محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث
تصانيف
ولم يكن العمل في شرح القاموس يسيرا؛ فقد كانت اللغة العربية قد غدت غريبة - أو كالغريبة - في مجتمع يحكمه الأتراك، وفي وقت تدهورت فيه اللغة العربية، وسادتها اللكنة، وكثر فيها استعمال العامي والحوشي والغريب.
ولذلك فهو يقول في مقدمته: «وقد جمعته في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح - عليه السلام - الفلك وقومه منه يسخرون.»
تسامع الناس في مصر إذن أن الزبيدي يضع شرحا كبيرا للقاموس، فسخروا منه؛ لأنه عمل ضخم يحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل، ولكن الرجل كان ذا همة عالية، فرسم خطة العمل، وبدأ يجمع مكتبة البحث وهي - كما قدر - مكتبة ضخمة كان لا بد أن تضم معاجم اللغة السابقة كلها؛ كالصحاح للجوهري، واللسان للفيروزآبادي، والجمهرة لابن دريد، والمخصص والمحكم لابن سيده، والتهذيب للأزهري، وفصيح ثعلب، والأساس والفائق للزمخشري، وإصلاح المنطق لابن السكيت، والخصائص لابن جني، والمجمل لابن فارس، والمعرب للجواليقي ... إلخ.
وجمع إلى جانب هذه المعاجم كتب التاريخ والحديث والإسناد، والأنساب والرجال والتراجم، وكتب الجغرافية والرحلات ونظم الحكم، وكتب الطب والحيوان والنبات، ودواوين الشعر، وقد أثبت الزبيدي أسماء هذه المراجع في مقدمة شرح القاموس، ومن أهمها: معجم البلدان لأبي عبيد البكري، ومعجم الصحابة لتقي الدين بن فهد، والذيل على إكمال الإكمال لأبي حامد الصابوني، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وطبقات الشافعية للسبكي، والتكملة لوفيات النقلة للمنذري، ولباب الأنساب للسيوطي، وشرح مقامات الحريري للشريشي، والوافي بالوفيات للصفدي، وتاريخ الإسلام للذهبي، والبداية والنهاية لابن كثير، والطالع السعيد للإدفوي، وقوانين الدواوين لابن مماتي، ومختصره لابن الجيعان، والخطط للمقريزي، وجمهرة الأنساب لابن حزم، وكتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري ... إلخ ... إلخ، وهي قائمة طويلة، إن دلت على شيء فإنما تدل على ثقافة الزبيدي الواسعة المتعددة الألوان، وعلى معرفته الوثيقة بالمكتبة العربية، وبالمراجع الأصيلة الهامة.
ولم يكن جمع هذه المكتبة بالأمر اليسير؛ فقد كانت هذه المراجع ضاعت وتبعثرت مذ قلت عناية القوم بها، يؤيدنا في رأينا هذا الجبرتي، معاصر الزبيدي وتلميذه؛ فقد أشار في مقدمة تاريخه إلى أمهات الكتب التاريخية التي ألفت قبل عصره، ثم قال: «وهذه صارت أسماء من غير مسميات؛ فإنا لم نر من ذلك كله إلا بعض أجزاء مدشتة، بقيت في خزائن كتب الأوقاف بالمدارس مما تداولته أيدي الصحافين، وباعها القومة والمباشرون ، ونقلت إلى بلاد المغرب والسودان، ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم ... إلخ.»
ومع هذا لم يأل الزبيدي جهدا في جمع هذه البقايا، فكان لا يبخل بمال في سبيل شراء الكتب أو استنساخها
5
حتى استطاع أن يكون لنفسه مكتبة خاصة غنية كبيرة، ولكنه كان إذا أعجزه الحصول على كتاب ما، سعى للاطلاع عليه في مكتبات المساجد والمدارس، وقد أشار في مقدمة التاج إلى الكتب التي قرأها في هذه المكتبات، فقال: إنه اطلع على نسخة من الصحاح للجوهري في خزانة الأمير أزبك، وظفر بنسخة من تهذيب التهذيب لأبي الثناء محمود بن أبي بكر التنوخي - هي مسودة المصنف - في خزانة الأشرف بالعنبرانيين، وعثر على كتابي: العباب والتكملة على الصحاح - وهما للرضي الصاغاني - في خزانة الأمير صرغتمش، ووقف على نسخة من الجمهرة لابن دريد في خزانة المؤيد، وظفر بالمعرب للجواليقي في خزانة الملك الأشرف قايتباي، وبأجزاء من معجم البلدان لياقوت في الخزانة المحمودية ... وهكذا.
وكانت طريقته في شرح القاموس أن يأتي بالمتن، ثم يشرحه ويضيف إليه، معتمدا على المعاجم اللغوية الأخرى، فينتقي منها ما لم يذكره صاحب القاموس ويضيفه إليه، ثم يستعين مرة ثانية بدواوين الشعر، فيستشهد بالأبيات التي تتضمن اللفظ الذي يشرحه، ثم يستعين مرة ثالثة بكتب التاريخ والتراجم، والجغرافيا والرحلات، فيضيف أسماء الرجال وأسماء المواقع والبلدان المتصلة بكل مادة يشرحها.
ثم هو يضيف بعد هذا كله جديدا من عنده، يضعه تحت عنوان «المستدرك»، وهذا الجديد هو في معظمه خلاصة تجاريبه، والمعرفة التي حصلها خلال رحلاته في الهند وبلاد العرب ومصر، وقد يكون هذا المستدرك لفظا علميا يستعمله أهل مصر أو أهل اليمن أو أهل الهند، وقد يكون موقعا أو قرية في قطر من هذه الأقطار، فلهذه المستدركات أهمية كبرى؛ لأنها تتضمن معلومات جديدة انفرد بها الزبيدي، ولا تجدها في مرجع أو في معجم لغوي آخر.
صفحة غير معروفة