ومن المعقول المشاهد أن البهائم تعرف أولادها بالريح، وتفرق بين أولادها وبين أولاد غيرها، وكذلك السباع تدرك ما جعل الله لها فيه متاعا بالريح من مكان بعيد؛ وهذا فيه كفاية وبيان. والطعوم أعراض كالروائح، ألا ترى أنك تجد ريح الأترنجة وتجد لها طعما في ابتدائها؟ ثم تجد لها طعما غيره في انتهائها؟ وكذلك سائر الكرم فإنك تجده في ابتدائه حامضا، وبعد ذلك ممتزجا، ثم تجده عند انتهائه حلوا، وعينه قائمة، فصح أن هذه الصفات التي تحدث وتبطل شيئا غيرها وأنها مدركة بالفم، ولو كانت الحموضة والحلاوة وأشباههما وصف الواصف لا غير لما كان أحد يفرق بين الحلو والحامض، ولو لم يكن مدركا بحاسة الفم لكان الإنسان يجد طعم الشيء ويعلمه بغير الذوق، ألا ترى أنه لو لمس جسما أو نظره أن ذلك لا يؤدي إلى علم الطعم، ولما كان يجد طعم الشيء إذا ذاقه علم أنه أدركه بحاسة الذوق، فصح أن الطعم عرض قائم في المطعوم ومدرك بحاسة الذوق، وقد قال الله تعالى: {وأنهار من لبن لم يتغير طعمه }[محمد:15]، فصح أن له طعما سواه؛ ولأنه قد يتغير الطعم واللبن بحاله في لونه وجنسه واسمه.
صفحة ١٢٩