وكتب صاحب الخبر إلى المتوكل قي الوقت بما جرى، فلما وقف المتوكل على الحال تقدم بالقبض على الرخجي وتقييده، وقال لوزيره: حاسب هذا الخائن المقتطع لأموالنا حتى حفظها الله تعالى بقاضينا محمد بن منصور، وقد ظهرت أموالنا عليه بإقراره في سقطات قوله وفلتات فعله، وهذه عادة الله تعالى عند أئمة عباده أن يأخذ لهم أعداءهم كذلك، اكتب الساعة في أمره بما رسمته واحمله مقيدا مغلولا، فخرج الوزير وهو على غاية القلق لعنايته بالرخجي، واستدعى خليفته على الباب وقال له: اكتب إليه الساعة: "قد تسرعت يا مشؤوم، وقتلت نفسك، ما الذي دعاك إلى معاداة القضاة! " وقل له: "قد جرى كيت كيت، وأنت مقتول إن لم تتلف أمر محمد بن المنصور، فاجتهد فيه" وأعلمه أنني هو ذا أؤخر ما أمر الخليفة به فيه اليوم فقط إلى أن يحكم أمره مع القاضي، وأقول للخليفة إني قد أنفذت إليه من يقبض عليه، وأنفذ إليه في الغد! فلما ورد ذلك على الرخجي قامت قيامته، وأحضر من يخصه فشاوره فقال له: تركب الساعة إلى القاضي وتطرح نفسك عليه .. فركب إليه في موكب عظيم، فحجبه ولم يوصله، واجتهد في الوصول إليه، فلم يكن إلى ذلك طريق، فرجع حيران، وقال لأصحابه: ما ترون فإني أخاف أن يرد العشية من يقبض علي! فقيل له: إن للقاضي رجلا يخصه، وقد قدمه وعظمه وأنس به، ويريد أن يسمع شهادته، وهو غالب عليه جدا، فتستدعيه وتكتب له روزا بشيء من خراجه ترغبه فيه، وتسأله أن يوصلك إليه ويستصلحه لك! فأحضره الرخجي، وكتب له روزا بألف دينار من خراجه وسأله ذلك، فقال: أما استصلاحه لك فلا أضمنه، ولكن أوصلك إليه، فقال له: قد رضيت، فقال: إذا كان الوقت المغرب فانتظرني! وخرج الرجل، فلما كان المغرب جاءه وقال: تلبس عمامة وطيلسانا وتركب حمارا وتجيء وحدك، ففعل ذلك وركبا بغير سمعة، وجاء الرجل فقال للحاجب: استأذن لي على القاضي ولصديق لي معي؛ فدخل إليه وخرج إليهما وقال: ادخلا، فدخلا، فحين شاهده القاضي صاح على الرجل وقال له: ادخلا، فدخلا، فحين شاهده القاضي صاح على الرجل وقال له: أتحتال وأنت أمين مرشح للشهادة! ثم قال للرخجي: اخرج عافاك الله عن داري! قال: فبادر الرخجي إلى رأسه فقبله، فلماذا رآه القاضي قد فعل ذلك قام إليه وعانقه وجلسا، وبكى الرخجي بين يديه، ودفع الكتاب إليه، فبكى القاضي وقال: عزيز علي يا هذا ما كان اضطرك إلى الإقرار بما أقررت به! قال: غلطت وأخطأت وغفلت، فتحتال الآن في أمري؟ فقال: والله ما لي حيلة، فإن الحكم كالسهم إذا خرج لم يمكن رده! فجهد به الرخجي فما زاده على هذا، وانصرف بأقبح منصرف، فما كان من الغد ورد خادم فقبض عليه، وغله وقيده، وحمله، وورد كتاب الخليفة إلى القاضي:"أحسن الله تعالى جزاءك على ما فعلته في أموال المسلمين، وقد كنا نأمر بمحاسب هذا الرجل فنؤخر ذلك لعوائق، والآن فقد أقر طائعا غير مكره بما في ذمته، وما نؤثر معاملته إلا بما يعمله أهل الذمة لو كانوا في مكاننا من أخذ الحق بالحكم، وقد أنفذته على الواجب بارك الله عليك وله أملاك قبلك، فتنصب من يبيعها وتحمل ثمنها إلى بيت المال" ففعل ذلك، وهي الأملاك التي تعرف الآن بالرخجيات، وجعل الرخجي في العذاب بسر من رأى.
وحدث الحسين بن عياش قال: كان جحظة لما أسن يفسو في مجالسه، فيلقي من يعاشره منه جهدا، وكنت أحب غناءه، والكتابة عنه لما عنده من الآداب، وكان عشيري، فكنت إذا جلست عنده أخذت عليه الريح، فجئته يوما في مجلس الأدب، والناس عنده، وهو يملي، فلما خفوا قال لي ولآخر كان معي: اجلسا عندي حتى أقعد كما على لبود، وأطعمكما طباهجة بكبود، وأسقيكما من غناء المسدود! فقلنا: هذا موضع سجدة! وجلسنا وصدبقي لا يعرف خلقه في الفساء، وأنا قد أخذت الريح فوقي، فوفى لنا بجميع ما ذكره: وقال لنا وقد غنى وشربنا: نحن بالغداة علماء، وبالعشي في صورة المخنكرين! فلما أخذ النبيذ منه أقبل يفسو، وصديقي يغمرني ويتعجب، فأقول: إن ذلك عادته وخلقه، وإن سبيله لي يحتمل، إلى أن غنى صوتا من الشعر، والصنعة له فيه، وكان يجيده جدًا:
إنَّ بالحيرةِ قسَّا قد مجنْ ... فتنَ الرُّهبانَ فيها وافتتنْ
ترك الإنجيلَ حبَّا للصِّبا ... ورأى الدُّنيا مجونًا فركنْ
1 / 39