هذه الشجرة
غواية المرأة
جمال المرأة
تفاوت الجنسين
تناقض المرأة
حب المرأة
أخلاق المرأة
حقوق المرأة
الجنس
الحب
معاملة المرأة
هذه الشجرة
غواية المرأة
جمال المرأة
تفاوت الجنسين
تناقض المرأة
حب المرأة
أخلاق المرأة
حقوق المرأة
الجنس
الحب
معاملة المرأة
هذه الشجرة
هذه الشجرة
تأليف
عباس محمود العقاد
هذه الشجرة
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين [الأعراف: 19-22].
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [البقرة: 35، 36].
رأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان ... ونادى الرب آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي، هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت. فقال الرب للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه.
العهد القديم «الإصحاح الثالث، سفر التكوين»
هي القصة الخالدة في الأديان الكتابية.
وهي الرمز الخالد إلى طبيعة المرأة التي لا تتغير: هي تفعل ما تنهى عنه وهي تغري الرجل، وفي كل من هذين الخلقين دليل مجمل على خلائق أخرى مفصلة تنطوي في ذلك الرمز الكبير. •••
قال الشاعر الجاهلي طفيل الغنوي:
إن النساء كأشجار نبتن لنا
منها المرار، وبعض المر مأكول
إن النساء متى ينهين عن خلق
فإنه واجب لا بد مفعول
وقد ألهم هذا الشاعر البدوي - ابن الفطرة وابن البادية - خلاصة قصة الشجرة في بيتيه المطبوعين، وخلاصتها أن المرأة تغري بأكل المر الذي لا يساغ أو لا يسوغ، وأنها تفعل ما تنهى عنه، فهو عندها «واجب لا بد مفعول».
وكل خلق كامن في المرأة يظهر من هذا الولع بالممنوع.
فلم كانت كذاك؟ ألأنها ضعيفة؟ لا، إن قبل ذلك خطوة نخطوها ثم نصل منها إلى هذه الخطوة التالية.
قبل ذلك أنها محكومة، ثم هي محكومة لأنها ضعيفة، وما زال من دأب المحكوم أن يحن إلى التمرد والعصيان، وأن يلتذ المخالفة للمسيطرين عليه؛ لأنه بهذه المخالفة يثبت وجوده أو يستوفي حياته، فهي عنده ضرب من حب الحياة.
وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا
كما قيل.
نعم إلى الإنسان كافة لا إلى المرأة خاصة، ولكن المرأة قد خصت بهذه الشهوة لأنها محكومة لا تحكم غيرها إلا من طريق الإغراء، أو تنبيه النفوس إلى ما هو «شهي، بهجة للعيون» كما جاء في العهد القديم. •••
كل خلق من أخلاق المرأة مرموز إليه في قصة «هذه الشجرة»، ومن هنا اخترنا الإشارة إليها عنوانا لهذا الكتاب.
فالولع بالممنوعات خلاصة طبائع المرأة التي تنمي إلى أسباب كثيرة ولا تنحصر في سبب واحد.
ولكن السبب الأكبر منها أنها تؤمر وتنهى كثيرا، وأنها تؤمر وتنهى لأنها أضعف من آمرها وناهيها، ولا تزال معه أبدا بين لذة الخضوع ولذة العصيان، ولعلها لا تعصي إلا لتعود كرة أخرى إلى خضوع أعمق وأشهى من خضوع البداية والارتجال.
ولا تولع المرأة بالممنوع لأنها محكومة وكفى، أو لأنها محكومة لضعفها واعتمادها على من يمنعها.
بل هي تولع بالممنوع لأنها تتدلل، ولأنها تسيء الظن، ولأنها تعاند ، ولأنها تجهل وتستطلع، ولأنها موهونة الإرادة لا تطيق الصبر على محنة الغواية والامتناع.
وكل أولئك عنوان لخصلة أخرى من ورائها: هي خصلة الضعف الأصيل.
هي تتدلل لأن قيمتها موقوفة على غيرها، أو معلقة بنظرة غيرها إليها؛ فهي تحب أن تعرف قيمتها، ولا تعرف قيمتها إلا بمقدار ما تكلف الرجل من الصبر عليها واحتمال الدالة المحببة منها.
والدلال نوع من الإباء، أو نوع من المخالفة والعصيان، وإغراء بتكرار الطلب وتكرار الممانعة ... ويتمنعن وهن الراغبات!
ولو لم تكن قيمتها معلقة بمشيئة غيرها لما كانت بها حاجة إلى الدلال، ولا إلى توابع الدلال من المكابرة والولع بالممنوع. •••
وهي تسيء الظن كما تسيء الظن كل رعية محكومة.
فالرعية التي طال عليها عهد التسلط والحكم تحسب كل أمر من الحاكم شيئا يفيده ولا يعنيها، وتحسب كل نهي من الحاكم مصلحة تهمه ولا تهمها، واجتنابا لمحظور يسوءه ولا يسوءها.
فينبعث منها سوء الظن بداهة وفطرة كلما دعيت إلى فريضة أو نهيت عن محظور.
وتلج بها رغبة المخالفة بغير بحث ولا روية، بل تخالف ولها منفعة في الطاعة؛ لأن المخالفة هوى والمنفعة تفكير، وما زال الهوى في النفوس أقوى عليها من التفكير.
فالمرأة تحسب أبدا أن سيدها ينهاها لأنه يريد أن يستأثر بها ويخشى من المزاحمة عليها، فتلك رغبته إذن لا رغبتها، ومتعته إذن لا متعتها، وهي إذن تنصف نفسها كلما تمردت عليه، وتحقق غرضا لها كلما فوتت عليه غرضا من أغراضه، أو هكذا توحي إليها بداهة المخالفة بغير روية ولا بحث مفيد في حقائق الأسباب. •••
ثم هي تعاند عناد الضعيف.
وعناد الضعيف شيء آخر غير تمرد المحكوم، وإن كان كلاهما قريبا من قريب في العنصر الأصيل.
فالضعيف يتشبث بالحياة لأنه مهدد في الحياة، ومن تشبثه بالحياة تشبثه بالهوى، وتشبثه بالعادة التي يدرج عليها، ويخيل إليه أن الفناء في التحول عنها.
وفي الطفولة تشبث كثير.
وفي الشيخوخة تشبث كثير.
وفي الأنوثة تشبث كثير.
والخاسر على مائدة اللعب يتشبث بالبقاء عليها ولا يطيب له أن يفارقها، وكل أولئك باب من أبواب العناد المطبوع غير عناد المحكوم، أو غير الولع في الخاضع الذليل بالعصيان والإباء.
فهذا العناد وليد الخوف، وذاك العناد وليد الغضب، وليس الخائف كالغاضب في بواعث الشعور. •••
ثم هي تولع بالممنوع لأنها تجهل وتستطلع وتشبه الطفل الناشئ في غريزة الجهل والاستطلاع.
والجهل والاستطلاع مولعان بالهدم قبل الولع بالبناء.
فهما لا يذعنان إلا بعد معرفة يطول تحصيلها، وقبل الوصول إلى تلك المعرفة يأبيان الإذعان ويستريحان إلى الممانعة والتعويق والتحطيم. •••
أما ضعف الإرادة فهو عذاب بين يدي الغواية لا يخلص منه الضعيف إلا بمقارفة الشيء الممنوع، فينتهي بذلك عذاب الفتنة والإغراء والمصابرة والامتناع.
فإذا وضع بين يدي الضعيف قدح من الماء القراح وقيل له: لا تشرب منه، شرب منه وهو غير ظمآن.
لأنه يريد أن يمتنع فتنازعه الرغبة، ويريد أن يكبح الرغبة فيعذبه الكبح، ويريد أن يحتمل العذاب فيعييه الاحتمال. فهو ضعيف مع الرغبة، ضعيف مع الكبح، ضعيف مع العذاب، ضعيف مع هذا التردد كله لا يريحه منه إلا أن يفعل ما نهي عنه، ويفض المشكلة بهذه النهاية.
فهو يشرب الماء القراح لأنه يفض مشكلة الامتناع عنه، لا لأنه ظمآن إلى الماء القراح.
والشيطان حين قال لآدم وحواء:
ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين [الأعراف: 20]، قد ألهب في حواء كل علة من علل المخالفة والولع بالممنوع، وسول لها الغواية والإغراء.
فأكلت وزينت لآدم أن يأكل مثلها.
فتمت بذلك صفات الضعف كلها؛ لأن الإغراء علامة المشيئة التي تصل إلى بغيتها من طريق التحسين وإثارة الشهوة في غيرها، لا من طريق الأمر والإخضاع أو من طريق الغلبة بالشهوة الطاغية على شهوة أخرى.
وكأنما لسان الحال الذي تنطق به المرأة في هذا المقام: إنك أيها الرجل تخضعني وأنا أغريك! أنت تخضعني بسلطانك، وأنا أخضعك بما أتيح لك من «شهوة النظر وبهجة العيون». •••
فهذه الشجرة ...
هذه الشجرة التي أكلت منها المرأة لأنها نهيت عنها، والتي طعمت منها ثم أطعمت آدم معها ...
هذه الشجرة هي عنوان ما في المرأة من خضوع يؤدي إلى لذة العصيان، ومن دلال يؤدي إلى لذة الممانعة، ومن سوء ظن، وعناد ضعف، واستطلاع جهل، ومن عجز عن المغالبة، وعجز عن الغلبة بغير وسيلة التشهية والتعرض والإغراء.
وهذه هي قصة «الأنثى الخالدة» كلها في كلمتين.
غواية المرأة
والولع بالإغراء والإغواء أخو الولع بالمخالفة والعصيان.
كلاهما دليل على رجوع الأمر إلى الآخرين.
فالمخالفة دليل على أن المخالف محكوم لغيره، والإغواء دليل على أنه يرجع إلى غيره في العمل ويعتمد عليه.
فهما ثمرتان من «هذه الشجرة» أو هما خصلتان من خصال الأنوثة الخالدة في الصميم.
تتعرض المرأة وتنتظر، والرجل يطلب ويسعى.
والتعرض هو الخطوة الأولى في طريق الإغراء، فإن لم يكف فوراءه الإغواء بالتنبيه والحيلة والتوسل بالزينة والإيماء، وكل أولئك معناه تحريك إرادة الآخرين، والانتظار.
فإرادة المرأة تتحقق بأمرين: النجاح في أن تراد، والقدرة على الانتظار.
ولهذا كانت إرادة المرأة سلبية في الشئون الجنسية على الأقل، إن لم نقل في جميع الشئون.
ولعل كلمة «لا» سابقة لكل نية تمتحن بها المرأة إرادتها وصبرها، فأحوج ما تكون إلى الإرادة والصبر حين تنوي ألا تتقدم ولا تسلم ولا تجيب ولا تطيع.
وهنا تتصل هذه الخليقة فيها بخليقة العناد التي سبقت الإشارة إليها.
وقوام العناد كله أن يقاوم المعاند رغبة الآخرين وعمل الآخرين.
فالإرادة التي تتمثل في العزيمة مذكرة، والإرادة التي تتمثل في العناد مؤنثة، أو هذا هو شأن الإرادتين في غالب الأحوال. •••
وليس للمرأة أن تريد غير هذا النوع من الإرادة لأسباب عميقة في أصول التركيب والتكوين.
وموقف الجنسين من الاستجابة لمطالب النوع يهدينا إلى حكمة هذا الفارق من طريق قريب.
فالذكور من جميع الحيوان قد أعطيت القدرة - بتركيبها الجسدي - على إكراه الإناث لاستجابة مطالب النوع طائعات أو مقسورات.
ولا يتأتى ذلك للإناث على حال من الحالات الجسدية؛ فغاية ما عندهن من وسيلة أن يهجن الرغبة في الذكور، وأن يجعلنهم يريدون ولا يستطيعون الامتناع عن الإرادة.
فهذا الفارق ملحوظ في أعمق أعماق التركيب الجسدي من كلا الجنسين ، منذ نشأ الفارق بين ذكر وأنثى في عالم الحيوان.
وحكمته ظاهرة كل الظهور؛ لأنها هي الحكمة التي توافق بقاء النوع وارتقاء الأفراد جيلا بعد جيل.
فالإغواء كاف للأنثى ولا حاجة بها إلى الإرادة القاسرة.
بل من العبث تزويدها بالإرادة التي تغلب بها الذكور عنوة؛ لأنها متى حملت كانت هذه الإرادة مضيعة طوال مدة الحمل بغير جدوى.
على حين أن الذكور قادرون إذا أدوا مطلب النوع مرة أن يؤدوه مرات بلا عائق من التركيب والتكوين، وليس هذا في حالة الأنثى بميسور على وجه من الوجوه.
وإكراه الأنثى على تلبية إرادة الذكر لا يضير النوع ولا يؤذي النسل الذي ينشأ من ذكر قادر على الإكراه وأنثى مزودة بفتنة الإغواء، فهنا تتم للزوجين أحسن الصفات الصالحة لإنجاز النسل من قوة الأبوة وجمال الأمومة، ويتم للنوع مقصد الطبيعة من غلبة الأقوياء الأصحاء القادرين على ضمان نسلهم في ميدان التنافس والبقاء.
وعلى نقيض ذلك لو أعطيت الأنثى القدرة على الإرادة والإكراه لكان من جراء ذلك أن يضمحل النوع ويضار النسل؛ لأنه قد ينشأ في هذه الحالة من أضعف الذكور الذين ينهزمون للإناث.
وكيفما نظرنا إلى مصلحة النوع وجدنا من الخير له أبدا أن يتكفل الذكور بالإرادة والقوة، وأن تتكفل الإناث بالإغواء والتلبية، بل وجدنا أن فوارق البنية قد جعلت السرور في كل من الجنسين قائما على هذا الأساس العميق في الطباع، فلا سرور للرجل في إكراهه على مطلب النوع، بل هو منغص له مضعف من لذة حسه. أما المرأة فقد يكون استسلامها لغلبة الرجل عليها باعثا من أكبر بواعث سرورها، ولعله أن يكون مطلوبا لذاته كأنه غرض مقصود، بل هو في الواقع غرض مقصود لما فيه من الدلالة على توفق الأنثى إلى إغواء أقوى الذكور، ومن البداهات الفطرية أن تتظاهر المرأة بالألم والانكسار في استجابتها للنوع لأنها تفطن ببداهتها الأنثوية إلى هذا الفارق الأصيل في خصائص الجنسين.
وليس بنا أن ننظر في العدل الطبيعي بين خصائص الذكور وخصائص الإناث، وإنما نسجل هذه الحقائق بالملاحظة الصادقة والدلالة الواضحة ولا يعنينا أن ننصب لها ميزان العدل في توزيع الطبائع والملكات.
ولكننا مع هذا القول نعود فنقول: إن العدل هنا بين الجنسين غير مفقود، وإن القسمة هنا ليست بالقسمة الضيزى.
فإذا قيل: إن الحمل قد جنى على المرأة لأنه خصها بالألم وجعل الإرادة من نصيب الرجل، فلا ينبغي أن ننسى أن الحمل قد أتاح للمرأة مزية فطرية لا تتاح لزوجها على وجه اليقين، وهي ضمان نسلها بغير دخل ولا ارتياب، فكل من ولدت المرأة فهو وليدها الذي يستحق عطفها وحنانها، وليس ذلك شأن الآباء فيمن ينسب إليهم من الأبناء.
وما من أم تسأل عن ألم الحمل إلا تبين من شعورها أنها تستعذبه ولا تتبرم به، وأنها قد تشعر بغبطة من الألم لا يعرفها الرجال الذين يثورون على الآلام، ومن امتزاج الألم بطبيعة المرأة أصبحت التفرقة بين ألمها ولذتها في رعاية الأبناء من أصعب الأمور. •••
وعلى هذا يعتز الرجل بأن يريد المرأة ولا تعتز المرأة بأن تريده؛ لأن الإغواء هو محور المحاسن في النساء، والإرادة الغالبة هي محور المحاسن في الرجال.
ولهذا زودت الطبيعة المرأة بعدة الإغواء وعوضتها بها عن عدة الغلبة والعزيمة، بل جعلتها حين تغلب هي الغالبة في تحقيق مشيئة الجنسين على السواء.
ولكن التفرقة في عدة الغواية واجبة بين ما هو من صفات الجنس كله وما هو من صفات هذه المرأة أو تلك من أفراد النساء.
فقد تكون المرأة من النساء أذكى وأبرع من هذا الرجل أو ذاك، فتأخذه بالحيلة والدهاء كما يغلب الأذكياء الجهلاء في كل مجال يتصاولون فيه.
إلا أنها صفة فردية لا يقاس عليها عند بيان الصفات الجنسية التي خصت بها «المرأة» على التعميم.
وهذه الصفات الجنسية هي التي تعنينا في هذا المقام؛ لأنها التراث المشترك بين جميع بنات حواء في مواجهة الجنس الآخر، وهو جنس الرجال.
فالذي يساعد المرأة من قبل الطبيعة على إغراء الرجل هو «الهوى الجنسي» في تركيب الرجل نفسه؛ فلولا هذا الهوى لكانت حيلتها معه من أضعف الحيل وسلطانها عليه كأهون سلطان.
ومما يرينا أن الطبيعة هي العاملة هنا وليست المرأة هي التي تعمل بقدرتها واحتيالها أن هواها في نفس الرجل شبيه بكل هوى ينمو فيه بحكم العادة أو الفطرة، فهو يعاني مقاومة التدخين أو معاقرة الخمر عناء يجهده ويغلبه على مشيئته في كثير من الأحيان، ولو كان للتبغ أو للخمر لسان يتكلم لجاز أن يتحدث الناس عن لسانهما المعسول الذي يخلب العقول، وعن حيلتهما النافذة التي تسلب الرشاد.
