهو يهبط عنها.
قال فكري أفندي وهو يسحب منديله من تحت الطربوش ويجفف به عرقه وظهره: واد يا عرفة.
وعرفة ريس سواقي الأنفار، أي ريس الترحيلة، وهو الذي فاز بإمساك لجام الحمار هذه المرة، وهو الذي يفوز كل مرة، قال: العواف يا حضرة المأمور.
واحتار المأمور أيرد التحية فيبدو وكأن «البلفة» قد دخلت عليه أم يتجاهلها فيبدو قليل الذوق، وأيضا لم يفعل هذه أو تلك فهو قد جاء لمهمة عليه إنجازها، ولكي تبدو المسألة طبيعية كان عليه أن يسأل عرفة كما يسأله كل مرة: النضافة ازيها؟ - ع السنجة عشرة يا سعادة البيه.
وتجاهل فكري أفندي سروره باللقب وزغر له قائلا: وإن لقيت لطعة؟
فأمال عرفة رأسه ووضع كفه على عنقه وقال: برقبتي.
وقال فكري أفندي بصوت لا يعرف سامعه إن كان جادا أم هازلا: يلعن أبوك على أبو رقبتك.
ولأمر ما كان يخيل لفكري أفندي أن هؤلاء الناس يفرحون حقيقة حين يلعن آباءهم ويشتمهم، بل لا بد أنهم يحسون بنوع من الهيبة والفخر وكأنه يمنحهم رتبا وألقابا؛ إذ هي في عرفهم لا بد آيات ود وصداقة وتنازل - تنازل منه - هو، مالك هذا الملك كله والآمر الناهي فيه. تلك «الأبعادية» أو «التفتيش» أو كما تسمى أحيانا «الدايرة»، أكثر من ألفي فدان من أجود الأطيان بما عليها من ناس وبيوت وماكينات وبهائم ومحاصيل، تحت تصرفه، هو السيد الأعلى لهذا كله، سيد العشرة الخولة والباشكاتب والخمسة الكتبة والأسطوات والخفراء والأجراء والفلاحين والمزارعين. هو الذي يمكنه أن يعز من يشاء ويرفت من يشاء ويحكم بالغرامة على من يشاء. في استطاعته أن ينقل الفلاح من عزبة لعزبة، ويعطيه أو لا يعطيه أرضا يزرعها، بل يستطيع لو شاء أن يطرده نهائيا من التفتيش دون أن يراجعه أحد أو يجرؤ أحد على معارضته، في استطاعته حتى أن يضرب من يشاء بالقلم أو باللكمية أو بالشلوت، بل أحيانا يحبس ويرسل المتهم مخفرا إلى المركز، ولا راد لقضائه، وما يرده الخوف، وهو لا يخاف إلا من اثنين: رئيسه المفتش، وصاحب الأبعادية، والمفتش يأتي للمرور كل شهر والمالك يأتي كل شهرين أو ثلاثة، وباستثناء تلك الساعات القليلة التي يقضيانها في التفتيش فهو دائما مالك هذا الملك كله، ألا تبدو شتيمته حينئذ لنفر من الأنفار أو سائق من السائقين منحة وتنازلا؟
الواقع أن مجرد مرور كل تلك الخواطر في رأس فكري أفندي كاد يثنيه عن عزمه؛ إذ أيصح من رجل هذا شأنه الكبير أن يضيع وقته ويشغل نفسه بمهمة غريبة سخيفة ليست من قيمته كتلك المهمة التي جاء بشأنها؟ ولكنه جاء فعلا، ولن يخسر شيئا، فإن أحدا من الأنفار أو السائقين لا يعلم بالسبب الحقيقي لمجيئه، تردد برهة ولكنه وجد نفسه يقول: الأنفار كلهم موجودون يا عرفة؟
قال عرفة في حماس: بالنفر. - أنت متأكد؟ - علي الحرام بالتلاتة من بيتي كلهم موجودين.
ومع هذا لم يصدق فكري أفندي، فهؤلاء الناس من رأيه يتمتعون بحظ وافر من قلة الدين، والواحد منهم مستعد أن يقسم بالطلاق من أجل أن يكسب تعريفة، وعلى هذا قال: طب عدهم.
وقال عرفة: حاضر، أنا خدام.
ومضى يعدهم بصوت عال مرتفع، وفي أثناء العد لا يفوته أن يري همته وحرصه على مصلحة العمل، فينهال على أي ظهر محني أمامه بخيزرانته الرفيعة في ضربة تمثيلية.
عد الريس عرفة الأنفار مرتين، وفي كل مرة يؤكد للناظر - بلهجة بدأ الشك والخوف يتسربان إليها - أن العدد مضبوط، وأن الأنفار كلهم يمسكون خطوطا ويعملون.
واستغرب فكري أفندي واندهش، كلام الريس صحيح، ولكنه متأكد أن واحدة من هؤلاء الأنفار هي التي ولدت ذلك اللقيط فكيف يتفق هذا مع وجودهم جميعا في ذلك الطابور المنحني الطويل، لا بد إذن أن الفاجرة غصبت على نفسها واشتغلت، ولكنها لن تفلت منه، فمهما بالغت في حرصها فستبدو آثار الولادة حتما عليها، كل ما عليه هو أن يمر عليهم أجمعين ويحاول أن يلتقط الدودة من بينهم، المجرمة التي ولدت في الليل وقضت على ابنها وجاءت هنا تحني ظهرها وتعمل وتتلقى الضربات، وكأنها ليست بشرا، وكأنها جنية من الجنيات أو شيخة من المشايخ.
دخل فكري أفندي في التربيعة أمام صف الأنفار ومضى يقاوم الشمس بعينيه ويتوقف قليلا لدى كل امرأة أو بنت يتأملها، العجوز يتركها والنصف يتوقف لديها، والبنت يطيل في ركنته عندها، ولأول مرة يدقق فكري أفندي في زي الغرابوة وملابسهم، ويعرف أن سراويل نسائهم طويلة جدا تصل إلى الكعبين، وتنتهي بذيل مكشكش، ودائما ألوانها فاقعة.
تعدى فكري أفندي منتصف خط الأنفار دون أن تستوقفه واحدة وكاد الخط ينتهي وهو لا يعثر على ضالته المنشودة، وفجأة لمح شيئا يبعث على الأمل، ظهرا أنثويا منحنيا هو الوحيد البادي عليه أنه ظهر أنثى، رفيع من الوسط ينتهي بردفين عريضين بارزين، ورأس هو الوحيد البادي عليه أنه رأس أنثى، تتعصب بقمطة ملونة تظهر شعرا أسود لامعا غزيرا كشعور النساء.
وقال لنفسه: لا بد أنها هي، وطي يا بنت.
قال الجملة الأخيرة وهو ينهال على الظهر المحني فعلا - ولا حاجة به إلى انحناء آخر - بضربة من خيزرانته، ضربة قاسية قاصمة تأوهت لها المنحنية ولم تتمالك نفسها فاعتدلت لتضع يدها على ظهرها المضروب وقد أفلتت منها شهقة مستغيثة، وحدق المأمور في وجهها المتقبض في ألم.
كان وجهها معافى سليما لا مرض أو ولادة فيه، وعلامات الألم المرتسمة على ملامحها علامات ألم حديث سببته ضربة العصا، ولا يمكن أن تكون علامات ألم بايت سببته ولادة، وانتقل المأمور إلى ظهر آخر، ومن ظهر إلى ظهر مضى يتفقد ويحملق ويتأكد، وانتهى خط الأنفار وغيظ فكري أفندي قد بلغ مداه، فهو قد خرج من استعراضه صفر اليدين وخابت فراسته.
وفجأة وجد فكري أفندي نفسه يهدر في الريس عرفة: طلع العمال من الأرض، وخليهم كلهم يمروا واحد واحد قدامي.
وتجمد عرفة في بله مؤقت، ولم ينطق إلا على أثر شخطة أخرى من المأمور.
وبدا وكأن الأنفار قد فرحوا كثيرا بقرار خروجهم؛ إذ هم على الأقل سيستريحون - ولو لحظات قليلة - من انحناءة ظهورهم العارمة في قسوتها وحدتها، الانحناءة التي تستمر أكثر من عشر ساعات في اليوم، فرحة كبرى أن يستريح منها الإنسان دقيقة.
اعتدل الأنفار ومدوا أيديهم جميعا وبلا استثناء تضغط على أماكن الألم في سلاسلهم الفقرية، وحين أفاقوا من غيبوبة النشوة القصيرة التي اعترتهم وعرفوا بقرار المأمور ابتهجت له النساء والبنات كثيرا، وراحت كل واحدة تمني نفسها بألف ليلة وليلة من الأحلام، معتقدة أن اختيار المأمور حتما سيقع عليها، وستقضي أحلى الساعات وهي تخطر بخفة كخادمة في بيته حاملة الأطباق أو مناولة القلة، حيث الظل الوارف، والجلوس، والطعام الكثير، وحيث لا عصا ولا خيزرانات أو سواقون، أما الرجال فإنهم مضوا غير مبالين كالمحكوم عليهم بسجن طويل.
ومر الأنفار أمام المأمور، وراح فكري أفندي يحملق في الوجوه، الكبيرة والصغيرة، العجوزة والصبية، القبيحة والمليحة، الغبية والمريضة، ويتفرس في الأجساد، الممشوقة والمنحنية، الأجساد التي تعرج والتي تقفز، الجافة والنضرة، الأجساد التي تودع الحياة والتي تستقبلها، ولم يجد أبدا - في جسد من الأجساد ولا في وجه من الوجوه - واحدة من المحتمل أن تكون هي الآثمة الفاعلة.
وهدر فكري أفندي يأمر عرفة بإرجاع الأنفار إلى الأرض ويلعن آباءهم وأباه، بجد وحقد هذه المرة.
وبينما كان يضع قدميه في الركاب ويستعد للقفزة التي تصعده فوق ظهر الركوبة كان يعتصر عقله بين مستحيلين:
فمستحيل أن تكون أم اللقيط من غير الترحيلة.
ومستحيل أن تكون هذه الأم بين الأنفار الذين تفحصهم لتوه. •••
وفي طريق عودته إلى العزبة من نفس المشاية التي جاء عليها كان الأسطى محمد لا يزال - وقد استحلى القعدة - يمد رجليه في الماء ويلعب فيه كالأطفال بقدميه. وحين رأى الموكب هالا من بعيد هب واقفا من جلسته كالملسوع وأسرع ينضم إليه، ولم يكن في حاجة لسؤال ليدرك أن الفشل كان حليف المأمور، كل ما في الأمر أنه ظل ساكتا برهة يلهث مع اللاهثين ويتحاشى سحب الغبار ثم قال بتهتهته العجوزة المتحمسة: اعمل بقى زي ما عمل سيدنا عمر يا حضرة المأمور.
والإنسان في لحظات يأسه يتعلق بالقشاية، وجذب فكري أفندي لجام الركوبة قليلا ليبطئ من ركضها، وحين حاذاه الأسطى محمد سأله: سيدنا عمر عمل إيه يا بو عقل فارغ؟
وقصة طويلة هي التي حكاها الأسطى العجوز، قصة استغرقت كل الطريق إلى العزبة الكبيرة، بدأت بأن سيدنا عمر - رضي الله عنه - كان يتجول في أنحاء المدينة متخفيا ليتفقد شئون الرعية، وفي أثناء تجواله عثر على جثة شاب في ريعان الشباب مقتولا بطعنة خنجر، وحاول سيدنا عمر أن يعثر على قاتله بلا جدوى، وأخيرا - وحين يئس - قال له شيخ حكيم: إذا أردت العثور على القاتل فانتظر تسعة أشهر وسوف تجده بين يديك. ولم يأخذ سيدنا عمر كلام الشيخ على محمل جاد، ولكن بعد تسعة أشهر بالضبط سرت شائعة في المدينة تقول: إن بنت فلان قد وضعت طفلا دون أن تتزوج أو يقربها إنس. وحينئذ قال الشيخ العجوز لسيدنا عمر: هاك القاتلة، التي ولدت حتما هي التي قتلت. قال سيدنا عمر: كيف؟ قال الشيخ: لا بد أن الشاب اعتدى عليها فقتلته.
ومع أن الحكاية أعجبت فكري أفندي وكادت تخفف من غلوائه إلا أنها لم يكن لها دخل فيما هو فيه. مجرد حكاية أخرى من حكايات الأسطى محمد الكثير الحكاوي الذي يؤلف لكل شيء حكاية، وكأن مشاكل الدنيا تحلها الحواديت.
كل الذي حدث أنه كان قد يئس تماما من إشباع حب استطلاعه والعثور على أم اللقيط، وصمم أن يلقي الأمر من وراء اهتمامه ويبلغ المركز والمركز يتصرف كما يحلو له. وزيادة في الاحتياط أملى على مسيحة أفندي الباشكاتب صيغة البلاغ، وراعى في اختيار كلماته كل الدقة حتى يخلي طرفه وطرف التفتيش من أية مسئولية.
وجاء البوليس.
وجاءت النيابة.
وجاء مفتش الصحة.
وأخليت لهم مباني الإدارة، واحتل وكيل النيابة حجرة المأمور، وتناثر عساكر البوليس يشربون الجوزة ويحتسون الشاي حول المبنى ووقف مخبر مكشوف يتلكأ عند دكان جنيدي، أما سكان العزبة فقد وقفوا من بعيد يرقبون ما يحدث، ويلقون الإشاعات ويتهامسون.
أما فكري أفندي المأمور فقد كان مشغولا حقا، ذلك أنه رأى أن ينتهز الفرصة ويعد لرجال الأمر والنهي في المركز وليمة حافلة فمصالحه عندهم كثيرة وما أقل ما يأتون إلى التفتيش؛ وعلى هذا قطع المسافة بين بيته عند رأس العزبة الكبيرة وبين مباني الإدارة عشرات المرات يشرف بنفسه على الديك الرومي ويتذوق الخبز الذي أعد في بيته خصوصا للعزومة، وكان أهالي العزبة حين يرمقونه في انبهار وهو داخل أو خارج من مبنى الإدارة يشعر هو بسعادة لا حد لها؛ إذ هو الوحيد - بينهم جميعا - الذي له حق الكلام مع المأمور والبيه الوكيل والسلام على مفتش الصحة.
وابتدأ التحقيق.
وجيء بكل امرأة وبنت من نساء الترحيلة بعد لكزها مرات لكي تخاف وتعترف، وجيء كذلك بنبوية وهي متعلقة بسبت البيض لا تريد تركه وفيه - كما تقول - رسمالها، وسئل عبد المطلب الخفير والأسطى محمد.
وانتهى التحقيق وثبت أن اللقيط مخنوق، وقيدت الجريمة ضد مجهول، وصرحت النيابة بدفن الجثة الصغيرة في جبانة التفتيش، وتطوع عبد المطلب بتكفينه وتجهيزه ودفنه.
وأكل رجال الأمر والنهي الغداء وقالوا سلاما.
وانتهى اليوم. •••
انتهى اليوم ليسلم التفتيش - إدارة وفلاحين وموظفين - إلى حيرة عظمى، فهم ما إن عرفوا حكاية اللقيط حتى أراحوا أنفسهم وقالوا: الترحيلة. ولكن ها هي ذي الحقائق تثبت لهم أن الترحيلة بريئة، وأن الفاعلة ليست منهم. حتى فكري أفندي المأمور الذي كان مصرا على أن الفاعلة واحدة من الترحيلة بدأ الشك يتسرب إلى إصراره، ومع هذا فكلما رأى أنفارهم سارحين إلى الغيط أو مروحين، رغما عنه تروح عينه تبحث بلا وعي عن النساء في الأنفار عله يلمح على إحداهن فجأة علامات الفجر والحرام. وكان أول الأمر يمتعض ويجفل ولكنه بمضي الأيام أصبحت نوازع غريبة تتحرك فيه كلما رأى بنتا أو امرأة من بنات الترحيلة، بل وجد نفسه - ذات مرة - يمزح مع واحدة منهن، ومرة ادعى لنفسه وللناس أنه يزغد بنتا في صدرها ليزجرها، وارتطمت يده طبعا بثديها، وروع قليلا حين وجده بكرا مكتنزا جامدا كالكرة الشراب.
أما البنت فقد دهش حين رأى وجهها يبهت فجأة وكأنما سحبت منه كل دمائه، ثم يغمق لونه في التو وتحمر وجنتاها وتجفل وكأنها خجلت وغضبت، يا ألطاف الله! أممكن أن نساء الترحيلة تخجل وتغضب هي الأخرى كبقية خلق الله؟
أما بقية الناس في التفتيش فالمسألة لم تمر هكذا بسهولة، وكأنك ألقيت بحجر ضخم في ماء راكد آسن. بدأت الاتهامات والشكوك تنهال من كل صوب، حتى لم تسلم واحدة من نساء العزبة الكبيرة من الشك في أمرها مع علمهم التام أنهن جميعا بريئات، ولكن لا بد لكل خطيئة من خاطئة، ولكل جريمة من فاعل، ولا بد أن يكون لتلك الجريمة فاعلة، والجريمة عرفوها، ترى من تكون الفاعلة؟
بل أكثر من هذا بدأ الشك يزحف من بيوت الفلاحين المنخفضة إلى بيوت الموظفين العالية، فبدأ الفأر يلعب في عب مسيحة أفندي الباشكاتب، وبدأ يخاف أن يكون المحظور قد وقع، والحقيقة أنه كان خائفا دائما أن يقع المحظور، بل أكثر من هذا هو دائم الخوف من المحظور وغير المحظور.
مسيحة أفندي أرسخ الموظفين جميعا أقداما في التفتيش؛ إذ هو قد تربى فيه من أيام البرنسيسة، وتدرج من نفر بالأجرة يرسله أبوه ليتعلم مبادئ الحساب والقراءة والكتابة عند المعلم قيصر الباشكاتب القديم، كاهن الحسابات الأكبر الذي يعرف أسرارها وعلمها، يرسله أبوه حيث يجلس تحت قدمي المعلم قيصر في وجل وتقدير، منتظرا - كالكلب الأمين - أن يلقي إليه معلمه بين الحين والحين بحسبة من الحسب، فيتلقفها مسيحة الفتى واجف القلب خائفا خوف الموت أن يخطئ في حلها، فيغضب منه الباشكاتب ويضن عليه بأسرار الحرفة. ومن أجل هذا فهو الأطوع له من بنانه، يخدم في منزله ويذهب إلى البندر البعيد ويشتري حاجياته ويحافظ على زجاجة الزبيب أكثر من محافظته على عينه، وإذا ما همهم المعلم قيصر لينطق تفتحت أذناه كلتاهما لكلامه، وإذا ما تكلم لا يصغي إليه وإنما الأدق أنه يمد أصابع نهمة من أذنيه ليلتقط كل كلمة تخرج من فمه ويدسها في رأسه بسرعة مخافة أن تضيع أو تتبدد؛ إذ من حساباته وكلماته سينتقل مسيحة من طبقة إلى طبقة، ومن فتى مآله الزراعة والعمل بالفأس حتما إلى أفندي يجلس على مكتب ويعمل بذلك الشيء الصغير الساحر: القلم.
كل كلمة يقولها المعلم قيصر كانت تثبت في عقله ويتشبع بها كالصبغة الأصلية التي لا تبهت، كل كلمة حتى النوادر التي يحكيها، وأهم نادرة تلك التي حكاها له المرحوم ذات مساء فأصبحت بوصلة حياته.
قال المعلم قيصر: الاتنين في اتنين بكام يا بني يا مسيحة؟
فأجاب مسيحة كالتلميذ الشاطر: بأربعة يا معلمي.
ولدهشته أجابه المعلم: آه، عمرك ما ح تبقى باشكاتب يا مسيحة.
فحزن مسيحة جدا، وسأل معلمه عن سبب هذا وهو مغموم فقال له المعلم تلك الحكاية: أراد أحد أصحاب الأرض أن يعين كاتبا عنده فأعلن هذا للناس، وصار يأتيه طلاب الوظيفة من مشارق الدنيا ومغاربها ويقابلهم واحدا واحدا. وكان لا يسألهم أبدا عن مؤهلاتهم أو أسمائهم أو الأماكن التي عملوا فيها، كان فقط يسأل الواحد منهم ذلك السؤال الذي سأله إياه: الاتنين في اتنين بكام؟
وكلما سأل أحدهم ذلك السؤال وقال له على الفور: أربعة، كان يقول له: اتفضل من غير مطرود. ظل هذا يحدث إلى أن دخل عليه رجل كبير في السن يحمل تحت إبطه دفترا وفي يده جراب فيه دواية حبر وريشة كما كانت العادة في الكتبة أيام زمان. وحين أصبح الرجل أمام صاحب الأرض سأله السؤال المعتاد: الاتنين في اتنين بكام؟
فقال له الرجل: الاتنين في اتنين؟
قال: نعم.
قال له: استنى يا سيدي علي، أيوه أقول لحضرتك.
وجلس ، وفتح الدفتر الذي معه وأخرج الدواية والريشة وكتب على الورقة أمامه: اتنين في اتنين يساوي أربعة.
ثم قال لصاحب الأرض: أيوه يا سيدي، الاتنين في اتنين بأربعة ما عدا السهو والخطأ.
حينئذ قال صاحب الأرض: بس، أنت اللي تاخد الوظيفة، مبروكة عليك.
الحرص والحذر وعدم ترك الشيء للصدف ذلك ما علمه إياه المعلم قيصر قدست روحه، وذلك ما جعله يخلفه في وظيفته حين مات، وما جعله يعمل في التفتيش أكثر من أربعين عاما ماضيا على تلك القاعدة بلا سهو أو خطأ، يقبل عليه مآمير ومفتشون ويذهبون وتباع الأرض وتشترى وهو وحده الثابت الخالد، قابعا وراء مكتبه الضخم وعلى يمينه أكوام الدفاتر أقل دفتر منها يزن عشرة كيلو جرامات، وعلى يساره أكوام. وهو العالم الخبير بكل أحوال التفتيش وتاريخه، يعرف كل فلاح بالاسم والأب والأم، ويتذكر السلفة التي أخذها فلان حتى قبل أن يفتح الدفتر، يعامل الفلاحين - رغم عشرته الطويلة لهم - بأبلغ الحذر ويختلط بهم ويضحك معهم ويستشيرونه في أحوالهم وأخص خصائصهم، ولكنه دائما مسيحة أفندي الباشكاتب.
واللقيط جعل الفأر يلعب في عبه لأنه أدرى الناس بالإشاعات التي تروج في التفتيش وخاصة تلك التي تروج عنه وعن عائلته. ومسيحة أفندي كان له ثلاثة أولاد: اثنان منهم في ثانوي والثالث الأكبر أخرجه من المدارس وسعى حتى جعله كاتبا في عزبة قريبة. وكانت له ابنة واحدة جعلها تأخذ الابتدائية ثم أقعدها في البيت تنتظر العريس، والعرسان قليلون؛ إذ من أين يعلم العرسان بهذه الغادة الجالسة تنتظرهم في ذلك المكان النائي الكائن على شمال الدنيا؟ وحتى كونها أجمل بنت في التفتيش لم يشفع لها. فبالمقارنة إلى بنات الفلاحين كانت لنده بيضاء كالقطن المندوف. لونها وحده كان كافيا ليجعلها ملكة جمال، مع أنها كانت حين تسافر إلى أقاربها في شبرا مصر مع أمها كانت الأم تسمع بأذنها همسات قريباتها والجارات بأن أنفها كبير وفمها أوسع قليلا مما يجب، وقدها غير ممشوق وشعرها خشن أكرت.
ولكن هذا يحدث في شبرا مصر، أما في التفتيش فهي الجميلة بلا منازع، الجميلة إلى الدرجة التي كان الشاب من شباب الفلاحين يدق قلبه بالانفعال حين يلمحها من بعيد تطل من شباك بيتهم، أو تتمشى مع عائلتها وعائلة المأمور على الترعة.
والمشكلة في عائلة المأمور هذه؛ فزوجته الست أم صفوت فلاحة، أو هكذا تبدو حين تتحدث مع الست عفيفة زوجة الباشكاتب التي تربت في مصر وتعلمت وتمدينت. ولأن الست أم صفوت كانت زوجة الرئيس فقد كانت الست عفيفة على الدوام تحرجها وتظهر لها مدى فلحها وجهلها، وتفعل هذا بلباقة شبرا وحذر زوجها مسيحة. وكانت أم صفوت تغضب وتركب - حينئذ - رأسها وتتحدى وتقضي الساعات الطوال تلعن عفيفة أمام نساء الفلاحين وتنال منها. والمشكلة أيضا ليست في المأمور وعائلته، المشكلة في ابنه الوحيد صفوت، كان في العشرين من عمره راسبا لثالث مرة في التوجيهية مدللا من أبيه وأمه والفلاحين وكل قاطن في التفتيش. طوال النهار معلقا البندقية الخرطوش في كتفه، مرتديا جلبابا بلديا أبيض مثل الجلاليب التي يرتديها الفلاحون كنوع من العياقة، وبرنيطة صفراء ومنظارا أسود ومنقبا عن اليمام يصطاده، ولا يحلو له إلا صيد اليمام. وكان لا يحلو له الصيد إلا على الترعة المارة من أمام بيت الباشكاتب. والعلة يعرفها الجميع، فمن أعوام مضت والناس تتحدث عن الصائد واليمام، وعن سي صفوت والست لنده، والغرام المشبوب الذي تحده الترعة، ويحده عدم وجود الفرصة واختلاف الدين ويحتبس في صدر صفوت، وينغلق عليه صدر لنده بالذات، ولكنه أحيانا يطل بذراعها حين ترتفع وكأنها تمسك حديد النافذة، ويعني ارتفاعها تحية مستخفية خجلة بصورة يقولون: إن لنده تحتفظ بها في ذلك القلب الذهبي الذي يتدلى من عنقها المرمري الأبيض بخطابات يقولون إنها تتبادل عن طريق محبوب، ومحبوب هو بوسطجي التفتيش؛ إذ لم يكن للتفتيش مكتب بريد، محبوب هو الذي يذهب إلى محطة قطار الدلتا الكائن عند أول التفتيش، وحين يجيء القطار الصغير المتدحرج يتشعبط هو في النافذة المخصصة للبريد ويعطي للمستخدم ما معه من خطابات مصلحية وأهلية ويتسلم منه الوارد من الخطابات، وكان محبوب قصيرا جدا ، لا يكاد يبلغ طوله طول الأطفال؛ ولعله لهذا كان يسبق الناس ولا يمل من التنكيت على نفسه. كان صغيرا وملامحه صغيرة وساقه كانت لا تتعدى الشبر، وفي نفس الوقت أغرب بوسطجي؛ إذ لم يكن يعرف القراءة أو الكتابة ومع هذا ومن قلة أولئك الذين يأتي لهم خطابات في التفتيش كان يعرف بطول المران الخطاب القادم من المنصورة للمأمور، من ذلك المكتوب بالقلم الكوبيا وبخط مائل القادم من الجعفرية من قريب الشيخ شعبان له.
وهكذا كان محبوب يوزع خطاباته، يعطي لمسيحة أفندي الخطابات المصلحية ويوزع البقية على أصحابها دون أن يخطئ في شخص أو عنوان، حتى الحقيبة التي كان يحمل فيها الخطابات كانت صغيرة جلدها كالح مجعد، كجلد وجهه. ومحبوب كان متزوجا من زكية، واحدة من أضخم وأطول نساء التفتيش، وكان الرجال حين لا يجدون شيئا يفعلونه يكتفون محبوبا ويحاولون إجباره على أن يعترف لهم كيف ينام معها، ومحبوب يستغيث والرجال يضحكون لاستغاثته واعترافاته. وأغرب شيء أن زكية كانت - على عكس زوجها - تجيد القراءة والكتابة، حتى إنها الوحيدة من بين نساء التفتيش التي كانت تستطيع قراءة الجرنال، والجرنال الوحيد الذي كان يأتي إلى التفتيش كان هو المقطم. ولا يدري أحد لم المقطم بالذات؟ ربما لأن الإدارة في مصر هي المشتركة فيه وهي التي تختار، وربما لأن المقطم كان يهتم بنشر الأخبار الزراعية أكثر من غيره، وربما لأن أصحابه كانوا هم الآخرين خواجات.
