خادم الفندق تستأذن علي وتدخل إلي طاقة كبيرة من أزهار شتى.
وكم من مرة درت معه في أنحاء باريس في الليل أو في النهار، وكم نعمنا بمشاهدها ومسارحها، وبمظاهر الفتنة التي لا حصر لها فيها، وكم، وكم. وقد بلغ من إعجابي بهذا الرجل في هذه الفترة أنني كنت أنظر إليه في بعض الأحيان لا على أنه زوجي، بل على أنه حبيبي، حبيب قلبي وروحي، فقد وهبني كل نفسه ليله ونهاره، فلم يكن لي بد من أن أهبه كل نفسي وكل حياتي.
فلما عدنا إلى مصر، وعاد زوجي إلى عمله، وعدت إلى حياة المنزل الرتيبة، وانقشعت من حولي هذه الغمامة الشعرية التي أحاطت بي في أوروبا، فلم يبق لي إلا ذكراها، والتحدث لصديقاتي عنها، عاودني الأسف أنا لم ننتقل إلى السلك السياسي، وخيل إلي أن أهل هذا السلك يقضون حياتهم كما يقضي المصطافون حياتهم، يتنقلون حيث يشاءون، وينعمون بجمال الطبيعة وبجمال الحضارة أينما يريدون.
وجلست ذات مساء بعد أسابيع من عودتنا إلى مصر أتحدث إلى زوجي، وكان قد عاد من عمله وعليه آثار الغبطة، فذكرت له رحلتنا وأثرها الجميل في نفسي، فقال: أرجو يا عزيزتي أن نتمكن من قضاء الصيف كل عام في بعض ربوع أوروبا الجميلة، وما دام هذا يرضيك فإنه يسعدني، وهل لي من سعادة إلا في رضاك وغبطة طفلينا وراحتهما؟!
ولم أملك نفسي وقد سمعت عبارته، فعانقته وقبلته شاكرة أجزل الشكر؛ إذ رأيت في وعده هذا بعض العوض - إن لم يكن كل العوض - عن السلك السياسي، وقد كنت راغبة في الانتقال إليه أشد الرغبة.
الفصل الرابع
في الأيام الأخيرة من شهر «نوفمبر» من تلك السنة، أصيبت طفلتنا بنزلة شعبية حادة أرقتني وأرقت والدها، فلما برئت رأى زوجي أن أسافر بها وبأخيها والمربية إلى الأقصر؛ ليقضي دفء جوها على كل أثر للمرض. وحجزنا أماكننا بفندق الأقصر، وسافرنا بقطار الصباح اتقاء برد الليل، وصحبنا زوجي إلى محطة العاصمة، ثم ودعنا ساعة تحرك القطار، وعاد توا إلى عيادته يزاول عمله.
وقد شعرت ساعة وجدتني وحيدة مع الطفلين بديوان سكة الحديد بشيء من الرهبة، إن الديوان مخصص للسيدات، ويغلب ألا يشاركنا فيه أحد طول الطريق، فالأوروبيات يجلسن مع أزواجهن إلا أن يكن مسافرات وحدهن، أما ولم تشاركنا مصرية ولا أوروبية حين سفر القطار من القاهرة ومن الجيزة فلا خوف من أن تصعد مسافرة بعد ذلك من محطة أخرى، وزايلتني الرهبة بعض الشيء بعد ساعة أو نحوها من انطلاق القطار، وإن بقيت أحسب ألف حساب لطارئ من الرجال يفتح الباب علينا ويحاول الجلوس معنا، ماذا عساي أن أصنع لو أن ذلك حدث؟ فليس في الديوان جرس أستطيع أن أدعو به من ينقذني من مثل هذا الموقف.
وصلنا إلى الأقصر ولم يحدث ما توهمته مخاوفي، فلما بلغت الفندق وصعدت إلى غرفتنا عاودتني المخاوف، لقد نزلت في أوروبا فنادق كبيرة شتى، ولم يخامرني مثل هذا الشعور، أتراني هناك كنت أكثر شجاعة، أم تراني كنت أكثر اطمئنانا إلى الناس؟ لا هذا ولا ذاك، لكنني كنت في حماية زوجي، وكنت مطمئنة في جواره، أما الآن وليس معي إلا المربية والطفلان، فقد ألفيتني عزلاء مجردة من كل دفاع، على أن مدير الفندق - وكان سويسريا - أبدى لي من اللطف ما بدد الكثير من مخاوفي.
واستيقظت في الصباح وأخذت زينتي وتناولت فطوري ونزلت إلى بهو الفندق، فأقبل علي مديره ليطمئن على راحتي وراحة أطفالي، واتصل حديثنا بالفرنسية، فسألني إن كنت أريد أن أزور قبر «توت عنخ آمون»، وكان قد كشف من سنتين، ليوفر لي أسباب هذه الزيارة، ولما كنت لم أزر الأقصر من قبل، وكنت لا أريد أن يعرف الرجل ذلك عني، فقد ذكرت له أني مرجئة زيارة الآثار حتى أطمئن على راحة طفلي، وقصصت عليه مرض ابنتي، وأنني جئت إلى الأقصر من أجلها، وأبدى الرجل أشد الاهتمام بأمر الطفلة، وقال: «إن الشمس تغمر فناء الفندق معظم النهار، وشمس الأقصر ممتعة جدا، وتستطيع الصغيرة أن تتسلى باللعب مع أخيها في حديقة الفندق، وبين نزلائنا أطفال استفادوا من جو هذا الفصل في الأقصر فائدة كبرى.»
صفحة غير معروفة