"ميزت أكرمك الله بين حقك وجرمك، فوجدت الحق يوفي على الجرم، وذكرت من سالف خدمتك في المنازل التي فيها ربيت، وبين أهلها غذيت، ما ثناني إليك، وعطفني عليك، وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت، فثق أكرمك الله بذاك، واسكن إليه، وعول في صلاح ما اختل من أمرك عليه، واعلم أنني أراعي فيك حقوق أبيك التي تقوم بتوكد السبب مقام اللحمة والنسب، وتسهل ما عظم من جنايتك، وتقلل ما كثر من إساءتك، ولن أدع مراعاتها والمحافظة عليها إن شاء الله تعالى، وقد قلدتك أعمال قهستان لسنة ثمان وتسعين ومائتين وبقايا ما قبلها، وكتبت إلى أحمد بن محمد بن حبيش بحمل عشرة آلاف درهم إليك، فتقلد هذه الأعمال، وأظهر فيها أثرا حميدا يبين عن كفايتك ويؤدي إلى ما أحبه من زيادتك إن شاء الله."
١٩٤ - وحدث أبو علي بن القائي النصراني قال: كان بشر بن علي كاتب حامد صديقا لي ولأبي يعقوب أبي، فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة الثالثة، واستعرت الدنيا نارا بالمحسن ابنه وشره وتسلطه وتبسطه، طلب بشرا وأبا محمد بن عينونه في جملة من طلبه، وتتبعه وكبس عليه واستقصى في أمره، فأما بشر فإنه أخذ لنفسه عند القبض على حامد صاحبه، واستتر عندي، ولم أعلم أبي وأخي به خوفا أن يحلفا فيدلا عليه، واتفق أن كتب أخي إلى بشر رقعة ضمنها كل إرجاف وفضول، وما اطلع عليه من تقرر الأمر لأبي القاسم الخاقاني وقرب تقلده الوزارة، وبأنه قد أحكم له ما يريده منه، وأجابه بشر في تضاعيفها بما شاكل الابتداء، من غير تحفظ ولا تحرز، واختلطت الرقعة بين يدي أخي بمكاتبات وكلائه وحسبانات صنيعته، وغير ذلك مما لا فكر فيه؛ وكتب أبو أحمد عبيد الله بن محمد أخو أبي إبراهيم موسى بن محمد، وكان يتولى نصيبين، إلى المحسن بما قال فيه:"إن أردت ابن عينونه وعبد الرحمن بن عيسى بن داود فهما عند ابن القنائي"، فما شعر أبي وأخي في يوم واحد إلا بمريب خادم المحسن وقد كبسهما في جماعة من الرجالة، وفتش جميع الحجر والبيوت، ولم يبق غاية إلا بلغها في الاستقصاء والاحتياط في التفتيش والطلب، فلما لم ير أحدا عدل إلى ما كان بين أيديهما من رقاع حساب، فجمعه وحمله إلى المحسن، وفي جملته الرقعة إلى بشر وجوابه فيها، المشتملة على العجائب! ورأى أخي ذاك فمات في جلده؛ ولم يقصد أحد داري اكتفاء بما جرى على دار أبي وأخي، وسلم ابن عينونه، وكان في الوقت سكران لا فضل فيه لحركة! وقال ابن هندي: فحدثني أبو منصور بن فرخانشاه صهرنا قال: كان خبر الرقعة عندي، وأنها فيما أخذه مريب من الرقاع، فلم أزل أمشي خلفه، وهو متأبط بما أخذه، إذ انسلت الرقعة بعينها بتفضل الله تعالى من بين سائر تلك الكتب والرقاع وسقطت على الأرض، فأخذتها وبادرت إلى مستراح رأيته في الطريق مفتوحا، فطرحتها فيه، وهدأت نفسي عند ذلك.
قال: ومضى أبي وأخي مع مريب إلى المحسن، ووقف على الرقاع والكتب، فلم يجد فيها ما أنكره، فخاطبهما بالجميل، واعتذر إليهما، وعرفهما السبب الذي من أجله فعل! وجاءته رسالة أبي الحسن والده ينكر عليه فعله، وانصرفا مكرمين، وزالت المحنة والبلية عنهما بانسلال تلك الرقعة من بين تلك الرقاع المأخوذة، ولله الحمد والفضل والمنة والطول.
١٩٥ - وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: حدثني أبو الطيب أحمد ابن إسماعيل عمي قال: مضيت في يوم من الأيام على رسمي إلى الديوان بالثريا، فبينا أنا أسير لحقني فارس يسايرني، وأقبل يحدثني ويسألني عن اسمي وكنيتي ومنزلي وصناعتي، فلما ذكرت له مكاني مع أبي العباس بن الفرات قال: كيف مذهبه في العمل؟ قلت: أحسن مذهب، يستقصي حقوق سلطانه، ويستوفي مناظرة عماله، ويجد في استخراج أمواله!
1 / 51