وكانت زكية مدمنة قراءة الجرنال، حتى إنها كانت تعترض طريق زوجها وهو قادم من المحطة وتنزله من فوق الحمار بالقوة وتغتصب منه الجرنال، ولا تعطيه إياه إلا بعد فراغها تماما منه. ومحبوب واقف عاجز يخاف منها أكثر مما يخاف لو تأخر عن المأمور، فهو يستطيع إلقاء عبء التأخير على قطار الدلتا الذي ليس له مواعيد، أما زكية فأنى له أمامها بالقدرة على اختلاق المعاذير، والعزبة التي يسكن وإياها فيها تقع قبل العزبة الكبيرة حيث الإدارة، وهي على الدوام تنتظره وتقطع عليه الطريق؟
كانوا يقولون: إن الخطابات يتبادلها صفوت ولنده عن طريق محبوب، تعطيه لنده الخطاب وبدلا من أن يذهب به لقطار الدلتا يهرول به إلى حيث طلقات بندقية صفوت ولو كانت تدوي عند آخر التفتيش، وله الحلاوة واليمام والبقشيش.
كان خبر هذا كله عند مسيحة أفندي، وكم من مرة أوقف محبوبا وفتشه مدعيا أنه يبحث عن خطاب، وكل مرة لا يجد شيئا في حقيبة محبوب، ولا حتى في جيوبه حين يصر على تفتيش الجيوب.
واليوم - وبعد هذا الحادث الغريب - لعب الفأر في عب مسيحة أفندي، ولم يكن وقت انصرافه من المكتب قد حان مع أنه ليست هناك ساعات عمل محدودة، إلا أنه تعود أن يبقى في المكتب إلى وقت الغداء، ولكنه يومها قام وغادر المكتب والإدارة وعبر القنطرة الحجرية وتوجه إلى بيته القائم على رأس العزبة يتلقى تحيات الفلاحين بغمغمة لا يفتح فيها فمه. ومع هذا، وفيما هو فيه لا ينسى أن يضم ذيل جلبابه ويرفعه مخافة أن تعلق قذارات الطريق. كان في زيه الدائم: الجلباب الإفرنجي الأبيض الذي ليس له ياقة، والبالطو الأبيض والطربوش، جميعها بيضاء ولكنك لا تلمح فيها بقعة. كثيرا ما عيرت أم صفوت زوجها المأمور حين يأتي لها ببنطلونه الأصفر متسخا حاملا في ثنية ذيله الطين والحصى والتراب، تعيره وتقول له إنه لا يساوي قلامة ظفر مسيحة أفندي الذي ما رأته أبدا وعلى ملابسه ذرة تراب، بل تبلغ بمسيحة أفندي شدة حرصه على ملابسه أنه حين يسافر ويضطر اضطرارا إلى ارتداء البدلة الوحيدة التي يملكها، والتي تبدو على الدوام جديدة وكأنها بنت العام مع أن عمرها لا يقل عن العشرة الأعوام بأي حال، يبلغ حرصه درجة أن يضع منديلين حول ياقتها مخافة أن يتسرب عرق قفاه إليها إذا اكتفى بوضع منديل واحد.
بقامة قصيرة منحنية، وبوجه شاحب (إذ هو الوحيد بين سكان التفتيش الذي يعمل معظم نهاره في ظل المكتب)، وبذقن خضراء كثة، وبملابس ملمومة نظيفة ارتقى مسيحة أفندي الدرجات القلائل التي تؤدي إلى باب بيته، والباب مفتوح فلا تغلق أبواب الدور في الأرياف إلا لماما، ودخل. وكان لمسيحة أفندي ضجة دخول معتادة ما إن يطأ عتبة الباب حتى يبدأ أسئلته واستفساراته وتعليقاته، هيه، إنتو فين؟ بتعملوا إيه؟ بعت لكم الواد بالخضار، واتأخرتم في الغدا ليه؟ اللحمة كانت عجوزة ولا إيه؟ دي كويسة، وانتي مالك يا لنده، ضرسك تاعبك ولا إيه؟
يقول هذا وهو يهز رأسه هزات من يبحث بأنفه عن شيء، وينقب بعينيه الرماديتين عما خلف كل شيء. ولكنه هذه المرة دخل صامتا واجما. وفي الصالة المضيئة - أكثر من اللازم - كانت عفيفة زوجته جالسة أمام طبلية صغيرة ومعها أم إبراهيم زوجة فقي التفتيش، ودميان سلفها أخو مسيحة أفندي، وكان الثلاثة يصنعون «شعرية»، ودميان يمسك العجينة ويفتلها بيد وبيده الأخرى كان يقرأ الفنجال لأم إبراهيم ويقول لها: ح تشوفي خير بعد نقطتين. قولي يا رب.
وكاد مسيحة أفندي ينهر أخاه، ولم تكن هذه أيضا عادته، فهو يعرف - مثلما يعرف كل الناس - أن أخاه معتوه، وأن عقله يبدو أنه قد كف عن النمو مذ كان طفلا، فأصبح له جسد رجل قصير كأخيه في الخامسة والثلاثين، وعقل طفل في العاشرة، وذقن سوداء كثة كفرشة الملابس لا يحلقها إلا كل حين وحين. جلبابه الكزمير لم يتغير أبدا، وطاقيته ذات الحائط والمصنوعة من نفس قماش الجلباب على رأسه عمره ما خلعها، وعمله الخدمة في بيت أخيه، ينظف النحاس ويقيس الدواجن، ويعلم أرجل الكتاكيت حتى لا تتوه مع كتاكيت الجيران، ويغسل الملابس، ويحضر الطلبات من الدكان، ويرعى الأولاد ويمسح أحذيتهم، ويفعل هذا كله وهو يحيا في ملكوت طفولي من صنعه، يقابلك في منتصف الطريق فتقول له: إزيك يا خواجة دميان؟ فيوقفك قائلا: الله يسلمك، ثم يرفع وجهه إلى السماء وكأنه يقرأ ما كتب لك، ويبلل سبابته وإبهامه بلعابه ويضعهما فوق ظهر يده اليسرى، ثم يرفعهما ويقول لك: إن شاء الله سعيد. لعبة كبيرة للأطفال، ولعبة صغيرة للرجال، ولعبة رجالي للنساء، وكل ما كان يهم النساء، وأحيانا، هو هل دميان ينفع النساء أم لا ينفعهن؟ بعضهن يقلن إن الست عفيفة لا تستخبى عليه وتعامله كصبي حريم. وبعضهم يقول: لا، إن ذقنه الكثة السوداء خير دليل على رجولته. ويسألونه: لماذا لم تتزوج يا دميان؟ فيضحك ضحكته الغريبة التي تبدو وكأن رجلا يحاول أن يقلد ضحكة الأطفال ويقول: إلهي ربنا يخليك. حتى لقد بلغ العبث به إلى حد أن بعضهم كان يطلب منه أن يسلم، فكان يقول لهم: أنا مسلم وموحد بالله، ويقرأ الفاتحة وآية الكرسي، ورغم هذا فقد كان هناك رأي يقول إن دميان خبيث ولكنه يستعبط. المحرج في الأمر أن دميان كان شقيق مسيحة أفندي الباشكاتب، وأن تسخر من شقيق الباشكاتب أمر محرج، أو أحيانا أمر مبهج، وكأن الفلاحين يبهجهم أنهم يستطيعون أن يسخروا من الإدارة في مواجهتها حين يسخرون بدميان.
عسعس مسيحة أفندي بعينيه في الصالة والحجرة القريبة المفتوحة، ولكنه لم يلمح لنده. وأخيرا - وحين لم يجد بدا - سأل عنها زوجته، فقالت له: تعبانة شوية، وهب فيها مسيحة أفندي وكأنه فوجئ: تعبانة ليه؟ ما لها؟ وما قولتليش ليه؟ دي نسوان إيه دي؟! وهي فين؟
قالت له عفيفة: إنها راقدة على فراشهما، وبخطواته المتدحرجة وصل مسيحة أفندي إلى حجرة النوم. حجرة نوم عتيقة بالية بالغة القدم، نفس «جهاز» عفيفة الذي دخلت به من أعوام كثيرة مضت. الدولاب بلا ضلف، والسرير جددت ألواحه مرات، وعمدانه عليها بيض ذباب أسود متجمد، والناموسية معلقة من ثلاث نواح فقط والرابعة مقطوعة. كانت الناموسية مسدلة، وحتى قبل أن يرفعها قال - والفأر قد بدأ يزداد لعبا في عبه: ما لك يا لنده؟
ووجدها نائمة وحسب أنها تتناوم وازداد قلبه اضطرابا، ورفع الناموسية وواجهها. كان شعرها الأصفر المجعد الذي ما رآه أحد إلا مرتبا وأنيقا ومعتنى به، وكأنما تدرك صاحبته بغريزتها خشونته فتحاول باستمرار أن تجعله يبدو حريريا ناعما. كان شعرها منكوشا وخصل منه تغطي جبهتها، وعيناها منتفختان قليلا وكأنما انتهت صاحبتهما من نوبة بكاء.
سألها أبوها عما بها فقالت له: عندي مغص، ولأمر ما، ربما من الطريقة التي قالتها بها، ربما من مرآها بشعرها هذا وعينيها المنتفختي الجفون، لأمر ما أحس مسيحة أفندي - فجأة وبشكل قاطع - أن بنته لنده هذه لا بد أن تكون هي التي ارتكبت جريمة الصباح. إحساس دفعه لأن يتوقف عن استرساله في الكلام، ويحدق فيها وكأنما يراها وكأنها ليست ابنته، وكأنها أنثى داعرة، لأول مرة في حياته، وبين شكه في هذا ويقينه من أنها ابنته، راح مسيحة أفندي يمسحها بعينيه الضيقتين ويتحسس يدها وبطنها مدعيا أنه يسألها عما بها، وبطنها بالذات، لم تكن له ليونة بطون الوالدات ولكنه كان يوجعها.
الشك لم يكن مسيحة أفندي قد أحسه أبدا إلا تجاه الآخرين، تجاه الفلاحين والمآمير والإدارة وكل الناس. لم يكن أبدا قد أحسه تجاه نفسه أو من هم في حكم نفسه، تجاه عائلته، تجاه ابنته لنده بالذات. حياتها علنية أمامه وأمام أمها وأمام الناس، وحتى إشاعة رسائل العيون والنظرات والإشارات بينها وبين صفوت تكاد تكون علنية هي الأخرى، وحياتها العلنية هذه هي كل حياتها، فهل من الممكن أن تكون لها حياة أخرى، حياة تزاولها مع صفوت ابن المأمور في الظلام؟ ليت الأمر جاء على شكل أسئلة حيرى تريد الإجابة. الأمر جاء على شكل حمى داخلية اجتاحت مسيحة أفندي دون أن يكون في استطاعته النطق أو التنفيس. لنده مغصها قد يكون حقيقيا وقد يكون حجة وستارا، وزوجته عفيفة قد تكون - على عهده بها - كثيرة الرغي واللت والتعليق، ولكنها رفيقة عمره الوفية الأمينة، وقد لا تكون كذلك، قد تكون هي المتسترة على بنتها، بل وما أدراه أنها لا تتستر أيضا على نفسها؟
لم يعد في وسع مسيحة أفندي أن يبقى بالحجرة، فقد أحس أنه يختنق وأن ليس باستطاعته الكلام. غادرها إلى الصالة حيث الشعرية والمجتمعون حولها، رأته عفيفة متغير السحنة فسألته عما به، وهمهم وغمغم ولم تفهم مما قاله حرفا. نادى على دميان أن يتبعه وغادر البيت وتلكأ ليلحقه، وشهد جسر الترعة الممتد أمام البيت أغرب حوار يدور بين الأخوين. الدنيا حارة لافحة، والشمس في كبد السماء تتوهج ملايين أفرانها وترسل على الكون حممها، ومسيحة أفندي سائر وبجواره دميان يحاول - لأول مرة في حياته - أن يحدثه حديثا جديا، حديث الأخ لأخيه، يحاول أن يسأله إن كان قد لاحظ شيئا أو فطن إلى شيء، يسأله عن صفوت ولنده، والحرام والحلال، ودميان سادر في رواية غريبة عن دجاجة كل يوم يقيسها فيجد فيها بيضة، ولكنها لا تبيضها، مؤكدا أن البيضة لا بد فيها سر، وقد تكون مفتاح كنز ما خائف إن هم ذبحوا الدجاجة أن يذهب ما فيها من كنز وسر، وإن هموا تركوها أن يسرقها الجيران.
وأخيرا لم يعد مسيحة يحتمل، زجره بعنف وسبه وتركه ومضى، ووقف دميان حائرا لبعض الوقت وقد توقف عن استرساله، ثم ما لبث أن أدرك أن أخاه سبه وشتمه، ويبدو أن تلك أول مرة كان يحدث فيها هذا؛ إذ ما لبث أن راح يبكي وقد خلع طاقيته يجفف بها دموعه، وبدت رأسه صلعاء تقدح شررا تحت الشمس. •••
في نفس ذلك الوقت كان صفوت ابن المأمور متكئا في شبه غيبوبة على مسند الكنبة الوحيدة في بيت أحمد سلطان كاتب الأنفار في التفتيش، وتلك كانت جلسة صفوت المختارة، حين ينتهي أحمد من عمله ويئوب إلى بيته، فيضطجع الاثنان أحيانا حول «الجوزة»، وأحيانا حول امرأة وأحيانا حول فنجال. أحمد سلطان هو الأعزب الوحيد بين موظفي التفتيش، وهو أيضا الوحيد الذي يقطن بمفرده في بيته الملاصق لبيت مسيحة أفندي. ومن بين الموظفين جميعا فإن أحمد سلطان هو الوحيد القريب إلى قلب صفوت. كان شابا مثله، وأهم من هذا كان أكبر منه في السن والتجربة والمعرفة الأكيدة. لم تكن صداقة بالمعنى المفهوم هي التي تجمعهما، فأحمد سلطان في معاملته لصفوت لا ينسى أبدا أنه ابن المأمور رئيسه ورئيس التفتيش، وفي معاملة صفوت لأحمد حد معين من التحفظ. فأحمد هذا لا يجيد القراءة والكتابة والله أعلم كيف وصل إلى وظيفته تلك، شتان بينه وبين صفوت الذي يستعد لدخول الجامعة وإكمال تعليمه في القاهرة. ولكن - مع كل هذه الاعتبارات - فتآلفهما مضرب الأمثال، وأيضا مبعث شقاء فكري أفندي المأمور الذي كان لا يطمئن أبدا إلى أحمد سلطان، ولم يفلح زجره ولا حتى الشجار العنيف في فصم هذه العلاقة.
كان صفوت متكئا على مسند الكنبة يتبادل هو وأحمد سلطان سيجارة ملغمة، يتناوبان أخذ أنفاسها وهما حريصان في نفس الوقت على إبقاء طفيتها عالقة بالسيجارة، وكأنما لو وقعت الطفية ذهب المزاج. وكان ثمة حديث يدور، وأهم خبر في ذلك اليوم كان هو حادث اللقيط، وطبعا كان الحديث يدور حوله.
والواقع أن ما كان يدور لم يكن حديثا بالمعنى المفهوم. كان صفوت في قمة انفعاله لمعرفة علاقة أحمد سلطان باللقيط، وكأن قد ثبت لديه - بطريقة قاطعة - أن بينهما علاقة ولم يبق إلا أن يعرف كنهها. ولكنه كان لا يريد أن يبدو في عين أحمد سلطان كالطفل المحب للاستطلاع، كان يريد أن يجعله يعتقد أن أسئلته إنما هي أسئلة رجل مجرب لرجل مجرب. ولعل هذا هو السبب في طريقة جلوسه على الكنبة حيث كعى كعية رجل مجرب ذكي خبير، ولعله أيضا السبب في تلك الابتسامة التي قصد منها أن يقول لمحدثه: أنا كاشفك قوي! بل حتى مداعبة شاربه، الشارب الباهت الذي لم يتعد عمره العام الواحد، والذي تعمد صاحبه أن يحيطه بالرعاية وينميه لكي يبدو ابن أعوام. حتى مداعبة الشارب كانت تتم بروية وكأنها مداعبة كبير لشاربه الكبير.
وكان أحمد سلطان ينصت وابتسامة كبيرة لا تغادر ملامحه. ابتسامة كان صفوت يحس أمامها دائما أنه مهما قال وتحدث عن مغامراته فهو صغير، مجرد تلميذ خائب في مدرسة أحمد سلطان ناظرها. ابتسامة يظن صفوت أنها ابتسامة تهكم وسخرية، مع أنها قد لا تكون كذلك.
ظل صفوت يتحدث وأحمد سلطان ينصت، وأخيرا بدا أن صفوت قد كف عن إخراج كل ما في جرابه وأفلس، فقال لأحمد: أبو حميد، بذمتك ابن مين ده؟
هنا قهقه أحمد سلطان، واحدة من قهقهاته العاليات التي كانت تسمع في بيت مسيحة أفندي، وكلما سمعها مسيحة - تخترق الجدران وتصل إلى آذانه وتكاد تخرقها - اشمأنط، ولوى بوزه، وأفلتت من فمه كلمة سباب. ولأمر ما لم يطمئن صفوت لقهقهة سلطان، وحسبها أنها قهقهة تهكم هي الأخرى، ولعل هذا هو السبب في أنه استطرد قائلا: تعرف إنك غويط قوي، كده ولا لأ؟
وقال أحمد - وقد آبت قهقهته إلى ابتسام: ليه؟
ومضى صفوت يشرح له لماذا هو خبيث وغويط، وكيف يستحل لنفسه أن يقوم بمغامرات أخرى - لا يعرفها صفوت ولا تصل إلى علمه - مع أنهما في الخير والشر سواء.
وحاول أحمد أن يغير الموضوع ويسأل صفوت عن آخر أخباره مع لنده. والحقيقة أن ذلك الموضوع كان هو موضوع صفوت المفضل لا يمل الحديث عنه، ولا تخلو جلسة مع أحمد سلطان منه. فعلى الرغم من كل شيء، على الرغم من بندقية الصيد المعلقة في كتفه ومغامراته في القاهرة وعاصمة المديرية، وعلاقاته الطياري مع بعض نساء التفتيش وبناته، فقد كانت لنده تحتل من قلبه مكانا خاصا تحيا فيه باستمرار. لم يكن قد قابلها كثيرا، وكل ما دار بينهما من حديث لم يتعد جملا تعد على الأصابع، تبادلاها خلال علاقة استمرت سنين طويلة بين عائلتيهما ولكن كان هناك شيء يحسه في نفسه تجاهها ويحسه في نظراتها تجاهه، شيء غير منطوق أو مرئي، ولكنه موجود وقائم، يغذيه بشجن خفي يدغدغ أحاسيسه الداخلية، ويجعله كلما شعر به يريد أن يبكي فعلا، أو أن يضحك، أو يهدم سراية التفتيش وكل مبانيه. وأحيانا حيث يتمشى على الترعة تجاه بيت مسيحة أفندي، ويجد لنده واقفة في الشباك بعيدة، يبدو وجهها ناصعا تحوطه هالة النافذة المظلمة، حين يراها هكذا يحس بتيار غريب قد سرى فيه وجعله يريد أن يطير ويغني، أو يقف في مكانه لا يفعل شيئا بقية حياته إلا أن يمد بصره خلسة بين الحين والحين ليجدها تنظر ناحيته أو على الأقل ناحية الترعة. وآه لو رفع البندقية في الهواء ونقلها من كتف إلى كتف محاولا أن يجعل من النقلة إشارة تحية، ورفعت هي يدها اليمنى وصعدتها لتمسك بها حديد الشباك من أعلى وكأنها ترد التحية، حينئذ تميد به الأرض ويظل طوال يومه وكل ليله يتذكر اللحظة، ويعيد الحركة ببطء أمام عينيه وهو سادر بعيدا عن الدنيا وأهله والتفتيش، في غيبوبة منتشية لا يريد أن يصحو منها.
وأحمد سلطان هو مكمن سره. في حجرة نومه الخالية تقريبا من الأثاث يترك صفوت نفسه على سجيتها، ويقص على أحمد سلطان دقائق ما حدث كلما حدث شيء، ودائما تختتم الجلسة بذلك السؤال الحائر: ترى هل تحبه لنده؟
كلما سأل هذا لأحمد أكد له أنها تحبه، ولكن تأكيده ليس مهما. المهم هو ابتسامته التي ينطق بها تأكيده! لو فقط يؤكد له مرة بلا ابتسامة لآمن - حقيقة - بصدق ما يقول.
وكان حريا بصفوت أن يستجيب للباب الذي فتحه أحمد ويخوض معه في سيرة لنده، غير أن هذا لم يكن هدف صفوت في ذلك اليوم. كان يريد أن يعرف هو عن مغامرات صديقه، أو - على الأقل - تلك المغامرة التي من المحتمل أن تكون قد أدت إلى هذا اللقيط الميت.
ويبدو أن إصرار صفوت قد فعل فعله، فبعد سيجارتين انفكت العقدة عن لسان أحمد سلطان، ومضى يحدثه، أو بالأحرى يعترف له، وراح يقول له: وعارف مرات الحج بدوي وبنتها؟
فيقول صفوت: هيه؟
فيعود أحمد سلطان يقول: وحياتك كانت واحدة منهم في الأودة هنا معايا على السرير اللي ما غيروش الزمان، والثانية مستخبية فوق السطح، وعارف البت دي اللي كانت بتشتغل مع الأنفار اللي بيفرزوا القطن؟ البت الهايشة دي؟
فيقول صفوت: أنهي واحدة؟ - البت الطويلة الهايشة دي. - آه. - وحياة شرفك هي التي قالت لي بعضمة لسانها: خدني. - وعملتها؟ - يعني أكسفها يعني يا سي صفوت؟
وشهدت حجرة أحمد سلطان في تلك الليلة روايات كاد يقف لها شعر صفوت، روايات جعلته يعتقد أنه - بكل مغامراته وما فعله - ليس سوى قطرة من بحر أحمد سلطان. بل الأمر لم يقتصر على هذا، ولم تقتصر اعترافات أحمد سلطان على نفسه. تعدتها الاعترافات ومضت بكلمة وراءها كلمة وحقيقة إثر حقيقة، تكشف عن الوجه الآخر لحياة التفتيش، الوجه المستتر دائما الذي لا يظهر أبدا ولا يطلع عليه أحد، الوجه المعقد المتشابك الحافل بكل ما هو أغرب من الخيال، علاقات بين أبناء ونساء آبائهم، وبين فاضلات وفاسقين، وفاسقات وفاضلين، وحجاج و«تملية»، وحتى الموتى وردت في الحجرة سيرتهم.
وأخيرا وبعد مقدمة طويلة ساقها صفوت للتدليل على حياده، وعلى أنه فقط يريد أن يعرف - بصرف النظر عن علاقته الشخصية بالمسألة - طرق صفوت الموضوع الذي من أجله جلس تلك الجلسة واستغرق كل تلك المدة الطويلة في جس النبض، سأل أحمد سلطان - وهو يستحلفه بكل مقدس وشريف - أن يقول الحقيقة، سأله عما يعرفه عن الوجه الآخر للنده.
وهذه المرة - وبوجه جاد وملامح لا تحتمل الشك - نفى أحمد سلطان أنه يعرف عنها أي شيء يدعو للخجل. وعاد صفوت يلح في سؤاله، وعاد أحمد يلح في نفيه وتأكيده.
ومع هذا، وحين قام صفوت وقد بدأت الشمس تستعد للمغيب، حين قام ليستعد هو الآخر للرجوع إلى بيتهم، كان لا يزال غير مطمئن تمام الاطمئنان إلى ما قاله أحمد سلطان عن لنده. •••
أما أحمد سلطان فقد ظل برهة طويلة جالسا على نفس المقعد «الجريد» ذي المساند الذي كان يجلس عليه، يحدق في سقف الحجرة ومن خلال نافذتها الوحيدة، ويتأمل. ثم بدأ لمعان غريب يتسرب إلى عينيه، لمعان كومض الجنون أو برق النشوة. ثم بدأ يتململ في كرسيه وكأن مشكلة كبرى تحيره، ولكن تململه لم يدم طويلا فما لبث أن قام من مكانه وغادر البيت. وظل وقتا يحوم في شارع العزبة الرئيسي بحذر - مع أنه الوحيد بين رجال الإدارة الذي كان قد كسر قانون عدم اختلاط الموظفين بالفلاحين - حتى أصبح وجوده في قلب شارع العزبة أو في أحد بيوتها أمرا لا يثير اندهاشا أو تساؤلا. وعند باب بيت مفتوح توقف قليلا، وبهفة من ثوبه وإشارة من يده كانت الجالسة في الداخل قد أدركت هدفه وفهمت أنه يريد لقاءها عند الجامع.
والجامع كان يقع في زاوية العزبة الغربية، جامع مبني بناء رخيصا من الطوب النيئ، ومئذنته قصيرة تبدو كالإصبع المرفوعة المبتورة، والطريق إلى الجامع خال في أغلب الأحيان؛ إذ نادرا ما يستعمل للصلاة إلا في يوم الجمعة، أما بقية الفروض فيؤديها الفلاحون في «المصلى» المقام على الترعة، والذي كان مقامه في أول الأمر على الخليج في مواجهة المنزل الذي يقطن فيه المأمور، ولكنه أمر بهدمه وعدم استعماله، وأقام ذلك المصلى الآخر؛ إذ كان يضايقه - إلى درجة الغضب - مرأى الفلاحين وهم جلوس في المصلى أمام بيته «يجرحون» البيت وسكانه، على حد تعبيره، والأدهى من هذا حين يقبلون في الصباح الباكر ويخلعون ملابسهم ليغطسوا في الترعة ويتطهروا.
لم يمض وقت طويل على أحمد سلطان - في ذهابه ومجيئه وراء الجامع - حتى بدا له من خلال ظليمات المغرب ذلك الثوب الأسود الفضفاض الذي يعرف صاحبته، كانت أم إبراهيم زوجة فقي الجامع وخطيبه ومؤذنه، امرأة فارعة الطول قمحية ذات قدرة خارقة على وضع الكحل في عينيها وحبك المنديل على جبينها وإمساك طرف ثوبها بيدها، وهفها باليد الأخرى حين تمشي وتتمخطر.
وكانت معرفتها بأحمد سلطان وطيدة؛ إذ كانت من أوائل من عرف من النساء حين جاء أول ما جاء إلى التفتيش، ثم تطورت تلك «المعرفة» إلى نوع من الصداقة، تطبخ له أحيانا، وتهاديه بطبق قشطة أحيانا أخرى، مع أنها كانت قد فقدت الأمل فيه وفي تجدد علاقتهما.
سلم عليها أحمد سلطان بحرارة، وقرصها في بطنها كعادته في الأيام الغابرة، وبعد عتاب طويل منها وحجج منه قال لها: عايزك في حاجة. - اؤمر. - لنده.
قال الكلمة وسكت، ولم تسأله هي أيضا منتظرة أن يكمل، وخائفة في الوقت نفسه ألا يكمل، هي فاهمة وهو فاهم ولا داعي للتغابي.
قالت - بعد وقت وبعد أن تأملت بسمته وملامحه الحلوة: بس دي صعبة ما أقدرش عليها. - إييه؟
قال أحمد هذا وهو يقرصها مرة أخرى في بطنها، وقوست هي نفسها لتبعد بطنها عنه ولتقرب وجهها منه وتحاول أن تثنيه، ولكنها كانت تعرف أن محاولتها فاشلة، فما صمم على أن ينال شيئا إلا ناله، وما يقوله إن هو إلا أمر عليها أن تطيعه.
صمتت برهة، ثم انفرجت ملامحها قليلا وابتسمت، ورفعت سبابتها وأشارت إلى عينها اليمنى ثم إلى عينها اليسرى، وكأنها تقول: من عيني دي ومن عيني دي.
