وما من أحد له مصلحة في إنكار التفاوت بتة بين الجنسين كمصلحة الماركسيين أو الشيوعيين في إنكاره وإثبات المساواة أو المماثلة التامة بين الذكور والإناث؛ لأنهم ينظرون إلى المرأة كأنها وحدة اقتصادية يمكن استغلالها إذا بطل استغلال الرجال، فلا يريدون أن يثبتوا بينها وبين الرجل فرقا يسمح بهذا الاستغلال في دولة رأس المال.
ولكنهم على هذه الرغبة الملحة عندهم في تقرير المساواة بين الجنسين والإغضاء عن الحقائق التي تنفيها لم يقدروا على المماراة طويلا في هذه المغالطة الموائمة لمذهبهم، وأعلنوا في نشرة الأخبار الحكومية التي أذيعت في أوائل السنة الماضية أن تجاربهم الطويلة في تعليم الصبيان والبنات قد دلت على فارق واضح بينهم يلاحظ عليهم في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة وما حولها، فكانت النتائج تختلف اختلافا بينا مع وحدة السن والمجهود، ويظهر هذا الاختلاف في طاقة العمل عند الصبي والبنت مع تعدد التجارب والبيئات.
ولا يخفى أن عدد الصبيان والبنات الذي يقع تحت الملاحظة الحكومية بمدارس الشيوعيين هو أكبر عدد يتيسر لأصحاب مذاهب التربية في قطر من الأقطار؛ ففي بلادهم مائة وخمسون مليونا يذهب أبناؤهم وبناتهم جميعا إلى المدارس من سنواتهم الباكرة، وينشأ هؤلاء الأبناء والبنات في بيئات الشمال والجنوب، وفي مدن الصناعة وقرى الزراعة، وبين الشعوب الأوروبية والآسيوية من عناصر شتى.
وقد كان أناس من أساطين علم النفس بين علماء العصر الحديث يقاربون هذه المسألة الجلى - مسألة تعليم الجنسين - بعناية دون العناية التي تنبغي لأمثالها وتنبغي لهم وهم يطرقون المباحث التي تتصل بتهذيب النفوس ومصير الأجيال، ومنهم من في طبقة «ألفرد أدلر» الذي خطر له أن يناظر «فرويد» في دراساته النفسية المشهورة، وهي فتح عظيم في تاريخ المعرفة الإنسانية. فأدلر يقول في موضوع تعليم الجنسين من كتابه عن فهم الطبيعة الإنسانية: «إن أهم المنشآت التي أقيمت لتحسين العلاقات بين الجنسين هي التي أنشئت للتعليم المشترك بينهما.» ثم يقول: «إن هذه المنشآت لا تقابل باتفاق الآراء، لأن لها خصوما كما لها أصدقاء.»
ولكنه هو يقطع بالرأي في ثنايا عرضه لأقوال الأصدقاء والخصوم حيث يقول: «إن أصدقاءها يجعلون أقوى برهان لهم على صلاحها أن الجنسين - خلال التعليم المشترك بينهما - تنفسح لهما الفرص ليفهم كل منهما صاحبه في السن الباكرة، فيقضي هذا التفاهم على الموروثات الوهمية ويمنع عواقبها الضارة جهد المستطاع. أما خصومها فيجيبون عادة بأن الصبيان والبنات يكونون في سن المدرسة قد بلغوا من الاختلاف حدا يزيد الشعور به والانتباه إليه عند الاختلاط في معهد واحد؛ لأن الصبيان يحسون أنهم مرهقون، ويداخلهم هذا الإحساس مما يشاهد على البنات من أنهن أسرع في النمو الذهني خلال هذه السن الباكرة، فإذا اضطر هؤلاء الصبيان إلى المحافظة على مزيتهم وإقامة البرهان على تفوقهم بدا لهم فجأة لا محالة أن مزيتهم في الحقيقة إن هي إلا فقاعة صابون ما أسهل ما تنفجر وتزول.
ويقول بعض الباحثين غير هؤلاء: إن الصبيان في المعاهد المشتركة يقلقون أمام البنات ويفقدون كرامتهم في نظر أنفسهم ... ولا محل للشك في اشتمال هذه الأقوال على نصيب من الصدق والرجاحة، ولكنها لن تصمد للاختبار إلا إذا نظرنا إلى تعليم الجنسين معا كأنه ميدان للتنافس بينهما على قصب السبق في الملكة والكفاءة، وهي نظرة وبيلة إن كان هذا هو غرض التعليم عند الأساتذة والتلاميذ. وما لم نوفق إلى أساتذة يرون في التعليم المشترك رأيا أفضل من اعتقادهم أنه سبيل إلى التدرب على التنافس أو التنازع المقبول بين الجنسين في المجتمع؛ فكل محاولة للتعليم المشترك فاشلة إذن لا محالة، ولن يرى خصومه من النتائج المحتومة إلا دليلا على صوابهم بما أصابه من إخفاق.»
ثم يستطرد أدلر فيقول: «وما أحوجنا إلى خيال شاعر لتصوير الحالة كلها في صورتها الصحيحة، فلنقنع من ثم بالإشارة إلى المواضع البارزة منها، ومنها أن الفتاة الناشئة تتصرف فعلا تصرف من يشعر بالضعة، ويصدق عليها تماما ما قلناه آنفا عن الرغبة في التعويض عند ابتلاء الإنسان بذلك الشعور، وإنما الفارق هنا أن شعور الضعة مفروض على الفتاة بحكم بيئتها، وأنها تساق إلى هذا الاتجاه سوقا حثيثا يدعو الباحثين ذوي النظر الثاقب أحيانا إلى تصديق هذه الضعة فيها، وليس لهذا الوهم من نتيجة إلا النتيجة العامة التي يندفع إليها الجنسان حين يتعجلان خطط التزاحم والتنافس التي تشغل كلا منهما بغير ما يعنيه وما يصلح له.»
وقرار المشرفين على تعليم الجنسين بالمدارس الروسية مفيد في استدراك هذه التخريجات والتعليلات التي ذهب إليها أدلر قبل أن توغل في طريقها إلى تلك النتائج المزعومة.
إذ لا يمكن أن يقال: إن فصل الجنسين بالمدارس الروسية ناشئ من شعور الضعة المفروض على الفتاة أو البنت الصغيرة؛ لأن النساء الروسيات من سن الأربعين فنازلا قد نشأن على عقيدة التساوي بين الجنسين ولم تفرض عليهن البيئة عقيدة غيرها منذ فتحن أعينهن إلى الآن، ولو غلا الدعاة الروسيون إلى أحد الطرفين لجاز أن يكون غلوهم في تقرير هذه العقيدة وتوكيدها لا في إدحاضها وإضعافها، فليست هناك ضعة مفروضة على الفتاة بحكم بيئتها ولا يوجد هناك من يسوقها إلى هذا الاتجاه سوقا حثيثا يوهم الباحثين ذلك الوهم الذي توهمه أدلر من بعيد.
ومع هذا سجل الباحثون الروسيون أن الفرق حاصل بين الجنسين في أدوار التعليم، وتبين لهم أن الصبي من سن العاشرة إلى الرابعة عشرة يعاني من تجميع القوى في بنيته عناء يثقل عليه فيبطئ نموه بعض الإبطاء، وعلى خلاف هذا يطرد النمو في البنات بين العاشرة والرابعة عشرة فيزدن في الوزن والطول فضلا عن استعداد الفهم والمعرفة.
صفحة غير معروفة