والأداة البالغة من أدوات الإغواء والإغراء هي قدرة المرأة على الرياء والتظاهر بغير ما تخفيه.
فهذه الخصلة قد تسمو فيها حتى تبلغ رتبة الصبر الجميل والقدرة على ضبط الشعور ومغالبة الأهواء، وقد تسفل حتى تعافها النفوس كما تعاف أقبح الختل والنفاق.
أعانتها عليها روافد شتى من صميم طبيعة الأنوثة التي يوشك أن يشترك فيها جميع الأحياء.
فمن أسباب هذه القدرة على الرياء أو هذه القدرة على ضبط الشعور أن المرأة قد ريضت زمنا على إخفاء حبها وبغضها لأنها تخفي الحب أنفة من المفاتحة به والسبق إليه وهي التي خلقت لتتمنع وهي راغبة، وتخفي البغض لأنها محتاجة إلى المداراة كاحتياج كل ضعيف إلى مداراة الأقوياء.
ومن أسباب القدرة على الرياء أو القدرة على ضبط الشعور أن الأنوثة «سلبية» في موقف الانتظار، فليس من شأن رغباتها أن تسرع إلى الظهور والتعبير، أو ليس من شأنها أن تفلح بالظهور والتعبير كما تفلح رغبات الذكور.
ومن أسباب القدرة على الرياء أو القدرة على ضبط الشعور أن مغالبة الآلام قد عودتها مغالبة الخوالج النفسية ما دامت في غنى عن مطاوعتها والكشف عنها.
ومنها أن اصطناع الزينة الذي استقر في خليقتها إنما هو في لبابه اصطناع لكل ظاهر يحس بالأبصار والأسماع أو يحس بالضمائر والأفهام، وفي اللغة العربية توفيقات كثيرة في الجمع بين الحقيقة المادية والحقيقة المجازية بكلمة واحدة، ومنها كلمة «التجمل» التي تفيد معنى التزين لمرأى العيون كما تفيد معنى التزين لمرأى النفوس.
ولرسوخ هذه الطبيعة الأنثوية في تكوين المرأة، شغفت بالرياء لغرض تعنيه ولغير غرض تعنيه في كثير من الأحوال كأنها وظيفة حيوية تستمتع بالمعالجة والرياضة كما تستمتع الأعضاء بالحركة والنشاط؛ فالغش عند المرأة - كما قلنا في رواية سارة: «كالعظمة عند فصائل الكلاب، يعضها الكلب المدلل ويدخرها حيث يعود إليها وإن شبع جوفه من اللبن واللحم والأغذية المشتهاة؛ لأن ألوفا من السنين قد ربت أسنانه وفكيه على قضم العظام وعرقها، فهو يطلبها ليجهد أسنانه وفكيه في القضم والعرق ولو لم تكن به حاجة إلى أكلها. وألوف من السنين قد غبرت على المرأة وهي تخاف وتحتال وتراوغ وترائي وتلعب بمواطن الضعف في الرجال حتى أصبح بعض النساء ممن قويت فيهن عناصر الوراثة وبرزت في طباعهن عقابيل الرجعة ينشدن الغش التذاذا به وشحذا للأسنان القديمة التي نبتت عليه، ويسرهن أن يصنعن الشيء ويخفينه ولو لم تكن بهن حاجة إلى صنعه ولا إخفائه لأن المرأة من هؤلاء تشتهي العظمة بجوع عشرين ألف سنة، وتشتهي اللحم واللبن بجوع ساعات.» •••
وقد يعين المرأة على الرجل - غير الهوى وغير الخداع - خلق آخر هو في الحقيقة خلق يعين الرجل على نفسه، وليس عمل المرأة فيه إلا من قبيل الإذكاء والتنبيه.
فالمرأة «سكن» للرجل كما جاء في القرآن الكريم.
ولا يطيب للإنسان أن يحذر من سكنه أو يتجافى عن الهدوء والطمأنينة فيه، ولا تتم سعادته به إلا أن ينفي عنه الحذر ويقبل عليه بجمع فؤاده وطوية ضميره، فهو الذي يغمض عينيه بيديه ويستنيم إلى الرقاد هربا من السهاد. ونصف ما يقبله من الخداع إنما هو الخداع الذي نسجه بيمينه وزخرفه بتلفيقه، وكذلك المرأة إذا تعلقت بالرجل كانت أسبق منه إلى التصديق وكان خداعه إياها أسهل من خداعها إياه.
ومن غوايات المرأة الكبرى أنها قصبة السبق في حلبة التنافس بين الرجال.
فالظفر بها يرضي كل شعور يحيك بقلب الرجل، سواء منه ما يتناوله بإدراكه ووعيه وما ليس يدركه ولا يعيه.
وقد اختلف أصحاب المذاهب الفلسفية في تعليل نوازع الحياة التي تفسر بها أعمال الناس وترد إليها، فقال بعضهم إنها طلب القوة، وقال غيرهم إنها طلب البقاء، وزعم غير هؤلاء وهؤلاء أنها طلب اللذة، وجاء آخرون في العصر الحاضر فتغلغلوا بالنوازع الجنسية وراء كل غريزة ونفذوا بها إلى كل سرداب من سراديب النفس الخفية.
وأيا كان موضع الصدق من هذه النوازع فالمرأة معها جميعا تطلق شعور القوة وشعور البقاء وشعور اللذة وتتقصى وشائج الجنس إلى جذورها الكامنة في أعرق بواطن الحياة.
وما الظن بقصبة السبق التي تستطيع أن تستدني من تشاء وتنأى عمن تشاء؟
إن المتسابقين ليتناحرون على القصبة الخرساء وهي لا تحكم لهم بشيء ولا تفاضل بين يمين ويمين، فالمرأة - تلك القصبة التي تحابي وتجافي - حرية ألا تبقي في عزيمة عاد بقية من نوازع السباق. •••
تلك هي بعض عناصر الغواية الأنثوية التي تملكها المرأة من حيث تدري ولا تدري.
وكذلك تنبت الثمرة الثانية «هذه الشجرة».
فالمرأة مزودة بوسائل الغواية، موكلة بالمخالفة والامتناع.
هي تغوي لأنها ينبغي أن تراد، ولا ينبغي أن تريد.
وهي تشتهي المخالفة لأنها تؤمر وتنهى، أو لأنها رهينة بإرادة الآخرين.
وهذا وذاك ثمرتان على شجرة واحدة، هي «هذه الشجرة».
جمال المرأة
ما الجمال؟
الجمال كما بيناه في غير هذا الكتاب هو الحرية.
وليس بنا في هذا الكتاب أن نتوسع في شرح معاني الجمال من الوجهة الفلسفية ولا من الوجهة العلمية؛ لأن هذا التوسع يخرج بنا إلى آفاق «ما وراء الطبيعة» وينتهي بنا إلى التنكير والتجهيل بدلا من التعريف والتقريب.
فحسبنا من توضيح الصلات بين الجمال والحرية ملاحظة وجيزة تغني عن كثير، ولا غنى عنها للتمهيد إلى معرفة الجمال كما يتجلى في وظائف الأعضاء، أو كما يتجلى في المرأة على التخصيص.
فمن المتفق عليه أننا لا نعرف شعورا إنسانيا يناقض الشعور بالجمال كما يناقضه الشعور بالحرج والامتناع، واحتباس الفكر والخاطر والإحساس.
ولا نعرف شعورا إنسانيا يوافق الشعور بالجمال كما يوافقه الشعور بالانطلاق والاسترسال، واطراد الفكر والخاطر والإحساس.
فلا يكون الجمال أبدا في معناه بعيدا من الحرية.
ولا تكون الحرية أبدا في معناها بعيدة من الجمال.
وقد تقارب الموضوع من الطرف الآخر إذا ذكرنا أن الحرية المقصودة هنا هي نقيض الفوضى، كما أن الجمال نقيض الاضطراب والاختلاط، فالحرية تستلزم الاختيار والمشيئة.
وليس للفوضى اختيار ولا مشيئة ولا غاية.
وهذا التباين بين الجمال والفوضى من طرف وبين الجمال والحجر من الطرف الآخر، هو الذي يرجع بنا إلى التوحيد بين الجمال والحرية، لأن الحرية كذلك تناقض الحجر وتناقض الفوضى. •••
ونزيد الأمر توضيحا فنقول: إن الحرية التي تمثل الجمال هي الحرية المقرونة بالأوزان والقوانين.
فالحرية بغير أوزان وبغير قوانين هي الفوضى بعينها، أو هي ليست بحرية على الإطلاق؛ لأن الحر هو صاحب الاختيار أو صاحب المشيئة أو صاحب الغاية.
وليس للفوضى غاية، وليس للمرء فيها اختيار ولا مشيئة.
وإنما يتبين لك مقدار حريتك إذا عملت بين الأوزان والقوانين؛ فاللاعب الماهر صاحب مشيئة وصاحب قدرة إذا سار على الحبل الممدود واستطاع المسير في خفة وطلاقة، والشاعر صاحب مشيئة وصاحب قدرة إذا عبر عن معناه في الأوزان والألحان، واستطاع مع ذلك أن يقول ما يريد.
لأن الأوزان والقوانين هنا هي معيار حريته الذي يبين لنا ما عنده من قدرة وحرية في الحركة.
وهذا هو الفرق بين القيود الذميمة والأوزان المستحبة: القيود تقضي على الحرية، والأوزان تبرزها في صورتها التي تعزز المشيئة والاختيار.
وهذا أيضا هو الفرق بين الحرية والفوضى؛ لأن الفوضى حركة لا غاية لها ولا مشيئة، ومن ثم لا حرية لها ولا معنى.
ولا تعريف - من ثم - للجمال أقرب من تعريفه بأنه هو كل ما يملي للنفس في الشعور بالحرية الموزونة، وكل ما يجنبها الشعور بالفوضى أو الشعور بالامتناع والتقييد. •••
قيل: إن الجمال هو التناسب، وهو قول صحيح ولكنه يحتاج إلى قول صحيح آخر يتمه وينتقل به خطوة أخرى إلى طريق الصواب.
فالجمال يوجد مع التناسب كما يوجد في غير التناسب، والجامع بين الجمالين هو حرية الحركة في كلتا الحالتين.
لا تناسب في كلب الصيد الأعجف المعقوف الهزيل، ولكنه يعطينا الحركة الخفيفة الموزونة في تركيبه هذا فهو جميل.
ولا تناسب في شكل الزرافة بالقياس إلى غيرها من الحيوان، ولكنك إذا تصورتها كالحصان أو كالأسد تصورت عائقا لها عن تدبير أمرها وتناول طعامها من فوق رأسها ومن تحت قدميها، وهذا العائق يناقض شعور الجمال، فإذا زال لم يكن بينك وبين الشعور بجمال الزرافة عائق من المقابلة بين شكلها وأشكال غيرها من الحيوان.
وهنا قد يسأل السائل: هل معنى ذلك أن الجمال هو أداء وظائف الأعضاء؟
والجواب لا، ليس الجمال هو أداء وظائف الأعضاء، ولكن وظائف الأعضاء في الجسم الحي كالوزن في القصيدة وكالحبل تحت قدمي اللاعب وكالألحان في الغناء، فهي التي تقيم لنا الفارق بين الحرية والفوضى، وهي المعيار الذي نعرف به حرية الحياة في الانتقاء والتوفيق بينها وبين ما تبغيه.
فلولا وظائف الأعضاء لكانت الحياة حركة فوضى لا غاية لها ولا حرية فيها.
ولكنها - بوظائف الأعضاء - هي حركة لها حرية ولها وزن ولها جمال كلما طابقت في حركتها معنى الحرية الموزونة. •••
وقيل: إن الجمال وليد الغريزة الجنسية، كما أشرنا إلى ذلك في كتابنا «المراجعات».
وأصحاب هذا الرأي جماعة من الأطباء والعلماء الطبيعيين يمثلهم ماكس نوردو حيث يقول:
كل أثر ينبه في الدماغ - بأي شكل من الأشكال - مركز التناسل سواء أكان هذا التنبيه مباشرا أم آتيا من تداعي الفكر وتساوق الخواطر فهو الأثر الجميل، وصورة الجمال الأول في نظر الرجل هي المرأة في سن النضج الجنسي والاستعداد لتجديد النسل، أي المرأة في عنفوان الشباب والصحة.
ففي محضر هذا المرأة يختلج مركز الغريزة النوعية من نفس الرجل بأقوى الإحساسات وأشد الخواطر، وتثير رؤية (الظاهرة) وتصورها عنده أقوى بواعث السرور التي يمكن أن تستفاد من مجرد النظر أو التصور. وقد تعود الطبع أن يقرن بين صورة المرأة وفكرة الجمال؛ فيغريه السرور الذي يستمده من ذلك بأن يصور كل ما يروقه أو يرى فيه معنى من معاني الجمال في صورة امرأة، فالإمة والشهرة والصداقة والمحبة والحكمة وغيرها وغيرها إنما تمثل الحواس في هيئة مؤنثة، ولكن لا أثر لكل ذلك فيما تدركه المرأة وتتصوره؛ لأن رؤية شخص من جنسها لا تحرك بأي شكل من الأشكال مركز النسل من غريزتها، ولا تجد المثل الأعلى للجمال إلا في الرجل. أما ما يشاهد من أن المرأة تكاد تقيس الجمال كله بمقياس الرجل فسببه أن الرجل لتفوقه عليها في القوة يستطيع أن يوحي إليها برأيه وأن يسيطر على أفكارها التي تخالف فكره، ومع هذا نرى في الواقع فكرة الجمال عند الجنسين تتقارب ولا تتماثل كل التماثل، ولو أتيحت للمرأة القدرة على الاستقلال بالنظر وتحليل ما تشعر به ووصف ما يدور بوجدانها لأثبتت منذ زمن بعيد أن مذهبها في الجمال يختلف من وجوه أساسية شتى عن مذهب الرجل فيه.
وهذا الرأي تبطله ملاحظات وجيزة لأنه أقرب الآراء التي قيست في تعليل الجمال إلى البطلان.
فلا يمكن أن تكون الغريزة الجنسية هي الجمال؛ لأن الغريزة الجنسية نفسها تستعين بالجمال لتمييز امرأة من امرأة وتفضيل أنثى على أنثى.
ولا يمكن أن تكون الغريزة الجنسية هي الجمال؛ لأن الغريزة الجنسية واحدة والجمال حتى في الجارحة الواحدة أشكال وألوان.
ولا يمكن أن تكون الغريزة الجنسية هي الجمال؛ لأن الغريزة الجنسية هي واسطة تجديد الحياة، ولن تكون الحياة نفسها خلوا من الجمال قبل ما يساورها من طلب التجديد.
ولا يمكن أن تكون الغريزة الجنسية هي الجمال؛ لأن حظ الأحياء من الجمال أو من الفطنة له ليس على مقدار حظهم من الغريزة الجنسية.
ولا يمكن أن تكون الغريزة الجنسية هي الجمال؛ إذ المرأة ليست بالجميلة لأنها امرأة، وإنما هي امرأة ثم يضاف إليها وصف الجمال.
وقد عرضنا لمذهب نوردو المتقدم في فصل من فصول كتابنا «المراجعات» وأتينا ببعض الملاحظات التي توجب مخالفته ثم قلنا: «إن الغريزة الجنسية لا ريب من أقوى الغرائز تفرعا وتوزعا في جوانب الإحساس ودخائل التفكير، وإنها ولا جدال على اتصال وثيق بشعور الجمال ومطالب الفنون لا نراها منعزلة عنها فيما ينظمه الشعراء ويمثله المصورون ويغنيه المنشدون، ولكن ليس معنى ذلك أنها هي أصل كل شعور بالجمال وأن الحياة نفسها لا جمال لها إلا من حيث إنها علاقة بين ذكر وأنثى ووسيلة لإعطاء الحياة لمخلوق جديد، فإن الحياة غاية الغريزة الجنسية وليست هي الجسر الذي نعبره إلى الحب والجمال. فإن كانت الحياة في ذاتها خلوا من معنى جميل أو مقضيا عليها بالحرمان من رؤية الكون في هيئة تسرها وترضيها وتوسع لها من أكناف الأمل وتضاعف لها من بهجة الوجود فأي شيء يزيد عليها من انقسام الأحياء إلى قسمين أو جنسين؟ ثم ما فضل البقاء المشوه الذي نتوسل إليه باختلاف ذينك القسمين أو ذينك الجنسين؟
أما أننا نتصور الإمة والشهرة والصداقة والمحبة والحكمة وغيرها في صورة مؤنثة فإنما يدل على أن للجمال في أذهاننا معاني كثيرة غير معنى الأنوثة، وأننا نصور تلك المعاني في صورة المرأة لأنها «الشخص المحسوس المحبوب» الذي تقدر الفنون على إبرازه للعيان. ولولا ذلك لما جاز التشابه بين مثال المعاني في الذهن ومثال المرأة في النظر، ما دامت المرأة قد استأثرت بكل صفات الجمال في هذه الحياة.
ويقابل هذا أننا نصور الخواطر القوية في هيئة الرجولة ولا نستخلص من تصويرها كذلك أن العلاقة بين الرجل والمرأة هي أصل كل ما في الحياة من بأس وقوة، وسبب كل ما يتصوره العقل من قدرة ونفاذ. على أن تماثيل الرجال في الفن اليوناني والروماني لا تقل عن تماثيل النساء، والإعجاب الفني بجمال جسم الرجل لا ينقص عن الإعجاب الفني بجمال جسم المرأة، فلماذا يعجب الفنانون بأمثلة الجمال في أجسام الرجال إن كان في غريزتهم ألا يحبوا الجمال ولا يتخيلوه إلا في أجسام النساء؟» •••
غير أننا إذا نفينا أن الغريزة الجنسية هي الجمال أو هي مصدر الشعور بالجمال فلا يستلزم ذلك أن ننفي العلاقة بين شعور الجمال ووظائف الأعضاء.
