فرؤية اليقظة التي معها ثلج الصدور وبرد اليقين أولى أن تبلغ في هذا الباب الغاية الكبرى، وتؤمي إلى الغرض الأقصى، فأما ما قاله بعض المفسرين: من أن المراد بقوله تعالى: (في منامك) إنما هو في عينيك، وإنما عبر بالمنام عن العين لان بها يكون النوم، فهو قول ظاهر التعسف شديد التكلف، لا ينبغي أن يعتمد عليه ولا يلتفت إليه، لان الأثر أولا قد جاء بذكر ما أرى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله من تلك الحال في منامه، ولان العبارة عن العين بالمنام فيها تلبس على السامع، وعدول في الفصاحة عن الطريق الواضح، ولو كان الامر كذلك لكان قوله تعالى من بعد: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) قد أغنى عن الرؤية المذكورة في الآية المتقدمة الخاصة للنبي [ص]، وكان ذلك الاختصاص للنبي [ص] بالتقليل في عينيه لا فائدة فيه، لان ما جاء بعده كاف منه، فإنه سبحانه إذا قال للمسلمين (والنبي صلى الله عليه وآله فيهم): (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) فقد دخل النبي في جملتهم وصار رائيا لذلك معهم، فلما أفرده تعالى في الآية المتقدمة باختصاص الرؤية على تلك الصفة، علمنا أن ذلك في حال المنام، وأن رؤية المسلمين - وهو صلى الله عليه وآله معهم - لما رأوه من قلة المشركين، في حال الاستيقاظ، واختلفت الحالات وانتظم الكلام، وإنما أراد سبحانه أن يجمع لهم رؤية القلة في حال النوم واليقظة، ليكون ذلك أقوى لنفوسهم، وأنفذ لبصائرهم، وأشد لمعاقد عزائمهم.
صفحة ٤٥