وفي ذلك الوقت جاءهما من بعيد صوت خشن مبحوح يؤذن لصلاة العشاء، صوت «أبو» إبراهيم. ومع أن صاحبه كان بعيدا عن المصلى حيث الأذان والصلاة، إلا أن الصوت هبط عليهما فأنهى المقابلة في الحال. واستدارت أم إبراهيم تطقطق بشبشبها عائدة وكأن صوت أبي إبراهيم قد فاجأها متلبسة، أما أحمد سلطان فقد مضى على مهله، ينظر إلى العزبة والأضواء القليلة المبعثرة فيها ويشم رائحة الأرز والسمك والبصل وهي تختلط بروائح الدخان القابضة، ويتأمل الليل المحيط الكبير، ويحلم بلنده حين تأتي ذات مساء إلى بيته، إلى حجرته العتيدة، خجلى خائفة، وكيف سيؤنس وحشتها، وسيحيل خجلها بقدرته الخارقة إلى جرأة ودلال وإقدام. •••
طال العشاء على غير عادته، واستمرت السهرة القصيرة التي تعقبه جزءا أطول من الليل، وظل جنيدي فاتحا دكانه مشعلا «كلوبه» إلى ما بعد العاشرة، وعلى حائط القنطرة الحجرية امتدت جلسة الرجال، وكان لا حديث إلا عن اللقيط.
ولم تكن العزبة الكبيرة وحدها هي التي شغلت بالحديث، فقد انتقل الخبر إلى العزب المجاورة، بل والقرى المجاورة أيضا، حمله إليها «الشغيلة» الذين يعملون في التفتيش ويقطنون في تلك القرى. فالحادث جلل والحياة في التفتيش تمضي سهلة لينة لا يعكر صفوها إلا خناقة تنشب بين اثنين أو سرقة صغيرة ترتكب. أما أن يعثروا ذات صباح على لقيط مقتول، فذلك أمر تنعقد له المجالس ولا تنفض، ويختلف الناس حوله ولا يتفقون، والناس في التفتيش يجيدون الكلام، تلك طبيعة جبلوا عليها واشتهروا بها، بل يقولون إن سببها هو السمك الذي يكاد يكون الطعام الرئيسي لأهل التفتيش وأهل المنطقة بأسرها. يجيد الواحد منهم حكي الحكاية وإبراز تفاصيلها، ويجيد إيراد الحجج وتفنيدها، حتى نطقهم للحروف، تجده - من كثرة استعمالهم للكلام - واضحا لا لبس فيه. الحديث لديهم هواية، بل يكاد يكون هوايتهم الوحيدة ولهم فيه نوابغ أولئك الذين إذا حضروا مجلسا كان لسانهم أذلق لسان وتصدروه. نوابغ كثيرون، الأسطى محمد أحدهم ومحمد أبو طلبة، وسيدهم جميعا الشيخ عبد الوارث الكبير. والشيخ عبد الوارث لا يجيد الحديث فقط، ولكنه أيضا يجيد الفلاحة، والفلاحة حرفة فيها المهرة والكسالى، والأغبياء والأذكياء، فيها الذي يحدد بنفسه ميعاد الري، وفيها من يروي أرضه فقط لأن جاره أروى. والشيخ عبد الوارث يكاد يكون أكثر أهل التفتيش حذقا للفلاحة، بل يكاد يكون المستشار الدائم للفلاحين إذا أعيت أحدهم الحيل في أرضه. وهو بشاربه الذي ليس بالكث أو الرفيع، وعمامته النظيفة دائما وبشرته السمراء وعينيه البنيتين الواثقتين، كانت كلماته المطمئنة البطيئة فيها القول الفصل في كل خلاف ينشأ، بل كان المأمور لا يبت في أمر من الأمور الكبرى في التفتيش مثل ميعاد زرع الأرز، أو حرث أرض القمح وتسويتها لاستقبال حبات الأذرة، إلا بعد أخذ رأي الشيخ عبد الوارث، إذ رأيه دائما فوق رأي مستشاريه من الخولة وكبار الفلاحين.
وكان الشيخ عبد الوارث يتصدر الجالسين أمام دكان جنيدي، ولأول مرة كان يبدو عليه أنه بلا رأي. كانت الآراء كلما تلاطمت واختلفت ونظر الجالسون إليه يستطلعون ملامحه وينتظرون قوله، كان لا يفعل شيئا أكثر من أن يتنحنح كالمحرج، ويقول: الله أعلم يا جماعة.
وحتى لم يطل بقاؤه معهم، لم يلبث أن استأذن وقام مدعيا أنه لم يصل العشاء، وعليه أن يصليها قبل أن يدهمه النوم.
وبقي الجالسون - مثلهم مثل الساهرين عند القنطرة أو في البيوت - حائرين، والغرابوة بدا أنهم بريئون من التهمة، والعزبة لم تترك امرأة فيها أو بنتا إلا ونوقشت سيرتها وتأكد الناس من أنها ليست الفاعلة، لم يبق إلا أن اللقيط من عزبة مجاورة أو من قرية أخرى، ولكن السؤال كان: لماذا يكبد أحدهم أو إحداهن نفسه أو نفسها مشقة السير الطويل لإلقاء اللقيط وكان بوسعه أو بوسعها أن يتركه في قلب الغيطان؟
بيتان فقط من بيوت التفتيش لم يناقش فيهما أمر اللقيط أو جاءت سيرته. بيت فكري أفندي المأمور الذي سألته زوجته على الغداء عن قصة الجنين، فاكتفى بأن غمغم بضع غمغمات تعرفها أم صفوت جيدا، وتعرف أنه لا يقولها إلا حين يود إقفال باب الحديث. وحين يريد فكري أفندي إقفال باب الحديث فمعنى هذا أن باب الحديث يجب أن يقفل، فهو رجل لم يتزوج امرأة تشاركه حياته، تزوج واحدة تخدمه، واختارها حلوة تجيد الطبيخ ولا تعرف شيئا عن ذلك العالم الغريب الكائن بعد باب المنزل والحافل بالشرور والآثام.
ولهذا فقد كان يجد الحرج البالغ كلما دعيت زوجته لزيارة بيت مسيحة أفندي، أو جاءت عفيفة وأولادها لزيارتهم. في عرفه أن تلك الزيارات هي الأخرى بدعة لا تجوز، والزوجة شيء خاص به لا يجب أن يطلع عليه أحد، ولا حتى نساء غيره. الحديث عن اللقيط حينئذ مع زوجته أمر خبيث لا يجوز الخوض فيه؛ إذ هو شيء يمت إلى العالم البغيض الفاجر، عالم ما وراء الباب.
أما في بيت مسيحة أفندي فلم يجسر أحد على فتح باب الموضوع، فالأب كان مغموما لا يدري أحد لم؟ ولنده راقدة لا يزال المغص رابضا في بطنها، في المساء فقط وحين أوى مسيحة أفندي وعفيفة إلى فراشهما وراحت هي في النوم العميق ظل هو - بعده - يتأملها في رقدتها، برقبتها الرفيعة الطويلة التي كثيرا ما تلف حولها منديلا، وشعرها الأكرت الأسود القصير الذي أورثته لأولادها. ظل مسيحة يتأملها برهة يكاد يلكزها بكوعه لتستيقظ وتشاركه حيرته، غير أنه لم يفعل؛ فالموضوع الذي يشغل باله لم يكن يستطيع أن يصرح به لأحد، حتى لو كان هذا الأحد زوجته عفيفة، وكيف يصرح لها بالهواجس الغريبة التي تطوف في باله وتلح عليه؟
كان شكه في مرض لنده قد ازداد إلى درجة بدأ يفكر فيها أن يأخذها إلى الطبيب في المركز في اليوم التالي ليكشف عليها، لا ليرى إن كانت مريضة حقيقة، ولكن ليرى أيضا كنه ما حل بها. البنت تعدت سن الزواج، وهي حلوة وموفورة الصحة وتحيا في فراغ كبير، ومن الجائز جدا أن يكون الشيطان قد أغواها.
كان قلب مسيحة يهبط كلما وصل إلى هذا الحد من تفكيره، كان يحس به حقيقة يهبط، وكأنه يسقط من عل، ولكن الهواجس لا ترحمه، تمضي تصور له ما يمكن أن يحدث لا قدر الله، الفضيحة وخيبة الأمل والحيرة العظمى، فمن المحال حينئذ أن يتزوجها ابن المأمور لألف سبب وسبب تراه ماذا يصنع حينئذ، وبأي وجه يحيا في التفتيش، وبأي صورة يواجه الناس؟
وتستبد به الخواطر عنيدة فارضة نفسها عليه، تلهب عقله وتجعله يتقلب في الفراش ناظرا بحقد إلى عفيفة المستغرقة في سابع نوم، مخنوقا بالدموع المحتبسة في حلقه التي لا تريد أن ترحمه هي الأخرى وتسيل من عينيه.
وبينما هو في خضم ذلك الكابوس الرهيب عن له سؤال: أليس من الجائز أن يكون مخطئا؟ ماذا لو ثبت أن اللقيط مثلا ابن واحدة من الغرابوة، ألا يعد تفكيره على هذا النحو واتهامه لابنته وطعنه شرفها ضربا من الجنون والعته؟
تشبث مسيحة أفندي بالخاطر، وكأن فيه إكسير نجاته، واندفع يبحثه على وجوهه ويقلبه، وكلما فعل هذا بدأ قلبه يعود إلى مكانه من صدره وبدأت حركته تقل وبدأ يتنفس براحة وحرية، وبدأت تثاؤبات النوم تأخذ طريقها إلى نفسه.
وفي الصباح كان أول ما فعله حين أصبح في حجرة مكتبه أن سأل عن المأمور. فلما قيل له إنه في مكتبه دق الباب بحرصه المعتاد ودخل، وبعد تبادل التحية تفرس فيه فكري أفندي المأمور طويلا ليدرك هدفه الخبيث من تلك الزيارة الصباحية، فزيارات الباشكاتب لمكتبه قليلة ونادرة، ودائما وراء كل زيارة هدف، والهدف على الدوام خبيث. غير أن الذي حير فكري أفندي أن مسيحة لم يقل في زيارته الشيء الكثير، ظل جالسا مدة يتحدث في الأمور المعتادة، ثم سأله سؤالا عابرا عما تم في حكاية اللقيط. أجابه فكري أفندي عليه بحسن نية، ولكن ما أدهشه أن مسيحة بدأ يطعن في الغرابوة فجأة وبشدة، ويصر - ويكاد يقسم - على أن الفاعلة لا بد واحدة منهن. ثم ما لبث أن استأذن محتجا بالعمل، وترك فكري أفندي حائرا في تفسير هذا التحيز المفاجئ منه ضد الترحيلة، ولم يتح لفكري أفندي أن يحتار طويلا، إذ دق بابه بعد قليل، وبشخطته المعهودة قال: ادخل . وإذا بالقادم محبوب بوسطجي التفتيش، وإذا ببرنيطته المصنوعة من قماش أزرق مائلة على جبهته والدموع تملأ عينيه، والشهقة ترفعه ولا تتركه إلا لشهقة أخرى تهوي به، وإذا بالمشكلة التي جاء لأجلها أغرب مشكلة: ما لك يا محبوب؟
قالها فكري أفندي وهو يغالب الضحك.
ولم يرد محبوب، مد يده القصيرة إلى الحافظة المتدلية بجواره والتي قصر «إبزيمها» إلى آخره ليمنعها من أن تلامس الأرض، مد يده وأخرج منها خطابا مفتوحا ظرفه بعناية وبلا تمزق، ولم يقل حرفا.
تناول فكري أفندي الخطاب، وقلب الظرف فوجد مكتوبا عليه بالقلم الكوبيا: يصل ويسلم ليد أخينا المحترم عبد المنعم أفندي عواد، بطنطا، شارع الجامع الأحمدي، نمرة 34، خصوصي لحضرته.
لم يكن في العنوان ما يثير وما يمكن أن يصلح سببا لدموع محبوب وشهقاته، حتى كاد المأمور يعيد الخطاب إليه لولا أن «محبوب» تمالك نفسه وجفف دموعه ومضى يحكي كيف بدأ يشك في الخطاب.
قال محبوب: إن سعادات زوجة الأسطى عبده سائق اللوري، والتي تقطن في نفس العزبة التي يقطن فيها محبوب، استوقفته وهو راكب الحمار في طريقه من العزبة الكبيرة إلى محطة الدلتا، استوقفته عند عزبتهم وطلبت منه أن يأخذ هذا الخطاب معه. ولما سألها عن صاحبه - إذ من غير المعقول أن تكون هي صاحبته - قالت له إنه من زوجها لقريب له في طنطا، لم يأخذ محبوب ويعط معها، فهو يعرف «صحيح» أن لزوجها قريبا في طنطا وأحيانا تأتيه خطابات من هناك. صدقها ومضى في طريقه إلى القطار، ولكنه بعد أن تجاوز العربة بقليل بدأ يحس وكأن الخطاب - دون بقية الخطابات التي معه - يشكه في جنبه ويقلقه. وعلى هذا وجد يده تمتد إلى الحقيبة ويخرج منها الخطاب ويتأمله، تأمله لثوان قليلة، ومع أنه أمي لا يعرف القراءة أو الكتابة ولا يستطيع أن يفرق بين خط وخط، إلا أن «شيء إلهي قال لي إن الخط ده خط مراتك يا واد يا محبوب.» وفجأة بدأت تتكشف أمامه أمور لم تخطر له على بال، زكية امرأته لها قريب في طنطا كان قد أتى لزيارتهم منذ بضعة أسابيع ومكث لديهم أياما ثلاثة ثم غادرهم. وقريبها هذا أفندي قالت له زكية إنه تلميذ في مدرسة الصنايع، ورغم أنه كان يبدو كبيرا جدا عن تلميذ بشاربه الكامل وذقنه وهيئته، إلا أنه صدق زكية وأخذ قولها بحسن نية، ولكنه الآن - والخطاب في يده - يحس بحروفه وكأنها ملامح زكية وتقاطيعها ورائحتها، لم يعد ثمة مجال لحسن النية. والذي حدث أن «محبوب» غير من اتجاهه، وبدلا من أن يذهب للمحطة جاء للشيخ علي أبو إبراهيم فقي التفتيش، وكان قد فتح الظرف باحتراس وأخرج الخطاب الذي فيه وطلب من الشيخ علي أن يقرأه.
أخذه الشيخ علي وأخرج منظاره السلك وأمعن فيه بصا وتفلية وقرأه في سره، وما إن انتهى حتى هب في محبوب: الله يقل مقامك يا ابن زبيدة، إيه يا واد الكلام الفارغ ده؟
وكاد محبوب يتهاوى من طوله المتواضع القصير، فقد أيقن أنه كان في شكوكه على حق، ومال على الشيخ علي وقبل يده وبللها بدموعه طالبا منه أن يصنع فيه معروفا ويقرأ له الخطاب. وقرأه عليه الشيخ، فإذا به من زوجته زكية، وإذا به خطاب غرام منها، وإذا بها لم تكتف بهذا بل أرادت أيضا استغفاله وأن يحمل لها هو خطابها إلى عشيقها فيما يحمل من بريد مستغلة - الفاجرة - جهله بالقراءة والكتابة.
طوال الفترة التي استغرقها محبوب في سرد حكايته كان فكري أفندي يكاد يموت من الضحك، ولم يكن حتى يبذل أي مجهود لإخفاء ضحكه بل أكثر من هذا كلما رأى «محبوب» منفعلا ومتأثرا داهمته الرغبة في الضحك.
وحين انتهى محبوب وعاد ينخرط في بكائه وشهقاته لم يعد فكري أفندي يتمالك نفسه. انفجر في نوبة ضحك عالية، ودق جرسه واستدعى مسيحة أفندي وأحمد سلطان وكبير الخولة الذي تصادف وجوده في المكتب، وتولى نيابة عن محبوب قص الحكاية وتولوا هم نيابة عنه الضحك، ومحبوب سادر في انفعاله وبكائه.
وقال له فكري أفندي وهو يمسح الدموع عن عينيه الضاحكتين: وما رحتش ضربتها ليه يا محبوب ؟ - أضرب مين يا حضرة المأمور؟! أنا قدها؟!
قال محبوب هذا وانخرط في البكاء، وانخرط المتجمهرون حوله في الضحك، فهم يعرفون زكية بطولها وضخامتها وجبروتها، وأمامهم محبوب بقصره ونحافته وصوته القصير النحيف.
وحين شبعوا ضحكا، هدهد المأمور على محبوب واعدا إياه بأنه سيؤدبها له، بل أرسل في طلبها فعلا وقال لمحبوب وكأنه يستدرك: ولا تحب تطلقها يا محبوب؟
ففرت من عينيه دمعتان أخيرتان وقال: اللي تشوفه حضرتك، دي - وديني وما أعبد - فاجرة، وعلي يمين الطلاق إن ما كان اللي لقيوه الصبح ده ابنها، أصلها عايزة تخلف وفاكراني مبخلفش. وديني فاجرة.
ووجد المأمور في إجابته نخنخة معناها عدم الرغبة، فعاد يؤكد له سيخصص المغربية كلها لزكية، وسيريها فيها نجوم الظهر. •••
ويبدو أن نجوم الظهر في ذلك الوقت كانت هي ما يشغل بال دميان. كان حاملا سبت الطلبات في طريقه للبحث عن أكلة سمك لبيت أخيه، ولكنه حين وصل إلى القنطرة الحجرية توقف في وسطها تماما، وتطلع إلى الشمس التي تتوسط السماء. والناس - في العادة - إذا تطلعوا للشمس لا يحتملون ضوءها الباهر فيغلقون عيونهم، أما دميان فقد كانت لديه تلك القدرة الخارقة، القدرة على التطلع إلى الشمس والنظر فيها دون أن يغمض عينيه.
ولم تكن تلك القدرة هي السبب في أن بعض أطفال الفلاحين التفوا يتفرجون على دميان في وقفته تلك، السبب هو أنه كان يتطلع إلى السماء ثم يفرد كم جلبابه الأيسر ويحسب عليه بأصابع يده اليمنى ويقول لنفسه: منصورة، إن شاء الله منصورة.
أما من هي المنصورة، ولماذا وكيف تنتصر، فذلك أمر لم يكن دميان يقوله حتى لو كان الناس قد سألوه عنه.
وبيت المأمور يقع تماما عبر الترعة، والواقف في نافذة بلكونته الصغيرة المطلة على العزبة كان يستطيع أن يشهد ما يدور فوق القنطرة الحجرية بوضوح، ويشهد دميان في موقفه المضحك ذاك. ولكن الواقف لم يكن واقفا كان واقفة! كانت الست أم صفوت زوجة المأمور، سيدة في الأربعين من عمرها بيضاء ممتلئة الساقين والردفين، ترتدي - رغم مكانة زوجها - نفس المنديل بأوية الذي ترتديه العائقات من نساء الفلاحين ونفس الثوب المشجر الواسع التفصيل. كان أمر دميان يحيرها من زمن حتى أنها سألت الست عفيفة زوجة أخيه عنه مرة، وزاغت هذه من الإجابة. واليوم، لأمر ما، ربما لهذا اللغط الكثير الذي دار حول اللقيط والحرام وما يصح وما لا يصح، فقد بلغ حب استطلاعها أشده، هي حبيسة بيتها الكبير ليل نهار، لا تزور ولا تزار إلا في النادر، زيارات تنغص عليها عيشتها، زيارات متكلفة عليها فيها أن تجامل زوجات الموظفين وتدعي أمامهن الرقي والتمدين، وأحيانا تتكشف ادعاءاتها فتخرج وتخجل وتنفرد بنفسها وتبكي، ويلها من فكري أفندي زوجها إذا أخطأت! فكري أفندي الذي - على الرغم من مضي أكثر من عشرين عاما على زواجهما - لا تجرؤ على مناداته بغير يا فكري أفندي، أو بالكثير في لحظات التجلي لا تزيد عن قولها: يا أبو صفوت. أحيانا تحن إلى طفولتها الأولى في بيت أبيها الفلاح. أحيانا تتمنى لو كان في استطاعتها أن تفعل مثلما يفعل نساء الفلاحين وتستحم في الترعة مثلا، أو تخبز بنفسها العيش وتخرج الرغيف مستديرا تام الاستدارة كما كانت تفعل في بيت أبيها.
فكري أفندي من بحري وهي صعيدية، رآها زوجها حين كان يزور قريبة ناظر محطتهم فأعجبته، وفي يوم وعدة ليال تزوجها. ومنذ أن تزوجها وصلتها تكاد تكون مقطوعة بأهلها، حتى أخوها حين يأتي لزيارتهم في التفتيش بلاسته الصعيدية وقفطانه وحذائه ذي الرقبة الطويلة والأستك، يخفي فكري أفندي أمر زيارته. وإذا سأله البعض عنه قال إنه من الرجال الذين يعملون عند والد الست، وإنه يأتي ليطمئن أباها عليها. وكل تلك النوازع والهواتف كانت أم صفوت لا تستطيع أبدا تحقيقها، كان عليها أن تمثل دور زوجة المأمور المتكبرة المحترمة على الدوام. نزوة واحدة فقط هي التي كان يتاح لها أن تحققها دون أن يتهمها زوجها بالخطأ، ودون أن ينالها عقاب. دميان! كثيرا ما كان يأتي إلى البيت ليستعير حلة أو مصفاة أو «فروطة»، أو لينقل رسائل أم لنده إليها، وما من مرة جاءها فيها إلا وأبقته لتتحدث إليه. وتبلغ أقصى درجات السعادة وهي تتحدث إليه؛ إذ تترك نفسها على سجيتها تماما معه. تطلب منه أن يقرأ لها الفنجال، ولا يكون طلبها إلا فاتحة للكلام، والغريب أن دميان كان ينطلق لسانه معها فيحدثها مثلا عن مشاكله مه الفراخ، ومشاكله مع زوجة أخيه، وأحيانا يبكي أمامها بكاء كبكاء الأطفال، ومع هذا تشاركه البكاء.
كان دميان لا يزال واقفا في منتصف القنطرة وهي لا تزال واقفة في نافذة البلكونة، والشيء الخطير الذي يؤرقها في تلك الساعة لم يكن هو رغبتها في الحديث التافه الذي كانت تستعذبه مع دميان، ما كان يؤرقها هو المشكلة التي طالما أرقت نساء العزبة: ترى أدميان فيه للنساء أم لا يصلح لهن؟ كانت هذه المشكلة كلما خطرت لها اعتبرتها عيبا وحراما لا يصح أن تسمح لنفسها بالخوض فيها، ولكن في تلك الساعة لا تدري - هي نفسها - لماذا تعتبر أن التفكير فيها لم يعد حراما أو عيبا. إنها لا تريد - لا سمح الله - أن تخطئ مع أحد بله دميان، كل ما في الأمر أنها تريد أن تعرف، فهل يعد هذا حراما؟
كلما طالت وقفتها في النافذة وطالت وقفة دميان أمام عينيها على القنطرة، كانت الرغبة تستبد بها، حتى وصلت إلى الدرجة التي لم تعد تستطيع معها صبرا.
وهكذا نادت على فاطمة، وهي إحدى البنات الكثيرات اللائي يشتغلن في البيت، ويحتسبن من ضمن الأنفار الذين يعملون في الغيط، نادت على فاطمة وطلبت منها أن تذهب وتأتي بدميان. لم يكن في ذهنها خطة واضحة لما انتوته، ولا ماذا تفعل إذا هرب هو كالعادة من الإجابة على السؤال، هل تستدرجه؟ هل تخدعه؟ هل تغريه وتمضي في نهاية إغرائه إلى نهاية الشط لترى إن كان سيستجيب؟ لم تكن في ذهنها خطة واحدة ولكنها كانت قد صممت أن تعرف أمر دميان ولو أدى ذلك إلى أن تفعل معه المستحيل.
جاء دميان ضاحكا مهمهما كعادته، السبت معلق في ذراعه واللعاب يكاد يسيل من فمه كلما طوح برأسه أو شرع في الضحك، وقابلته الست أم صفوت بترحاب، وأجلسته على الكنبة في حجرة النوم رغما عنه؛ إذ كان ينفر من الجلوس في حضرة الناس أشد النفور. ولم تكن هذه أول مرة يدخل فيها دميان حجرة النوم، فدخوله فيها أمر لم يكن فيه شبهة أو عيب. جلس دميان على مضض وجلست هي بجواره، وطلبت منه أن يحسب لها نجمها في ذلك اليوم، وشرع دميان يقلب يده ويبلل إصبعيه ويرسم بهما على ظهر يده ويحسب.
ولم تكد تمضي بضع دقائق حتى شاهد الناس دميان يندفع جاريا من بيت المأمور والسبت لا يزال معلقا في ذراعه، وعبثا حاول البعض إيقافه لسؤاله عن سبب جريه.
ولم يمض جريان دميان من منزل المأمور بسلام، إذ هو شيء غير عادي، سر، وكأنما سر لا حل له، فلا بد من أقوال تتناثر عنه وتفسيرات وشائعات.
وعلى العموم لم يكن هذا هو السر الوحيد الذي بدأت الأقوال تتناثر عنه وتشيع. ما أكثر الأسرار التي ارتفعت عنها أغطيتها وفاحت رائحتها وبدأت تزكم الأنوف. أيام قليلة مضت منذ اليوم الذي اكتشف فيه عبد المطلب اللقيط، ولكنها كانت كافية لأن تقلب الأمور في التفتيش رأسا على عقب، فثمة أم لا بد أن توجد لهذا اللقيط، وطالما هي مجهولة فأي اتهام صحيح، وأي إشاعة قد تكون هي الحقيقة، والإشاعات كثيرة والألسنة في التفتيش لا تهدأ. •••
ولم تستدع المسألة أن ينتظر فكري أفندي المأمور تسعة أشهر كما فعل سيدنا عمر؛ إذ بعد أقل من عشرة أيام قد عثر على الجانية. ولم يعثر عليها هكذا بطريق الصدفة، فلفطنته فضل كبير في اكتشافها. كانت لطع الدودة - رغم كل مجهودات فكري أفندي - قد ازدادت بشكل ينذر بالخطر وأصبحت تهدد بالفقس، ومن ثم باكتساح أرض القطن كلها، والواقع أنه من بين السبعة آلاف نسمة الذين يحيون على أرض التفتيش كان فكري أفندي هو الوحيد الذي يهمه أمر الدودة ونقاوتها. فالمزارعون الفلاحون لا يهمهم القطن في قليل أو كثير. القطن وإن كانوا يزرعونه ويحرثونه وتحتسب عليهم مصاريف جمعه ونقاوته وحتى تطهير المصارف حوله إلا أنه محصول صاحب الأرض ولا شيء غير هذا. فالفلاح يأخذ حقيقة الثلث من محصول الأرض التي يزرعها، ولكن الثلث يذهب هباء، يذهب في تسديد مصاريف القطن ومصاريف المحاصيل الأخرى والسلفة التي اقترضها الفلاح في بحر العام ليشتري بها التقاوي ويكري الأنفار. وحتى إذا بقي للفلاح شيء بعد هذا يقيد لحسابه في العام القادم فكيف يهمه أمر القطن إذن؟ الإدارة هي التي تأخذه وهي التي عليها أن تتعهده، والمسألة في رقبة المأمور. فالقطن غال، وهو يعد المحصول الرئيسي للأبعادية، وإذا أكلته الدودة ضاعت على الخواجة صاحب الأرض آلاف الجنيهات، بل ضاع فكري أفندي نفسه. والسبب الرئيس لرفته من التفتيش الذي كان يعمل فيه قبل عمله هذا كان هو الدودة حين فقست منه والتهمت أوراق القطن وأضاعت المحصول؛ ولذا ففكري أفندي لا يخاف من شيء في الوجود قدر خوفه من اثنين: الدودة وصاحب الأرض. ولا يتبلور هذا الخوف ويصبح هلعا إلا في موسم مقاومة الدودة وهي لا تزال لطعا، هو موسم الامتحان الرهيب لفكري أفندي وأعصابه وعضلاته ومستقبله وكل شيء فيه. وبين شماتة الباشكاتب ومكائده وخطابات المفتش الذي يكتبها بنفسه وبخطه الماكر الحذر، ويكتب أجزاء منها بالحبر الأحمر ويعلم تحتها بخط، وبين عدم مبالاة الفلاحين ولكاعة الأنفار والسواقين ولعبهم، يهلك فكري أفندي وهو يصحو من الفجر ويعود من الغيط بعد أذان العشاء، ويدعو الله دواما أن يسترها معه. وأخوف ما يخافه أن تهبط المقاومة مرة فتفقس اللطع وتكون الكارثة ويرفت، ويعيش في ذلك الذل المقيت الذي يفضل الموت على تعاساته. ففكري أفندي كمعظم زملائه من مآمير التفاتيش ونظارها إذا رفتوا من التفاتيش لا يستطيعون مغادرته إلا إذا وجدوا عملا في تفتيش آخر؛ وعلى هذا فحين يفصل الواحد منهم يظل يرجو صاحب الأرض حتى يبقي عائلته في بيت التفتيش الذي يسكن فيه، بينما يهيم هو على وجهه في القطر كله سائلا معارفه وأصحابه باحثا عن عمل ولو لينقل إليه عائلته ويسكن، والمصيبة الكبرى حين تأتي عائلة الموظف الجديد بعفشها وصغارها قبل أن يجد الموظف المرفوت عملا ومن ثم محل إقامة.