لأن الرجوع إلى وظائف الأعضاء لازم لقياس حرية الحياة في أداء تلك الوظائف على وجه لا نقصان فيه ولا زيادة.
ومثلها في هذا - كما قدمنا - هو مثل الأوزان والبحور التي تقاس بها حرية الشاعر في التعبير وقدرته على التصرف بالمعاني والألفاظ.
أو هو مثل كل وزن وكل نظام مطرد في فن من الفنون الجميلة: ليس مكانه أنه قيد عائق معطل للحرية، بل مكانه أنه مقياس للحرية الذي يميز بينها وبين الفوضى المطلقة بغير وزن أو نظام وإلى غير غاية أو استقامة.
ومتى عرفنا أن وظائف الأعضاء هي مقياس الحرية والجمال في جسم الإنسان؛ عرفنا كيف يكون جمال المرأة أو كيف ينبغي أن يكون.
فجسم المرأة جسم تابع وليس بالجسم المستقل الذي لا ينظر في تكوينه إلى غيره.
جسم الرجل الجميل جميل التكوين لذاته لا لأنه منظور فيه إلى مخلوق آخر يتوقف عليه.
هو الجمال في صورة الاستقلال.
أما جسم المرأة ففيه الثديان، وفيه الرحم الذي يحمل الجنين، وفيه تركيب الحوض الذي يختلف به قوام المرأة وقوام الرجل في نماذج الجمال، مع اختلافهما بالكتفين والصدر والتنفس تبعا لذلك الاختلاف، ومع اختلافهما تبعا لذلك الاختلاف أيضا بما تحت البشرة من طبقة دهنية لا شك أنها مفضلة في جسم المرأة لحماية الجنين.
فهذه التبعية واجبة في ملاحظة جمال المرأة والحكم عليه.
وتحضرنا في هذا الصدد نماذج ثلاثة للجمال لعلها هي النماذج الإنسانية التي تستحق العناية بها عند كل بحث فيه.
وهي النموذج العصري، ونموذج العرب، ونموذج اليونان.
فالعصر الحاضر عصر الخفة والآلة السريعة والقصد في الوصول إلى الغاية، يميل إلى التخفيف من جسم المرأة ويبالغ فيه، وتؤدي به المبالغة أحيانا إلى الخطأ والعجلة ونسيان الفروق الطبيعية في سبيل المظاهر الصناعية؛ فيكاد أن يسوي بين قوام المرأة وقوام الرجل وهي تسوية تقرب به من التشويه لإهمالها النظر إلى وظائف الأعضاء. ويكاد أن يحصر الجمال النسائي كله في قالب واحد يشبه القوالب الثابتة التي جمد عليها فن الفراعنة في أطوار الركود والاضمحلال.
والعرب أصح ذوقا من المجملين المحترفين في العصر الحاضر؛ لأنهم يصفون المرأة الجميلة كما ينبغي أن تكون.
فكعب بن زهير أصح من معاهد الجمال العصرية حين يقول في وصف مثال الحسناء عنده وهي «سعاد»:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكى قصر منها ولا طول
ومثله عمر بن أبي ربيعة حين يقول:
إني رأيتك غادة خمصانة
ريا الروادف عذبة مبشارا
محطوطة المتنين أكمل خلقها
مثل السبيكة بضة معطارا
أو حين يقول:
أبت الروادف والثدي لقمصها
مس البطون وأن تمس ظهورا
فالذوق العربي أصح من ذوق الآلة السريعة في العصر الحاضر كما أسلفنا في كتاب «شاعر الغزل» حيث قلنا: إنهم «... كانوا يستحسنون من جمال المرأة الوضاحة والهيف والرشاقة والخفر ويشيدون بهذه الشمائل في كل ما روي عنهم من غزل البداوة، وكانوا يحبون مع الهيف والرشاقة أن تكون المرأة بارزة النهود والروادف، وهو ذوق لا يخرج بهم عن سواء الفطرة كما يثبته لنا حب الجمال وعلم وظائف الأعضاء؛ فهم في ذلك أصح ذوقا من أساتذة التجميل المعاصرين الذين أوشكوا أن يسووا بين قامة المرأة الجميلة وقامة الرجل الجميل في استواء الأعضاء، فمما يعيب المرأة عضويا - أو فزيولوجيا - أن تكون رسحاء ضئيلة الردفين، إنها خلقت بحوض عريض ملحوظ فيه تكوين الجنين، فإذا كانت صحيحة البنية سوية الخلق وجب أن تكتسي عظام فخذيها وعجيزتها، وأن يمتلئ فيها هذا الجانب من جسمها، وإلا أشار هزاله إلى آفة في تكوين الجسم لا توافق حاسة الجمال. وكذلك يستحسن الخصر الدقيق في المرأة؛ لأن ضخامة المعدة قد تؤذي الجنين وتضغط عليه في الرحم وتشير إلى التزيد في الطعام فوق ما تستدعيه وظائف الحياة في جسم الإنسان».
أما الذوق اليوناني فقد نظر إلى التكوين المتين وميزه على التكوين الرشيق، فكان وسطا بين المثل الأعلى لجمال المرأة عند العرب والمثل الأعلى لجمالها عند المعاصرين.
وقد تلتقي الأذواق إذا تركنا المثل الأعلى جانبا، ونظرنا إلى الأمثلة الشائعة في عصور الحضارة عند هذه الأمم جمعاء.
فالترف وحب الظهور بالوفر والراحة قد حبب إلى العرب نماذج البضاضة والرخاصة، فوصفوا لنا أحيانا مثلا من الجمال الكسل المتثاقل يعاب في الذوق السليم.
واليونان قد حفظوا لنا تماثيل رشيقة لجسم المرأة؛ لأنهم مزجوها بالرشاقة الغلامية التي كانوا يحمدونها في أجسام فتية الرياضة وألعاب الفروسية.
ومجاميع الصور المشهورة في العصر الحاضر لا تستغني فيما تعرضه بين حين وحين عن نماذج العرب ونماذج اليونان.
ومن الواجب على كل حال أن نذكر أن الجسم الجميل غير الجسم اللذيذ وغير الجسم الصحيح وغير الجسم القوي وغير الجسم النافع؛ لأن الجسم قد يكون نافعا أو قويا أو صحيحا أو لذيذا وهو في كل ذلك غير جميل.
قيل لبعض الحكماء: إن فلانة كبيرة البطن ضخمة الثديين، فقال: «نعم، حتى تدفئ الضجيع وتروي الرضيع.» فهذا وصف صادق للجسم النافع ولكنه لا يستلزم جمال الجسم الموصوف، كما يقال: إن هذا الكساء يدفئ صاحبه ويعيش سنوات ولا يستلزم ذلك جماله فيما يكون به جمال الكساء.
ووصفت في الشعر العربي وأشعار الأمم كافة نماذج من الأجسام المشتهاة، كما مثلت هذه الأجسام كثيرا في الصور والتماثيل.
فإذا كان هذا وأشباهه وصفا لشيء فهو وصف للجسم الشهي أو الجسم اللذيذ، وليس بوصف للجسم الجميل على اعتبار الجمال معنى من المعاني التي تقاس بالإدراك، كما يقاس معنى البيت البليغ، ومعنى الصورة البارعة، ومعنى التمثال المتقن، ومعنى الخيال المجرد، ومعنى الحلم البعيد.
ولا ننسى أن الجسم الجميل يشتهى، ولكننا نريد أن نذكر من ينسى أنه ليس بالجميل لأنه مشتهى أو مرض للغريزة الجنسية، بل هو جميل لمطابقته معنى الجمال في الإدراك، وهو الحرية الموزونة.
والرجال في تفضيل الجسم الشهي أو الجسم اللذيذ مذهبان مختلفان: رجل عنده عادة الاستحسان كعادة التدخين، فهو يألف طرازا واحدا من المرأة كما يألف المدخن لفيفته المعهودة، فلا يغيرها ولو كان الخلاف بينها وبين غيرها كالخلاف بين علامة الجمل وعلامة الخلطة السعيدة، وهما من أصل واحد!
فهذا الرجل إذا استحسن المرأة الطويلة لم تعجبه القصيرة، ولو كانت لها ملاحة ونضارة ومتعة وحلاوة.
وإذا استحسن السمراء لم تعجبه البيضاء، أو استحسن بنت العشرين لم تعجبه بنت الثلاثين، أو استحسن المصرية لم تعجبه الإنجليزية أو الروسية، وهما معجبتان.
والمذهب الآخر في تفضيل الجسم الشهي أن يستحسن الرجل النساء كما يستحسن الفاكهة أو كما يستحسن صحاف الطعام، والمعول على صناعة الطاهي وغواية الأوان.
فالتفاح مقبول، والبرقوق كذلك مقبول، والتين لا يرفض والجميز لا يعاف ، والشواء مستطاب، والسمك المملح له وقت يجوز اشتهاؤه فيه! •••
وتنبغي التفرقة على كل حال بين هذه الأجسام حين ينظر إليها اللذة وهذه الأجسام حين ينظر إليها للجمال.
لأن الجميل واللذيذ قد يتفقان، ولكن الجمال واللذة قد يتناقضان، فتكون اللذة تغليبا لجسد ويكون الجمال تغليبا لمعنى، وهو كذلك في كل مظهر وفي كل حال.
فالجسم الجميل هو الذي تتزن فيه وظائف الحياة بغير زيادة ولا نقصان؛ لأن الزيادة فضول غير مطلوب يشير إلى دافع واغل لا تستدعيه وظائف الحياة، ولأن النقصان آفة مكروهة تشير إلى تقصير وتقييد.
وآية الجسم الجميل أن تنهض أعضاؤه حرة سلسة ميسورة الحركة لا ترى عضوا منها عالة على سائر الأعضاء، يخيل إليك أن كل عضو فيه يحمل نفسه غير محمول على سواه.
ومن هنا جمال الرأس الطامح، والجيد المشرئب، والصدر البارز، والخصر المرهف الممشوق، والساق التي يبدو لك من خفتها وانطلاقها واستوائها أنها لا تحمل شيئا من الأشياء، ولا تنهض بعبء من الأعباء.
بل من هنا جمال الحيوان الأعجم، وجمال المهر الكريم وقد اختال بعنقه وشال بذنبه وضمر بدنه، وأصبح في الجملة كالكلام المختصر المفيد، والكلام المختصر البليغ؛ لأنه يبلغ حيث شاء.
والجسم الجميل الذي نشهده على هذا المنوال تراه العين ولا تحس أنها أدركته، لأنها إذا أدركته تأملت فيه وسرحت في معانيه، فإذا هي بعيد بعيد ... أبعد من الفراش الذي يقع عليه الطفل فإذا هو على الغصن، ويثب إليه في غصنه فإذا هو في الهواء.
هو مدرك نفوس وأرواح وليس بمدرك نظرات ولمسات؛ ومن هنا قلنا: إن الجمال واللذة قد يتناقضان؛ لأن الجمال معنى تفرغه على جسد، واللذة جسد قبل كل شيء.
ولن يتمثل هذا الفارق في شيء كما يتمثل في الحركة الجميلة من الجسم الجميل؛ أي في الرقص الفني الرفيع.
فالراقصة وهي تتمايل كما تريد على أطراف أصابعها ترتفع بالجسم إلى عالم المعاني التي تسخر المادة لحركاتها ولا تحفل بقانون الجذب الذي يتسلط على الأجساد الأرضية من الأحياء وغير الأحياء.
فهي هنا كالشاعر الذي يخطر له المعنى فيلتمس له جسما من الألفاظ مطيعا لمعناه، أو كالمثال الذي يشيع في نفسه الجمال فيلتمس له قالبا من الدمى الحسان يفرغه عليه، وكالخاطر الذي ينطلق من عالم الأثقال والضرورات إلى عالم لا ثقل فيه ولا ضرورة.
أو هي تطوع الجسد للحركة الحرة، وهي حرة لأنها موزونة تدل على المشيئة، ولو لم تكن موزونة لما كانت لها غاية ولا مشيئة ولا كانت لها حرية ولا جمال، وإنما تكون هي «الفوضى» بغير وزن ولا اختيار ولا جمال.
هذه الحركة الجميلة من ذلك الجسم الجميل تطلق الناظر إليها من عالم الأجساد إلى عالم المعاني والأفكار.
وعلى نقيض ذلك حركة الجسم الذي يستهوي اللذة فينفي المعاني والأفكار ويقيدها بالحس والمادة والأبدان.
ويختلط الأمر في هذه الفوارق بين الأجسام الجميلة والأجسام اللذيذة كلما هبطت الأمم من أوج الحرية إلى حضيض المهانة والخضوع.
فالمصريون في عظمتهم الأولى قبل آلاف السنين كانوا يستجملون من الأجسام كل حر رشيق ويجعلون الأمثلة العليا للجمال تلك الصور التي يوشك أن تطير من الخفة، كما نراها على بقايا الآثار.
ثم هبطوا من أوج الحرية إلى حضيض المهانة والخضوع فركدوا ركود البطء والكسل، وأصبحت الكثافة الواهنة عندهم مقياس الملاحة والقسامة، وأصبح جمل المحمل أو «التختروان» مثال الحسن المطلوب في النساء: تعلو المرأة السمينة وتهبط في مشيتها وما تنتقل شبرا واحدا في أقل من خطوتين، والمقرظون من حولها يهللون ويكبرون ويباركون الخلاق العظيم، ويعوذون هذا الجرم الذي لا تمضي فيه السيوف من لحظات العيون ومن حسد الحاسدين!
ثم ثاب العالم كله إلى مذهب المصريين الأقدمين في جمال النحافة والرشاقة والنسج الدقيق، وشاع هذا المذهب بعد الحرب العالمية الماضية أشد من شيوعه في زمن من الأزمان، حتى غلا بعضهم فأوشك أن يلتمس الجمال في الهياكل العظمية، وهي على أية حال أقرب إلى الجمال من هياكل الشحوم واللحوم!
وما نحسبها نفحة من نفحات الفن العلوي هبت فجأة على أذواق الناس في العالم كله فأصبحوا جميعا من صاغة التماثيل الملهمين؛ فإن هذه النفحات أغلى وأرفع من أن تكال جزافا للملايين من الخلق في المغارب والمشارق، وبين الأذكياء والأغنياء، وعند من يحسون ولا يحسون.
ولكنها «الطيارة» قد أتمت مذهب السرعة في كل شيء، والسرعة والخفة لا تفترقان، والخفة والسمنة لا تتفقان.
وهكذا تعلمنا الآلات أحيانا كيف نشعر وكيف نتذوق الجمال، وكيف نصحح الأذواق! •••
والمرأة الجميلة - بعد هذا - ليست بشيء واحد يقاس بمقياس واحد في كل ما تبديه وكل ما تحتويه؛ لأنها جملة مجتمعة من الأشكال والألوان والحركات والمعاني يقاس كل منها بمقياس الجمال الذي قدمناه، وهو الحرية الموزونة، ونستطيع أن نقول: «الحرية» وكفى؛ لأن الحرية كما قدمنا تستدعي الوزن والقانون، لتظهر فيها المشيئة والغاية، وهما قوام الاختيار الذي لا تكون الحرية بغيره، وليتضح الفرق بينها وبين الفوضى وهي أقرب إلى العدم منها إلى الوجود.
ولكننا نقول الحرية الموزونة تقريرا لهذا المعنى وتبيينا للقدرة التي هي معيار الحرية ومعراج الارتقاء فيها، فالقائل الذي يعبر عن شعوره في النظم الموزون أقدر على القول وأبين عن حرية التصرف فيه ممن يقول هذا القول بعينه في الكلام المنثور.
ويقاس كل جميل في المرأة بهذا المقياس: فأجمل الوظائف هي الوظيفة التي تجري إلى غايتها في جسم لا فضول ولا نقص فيه، وأجمل الحركات والألوان، أو أجمل الحركات والأشكال تجمل وترتقي إلى عالم المعاني كلما أطلقت في النفس شعور الحرية بين الأوزان، أي كلما ابتعدت بنا من شعور الفوضى وشعور التقييد.
فإذا اتفق للمرأة لون جميل وشكل جميل وحركة جميلة فتلك غاية الغايات التي قلما تدرك في العالم المحسوس، وقد يتفرع اللون على ألوان والشكل على أشكال والحركة على حركات، فلا ينبغي أن ترجع بها جميعا إلى مقياس واحد؛ لأن المرأة في اللغة مخلوق واحد يعرف بهذه اللفظة الواحدة.
ومتى أحضرنا هذا في أخلادنا فقد حسبنا للتناقض حسابه في بعض الأحكام على جمال النساء، فقد تكون المرأة على جملتها موصوفة بالجمال وفيها جانب يخالف معنى الحرية والاتزان، فإنما الحكم الصحيح على جمالها أن يقاس هذا الجانب بمقياسه ولو خالف في الحرية والاتزان ما عداه.
وكذلك يقال في قياس النقص أو العيب كلما شعرنا به ورجعنا إلى سببه، فلن يكون سببه إلا أننا نشعر إزاءه بشيء من التقييد واختلال الميزان.
فتعاب المرأة القصيرة، وإن تمت لها محاسن الوجه والحركة؛ لأنها توحي إلينا الشعور بعائق يصدها عن بلوغ القوام المعهود في النساء.
