كان لاختلافنا هذه المرة من الأثر في نفسي ما لم أشعر بمثله حين اختلفنا على تحديد النسل، ففي هذه المرة الأولى كان الأمر كله بيدي، وكان النصر لذلك حليفي، من غير أن أتحمل في سبيله أية تضحية، ونحن في هذه الحال أشد عطفا على الهزيم وإشفاقا من أن يناله بسبب انتصارنا ما يسوءه؛ لذلك كنت أقبل زوجي إثر كل مناقشة بيننا في أمر نسلنا لأهون عليه هزيمته. أما بعد اختلافنا الأخير ورفضه أن يبذل أي مسعى لانتقالنا إلى السلك الدبلوماسي، فقد شعرت بأنني انهزمت، وبأن هذه الهزيمة آذت كرامتي، وخيل إلي أن زوجي قصد إلى هذا الإيذاء متعمدا، ولم يكن يضيره أن يسعى، فإن وفق فقد بلغت ما أردت، وإن لم يوفق فلا ذنب عليه، ولن يصيبه من جراء ذلك في عمله أي ضرر.
وحزت هذه الكرامة المهيضة في نفسي: أأجزى بكل ما بذلته لإرضاء زوجي بألا يعبأ بالسعي لمطلب يناله من هو أقل منه، وتناله من هي أقل مني؟!
وبلغ من حنقي أن خيل إلي أن زوجي ذهب إلى والدي، وطلب إليه أن يردني عن الإلحاح في أمر لا يرضاه، وأن ذلك كان السبب في قسوة الجواب الذي واجهني به والدي حين أفضيت إليه برغبتي، ولو أن زوجي لم يفعل من ذلك ما فعل، ولم يظهر لوالدي معارضته رغبتي، لاستطعت أن أستعين بوالدي في السعي لتحقيق غرضي، فله كلمة مسموعة في دوائر رسمية كثيرة، وصلاته بأولي الأمر تدعوهم لمجاملته.
وجعلت أشكو حالي لبعض صديقاتي اللواتي هن في مثل سني، فإذا كل واحدة منهن تشكو حالها، وتكاد تعلن الثورة على زوجها، وجمعت هذه الحال بين خمس منا، فكثر تزاورنا، وكثر ترديدنا الشكوى من حالنا، تقول إحداهن إنها رغبت إلى زوجها في تغيير مسكنها فأبى، وتقول ثانية إنها لا تكاد ترى زوجها الطبيب إلا ساعات الطعام، فإذا حدثته في ذلك اعتذر بكثرة عمله، وتسوق الباقيات أمثال هذه الأقاويل، ويتكرر ذلك في كل زياراتنا، ثم لا تزيد على الشكوى؛ لأننا لم نكن نستطيع أكثر منها.
وفت في عضدنا أن إحدانا غضبت من زوجها ولجأت إلى بيت أهلها، فتلقاها أبوها عابس الوجه مقطب الجبين، وقال لها في صرامة وحدة: الواجب عليك أن تحمدي الله على ما أنت فيه، وأن تقبلي يد زوجك صباح مساء، فكم من مثيلاتك تعيش مثل عيشك في بحبوحة ونعمة؟! وزوجك رجل رقيق مهذب، رضي الخلق، وأنا لا أشك من غير تحقيق في أن الحق عليك من رأسك إلى رجليك، فارجعي إلى بيت زوجك واعتذري إليه، وإلا ذهبت أنا بنفسي واعتذرت إليه.
