١٦٤ - وبلغني عن آخر أنه أسرع في إتلاف ماله حتى بقيت منه خمسة آلاف دينار، فالتمس مثل ما ألتمس الأول، وأشير عليه بأشياء لم توافقه، فقيل له: ابتع بالمال إلا خمسمائة دينار مخروطا وبلورا، واجعله في بيت مصففا مصنفا واشرب عليه يومك، وأنفق الخمسمائة دينار في الجذور وما تحتاج إليه ذلك اليوم، فإذا فرغت فخل فيه فأرا وسنانير، فإن تلك تهرب وهذه تطلب، فيتكسر الجميع فلا يرجع منه شيء! فاستطاب ذلك وفعل، وكان يفرح بتكسير ذلك ويضحك، وقام جلساؤه فجمعوا الزجاج ووجدوا فيه صحيحا ومصدعا، وباعوه واقتسموا بدارهم صالحة من ثمنه، وتفرقوا عنه، ولا حديث لهم غير حديثه، فلما كان بعد سنة قال صاحب المشورة بالزجاج والفأر والسنانير: أمضي إلى ذلك المدبر .. فمضى فوجده قد باع قماش بيته وآلاته وأنفقه في قوته، ثم نقض داره وباع آلتها، ولم يبق غير دهليزها، وهو فيه نائم، تحته قطن وفوقه قطن من البرد وعدم الملبوس، فقلت له: يا مشؤوم ما هذا؟ قال: ما تراه! فقلت: بقيت في نفسك حسرة؟ قال: نعم، أشتهي أن أرى فلانة، المغنية التي كان يعشقها وأتلف المال عليها، وبكى بكاء شديدا، فرققت له، وأعطيته دست ثياب، فلبسها، وجئنا إلى بيت المغنية، فقدرت أن حاله قد أثابت، فأدخلتنا إليها وأكرمته، وبشت به، وسألته عن خبره، فصدقها عن الصورة، فقالت في الحال: قم لا تجيء ستي فتراك وليس معك شيء فتحرد علي لم أدخلتك الدار، فاخرج إلى الشارع حتى أصعد أكلمك من الروزنة! فخرج وجلس ينتظرها، فقلبت عليه مرقة السكباج فصيرته آية ونكالا، وضحكت فبكى بكاء شديدا، وقال: يا فلان بلغ أمري إلى هذا، أشهد الله تعالى وأشهدك أني تائب من كل ما يكرهه الله تعالى، فأخذت أطنز به وأقول: أي شيء تنفعك التوبة الآن!! فرجعنا إلى بيته، وأخذت الثياب عنه، وتركته بين القطن وانصرفت ولم أرجع إليه نحو ثلاث سنين؛ فأنا ذات يوم في باب الطاق، وإذا بغلام يطرق لرجل راكب، فرفعت رأسي وإذا به على برذون فاره بمركب مليح فضة محرقة، وعليه ثياب فاخرة، وكان من أولاد الكتاب وممن يركب الخيول الحسان الفرهة بالآلات الحسنة، ويلبس من الثياب الثمينة، فحين رآني قال: فلان؟ فعلت أن حاله قد صلحت، فقبلت فخذه وقلت: سيدي أبو فلان؟ قال: نعم، قلت: ما هذا؟ فقال: قد صنع الله تعالى فله الحمد، البيت البيت، فتبعته حتى انتهى إلى بابه، ونزل ودخل ودخلت معه، فإذا بالدار الأولية قد رتبها وجعلها صحنا فيه بستان، وجصصها وطبقها، وعمل فيها مجلسا حسنا عامرا، وجعل باقي الدار صحنا كبيرا، وقد صارت منزلا جيدا ليس على ما كانت عليه أولا، وأدخلني إلى حجرة كانت له قديما يخلو فيها، وقد أعادها أحسن مما كانت عليه، وقد فرش فيها فرشا حسنا، وفي داره أربعة غلمان وخادم وبواب وشاكري هو سائس دابته، وجلس فجاءوه بآلة حسنة مقتصدة نظيفة، وفاكهة متوسطة، وطعام نظيف كاف على قدر ما نحتاج إليه، فقدم وأكلنا، وجيء بنبيذ تمري حسن فجعلوه بين يدي، وبمطبوخ بين يديه، ومدت ستارة، وبخر موضع بعود مطرى، هذا كله وأنا متشوف إلى علم السبب في ذاك، وشربنا وغنت جارية من وراء الستارة غناء طيبا، فلما طابت نفسه قال: يا فلان تذكر أيامنا الأولية؟ قلت: نعم، قال: أنا الآن في نعمة متوسطة، وما قد رزقته من العقل والعلم بالزمان والإخوان أحب إلي من تلك النعمة، هو ذا ترى فرشي؟ قلت: نعم! قال لي: إن لم يكن ذلك الكثير فهو الذي يحتاج إليه، قلت: أجل، قال: وكذلك داري وآلتي وثيابي ومركوبي وطعامي وشرابي .. وأخذ يعدد ويقول: إن لم يكن ذاك المفرط ففيه جمال وبلاغ وكفاية، وقد تخلصت من تلك الشدة الشديدة! أتذكر يوم عاملتني المغنية لعنها الله بما عاملتني، وما عاملتني أنت أيضا من أخذك الثياب عني وتعريتي؟ فقلت: هذا قد مضى والحمد لله الذي أخلف عليك وخلصك مما كنت فيه، فعرفني من أين تجددت لك هذه النعمة، ومن هذه الجارية التي تغنينا؟ فقال: أما الجارية فاشتريتها بألف دينار وربحت تخريق الثياب والجذور والهدايا والألطاف وتلك الحماقات، وأما النعمة فإنه كان لأبي خادم بمصر وابن عم، وماتا في يوم واحد، وخلفا ثلاثين ألف دينار، فحملت إلي وأنا بين القطنين كما رأيت، فحمدت الله تعالى على ذلك، واعتقدت أني لا أبذر، وأنا أدبر أمري وأعيش عيشا وسطا صالحا طيبا، فعمرت الدار، واشتريت جميع ما فيها بخمسة
1 / 41