والمرأة التي تطول كفاها أو قدماها تعاب؛ لأن طول الكف أو طول القدم يوحي إلى النفس أن تتمنى قواما أطول من هذا القوام، فتشعر بالعائق المانع حين تنظر إلى القوام فإذا هو دون ما تتمناه. وليست قلة التناسب هنا هي علة النقص والعيب كما يخطر للذين يحسبون أن التناسب هو الجمال؛ فإن قلة التناسب لا تضايقنا إذا هي لم تقترن بشعور التعويق والامتناع، كما قد رأينا في مثال الزرافة وكلب الصيد.
والقوام الجميل حسن في البياض والسواد على السواء حيثما نظرنا إلى الشكل والحركة دون الألوان والشيات، فإذا تجاوزنا الشكل والحركة إلى الألوان والشيات فالبياض الذي لا يحتبس به شعاع من النور، ولا صبغة من اللون أجمل من البياض. •••
وصفوة القول في ذلك جميعه أن الشعور بالحرية الموزونة هو الشعور بالجمال.
وأن وظائف الأعضاء هي الميزان الذي توزن به الحرية في أجسام الأحياء، من الرجال والنساء.
وأن تكوين المرأة على حسب وظائف أعضائها ملحوظ فيه تكوين المخلوق الذي تحمله في أحشائها، وتكوين المخلوق الذي تستهويه بصلاحها لخدمة نوعها، فجمالها على هذا جمال تابع مضاف وليس بالجمال الذي استقل بالكفاية والتمام. •••
ويلحق بالكلام على جمال المرأة كلام متصل به عن شعور المرأة بالجمال.
فمن سهو الفكر أن يعتقد بعض الناس أن المرأة أخبر بذوق الجمال؛ لأنها جميلة في أعين الرجال.
وموضع هذا السهو ظاهر لا يحتاج إلى تأمل طويل، فليس باللازم من اتصاف الشيء بالجمال أن يتصف بذوق الجمال أو يشعر به أحسن شعور أو أقل شعور.
فالجواهر جميلة ولا حس لها ولا حياة، وفي الحيوان ما هو جميل ولا دراية له بفنون الجمال، ومنه ما يغني ولا يفقه أسرار الغناء .
فجمال المرأة في عيني الرجل لا يستلزم تفوقها في حس الجمال وتمييز شياته وألوانه، ولعل تمييز الجمال لا يعني إناث الإنسان كما يعني ذكوره؛ لأن المرأة تستمال بقوة الرجل قبل أن تستمال بمحاسن وجهه ومرآه، فإنما تعنيها منه الصحة والقوة وتميز ملامحه، كل لمحة منها على انفراد، خلافا للرجل الذي يؤخذ بأثر ملامح المرأة في جملتها قبل أن ينظر إلى تفصيلها.
وهو فارق معقول على حسب الفارق بين موقف الرجل وموقف المرأة في تلبية الغريزة الجنسية؛ فالرجل عليه أن يلتفت لأنه هو الذي عليه أن يختار، ومن ثم كان من الضروري لالتفاته أن يلمح جمال المرأة وأن يؤخذ بأثره على الإجمال.
والمرأة - ولا سيما المرأة على فطرتها الأولى - تنتظر دورها الطبيعي وهو التسليم للغالب السابق من الرجال، فسواء لديها أن تتأثر بملامحه أو لا تتأثر بها بعد أن تأثرت بقوته وغلبه، وإنما يبقى لها أن تميز ملامحه على حسب صحتها ومنفعتها لا على حسب أثرها الخاطف في عينيها، فتعرف مثلا جمال العين وجمال الأنف وجمال الفم كل منها على حدة ولو لم يكن لها أثر خلاب وهي منظورة في جملتها.
ويندر أن ترى رجلا ينسى الأثر المجمل من النظرة الأولى في سبيل جمال الأعضاء والجوارح على التفصيل.
وعلى نقيض ذلك يندر أن ترى امرأة تنسى جمال الأعضاء والجوارح على التفصيل في سبيل الأثر المجمل بالغا ما بلغ من الروعة والاستهواء.
وتصدق هذه الملاحظة على الجمال في معانيه الفنية كما تصدق على الجمال في صورته الجسدية، فتمييز المرأة له محدود لم يبلغ قط مرتبة الإبداع والخلق والتفنن في غير فئة قليلة جدا من النساء وعلى طبقة لم ترتفع قط إلى أرفع الطبقات.
فيندر جدا في النساء من تبدع الجمال في فن من الفنون، سواء كان الشعر أو التصوير أو الموسيقى أو التمثيل.
وقد تبرع في التمثيل لأنه يوافق عندها سليقة الرياء والتظاهر والاصطناع، ولكن التمثيل تمثيلان متفاوتان في القدرة الفنية وعمل القريحة الإنسانية: وهما تمثيل الخلق والإنشاء وتمثيل المحاكاة والتقليد، وندر جدا في كبار الممثلات من تجاوزت دور المحاكاة والتقليد إلى دور الخلق والإنشاء.
ومن الخطأ أن يقال إن تخلف المرأة في الفنون الجميلة قد نشأ من الحجر عليها في عصور الجهالة الأولى.
ففي عصور الجهالة الأولى كان الحجر شاملا للضعفاء من الرجال والنساء على السواء، ومع هذا نبغ الشعراء والفنانون من طبقة العبيد والسوقة، ولم يكن عدد الحاكمين المسيطرين الذين نبغوا في الشعر والفنون على اختلافها مربيا على عدد النابغين من المحكومين المسخرين، سواء منهم السفلة الأذلاء والأوساط الذين لا يصيبهم الظلم كما يصيب من دونهم في الطبقة الاجتماعية.
وأيا كان القول في عموم الحجر على الجنسين أو على جنس واحد فالذي لا ريب فيه أن المرأة لم يحجر عليها في الغناء والعزف على الآلات كما لاحظ بعض الباحثين، ومضى دهر طويل على الأمم الشرقية والغربية وهي تحسب الغناء صناعة نسائية وتأخذ المغنين والعازفين من الذكور أن يرسلوا الشعور ويتزيوا بزي النساء، ولم يتجاوز حظ المرأة من الغناء طبقة الأداء الحسن إلى طبقة الخلق والإبداع.
ويقال في صناعة التطريز ما يقال في صناعة الغناء والموسيقى على التعميم، فقد شغلت بها المرأة من عصور البداوة وثابرت عليها في عصور الحضارة، ولم تساو الرجال الممتازين بإبداع الطرز والنماذج والأشكال.
فشعور المرأة بالجمال محدود، وقد تكون تابعة فيه أو خاضعة للإيحاء والشهرة سواء من الجماعات أو الأفراد، وفي وسع فرد واحد أن يوحي إلى المرأة شعورها بجماله إذا تسلط عليها بإرادته، فتؤمن من طريق الإيحاء أنه لجميل، ولا يمنعه أن يوحي إليها هذا الشعور إلا أن يكون شنيع الدمامة لا تجوز المغالطة في قبحه من النظرة الأولى، وإلا فهو بالغ من إقناعها ما يريد.
وميل المرأة إلى الرجل المشهور بجماله يخالف في طبيعته ميل الرجل إلى المرأة المشهورة بجمالها.
فشهرة المرأة بالجمال تشحذ في نفس الرجل طبيعة غير الطبيعة التي تشحذها في نفس المرأة شهرة الرجل بالجمال.
وهذا الفارق بين هاتين الطبيعتين هو الفارق كل الفارق بين الجنسين في كل ما يختلفان فيه .
إن المرأة التي تتصدى بجمالها لأعين الرجال تبعث في نفوسهم حب المسابقة والتنافس وتمنيهم بلذة الظفر والغلبة على الأقران، وقد تكون متعتهم بالوصول إليها وتنحية الأقران عنها أعظم وأروح من متعتهم بشمائلها ومحاسن جسدها ومحياها.
أما المرأة فشهرة الرجل بالجمال عندها تؤكد الإيحاء والتكرار وتملكها من ناحية التنويم وشل الإرادة والتمييز فهي تنقاد هنا لأن الناس يقولون، ولأن ما يقولونه يخامر يقينها كما يخامر المنوم بالتوكيد والتكرار يقين المنومين.
فالظفر بالجميلة المشهورة يرضي في الرجل طبيعة الزهو والثقة، والظفر بالجميل المشهور يرضي في المرأة طبيعة التسليم والخضوع، وهذا هو الفارق بين الجنسين في كل شيء.
وصفوة ما يقال في شعور المرأة بالجمال أنه شعور ينقاد للقوة والإيحاء، ولا يرتقي إلى طبقة الخلق والإنشاء.
أما جمالها فالرجل هو الذي يميزه لأنه هو المقصود به ليلتفت إليه ويسعى سعيه في الغلبة عليه.
وهو غواية المرأة التي تقابل بها إرادة الرجل منذ حيل بينها وبين أن تريد وأن تصرح بما تريد.
وهو على سلطانه الذي يغالب الإرادة ويغلبها في كثير من الأحايين إنما هو أظهر غوايات المرأة وليس بكل ما عندها من أسباب الإغراء، كما أسلفنا في الكلام على غوايتها وأسبابها.
ولا نبعد بالتشبيه إذا قلنا: إنه كالنور الذي ترفعه الطبيعة على حانوتها لتعلن عنه وتجذب الأنظار إليه، أو كالغلاف المزخرف الذي تلف به طعمتها لتفتح اللهوات وتسعر أوار السغب في كل أوان.
وقد منحت المرأة الجمال الذي يستهوي الرجل؛ لأن الرجل يطلب الحرية ويختار، والجمال هو الحرية التي يكلف بها من يكلف بالاختيار.
وليس من المصادفة التي خلت من المعنى أن تستهوى المرأة بالخضوع للقوة وأن يستهوى الرجل بحب الجمال.
فهما الحرية والتسليم، يتقابلان كما يتقابل الجنسان.
تفاوت الجنسين
إلى هنا وضح الفارق الأصيل الذي تدور حوله جميع الفوارق الفطرية بين الجنسين، ونعني به الفارق بين الإرادة والإغواء.
وتتعلق بالإرادة جميع ملكات الابتداء والإنشاء والابتداع في المسائل الحسية والمسائل الذهنية والنفسية على السواء.
فالمرأة لا تبتدئ ولا تبتدع في صناعة من الصناعات أو فن من الفنون، وإن طال عملها فيه وانقطعت له أحقابا بعد أحقاب، فإذا شاركها الرجل في الطهي أو الخياطة أو النسيج أو التزيين والتجميل - وهي صناعاتها التي غبرت على مزاولتها مئات الأحقاب - كان له السبق بالتجويد والافتنان، واستطاع في هذه الصناعات نفسها أن يستأثر بإقبال المرأة وثقتها دون من ينافسه فيها من النساء.
ومنذ القدم كانت المرأة تنوح وتبكي وتطيل الرثاء والحداد على الأموات، ولكنها لم تنظم في الرثاء قصيدة واحدة تضارع قصائد الفحول من الشعراء الذين لم ينقطعوا للرثاء ولم ينظموا فيه إلا عرضا في الآونة بعد الآونة، كلما ألعجهم الحزن على فقيد عزيز.
ولا ينكشف قصور المرأة عن الابتداء والابتداع في فن من الفنون كما ينكشف في فن الغناء والموسيقى على الإجمال.
فقد ظن خطأ أن الغناء صناعة نسائية ينبغي أن تحذقها المرأة كما يحذقها الرجل أو تربى عليه، وقد سنحت لها فرص الحذق والإتقان في هذا الفن بين القصور وفي الأكواخ والأسواق فلم يؤثر لها ابتكار في التلحين ولا اختراع في الآلات ولا افتنان في معاني التعبير بالألحان والأصوات.
والخطأ هنا من سهو الفكر كالخطأ في تمييز الجمال وذوق الحسن والاستحسان؛ إذ الواقع أن الابتداء بالغناء أيضا خاصة من خواص الرجل الجنسية لا معنى لتفوق النساء فيها، ولهذا يستوفي صوت الرجل نماءه بعد البلوغ ويعظم تجويف صدره وتكمل أوتار حنجرته، وتتم له عدة المخارج الصوتية حينما تتم له مقومات الرجولة وملكاتها، وينعكس الأمر إذا سلب هذه المقومات والملكات، فتضعف حنجرته وتضيق كتفاه ويشتبه صوته بأصوات النساء والأطفال، وقلما يلحظ التغيير على مخارج المرأة الصوتية بعد المراهقة أو بلوغها مبلغ النساء.
وعلة ذلك ظاهرة، وهي العلة التي قدمناها في هذا الفصل وفي الفصول السابقة، ونعني بها أن الرجل هو الذي يريد وهو الذي يطلب المرأة ويسمعها نداء الرجولة دعاء وغناء فيقترن تمام الصوت فيه بتمام صفات الرجال.
والفارق في التركيب كاف وحده لإدراك الفارق بين الجنسين في الملكات والقرائح وفنون الابتداء والابتكار.
ولكن الواقع المشهود من قديم الزمن يغني في بيان هذا الفارق ما ليس يغنيه اختلاف التركيب.
لأن الواقع فعلا أن المرأة لم تبتكر في صناعة من الصناعات، غير مستثنى منها تلك الصناعات التي انقطعت لها وتوفرت عليها أحقابا طوالا قبل أن يتوفر عليها الرجال.
ومن السخف أن يقال إنها قد تخلفت في هذا المجال؛ لأن الرجل قد حجر عليها وقيدها بما يرضي هواه دون ما يرضي ملكاتها وأذواقها، فإن الرجل لم يحجر عليها في الطهي ولا في الخياطة ولا في الغناء ولا في الرثاء، وإن حجره عليها هو نفسه دليل على نقصها في القدرة البدنية والقدرة الذهنية، وأنها بالقياس إليه في المرتبة التالية على كل حال.
وقد عاش بعض الراهبات كمعيشة الرجال الرهبان في القرون الوسطى بين الأديرة والمعاهد الدينية والعلمية، وانقطع هؤلاء انقطاع هؤلاء للعبادة والتلاوة ونسخ الكتب وترجمتها والتفكير فيها، فلم يعرف لامرأة راهبة فضل في القراءة أو النسخ أو الترجمة كالفضل الذي عرف لمئات من الرهبان، وعزي إليه إحياء نهضة العلوم بعد القرون الوسطى.
فهذا الفارق بين الجنسين من الفوارق التي يشهد بها التركيب كما يشهد بها الواقع المتواتر في جميع الأمم القديمة والحديثة.
ومداه واسع جدا لا ينحصر في مزايا القريحة، ولكنه يتخطاها كثيرا إلى مزايا الروح والأخلاق.
ولنضرب لذلك مثلا نصيب الرجل ونصيب المرأة من الزواجر الأدبية والروادع النفسية.
فهذه الزواجر أو هذه الروادع ترجع إلى مصادر ثلاثة يخيل إلى المتعجل أنها واحدة ولكنها متفرقة المعادن والأصول: زاجر الدين، وزاجر العرف، وزاجر الأخلاق.
وليس معنى التفرق في معادن هذه المصادر وأصولها أنها تتناقض ولا تتفق على نهج واحد، بل معناه أن الإنسان قد يمتنع عن المحرم بوازع من الأخلاق ووازع من الدين ووازع من العرف في وقت معا، وقد يمتنع عنه بوازع منها دون الوازعين الآخرين.
فالمرأة نصيبها الذي يبرز فيها من هذه الزواجر هو نصيب العرف والدين، ولا سيما الدين الذين يرجع إلى الخوف والتسليم. وكثير من دين الجهلاء لا يرتفع إلى الحب والفهم كدين الخاصة وذوي الرأي والدراية .
أما الرجل فنصيبه الذي يبرز فيه من هذه الزواجر هو نصيب الأخلاق؛ لأن الأخلاق هي الزواجر التي يفرضها المرء على نفسه ولا يفرضها عليه العرف الشائع أو العقيدة المصدقة، أو سلطان القادة والرؤساء.
والأخلاق من ثم صفة من يريد.
والعرف والخوف الديني صفة من يراد وينقاد.
فالرجل كائن أخلاقي، والمرأة كائن طبيعي يجري على حكم البيئة الطبيعية، وليس لها أخلاق بل عادات وشعائر وأحكام.
على أنها هي العادات والشعائر والأحكام التي تساير الغريزة الجنسية - أو الطبيعة الأولى - حيث تسير.
فمنذ القدم أمر الدين المرأة بالصيام عن الطعام في موسم من مواسمه المرعية، فلم تصبر على الصيام كما صبر عليه الرجل، ولم تزل تراوغ حكم الدين وهي في سن الشباب إلى أن يتجافاها الجمال ويعرض عنها الرجال.
ولكن المرأة الحديثة تتجشم من الصوم ما لم يتجشمه كثير من النساك لإعجاب الأعين واجتذاب الأهواء، وتجتنب الطعام اللذيذ والشراب المشتهى لتجتنب السمنة التي يعافها الرجل في هذا الزمان، وليس اجتناب المطاعم والمشارب بالأمر الهين عندها وهي حسية جسدية في ميولها ولذاتها، ولكن الظفر بالاستحسان عندها فردوس يهون في طلابه كل هذا الصيام الثقيل.
والصلوات، التي تنصلت منها ما استطاعت، هي شيء هين بالقياس إلى حركات الرياضة والتدليك ومتاعب الكساء الضيق والتلوين والتزويق، ولكنها لا تثقل عليها كما تثقل الصلاة، إذا كان وراء هذه المتاعب جزاؤها السريع من نظرة إعجاب أو كلمة إطراء. •••
ولا يسيطر تركيب المرأة على إرادتها من هذه الناحية دون غيرها.
بل هو مسيطر عليها من نواح شتى غير هذه الناحية، ومنها - على التخصيص - ذلك التناقض القوي بين الحزم وطبيعة الأنوثة في صميمها، وهي الطبيعة التي تفرض عليها الحمل والرضاع والحضانة وألا تبالي بعواقبها وإنها لمرهقة معنتة شاقة على النفس والجسد، وقد كانت في الآباد الغابرة خطرة قاتلة تنهك من لا تميت.