من أجل هذا فرعب فكري أفندي من الدودة أشد ضراوة من رعبه من الموت، وحرصه على أن يتحلى بالخلق الكريم راجع إلى اعتقاده بوجود رابطة قوية بين أي إثم قد يرتكبه وبين الشياطين السوداء الزاحفة التي يطلقها الله عليه في كل عام مرة، ليمتحن بها ويعاقب العقاب الأكبر إذا أخطأ، وتنسحب ملايين الملايين من الشياطين إلى أوكارها إذا ثبتت نظافته وبراءته.
كان - لفرط حرصه - يخرج قبل شروق الشمس ويجوب أرض القطن كلها مشمشما بأنفه، خائفا - لا قدر الله - أن تلتقط حواسه رائحة الدودة، فاللطع لا رائحة لها، أما الدودة فأعوذ بالله من رائحتها حين يطب قلبه إذا التقطها بأنفه، رائحة غريبة على الغيط وعلى القطن وعلى الصبح المبكر، ملايين الملايين من حيوانات صغيرة متوحشة تلتهم في طريقها كل أخضر ويابس، كأنها رائحة القبر، رائحة الموت حين يلتهم الأحياء ويتبرزهم، رائحة الورق الأخضر الحي وهو يموت، والموت الأسود الزاحف وهو يعيش على الأخضر الحي. كان فكري أفندي يقشعر لمجرد السيرة ولمجرد ومضة الخاطر. وآه لو شمها الخواجة صاحب الأرض، الخواجة زغيب الذي لا يضطرب فكري أفندي لشيء قدر اضطرابه حين يعلم أنه قادم. حتى وهو يصدر الأوامر للكلافة والتملية برش ما أمام السراية والطريق وكنسه تخرج أوامره راجفة تفضح اضطرابه. ويقولون: إن التفتيش كان في أول أمره ملكا لإحدى البرنسيسات ثم باعته الأميرة للخواجة زغيب الكبير، وصاحب الأرض الحالي ابنه الأكبر، ضخم فحل ذو شعر كثيف أصفر يظهر من صدره وسواعده حين يرتدي القميص والبنطلون والبرنيطة البيضاء المصنوعة من الفل، ويخرج للمرور. طوال المرور لا يبتسم، وإنما يرقد فوق الحصان الذي لا يركبه أحد سواه، يرقد فوقه كالتمثال الأصم. وفكري أفندي هو الذي يبدو على الركوبة بجواره كالقرد العجوز، طوال الوقت عيناه معلقتان بملامح الخواجة، ولسانه رائح غاد يتحدث ويحاول إضحاكه، ويده تشير وتلفت النظر إلى مصرف تطهر حديثا وتعمق، أو إلى مشاية أنشأها هو بحذق ومهارة، يده تشير وتلفت وتداري العيب أيضا إذا كان هناك عيب، ولا بد أن يكون هناك عيب، يدعو فكري أفندي الله وملائكته ورسله ألا تقع عليه عين الخواجة، ولكن عينه دائما تقع عليه وكأنما خلقت لا ترى إلا العيب. والفاجعة أنه لا يتكلم حين يراه. ليته يتكلم ولكنه يسكت، وما أبشع سكوته في تلك اللحظات.
كان متزوجا من فرنسية نادرا ما كانت تأتي معه، فيحاول فكري أفندي إتحافها بسبت صغير من التوت الأحمر الذي تحبه لعلها تدلي في حقه بشهادة تبيض وجهه، ولو بتلك اللغة التي لا يفهمها والتي لا تتحدث إلى الخواجة إلا بها، وكانوا يقولون: إن الخواجة له عشيقة غيرها، وإنه لا يخلف، وإنه لولا دينه الكاثوليكي لكان قد طلقها، ربما ليخلف ولدا يرث هذا الملك كله، ويقولون - وفكري أفندي هو القائل - إن له في سرايته المطلة على البحر في سيدي بشر بالإسكندرية حجرة سفرة من الذهب الخالص، كراسيها مطعمة بالذهب وأطباقها وملاعقها وشوكها وسكاكينها ذهب في ذهب، يقولون: إن «زغيب» الكبير اشتراها حين عزم الملك لما كان سلطانا على العشاء عنده، ويقولون أكثر من هذا، يقولون: إن الخواجة الابن قد تدهورت أحواله بعد وفاة أبيه، وإنه باع التفتيش فعلا للشركة البلجيكية للأراضي، وإنه استأجره منها وهو الآن يديره لحسابها، تلك رواية، ورواية أخرى تقول: إن الأحمدي باشا مليونير المديرية يفكر في شرائه، بل ويتفاوض فعلا مع الخواجة والشركة، ويتصعب الناس، فالأحمدي باشا هذا كان - قبل الحرب العالمية الأولى - شيالا في مضرب أرز، وتاجر فيه وكسب واغتنى واشترى المضرب، وأصبح له شون وعمارات وألوف مؤلفة من الجنيهات في البنوك، ويفكر الآن في شراء تفتيش البرنسيسة، والأدهى من هذا أنهم يقولون: إنه على استعداد لدفع ثمنه بالكامل نقدا.
الأقوال عن التفتيش وصاحبه الخواجة زغيب كثيرة، ولكن المهم أنه لا يزال صاحب الأرض الذي ترتجف أوصال فكري أفندي لمجرد احتمال قدومه. الساكت الذي لا يخرجه عن سكوته إلا الخطأ إذا لمحه، حينئذ لا يعرف أباه، يفصل ويرفت ويخصم وأحيانا يضرب، وآه من هذا الساعد الضخم الذي تربى على الفراخ والحمام والديوك والخمرة حين يهبد به الواحد فيطبق به قفص صدره.
كان ازدياد لطع الدودة إذن خطرا ساحقا يجب تداركه، وازدياد اللطع كان يعني لدى فكري أفندي شيئا واحدا: أن مقاومتها ليست على ما يرام. ومعنى هذا أن الأنفار يتكاسلون، والمشرفين عليهم من الخولة والسائقين والملاحظين يلعبون. وقد تكون هناك أسباب كثيرة لهذا، ولكن فكري أفندي كان يعزوه لسبب واحد ليس هناك من سبب سواه، نهيق ركوبته، هو الذي يكشف قدومه من بعيد ويجعلهم يمثلون أمامه رواية «وطي يا ولد، وطي يا بنت» التي يجيدون تمثيلها تمام الإجادة. وعلى هذا ألغى فكري أفندي الركوبة من مروره، وأصبح يقطع عشرات الكيلومترات سيرا على الأقدام عله يفاجئ مرءوسيه ويضبطهم متلبسين بجريمة الإهمال.
وأكثر من مرة تم لفكري ما أراد وفاجأ صفوف الأنفار من الخلف، وفي كل مرة كان يخيب أمله بعض الشيء؛ إذ كان يجد العمل قائما على قدم وساق ولا إهمال هناك أو تقصير، مرة ضبط عرفة ريس الترحيلة جالسا تحت الجميزة في الظل يلعب السيجة مع الأسطى محمد العجوز، ومرة ضبط «صالح» الخولي قد أرسل نفرة من الترحيلة لتحضر غداءه من العزبة، ولكن - فيما خلا هذا - كان العمل جاريا وكأن عرفة ليس جالسا يلعب السيجة، أو «صالح» قد استحل لنفسه أن ينقص العمل مجهود نفرة!
ولكن فكري أفندي لم ييأس فلا بد أن هناك إهمالا ما، ولا بد أن يضبط ذلك الإهمال، وفي ذلك اليوم حين عثر على تلك «الظليلة» مقامة بين أعواد التيل المزروعة حول تربيعة القطن، دق قلبه بفرحة الاكتشاف واعتقد أنه - أخيرا - عثر على الإهمال! فلا بد أن تحت تلك الظليلة أنفارا يستريحون أو يلعبون. لم يضع جهده إذن عبثا، ولا راح هباء ذلك الإرهاق الطويل الذي لاقاه من المرور بلا ركوبة سيرا على الأقدام.
ودون أن يسأل عرفة أو يكلمه، ما كاد يرى الظليلة حتى أسرع تجاهها ليضبط المتظللين في حالة تلبس.
كانت الظليلة مصنوعة من جوال قديم مربوط من جهاته الأربع في أربعة أعواد من التيل، وحين فرق فكري أفندي الشجيرات وأطل، فوجئ حين لم يجد أنفارا كثيرين تحت الظليلة، في الحقيقة لم يجد إلا نفرا واحدا، أو على وجه أصح نفرة واحدة، امرأة كانت راقدة على جنبها كالنائمة.
وانقلبت خيبة أمل فكري أفندي إلى شراسة، وقال لعرفة وعيونه تقدح بالشرر: إيه دي؟ نايمة هنا ليه؟ مش ماسكة خط ليه؟
فقال عرفة وهو يبتسم ابتسامة ضايقت المأمور أكثر: دي عزيزة يا سعادة البيه.
وبنفس الشراسة قال فكري أفندي: عزيزة إيه؟ عزيزة مين؟
ومرة أخرى قال عرفة وهو يخفض ناحية من ابتسامته ويرفع الأخرى: عزيزة - اسم الله على مقامك - يا سعادة البيه. •••
وكأنما دق جرس صدئ دقة واحدة باهتة في عقل فكري أفندي. أممكن أن تكون هي الآثمة التي بحث عنها حتى يئس ونفض يده من البحث؟ الخاطر ضعيف وواه، ولكن أوهى منه هو ذلك الخيط الممتد من ابتسامة الريس، فلو سأله مباشرة فمن المحتمل أن يخاف ويحرن كما تحرن الحمير إذا رأت حفرة في الطريق، وهو أعلم الناس بهؤلاء الناس حين يخفون الشيء ويخافون إظهاره. عليه أن يستعين بالمكر وطول البال وادعاء الجهل عساه يفلح في إخراج كل ما وراء فم الريس المضموم المبتسم هذا.
وقال فكري أفندي بنفس لهجة المأمور في حضرة الخطأ: محسوبة دي من ضمن الأنفار؟
وخاف الريس أن يكذب فيعاقب على كذبه أضعاف معاقبته على مغالطته فقال: محسوبة يا سعادة البيه، وأنا محسوبك. - وإزاي تبقى محسوبة نفر وهي نايمة؟
قال الريس بمسكنة: غلبانة عيانة، مش قادرة تمسك الخط يا سعادة البيه المأمور.
ورد فكري أفندي بعنف: يبقى ما تتحسبش يوميتها.
قال الريس، وأمره إلى الله: ما تتحسبش يا سعادة البيه، اللي تشوفه، ما تتحسبش. - لا يا شيخ.
قالها المأمور وقد استعد أن يوجه طعنته، فهو لا يعني ما يستجد، إنه يعني ما فات، يعني الأيام التي قضتها تلك المرأة راقدة لا تعمل واحتسبت فيها يوميتها زورا وبهتانا. والريس كان أيضا يعرف هذا ويدرك أن العقاب قد يكون فصله بل ومن المحتمل سجنه. ولم يصمد الرجل طويلا، من تلقاء نفسه قالها. ولم يقلها مباشرة، بدأ بمقدمة طويلة عن الفقر والناس الغلابة وعمل الطيب وإلقائه في البحر. ثم انتهى إلى أن عزيزة هي أم اللقيط المقتول، وأنهم حين عرفوا هذا تستروا عليها، فهي ولية وكلنا لنا ولايانا، وحين أصابتها الحمى رأوا أن يرقدوها في الغيط تحت ظليلة لكي يستمر أجرها ساريا، فهي غلبانة آخر غلب، وتنفق على زوجها المريض وأولادها الثلاثة منه.
كان المأمور يستمع إليه وعلى وجهه نفس صرامته الأولى، ولكنه - قرب النهاية - بدأ وجهه ينفرج قليلا قليلا، ثم بدأت الدهشة ترتسم عليه وتأخذ مكان الصرامة، المذهل في الموضوع أنها كانت متزوجة، فلماذا تقتل ابنها وهي متزوجة؟ قال فكري أفندي هذا للريس فأجابه الرجل: حد عارف يا سعادة البيه؟ الدنيا مليانة بلاوي. - حد عارف إزاي؟! أنت اتجننت ولا جرى لعقلك حاجة؟ بقى واحدة مجوزة تموت ابنها خبط لزق كده ويبقى اسمه الدنيا مليانة بلاوي، جوزها عايش يا وله؟ - عايش يا سعادة البيه؟ - ومخلفة منه؟ - ومخلفة منه. - كانت بتقتل ولادها قبل كده؟ - أبدا يا سعادة البيه. - اشمعنى المرة دي؟ - الله أعلم يا سعادة البيه.
الريس بدا وكأنه لم يفكر أبدا في غرابة المسألة، أو أنه كان قد فكر فيها فلم يأخذها أبدا على أنها مشكلة خطيرة تستوجب إعمال الفكر. كل ما في الأمر أن الأنفار حين رجوه أن يصنع معروفا ويجعل عزيزة ترقد تحت الظليلة في أثناء العمل، فعل هذا عن طيب خاطر، فهو يعرفها ويعرف زوجها وأباها، وكل ما كان يقلقه أن يكشف المأمور - أو أحد من رجال الإدارة - ما يحدث، ذلك هو كل ما كان يشغله. أما الآن فمشغوليته الكبرى هو التحايل على المأمور حتى يتجاوز عن هذه الغلطة. وهكذا عاد يرجوه ويلح في الرجاء أن يمسحها المأمور في ذقنه، وأنا وقعت من السما يا سعادة البيه وأنت استلقيتني، إلى آخر هذه الأقاويل التي يجيد الريس إخراجها ونقطها في كل مأزق.
ولكن المأمور كان في شغل شاغل عنه، فأمله وإن كان قد خاب قليلا؛ إذ تبين أن ليس في المسألة جريمة أو زانية ولا بنت بكر ضحك عليها شاب أرعن وأغواها، أمله وإن كان قد خاب إلا أن مشكلة المرأة بدأت تستحوذ عليه بطريقة أخرى، لماذا تقتل امرأة متزوجة مثل تلك الملتفة في خرقها السوداء ابنها؟
الريس لا يبدو عليه أنه يعرف شيئا ويخفيه، والحقيقة لا يمكن أن يعرفها إلا الله - سبحانه وتعالى - وعزيزة.
قال فكري أفندي للريس: سألتوها عملت كده ليه؟
قال الريس: والله ما عرفنا نطلع منها حاجة، وأهي عند سعادتك كلمها. وبغير أن يقول الرئيس هذا كان في نية فكري أفندي الأكيدة أن يتحرك إلى الظليلة ويتفحص هذه المرأة الذائبة. كانت راقدة في بطن قناية صغيرة من القنوات التي نروي منها الترابيع، راقدة على جنبها وقد ضمت ركبتيها إلى بطنها وأمسكت رأسها بكوعيها متكورة على نفسها كالجنين في بطن أمه. ولم يكن يبدو عليها أنها تختلف - قليلا أو كثيرا - عن بقية النساء في جيش الترحيلة؛ إذ كان واضحا أنها سمراء غامقة السمرة، أو بالأحرى محروقة الجلد، حرقته الشمس الكاوية التي تنصب عليه أشعتها طوال اليوم بلا حجاب أو حاجز. غير أن فكري أفندي لم يفته أن يلاحظ أن ثنية ركبتها فاتحة، وأن ثوبها الأسود المشقوق في أكثر من موضع يظهر - أحيانا - بقعا بيضاء كدوائر النور حين ترتسم على الأرض من ثقوب السقف.
حدق فيها فكري أفندي طويلا معتقدا أنها لا بد حين تشعر بوجوده فوق رأسها سوف تجلس مثلا أو تعتدل، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، بقيت نائمة لا يتحرك لها طرف أو جفن، وحينئذ قال لها فكري أفندي: اتعدلي يا بت.
قال لها هذا وهو يلكزها لكزة هينة ببوز حذائه.
ولم ترد أو تعتدل، فقد حولت إليه عينيها حتى واجهتاه. وليتها لم تفعل، كان وجهها محتقنا شديد الاحتقان حتى استحال لونه إلى سواد. وكان في عينيها كتل دم، دم حقيقي لا يحول بينه وبين أن يسيل إلا ستار لامع رقيق ، وكانت أسنانها تصطك وجسدها كله يرتعش ارتعاشا تكاد العين لا تلحظه.
وبحركة تلقائية غريزية وضع فكري أفندي ظهر يده المغطى بالشعر والعرق على جبينها، وسحبها في الحال - وكأنما أصيب بلسعة - وهو يقول: دي عندها حمى يا وله.
فأجاب الريس: بقالها يومين، غلبانة، زي ما سعادتك شايف. - شايف إيه؟ دي تموت كده.
ووجد الريس أن الوقت قد حان فما لبث أن أضاف: وعلى العموم إذا كنت سعادتك عايز تخصم يوميتها والله اللي تشوفه.
وكان التوقيت مضبوطا فعلا، فقد هز فكري أفندي رأسه هزات كثيرة ذات اليمين وذات اليسار وهو يردد: لا حول ولا قوة إلا بالله. وكان معنى هذا أنه على الأقل قد قبل أن يتغاضى عن رقدة عزيزة، وأن يحتسب يوميتها.
ظل فكري أفندي واقفا في مكانه طويلا كمن لا يدري ماذا يفعل، ينظر إلى المرأة المتكورة في سوادها على الأرض الخشنة ذات الطوب والقلاقيل، ويعود ينظر إلى الأنفار، ثم يهيم في سكون الغيط المضيء المقيت.
وفجأة صرخت المرأة الراقدة كما يصفر القطار على حين بغتة، ومدت يدها في وحشية واقتلعت عودين من أعواد التيل ثم انهالت عليهما عضا بأسنانها وقرضا، وهي تقول مولولة: جدر البطاطا كان السبب يا ضنايا.
وتراجع فكري أفندي إلى الوراء مذعورا، وبعد ما التقط الريس أنفاسه قال للمأمور: أصلها لا مؤاخذة بتخرف يا سعادة البيه، الحمى ملهلبة نافوخها، خد من ده كتير، طول الليل والنهار على كده، دي بتقول كلام، باينها شافت كتير الولية دي، ربنا يكون في عونها. •••
حتى وهي في تمام صحتها لم تكن عزيزة بارعة الجمال، ولم تكن حتى جميلة. كانت طويلة رفيعة ذات أنف طويل رفيع ورقعة سوداء تعصب رأسها على الدوام، ووجه أصفر وعينين واسعتين على إحداهما نقطة بيضاء من رمد قديم. ولكنها لم تكن هكذا طيلة عمرها. كانت ذات يوم بنتا حلوة ذات أهداب وشعر ونهود، تضع الكحل وتطقطق بالشبشب إذا سارت وحاذت الشبان. كانت هكذا إلى أن زوجوها إلى عبد الله. وأيضا كان لها ليلة حنة وفرح ودخلة ونقوط وماء ساخن حملته لها أم عبد الله في الصباحية، صباحية لم تستمر إلا صباحا واحدا، والصباح الذي يليه كانت في الغيط. لم يكن لزوجها أرض يزرعها وحتى لم يكن له أرض يستأجرها. كان يعمل باليومية، يوم فيه وعشرة ما فيش، وعماده كله على مواسم الترحيلة حين يقبض من الحاج عبد الرحيم المقاول، وتحمله عربات النقل إلى تفاتيش كثيرة من تفاتيش مصر في الدقهلية والشرقية وحتى إلى الفيوم وبني سويف كانت تحمله العربات. غير أنه من يوم أن تزوج عزيزة لم تعد العربات تحمله وحده، أصبحت تحمل معه عزيزة. وبدل اليومية الواحدة أصبح يقبض يوميتين. وسنين طويلة حافلة قضاها هو وعزيزة في الغربة وبلاد الناس رأيا فيها الكثير وجمعا القليل. ولكنهما عاشا وخلفا عبد الله الصغير وناهية وزبيدة، عاشا يقبضان القبضية من الحاج عبد الرحيم في موسم القطن ويعيشون جميعا عليها بقية العام. يعيشون غصبا ومحايلة وبالجبنة أحيانا وبالعيش الحاف والملح في أحيان، ولكنهم يعيشون والسلام. إلى أن حدث ما كان لا بد أن يحدث، مرض الزوج، بدأ الأمر بمغص في الجانب الشمال ثم انتقل إلى اليمين ثم سرى في البطن كله، ثم بدأ البطن نفسه ينتفخ بالماء. وقالوا لعبد الله اكو بالنار فكوى بالنار، وقالوا له بلهارسيا وطحال فانهدت البقية الباقية من حيله، وإبر المستشفى في المركز تندك في ذراعه وتفرغ سمها الهاري في جسده وتجعله يهوي، وتجعله يدوخ أحيانا ويرشون على وجهه الماء. ويوم فيه ويوم ما فيش! وكل يوم يذهب إلى المستشفى لا بد أن يصحو من الفجر، ويكون هناك في السابعة وإلا ضاع دوره، ويعود في العصر أو في المغرب ماسكا بردعة حمار من حمير بلدياته مستندا إليها، أو ماشيا عشر خطوات ومستريحا عشرا.
ومع هذا كله فقد ظل عبد الله يذبل ويذبل وكأن جسده يموت بالتدريج، ولا قوة في الأرض تستطيع أن تمنعه أو توقفه، حتى أقعده داء المية. والواقع أن الداء لم يكن هو الذي أقعده، الحاج عبد الرحيم هو الذي هزمه حقا وطرده من فوق عربة النقل، ولم تفلح الوساطات أو الشفاعات لديه؛ إذ ماذا يفعل به والوسية بالتأكيد لن تقبل أن تحتسبه نفرا؟ وبكت عزيزة ونزلت هي الأخرى من العربة. وقال لها الناس: روحي أنت فأبت وقالت: نفوتها السنة دي يمكن السنة الجاية نطلع سوا. وغضب عبد الله وقال له: روحي أنت، ولكنها أبت وقالت: وأسيبك على مين؟
وظلت عزيزة بجواره. تخبز للجيران أحيانا، وتلم روث البهائم وتبيعه، وتسرح بالحطب إلى المركز وتعود بقرش أو بقرشين، وفي كل أسبوع أو عشرة أيام تحظى بيومية. وعبد الله راقد في صحن دارهم الواطئة، بطنه عال، وصوته واهن، ويده المعروقة الصفراء تربت على عبد الله الصغير في ناحية وعلى ناهية وأختها في الناحية الأخرى، ويحس أنه فعلا مريض وأنه عاجز وأنه لولا عزيزة لماتوا جوعا، ومع هذا لا يطاوعه ضميره فيئن وتتقبض يداه وينظر إلى السقف المهبب المنهار بعينين قد كبرهما الداء ووسعهما وجعلهما تبرزان وتلمعان لمعانا غريبا ويقول: كده يا رب؟! يرضيك مراتي توكلنا؟
كان يستكثر هذا على نفسه، بل عزيزة هي الأخرى كانت تتألم، وهي تراه راقدا أصفر منفوخا عاجزا، ولكن الزمن، الزمن القوي القادر ما لبث أن تكفل بكل شيء، فلم يعد عبد الله يستكثر هذا على نفسه ولا على عزيزة، ولم تعد عزيزة تنظر إلى مرض عبد الله على أنه أمر غريب أو نشاز. أصبح كل شيء طبيعيا. هي تخرج من الصباح ولا تعود إلا بشيء، وهو يحرس الدار التي لا شيء فيها ويرعى الأولاد، ويتحين الفرصة ليجرع الماء الذي تحرمه عليه عزيزة حين تكون موجودة، فقد قالوا لها إن علاجه في منع الماء عنه.
أصبح الأمر طبيعيا إلى الدرجة التي قال لها عبد الله ذات يوم بدلع المريض حين يهده المرض ويجعله عصبيا كالأطفال، كثير المطالب كالولد المدلل، قال لها: نفسي في البطاطا يا عزيزة.
وطلبات المريض مجابة ومقدسة، وكأن أهله يرون فيها الشفاء، أو وداع الدنيا.
وقالت له عزيزة: يا حبيبي، من عيني دي ومن عيني دي.
ولم تكن في البلد بطاطا، كانت هناك زرعة بطاطا في فدان قمرين ولكنها جمعت من زمن وبيعت وأرضها تهيأ للأذرة، ولكن طلب عبد الله عزيز وعليها أن تحاول، وهي تعرف أن أهل البلد - بعد ما جمعت البطاطا - قد أشبعوا أرضها حفرا وتنقيبا بحثا عن جذر بطاطا يكون قد أخطأته فأس جامعها، وأن لم يعد في فدان قمرين أي أمل في العثور على عقلة إصبع، ولكن طلب عبد الله عزيز وغال وعليها أن تفعل المستحيل.
وحملت عزيزة فأس عبد الله التي صدئت من قلة ما تستعمل، وذهبت إلى فدان قمرين، وقصدت أقل الأمكنة حفرا وأخذت تعمل، وحفرت إلى عمق متر ولم تجد، وانتقلت إلى مكان آخر أعملت فيه الفأس وأيضا لم تجد، كانت تجد كل شيء، جذور الزرع القديم وشقافة ورملا وأحيانا قطع حديد ولكنها لا تجد أبدا جذور بطاطا.
وبينما هي تعمل وتلهث وقد شمرت ثوبها الأسود وربطته حول وسطها كما يفعل الرجال، رأت خيالا ثم سمعت صوتا يقول: بتعملي إيه يا بت؟
وحتى قبل أن ترفع رأسها كانت قد عرفت أن صاحب الصوت هو محمد بن قمرين.
ورفعت عزيزة رأسها وعدلت ظهرها ومسحت عرقها وقالت له الحكاية، ورجته أن يسمح لها بمعاودة البحث، وقال محمد كلاما كثيرا عن الحفر وكيف يضعف الأرض ويخفي طميها ويبور المحصول. غير أنها عادت ترجوه وتلحف في الرجاء حتى بكت، ويبدو أنها صعبت على محمد، فلم يوافق على معاودة الحفر فقط، ولكنه كان شهما فقال لها: طب عنك إنتي.
وخلع جلبابه وأخذ منها الفأس، وتلفت حوله بعين خبيرة ثم انتقى مكانا ما لبث أن راح ينهال بالفأس عليه، وعزيزة قد جلست غير بعيد ترقبه وتقارن بين حفرها وحفره، والفأس في يدها هي اقوى منها وأثقل والفأس في يده هو، هو القابض عليها، هو المتحكم فيها، هو الرجل، هو الرجل الذي يذكرها بعبد الله حين كان يعمل، وتصبح له العضلات البارزة في بطن ساقه، وتتكور تلك العضلات الأخرى في بطن ذراعه، ويلهث. ليس لهث المتعب، ولكنه لهث الرجل حين يعمل، لهث منتظم قوي وقور.
كان محمد بن قمرين في العشرين، وكانوا يتكلمون عن زواجه من ابنة قريبة لهم، وكان معروفا بشراسته حتى إنه لم يكن يتورع عن سب النساء، ولكنه كان من الغيط إلى البيت ومن البيت إلى الغيط، لا يعرف قهوة ولا غرزة ولا أي كلام فارغ مما يعرفه شبان القرية صياعها. حمدا لله إذن أنه عاملها برفق، حمدا لله أنه لم يشتمها، وكتر خيره أنه تطوع بأن يبحث لها عن جذر البطاطا.
خبط محمد خبطتين متواليتين ثم قال لها وهو يبتسم وصوته يضحك، وربما لأول مرة كانت تراه يبتسم أو يضحك: خدي يا ستي.
