فصل في الكلام في الهواء
من ذلك أنا نظرنا إلى الهواء وما فيه من السعة والرقة والصفاء، وكونه مكانا للكثيف واللطيف من الأشياء؛ فإذا هو قد قدر أحسن تقدير، وجعل حياة للكبير من الحيوان والصغير، وجعل صافيا نقيا من الآفات والأكدار، وجعل لونه أخضر يميل إلى السواد لموافقة الأبصار. وقد قالت الأطباء: من ضعف بصره فليدمن النظر إلى زجاجة خضراء مملوءة ماء، فكان كما وصفت الأطباء، وجعله يحمل الأصوات والروائح (والغبار) ثم يمحى ويزول فيعود نقيا، فتجري فيه الرياح بالسحاب والدخان والغبار ثم يزول منه فيعود نقيا، ولو كان يبقى كل ما يحمله من الدخان والغبار والروائح والأصوات؛ لكان ذلك مؤديا إلى الضرر وإباحة الأسرار، والتأذي بكثرة الأصوات والدخان والغبار. وما جعل في سعته ورقته من الصلاح لصنوف المنافع وجولان الأنفاس فيه والأرواح.
فلما وجدنا فيه أثر التدبير وجدناه قد وضع موضعه في صلاح الحيوان بأحسن تقدير؛ علمنا أنه محدث مبدوع، ومخترع مصنوع، علما ضروريا بالمشاهدة؛ إذ لا بد لكل مدبر من مدبر، وكل مقدر لا بد له من مقدر، وإذا ثبت أنه مصنوع ثبت أنه محدث .
وقد قال أهل الدهر -وهم عباد الأهوية: الهواء هو ربهم لأنه بزعمهم محيط بالأشياء، فيه كل شيء، وهو مع كل شيء.
قالوا: وجدنا فيه الحياة، وعند انقطاعه الموت، فصح قدمه قبل كل شيء بزعمهم.
صفحة ٦٨