فالحزم هو أن ينسى المرء العاجل في سبيل الآجل، وأن يبعد النظر إلى الغد ولا يقصره على الحاضر الذي هو فيه.
ولو رزقت المرأة هذا الحزم لما استجابت مرة من عشر مرات لضريبة النسل المفروضة عليها، فالذي رزقته إذن هو نقيض الحزم وهو نسيان الآجل في سبيل العاجل وإيثار السرور القريب على الغنم البعيد، أو هو استجابة الأثر الحسي والإعراض عن نذير الحكمة والروية وهداية التأمل والتفكير.
وإذا بدا منها الحزم في موقف من المواقف فامتنعت عن لذة تغريها فتفسير ذلك لذة أخرى مركزة لديها غالبة على تلك اللذة التي امتنعت عنها.
فترفض مثلا الطعام لأنها مغرمة بالكساء، وترفض المال لأنها مشغولة بشعور الأمومة، أو ترفض الوسامة لأنها منقادة لقوة، أو ترفض كل هذه الغوايات لأنها لا تحس بإغرائها إلا عند مسيس الحاجة إليها، ولا تحفل بحاجة الغد ما دامت غنية عنها في يومها.
فحزمها هو مقاومة إغراء بإغراء، أو تسويف وإرجاء إلى ساعة الشعور بالإغراء.
وربما كانت رحمة المرأة في لبابها - وهي أشهر أخلاقها - مزيجا من نقص الشعور بالألم ومن التذاذ الشعور به كما رجح بعض الباحثين في فضائل النساء والرجال.
فالمرأة تطيق التمريض على رأي هؤلاء الباحثين لأنها بليدة الحس، كليلة الخيال، لا تثير فيها رؤية الألم تلك الصور المتلاحقة التي تخلقها مخيلات الرجال، ولو كانت تفزع للعذاب وتشفق منه على المتعذب لما استراحت إلى ملازمته والنظر إليه واستماع أنينه وشكواه.
ولا تخفى وجاهة هذا التعليل الذي ذهب إليه أولئك الفلاسفة ولكنه على غير ذلك قاطع في تأويله؛ لأن صبر المرأة على رؤية العذاب قد يفسر بالاستغراق في عاطفة الرحمة، وأن هذا الاستغراق يعين على الاحتمال ويملي للمرأة في مجاراة الآلام، ولا سيما المرأة التي تنبعث فيها عاطفة الأمومة وتجيش في قلبها فاجعة من فواجعها.
ومع هذا لا ينفي استغراق المرأة في عاطفة الرحمة أنها تلتذ الألم وتجتره وترتضيه، وأنها كليلة الخيال قلما تتولى الألم بالتصوير والتكبير كما تتولاه مخيلات الرجال.
ولا تنتهي أقوال الكتاب وأصحاب المذاهب الفلسفية والعلمية في تأويل أسباب التفاوت بين الجنسين؛ لأن تعدد التأويلات هنا مسألة مزاج كما هو مسألة فكر ودراسة، وليس أكثر من تعدد أبناء آدم في المزاج والدرس والتفكير.
لكن التفاوت قائم وإن اختلفت الأقوال في تأويله، وقيامه حقيقة عيانية وحقيقة علمية وحقيقة منطقية في وقت واحد؛ إذ كل قول بالتشابه بين الرجل والمرأة أو بالتساوي بينهما هو في مؤداه قول برجحان المرأة على الرجل وتفوقها عليه لجمعها بين وظائفها ووظائفه في بنية واحدة، وذلك هو الرجحان الذي لا يسيغه منطق سليم.
وما من أحد له مصلحة في إنكار التفاوت بتة بين الجنسين كمصلحة الماركسيين أو الشيوعيين في إنكاره وإثبات المساواة أو المماثلة التامة بين الذكور والإناث؛ لأنهم ينظرون إلى المرأة كأنها وحدة اقتصادية يمكن استغلالها إذا بطل استغلال الرجال، فلا يريدون أن يثبتوا بينها وبين الرجل فرقا يسمح بهذا الاستغلال في دولة رأس المال.
ولكنهم على هذه الرغبة الملحة عندهم في تقرير المساواة بين الجنسين والإغضاء عن الحقائق التي تنفيها لم يقدروا على المماراة طويلا في هذه المغالطة الموائمة لمذهبهم، وأعلنوا في نشرة الأخبار الحكومية التي أذيعت في أوائل السنة الماضية أن تجاربهم الطويلة في تعليم الصبيان والبنات قد دلت على فارق واضح بينهم يلاحظ عليهم في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة وما حولها، فكانت النتائج تختلف اختلافا بينا مع وحدة السن والمجهود، ويظهر هذا الاختلاف في طاقة العمل عند الصبي والبنت مع تعدد التجارب والبيئات.
ولا يخفى أن عدد الصبيان والبنات الذي يقع تحت الملاحظة الحكومية بمدارس الشيوعيين هو أكبر عدد يتيسر لأصحاب مذاهب التربية في قطر من الأقطار؛ ففي بلادهم مائة وخمسون مليونا يذهب أبناؤهم وبناتهم جميعا إلى المدارس من سنواتهم الباكرة، وينشأ هؤلاء الأبناء والبنات في بيئات الشمال والجنوب، وفي مدن الصناعة وقرى الزراعة، وبين الشعوب الأوروبية والآسيوية من عناصر شتى.
وقد كان أناس من أساطين علم النفس بين علماء العصر الحديث يقاربون هذه المسألة الجلى - مسألة تعليم الجنسين - بعناية دون العناية التي تنبغي لأمثالها وتنبغي لهم وهم يطرقون المباحث التي تتصل بتهذيب النفوس ومصير الأجيال، ومنهم من في طبقة «ألفرد أدلر» الذي خطر له أن يناظر «فرويد» في دراساته النفسية المشهورة، وهي فتح عظيم في تاريخ المعرفة الإنسانية. فأدلر يقول في موضوع تعليم الجنسين من كتابه عن فهم الطبيعة الإنسانية: «إن أهم المنشآت التي أقيمت لتحسين العلاقات بين الجنسين هي التي أنشئت للتعليم المشترك بينهما.» ثم يقول: «إن هذه المنشآت لا تقابل باتفاق الآراء، لأن لها خصوما كما لها أصدقاء.»
ولكنه هو يقطع بالرأي في ثنايا عرضه لأقوال الأصدقاء والخصوم حيث يقول: «إن أصدقاءها يجعلون أقوى برهان لهم على صلاحها أن الجنسين - خلال التعليم المشترك بينهما - تنفسح لهما الفرص ليفهم كل منهما صاحبه في السن الباكرة، فيقضي هذا التفاهم على الموروثات الوهمية ويمنع عواقبها الضارة جهد المستطاع. أما خصومها فيجيبون عادة بأن الصبيان والبنات يكونون في سن المدرسة قد بلغوا من الاختلاف حدا يزيد الشعور به والانتباه إليه عند الاختلاط في معهد واحد؛ لأن الصبيان يحسون أنهم مرهقون، ويداخلهم هذا الإحساس مما يشاهد على البنات من أنهن أسرع في النمو الذهني خلال هذه السن الباكرة، فإذا اضطر هؤلاء الصبيان إلى المحافظة على مزيتهم وإقامة البرهان على تفوقهم بدا لهم فجأة لا محالة أن مزيتهم في الحقيقة إن هي إلا فقاعة صابون ما أسهل ما تنفجر وتزول.
ويقول بعض الباحثين غير هؤلاء: إن الصبيان في المعاهد المشتركة يقلقون أمام البنات ويفقدون كرامتهم في نظر أنفسهم ... ولا محل للشك في اشتمال هذه الأقوال على نصيب من الصدق والرجاحة، ولكنها لن تصمد للاختبار إلا إذا نظرنا إلى تعليم الجنسين معا كأنه ميدان للتنافس بينهما على قصب السبق في الملكة والكفاءة، وهي نظرة وبيلة إن كان هذا هو غرض التعليم عند الأساتذة والتلاميذ. وما لم نوفق إلى أساتذة يرون في التعليم المشترك رأيا أفضل من اعتقادهم أنه سبيل إلى التدرب على التنافس أو التنازع المقبول بين الجنسين في المجتمع؛ فكل محاولة للتعليم المشترك فاشلة إذن لا محالة، ولن يرى خصومه من النتائج المحتومة إلا دليلا على صوابهم بما أصابه من إخفاق.»
ثم يستطرد أدلر فيقول: «وما أحوجنا إلى خيال شاعر لتصوير الحالة كلها في صورتها الصحيحة، فلنقنع من ثم بالإشارة إلى المواضع البارزة منها، ومنها أن الفتاة الناشئة تتصرف فعلا تصرف من يشعر بالضعة، ويصدق عليها تماما ما قلناه آنفا عن الرغبة في التعويض عند ابتلاء الإنسان بذلك الشعور، وإنما الفارق هنا أن شعور الضعة مفروض على الفتاة بحكم بيئتها، وأنها تساق إلى هذا الاتجاه سوقا حثيثا يدعو الباحثين ذوي النظر الثاقب أحيانا إلى تصديق هذه الضعة فيها، وليس لهذا الوهم من نتيجة إلا النتيجة العامة التي يندفع إليها الجنسان حين يتعجلان خطط التزاحم والتنافس التي تشغل كلا منهما بغير ما يعنيه وما يصلح له.»
وقرار المشرفين على تعليم الجنسين بالمدارس الروسية مفيد في استدراك هذه التخريجات والتعليلات التي ذهب إليها أدلر قبل أن توغل في طريقها إلى تلك النتائج المزعومة.
إذ لا يمكن أن يقال: إن فصل الجنسين بالمدارس الروسية ناشئ من شعور الضعة المفروض على الفتاة أو البنت الصغيرة؛ لأن النساء الروسيات من سن الأربعين فنازلا قد نشأن على عقيدة التساوي بين الجنسين ولم تفرض عليهن البيئة عقيدة غيرها منذ فتحن أعينهن إلى الآن، ولو غلا الدعاة الروسيون إلى أحد الطرفين لجاز أن يكون غلوهم في تقرير هذه العقيدة وتوكيدها لا في إدحاضها وإضعافها، فليست هناك ضعة مفروضة على الفتاة بحكم بيئتها ولا يوجد هناك من يسوقها إلى هذا الاتجاه سوقا حثيثا يوهم الباحثين ذلك الوهم الذي توهمه أدلر من بعيد.
ومع هذا سجل الباحثون الروسيون أن الفرق حاصل بين الجنسين في أدوار التعليم، وتبين لهم أن الصبي من سن العاشرة إلى الرابعة عشرة يعاني من تجميع القوى في بنيته عناء يثقل عليه فيبطئ نموه بعض الإبطاء، وعلى خلاف هذا يطرد النمو في البنات بين العاشرة والرابعة عشرة فيزدن في الوزن والطول فضلا عن استعداد الفهم والمعرفة.
ثم يأتي دور الصبيان بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة، فإذا هم الذين يسبقون البنات في الوزن والطول والاستعداد للفهم والمعرفة، فلا يتأتى - وهذه هي الفوارق بين الجنسين من العاشرة إلى السابعة عشرة - أن يتلقوا معا دروسا واحدة ويجاري بعضهم بعضا في مضمار واحد.
ثم يأتي دور آخر وهو دور التفكير في الفوارق بين عمل الرجل وعمل المرأة في الحياة؛ إذ ليس من المستطاع أن يناط بهما عمل واحد يؤديانه على نحو واحد من القابلية والكفاءة.
فالرجال يعدون للجندية ويدربون على فنون من الدربة الرياضية العسكرية وهم فتيان صغار، ولا يقال: إن النساء أيضا يعملن للدفاع عن أوطانهن في الجيوش. فإن الواقع أن الوظائف موزعة بين الرجال والنساء حتى في ميادين القتال، فلا تناط بالنساء إلا الأعمال التي توائمهن كأعمال التموين والمواصلات والتمريض وما يشاكلها مما يباشرنه وراء خطوط النار.
وكذلك لا تناط بهن في تحضير الذخيرة والأسلحة إلا الأعمال التي يطقنها دون الأعمال الكبرى التي لا يصلحن لها ولا تناط بغير الرجال.
وكما ينبغي أن يعد الرجال للجندية ينبغي أن يعد النساء للأمومة وما يتصل بها من فنون التربية والتنشئة والعناية بالصحة والغذاء، ومهما يكن من التسوية بين الآباء والأمهات في تبعة الأبوة والأمومة فلن تلغي هذه التسوية كل فارق بين الأب والأم في النشأة والاستعداد.
ولقد جرب فصل الجنسين بضعة أشهر فظهر أثر هذه التجربة في زيادة التجانس والتوازن بين صفوف المتعلمين والمتعلمات، وأمكن أن يستفيد الصبيان والبنات خير فائدة من كل فترة يتشابهون فيها ولا يتفاوتون.
ولم يزل أساتذة التربية هناك حريصين على مذهبهم المعهود من التسوية بين الجنسين وهما مفترقان، فقال «سولوخين» مدير إحدى المدارس بموسكو: إن هذه التفرقة لا تفيد التفضيل والتمييز «لأن البنات والصبيان في مدارسنا يتلقون وسيتلقون طبقة واحدة من التدريب والتعليم، ويؤهبون أهبة متساوية لنصيبهما من عمل الحياة، وينشأون على عقيدة التكافؤ بين الجنسين».
ونقول نحن: إن عقيدة التكافؤ لا تهم في هذا الموضوع ما بقي الفارق بين الرجل والمرأة في البنية والوظيفة محسوبا له حسابه الصميم في مراحل التعليم من الطفولة إلى الشباب.
فليست المسألة التي نحن بصددها مسألة تقدير المنازل والمراتب في ديوان من دواوين التشريفات، ولكنها هي مسألة القيام بأعمال الرجال وأعمال النساء على الوجه الصالح لكل من الجنسين.
وقد يفرط القائلون بالتساوي كما يفرط القائلون بالتفاوت ذلك الإفراط الذي يلامس الفكاهة والمزاح وإن لم يقصد به قائلوه شيئا من فكاهة أو مزاح.
فهذا الإلحاح على مسألة التساوي لا يقل في سخفه وهزله عن ذلك الرأي الذي ذهب إليه عالم من علماء الطبيعة وهو لا يمزح ولا يهزل، ولكنه يقول جادا: إن اتساع الهوة بين إدراك الرجل والمرأة يرجح لديه أنها أنثى حيوان آخر لجأ الإنسان إلى اغتصابها في غابر العصور على أثر آفة جائحة ألمت بالإناث الإنسانية فانقرضت وهي في بقعة محدودة من الأرض، قبل انتشار الآدميين على وجه العالم المعمور؛ فذلك أقرب التعليلات عنده لهذا التفاوت البعيد بين أسلوب الرجال وأسلوب النساء في الفهم والتصور، فضلا عن القوة العاقلة والبداهة الذهنية!
وفي تخيل هذا العالم غلو يلامس الفكاهة كما أسلفنا، إلا أننا لا نعدو حدود المقررات الفكرية ولا نلامس الفكاهة حين نقول: إن الأنثى الإنسانية ليست هي المقصودة باستقلال الخلقة والتكوين، وإن الغرائز الجنسية تلقي في روعنا أن الرجل هو المقصود باستقلال الخلقة من طريق هذه الغرائز، كما استدللنا على ذلك في بعض فصول كتابنا «المطالعات» فقلنا: «إن المرأة تعشق الرجل لتأتي برجل على مثاله أي لتكرره وتعيد خلقه، ولكن الرجل لا يعشق المرأة ليأتي بامرأة على مثالها ويكررها وإنما يعشقها ليكرر نفسه ويأتي بولد له على مثاله هو من طريق المرأة التي تصلح لذلك في نظره وهواه، والمرأة تعشق لتسليم نفسها في نهاية الأمر فدورها في العشق هو دور التسليم دائما. أما الرجل فيعشق ليظفر بالمرأة فدوره في العشق هو دور الظافر دائما، وليس في مضامين الغرائز الجنسية - وهي أصدق مقياس لما يتناوله الاختلاف من وظائف الجنسين - ما يؤخذ منه أن المرأة أعظم من الرجل شأنا أو أنها مقدمة عليه في مقصد من مقاصد الطبيعة.»
تناقض المرأة
كتب تولستوي الأديب الروسي الكبير في يومياته بتاريخ الثالث من شهر أغسطس سنة 1898: «إن المرأة لأداة الشيطان، إنها غبية في جملة حالاتها، ولكن الشيطان يعيرها دماغه حين تعمل في طاعته . انظر إليها فهي تأتي بالمعجزات من التدبير والنظر البعيد والمثابرة لتفضي من ثم إلى عمل خبيث، ولكنك تنظر إليها حين يطلب منها عمل غير خبيث فإذا هي عاجزة عن فهم أصغر الأمور لا تنظر إلى ما وراء لحظتها الحاضرة ولا ترى لها من عزيمة ولا جلد.» •••
والذي قاله تولستوي عن تناقض المرأة في التدبير يقال كثيرا عن تناقضها في الفهم والشعور: تخلص ثم تخون، وتشتد في الحب ثم تشتد في الكراهية، وتقول لا وهي تعني نعم وهي لا تعني ما تقول، وتصبر على التضحية بالراحة والعافية ولا تصبر على خسارة دريهمات، ولا تزال تنتظر منها شيئا وتفجؤك بغير ما تنتظر، وتحسب عندها حسابا وتلقاك بما لم يكن لك في حساب.
وبعض هذا التناقض في طبيعة الناس من الإناث كانوا أم من الذكور، وفي الشئون الجنسية يعرض لنا أم في غير هذه الشئون.