وناولها جذر بطاطا صغيرا فرحت به كاللقية، وكادت تهم بالوقوف والذهاب جريا إلى عبد الله بما حصلت عليه. ولكنه قال لها: استني، وبعد خبطات قليلة أخرى ناولها حبة بطاطا ذهلت لضخامتها، فلم تكن جذرا، كانت حبة حقيقية في حجم قبضة اليد أو تزيد.
لفت عزيزة البطاطا في طرف شالها ولسانها يردد كل ما تعرفه من كلمات الشكر وتعبيراته ودعواته، تتوجه بها إلى السماء تطلب له طول العمر ونجاح المقاصد. واستدارت ملهوفة فرحانة لكي تأخذ طريقها إلى البلد، فالشمس كانت قد أوشكت على الغروب والدنيا تمست وإلى أن تصل البلدة يكون المساء قد حل.
ولكنها في لهفتها وفرحتها لم تفطن إلى الحفرة التي كانت وراءها وعلى هذا فقد فوجئت بنفسها تسقط مرة واحدة نصفها في الحفرة ونصفها على الأرض.
والواقع أنها لم تتبين تماما ما حدث بعد هذا، الأمور حدثت بطريقة أسرع من أن تدركها أو تتلافاها. ما كادت تحاول أن تقوم حتى كان محمد إلى جوارها في الحفرة يساعدها. مرة واحدة وجدت نفسها في حضنه وقد أطبق عليها بذراعيه ليرفعها. وهي وإن كانت قد ارتعشت حين أحست بنفسها في حضن رجل غريب، إلا أن الرجل الغريب لم يكن سوى محمد الكشر الذي لا يتسرب إليه الشك. ولكن الشك بدأ يتسرب فعلا إليها حين لم يرفعها محمد ولم يدعها ترفع نفسها، وما كاد الشك يتسرب إليها حتى كان قد أصبح حقيقة، روعت أولا ولكنها استجمعت نفسها ودفعته وناضلت، ولكنها كانت ترى أن نضالها لا فائدة منه. بل ليست تدري على وجه الدقة سر هذا الانهيار الذي أصابها حين أصبحت في حضنه. تريد أن تقاوم ولا تستطيع. تستميت، ولكنها يائسة. تصرخ فيتجمع الناس وتصبح فضيحة ومضغة في الأفواه؟ تسكت؟ تعضه؟ حتى ملابسها التي لا تحتكم على غيرها مزقها، كل ما حدث أنها ظلت تئن مذهولة مرعوبة حتى قام. وشتمته، ولكن ماذا تفيد الشتائم؟ لم يقل هو حرفا، فقد ظل ينظر هنا وهناك. الغيط خال تماما والبهائم والناس تروح من بعيد. وعاد إليها من جديد. وهذه المرة كان يمكن أن تقوم وتجري وتضربه بالفأس إن اضطرت، ولكنها لم تفعل. سكتت وظلت تئن أنين المظلوم الذي لا يخلي نفسه من مسئولية ظلمه.
وفرح عبد الله بالبطاطا وأكل منها الأولاد، وحتى هي نابتها قطعة، وفي الأيام القليلة التالية كانت تراودها ذكرى ما حدث، وتشيح بوجهها وتلعن نفسها وابن قمرين وجذر البطاطا وعبد الله. ولكنها تحمد الله - في سرها - أن أحدا لم يرها، وإن ابن قمرين تقول عليها فلن يصدقه أحد، ولكنها بعد أيام كانت قد نسيت كل شيء عما حدث، وأي شيء ينسي قدر البحث الدائب عن لقمة العيش. الذين لا ينسون هم الذين لديهم الوقت لكي يتذكروا ويسرحوا مع الذكرى. وعزيزة تبدأ اليوم مسعورة تجري هنا وهناك لتحصل على خبز لذلك اليوم، وتعود منهوكة مهدودة ما تكاد تضع رأسها على المخدة القش حتى يدهمها تعب أشد في مفعوله من النوم، غيبوبة طويلة يوقظها منها ذلك الهاتف الخفي الذي يوقظها كل فجر، هاتف اللقمة والدار الفارغة والأفواه المفتوحة الجائعة.
حتى المرض الشهري حين انقطع عنها لم تعره اهتماما يذكر، فكثيرا ما كان ينقطع وينتظم ويغيب شهرا ثم يعود. لم تفطن إلا حين بدأت تحس بالحمل. ورغم كل علاماته وإشاراته فلم تصدق أنه - حقيقة - حمل، أمن مرة واحدة أو مرتين يحدث هذا، ومن أجل جذر بطاطا؟!
أفظع ما في الأمر كان عبد الله، عبد الله لم يقربها من عمر ابنتها زبيدة، والناس تعلم هذا، فماذا يقول؟ وماذا يقول الناس؟ هو لن يقتلها فهو عاجز عن قتلها، والناس لن يقتلوها فهم لن يستطيعوا قتلها، ولكن القتل عندها أهون من أن يعرف عبد الله ويعرف الناس.
كان لا بد - إذن - من التخلص من هذا الشر المستطير الذي يرقد في مكان ما من بطنها، ويكبر كل يوم ويملؤها ولن يهدأ حتى يخمد أنفاسها. وجربت عزيزة كل شيء، أعواد الملوخية، وإدارة الرحى فوق بطنها والقفز من السطح جربته. ولكنه كان ابن حرام فعلا فلم يزحزحه كل هذا ولم يسقطه، بل مضى يكبر كل يوم، بل بدأ يلعب، ولا يحول بينه وبين أن يفضحها على الملأ إلا هذا الحزام القوي السميك الذي تتحزم به في غل وجبروت، وكأنها تريد أن تخنقه في بطنها وتقتله قبل أن يقتلها.
كان الحزام يخفي بطنها إلى حد كبير، وكانت تترك عب جلبابها الأسود الواسع مهدلا فوق الحزام الخارجي، وحين تمشي وحين تقف وحين تنام وحين تتحدث كانت تراعي دائما أن تفعل هذا بطريقة لا تدع مجالا للشك فيها، وكان هذا يؤلمها أشد الألم، وكانت تتحمل أشد الشدائد حتى دون أن يكون لها الحق في الشكوى، والشكوى أحيانا تذهب بالألم. وكانت تحتمل وتكظم، ويفيض بها الحال في ليال وتتنفس بحرية وترفع يديها وأنظارها وروحها إلى السماء وتطلب من الله أن ينقذها، إن لم يكن لأجل خاطرها فلأجل خاطر عبد الله الراقد العاجز.
كل ليلة وكل دقيقة تدعو ولا دعاء من دعواتها يستجاب، بل حدث ما هو أمر، جاء الموسم ونادى المنادي في البلد. النفر بسبعة يا أهالي والقبض على خمستاشر يوم والغايب يعلم الحاضر.
وكان لا بد لها في هذا العام أن تذهب وإلا هلكوا، فالعام الماضي الذي لم تذهب فيه رأوا خلاله نجوم الظهر وعاشوا على الطوى. لا بد لها من الذهاب، قال لها عبد الله هذا، وقال لها الناس. وقالت هي هذه المرة: من غير كلام أنا رايحة.
وأخذت زوادتها، وشدت على يد عبد الله وهي تودعه، وقبلت الصغير واحتضنته، وبكت وبكوا هم الآخرون وهم يصرون على الذهاب معها حتى «الحلزونة».
وامتلأت العربة، وزمر السائق وانطلقت، وانطلقت معها عقائر الأنفار تغني للمحبوب وللغربة وتعتب على الزمان. والغريب أن عزيزة بعد حشرجة بكاء أول الأمر، ثم صمت، بدأت تغني معهم، وشيئا فشيئا بدأت تحس أنها تغادر أرض الفقر والعلل وجذور البطاطا وأنها تدخل في الحياة المضمونة الجديدة.
واشتغلت عزيزة ونسيت كل شيء في غمرة الشغل، نفسها وعبد الله والبلد، ولكنها أحيانا كانت تذكر بطنها وما فيه وما حوله من أحزمة. وأحيانا تنسى، والنسيان والذكرى لا تكونان سوى جزء ضئيل من الأشياء التي تتعاقب عليها، تعاقب الشمس حين تشرق وظهرها محني فوق العيدان، وحين تغيب وهي تدفع باللقمة الحاف في فمها، كالنهار بما فيه من قيظ وعرق وعصي رفيعة يصل ضربها إلى العظم، والليل بما فيه من غيبوبة واسترخاء وأحلام تبقى دائما بلا تفسير.
غير أنها ذات يوم بعد القيالة، اضطرت أن تتذكر كل شيء وتعي بكل شيء، فقد لمع شيء في عقلها كما يلمع النصل الغادر قبل أن يستقر في جسد الضحية. فقد أحست ببوادر الطلق اللعين تنقر في سلسلة ظهرها ثم تلتف حول بطنها لتعتصرها. أحست أن هذا الشيء اللعين الذي تحمله ينقر جدار بطنها مطالبا بالخروج، ينقر في إصرار وتصميم نقرات مستمرة، كل تالية أعلى من الأولى وأوجع، وكأنه يهم بهدم الجدار.
لم يكن أحد من بلدياتها أنفار الترحيلة قد فطن إليها. وكيف يفطنون وهم لا يرى بعضهم البعض إلا منحنين، أو مبعثرين في أكوام نائمة مكدودة، أو سارحين والنوم لا يزال يغلق عيونهم، ومروحين والتعب وتراب الغيط يعميان العيون؟ كل واحد في حالة ولكل بلواه، ولا فرصة حتى للموجوع ليقول: آه.
ولكنهم غدا سيعرفون. والمصيبة ليست في هذا، المصيبة حين تعود معهم إلى البلد وعبد الله، تعود أما لطفل ليس هو أباه. أليس الموت أهون؟
تكاثرت الطلقات، وما كاد الريس يصفر وينتهي اليوم حتى كان وجهها في شحوب الموتى. بل حتى لم تلاحظ جارتها شحوبها. وعزيزة ساكتة صامدة تتحمل ولا تستغيث، خرجت من الأرض واغتسلت كما اغتسلوا، وسارت على المشاية كما ساروا، تتوقف هنيهة إذا جاءت الطلقة ثم تسرع حين تسكت. وحتى العشاء تعشت وكل ما كانت تريده أن تواتيها الفرصة لفك الحزام الذي يخنق بطنها؛ إذ حين كان بطنها يتقيض داخل الحزام كانت تحس بآلام مروعة، آلام لا يحتملها إنس ولا حجر ولا جان. هي نفسها لم تكن تعرف بأي جبروت غير بشري تحتمل دون أن يبدو عليها أقل لمحة أو بادرة، وكل هذا من أجل جذر بطاطا. لا! كل هذا لأنها لم تقاوم لحظة، تلك اللحظة التي صاحبتها سبعة شهور تطاردها كاللعنة المقيمة. لماذا تركته يفعل بها ما فعل؟ تقول لنفسها إنها لم ترض. ولكنها ترد وتقول: ولكني لم أرفض. تضرب رأسها في الحائط وتقول: كنت عارفة إنه حرام وعيب. لم تقاوميه كما يجب. لم تصرخي وقلت الفضيحة. وها قد أتتك الفضيحة الكبرى. انفضحي - إذن - يا عزيزة واشبعي فضيحة، فلولا أنك ضعفت لحظة لما حدث ما حدث. لحظة، لحظة ضعف واحدة منها هي التي قاومت طبيعتها حين رقد عبد الله رقدته التي لم يقم منها. قاومت الليالي التي كانت تريده فيها ولا تستطيع، أيكون هذا هو السبب في أنها ضعفت تلك اللحظة؟ اللحظة التي أخذها فيها محمد بن قمرين؟ •••
كان عليها أن تنتظر حتى تنام الترحيلة ثم تبتعد عنهم قدر ما تستطيع وتلد، ولكن الولادة ليست بالإرادة. بدأت العواصف المتلاحقة تجتاح بطنها ولم يلبث القرن أن طش، وجيرانها في الفراش والعزال، وجيران جيرانها ومعظم الناس لا يزالون مستيقظين. جارتها تسألها ما بها وملابسها غرقى مبتلة وفي بطنها نار فتقول: رأسي.
وكان لا بد مما ليس منه بد. فما لم تلحق نفسها فستلد وهي في مكانها تحت سمع الترحيلة وبصرهم أجمعين.
وقامت منحنية، ولم يأبه أحد لقيامها فقد حسبها تريد أن تفعل مثلما يفعل الناس. وما كادت تبتعد عنهم بأمتار وتغيب قليلا في اللام حتى بدأ الطلق يثنيها ويفردها. ومع هذا فلم تنس البيضة التي استلفتها، ولا قطعة الصفصاف الجافة التي احترق نصفها، كانت كل منهما في يد.
وظلت تمشي حتى وصلت إلى حافة الخليج، وظلت تمشي على الحافة حتى لم تعد قادرة على المشي. وكل هذا ولم تكن قد ابتعدت عن الترحيلة كثيرا، كانوا على مرمى السمع منها تصلها أصواتهم، ولولا الظلام الرابض بينها وبينهم لعرفوها وعرفوا ما هي مقدمة عليه.
ووضعت قطعة الصفصاف الجافة بين أسنانها، وجلست القرفصاء، وكلما عوى الطلق المتلاحق في جنباتها انغرست أسنانها لآخرها في الخشب الجاف، وتقبضت يدها تعتصر طين الخليج حتى تقذف به وقد فقد ماءه وجف وتجمد.
وأيضا لم تنس ما يجب عليها عمله، فما كاد رأس الجنين يطل حتى كسرت البيضة ومضت توزع محتوياتها الزلقة عليها تفلح في زفلطة الرأس وخروجه.
وانساب الجنين في النهاية.
انساب مرة واحدة وكأنما انساب روحها معه، فقد داخت قليلا ثم غابت عن الوعي برهة. برهة وجيزة فقط، ولكنها حين عادت إلى وعيها سمعت، حقيقة سمعت زقزقة خافتة. زقزقة الجنين ما في ذلك شك. ومرة واحدة خرجت منه صرخة، صرخة خيل إليها أنها ملأت الدنيا كلها وسمعها الناس أجمعون.
وهي لم تكن قد جهزت نفسها لهذا الوقت. كل ما كان يهمها أن تتخلص من هذا الورم الخبيث الذي أضناها طويلا، ولتتركه بعد هذا أو ليحدث له ما يحدث. وها هو ذا الورم بعد ما تخلصت منه يصرخ ويهدد بالفضيحة الكبرى. ابن سبعة شهور، ولكنه حي ويصرخ. ومدت يدا مرتجفة غير مستقرة، وظلت تعبث بالكتلة البشرية الحية حتى وصلت إلى فمها، وانزلقت إصبعها الصغيرة رغما عنها ووصل في الفم، فم، فم حقيقي لرضيع ليس فيه أسنان، فم يكاد يحس بإصبعها حتى بدأ يتحرك تحركات معينة ويرضعه. رضع الطفل إصبعها للحظة، لحظة خاطفة ولكنها كهربتها، من هذا الجحر اللحمي الصغير انساب إلى إصبعها، ثم إلى ذراعها ثم إلى كيانها كله إحساس غريب عارم. وكالوهج الخاطف أدركت أنها رغم كل شيء ، ورغم ما لاقته من مصائب، فهذا الرضيع ابنها وهي أمه. وتركت يدها فمه وراحت تعبث وتحاول أن تقرب الرضيع منها.
لم تكن هي التي تتصرف؛ إذ لم تكن هي التي تفكر. هي - في الواقع - كانت لا تفكر بالمرة، كانت وكأنما ذراعها هي التي تتحرك وتجذب الرضيع إليها من تلقاء نفسها.
ولكن كل هذا لم يستمر سوى لحظة، بعدها صرخ الطفل، وارتدت يدها بسرعة إلى فمه تقفله، وحاولت الفتحة الصغيرة أن تتملص من الأصابع الموضوعة فوقها فازداد ضغط الأصابع. وخافت أن ترفع يدها فيعود إلى الصراخ، وهكذا بقيت يدها.
ومرة واحدة أفاقت عزيزة لنفسها فوجدت يدها ميتة على فم الطفل ووجدت الطفل ساكتا ساكنا لا حراك به. وهتفت في صوت مبحوح خائف مرتعش: يا لهوي!
ومكثت قليلا في مكانها، جامدة لا تتحرك، غير أنها أخيرا تحركت خائفة مرتعشة، كل همها أن تبتعد، تحركت زاحفة على بطنها إلى فراش قش الأرز الذي تنام عليه.
كان جيرانها والترحيلة قد ناموا، ولم يشهد قالب الطوب الأحمر الذي تضع رأسها عليه دموعا، ولم تسمع أم حسن جارتها في الرقاد أنينا، وأيضا لم تنم، فطوال الليل كانت تحس وكأن قطار الدلتا ظل يدفعها إلى تصادم المحطة، وأنه يفعصها بين حديده وحديد التصادم.
وقبل شروق الشمس، وبجبروت مذهل، كانت تمسك خطا مع الأنفار، وظهرها محني، وعيناها زائغتان تبحثان عن اللطع. •••
وسار كل شيء كما أرادت تماما، حتى حين جاء المأمور وبدأ قلبها يدق وعرقها ينبت، تمالكت نفسها بقوة ومرت من أمامه وفاتت عليه دون أن يستوقفها. وحين جاء البوليس لم يشك أحد فيها، بل حتى لم تستدع للمثول بين يدي وكيل النيابة. كل ما في الأمر أنها قبيل الغروب وهي عائدة مع الأنفار من الغيط، عن لها أن تغير طريقها، وبدلا من الذهاب إلى مقر مكان الترحيلة عن طريق الترعة، تذهب عن طريق الخليج. لماذا؟ لم تكن تدري. بدأت تسير فعلا في اتجاه الخليج، ولكنها اقشعرت فجأة وعادت مسرعة لتذهب عن طريق الترعة.
وتعشت مع الأنفار، والغريب أنها وجدت شهيتها متفتحة على غير العادة، وآوت إلى فراشها القش ومخدتها الحجرية وكل ما يشغلها هو فرحة الإفلات، وكأن تلك الفرحة قد تولت تخدير جسمها وكبت كل آلامها.
واستيقظت مع الأنفار في الفجر، ومع شعاعات الشمس الأولى بدا لها أن الهم قد انزاح عن كاهلها إلى الأبد، وأنها أصبحت طليقة حرة، تخلصت - دون أن يشمت فيها أحد أو يعيرها أحد - من الورم الخبيث الذي كاد يوردها حتفها، بدا لها الصباح جميلا جدا، وبدا لها أن كل شيء سوف يسير كما أرادت تماما وكأن الله معها.
وفي طريقها إلى الغيط خرجت - لأول مرة - عن العزلة المقيتة التي كانت قد فرضتها على نفسها، وقد أصبحت منتشية بإحساسها أن لم يعد فيها شيء يمنعها من أن تكون مثل سائر الناس، تخالطهم ويخالطونها وتحادثهم ويضحكون معها.
لوية بوزها انفكت، ورأسها غسلته وسرحت شعرها ربما للمرة الأولى منذ شهور، وبدت عزيزة مرحة منطلقة على غير عادتها حتى إنها شاركت الأنفار في غنائهم في أثناء العمل، حين يشتركون في تزويج نفر منهم لبنت، وتناجيه ويناجيها، ثم يزفهم الأنفار جميعا بنشيد جماعي. •••
غير أن كل شيء لم يسر تماما كما أرادت عزيزة.
فبعد يومين بدأت تسخن وتحس بدق متواصل يفتت مفاصلها.
وفي اليوم الثالث بدأت السخونة تتحول إلى نيران تتصاعد من جلدها وجوفها.
كانت قد أصيبت بحمى النفاس.
ولكنها لم تكن تعرف ماذا أصابها، ولا رأت أبدا أية علاقة ممكن أن تكون بين ولادتها في العراء على حافة الخليج وبين ما يحدث لها. كل ما أحسته أن جسدها بدأ يخونها، وأنه لم يعد يطاوعها في يقظتها أو في منامها، ولم تعد قادرة على صلب حيلها في الخط.
ولكن آلام الدنيا كلها وحرارتها كان لا يمكن أن تثنيها عن العمل، فاستمرت تسرح وتروح وتمسك الخط مثلها مثل بقية الأنفار، تدوخ وتزغلل الدنيا في ناظريها وتغم عليها نفسها، ولكنها تضغط على نفسها - بجبروت - وتقاوم وتنحني وتعمل.
وبالضبط لم تدرك ماذا حدث في اليوم الرابع أو الخامس، كانت في صف الأنفار يقولون لها: مالك يا عزيزة؟ فلا ترد. وفجأة وقعت في الخط، وأفاقت لتجد نفسها تحت «الظليلة»، ولكنها ما كادت تفيق حتى بدأت تصرخ وتزعق وكأنهم يغدرون بها ويمنعونها من أن تعمل. بل قامت فعلا تريد مواصلة العمل، ولكنها داخت وارتعشت ساقاها تحتها ووقعت. وأفاقت لتجد نفسها مبلولة بالماء الذي رشوه عليها.
ورغم حلقها الجاف ورعشتها المستمرة وأزيز الحمى في جسدها فقد كانت لا تزال فرحة أن خطتها تمضي بنجاح، وأن أحدا لا يعرف ولن يعرف أنها الفاعلة. •••
ولكن خطتها قدر لها أن تفشل عن طريق لم تكن قد حسبت حسابه، فالحمى باتت تشتد.
وبدأت عزيزة تخرف.
أم الحسن جارتها في الرقاد بدأت تسمع كلاما غير مفهوم عن جذر البطاطا وابن قمرين وعبد الله والجنين الذي لم يكن يريد أن يكف عن الصراخ.
ومن كلماتها المتناثرة وهمسات النساء وإضافاتهن، تكاملت حكايتها وأصبحت خبرا.
وبدأ خبرها ينتقل من جار إلى جار، ويتسلل حول القفف، ويخطي المواقد، وينبش بين عيدان القش، ويتوقف لدى كل أذن صاغية.
ولم يترك الخبر أذنا لم يتوقف عندها. ولم تترك أذن الخبر إلا وأوقفته وفحصته وترددت كثيرا بين تصديقه وتكذيبه، حتى آذان الصنج سمعت به.
ومع ذلك لم يتعد الخبر ذلك الفضاء الكائن خلف الإصطبلات أبدا. حرص الجميع على كتمانه وكأنه قد أصبح سرهم كلهم، أو عورة كل منهم التي يجب أن يبقيها بعيدة عن أعين الناس وألسنتهم وآذانهم. حتى تعليقاتهم الخاصة عليه بينهم وبين أنفسهم كانت خفيفة ومقتضبة. الرجال كانوا يكتفون بمصمصة الشفاه، وقد كفتهم عزيزة - وما حدث لها وما لا يزال يحدث لها - أي كلمة زائدة أو تعليق خارج، والنساء والبنات طرحن الحكاية جانبا وأصبحت عزيزة كل همهن، يطعمنها ويسقينها ويعاونها في الذهاب إلى الغيط والمجيء، ويمسكن خطها بدلا منها، ولا يجعلن لها من عمل إلا الانحناء حين يمر المأمور أو الخولي.
وحين بلغ الريس عرفة الخبر، وتشاور مع كبار السن من الرجال، رأوا أن تكف عزيزة عن العمل تماما وترقد.
ولم توافق عزيزة أبدا إلا بعد أن أخبروها أن أجرتها لن ينالها سوء، وأن يوميتها سوف تحتسب، وكان خوفها الأكبر إذا رقدت أن ينقطع أجرها فيموت عبد الله وأولادها من الجوع.
وحين رقدت عزيزة وقد اطمأن قلبها على سريان اليومية، بدا وكأنما المرض كان يختزن قوته كلها لهذه اللحظة. فقد أحست - وكأنما فجأة - أنها فعلا مريضة، وأن المرض قد استبد بها إلى درجة لم تعد تستطيع معها أن ترفع ساقا أو تحرك يدا. •••
مع أن المأمور كان هو أول من عرف بحكاية عزيزة إلا أن خبرها كان قد وصل إلى العزبة الكبيرة حتى قبل أن يصلها هو. ذلك أنه الخبر الذي انتظره الناس فيها طويلا وتلقفوه تلقف الملهوب، فلم يكن فيه حل للغز الذي حيرهم فقط، ولكن الحل أيضا على وجه مرض، الحل كما أرادوه تماما وخافوا ألا يكون. حل بردت به صدورهم وهجعت خواطرهم وأعاد لهم الثقة في أنفسهم وأخلاقهم ونسائهم وقيمهم، تلك الثقة التي ظلت حائزة مزعزعة تحوم حولها الشكوك، وتتطاول عليها الألسن منذ اللحظة التي عثر فيها عبد المطلب الخفير على اللقيط.
ومن الفرحة التي قوبل بها الخبر في العزبة كان يخيل إليك أنه لو لم تكن هناك عزيزة وجذر بطاطا لتكفل واحد منهم أو أكثر بتأليف عزيزة من عنده، وألصق بها ما شاء من جذور البطاطا أو كيزان الذرة، ولسرت حكايته ودارت وأصبحت - في النهاية - حقيقة. فأن يعود للناس إيمانهم شيء ضروري، فإن لم يعد على هيئة حقيقة فليعد شبه حقيقة؛ إذ الإيمان سوف يتكفل بها ويجعل منها حقيقة. والناس تريد الإيمان على أية صورة، فإن لم تجد ما تؤمن به في الواقع آمنت به في الحكايات.
هللت العزبة الكبيرة للخبر بفلاحيها وأسطواتها وكل موظفيها، وحتى بالسائرين في طرقاتها. وكلما التقى أحدهم بالآخر صرخ فيه: مش قلت لك؟ علي الطلاق أنا م الأول قلت إنهم الترحيلة، جالك كلامي؟
ويؤمن الآخر على حديثه، بل ويكاد يقسم هو الآخر بيمين الطلاق وينتقل بهما الحديث من اللقيط إلى الترحيلة أنفسهم باعتبارهم أصحابه والمسئولين عنه.
ذلك هو ما حدث. فما كاد أهل العزبة يطمئنون على سلامة أنفسهم حتى بدءوا يستديرون للغرابوة الذين كانوا يتجاهلون وجودهم إلى تلك اللحظة، ويعيشون على أرض التفتيش يكاد لا يحس بهم إنسان. بدءوا كلما ذاع خبر عزيزة ولقيطها وحكايتها يصبحون محط أنظار الناس ومحل اهتمامهم، ولكن أي اهتمام؟!
الفلاحون الكبار والمزارعون لم يفعل الخبر أكثر من أن هيج كامن تقززهم من الغرابوة واشمئزازهم منهم، فأصبح الحديث عنهم يسبقه أو يتبعه سيل من الشتائم والبصقات. كأن الترحيلة في نظرهم حثالة آدمية تهبط على تفتيشهم مرة أو مرتين في العام كالوباء الذي لا مفر منه. فما بالك حين يكتشفون أن تلك الحثالة قد صدر عنها شيء حرام - كهذا الذي حدث منذ أيام - حاولت إخفاءه وإلصاقه بأهل العزبة؟ الترحيلة أنفسهم كانوا يكادوا يصبحون شيئا حراما، وكأن الناس جميعا مخلوقات حلال وهم وحدهم مخلوقات حرام، أية بشاعة يصبح عليها الحرام إذا ارتكب حراما!
نساء الفلاحين هن الأخريات كان لهن آراء مثل أزواجهن وآبائهن، بل أغرب من هذا كن أكثر حماسا وأكثر تحاملا، وكأنهن يستكثرن على الترحيلة أن تحمل إحداهن مثلما يحملن، وأن تلد مثلما يلدن، حتى لو كان حملها وولادتها حراما في حرام. •••
وفي عودة مسيحة أفندي إلى بيته في ذلك اليوم كان فرحا على غير العادة، بل دفعه الفرح إلى التهور، وآلى على زوجته أن تذبح لهم في ذلك اليوم وتوسع.
