لم لا يلقي باللفافة في الترعة ولا من شاف ولا من دري؟ وتردد برهة بعد آه، ولاه، ثم لم يلبث أن تقدم من اللفافة باحتراس زائد.
في تلك اللحظة فوجئ بصوت خشن كفرع السنط يقول: اصباح الخير يا عبده.
وحملق فيه عبد المطلب بعينيه العمشاوين، فقد كان عبد المطلب أبيض أعمش ذا عيون صغيرة ضيقة لا ترى إلا في الليل، حملق فيه وقال جملته المشهورة عنه: إخص ع الناس، الله يكسفم!
كانت كلماته تخرج ملفوفة في سحابات صغيرة من بخار الصبح، وكان القادم «عطية» الذي لا يدري أحد متى جاء إلى التفتيش ولا من أين جاء، ولم يكن له عمل معروف حتى في أثناء إقامته في التفتيش، لا ولم يكن له محل إقامة؛ فهو ينام حيثما اتفق، تراه على الدوام ممسكا ذيل قميصه من الخلف، مظهرا سيقانه الخالية من الشعر، فاتحا عينا مغلقا الأخرى محدقا في محدثه بوجهه النحيف الرفيع الذي لا يطمئن إليه أحد.
ظلت ذرات البخار تخرج من فم عطية لترد عليها ذرات بخار خارجة من فم عبد المطلب، وأيديهما تشير مرة إلى اللفافة ومرات إلى الترعة والناس والعزبة والسموات العلا إلى أن انضم إليهما الأسطى محمد. والأسطى محمد رجل الحادثات بلا منازع؛ ما من واقعة مهمة تحدث في التفتيش إلا ويكون هو أول من يحضرها، ولا يدري أحد كيف تصل إليه أخبارها، ولكنك حتما سوف تجده. هو عجوز تعدى السبعين ذو لحية نابتة بيضاء وشعر أشيب وعين يسرى لا يرتفع عنها جفنه المغلق على الدوام. كان أسطى ماكينات في التفتيش، وحين كبر على العمل فصلوه، ومع هذا فأحيانا يعهدون إليه بمهام مثل إيقاد الوابور الذي يدير ماكينة الدراس أو السهر بجوار طلمبة مياه، ولكنه على أية حال لا يزال يلقب بالأسطى، ولا يزال رجل الحادثات، ورأيه فيها لا يزال هو الرأي السديد، وهذه المرة ما إن عرف ما حدث، ورنا إلى الجنين بعينه اليمنى حتى قال: ده مش ميت يا عبده، ده مخنوق.
واستنكر عبد المطلب هذا، ولكن الأسطى محمد ما لبث أن أقنعه وهو يشير إلى زرقة الجسد واحمرار ما حول الأنف والفم، طالبا منه أن يخلص نفسه من المسئولية ويبلغ مأمور الزراعة؛ إذ هو الوحيد الذي يمكنه التصرف في أمثال هذه الأمور.
ويبدو أن عبد المطلب اقتنع، فما لبث أن مصمص بشفتيه، وقال: أيوه: أحسن طريقة نبلغ المأمور.
قال هذا دون أن تصدر سحاب بخار عن كلماته، فالشمس كانت قد بدأت تبيض، والأجساد قد بدأت تسخن والندى أخذ يزول. •••
ولا أحد يدري كيف تسرب الخبر إلى العزبة؛ فالثلاثة الواقفون أصبحوا ستة، وما أسرع ما تجمهر حولهم الشغيلة السارحون إلى الغيطان وفئوسهم على أكتافهم وغداؤهم في مناديلهم، وما لبث أن انضم إليهم عمال ماكينة الدراس والمزارعون وبعض الأطفال الذين أيقظهم آباؤهم مجبرين ليزيلوا وخم النوم ويغسلوا وجوههم في الترعة.
حتى النساء كن يتركن ما في أيديهن من عجين أو خبيز أو طين ويسرعن ملهوفات إلى الخليج، ويلوثن الرجال وهن يدفعنهم ويفرقنهم ليرين ما هناك.
صفحة غير معروفة