لكن التناقض - بعد هذا - خلة لا مناص منها في تكوين المرأة خاصة؛ لأنها خلة ملازمة للأنوثة في ألزم لوازمها، وهما الأمومة والحب بشتى معانيه.
فاللذة والألم نقيضان في الكائن الحي على الإجمال، ولكنهما يمشيان معا في إحساس المرأة فتجمع بينهما اضطرارا من حيث تريد ومن حيث لا تريد.
أسعد ساعات المرأة هي الساعة التي تتحقق فيها أنوثتها الخالدة وأمومتها المشتهاة، وتلك ساعة الولادة.
في تلك الساعة يغمرها فرح لا يوصف إذ هي تنجب ذلك المخلوق الحي الذي صبرت على حمله حتى أسلمته إلى الدنيا راضية مرضية، ولكنها مع هذا هي أشد ساعات الآلام والأوجاع في جسد الأم الطريح بين الموت والحياة.
فالنقيضان في إحساسها يتلاقيان ويتجاوران، ويمتزجان أحيانا فلا ينفصلان، ومن هنا تراها في غبطة وهي تعاني الألم وتراها في ألم وهي تختلج بالسرور.
وأسعد ساعات المرأة كرة أخرى هي ساعة التسليم والخضوع للرجل الذي يستحق عندها مذلة التسليم والخضوع.
لا مناص عندها من السعادة في تلك الساعة وهي راغمة؛ لأن أمنيتها القصوى هي أن تظفر بالقرين الذي تستكين إلى بأسه وتشعر بغلبته، ولا سعادة لها مع الرجل الضعيف لأنه أب غير صالح وزوج غير نافع ورجل غير موفور الرجولة، فإذا شعرت بقصارى رجولته شعرت بقصارى غلبته في وقت واحد.
والشعور بالخضوع مؤلم مذل للكائن الحي على الإجمال، ولكنها هي الكائن الحي الذي يحقق لها الخضوع غرض الأنوثة الأقوى، ولا غرض للأنوثة أقوى من الظفر بالغلابين من الرجال.
فهي في ألمها راضية وفي خضوعها ظافرة، وهي على الرغم منها تجمع بين النقيضين: الظفر والهزيمة، والنجاح والتسليم.
هي أبدا بين نقيضين في أمومتها وفي حبها، وذلك هو التناقض الذي لا حيلة لها فيه، ولا يفجأ الرجال منها إلا كما يفجؤها هي على غير ما تنتظر، وعلى غير ما يقع لها في تدبير.
فمن الخطأ أن يرد على الخاطر أن التناقض من دهاء المرأة وتدبيرها، أو من ختلها وخداعها؛ فهي مخدوعة به قبل أن تخدع سواها، وهي في قبضته فريسة لا تملك ما تريد.
ولا بد من التناقض في طبع الأنثى لأنها شخصية حية خاضعة للمؤثرات التي تتناوبها من عدة جهات، وهي كما أسلفنا في الفصل السابق مستجيبة للأثر الحاضر، وقد تبدهها الآثار الحاضرة من كل صوب لا من صوب واحد.
فالمرأة من جهة ثانية عضو في بيئة اجتماعية هي الأمة أو المدينة أو القبيلة، فهي هنا زوجة أو بنت أو أخت أو صاحبة عمل تجمعها بتلك البيئة الاجتماعية صلة العرف أو الشريعة.
والمرأة من جهة غير هذه وتلك أنثى لها تركيب حيوي يربطها بمخلوق آخر لا يتم وجودها بغيره.
والمرأة من جهة أخرى أم تحب أبناءها بالغريزة والألفة وتصبر في سبيلهم على مشقات وآلام يئودها الصبر عليها في غير هذه السبيل، وهي بعد هذا كله كائن حي من حيث هي وليدة الحياة في جملتها أيا كان النوع الذي تنتمي إليه، والأمة التي تعيش بينها والعلاقة التي تجمعها بالزوج أو العاشق أو الأهل أو البنين.
وقد تختلف عليها هذه الوجهات جميعا فلا مفر لها من التناقض معها؛ لأن مقاصد الفرد المستقل والأنثى المفتونة والأم التي تنسى نفسها في حنانها، والكائن الاجتماعي الذي يرعى مطالب العرف والشريعة، أو الكائن الحي الذي تهزه الحياة بهذه النوازع كما تهزه بما عداها، كل أولئك يختلف ويتناقض لا محالة، ولا يتأتى التوفيق بينه إلا في الندرة العارضة.
فها هنا مثلا فرد يريد بفطرته الفردية أن يستقل عن جميع الأفراد الآخرين سواء كانوا من الآباء أو الأمهات أو الأزواج، فلا يلبث أن يستقر فيه هذا الشعور الطبيعي حتى ينازعه فيه شعور الأنثى التي تريد أن تنضوي إلى رجل تهواه، وقد ينازعها شعوران بل أكثر من شعورين إذا تعددت الصفات التي تستهويها من الرجال وتفرقت بينهم على نحو يضلل الإرادة ويشتت الأهواء.
ولا تلبث أن تنسى استقلالها الفردي وتطاوع نزعتها الأنثوية حتى يبرز لها المجتمع بحكم يخالف حكمها في الاختيار والترجيح، فيقودها إلى الجاه والمال وهي تنقاد إلى الفتوة والجمال، أو يلزمها الوفاء للزوج وهي تنظر إلى رجل آخر نظرة الأنثى التي سبقت بفطرتها قوانين الأمم وقواعد الآداب.
ولا تلبث أن تحتال على هذه البواعث أو هذه الوساوس حتى يغلبها حنو الأمومة ليربطها بمكان لا تود البقاء فيه، أو ينهض الكائن الحي في نفسها نهضة لا تطيع باعثا غير بواعث الحياة، بمعزل عن نزوة الأنثى وقانون المجتمع وغرائز الأمهات.
فلا عجب في هذا التناقض ولا مباينة فيه للمعقول، ثم يضاف إليه تناقض آخر يرجع إلى تعدد الدواعي في كل صفة من الصفات التي أشرنا إليها.
ونكتفي بصفة واحدة على سبيل التمثيل؛ لأن شرح الصفات جميعها في تعددها وتباينها من وراء الحصر والإحصاء.
فالمرأة في صفة الأنوثة - وهي تنضوي إلى الذكورة - تحب الرجل الكريم لأنه يغمرها بالنعمة ويريحها من شدائد العيش ويخصها بالزينة التي تزهيها وترضي كبرياءها بين نظيراتها، فضلا عما في الكرم من معنى العظمة والاقتدار.
ولكنك قد ترى هذه المرأة بعينها تتعلق ببخيل لا ينفق ماله على زينة أو متاع، فهل هي مناقضة لطبيعتها في هذا الانحراف العجيب؟
كلا، بل هي لا تناقض طبيعة الكبرياء نفسها التي ترضيها عن كرم الكريم.
لأن المرأة يجرح كبرياءها أن ترى رجلا يستكثر المال في سبيل مرضاتها، ومتى جرحت المرأة في كبريائها أقبلت باهتمامها وحيلتها وغوايتها من حيث أصابها ذلك الجرح المثير، وليس أقرب من تحول الاهتمام إلى التعلق في طبائع النساء.
فالنزعة الواحدة قد تكون سبيلا إلى النقيضين في ظاهر الأعمال ولكنهما نقيضان لا يلبثان أن يتفقا ويتوحدا عند المنبع الأصيل، متى عرفنا كيف تنتهي الردة إليه.
وكلما ذكرنا نقائص المرأة وجب ألا ننسى مصدرا آخر للتناقض في أخلاق النساء يفسر لنا كثيرا من نقائضهن حيثما توقعنا شيئا من المرأة وأسفرت التجربة عن سواه.
ذلك المصدر هو درجات الأنوثة وأطوارها بين الظهور والضمور.
فللأنوثة صفات كثيرة لا تجتمع في كل امرأة ولا تتوزع على نحو واحد في جميع النساء.
فليست كل امرأة أنثى من فرع رأسها إلى أخمص قدمها، أو أنثى مائة في المائة كما يقول الأوروبيون، بل ربما كانت فيها نوازع الأنوثة ونوازع غيرها إلى الذكورة، وربما كانت أنوثتها رهنا بقوة الرجل الذي يظهرها فلا تتشابه مع جميع الرجال، وربما كانت في بعض عوارضها الشهرية وما شابهها من عوارض الحمل والولادة أقرب إلى الأنوثة الغالبة أو أقرب إلى الذكورة الغالبة. وقد كانوا فيما مضى يحسبون هذا التراوح بين الذكورة والأنوثة ضربا من كلام المجاز، فأصبح اليوم حقيقة علمية من حقائق الخلايا وفصلا مدروسا من فصول علم الأجنة ووظائف الأعضاء.
وليس التناقض لهذا السبب مقصورا على النساء دون الرجال.
فإن الرجل أيضا يصدق عليه ما يصدق على المرأة من تفاوت درجات الرجولة؛ إذ ليس كل رجل ذكرا من فرع رأسه إلى أخمص قدمه، أو ذكرا مائة في المائة كما يقال في اصطلاح الأوروبيين، ولكن التناقض لهذا السبب يبدو في المرأة أغرب وأكثر لامتزاجه بأسباب التناقض الأخرى ومحاولة الرجل أن يفهمها على استقامة المنطق كدأبه في تفهم جميع الأمور.
ولا ريب أن «الشخصية الإنسانية» في حالي الذكورة والأنوثة عرضة لكثير من النقائض المحيرة للعقول: عقول الرجال وعقول النساء.
وكم يقول النساء عن تناقض الرجال ولا يخطئن المقال! كم يقلن إن الرجل «كالبحر المالح» لا يعرف له صفاء من هياج! وكم يقلن إن فلانا كشهر أمشير لا تدري متى تهب فيه الأعاصير! وكم تقول إحداهن للأخرى: حبيبك في ليلك عقرب في ذيلك! وكم لهن من أمثال هذه الأمثال مما لا يحفل به الرجال!
إنهن لا يعنين بمقاربة الرجل من طريق الفهم كما يعنين بمقاربته من طريق التأثير، ولو حاولن فهمه كما يحاولن التأثير فيه لخرجن به لغزا من الألغاز وأعجوبة من أعاجيب البحار في قديم الأسفار. «فالشخصية» كلمة واحدة في اللغة ولكننا نخطئ أبعد الخطأ إذا تصورناها شيئا واحدا لأنها تنطوي تحت عنوان واحد؛ إذ هي أشياء لا تحصى من الغرائز والمدارك والأحاسيس وعلاقات المجاوبة بينها وبين العالم الذي تعيش فيه، وهي بهذا الخليط الواسع في حركة دائمة لا تستقر على وجهة واحدة برهة من الزمن، ولا تعهدها في الصحة ولا في الشباب كما تعهدها في المرض أو في الهرم، ولا تصدر فيها النزعة الواحدة من مصدر واحد في جميع الأوقات والأحوال.
فهي تختلف بين حالة وحالة، وتختلف بين سن وسن، وتختلف على حسب العلاقة بينها وبين هذا الإنسان وذاك الإنسان، وتختلف على حسب العلل والبواعث التي تحركها إلى الأعمال.
والمرأة كالرجل «شخصية إنسانية» تتعرض للنقائض من جراء هذا التعدد وهذا التقلب في عناصر كل «شخصية» تحمل عنوانا واحدا وتشتمل على شتى العناصر التي لا يقر لها قرار.
ولكنها انفردت بأسبابها المقصورة عليها، وانفردت بمراقبة الرجل إياها ومحاولة التوفيق بين غرائبها وبدواتها.
وعندها في صميم هذه الأسباب المقصورة عليها حالتان تضاعفان ظهور التناقض فلا يخفى كما يخفى تناقض الرجل على النظرة الأولى.
إحدى هاتين الحالتين طبيعة المراوغة التي وصفن بها؛ إذ «يتمنعن وهن الراغبات».
والأخرى طبيعة الاستغراق في الساعة التي هي فيها ونسيان ما قبلها وما بعدها، فيبلغ العجب أشده بمن يراقبها أن يراها تنتقل بين أطوارها كما ينتقل الممثل بين أدواره ولا يخلط بينها أو لا يستبقي من سوابقها بقية في تواليها.
فمن المشاهد أن الرجل إذا قضى يوما أو أسبوعا في مناداة اسم من الأسماء - ولا سيما نداء المفاجأة - أخطأ فسبق به لسانه في جلسة أخرى لا يود أن يذكره فيها، بل لعله يود أن يكتمه ولا يومئ إليه.
وقلما يشاهد هذا في محادثات المرأة ولو تلاحقت بين ساعة وساعة؛ لأن الساعة التي هي فيها تستولي عليها فلا يزل لسانها بالإشارة إلى غيرها، ولأنها تستعين هنا بطبيعتين أصيلتين فيها، وهما طبيعة النفاق وطبيعة الاستغراق.
ولم يزل التناقض بابا من أبواب الحيرة واختلال الحساب، ولكن التناقض الذي يفهم سببه يريح من الحيرة على الأقل عند البحث عنه والتفكير فيه، وإن لم تكن به راحة من معاناة النقائض وابتلاء متاعبها، ولا عتب في معظمها على المرأة لأنها لا تقصدها كلما لجأت إليها، وقد تكون هي ضحية من ضحاياها.
حب المرأة
يجتمع في حب المرأة كل ما تفرق من نقائضها وأسرار خلقها لأن الحب هو محور الوظائف الجنسية التي خلقت فيها نقائضها وأسرارها؛ فهي لا تتناقض في خالجة من الخوالج كما تتناقض في هذه الخالجة الكبرى، ولا تستوفي أنوثتها في نزعة من النزعات كما تستوفيها وهي تستقبل بها رجولة الرجل الذي تهواه.
ومما يضاعف نقائض الحب أن المرأة في الحب نماذج كثيرة على حسب الطبيعة الغالبة عليها من طبائع الأنوثة.
فليس حب المرأة المشغولة بالأمومة كحب المرأة المشغولة بالزوجية، وحب المرأة المشغولة بالعشق وعلاقاته، أو المرأة المشغولة بالمتعة الحيوانية أو المشغولة باللعب والعبث والتصدي لكل من تلقاه من الرجال.
ولا نهاية للشواغل التي تختلف بها أهواء النساء ولا أهواء المرأة الواحدة، ولكننا نردها إلى نماذجها العامة فتخلص لنا منها تلك النماذج الخمسة التي أجملنا الإشارة إليها فيما تقدم، وهي: نموذج المرأة الأم، ونموذج المرأة الزوج، ونموذج المرأة العاشقة، ونموذج المرأة الهلوك، ونموذج المرأة اللعوب.
وكل نموذج من هذه النماذج يخالف الآخر في حبه واختياره للرجل الذي يوائمه، وفي علاقته بمن يختار.
فالمرأة الأم تصدر في حبها عن بواعث الحنان والتضحية، وقد تعطف على الرجل لمتاعبه وآلامه فتحبه وتهواه؛ إذ يهيئ لها منفذا لعاطفة الأمومة الغالبة عليها، فترعاه في معيشتها معه رعاية الأم لوليدها، وتصبر معه على الضنك والحرمان؛ لأنها مطبوعة على التضحية وإنكار النفس في سبيل الذرية، ومتى طبعت المرأة على إنكار النفس في هذا السبيل فهي تنكر نفسها كلما أحبت واستجاش الحب في طواياها بواعث العطف والرعاية.
والمرأة الزوج يستهويها الرجل من ناحية المعيشة المنزلية والمظاهر الاجتماعية وعلاقات الأهل والأسرة وألفة المزاوجة التي تستغرق طبائع بعض الآدميين، كما نشاهدها مستقرة في بعض الطيور أو بعض الفقاريات التي تألف المزاوجة مدى الحياة.
والمرأة العاشقة تحب الرجل الذي يثير حسها ويشعل كوامن نفسها ويملك إعجابها، وتختلف النساء العاشقات فيما يثير الحس ويشعل كوامن النفس ويملك الإعجاب، فمنهن من يستهويها الرجل بشبابه وجماله وسمته، ومنهن غير أولئك ألوان وأشكال يختلفن في عشقهن كاختلاف الرجال في المحاسن والمزايا أو الخصال.
والمرأة الهلوك تحب الرجل للشهوة الحيوانية ولا يعنيها الرجال إلا من هذه الناحية دون غيرها، ويخلو هذا الحب من الوفاء والإخلاص والشفقة والمودة والمعاني الأدبية التي توجد بين المحبين؛ لأنه يشبه الشغف بالطعام والشراب لا صلة فيها بين الآكل والمأكول أو الشارب والمشروب غير صلة الشبع والجوع وصلة الري والظمأ، ولا تحفل المرأة التي تحب هذا الحب بشخص الرجل ولا تقنع بواحد إذا استطاعت أن تستكثر من العشراء، ولكنها قد تشاهد على حالة من التعلق برجل واحد تلتبس بحالة الوفاء والإخلاص وهي ليست من الوفاء والإخلاص في شيء، وإنما سببها الاختلاف بين الرجل والمرأة في طلب الجنس الآخر واحتجازه.
فالرجل ترضي شهوته كل امرأة اتصلت بينه وبينها صلة جنسية، ولا يعيبه أن يطلب المرأة ولا المرأة تعافه لأنه يطلبها، ويندر من الرجال من يقبل علانية أن تحتجزه امرأة لشهواتها وتتكفل بالنفقة عليه.
ولكن المرأة على نقيض ذلك لا يرضي شهوتها كل رجل تتصل بينها وبينه صلة جنسية، ويعيبها جدا أن تسعى كل حين في طلب رجل جديد، ولا يعيبها أن يحتجزها الرجل وينفق عليها كما يعيبه هو أن تحتجزه وتنفق عليه.