وزاط دميان للاقتراح، لا لأنه سيأكل الرءوس والجناحين كعادته كلما ذبحوا دجاجا، ولكن لأن معنى هذا أن يتاح له أن ينظف الريش عن الطير المذبوح، وأهم من هذا سيتاح له أن يفتح «القوانص» بالسكين، وفرحته الكبرى كانت حين يخرج أحشاء الدجاجة أو البطة ويتناول منها «القونصة» ويجري عليها السكين فيقسمها نصفين، ويتحسس الحصا الأصفر الذي يعثر عليه داخلها ثم يزيل قشرتها الداخلية التي تطلع في اليد مرة واحدة دون تمزق وبلا مجهود، وتصبح القونصة بعدها نظيفة تكاد - من نظافتها - أن يلتهمها دميان التهاما وهي نيئة.
وضحكت لنده لمداعبات أبيها، وقليلا ما كان يداعبها، ووجدت الفرصة مناسبة فطلبت منه أن يسمح لها بزيارة أم إبراهيم زوجة «أبو» إبراهيم الفقي؛ إذ مرضت المسكينة وأرسلت تطلبها، والعادة كانت قد جرت ألا تخرج لنده إلا لزيارة أسرة المأمور أو في أفراح كبار الفلاحين إذا دعيت إلى فرح، ولكن مسيحة أفندي كان في الحالة التي ممكن أن يسمح فيها بأي شيء ولو كان خارقا للعادة. ألقى نظرة جانبية على أم لنده وكأنه يطلب رأيها، فرفعت حاجبيها حتى بدا أن رقبتها الرفيعة ترتفع هي الأخرى وتصبح أكثر طولا، وقالت: والله أنت حر.
فقال مسحية أفندي بتهليل: خلاص، روحي يا ست لنده، بس خدي بالك لحسن تعديكي، حاكم بيوت الفلاحين مليانة ميكروب. •••
وكان فكري أفندي المأمور أجدر الناس بالفرحة، فهو الذي - بالفطنة والسليقة - أشار إلى الترحيلة من أول لحظة وأكد أنهم الفاعلون، وهو الذي ظل يدأب ويسعى حتى كللت مساعيه بالنجاح وتحققت فراسته، وعثر على الجانية في الترحيلة.
ولكنه حين عاد إلى العزبة لم تكن على سيماه معالم فرح أو بشائر انتصار، بالعكس كانت ملامحه غائمة، فيها خيبة أمل وبوادر تفكير، حتى حين قابله محبوب البوسطجي الذي كان قد عاد إلى الحياة مع زكية بعدما تكفل المأمور برد عقلها وإصلاح ما بينهما حتى إنه جعلها تقبل أمامه قدمي محبوب، وفعلت هذا ومحبوب يستغيث ويرفض قائلا إنها ستخلص منه كل هذا حين تنفرد به في البيت بعيدا عن الناس. حتى حين قابله محبوب وهو لا يزال معلقا حقيبة الخطابات إلى جنبه مع أن عمله كان ينتهي بعد فوات قطار الرابعة، ولكنه كان يحب ألا يراه الناس إلا وتحت إبطه الحقيبة وكأنما ليميز نفسه بشيء عن بقية الناس. حين قابل «محبوب» ورآه مغموما أحب أن يسري عنه كعادته، وقال له إنه من يوم الحكاية إياها بدأ يتعلم القراءة والكتابة على يد الشيخ «أبو» إبراهيم الفقي حتى لا تستغفله زكية مرة أخرى، لم يضحك المأمور ولا حتى رد على محبوب أو حفل به، بل ما كاد يهبط من فوق الركوبة حتى توجه إلى بيته في الحال وقال لزوجته إنه يريد قهوة، وحين جاءت وجدته نائما على الكرسي فلم تشأ إيقاظه.
وفي إغفاءته رأى فكري أفندي نفسه نائما مع عزيزة تحت الظليلة والأنفار كلهم يتفرجون عليه وعليها، وكان زوجها - ببطنه المنتفخ - واقفا ممسكا خطا مع الأنفار، وكان هو الآخر يتفرج ولا يفعل شيئا أكثر من أن يقول: حرام عليك يا حضرة المأمور، حرام عليك، دي عيانة.
وأفاق فكري أفندي مختنقا وكأنه يعاني من كابوس. •••
ظلت اللعنات تنهال - طوال النهار - وتنصب على الترحيلة وتندد بهم حتى من جنيدي صاحب الدكان والوحيد الذي كان يستفيد من وجودهم في التفتيش، كان يلعنهم حتى في وجودهم، ويبدي اشمئزازه من أيديهم الكثيرة الممتدة إليه، قائلا لهم إنه قد أصبح يستبشع حتى مجرد لمس نكلهم وملاليهم، وكأنها هي الأخرى لقطاء جاءت من حرام وذاهبة إلى حرام وملمسها خطيئة.
أولاد الفلاحين وصبيانهم فقط هم الذين - دونا عن قاطني التفتيش - كان لهم رأي آخر في المساء. في النهار فعلوا مثل كل الناس، وكلما صادفوا امرأة من نساء الترحيلة كانوا يأخذون في زفها والتطبيل على صفيحة قديمة وراءها. أما حين جاء الليل فقد أصبح لهم رأي آخر، وأولاد العزبة - ككل الأولاد - يحبون الليل واللعب فيه. الليل حين يتشبع الفضاء المحيط بالعزبة بضوء القمر، ووسوسة الليل، ونقيق ضفادعه، والرائحة التي يضيفها الظلام على الأرض، حتى الزرع الأخضر تصبح له في الليل رائحة، وكأنه يدخر أزكى روائحه لليل. ينسى الأولاد - حينئذ - أحقاد النهار وخلافاته ومشاحناته، ينسون حتى آباءهم وزجرهم، وينسون اليوم الشاق الآتي، وكأنهم لا يعودون يذكرون إلا أنهم أبناء لحظتهم، أبناء الليل والأرض، وإخوة الضفادع والنجوم، وأحباء ذلك القمر الحنون النظيف ويلعبون. يلعبون الاستغماية، وضربونا مونا لما عمونا، وعسكر وحرامية، والحجر دقدق، وسرح. يبدءون اللعبة وفي دورين يكونون قد زهدوا فيها، فينتقلون بخفة وبساطة إلى غيرها وغيرها، ضاحكين صاخبين لا يعكر صفوهم معكر.
في تلك الليلة اقترح واحد من الأولاد على زملائه أن يذهبوا ويتفرجوا على الترحيلة وأولادها وهم يلعبون. وفوجئ صاحب الاقتراح نفسه بالضجيج العظيم الموافق الذي لاقاه اقتراحه؛ إذ هو قد اقترح هذا وهو خائف؛ ذلك أن من الأمور المتعارف عليها بين الفلاحين أهل العزبة أن من المستحيل على أولادهم أن يلعبوا مع أولاد الترحيلة أو حتى يقتربوا منهم، وكأنهم سيصابون بالجذام لو فعلوا هذا. ولم يكن أحد يسأل عن سر ذلك التحريم أو يحاول مناقشته، وهل يستطيع أحد أن يناقش أباه حين يقول له هذا عيب، أو هذا حرام، حين تذكر كلمات كهذه فعلى الولد أن يطيع وليس عليه أن يقول ثلث الثلاثة كام.
هلل الأولاد لاقتراح زميلهم موافقين، مع علم كل منهم أنه شيء عيب لا تصح الموافقة عليه، وحين تبينوا أنهم جميعا موافقون متحمسون ازدادوا خفة وحماسا لتنفيذ الاقتراح وكأنه لم يعد حراما، وكأن الشيء الحرام إذا وافق عليه الجميع أصبح حلالا زلالا لا شك فيه.
وما أسرع ما أصبحوا يتسابقون ليروا أيهم يستطيع الوصول أولا إلى مكان الترحيلة وكأن معجزة تنتظرهم هناك، أو كأنهم - على الأقل - سيرون تلك المرأة التي سمعوا آباءهم وأمهاتهم ينعتونها بأقبح الألفاظ ويصمونها بأشنع التهم.
ولكن ما إن عبر المتسابقون القنطرة الحجرية التي تفصل العزبة الكبيرة عن مباني الإدارة والسراية والمخازن والجرن والإصطبلات ووصلوا إلى ما خلف الأخيرة، ورأوا في الظلام المقاطف والقفف والزلع مرصوصة متناثرة كشواهد وضعت خصوصا لتدل على مكان الترحيلة. ما إن رأوا هذا حتى كفوا عن الجري ثم راحوا يتسللون الواحد وراء الآخر على أطراف أصابعهم ليصلوا إلى حيث يلعب أولاد الترحيلة، لا بد في وسعاية الجرن، وكانوا خائفين جدا وهم يتسللون عبر مكان الترحيلة وكأنهم مارون على قبيلة من قبائل الجان حطت رحالها ونامت في ذلك المكان. ومع خوفهم الشديد فلم يستطيعوا كتم ضحكاتهم، فقد سمعوا أصوات شخير كثير متصاعد من الترحيلة، شخير غير منتظم تماما كنقيق الضفادع في الخليج الذي يجاورهم وأرض الأرز، والذي أضحكهم أن الضفادع كانت تنقنق فيبدو وكأن الترحيلة ترد عليها بشخيرها، وكلما شخرت الترحيلة ردت عليها الضفادع بالنقيق.
وفعلا كان أولاد الترحيلة يلعبون في وسعاية الجرن بعيدا عن آبائهم الراقدين متعبين، وبعيدا في الوقت نفسه عن المكان الذي يلعب فيه أولاد العزبة. لم يحرم أحد عليهم الاقتراب من أولاد العزبة وهم يلعبون ولكن من مجرد معاملة الفلاحين لهم كانوا يدركون أن هذا - بالتأكيد - شيء محرم، وأن واجبهم أن يبتعدوا عن العزبة وأولادها قدر الطاقة.
وقف أولاد العزبة من بعيد يتفرجون، وكانوا يتوقفون هنيهة وكأنهم يتوقعون معارضة أو زجرا، وحين لا يجدون يتقدمون. الجرن واسع كبير فيه أكوام هائلة من تبن ماكينة الدراس يكاد يصل في ارتفاعه إلى ارتفاع السراية نفسها، وفيه أكوام ضخمة من القمح، وفيه نوارج أتى بها الفلاحون الذين يرفضون أن يدرس قمحهم في ماكينة الدراس، والذين آثروا أن يدرسوه على النوارج ولو أخذ أياما أكثر، فقمح النورج - كما يقولون - مبروك، والماكينة على الأقل تلتهم ثلث المحصول بسرعتها الفائقة المشئومة. وأولاد الترحيلة كانوا قد اختاروا للعبهم بقعة فسيحة غير مشغولة تحيطها أكوام القمح والتبن من كل الجهات. وخلف تلك الأكوام وداخلها احتشد أولاد العزبة يتفرجون، وظلوا وقتا طويلا لا يفهمون شيئا مما يدور أمامهم، وكأنهم يتفرجون على أولاد من جنس آخر أو ملة ثانية؛ فلغتهم غير مفهومة، وألعابهم غريبة، وحتى ضحكهم يبدو مختلفا تماما عن ضحك الآدميين.
ولكنهم - بعد حين - بدءوا يدركون بعض ما يدور أمامهم، فأولاد الترحيلة كانوا، على ما يبدو، يمثلون، وقد وضع شاب منهم شيئا كمشنة الخبز فوق رأسه ليمثل بها دور بائعة جبن، وشاب آخر كان يمثل دور عسكري، وحوار بالأغاني يدور بين العسكري وبائعة الجبن، العسكري يتمحك طالبا نقودا والبائعة تتبغدد وتحاول أن ترشوه بقطعة جبن معددة مزاياها، والشاويش يرفض ويريد نقودا ويزجرها ويوبخها بصنعة لطافة. لغة غريبة وطريقة غريبة في اللعب يتبعها هؤلاء الأولاد، ولولا لفظة «شبنة» التي عرفوا أنها «جبنة» لما كانوا قد فهموا شيئا من كل هذا. الغرابوة إذن لهم ألعابهم هم الآخرون، ألعاب لا يعرفونها هم. لماذا إذن يزدريهم آباؤهم وسكان العزبة كل هذا الازدراء؟ ليتهم يرضون أن يشاركوهم اللعب .
كان هذا مجرد خاطر عن لأولاد العزبة جميعا وكأنما عن لهم في نفس واحد، وكالعادة انتقل الخاطر على الفور من أذهانهم إلى ألسنتهم، ومن ثم إلى أجسادهم وأرجلهم، فتركوا أمكنتهم وتقدموا إلى أولاد الترحيلة. ولم يأخذ الأمر أكثر من كلمة واحدة: تلعبوا معانا؟ نلعب معاكم. وتصاعدت على الفور تهليلة كبيرة من أولاد العزبة والترحيلة معا، تهليلة جاءت بعبد المطلب الخفير من عند الخليج وجعلته يطير وراءهم ويطاردهم حتى أجلاهم عن الجرن. ولكن أولاد العزبة كانوا ماكرين فقد اقترحوا على أولاد الترحيلة أن يذهبوا جميعا ويلعبوا وراء ماكينة الري فهناك مكان متسع بعيد عن عبد المطلب وبعيد عن العزبة وبعيد حتى عن مكان الترحيلة.
وفي اللعب اختلط الأولاد بالأولاد. واكتشف أولاد العزبة أن الأولاد الآخرين ملامحهم مختلفة عن بعضهم البعض وليس لهم شبه واحد كما كانوا يعتقدون قبلا، وملامحهم سمحة وطيبة، بل ويضحكون أيضا ولكل منهم اسم، بل سرعان ما حفظوا بعض أسمائهم. مصباح وبدوي وحسن والولد الأسمر سنجر، ولهم مهرج، ولد رفيع مثل عود الملوخية ولكنه يميت من الضحك.
وفي تلك الليلة عاد الأولاد إلى بيوتهم في العزبة، وهم لا يريدون العودة، فقد سعدوا بلعبهم مع أولاد الغرابوة أيما سعادة وتعلموا منهم ألعابا جديدة. لعبة عشرة وعشرين مثلا، حيث يضع أحدهم طاقيته فوق كومة تراب، ويقيسون عشر خطوات من الكومة وعشرين خطوة من الناحية الأخرى، ويقف متسابقان عشر خطوات من الكومة وعشرين خطوة من الناحية الأخرى، ويقف متسابقان عند كل نقطة، فإذا ما استطاع صاحب العشر الخطوات أن يجري من نقطته إلى الكومة ويختطف الطاقية ويرجع إلى مكانه قبل أن يلحق به زميله الذي يبعد عن الكومة عشرين خطوة، كان هو الغالب ووقع زميله.
عاد الأولاد يتسللون إلى مضاجعهم من سكات، وفي عزمهم الأكيد أن يذهبوا كل ليلة ويلعبوا مع أولاد الغرابوة، وفي عزمهم الأكيد أيضا أن يخفوا هذا عن آبائهم حتى لو فتن عليهم عبد المطلب الخفير. •••
على ضوء لمبة نمرة خمسة نظف زجاجها بعناية حتى لا يحجب أي قدر - ولو ضئيلا - من النور، موضوعة على رف خشبي في أعلى الحائط. كانت الحجرة تبدو أنيقة مرتبة على غير ما جرت به العادة في بيوت الفلاحين. فالسرير البوصة ونصف المرتفع الذي يكاد يحتاج إلى سلم للصعود عليه نظيف ومعتنى به، و«دايره» الأسفل يحجب ما تحته من كراكيب وخزين، و«دايره» الأعلى يزين الناموسية، وفي الواجهة دولاب وإن كانت مرآته مشروخة إلا أن الشرخ رسم عليه بالإسبيداج شجرة ذات أزهار وأثمار لتخفي الشرخ. وبجوار السرير مقعد بمسندين له كسوة من قماش أبيض بولغ في تزهيره في أثناء الغسيل. والأرض وإن كانت جرداء بلا خشب أو بلاط إلا أنها مكنوسة ومرشوشة ومغطاة بطبقة رقيقة من الرمل. والقلل موضوعة في الشباك عليها أغطيتها المعدنية وفوقها شاشة زيادة في الحرص على النظافة والأناقة، بالاختصار كل شيء في الحجرة يحاول أن يبدي أحسن ما فيه.
وكان بالحجرة شخصان لا ثالث لهما، أم إبراهيم نائمة على السرير في أتم صحة وأبهى منظر، وإن كان من يشاهدها ويرى كيف تتكلم وتتأوه يظن أنها مريضة في عنفوان المرض، ولنده جالسة على الكرسي الوحيد بالغرفة مبهورة بالبيت الغريب الذي تدخله لأول مرة، تتأمل في دقة النساء كل شيء فيه وتعجب له، هي التي لا تغادر بيتهم وحجراتهم إلا في النادر حتى أصبحت مجرد زيارتها لبيت آخر - ولو بيت الشيخ «أبو» إبراهيم الفقي - حدثا تستحق من أجله أن تجلس مبهورة الأنفاس.
كانت أم إبراهيم هي التي تقوم بالعبء الأكبر من الحديث، مع أن الحديث نفسه كان قليلا. ولم يكن كلام أم إبراهيم يخرج متصلا متسلسلا كعادتها، كان يتقطع وكأن صاحبته مشغولة بشيء أو تتوقع شيئا. وكانت لنده تنصت أغلب الأحيان، وأحيانا تشارك في الحديث وترد بجملة أو بضحكة قصيرة عصبية، وكأنها خائفة من شيء أو تريد أن تخاف من شيء. والواقع أنها كانت في أبهى مظهرها، وجهها أبيض محمر قد طلي بطبقة خفيفة من البودرة لا تكاد تلحظها العين، وشعرها لامع مسرح بحيث تتدلى خصلة منه على جبهتها، وأنفها وملامحها، وتقاطيعها وكل شيء فيها أنيق جميل، رائع في أناقته وجماله لا يكاد يقاس أو يقارن بالحجرة المتواضعة الجالسة فيها، خاصة وهي ترتدي أحسن وأجد فساتينها الثلاثة، ذلك الذي فصلته في أثناء زيارتها الأخيرة لأقاربها في شبرا مصر.
كانت أم إبراهيم قد بذلت جهود الجبابرة خلال الأيام القليلة التي مضت على تلك الكلمة التي أسرها إليها أحمد أفندي سلطان عند الجامع. كانت العقبات التي أمامها ضخمة، وليس من السهل التغلب عليها، فمجرد الانفراد بلنده مشكلة فما بال الحديث الطويل إليها؟ والحديث الطويل ضروري، فلنده وإن كانت قد جاوزت سن الزواج بسنين إلا أنها من تلك الناحية خام من الدرجة الأولى، ثم إنها متعلمة وتفهم، وعلى الرغم من خبرتها فأم إبراهيم جاهلة لم تغادر أرض التفتيش قط، الحديث إذن إلى لنده أمر محفوف بالمخاطر خاصة إذا كان يدور حول أمور دقيقة ومخجلة مثل تلك.
ولكن أم إبراهيم استطاعت أن تتخطى العقبات، وعلى عكس ما توقعت استجابت لنده لكلامها بشكل لم تكن تتخيله. فأم إبراهيم كانت قد دخلت إليها من باب لا يخيب، باب الرجال وأسرارهم، الرجال، ذلك العالم المغلق البعيد كل البعد عن لنده ومسامعها، هؤلاء الآدميين الخشنين الذين يبدون أشد قوة وضراوة من أبيها وإخوتها الصغار، والذين حين تراهم تجفل رغما عنها وتكاد تجري. بدأت أم إبراهيم تحدثها عنهم - بل عن أخص خصائصهم - حديث العالمة الخبيرة، حديث الجسد الذي لا يقوله الرجال أبدا إلى النساء، وإنما يقوله الرجال بعضهم لبعض ولا تتناقله النساء إلا هما وإلا على انفراد، الحديث الذي لا يخيب في جر الألسن للحديث وفك عقد الخجل. ومن أول كلمة استجابت لنده وبدأت تصغي محاذرة أن تساهم - من قريب أو من بعيد - في الحديث، ولكنها بعد قليل بدأت تدعي الجهل أحيانا وتسأل، ربما لتتأكد، وربما لتستمتع بالكلمات تلقى على مسامعها مرة أخرى. ثم بدأت تعلق تعليقات سريعة خجلى، وأم إبراهيم ترقبها، في أثناء هذا كله، في دهاء الصائد الماهر الذي ينتظر، بصبر، إلى أن تبتلع ضحيته الطعم، ثم يبدأ يجذب برفق وهوادة ودون أن يفزع الضحية أو يروعها. وهكذا راحت أم إبراهيم تنتقل من الحديث عن الرجال بشكل عام إلى الحديث عنهم بشكل خاص، وتفرق بينهم، وتصنف، وتضع القوي في جانب والفحل في جانب آخر. وكان من الطبيعي جدا أن تبدأ في التطبيق، وأن تذكر على سبيل المثال بعض الرجال المعروفين في التفتيش، وأن يأتي ذكر أحمد سلطان، وأن تتوقف عنده أم إبراهيم طويلا وتصف ما يشاع عنه، وتضعه كأعتى مثل للرجل والفحل والذكر. هنا بدأت لنده تخجل وتكاد تغلق أذنيها عن السماع، ولكن إلحاح أم إبراهيم كان لا بد أن يتغلب على خجلها ويفتح أذنيها البكر، إلحاح خبيرة يبدو وكأنه دلال وتقل، إلحاح من تعرف كيف تتكلم ثم تصمت حين يبلغ حب الاستطلاع بسامعتها أشده، وكيف تقطع الحديث فجأة إذا رأت الخوف الحقيقي الذي يعقبه الرفض يتسرب إلى سامعتها من هول ما تقول، تاركة للأيام والساعات والتأمل المنفرد والتطلع إلى الشيء المحرم الجديد أن تفعل فعلها، وتلين الحديد، وتجعل من الممجوج مقبولا ومعقولا ومرغوبا.
وكان أن أصبحت لنده تؤمن بأشياء كثيرة، تؤمن بأن البنات يمكنهن أن يستمتعن بما تستمتع به النساء ويبقين مع هذا بنات، تؤمن بأنها تعيسة ومحرومة من أكبر سعادة، وأنها ستظل هكذا إلى أن تتزوج، ومتى تتزوج؟ الله - وحده - يعلم. وتؤمن بأن هناك شيئا لازما لجسد الأنثى هو الرجل. وكانت أم إبراهيم قد تكفلت بجعلها كلما فكرت في الرجال تقرنهم في خاطرها حتما بأحمد سلطان.
عند هذا الحد بدأت أم إبراهيم تغير النغمة، وتحمل سلامات من أحمد سلطان للست لنده. سلامات كانت تعجب لها لنده أول الأمر؛ إذ إن أحمد سلطان هذا له في التفتيش سنوات دون أن يرسل لها سلاما أو كلاما. ثم إن السلام الوحيد الذي كانت تهتز له لنده هو السلام حين كان يجيئها من صفوت، ونادرا ما كان يجيئها من صفوت سلامات.
ولكن أم إبراهيم كانت بارعة، فكانت توصل إليها السلام وكأنه شيء من وحي الساعة بلا هدف وبلا تدبير . ثم بدأت السلامات تصبح عن عمد، ثم فتحت أم إبراهيم للنده قلبها وأخبرتها أنها تريد أن تقول لها سرا خفيا لا يعرفه إنس ولا جان. ولم تبدأ بإخبارها إلا بعد أن أقسمت لنده بالمسيح والإنجيل أنها لن تخبر أحدا، وأعادت القسم لكي يطمئن قلب أم إبراهيم. حينئذ قالت لها أم إبراهيم مبهورة الأنفاس وكأنها الرجل حين يعترف لفتاة، قالت لها إن أحمد سلطان يحبها حبا لا يتصوره العقل، وأنه لا مطمع له ولا هدف أبدا من وراء هذا الحب، كل ما في الأمر أنها زارته ذلك النهار حين تعبه جنبه فباح لها - في نوبة ضعف - بسره، وطلب منها أن تكتمه دونا عن الناس جميعا، ودونا عن لنده بالذات. ولكن للصداقة قيودا وواجبات، ولم تتصور أم إبراهيم نفسها أنها تعرف شيئا خطيرا كهذا ولا تقوله لحبيبة روحها لنده. وفي أول مرة ضحكت لنده حتى كادت تموت من الضحك، ضحكا جعل قلب أم إبراهيم يدق بالاضطراب؛ إذ خوفها الأكبر كان أن تأخذ لنده الأمر على محمل الهزل فيفسد تدبيرها ويفسد كل شيء. ولنده - فعلا - كانت قد أخذت الأمر دون أن تلقي إليه بالا كثيرا؛ إذ كان شغل أحلامها الشاغل أن تتصور صفوت ابن المأمور وهو يطالعها بوجهه الحبيب إلى نفسها ويقول لها هذا الكلام. ولم تكن تتوقع أبدا أن يأتيها كلام كهذا من ناحية أحمد سلطان، مرءوس أبيها الذي لا يمكن أن يكون فتى أحلام بنت في مثل هيئتها ومركزها.
حين أحست أم إبراهيم بهذا غيرت موضوع الحديث في الحال ولم تحاول مجادلتها أو إقناعها، ولكنها عات إلى الحديث في اليوم التالي بطريق التلميح والإشارة العابرة. وفي المساء عادت تطرق الموضوع وفي كل مرة كانت تقابل فيها لنده كانت تصف لها فيها حالة أحمد سلطان وما يعانيه من وجد وهيام حتى تأكدت لنده تماما واقتنعت فعلا أن أحمد سلطان يحبها دون أدنى شك، ولكنها لم تكن تستطيع أن تفعل من أجله شيئا. قالت هذا لأم إبراهيم، وأم إبراهيم بدورها لم تعلق على قولها بشيء، وإنما ظلت تذكره لها كلما اجتمعت بها. ولكنها في يوم لم تذكر لها شيئا عن أحمد سلطان مما أثار دهشة لنده وعجبها. وحاولت لنده يدفعها حب الاستطلاع أن تدق على أطراف الموضوع من بعيد ولكن أم إبراهيم لم تستجب ولم تفتح فمها بكلمة واحدة عنه. وكادت الجلسة تنتهي دون أن يرد له على لسانها ذكر، بل وبدأت تستعد للقيام بحجة أنها لم تطبخ بعد وأن «أبو» إبراهيم زمانه عاد للبيت. وألحت عليها لنده أن تقعد وصممت هي على القيام، وحينئذ فقط قالت لنده - وكأن الأمر لا يعنيها - إن أباها سوف يكلم المأمور لينقل أحمد سلطان من بيته الملاصق لهم إلى بيت آخر، ومع أن أم إبراهيم كانت تعلم تماما أن هذه كذبة اخترعتها لنده في التو واللحظة إلا أنها ابتسمت حين سمعت هذا ورفعت ثوبها وجلست. وبدأ بينهما حديث خجل متعثر وكأن كلتيهما تخجل أن تخوض في موضوع شائك. المهم أن أم إبراهيم أدركت أن حب الاستطلاع بدأ يتحرك في حنايا لنده، وكانت تعرف أن حب الاستطلاع إذا استبد بالمرأة أصبح سيدها الأعلى الذي يحركها أنى يشاء. ومضت أم إبراهيم تغذي هذا السيد الجديد، وتصور لها أحمد سلطان وتعيد بطريقة بدأت تبلبل لنده وتلهب خيالها في ساعات وحدتها. ولكنها كانت أحيانا تشك في المر كله، وتستبعد أن يكون أحمد سلطان قد غرق في حبها كما تدعي أم إبراهيم، وفي نوبة من نوبات ذلك الشك واجهت أم إبراهيم بهذا الرأي. ووجدت أم إبراهيم في تلك المواجهة أن الموضوع قد نضج، وأن لنده قد أصبحت الآن في حالة تسمح لها أن تقول: إن ما كنتيش مصدقاني اتأكدي بنفسك. - إزاي؟ - قابليه. - يا نهار أسود!
