وقال فكري أفندي بصوت لا يعرف سامعه إن كان جادا أم هازلا: يلعن أبوك على أبو رقبتك.
ولأمر ما كان يخيل لفكري أفندي أن هؤلاء الناس يفرحون حقيقة حين يلعن آباءهم ويشتمهم، بل لا بد أنهم يحسون بنوع من الهيبة والفخر وكأنه يمنحهم رتبا وألقابا؛ إذ هي في عرفهم لا بد آيات ود وصداقة وتنازل - تنازل منه - هو، مالك هذا الملك كله والآمر الناهي فيه. تلك «الأبعادية» أو «التفتيش» أو كما تسمى أحيانا «الدايرة»، أكثر من ألفي فدان من أجود الأطيان بما عليها من ناس وبيوت وماكينات وبهائم ومحاصيل، تحت تصرفه، هو السيد الأعلى لهذا كله، سيد العشرة الخولة والباشكاتب والخمسة الكتبة والأسطوات والخفراء والأجراء والفلاحين والمزارعين. هو الذي يمكنه أن يعز من يشاء ويرفت من يشاء ويحكم بالغرامة على من يشاء. في استطاعته أن ينقل الفلاح من عزبة لعزبة، ويعطيه أو لا يعطيه أرضا يزرعها، بل يستطيع لو شاء أن يطرده نهائيا من التفتيش دون أن يراجعه أحد أو يجرؤ أحد على معارضته، في استطاعته حتى أن يضرب من يشاء بالقلم أو باللكمية أو بالشلوت، بل أحيانا يحبس ويرسل المتهم مخفرا إلى المركز، ولا راد لقضائه، وما يرده الخوف، وهو لا يخاف إلا من اثنين: رئيسه المفتش، وصاحب الأبعادية، والمفتش يأتي للمرور كل شهر والمالك يأتي كل شهرين أو ثلاثة، وباستثناء تلك الساعات القليلة التي يقضيانها في التفتيش فهو دائما مالك هذا الملك كله، ألا تبدو شتيمته حينئذ لنفر من الأنفار أو سائق من السائقين منحة وتنازلا؟
الواقع أن مجرد مرور كل تلك الخواطر في رأس فكري أفندي كاد يثنيه عن عزمه؛ إذ أيصح من رجل هذا شأنه الكبير أن يضيع وقته ويشغل نفسه بمهمة غريبة سخيفة ليست من قيمته كتلك المهمة التي جاء بشأنها؟ ولكنه جاء فعلا، ولن يخسر شيئا، فإن أحدا من الأنفار أو السائقين لا يعلم بالسبب الحقيقي لمجيئه، تردد برهة ولكنه وجد نفسه يقول: الأنفار كلهم موجودون يا عرفة؟
قال عرفة في حماس: بالنفر. - أنت متأكد؟ - علي الحرام بالتلاتة من بيتي كلهم موجودين.
ومع هذا لم يصدق فكري أفندي، فهؤلاء الناس من رأيه يتمتعون بحظ وافر من قلة الدين، والواحد منهم مستعد أن يقسم بالطلاق من أجل أن يكسب تعريفة، وعلى هذا قال: طب عدهم.
وقال عرفة: حاضر، أنا خدام.
ومضى يعدهم بصوت عال مرتفع، وفي أثناء العد لا يفوته أن يري همته وحرصه على مصلحة العمل، فينهال على أي ظهر محني أمامه بخيزرانته الرفيعة في ضربة تمثيلية.
عد الريس عرفة الأنفار مرتين، وفي كل مرة يؤكد للناظر - بلهجة بدأ الشك والخوف يتسربان إليها - أن العدد مضبوط، وأن الأنفار كلهم يمسكون خطوطا ويعملون.
واستغرب فكري أفندي واندهش، كلام الريس صحيح، ولكنه متأكد أن واحدة من هؤلاء الأنفار هي التي ولدت ذلك اللقيط فكيف يتفق هذا مع وجودهم جميعا في ذلك الطابور المنحني الطويل، لا بد إذن أن الفاجرة غصبت على نفسها واشتغلت، ولكنها لن تفلت منه، فمهما بالغت في حرصها فستبدو آثار الولادة حتما عليها، كل ما عليه هو أن يمر عليهم أجمعين ويحاول أن يلتقط الدودة من بينهم، المجرمة التي ولدت في الليل وقضت على ابنها وجاءت هنا تحني ظهرها وتعمل وتتلقى الضربات، وكأنها ليست بشرا، وكأنها جنية من الجنيات أو شيخة من المشايخ.
دخل فكري أفندي في التربيعة أمام صف الأنفار ومضى يقاوم الشمس بعينيه ويتوقف قليلا لدى كل امرأة أو بنت يتأملها، العجوز يتركها والنصف يتوقف لديها، والبنت يطيل في ركنته عندها، ولأول مرة يدقق فكري أفندي في زي الغرابوة وملابسهم، ويعرف أن سراويل نسائهم طويلة جدا تصل إلى الكعبين، وتنتهي بذيل مكشكش، ودائما ألوانها فاقعة.
صفحة غير معروفة