فإذا عثرت المرأة الهلوك بالرجل الذي يرضي شهوتها ويقبل احتجازها وتلبية هواها فهي تتعلق به وتقتصر عليه؛ لأنها طلبة لا تتكرر بمشيئتها، ولو كانت تتكرر بمشيئتها لما فرغت من تغيير الرجال وتبديلهم كل يوم.
ولهذا قد تكون المرأة الشهوانية أدوم النساء على رجل واحد مع أنها لا تعرف الوفاء والمودة والحنان، وذاك الذي يلوح للنظرة الأولى كأنه تناقض عجيب من خلق النساء، وإنما علته ما قدمناه.
أما المرأة اللعوب فهي تحب الرجل الذي يرضي فيها طبيعة اللعب والدعابة والغزل الصاخب المتجدد، وقد تحب الدعابة للدعابة لا لأنها طريق الشهوة أو الصلات الجنسية والعلاقات الزوجية.
وأدعى ما يكون من دواعي الحيرة في تناقض النساء في حبهن أن غلبة نموذج من هذه النماذج على طبيعتهن لا يمحو منها النماذج الأخرى.
فالمرأة اللعوب قد يراجعها عطف الأمومة في بعض أطوارها، والمرأة الأم قد تطرب للدعابة والعبث وتؤخذ بهما، والمرأة الهلوك قد تضمر العشق حينا من أحيانها، والمرأة العاشقة قد تركن إلى الزواج الدائم، والمرأة الزوج قد تعشق زوجها طويلا كما يتعاشق المحبان المغرمان.
لأن غلبة عنصر من عناصر الطباع لا يجتث العناصر الأخرى سواء في نفوس النساء أو نفوس الرجال.
والحب كما لا يحفى علاقة بين شخصيتين لا بين جنسين.
وتفسير ذلك أن العلاقة التي تكون بين كل ذكر وبين كل أنثى هي وظيفة جسدية وليست علاقة نفسية أو روحية كالعلاقة التي تكون بين المحبين.
وإنما تسمى العلاقة بين الذكر والأنثى حبا إذا تميزت فيها شخصية من جنس الرجال وشخصية من جنس النساء، فلا يغني عن كل منهما بديل من جنسه، إلا إذا وهنت العلاقة التي بينهما.
والسنة العامة في الحب هي التوحيد والاكتفاء بمحبوب واحد في حينه، ولكنه قد يجري على غير هذه السنة في بعض أحواله الغريبة، فتحب المرأة غير رجل وقد تحب عدة رجال؛ لأن «شخصية» الرجل الواحد لا تنحصر فيها جميع المزايا التي تستهوي النساء من الرجال، وقد تبرز مزية واحدة كل البروز فلا يسع المرأة أن تغفل عنها، وتضمر فيها المزايا الأخرى فلا تصبر المرأة عن نشدانها في «شخصية» أخرى.
وقد تشعر المرأة بالحاجة إلى حب رجلين اثنين متناقضين: أحدهما تكبره وتكبر نفسها إذا علمت أنها كبيرة في نظره، والآخر تصغره ولا تبالي أن تكشف له صغائرها وتطلعه على مذلاتها، وتستريح إلى محادثته لأنه من الجنس الآخر ولا تشعر بمثل هذه الراحة إلى محادثة صديقة من جنسها.
والمزايا التي تستهوي النساء من الرجال لا تحصى في تعدد أنواعها ودرجاتها، فمنها القوة والجمال والشهوة واللباقة والظرف وعلو المكان وبسطة الجاه، ومنها ما يرضي غرورها وما يرضي جسدها وما يرضي ذوقها وما يرضي فؤادها. وكلها تتطلب الإرضاء ولا تتلاقى في «شخصية» واحدة، فلا يندر من أجل هذا أن تتعلق المرأة بأكثر من رجل واحد تعلقا صحيحا لا رياء فيه، وتعينها على ذلك سليقة الاستغراق التي تهون عليها الانتقال من حال إلى حال في حضرة كل محبوب، فلا ينكشف سرها إلا بانتباه شديد؛ لأن المرأة قد تنكشف حين تبغض وتداهن من تبغضه، ولكنها لا تنكشف حين تحب وتظهر المحبة وإن أضمرت غيرها في اللحظة بعينها، وهذه هي العقدة التي يحسبها بعضهم لغزا كاللغز الذي يصادفه العلماء النفسانيون في أصحاب «الشخصية» المتعددة، وليست هي باللغز على هذا الاعتبار؛ لأن الشخصية المتعددة غير الشخصية الفذة التي تمر بحالة بعد حالة وتستغرق في كل منها فترة تقصر أو تطول.
وفي حب المرأة مجال للتناقض - غير ما تقدم - يرجع إلى تفاوت درجات الأنوثة الذي سبقت الإشارة إليه.
فمن التعبيرات المجازية التي تقارب الحقيقة العلمية كل المقاربة أن المرأة والرجل لا يكمل الوفاق بينهما إلا إذا كان فيهما معا ذكر كامل وأنثى كاملة، أو مائة في المائة من الذكورة ومائة في المائة من الأنوثة كما يقال في الاصطلاح الأوروبي الحديث.
ولكن المرأة التي تكمل فيها مائة في المائة من الأنوثة غير موجودة، والرجل الذي تكمل فيه مائة في المائة من الرجولة غير موجود.
فالمرأة التي تغلب عليها الأنوثة يصلح لها قرين تغلب عليه الرجولة، فإذا انحرفت المرأة نحو طباع الرجال فأصلح القرناء لها رجل منحرف نحو طباع النساء.
وقد تسيطر المرأة على رجل وتخضع لرجل غيره، تبعا لاختلاف نصيبهما من الفحولة وصعوبة المراس.
وهذا التفاوت في درجات الأنوثة هو سبب الانحراف في علاقات الجنس بين بعض النساء المعروفات «بالسافيات» نسبة إلى الشاعرة اليونانية سافوا التي تغزلت في بعض أناشيدها بالفتيات.
كأنما تفقد المرأة سرورها بمصاحبة الرجال فهي تلتمس هذا السرور بمصاحبة بنات جنسها الذي خرجت منه بالمزاج وإن بقيت فيه بتركيب الأعضاء.
ومن المقارنات التي تتكرر في كل جيل تلك المقارنة الخالدة بين الرجال والنساء في الحب أيهما أقوى فيه وأيهما أوفى وأيهما أقرب إلى الروحانية والقداسة.
بعض الأقدمين زعموا أن المرأة أقوى شهوة من الرجل، وزعموا أنهم قاسوا هذا الفارق بمقياس الحساب، فوجدوا أن نصيب النساء تسعة وتسعون والواحد الباقي من نصيب الرجال.
وبعض المحدثين زعموا أن الحب أهم للمرأة من الرجل؛ لأن شواغل الرجل قد تلهيه عن الاستغراق فيه.
ولا بد من فارق في الحب بين الجنسين على كل حال.
لأن هدف المرأة من الحب هو الرجل وهدف الرجل من الحب هو المرأة، وهما مختلفان في الصفة والغاية والوسيلة.
لا بد من فارق بين الحب المعبر والحب الكتوم، فالحب المعبر - وهو حب الرجل - يتسامى بتعبيره أحيانا إلى خلق الجمال في الفنون كما يصنع المغرم الذي ينشد القصيد أو يبدع التماثيل أو ينطلق بالغناء.
والحب الكتوم - وهو حب المرأة - قد يتوارى عن الأنظار ويتغلغل في الأسرار ويعمد إلى الرقى والتعاويذ وإلى السحر الأسود يستميل به من لا يميل ومن لا يرفع المرأة في نظره أنه يستمال عنوة وجهرة، كما يفعل الرجل حين يستميل من يهواها من النساء.
فالفن الجميل شفيع حب الرجل، والسحر الأسود شفيع المرأة؛ لأن هذا مجذوب إلى الخفاء وذاك مجذوب إلى الضياء، وإن وجد كلاهما أصلا لغرض غير هذين الغرضين.
وإن الفجوة بعيدة بين الوجهتين.
وشتان بين الحب الناطق الذي يكرمه أن يطلب ويعبر، وبين الحب الصامت الذي يكرمه أن يصمت وينتظر؛ فهما ولا ريب جنسان متباينان كما يتباين الجنسان المحبان.
كذلك لا يتشابه الحبان، هذا خلق في طبيعة تنقاد للمؤثرات ولا تبالي ما وراءها ولا تزال في حاجة إليها وهي معشوقة وزوج وأم ذات بنين، وهذا خلق في طبيعة تملي تلك المؤثرات وتتسلط بها على الطبيعة المقابلة لها، وهي مدعوة إلى التسلط عليها.
فأحد الحبين ينبع من الإحساس، والآخر ينبع من العزيمة النافذة والعارضة القوية، وإن جاز أن يصطبغ كلاهما بغير صبغته كلما جاوز المنبع وجرى مطردا أو غير مطرد في مجراه.
ولا يتشابه كذلك حب يقترن بحب المجد والكفاح ونتاج الفكر والإلهام، وحب تفرغ له النفس أو تكاد، ولا تطلب المفاخر معه إلا من طريقه أو من جوار ذلك الطريق.
والحب يعد من جانب المرأة طلب حماية وتسليم، ومن جانب الرجل طلب هجوم وظفر، فلولا أنهما يدوران على محور واحد لقيل إنهما متناقضان.
والحب كما قيل عند المرأة شغل شاغل وصناعة دائمة، وعند الرجل رياضة فراغ وسكن من جهاد.
فهو يستولي على المرأة كلها ولا يستولي من الرجل إلا على الجانب الذي يتوق إلى الرياضة وابتغاء الراحة، ومن الرياضة رياضة القريحة ورياضة الروح.
فأيهما إذن أحرى أن يدوم؟
ظاهر الأمر أن الحب الذي يستولي على النفس كلها هو أحرى بالدوام، وحقيقة الأمر أن الحب الذي يبلغ هذا المبلغ هو أقرب الحبين إلى الخطر وأدناه إلى التبدل؛ لأن النفس الإنسانية لا تدوم طويلا على حالة الاستغراق أو الشبع والامتلاء، وقد يضمن الدوام للحب الذي يستريح من جانب إلى جانب ولا يكلف الطبع جهدا عظيما في موالاته بالمدد والتجديد، ولكنه لا ضمان للحب الذي يحتاج أبدا إلى مدد يكفل له كل استغراق وامتلاء، ولا يصبر على فراغ بعضه إلا نزع إلى حالة أخرى من حالات الاستغراق والامتلاء. •••
وتعريف الحب - ولو فيما نراه نحن - قد يعين على فصل هذين الحبين ولمس مواقع الالتباس بينهما، إذا وقع هذا الالتباس.
فالحب - ولو فيما نراه نحن - هو اتصال شخصيتين - لا مجرد ذكر وأنثى - تتغلب فيه العادة على الإرادة، وقد يتفق لأكثر من شخصيتين اثنتين مع اختلاف الباعث والغرض والقوة.
وهنا تلعب العوارض النفسية لعبها الذي يخلط بين الشكول حتى ليوشك أن يخلط بين الأصول.
فالرجل أقوى إرادة من المرأة ولكنه لا يشعر بالعيب وهو يريد المرأة ويلاحقها ويحرص على احتجانها واستبقائها، ما لم يكن في ذلك مساس بالنخوة والمروءة، فيريد أحيانا وهو يبدو للوهلة الأولى كأنه مقسور.
والمرأة أضعف إرادة من الرجل، ولكنها تشعر بالعيب من ملاحقته واحتجانه، فتصد عنه وتعتصم في صدها بحظ المرأة من الإرادة، وهو العناد أو الإرادة السلبية: إرادة الامتناع.
وهذا الذي يبدو منه لأول وهلة أن المرأة في الحب أقوى إرادة من الرجل.
وقد قالت إحدى ذكيات المعلمات في معرض الموازنة بين ذكاء الجنسين أن النساء أذكى من الرجال؛ لأنهم يريدون معا سرورا واحدا والرجل هو الذي يؤدي ثمنه ويسعى إليه.
وذلك هو التباس الشكول الذي لا يسري إلى الأصول.
فإن المسألة هنا ليست مسألة الإرادة وإنما هي مسألة الشعور بالعيب بين الجنسين، ولا يعيب الذكور ما يعيب الإناث.
نعم، ولا يعيب الكفيل أن يسعى في رعاية المكفول، بل يبلغ من ذلك أن الطفل الصغير يقسرنا على رشوته ومصانعته ليقبل على تجرع الدواء، وهو أحوج إلى معاطاته وفي خطر من الإعراض عنه. •••
وكل ما تقدم فهو حديث عن الرجل الذي أحب والمرأة التي أحبت، وليس بحديث عن كل رجل وكل امرأة من الجنسين.
فليس لأحد أن ينظر إلى الرجال عامة والنساء عامة ثم يسأل أين هي نوازع الرجال الذين تعنونهم؟ وأين هي نوازع النساء اللاتي تعنونهن؟ فإن من يسأل هذا السؤال كمن يلتمس الماء في غير مورد، وأخلق بالباحث عن عوارض النفوس أن يبحث عنها في أطوار التعرض لها والإصابة بها كما يبحث عن عوارض الأبدان.
فهي تعرف حيث توجد، ولا تعرف حيث تنعدم أو تكمن في الانتظار، وكم من الرجال والنساء يقضون العمر ولا يعيشون، ويلبسون الحياة في ذيل ثوب الحياة!
أخلاق المرأة
الأخلاق ضوابط جسدية ونفسية تعم الأحياء جميعا ولا تخص نوع الإنسان .
ومن العسير أن نفصل بين الأخلاق الإنسانية والأخلاق الحيوانية بحجاز حاسم يقال عن هذا الشطر إنه إنساني لا حيوانية فيه، وعن ذلك الشطر إنه حيواني لا إنسانية فيه.
ولكن الفصل بينهما قد يتيسر على وجه التقريب بمقياس يصدق في معظم الأحوال، إن لم يصدق في جميع الأحوال.
فالخلق الإنساني هو الخلق الذي يعتمد على المبدأ والضمير ويتفاضل الأفراد فيه على حسب التفاضل بينهم في العقل والنبل والنشأة والعادة والتعليم.
والخلق الحيواني هو الخلق الذي يعتمد على الغريزة والوظائف الحيوية ويجري على وتيرة الحركة الآلية التي لا تحتمل التفاضل البعيد بين فرد وفرد وبين فصيلة وفصيلة.
ذاك فردي روحي.
وهذا نوعي جسدي على وجه التقريب بذلك القياس الذي قلنا إنه قد يصدق على معظم الأحوال وإن لم يصدق على جميع الأحوال.
وهذا المقياس بعينه هو المقياس الذي يرجع إليه في التفرقة بين أخلاق الرجال وأخلاق النساء: كل ما هو فردي روحي أو اختياري إرادي فهو أقرب إلى خلق الرجل، وكل ما هو نوعي جسدي أو آلي إجباري فهو أقرب إلى خلق المرأة؛ فمداره على وحي الغريزة أولا ثم على وحي الفهم والضمير.
والأخلاق التي يسمو بها الإنسان إلى مرتبة التبعة والحساب أو مسئولية الأدب والشريعة والدين، هي كما لا يخفى أخلاق تكليف وإرادة وليست أخلاق إجبار وتسخير.
ومن هنا صح أن يقال إن المرأة كائن طبيعي وليست بالكائن الأخلاقي على ذلك المعنى الذي يمتاز به خلق الإنسان ولا يشترك فيه مع سائر الأحياء.
ملاك الأخلاق الأول عند المرأة هو الاحتجاز الجنسي الذي ألمعنا إليه فيما تقدم، وهو من الغريزة التي يتساوى فيها إناث الحيوان وليس من الإرادة التي يتميز بها نوع الإنسان بجنسه.
فالمرأة تستعصم بالاحتجاز الجنسي؛ لأن الطبيعة قد جعلتها جائزة للسابق المفضل من الذكور، فهي تنتظر حتى يسبقهم إليها من يستحقها فتلبيه تلبية يتساوى فيها الإكراه والاختيار.
كذلك تصنع إناث الدجاج وهي تنتظر ختام المعركة بين الديكة أو تنتظر مشيئتها بغير صراع.
وكذلك تصنع الهرة وهي تتعرض للهر وتعدو أمامه ليلحق بها، وتصنع العصفورة وهي تفر من فرع إلى فرع ليدركها العصفور السريع، وتصنع الكلبة والفرس والأتان وهي مضطرة إلى الاحتجاز؛ لأنه الحكم القاهر الذي فرضته عليها وظائف الأعضاء.
والبون بعيد جدا بين هذا الاحتجاز الجنسي وبين فضيلة الحياء التي تعد من فضائل الأخلاق الإنسانية.
فالحياء مفاضلة بين ما يحسن وما لا يحسن وبين ما يليق وما لا يليق وما هو أعلى وما هو أدنى.
والاحتجاز الجنسي غريزة عامة بين الإناث ترجع إلى القهر والإجبار كائنا ما كان التفاوت بينها في درجة القهر والإجبار.
ومتى بلغ هذا الاحتجاز الجنسي مبلغه الذي قصدت إليه الطبيعة فقد بلغت الأخلاق الأنثوية غايتها ولم يبق منها ما يلتبس بالحياء في صورته ولا في معناه.
ومن ضلال الفهم أن يخطر على البال أن الحياء صفة أنثوية، وأن النساء أشد استحياء من الرجال؛ فالواقع كما لاحظ شوبنهور أن المرأة لا تعرف الحياء بمعزل عن تلك الغريزة العامة، وأن الرجال يستحون حيث لا يستحي النساء، فيستترون في الحمامات العامة، ولا تستتر المرأة مع المرأة إلا لعيب جسدي تواريه.