كان هذا هو جواب لنده في ذلك اليوم، ولم تشأ أم إبراهيم أن تحرضها أو تثنيها، بل وقفت على الحياد. كل ما في الأمر أنها ظلت تؤكد لها أنها إذا أرادت هذا اللقاء فسوف يتم في السر تماما ودون أن يتسرب إلى أي مخلوق، وما عليها إلا أن تحضر إلى بيتها بأية حجة وتترك الباقي عليها هي. ومنذ ذلك اللحظة لم تعد أم إبراهيم إلى الحديث في ذلك الموضوع بالمرة، بل حتى حديثها المعتاد للنده أصبح قليلا نادرا لا تكاد تبدؤه حتى تنهيه. ترى آلاف الأسئلة في عيون لنده، أسئلة أرقتها بالتفكير فيما تعرضه أم إبراهيم، أسئلة تكاد تبرق بها ملامحها فلا تجيبها أم إبراهيم إلا بتجاهل مدرب خبيث. بل انقطعت عن الذهاب إلى بيت مسيحة أفندي ومضى يوم واليوم التالي بلا خبر عنها، وبلغ القلق بلنده أشده وأرسلت دميان يستفسر فجاءها دميان يقول إن أم إبراهيم مريضة جدا تكاد تموت. وعلى الغداء طلبت من أبيها الإذن وأذن لها وهو فرحان، فأرسلت دميان يقول لها إنها قادمة لزيارتها بعد المغرب.
وها هي ذي لنده جالسة إلى جوارها، في فستانها «الجابونيز» المفتوح يظهر جيدها وكتفيها ولا يفلح حتى في إخفاء ما تحت إبطيها من شعر كان يبدو رغما عنها أصفر كثيفا. كلما تطلعت إلى الحجرة ورأتها مرتبة منظمة وكأنها ليست مجهزة لزيارة ولكن مجهزة لاستقبال عروس، أحست لنده بقشعريرة ما، قشعريرة خوف، وكأنها خائفة أن يحدث ما تتوقع حدوثه فعلا. وكلما نظرت إليها أم إبراهيم ورأتها معتنية بزينتها اعتناء زائدا، وكأنها ليست ذاهبة في زيارة مريضة ولكنها استعدت لما هو أكثر من ذلك، اقشعر جسد أم إبراهيم هو الآخر ودق قلبها بالفرحة، وكأن ما دأبت على السعي إليه طوال تلك الأيام يخيفها أن يتحقق، وأن ينجح مسعاها في النهاية.
وكان لا بد لحديث ما أن يدور.
ودار الحديث حول اكتشاف أم اللقيط، واكتشاف أنها متزوجة، وأنها حملت من وراء زوجها دون علمه. وتناست أم إبراهيم أنها مريضة واعتدلت تقص على لنده حكايات عن الترحيلة وبشاعة أخلاقهم، وكيف أنهم لا يتورعون عن ارتكاب أي جريمة أو خطيئة بلا خجل أو حياء وكأنهم ليسوا بشرا، وكأنهم قطيع من حيوانات أو أغنام. وكانت لنده توافقها موافقات قلقة مضطربة، وتؤكد لها في نهاية كل موافقة أن الله حتما سيغفر لهم؛ إذ هم جهلة لا يدركون ماذا يفعلون. وتصر لنده على حكاية الغفران هذه بطريقة تبعث الريبة في صدر أم إبراهيم، فتجعلها تكف عن الحديث وتغير الموضوع.
وسألت لنده عن الشيخ «أبو» إبراهيم مشيرة إلى قفطانه المعلق على شماعة عند رأس السرير، فقالت أم إبراهيم إنه ذهب إلى العزبة نمرة ستة ليحيي مولدا هناك، وفعلا، ولو كانت لنده قد صعدت إلى السطح وأصاخت السمع لرأت «كلوبا» موقدا بعيدا في الناحية القبلية، ولجاءها صوت الشيخ «أبو» إبراهيم وهو ممسك حلقة الذكر على الواحدة، منسجما مع الإمام البرعي في بردته المشهورة.
وعاد الحديث إلى سكون كاد يطول، وكاد يؤدي إلى جو الترقب والانفعال الذي سيطر على الحجرة منذ دخلت لنده، غير أنه لم يطل. سمعتا دقة على الباب الخارجي المفتوح، دقة من يعلم من في الداخل بقدومه.
وقالت أم إبراهيم بصوت متمارض ممدود، وهي متأكدة تماما من شخصية القادم: مين؟
وشحب وجه لنده وبدأت مسامها تتحبب وشعرها يكاد يقف.
ودخل أحمد سلطان، طربوشه الغامق مائل على جبهته يكاد يخفي شعيرات حاجبه الأيمن، وجلبابه الحرير البلدي مكوي، والبالطو الأسود فوقه، وذقنه حليق والنور يطل من وجهه، وشاربه مقصر ومزوق، وقال بابتسامة واسعة مدربة، وكأنه لم يلحظ وجود لنده: مساء الخير يا أم إبراهيم، مالك؟
فأجابت أم إبراهيم بنفس تصنعها: يسعد مساك يا أحمد أفندي، ما فيش! الظاهر إني باسقط ولا إيه ما أعرفش، مش تمسي يا أحمد أفندي.
وبلفتة تمثيلية مبالغ فيها انحرف أحمد قليلا ورفع حاجبيه إلى أعلى وكأنه فوجئ وقال: الله! الست لنده هنا؟ مش تقولي يا أم إبراهيم.
وهم أن يستدير على عقبيه ويغادر الحجرة تأدبا، ولكن صوت أم إبراهيم ارتفع ومضى يصر على بقائه قائلة: هو أنت غريب يا خويا؟! ما غريب إلا الشيطان.
كل هذا ولنده جالسة في مكانها وكأنها في دوامة، لا تستطيع أن تنظر ناحية أحمد سلطان، ولا ناحية أم إبراهيم، ولا في سقف الحجرة أو حتى في أرضها، وبدا أن أحمد سلطان وكأنما استجاب لإلحاح أم إبراهيم فتنحنح وتقدم بضع خطوات، وقال بتلعثم: اتبن باقول البيت منور ليه، مساء الخير يا لنده هانم.
وساد وجود قليل، وحركت لنده شفتيها بلا صوت مع أنها أرادت أن ترد، وتداركت أم إبراهيم الموقف قائلة: يسعد مساك يا حبيبي، إلهي يخليك لشبابك وينولك أمانيك.
ومد أحمد أفندي يده ليسلم على لنده. وارتبكت لنده برهة لا تدري ماذا تفعل، ووجدت أن خير ما تفعله أن تمد يدها هي الأخرى وتسلم عليه، ولحظة واحدة هي التي استغرقها السلام، ولكن أي لحظة! يد أحمد سلطان بأصابعها الكبيرة الجامدة المجربة ذات الشعر، يد تعرف كيف تطمئن البنت البنوت وتأخذها، بأن تؤكد لها أن آخر ما تريده هو أن تأخذها، يده هذه تمتد وتحتوي يد لنده، اليد البضة الطرية المرتجفة ذات الأصابع الطويلة، يد الثمرة التي نضجت على شجرتها وبقيت ناضجة حتى كاد يفوت أوانها، ناضجة تكاد من نضجها أن تسقط من تلقاء نفسها ودون أن يمسها أحد. يد ما إن التقت بها يد أحمد سلطان حتى أحست فيها أرض الواقع الصلبة، الواقع الذي تمقته، ولكنها تحيا فيه، الخبز الذي في حوزة اليد والذي هو - بلا شك - أجمل وأروع من لحم لا تراه إلا في الخيال، وصفوت خيال. وأحمد سلطان هذه يده غريبة عن نفسها وخيالها، ولكن فيها ذكورة، ذكورة تحرك في كامنها أشياء لم تتحرك أبدا من قبل.
لحظة واحدة استغرقها السلام، ولكنها جعلت راحة كف لنده الصغيرة تنضح عرقا، عرقا كثيرا إلى درجة أنها حين سحبت يدها من يده تساقط من راحتها سيل من القطرات. •••
وغير بعيد - عبر القنطرة الحجرية - في بيت فكري أفندي المأمور كان صفوت ابنه يحاول النوم فلا يستطيع. وحين فشل ادعى النوم، فقد كان يعرف أن مصيبة كبرى ستحل به عما قليل، فهمهمة الحديث تأتيه عبر الصالة المظلمة من حجرة الجلوس، الحجرة التي استقبل فيها أبوه مسيحة أفندي من وقت قريب وهو يعجب لتلك الزيارة المفاجئة في ذلك الوقت من الليل.
ولكن عجبه الآن لا بد أنه يزول، فها هي الهمهمة تصله فلا يسمع فيها إلا صوت مسيحة أفندي هو يتحدث بلا انقطاع، وسعال أبيه وهو يستمع دون أن ينطق حرفا. ها هي ذي فترة سكون تحل، لا بد أنه يريد فيها الخطاب. ألا سحقا له وللخطاب ولليوم الذي تحدث فيه عن لنده مع أحمد سلطان يوم عثروا على اللقيط.
فبعد الحديث هاجت في قلبه الأحاسيس، وتملكه خاطر عات يهيب به أن الأوان قد آن ليبوح للنده بكل ما يكنه لها قلبه ويكشف عن أحاسيسه.
وفكر واستغرق يومين في التفكير، ثم كتب ذلك الخطاب الملعون، كتبه بعد عشرات المسودات التي مزقها ولم تعجبه صيغتها. وظل الخطاب في جيبه يومين، يتردد أحيانا في إرساله ويحتار أحيانا أخرى في كيفية إرساله.
ثم فكر في محبوب هذا الذي أشاعوا أنه يرسل لها الخطابات عن طريقه، لماذا لا يستخدمه؟ واستعبط محبوب أول الأمر، ثم لما عرف تردد وخاف، وقال إنه حلف من يوم أن اكتشف خطاب امرأته معه ألا يحمل خطابات من هذا النوع. ولكن صفوت ظل يهدده ويطمئنه ونفحه - بالمرة - ريالا. وبان على محبوب أنه قبل، ولكنه عاد وقال إنه يخاف أن يضبط معه الخطاب فيروح في داهية، وأقسم له صفوت أنه سيكون مسئولا إذا حدث أي شيء. وإلى الآن لا يدري صفوت هل كان رضاء محبوب بتوصيل الخطاب رضاء نابعا من قلبه، أم كان رضاء يخفي وراءه أخبث قصد، وإلى الآن لا يدري هل هي فقط مجرد سذاجة من محبوب أن يذهب إلى بيت مسيحة أفندي ويسأل عن الست لنده من الباب للطاق، فيستوقف سؤاله انتباه مسيحة أفندي فيجذبه إلى الداخل ويضيق عليه الخناق ويفتشه فيعثر معه على الخطاب بكل بساطة. هل هي سذاجة من محبوب حين فعل ذلك، أم إنه الخبث، خبث ذلك الرجل الأمرد القصير الذي أبى أن يمثل دور رسول الغرام لأمر في نفسه، فكشف عن قصده - عن عمد - لمسيحة أفندي، وأصبح ليس عليه بعد أن وجدوا معه الخطاب إلا أن يقول: وأنا مالي؟ سي صفوت بيه هو اللي أمرني ، وأنا عبد المأمور، وليت الموضوع اقتصر على هذا، ليت المصيبة كانت في الخطاب وحده. المصيبة الكبرى أن صفوت - لشدة ما كان يعتريه من قلق على خطته - ظل يراقب بيت مسيحة أفندي من اللحظة التي سلم «محبوب» فيها الخطاب، ولم يتح له أن يرى «محبوب» وهو داخل إلى البيت، فقد فوجئ بعد المغرب بقليل بلنده نفسها خارجة من البيت في أبهى حلة وأتم زينة. وأول الأمر اعتقد أنها ذاهبة إلى بيتهم هم في أمر ما، ولكنها لم تعبر القنطرة الحجرية ولم تأخذ الطريق إلى بيتهم، ولكنها انحرفت ناحية العزبة، وظل هو يتتبعها من بعيد ويخمن قصدها، ولم يتح له أنه يخمن طويلا؛ إذ ما لبث أن وجدها تطرق باب بيت الشيخ «أبو» إبراهيم الفقي وتدخل. ترى ماذا تراها ستفعل في بيت الشيخ «أبو» إبراهيم؟ سؤال ظل يلح عليه طويلا دون أن يعثر له على إجابة ما، وأخيرا أقنع نفسه بأنها ذاهبة - لا بد - لزيارة أم إبراهيم.
وهنا بدأت ملامحه تبرق وبدأ خاطر جنوني يستبد به. الشيخ أبو إبراهيم في العزبة نمرة ستة يحيي المولد الذي هناك، ولنده الآن جالسة - وحدها - مع أم إبراهيم. أليست هذه فرصة جاءته من السماء على غفلة؟ وما الذي يحدث لو دخل الآن بيت الشيخ «أبو» إبراهيم مدعيا أنه يسأل عنه مثلا أو أنه يريد مناقشته في موضوع خاص والنقاش بينهما أمر معروف؛ إذ كثيرا ما قضيا جزءا كبيرا ساهرين عند القنطرة أو أمام دكان جنيدي يناقشان المسألة الأزلية: الله ووجوده والخيار والإلزام. والشيخ أبو إبراهيم يستمع لشكوكه وحيرته بصدر رحب سمح، ويطول بينهما النقاش ولا يتفقان. لماذا لا يدعي السؤال عنه ويدخل، وإذا عزمت عليه أم إبراهيم يجلس ولا بد أنه سيدور الحديث، ولا بد أنه سيجد فرصة ينفرد فيها بلنده ويخبرها بمكنون قلبه، وقد يوصلها إلى بيتها بعد انتهاء زيارتها. ورغم وجاهة السبب ووجاهة الفكرة فقد ظل صفوت مترددا، أحيانا يتحرك خطوات في اتجاه البيت فتخونه شجاعته ويتوقف وهو محرج أيما إحراج؛ إذ المكان الواقف فيه مكان مكشوف تمر عليه الناس فيه وتحييه وتعجب والمسألة يلزمها بعض التروي والتفكير، فقدرته على مواجهة لنده قد انتابها ضعف كبير من اللحظة التي قرر فيها أن يصارحها بحبه. وهكذا انتحى صفوت ركنا من الشارع اختاره بجوار صومعة غلال قائمة تكاد تحجبه - بحجمها الضخم - عن الأنظار، ومضى يقضم أظافره ويعمل فكره واضطراب عظيم قد تملكه. وبينما هو كذلك رأى أحمد أفندي سلطان قادما من أول الشارع بطربوشه ومعطفه اللذين لا تخطئهما العين. وازداد التصاقا بالحائط واختفاء وراء الصومعة حتى لا يراه أحمد سلطان فيعيره بموقفه ذاك عدة ليال وسهرات. ولكن أغرب شيء أن أحمد سلطان لم يمر عليه؛ إذ قبل أن يصل إلى منتصف الشارع انحرف ودق باب الشيخ «أبو» إبراهيم المفتوح ودخل. قلب صفوت هو الآخر دق في عنف وتولته حيرة عظمى كادت تحجب الرؤية عن عينيه. ولكن عينيه ما لبثتا أن رأتا الباب، باب الشيخ تحركه يد نسائية من الداخل، ثم ما لبث أن انصفق وانغلق. وتصاعدت الدماء في نافورة حارة إلى رأسه. وخرج من مخبئه وأسرع يلهث حائرا في اتجاه الترعة كمن لدغته - لتوه - حية رقطاء.
وألف شيء فكر فيه في تلك اللحظة.
فكر أن يذهب ويحضر البندقية ويقتحم البيت ويطلق عليهما ظرفين دفعة واحدة. فكر في أن يسكت وينتظر؛ إذ ربما يكون الأمر قد حدث صدفة. فكر في أن يذهب ويطرق الباب بحجة أنه يسأل عن الشيخ «أبو» إبراهيم ويفاجئهما بظهوره. فكر في كل شيء ولكنه كان دائما يجد نفسه عاجزا عن أن يفعل شيئا وكأن إرادته قد أصيبت بشلل مفاجئ، ولم تعد تستطيع إلا البكاء. ولكنه رفض أن يخضع لإرادته ويبكي، وفجأة وجد أن همه كله أصبح في أن يعثر على محبوب قبل أن يذهب بالخطاب فيأخذه منه؛ إذ لم تعد له حاجة به، ولم تعد تنفع ال... خطابات.
ولكنه لم يجد «محبوب» وعبثا حاول العثور عليه وكأن أهدافه من الحياة قد تبلورت كلها في العثور على محبوب. وحين فشل في هذا أيضا أحس أنه قد أصبح يريد البكاء. وهكذا عاد إلى البيت وانهار فوق سريره يريد أن يبكي. ولكن البكاء استعصى عليه هذه المرة، وبقي راقدا مفتح العينين كالمجانين. إلى أن أحس ببابهم يدق وبمسيحة أفندي يطلب مقابلة أبيه لأمر عاجل، ويقوم أبوه من النوم ويفتح حجرة الجلوس. ويجلس ومسيحة أفندي، ويسمع بأذنه مسيحة وهو يروي لأبيه تفاصيل ما حدث حين جاءهم محبوب يسأل عن الست لنده، وعما قليل سيأتي أبوه ويحاسبه الحساب العسير.
ظل صفوت راقدا مفتح العينين ينتظر اقتراب الخطوات التي يعرفها جيدا، خطوات أبيه، وهو مستعد لمواجهته كل الاستعداد، وكأن لم يعد مهما لديه - بعد ما حدث - أن يحاسب على أي شيء وأن يتهم بأية تهمة. ولكن خطوات أبيه حين اقتربت حقيقة وجد صفوت نفسه يغلق عينيه ويدعي النوم. ووقف أبوه بباب الحجرة والمصباح في يده طويلا، وكأنما هو متردد بين أن يوقظه وبين أن يترك أمر محاسبته وعقابه للصباح.
ويبدو أنه آثر - في النهاية - أن يترك كل شيء للصباح، فالصباح رباح. •••
ولكن فكري أفندي لم يستطع محاسبة صفوت في الصباح؛ إذ استيقظوا فلم يجدوه، ولكنهم وجدوا خطابا منه يقول فيه إنه ذهب ليبحث عن عمل في الإجازة في مصر بعيدا عنهم وعن التفتيش، وإنه لم يجد فائدة في مجادلتهم فهم حتما سيعترضون. ويقول في الخطاب أيضا إنه آسف لأنه اضطر «لاقتراض» كل ما في كيس أمه من نقود ويعد بردها جميعا حين يقبض أول ماهية، والمضحك أن الورقة التي كتب عليها الخطاب يبدو أنها كانت إحدى مسوداته لخطاب لنده؛ إذ كان في ظهرها كلمة حبيبتي مشطوبة ومعادا شطبها. ولم يفعل فكري أفندي شيئا أكثر من أن قرأ الخطاب مرة أخرى ثم مزقه وهو يحاول إخفاء رضائه عن هروب صفوت، فالواقع أن صفوت أسدى إليه معروفا، وأراحه من مهمة محاسبته ومواجهته، وتلك - بالنسبة إلى فكري أفندي - كانت دائما مهمة عسيرة على نفسه وشاقة يتألم لها أضعاف ألم صفوت منها. •••
أقيمت «ظليلة» أخرى لعزيزة بجوار أم الترحيلة تماما، إذ لم تعد ثمة حاجة لذهابها كل يوم مع الأنفار ما دام المأمور قد عرف ووافق على أن تحتسب يوميتها وهي راقدة.
وتكفلت الظليلة والمرأة الراقدة تحتها بلفت نظر الناس وتعريف من كان لا يزال لم يعرف بعد بحكاية عزيزة. والحقيقة أن سلوك أهل التفتيش تجاه حكاية عزيزة كان سلوكا غريبا. فأول الأمر كان همهم أن يثبت أن الفاعلة واحدة من الترحيلة. وحين ثبت هذا واطمأنوا، دفعهم حب الاستطلاع لمعرفة قصة هذه الفاعلة. وحين عرفوا القصة وأشيع أن صاحبتها قد بلغت من المرض حد أن رقدت في مكان الترحيلة أصبح كل همهم أن يروا تلك المرأة ويتأملوا كيف تكون وماذا تشبه. ومن أجل هذا كانوا يقبلون جماعات وأفرادا، نساء ورجالا، وحتى صبية وأطفالا. كان القادم ليتفرج على عزيزة منهم يدعي أنه في طريقه إلى الجرن أو ماكينة الري أو سارح إلى الغيط، وحين يرى الظليلة يتلكأ، وكأنما قد استوقفه منظرها، ويروح يسأل وكأنما هو لا يعرف، ويحدق في المرأة الراقدة ويطيل التحديق.
كان هذا يحدث أول الأمر، ولكن بمضي الوقت لم تعد هناك حاجة للادعاء، فقد كان من يريد التفرج على عزيزة يقف - صراحة - غير بعيد عن مكانها. ويظل منتظرا أن تستدير أو يخرج منها صوت أو تبدو لها ملامح. وبعد أن كان الناس يعملون حسابا لوجود بلدياتها الغرابوة - إذا وجدوا - أصبحوا يقفون للتفرج على عزيزة حتى في وجود الغرابوة. وكانوا يفعلون هذا دون أن يتبادلوا كلمة واحدة مع الغرابوة، وكأن ليس لهم بهم دعوة أو صلة، وكأن عزيزة لم تعد منهم، وإنما أصبحت ظاهرة عامة من حق الجميع أن يروها ويتفرجوا عليها. وكان الغرابوة يتقبلون هذا الوضع بكثير من الاحتمال وضبط النفس.
غير أن عزيزة بدأت تخرف وتصرخ صرخاتها المحمومة، ويخف إليها بلدياتها يحادثونها ويصبرونها ويهدهدون عليها وكأنها واعية عاقلة مدركة لما تقول، حين بدأت تفعل هذا بدأ الجمود يذوب، وبدأت ألسنة المتفرجين من أهل العزبة تنطلق وتتحدث مع الغرابوة، وتشارك بكلمة عطف أو بمصمصة شفة، ثم تجر الكلمة كلمات، ويبدأ حديث بين الرجال والرجال والنساء والنساء.
ولكن عزيزة بعد ثلاثة أيام من رقادها بدأت تتشنج، يتخشب جسدها حتى يصبح جامدا ناشفا كالعصا وتعض لسانها حتى تدميه، وكان أهل العزبة حينئذ لا يستطيعون أن يتمالكوا أنفسهم أمام منظرها فيسرعون، مثلهم في هذا مثل بلدياتها الترحيلة، ويتعاونون في فتح فمها وتدليك جسدها وتنشيقها بماء البصل.
وأسلم التشنج عزيزة إلى نوبات هلع مفاجئ؛ إذ بدأت تقوم بغتة من نومتها صارخة صاخبة، وتنطلق جارية إلى الخليج القريب وتقذف بنفسها فيه بملابسها، وكأنها تريد إطفاء نار مشتعلة فيها. حينئذ كان يتعاون أهل العزبة مع الترحيلة في إخراجها من الماء وحملها وإرقادها في مكانها تحت الظليلة، وفي تلك المرات كانوا يجلسون إلى جوارها في جماعات مختلطة من الغرابوة وأهل العزبة، جماعات حين تهدأ عزيزة ويطمئنون عليها تمضي تتحدث، ويبدأ الحديث عن عزيزة وحالتها، وينتهي إلى الحديث، كل عن نفسه وأحواله.
وما أسرع ما انتقل التغير في لهجة الحديث عن عزيزة، فبعد أن كان الواحد من أهل العزبة يروي حكايتها للآخر وهو يكاد يتقزز منها ومن حكايتها ومن الغرابوة بشكل عام، أصبحت الحكاية تحكى باختصار وكأنها أصبحت عيبا، وكأن في الإفاضة فيها خدشا لحرمة حرمة وشرف ناس. حتى أولئك الذين كانوا يذهبون بغية التفرج على عزيزة قل عددهم وكادوا ينعدمون.
وحين ازدادت شدة المرض تكاتفت الجهود تبحث لها عن البرشام الأصفر في كل بيت وعزبة، وأعطاها جنيدي قنينة خل بنصف الثمن، وذبحت لها نبوية - عن نفسها وعيالها كما قالت - أرنبة صغيرة وطبختها وحملتها في حلتها إلى أم الترحيلة كي تطعمها إياها. وفعلت هذا بين دهشة أهل العزبة واستكثارهم أن تفعل نبوية الفقيرة المعدمة هذا، ولكنها فعلته بكل شهامة، ولم يقلل من شهامتها أنها حين استعادت الحلة غسلتها بالتراب والطين وشاهدتها سبع مرات قبل أن تعود وتستعملها.
وهكذا، وحول مرقد عزيزة وظليلتها، بدأ اختلاط ما يحدث بين أهل العزبة والترحيلة، كان اختلاطا متحفظا أول الأمر وفي حدود، ولكن أهل العزبة اكتشفوا - من خلاله - أن الترحيلة لهم بلاد هم الآخرون ، ويعرفون مثلهم في الفلاحة ويفلحون، ولهم أيضا بيوت وقرايب وعمات وخالات وبينهم مشاحنات وخلافات، ولهم من الريس شكاوى ومن المأمور والإدارة والتفتيش شكايات.
وهكذا أيضا راح أولاد العزبة يلعبون مع أولاد الترحيلة - عيني عينك - أمام الآباء الذين كانوا لا يمنعونهم من اللعب معهم، ولكنهم فقط يوصونهم ألا يدعوا أولاد الترحيلة يتنفسون في وجوههم؛ إذ من الجائز أن يكون في أنفاسهم «ميكروب».
ورغم أن فكري أفندي - في تلك الأثناء - كان مشغولا مشغولية كبرى على ابنه، مع أنه لم تكن تلك أول مرة يتركهم فيها صفوت ويذهب إلى مصر مدعيا البحث عن عمل في الإجازة، إلا أنه كان فقط يريد أن يطمئن على مكانه؛ إذ إن النقود التي أخذها كان لا يمكن أن تكفيه، وكان لا بد أن يرسل له نقودا أخرى تكفيه.
ولكن على الرغم من مشغوليته الكبرى هذه فقد كان مشغولا أيضا بعزيزة، وهو نفسه لا يدري لماذا منذ أن عثر عليها أصبح يحس وكأنه مسئول عنها، وكأنما كان يبحث ليعثر عليها ويصبح مسئولا عنها، كان في ذهابه إلى الغيط يمر على مكانها، ولا يفعل شيئا أكثر من أن يقف على رأسها ويراها وهي تتمرغ في فراش القش وتغمغم بكلامها غير المفهوم. كان يقف قليلا هكذا ثم يمضي عنها وهو يتصعب، فلم يكن يستطيع أكثر من هذا؛ إذ إن عرضها على طبيب المركز أو إرسالها لمستشفى الحميات مسألة محفوفة بالمخاطر، قد يكتشف أثناءها أنها الوالدة، وبالتالي القاتلة، وتكون الكارثة، كارثة لن تصيبها فقط، ولكنها ستصيبه هو الآخر باعتباره علم بالأمر وتستر عليه ولم يبلغ السلطات. كل ما استطاعه هو أن يأمر الأسطى زكي حلاق التفتيش الذي كان يشغل مركز حلاق الصحة ويزاول الحلاقة وطهور الأطفال ووصف الأدوية لتقوية الباه وإعادة الشباب وعلاج الحمى، يأمره في السر - وكأنما يخاف أن يضبطه الناس في لحظة ضعف وعطف - أن يتولى علاج عزيزة ويحاسبه. ورغم أنه تولى علاجها فعلا، بعمامته البيضاء التي يرتديها فوق طاقيته البيضاء أيضا وذقنه الحليق وشاربه الحليق والناب الذهبي الذي يتلألأ في فمه، رغم أنه تولى علاجها إلا أن حالتها لم تزدد إلا سوءا، حتى بدأت تتكرر نوبات إلقائها لنفسها في الخليج، وحينئذ أمر فكري أفندي الريس عرفة بأن تبقى أم الحسن جارتها معها لحراستها ولا تسرح الغيط وتحتسب يوميتها.
ومسألة أخرى ظلت سرا لم يعلم بأمره مخلوق. فالمودة بين مسيحة أفندي الباشكاتب وفكري أفندي المأمور كانت مفقودة بالمرة، ولم يفعل الخطاب الذي ضبطه مسيحة إلا أن زاد الطين بلة. ومن تلقاء نفسه كان مسيحة أفندي يتحين الفرصة ليمسك على المأمور خطأ ما، ويدبه عريضة ينسخها الشيخ إبراهيم بخط يده ويرسلها باسم مستعار إلى الدائرة في مصر. وقد وجد مسيحة أفندي في احتساب يومية عزيزة وجارتها فرصة مواتية هبطت عليه من أبواب السماء الواسعة. وبعد أن تأكد من أحمد سلطان أنهما مقيدتان فعلا في دفتر اليومية، سهر ليلة بأكملها يدبج عريضة طويلة بهذا المعنى متهما المأمور بأنه يزود في عدد الأنفار ويقتسم الفرق مع المقاول، ويزور في «شاليش» اليومية، وأن الشاهد على ذلك حي وموجود، وما على جناب الخواجة إلا أن يرسل المفتش ليتحقق بنفسه مما ذكر.