والعجب أن زوجي لم يتغير علي في هذا الظرف برغم ما بدا من نفوري، بل لقد ازداد لطفا بي وعطفا علي، وقد بلغ من ذلك أن زال من نفسي كل شك في أنه يحبني من أعماق قلبه، مع ذلك بقيت الرغبة الدفينة في الانتقال من الطب إلى السلك الدبلوماسي تساورني، وكان اعتدادي بنفسي وبسحر حديثي مصدر هذه الرغبة وإلحاحها علي، فكنت أقدر أنني سأبلغ في محيط هذا السلك ما لا تبلغه امرأة غيري، وقد بقي هذا الاعتقاد متشبثا بنفسي إلى عدة سنوات من بعد، وإني لأذكر يوما بعد هذه السنوات دخلت فيه إلى اجتماع للسيدات، مصريات وأجنبيات، فلقينني بما تعودت من ترحيب، إلا زوج وزير ألمانيا المفوض، وكانت متعالية تعتد بجمالها، وبجنسها، وبمركز زوجها، وبواسع ثقافتها، فلم يسعني إلا أن وجهت إليها نظرة ازدراء زلزلت كبرياءها، ثم آليت على نفسي أن أتقن الألمانية، وأن أقرأ خير مؤلفاتها بلغة العظماء من كتابها، وعرفت السيدة المتعالية من بعض صديقاتي ما أقدمت عليه، فانتهزت أول فرصة تلاقينا فيها لتقدم إلي معاذيرها. بذلك تصافينا واتصلت مودتنا، ولم يلفتني ذلك عما أخذت به نفسي؛ فأتقنت الألمانية، وقرأت بها «جيتي» و«هيني» و«نيتشه»، وتأثرت إلى حد كبير بآراء «نيتشه» من أن القوة - والقوة وحدها - هي مصدر كل سلطان في الحياة.
وللمرأة من أسباب القوة ووسائلها الكثير مما لا سبيل للرجل إليه؛ لها الذكاء، ولها الحيلة، ولها الرقة، ولها سحر النظرات والحديث، ولها الصبر، الصبر الذي يمكنها من أن تحمل الجنين تسعة أشهر، وترضعه عاما أو أكثر من عام، وتتولى بعد ذلك تربيته والعناية به، أين للرجل هذه الوسائل التي تجمعها كلمة الأنوثة؟ وهل تستطيع قوته المادية أن تتغلب عليها؟!
وقد استطاع زوجي بعد اختلافنا على الانتقال إلى السلك الدبلوماسي أن يتغلب على نفوري بحنانه ولطفه، وبحبه إياي حبا كان يحرك كل قلبه وكل حواسه وكل رجولته، ثم إنه كان يحدثني كل يوم عن عمله في الطب، وعن اطراد مكانته في السمو بين زملائه، وعن كسبه الوفير منه، كما أخذ يغدق علي من صنوف الهدايا ما يهواه قلب المرأة من حلي ومجوهرات، ومن تحف زخرفية بديعة تزدان بها حجرات المنزل، وتتمتع العين بدقة صنعها وبارع جمالها، وكم أغراني للذهاب بنفسي أختار من الثياب وأدوات الزينة ومن هذه التحف الزخرفية ما أشاء، وانتهى بي لطفه إلى أن سكن نفوري، فعدنا إلى سابق مودتنا.
ولكن حبي إياه كان قد خدش، ولم يكن لي مع ذلك بد من التظاهر بأن شيئا لم يحدث، وبأنا ما زلنا نتبادل الحب صفوا كاملا، وماذا عساي كنت قادرة أن أصنع وبين يدي هذان الطفلان لا يزالان في غرارة طفولتهما بحاجة إلى عناية أبيهما وعطفه؟! ولن يدور بخاطري أن ألجأ إلى بيت أبي فتشمت بي زوجه، ويلقاني هو بوجه عابس أن ليس لي فيه أم يغفر حنانها ما لا يرضاه الأب الغضوب. لا مفر إذن من الصبر من أجل هذين الطفلين، ومن أن أعمل على مداراة ذلك الخدش إن استطعت إلى مداراته سبيلا.
وبالغ زوجي في العمل على مرضاتي، فلما كان الصيف سافرنا جميعا إلى أوروبا، وسافرت معنا مربية أولادنا، وقضينا في هذه السفرة زمنا سعدت به، وبرئت نفسي في أثنائه، حتى خيل إلي أني كنت متجنية على هذا الزوج العزيز الكريم، كم من مرة وقفت إلى جانبه على سطح الباخرة التي تجري فوق لجة بحيرة «ليمان»، واستمتعت معه بمغرب الشمس فوق قنن الجبال المحيطة بها، وبالهواء العذب الساحر الذي ينساب مع أشعتها الذهبية إلى الصدور ينعشها وينعش القلوب معها.
صفحة غير معروفة