قال: فكيف يجري أمر هذا الوزير يعني عبيد الله بن سليمان فإنني ما رأيت أشد تخليطا منه، ولا أغظم من حجابه، ولا أكثر إخلافا لمواعيده! قلت له: وكيف ذاك؟ قال: لأني رجل من الفرسان، قد أخر قائدي عني رزقي، فاحتجت إلى أن أخللت به، وصرت إلى الحضرة متظلما منه، وأنا أجتهد في أن يطلق لي ما وجب من رزقي، فليس يلتفت إلي، وكلما رفعت إليه رقعة رمى بها، ومتى وصلت إليه لم يخرج عليها توقيع، فقد احترقت وهلكت ونفدت نفقتي، وطالت على بابه أيامي، وكيف يمكن لهذا الرجل، وهو على ما وصفته لك، أن يعمل أعمال الخلافة ويدبر أمور المملكة؟ قلت له: الذي نعرفه من مذهبه وتقدمه ومعرفته وكتابته وكفايته غير ما ذكرته عنه، وما يدع شيئا إلا نظر فيه، ولا مظلوما إلا أنصفه! قال: الذي يبلغني عنه أنه قد اصطلم الدنيا، وأخذ الأموال لنفسه، والجند يتظلمون، وحاشية الخليفة يشكون، والنواحي خراب! فقلت: ما أحد من الحاشية إلا وهو راض، والأموال تحمل إلى الحضرة، والعمارة زائدة، والأمور مطمئنة! فقال: ما الآفة في جميع ما يجري إلا هذا الغلام الذي رفعه الخليفة فوق قدره، وأعطاه ما لا يستحقه، وصير الناس عبيدا وخولا له! فقلت: من الغلام؟ فقال: بدر، وأقبل يطعن عليه، ويتكلم فيه .. قلت: ما وضعه الخليفة إلا موضعه، والرجال حامدون له وراضون برئاسته! فحول وجهه عني فرأى كوكبة من الفرسان قد أقبلت، فحرك دابته ومضى، وما بعد حتى جاءت الكوكبة، وسألوني عن الخليفة هل رأيته، وأين أخذ؟، فقلت: ما رأيت الخليفة! قالوا: هل مر بك فارس على دابة شيتها كذا، وعليه من اللباس كذا! قلت: نعم، قالوا: وأين هو؟ فإنه الخليفة، قلت: بين أيديكم! ووجمت، ووقعت فيما لا ينادي وليده، وأقبلت أتذكر ما قلته له، وذكرت أصحابه عنده، حذرا من خطأ وقع فيه أو طعن سهوت به، وصرت إلى الديوان بالثريا، وأنا لا أعقل غما وهما، فأنا في تلك الحال إذ خرج عبيد الله بن سليمان من حضرة المعتضد بالله، واستدعى أبا العباس ابن الفرات صاحب الديوان، وأعاد عليه كل ما جرى بيني وبين المعتضد بالله، وأحمد عنده ما كان مني، وجزاني الخير، وخرج أبو العباس واستدعاني وسألني عن حالي في طريقي، وما جرى فيه لي معه، فحدثته حديث الفارس وما دار بيننا، فذكر أن الوزير أعاده عليه بعينه، وأقبل يحمد الله تعالى حسن توفيقه إياي فيما قلته وأجبت به، وأوصلني بالتحفظ فيما بعد.
١٩٦ - وحكى أبو علي عبد الرحمن بن عيسى أخو الوزير أبي الحسن علي بن عيسى أن أبا علي محمد بن عبيد الله الخاقاني كان لين العريكة قليل البصيرة، لا يدفع عن الشيء يخاطب عليه، ولا يتصور عواقب أمره فيه، فانبسطت العامة عليه فضلا عن الخاصة، وانقاد لكل محال! قال: فحدثني سبك المفلحي أن أحد القواد الأصاغر سأله أمرا، فقال: اكتب رقعة حتى أوقع لك فيما أردته، فأحضره بياضا وقال له: يوقع الوزير في آخره بالإجابة إلى المسؤول، لأكتب العرض فيه من بعد! فوقع له.
قال: وتأخر نصر بن الفتح كاتب مؤنس الخادم عن الخاقاتي ثم جاءه، فسأله عن سبب تأخره فقال له: لي بنت عزيزة علي، وهي عليلة، وأنا بها قلق وعليها مشفق ولأجلها متأخر! واتفق بعد انصرافه من بين يديه أن عرض عليه صك قد أنشئ على نصر بمال لبعض الوجوه، فوقع فيه: "أطلق أكرمك الله ذلك، وعرفني خبر الصبية إن شاء الله"! قال: وحدثني سبك المفلحي قال: سألته إثبات راجل معي بأربعة دنانير في كل شهر، فقال: أربعة دنانير كثير! وكررها، ومازال يحسبها حتى صارت ثمانية وأربعين دينارًا في السنة، وكتب: "تجري له ثمانية وأربعين دينارًا في المشاهرة"!.
وعرضت عليه رقعتان: إحداهما عن بعض الجند نفي استطلاق ما تأخر من رزقه، والأخرى من بعض حرمه، تستأذنه في دخول الحمام، فوقع تحت رقعة حرمته وعنده أنها رقعة الجندي: "قد حظر أمير المؤمنين ذلك، فلا سبيل إليه! " وتحت رقعة الجندي: "إذا خلونا كان الخطاب شفاهًا إن شاء الله! " فعجب والكتاب من هذا التوقيع، ووقعت المرأة على ذكر الخليفة وأنه حظر عليها دخول الحمام فلطمت واغتنمت كيف عرف الخليفة ذلك ومنع منه!.
١٩٧ - وحكى أبو الفرج السلمي الكاتب قال: حدثني أبو العباس بن النفاط قال: حدثني أبو عبد الله
1 / 52