وبعد أن اطمأن مسيحة أفندي إلى لهجة العريضة، وضعها في كيس المخدة تمهيدا لإعطائها في الصباح للشيخ «أبو» إبراهيم لينسخها ويرسلها.
وحين رقد مسيحة أفندي أخيرا والعريضة قد أصبحت في كيس المخدة تحت رأسه، بدأ بعض التردد ينتابه، لماذا؟ لم يكن يدري. إنه لم يتردد أبدا في إرسال أية عريضة من قبل، فلماذا يتردد الآن؟ ولماذا يحس ببعض الخجل وصورة الظليلة الراقدة تحتها عزيزة تراود خياله وصراخها وتخريفاتها تطن في رأسه وتشير إليه وتحاصره؟
وحين استيقظ في الصباح تردد بين أن يأخذ العريضة وبين أن يتركها، وأسلمه التردد إلى أن يسأل دميان قائلا - دون أن يعرفه بشيء عن موضوع سؤاله: آخذها ولا أسيبها يا دميان؟
وبلل دميان إصبعيه وفرد كمه ورفع رأسه إلى السقف وقال: سيبها يا خويا ربنا يسهل لك.
وبقيت العريضة مطوية في كيس المخدة. •••
ظلت عزيزة راقدة في تلك البقعة المكشوفة التي تصليها الشمس بنارها صباح مساء، لا يفلح سقف الظليلة الرقيق المملوء بالثقوب في دفع وهج الشمس عنها، ولا ينفع فيها صب الخل أو تدليك الجسد أو علاج الأسطى زكى الحلاق. ظلت عزيزة وأزيز الحمى في جسدها تكاد تسمعه جارتها أم الحسن وتحس به كلما أمسكت يدها. الذباب يعف عليها والعرق يكسوها وفترات غيبوبتها تطول وتعمق. بل انقلب تخريفها آخر الأمر إلى صراخ. إذا أفاقت من غيبوبتها لا تكاد تفتح عينيها وتقول لها أم الحسن: إزيك يا أختي دلوقتي؟ حتى تدب على صدرها بكلتا يديها وتقول: يا لهوي! ثم تأخذ في لطم خدودها وتمزيق ثيابها ولحمها بأظافرها رغم كل مجهودات جارتها - ومن يتصادف مروره أو وجوده - في محاولة شل حركتها وتكتيف يديها، فلا تزيدها محاولات إيقافها إلا ثورة وهياجا، ولا تكف عن تمزيق نفسها إلا حين تهوي مرة أخرى في سراديب الغيبوبة.
ولم تعد الظليلة تلك السبة في جبين الغرابوة يحاولون إخفاءها وصرف الأنظار عنها. فحين عرفت الحكاية على أوسع نطاق وتمت إشاعتها بكل دقائقها وتفاصيلها لم يعد هناك ما يخجل له الغرابوة، أصبحت شيئا مثل لغتهم وفقرهم واحتياجهم لا يحالون إخفاءه أو التستر عليه. وأهل التفتيش أيضا، أولئك الذين كانوا يتداولون حكايتها في السر وبإحساس من يتداول حراما أو أمرا مخجلا، أصبحوا يتحدثون عن الموضوع وكأن لم يعد فيه ما يدعو للخجل. تحول اهتمام الكل من حكاية عزيزة إلى عزيزة نفسها، عزيزة المريضة المسعورة التي تتعذب، حتى أصبحت الظليلة التي ترقد تحتها وكأنها قبة شيخ، الفائت لا يمكن أن يمر دون أن يلقي نظرة، ليست نظرة حب استطلاع أو تشف ولكن نظرة عطف ومشاركة، نظرة من يود لو كان باستطاعته أن يفعل شيئا ليخفف عن تلك المسكينة المحمومة المعذبة.
تحول اهتمام الكل إلى عزيزة، وتحولت عزيزة إلى ذئبة ضارية فاقدة العقل إذا أفاقت، جثة هامدة لا يربطها بالحياة إلا تلك الحرارة المريضة التي تتصاعد منها إذا غابت عن الوعي.
إلى أن جاء اليوم العاشر.
ومن أوله استيقظت أم الحسن فوجدت بوادر التحسن بادية على عزيزة، حرارتها قد انخفضت كثيرا عن ذي قبل، وعيناها مفتوحتان بلا غيبوبة ولا هذيان، وأنفاسها تتردد بطيئة في صدرها، ولكنها منتظمة وممتلئة، وفي الضحى انفرجت شفتا عزيزة، وأصاخت أم الحسن أسماعها ولكنها لم تستطع أن تلتقط شيئا من بين الشفتين المنفرجتين، وأخيرا - وبعد بذل المجهود - استطاعت أن تتبين أن عزيزة تقول: أشرب! وقامت أم الحسن من فورها هالعة، وأحضرت لها كوز ماء من زلعتها وقربته من فمها، وشربته عزيزة على دفعات، ولكنها أتت عليه كله. وسألتها إن كانت تريد ماء آخر؟ وانفرجت شفتا عزيزة وقالت بكلمات واضحة هذه المرة: أشرب، وجرت أم الحسن وأحضرت كوزا آخر شربته عزيزة، وما لبثت أن أغلقت عينيها وبدا أنها ستنام ذلك النوم الذي حرمت منه طويلا.
وانبثقت فرحة غامرة في صدر أم الحسن وهي تتحسس جبهة عزيزة فتجدها وكأن حرارتها قد أصبحت طبيعية، وتجدها نائمة لا يكاد يفرقها عن الأصحاء إلا ذلك الشحوب الشديد الذي يصبغ وجهها.
وفي الظهر، في عز الظهر، تلك الفترة التي تقف فيها الحياة تماما ويئوب الناس إلى غداء يسلمهم إلى غفوة لا يفيقون منها إلا في طراوة العصر، في الظهر فتحت عزيزة عينيها فجأة، وكأنها لم تكن نائمة، وانفرجت شفتاها وقالت شيئا. وأدركت أم الحسن أنها تريد أن تشرب، وطلبت من ابن الريس عرفة الصغير أن يذهب ويملأ لها الكوز من زلعتهم فقد فرغت زلعتها، وذهب الولد بالكوز الفارغ. في تلك اللحظة فوجئت أم الحسن بعزيزة تعتدل وتقفز جالسة، ثم تطلق صرخة عالية مدوية ما لبثت أن أعقبتها بصرخات هائلات مدويات. وقبل أن تستطيع أم الحسن أن تدرك أو تعي ما يحدث، وقفت عزيزة وهدمت الظليلة، وما لبثت أن انطلقت تجري ناحية الخليج وهي تصرخ. وبلا وعي، تبعتها أم الحسن وهي تجري هي الأخرى وتصرخ وتستغيث بالناس، مخافة أن تكون عزيزة انتوت أن تلقي بنفسها في الخليج كما كانت تفعل. وعلى صرخاتها جاء الناس من كل مكان، من العزبة ومن الجرن ومن فوق ماكينة الدراس، جاءوا هالعين يرون ما هنالك. وقالت لهم أم الحسن: الحقوها ح ترمي روحها في الخليج، وجرى الناس يحاولون منعها، ولكنها انهالت عليهم عضا ورفسا ونشب أظافر بطريقة مجنونة متوحشة لم يملكوا معها إلا التراجع، ولكنها لم تلق نفسها في الخليج. انطلقت تجري حتى وصلت إلى نفس المكان الذي وجدوا فيه اللقيط، والذي كانت لا تزال فيه آثار الدماء سوداء جافة.
وبين دهشة الملتفين حولها وذهولهم جلست عزيزة القرفصاء على حافة الخليج، وكأنها تتهيأ للولادة، وانطلقت من فمها صرخات متواليات وكأن الطلق اشتد عليها، ثم عسعست بيدها حتى عثرت على عود الصفصاف الذي احترق نفسه والذي كان لا يزال في مكانه من الحافة، وأطبقت عليه أسنانها، واتخذت هيئتها طابعا جنونيا مذعورا وهي تضغط على العود وتنشب أسنانها فيه. وظلت تضغط بتوحش وتضغط وهي تدمدم بأنين محتبس كاسر والدم يسيل من فمها وأسنانها فيلوث العود، وعيناها جمرتان متوهجتان، وشعرها منكوش كشعر الجان، ويداها تعتصران طين الخليج فتحيلانه إلى تراب جاف. وفجأة. وكأن شيئا طق في داخلها تهاوت ممدة على حافة الخليج لا حراك بها.
حدث هذا كله في دقائق قليلة، والناس مشدوهون مذهولون قد جمدهم ما يحدث في أماكنهم، ولم يبدءوا يتحركون إلا حينما انهارت عزيزة، وحين أسرعوا إليها يتحسسونها وجدوها قد ماتت.
وتصاعد من الرجال جئير عريض يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، ونهنهت النساء القليلات الحاضرات، وبكت أم الحسن بحرقة وهي تحاول - مستعينة بالرجال - أن تخلص عود الصفصاف من بين الفكين الميتتين عليه.
أما ابن الريس الصغير الذي كان قد جاء بالكوز ممتلئا لتشرب منه عزيزة، فقد عاد به إلى عشهم، ولكنه توقف بعد قليل واستدار ناحية الخليج وألقى فيه بالكوز ولم يلبث أن تصاعد بكاؤه. •••
ولم يصل الخبر للترحيلة في الغيط إلا بعد الغداء، ولم تستطع جهود الريس أو خولة التفتيش أن توقف ما حدث لهم حين سمعوا الخبر. فقد دب الاضطراب في صفهم الطويل، وحين انهالت العصي الخيزران فوق ظهورهم تأمرهم بمواصلة العمل اعتدلت الظهور لأول مرة، واستدار أصحابها يواجهون الخولة والسواقين بعيون مفتوحة لا تطرف، ونظرات تنذر بثورة لا يعلم سوى الله مداها، ثورة الصامتين الذين طال بهم الصمت والصبر. والغريب أن الخولة والسائقين حين رأوا تلك النظرات بدءوا يغيرون طريقتهم في الحال، فكفوا عن الإهانات والخيزرانات وبدءوا يتحايلون ويسوقون الرجاوات، قائلين: إن عيشهم معلق بما سوف يحدث، وإنهم غلابة وأصحاب عيال.
وانتهى العمل قبل موعد انتهائه المعتاد بأكثر من ساعة، وعاد أنفار الترحيلة يتسابقون على المشايات ويستعجلون إنهاء الطريق.
وفي المساء حفل مكان الترحيلة الكائن خلف الإصطبل بعدد كبير من الناس لم يشهد له مثيلا. فقد جاء الفلاحون من العزبة الكبيرة والعزب الأخرى، وجاءت معهم بعض نسائهم، جاءوا يعزون الترحيلة تعزية الرجل للرجل والند للند. وكانت عزيزة قد وضعت في المكان الذي رقدت فيه أثناء مرضها وغطيت بكيس من أكياس القطن التي كانت تستعمل لهز الدودة، والتف حولها نساء الترحيلة ومن جاء ليعزيهم من نساء العزبة، بعضهن يبكي في صمت، وبعضهن يعدد على عزيزة وميتتها في بلاد الغربة بعيدة عن دارها وزوجها وأولادها، وبعضهن يتحدث ذلك الحديث الذي لا يحلو للنساء إلا في المآتم والجنازات، حديث تحكي فيه المرأة من العزبة للمرأة من الترحيلة أو المرأة من الترحيلة للمرأة من العزبة عن وكستها وميلة بختها مع زوجها المقصر وبثوبها الذي لا يصر حفان ملح من كثرة ما به خروق وثقوب، وأولادها الأشقياء وبنتها التي يجري عليها عريس عنده فدانان.
أما رجال الترحيلة فقد جلسوا غير بعيد في مقدمة الجرن يتقبلون عزاء رجال التفتيش، وقد اختلطت العمم بالعمم والجلاليب بالجلاليب فلم تعد تستطيع أن تميز الفلاح من الترحيلة ولا صاحب المأتم من المعزي. بينما الشيخ أبو إبراهيم الفقي قد احتل دكة النوارج الواقفة على «رمية» قمح نصف مدروس، ومضى يتلو بصوته الأجش المبحوح بعض ما تيسر من سورة النساء، والشمس قرصها يحمر ويغيب خلف كومة التبن الهائلة المتخلفة عن دراس المكنة.
ودونا عن الجميع كان دميان - في ذلك الوقت - يحوم حول بيت المأمور بلا سبت معلق في ذراعه منتظرا ربما أن تطل الست أم صفوت من البلكونة ليحادثها، ولكنها لم تطل؛ إذ كانت في ذلك الوقت جالسة على كنبة الصالة وأمامها جلست على الأرض بنت من الترحيلة تدلك لها قدميها وتحكي لها عن عزيزة وزوجها وكيف يعيشون في البلدة.
ظل دميان يحوم حول البيت ويتردد، إلى أن واتته الجرأة فدخل من الباب الخلفي الذي يؤدي إلى الحوش والمطبخ، دخل وهو يزعق: يا ست أم صفوت، يا ست أم صفوت، مش عايزة أقرى لك الفنجال؟
يزعق بنفس طريقته ونفس صوته الرفيع الذي يشبه صوت الأطفال ولكنه كان يشعر لحظتها برجفة غريبة عليه وعلى دميان.
وبعد دقائق كان دميان يغادر بيت المأمور من بابه الأمامي مطرودا هذه المرة ملعونا أبوه، وظل يمشي على غير هدى إلى أن وصل إلى الجرن حيث الجمع الكبير المحتشد، وتردد - برهة - بين أن يذهب إلى حيث الرجال في الجرن أو إلى حيث النساء حول عزيزة في مكان الترحيلة. ويبدو أنه خاف من جمع الرجال؛ إذ ما لبث أن توجه إلى حيث النساء مجتمعات حول عزيزة. وبكى دميان في ذلك اليوم بحرقة حتى كاد يضحك - بحرقته - النساء.
وأمام مباني الإدارة، وعلى بضع كراسي قديمة متناثرة معظمها قد سقط خوص قاعدته كان فكري أفندي المأمور جالسا وحوله مسيحة أفندي وأحمد سلطان والأسطى محمد والشيخ عبد الوارث الكبير والمخزنجي ورئيس الخولة، ومن بعيد كان يرقب جلستهم بعض الفلاحين الذين يؤثرون التطفل وتسقط الأخبار والعلم بكل ما يدور في التفتيش من أمور. وكان المأمور يتدارس مع الرجال المجتمعين حوله الحل الذي انتهى إليه في أمر عزيزة. فقد خلقت له عزيزة بوفاتها مشكلة لم تكن تخطر له على بال، إذ هو لا يستطيع الإبلاغ عن وفاتها أو دفنها في التفتيش فسوف يتطلب الإبلاغ كشفا يوقع على المتوفاة، ومن يدري ما يمكن أن يؤدي إليه الكشف من تستر على جانية وتحقيق وسين وجيم. ولم يكن هناك من حل إلا أن ترسل - ميتة - إلى بلدها، وهناك يتكفل الحاج عبد الرحيم مقاول الترحيلة بأمرها، فهو المسئول الأول والأخير عن أنفاره وحياتهم، ولا بد أن يكون أيضا مسئولا عن موتهم، فيمكنه أن يتفق مع عمدة بلده - وهو صاحبه وقريبه - على الإبلاغ عن وفاتها باعتبار أنها لم تكن في الترحيلة أو كانت هناك ثم لما عادت مرضت وماتت في بيتها. أو يمكنه أن يصنع أي شيء آخر يخلي التفتيش والمأمور من المسئولية. ممكن أي شيء ولكن الشيء المحتم الذي لا بد منه هو أن تنقل جثة عزيزة إلى بلدها.
ونقلها هو المشكلة التي ظلت تحير فكري أفندي طويلا حتى عثر لها على حل، وكان الحل في عربة التفتيش اللوري التي تذهب كل خمسة عشر يوما إلى بلد الترحيلة لتحضر لهم زوادتهم من عيش غرباوي وجبنة وبصل وعدس ومش. ولم يكن ميعاد ذهاب العربة قد حل، ولكن تقديم هذا الموعد ليس بالأمر الخطير غير المستطاع.
وكان المأمور قد أرسل في طلب الأسطى عبده سائق اللوري وأخذ يفهمه بلهجة جادة - تعمد أن تكون لهجة أمر - لا تسمح للأسطى عبده بالتحجج أو التهرب، يفهمه مهمته، وما يجب عليه عمله. وأبدى الأسطى عبده بعض التردد وأثار بعض الاعتراضات، تكفل الأسطى محمد العجوز بالرد عليها جميعا. ولم تبد على ملامح الأسطى عبده الموافقة النهائية إلا بعد أن تعهد له المأمور أنه سيكون مسئولا مسئولية تامة لو حدث شيء - لا قدر الله. وحينئذ - فقط - أرسل الأسطى عبده طاقيته الصوف الطويلة وجلبابه، اللذين يرتديهما في العادة، أرسلهما إلى بيته طالبا من امرأته أن تبعث له بالبدلة الكاكي التي يرتديها حين يسافر. ثم مضى إلى الجراج يعد اللوري للرحلة الطويلة التي عليه أن يقطعها على سكك متعبة غير ممهدة لكي يبعد - قدر طاقته - عن عساكر المرور وأكشاكهم.
وحين أعدت العربة وتم كل شيء كان الظلام قد خيم، وكان ميعاد ذهاب أنفار الترحيلة إلى الغيط قد حان، إذ كانت اللطع قد فقست في العزبة نمرة عشرة وكان الأنفار يعملون بالنهار في التقاط اللطع ويسرحون بالليل - لقاء أجرة ثانية - لهز أشجار القطن وجمع الدودة من فوق أوراقها، الدودة التي تختفي في النهار في شقوق الأرض ولا تبدأ زحفها الفاتك إلا في الليل.
وكانت عملية الهز تتم في وسط أنوار الكلوبات الساطعة، والعمل فيها يبتهج له الأنفار أكثر؛ إذ هو عمل في الليل حيث الجو معتدل ولطيف وحيث الأغاني، والنور الساطع، والظلام الذي يتيح بعض اللعب، يتيح لليد الخشنة أن تمتد إلى الجارة ويتيح للجارة أن تتغابى وتسكت.
كان الأنفار يسعدون بالعمل في الليل رغم كل شيء، ورغم أنهم كانوا يعملون أيضا في النهار، ولا ينامون سوى تلك السويعات القليلة التي يختلسونها ساعة الفجر وساعة الغروب، ولكنه عمل بأجرين والجسد المرهق ليس مشكلة، المشكلة في القرش والفرصة التي جاءت من السماء لاقتناصه واستخلاصه.
كان ميعاد ذهاب الأنفار للغيط قد حان، ومع هذا أبوا ورفضوا أن يتحركوا - قيد أنملة - إلا بعد أن يودعوا عزيزة الوداع الأخير.
وحانت اللحظة التي كان على عزيزة أن ترحل فيها، وجيء باللوري وهو يجأر ويتراجع به الأسطى عبده إلى الخلف، ويزجر الأطفال الذين تعلقون بجوانبه ويلعن آباءهم ليستطيع أن يصل إلى أقرب نقطة من المكان الذي ترقد فيه عزيزة، ووقف الرجال واجمين متزاحمين حول اللوري، وما كاد يرتفع صراخ النساء حتى هب فيهن المأمور طالبا السكوت التام مهددا بكسر عنق الواحدة منهم لو فتحت فمها، فالعملية كان يجب أن تتم بهدوء وبلا إعلان أو فضيحة.
وعلى ضوء كلوب جنيدي الباهت الذي كثيرا ما كان يشحر ويختنق نوره، لفت عزيزة بالكيس الذي كانت تتغطى به، وتبرع الشيخ عبد الوارث بحصير بال من عنده لف فوق الكيس، ثم حملت الجثة ملفوفة بالحصير بين نهنهة النساء وصمت الرجال الواجم، ووضعت على أرض صندوق اللوري الخشبية. وجمعت كل القفف والزلع والبلاليص الفارغة من الترحيلة - وعلى كل منها علامة ليعرف صاحبها، جمعت ووضعت فوق الجثة لتداريها وتخفي معالمها، ثم صعد الريس عرفة إلى العربة وصعد معه بعض أنفار الترحيلة من الرجال، وتصاعدت صرخة من أم الحسن طالبة أن تذهب معهم، فالمتوفاة حرمة وكلهم رجال، وليس أجدر منها بالمحافظة عليها، ولم تغلق فمها إلا حين حملت إلى اللوري ووضعت فيه. وعبد المطلب الخفير أصر على أن يرافقهم ليشيع عزيزة إلى مقرها الأخير. قائلا إنه لا يمكن أن يترك الأسطى عبده يذهب وحده في تلك المهمة الخطرة.
وأخيرا قال فكري أفندي المأمور لعبده بأنفاس متهدجة: اتوكل على الله يا أسطى.
وقال الأسطى عبده وهو يجذب عصا «الفيتيس»: توكلنا على الله، الفاتحة.
وانسل اللوري وقد تعالى صوت ماكينته من بين مئات الرجال والنساء المتجمهرين، الذين لا يضيء وجوههم الشاحبة إلا كلوب جنيدي الشاحب، والذين لم يتمالك بعضهم نفسه فانفلت صوته - رغما عنه: مع السلامة يا عزيزة، مع السلامة. •••
وبعد قليل كانت العربة قد استوت على الطريق الزراعي الكبير الذي يمر بحذاء شريط الدلتا، السائق صامت واجم يدخن السيجارة التي عزم عليه بها الرئيس عرفة، وعبد المطلب بجواره صامت هو الآخر وواجم. أما من في صندوق العربة فقد كانوا جالسين متشبثين بحافة الصندوق وكأنهم يتحاشون الجلوس فوق إبر حادة، كلما هزتهم العربة تشبثوا بالحافة أكثر محاولين - قدر الطاقة - أن يبتعدوا عن كومة القفف والبلاليص التي ترقد تحتها المرحومة.
وبينما العربة تئز وتتمايل بحمولتها، وأزيزها المكتوم تحمله الرياح وتتشربه - على مهل - كتل الظلام الهائلة الرابضة على صدر الكون، كان خط أنفار الهز قد انتظم تحت ضوء الكلوبات المعلقة على عروق طويلة والعصا الخيزران قد بدأت ترتفع وتهوي على الظهور المحنية، بينما أصوات الخولة والسواقين تصرخ بنبرات متقاربة متلاحقة: وطي يا ولد، وطي يا بنت.
خاتمة
وانتهى العام ورغم كل شيء كللت جهود فكري أفندي بالنجاح وهزمت الدودة رغم فقسها، وسلم المحصول، وعاد الغرابوة إلى بلادهم.
وحين جاء العام التالي على التفتيش، وجاء الغرابوة كان الفلاحون لا يزالون يذكرون بعضا مما حدث لعزيزة وحكايتها، ولكن الحاجز الذي كان قائما بينهم وبين الترحيلة كان قد زال نهائيا وإلى الأبد، وأصبح من المعتاد أن يسهر رجال الترحيلة مع أهل العزبة في بيوتهم، وأن تختلط النساء بالنساء، بل حدث ما هو أكثر من هذا؛ إذ تزوج سالم أبو زيد أحد «كلافة» التفتيش ببنت غرباوية راقت في عينه فخطبها، ثم ذهب إلى بلدها حين عادت في جمع من فلاحي التفتيش ليخطبها من أهلها وعادت عروسة.
ولم يشهد العام التالي فكري أفندي مأمورا للتفتيش، فالخواجة زغيب كان قد باعه حقيقة للشركة البلجيكية التي عينت له مأمورا كالخواجات من عندها، وإن كان قد عرف - بعد هذا - أنه تركي ومسلم، ولكن له شكل الخواجات وهيئتهم، ولكن الشركة والمأمور الجديد لم يدوما طويلا أيضا؛ إذ ما لبثت الشركة أن باعت الأرض للأحمدي باشا حين عرض عليها ثمنا مناسبا بلغ ربحها فيه آلاف الجنيهات، وقلب الباشا نظام المزارعة - الذي كان سائدا في التفتيش - إلى نظام الإيجار على بياض ووضع هو فيها ما شاء من شروط.
ولم يفاجأ الناس حين أصبحوا - ذات يوم - فوجدوا أحمد أفندي سلطان قد قدم استقالته من عمله وغادر التفتيش، وقيل إنه وجد وظيفة كاتب في مكتب أحد محامي المختلط في طنطا، لم يفاجأ الناس لعلمهم أن أحمد سلطان كان على الدوام ضيقا بالعمل في التفتيش معتبرا أنه يضيع عمره وشبابه فيه برخص التراب. الناس فوجئوا - حقيقة - حين اختفت الست لنده ذات يوم، وجن مسيحة أفندي وهو يطوف البلاد طولا وعرضا ويبحث عنها، وزالت المفاجأة وانكشف السر حين عرف أنها ذهبت لتتزوج من أحمد سلطان، وأن الزواج تم في مركز البوليس، وأن استقالته واختفاءها وكل شيء تم باتفاق بينه وبينها. وأضاف ما حدث إلى عمر مسيحة أفندي عشرات الأعوام، فشاب معظم شعره وأصبح لا يهتم بنظافة ثيابه أو وضع المناديل لتحمي ياقته من عرقه، وقاطع لنده وزوجها وآلى على نفسه وأولاده وزوجته ألا يعرفوها أو يروها أو تأتي سيرتها على ألسنتهم. ولكن الأيام - آه من الأيام - ما لبثت أن جعلته يغفر وينسى، ويرد على الخطابات الكثيرة التي ظلت لنده ترسلها إليه كل أسبوع بخطاب متزمت مقتضب ولكنه يبدأ بتلك العبارة: ابنتنا العزيزة لنده.
ومضت الأعوام تشهد خلافات من نوع جديد تنشب بين الفلاحين الذين أصبحوا مستأجرين وبين الأحمدي باشا، محاكم ومحضرين وحجوزات، وحراس على البهائم والمنقولات، وبيوعات بالمزاد العلني، وحرائق كيدية في سواقي التفتيش ومكنه ومحاصيله.
وقامت الثورة، وصدر قانون الإصلاح الزراعي، وباع الأحمدي باشا الأرض للفلاحين، وباع - كذلك - كل معدات التفتيش من بهائم وركائب وماكينات حرث وري ودراس، حتى السراية والمخازن الضخمة هدمها وباعها أنقاضا. وكذلك استغنى عن جميع الموظفين والخولة والأسطوات والأنفار، وغادر بعضهم التفتيش، وانقلب بعضهم إلى فلاحين واشتروا أرضا، والوحيد الذي بقي موظفا هو مسيحة أفندي الذي عهدت إليه دائرة الأحمدي باشا بإمساك حسابات المائتي فدان التي بقيت على ذمة الباشا.
وتغيرت معالم التفتيش تماما، فلا سراية، ولا إصطبلات، ولا إدارة ولا مأمور، ولا مفتش، ولا شغيلة أو خفراء أو تملية، ولكن مجتمع جديد أصبح هو الموجود، مئات الملاك الصغار يقطنون نفس البيوت التي كانوا يقطنونها وهم أجراء وفلاحون، مئات الصغار الذين بدأ بعضهم يكبر ويغتني ويؤجر، وبدأ بعضهم يصغر ويحتاج ويستأجر.
مضت الأعوام وتعاقبت التغيرات، وانقطع بطبيعة الحال مجيء الترحيلة، ونسيهم الناس تماما ونسوا كل ما كان من أمرهم وأمر عزيزة.
كل ما تبقى منهم ومنها شجرة صفصاف قائمة - إلى الآن - على جانب الخليج الذي لم يغيره الزمن، يقال إنها نمت من العود الذي استخلصوه من بين أسنان عزيزة بعد موتها فطمس في الطين ونبت، وكان أن أصبح تلك الشجرة. وأغرب شيء أن الناس لا يزالون يعتبرونها - إلى الآن - شجرة مبروكة، وأوراقها لا تزال مشهورة، بين نساء تلك المنطقة، كدواء أكيد مجرب لعلاج عدم الحمل. (انتهت)
صفحة غير معروفة