ولم يكن عمر بن أبي ربيعة مبالغا حين قال: إن الوجوه يزهوها الحسن أن تتقنع. بل هو لو شاء لقال عن الأجسام ما قال عن الوجوه؛ فلا تستر الأنثى الفطرية شيئا يمكنها أن تبديه إذا كان في عرضه مجلبة للنظر والاستحسان، ومن شهد الحمامات العامة على شواطئ البحر رأى كيف تهمل الأكسية ذات الرفارف المسبلة ليبدو للأنظار ما استتر من محاسن الأجسام.
فالخلق الذي تتحلى به المرأة بداهة هو خلق الغريزة الذي يوشك أن يشمل إناث الحيوان.
وكل خلق «إرادي» تتخلق به بعد ذلك فهو فريضة عليها من الرجال تجاريهم فيه على ديدن المحاكاة والمطاوعة سواء فهمته أو جهلت كنهه ومرماه؛ ولهذا يكثر في النساء من يتقيدن بالعرف القديم؛ لأن قوام العرف القديم عادات ومصطلحات هي أقرب إلى الغريزة الآلية من فضائل الفهم والإرادة، ويندر بينهن جدا من تتحدى العرف بفضيلة واحدة من فضائل الاختيار.
جرى حديث متنقل في مجلس يضم رهطا من الرجال والنساء على قسط شائع من التعليم والعرف والآداب الخلقية، فانساق الحديث إلى سيرة رجل يتجاوز الخمسين ذاع عنه أنه يستدرج الفتيات الغريرات إلى داره فيلهو بهن ويظهر معهن في المحافل العامة، ويدفعهن إلى سهرات العبث والمجون، فكان النساء أقل من حضر المجلس اشمئزازا من سيرة ذلك الخليع، كأنهن لا يرين نقصا في رجل من الرجال بعد أن تكمل له تلك الفحولة الحيوانية، أو كأنهن لا يصدقن أن الفتيات الغريرات يسقطن في شراكه مخدوعات مغلوبات على مشيئتهن، ولكنهن راضيات مسرورات بما أتيح لهن من فرص المتعة والابتهاج.
وكل ما بدا عليهن بعد ذلك من الاشمئزاز فقد سرى إليهن مستعارا ممن كان بالمجلس من الرجال، فقد كانوا في هذا المجتمع الخاص كما كانوا في المجتمع العام كله «مصدر السلطات على حد قولهم» في لغة الدساتير.
ومتى سقط سلطان الرجال في الأمة سقط معه سلطان الأخلاق سواء منها أخلاق العرف وأخلاق الإرادة.
فالأمم المهزومة يشاهد فيها طوائف من النساء يجهرن بمخادنة الجنود الفاتحين، ولا يكرثهن أنهم قاتلوا الإخوة والأزواج والآباء، لأن الخضوع للغلبة ألصق بطبيعة الأنوثة الفطرية أو الحيوانية من جميع هذه الأواصر والآداب.
والعبرة التي تستفاد من هذه الحقيقة أن النساء يوكلن إلى الفطرة في أخلاق الغرائز والعادات، ولكن لا يصح أن يتركن في الأخلاق الأخرى - أخلاق الإرادة والضمير - بغير إيحاء شديد، بل إكراه يتجاوز حدود الإيحاء.
والغريزة القاهرة تعلل محاسن المرأة كما تعلل نقائصها، فتمهد لها العذر بين يدي الطبيعة وإن لم تمهده لها بين يدي القانون والأخلاق.
فالتضحية هي أسمى فضائل الإنسان.
وهي فضيلة لا يقدم عليها المرء كل يوم ولا يقدم عليها بغير دافع شديد من وحي الفطرة أو من وحي الضمير.
ولكنها من وحي الفطرة أعم وأنفذ من وحي الضمير؛ لأن سلطان اللحم والدم عميق القرار في بواعث النفوس.
ومن ثم كانت المرأة أقرب من الرجل إلى التضحية في وظائفها النوعية؛ لأنها تستمد تضحيتها من غرائز الأمومة، وتموت في سبيل الذرية كما تموت بعض إناث الحيوان، ولا تسهل التضحية على الرجل هذه السهولة إلا إذا ارتقى فيه وحي الضمير إلى مرتبة الدوافع الفطرية المودعة منذ الأزل في غرائز الأحياء، وتلك مرتبة يعز بلوغها على أبناء آدم فلا تزال فيهم من فضائل الأنبياء وأشباه الأنبياء، أو كما قال ابن الرومي:
وعزيز بلوغ هاتيك جدا
تلك عليا فضائل الأنبياء
إنما يقدم الرجل على التضحية في جملة أحوالها العامة بغريزة أخرى مغروسة في طبيعة النوع ولكنها أحدث وأقرب إلى الإرادة، وهي غريزة القطيع التي نشأت مع الخلائق الاجتماعية ولم تنشأ بداءة مع الولادة كما نشأت الغرائز الأنثوية في جميع إناث الأحياء، فإذا تصدى الرجل للقتال في الجيش أو الكتيبة تحرك بإرادة القطيع كله وتغلب بها على الخوف وحب السلامة. ولكنه قد ينفرد بالتضحية التي يدفعه إليها وحي الضمير فيعلو على فضائل الأنواع والجماعات ويعرج بروحه صعدا في طراز رفيع من الفضائل: هو فضائل الأفراد والأفذاذ. •••
والغرائز المختلفة التي تعلل لنا محاسن المرأة تعلل لنا نقائصها التي تعاب عليها من بعض جهاتها، وقد لخصها المتنبي ولخص كل ما قيل في معناها؛ حيث قال:
فمن عهدها ألا يدوم لها عهد
فهي تتقلب وتراوغ وترائي وتكذب وتخون وتميل مع الهوى وتنسى في لحظة واحدة عشرة السنين الطوال.
وهي مسوقة إلى ذلك بالفطرة الجنسية التي خلقت فيها قبل نشأة الآداب الاجتماعية والآداب الدينية بألوف السنين؛ فقد أغرتها الفطرة الجنسية بالميل إلى الأقدر الأكمل من الرجال لتنجب للعالم أحسن الأبناء من أحسن الآباء.
فلم يكن مما يوافق هذه الفطرة في العصور السحيقة أن تحفظ العهد لرجل واحد ومن حولها رجال كثيرون يتقاتلون عليها، وقد يغلب أحدهم رجلها الذي تحفظ له العهد أو يطالبها بحفظه.
وكانت الحرب في بداية الحياة الإنسانية هي مقياس القدرة والرجحان بين الرجال في قبيلتهم أو في جميع القبائل المحيطة بها.
فكان من شأن المرأة أن تسلم لظافر بعد ظافر وشجاع بعد شجاع، كلما دارت رحى الحرب بين غالب ومغلوب وبين الشجاع القوي ومن هو أشجع منه وأقوى.
ثم أصبح المال مقياس القدرة والرجحان بين الرجال، وكان مقياسا صحيحا في العصور الغابرة، وظل كذلك ألوفا من السنين؛ لأنهم كانوا يكسبون المال غنيمة في حومة الحرب أو ربحا من أرباح التجارة التي تقحم أصحابها في مجاهل الأرض وتهدفهم لأخطار القتل والاستلاب وتلجئهم إلى الحيلة تارة وإلى الحول تارات وتشهد لهم بمقياس القدرة والرجحان عن جدارة واضحة تغني المرأة عن التفكير، وهي لا تعمد كثيرا إلى التفكير قبل الاختيار.
قلنا في الفصل الذي عقدناه على رأي المعري في المرأة من كتابنا «المطالعات»: «والذي نقوله في جملة واحدة: إن المرأة وفية صادقة، وفية للحياة لا لهذا الرجل أو لذاك، وصادقة في الحب لا في إرضاء أهواء من تحب، ولو أنعمنا النظر لعرفنا أن المرأة تخون نفسها كما تخون الرجل في سبيل الأمانة للحياة، وتكذب على نفسها كما تكذب على محبيها في صيانة عهد الحب؛ فهي وفية بالفطرة رضيت أم لم ترض، وهي صادقة بالإلهام حيث أرادت وحيث لا تريد ...».
إلى أن قلنا: «تحب المرأة الشباب ومن ذا الذي لا يحب الشباب؟ إن الشباب نفحة الخلود وروح من روح الله. تصور الأقدمون الآلهة فلم يفرقوا بينهم وبين الشباب وأسبغوا عليهم كساء سرمديا من نسجه وبهاء متجددا من صنعه، شعورا منهم بأن الشباب سمة الحياة الخالدة وروح المعاني الإلهية، وترجيحا لخير الشباب على شره ولمحاسنه على عيوبه.» «... ثم تحب المرأة المال ومن ذا الذي يكره المال؟ غير أننا قد نرى للمرأة سببا غير سائر الأسباب التي تغري بحب المال وإعظام أصحابه، نرى أن كسب المال كان ولا يزال أسهل مسبار لاختبار قوة الرجل وحيلته، وأدعى الظواهر إلى اجتذاب القلوب والأنظار واجتلاب الإعجاب والإكبار؛ فقد كان أغنى الرجال في القرون الأولى أقدرهم على الاستلاب وأجرأهم على الغارات وأحماهم أنفا وأعزهم جارا، فكان الغنى قرين الشجاعة والقوة والحمية وعنوانا على شمائل الرجولة المحببة إلى النساء أو التي يجب أن تكون محببة إليهن. ثم تقدم الزمان فكان أغنى الرجال أصبرهم على احتمال المشاق وتجشم الأخطار والتمرس بأهوال السفر وطول الاغتراب وأقدرهم على ضبط النفس وحسن التدبير، فكان الغنى في هذا العصر قرين الشجاعة أيضا وقوة الإرادة وعلو الهمة وصعوبة المراس، ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أبعدهم نظرا وأوسعهم حيلة وأكيسهم خلقا، وأصلبهم على المثابرة، وأجلدهم على مباشرة الحياة ومعاملة الناس، فكان الغنى في هذا العصر قرين الثبات والنشاط ومتانة الخلق وجودة النظر في الأمور ...».
كان هذا كله في العصور الأولى قبل تشعب الحياة الاجتماعية وتعدد الملكات والصفات التي تكفل الرجحان والتقدم للرجال.
ثم تعددت هذه الملكات والصفات فقام في طبيعة المرأة «برج بابل» مخيف من اختلاط الأصوات والدعوات.
كان رجحان الرجل بسيط المظهر، وكانت فطرة المرأة البسيطة قادرة على تمييزه بغير إعنات للفكر ولا إطالة للروية.
ثم تشعبت الملكات والصفات ووجد في العالم رجال ممتازون بأكبر المزايا، وليس للمرأة من فطرتها البسيطة معين على تقدير مزاياهم وعرفان أقدارهم، والترجيح بينهم وبين من دونهم من أصحاب المزايا الفطرية التي تنكشف للنظرة الأولى ولا تحتاج إلى إنعام نظر أو موازنة بين أنواع وأشكال: رجل الحرب الذي يظفر بالقوة والخدعة، ورجل المال الذي يكسب بالقوة والخدعة، وكلاهما مفهوم واضح مكشوف على ظواهر الأشباه.
ثم انفصلت الحرب عن الشجاعة في بعض المواقف، وانفصل المال عن القدرة الراجحة في كثير من المواقف، فأغنى السلاح والكثرة ما لا تغنيه الشجاعة، وكسب المال بالإسفاف والدناءة وخدمة الشهوات؛ فهذا هو برج بابل الذي لا تدري المرأة فيه من تسمع ومن تجيب، والذي تحار فيه قبل التمييز والتفضيل وقد كانت قبل ذلك لا تحار في تمييز أو تفضيل.
وزاد برج بابل طبقة على طبقاته الكثيرة أن الآداب الاجتماعية وآداب الأسرة ظهرت بين الناس وفرضت على المرأة أدبا جديدا غير الأدب القديم، أدبا يطالبها بالوفاء والأمانة ومغالبة الميول إذا تناضل من حولها الرجال، فزاد في الحيرة والتبلبل ولم يخلق بإزائه في فطرة المرأة معين على التمييز والاهتداء، إلا ما تقتبسه بالتعليم والتلقين والإيحاء، وهو ضعيف محدود لا يقوم لإيحاء الفطرة القديم إذا اشتجر النزاع واضطربت الأهواء.
فانقسم النساء أقساما شتى في الأخلاق الفطرية والأخلاق الاجتماعية: قسم مع الفطرة القديمة وقسم مع الأدب الجديد، بل أصبحت كل امرأة مجالا لتعدد هذه الأقسام تميل مع هذا أو ذاك كلما مالت بها دواعيه.
فنحن إذ نقول إن المرأة تطيع الغرائز الجنسية في التقلب والمراوغة وخيانة القرناء لا نقول ذلك لنعذرها كل العذر أو لنسقط عنها واجب التغلب على هذه الميول التي تغيرت وجهاتها مع الزمن ولا تزال عرضة لكثير من التغير، فإن الأخلاق لم تجعل لإبقاء الفطرة على عيوبها، وإنما جعلت لتهذيب تلك العيوب ورياضتها وشد أزر النفس بالمثل الأدبية التي تعينها على عيوبها. ولكننا نقول ما نقول لنذكر أبدا أن فهم الغرائز الجنسية ضروري لفهم الأخلاق التي تتصل بها، فلا فائدة من البحث في رياضتها بالأدب الاجتماعي قبل البحث فيما يقابلها من أصول الفطرة التي تعم جميع الأحياء، وليس عمومها بين جميع الأحياء بمانع من إصلاحها بالرياضة والتقويم، بل هو الذي يسوغ ذلك الإصلاح ويوجبه ويبشر بفلاحه؛ لأن الإنسان قد علا فوق سائر الأحياء، فمن الواجب إذن - ومن المستطاع أيضا - أن يعلو فوقها بالآداب والأخلاق.
ومن مفارقات العصور المتأخرة أن ينجم فيها طائفة من الدعاة وأصحاب الآراء يستخفون بالاحتجاز الجنسي الذي كان عصام المرأة من جماح الأهواء زمنا طويلا ويستخفون معه بما عداه من الحواجز الجنسية المغروسة في طباع الأحياء؛ لأنها في رأيهم بقية لا ضرورة لها من بيئات المعيشة الحيوانية الأولى.
فعندهم مثلا أن حرية المرأة في العصر الحديث تبيح لها ما حرم عليها في العصور القديمة، فلا يعيبها أن تبدأ الرجل وتلاحقه لتستولي عليه، كأنما كان تركيب الجسم الأصيل في الأنوثة والذكورة مسألة من مسائل الحريات التي يذهب بها نظام ويأتي نظام ويبرمها قانون وينقضها قانون.
وعندهم أن الحيوانات لم تقتصر على موسم واحد في التناسل إلا لأنها تشبع من الطعام في هذا الموسم فتمتلئ أجسادها بفيض من الثورة الحيوية يدعوها إلى طلب الذرية.
وليس أجهل بأسرار الحياة - وسر الجنس أكبر أسرار الحياة - ممن يقنع في تفسيرها وردها إلى أصولها بمثل هذا التعليل القريب.
فإن هذا التعليل القريب لا يكفي على الأقل لتفسير الظاهرة التي أشار إليها أولئك الدعاة؛ إذ إن الثمرات النباتية تتوالد في الموسم بعينه وهي الغذاء الذي تعتمد عليه آكلات العشب من الحيوان، ومتى زادت قوة التوالد في النبات فأحرى أن تزيد قوة التوالد في الأحياء لغير ذلك السبب الذي ذكروه وعلقوه بزيادة الثمرات.
ومن الحيوان ما يعتمد على اللحوم دون العشب ويأكل منها طوال العام، ومنها الأسماك التي لا مواسم عندها للنبات، وهي مع هذا تعرف لها مواسم للتناسل وتخرج إلى الأنهار القصية قبل الأوان الملائم للقاح بين جراثيم الذكورة والأنوثة.
وقد تختلف الأوابد والدواجن في موسم التناسل ولكنها على التعميم لا تقارب الأنثى بعد حملها، ولا تعبث بغريزة النوع للذة الأفراد، فالسر أعمق مما يظنون بكثير.
وحواجز الجنس ودوافعه لا تفسر كلها بأمثال ذلك التعليل الهزيل.
ومما لا شك فيه أن الأخلاق الجنسية كسائر الأخلاق قوامها ضبط النفس وهو لا يوافق الذهاب مع الهوى حيثما تعرض المرء للاستهواء، ولا بد من ضبط النفس والقدرة على الامتناع لتحقيق كل خلق كريم يصلح للأفراد أو للأقوام أو للأنواع.
والإنسان أحوج إلى الحواجز الجنسية من الحيوان، وليس بأغنى منه عن تلك الحواجز تقدما مع الحرية كما يخيل إلى أولئك الثراثرة السطحيين.
فالحيوان يتشابه ويتماثل ويصعب التفريق بين أفراده في الصفات المشتركة في سلالة النوع كله؛ فلا ضير على النوع أن يتلاقى أي ذكر بأي أنثى أو ينتجا أمثالهما من الذكور والإناث.
لكن الأنواع كلما ارتقت تعددت الصفات التي يكمل بها الفرد ذكرا كان أو أنثى، ويبلغ تعدد الصفات أقصاه في النوع الإنساني سواء بين الذكور أو بين الإناث، حتى ليكاد الفرق بين رجل ورجل، والفرق بين امرأة وامرأة أن يلحق بالفرق بين نقيضين أو مخلوقين من نوعين مختلفين.
فليس كل رجل بديلا من كل رجل، وليست كل امرأة بديلا من كل امرأة، ويجب على الرجل إذن أن يمتنع حتى تتاح له المرأة التي تلائمه، وعلى المرأة أن تتمنع حتى يتاح لها الرجل الذي يلائمها.
وأن يتعلق الأمر «بالشخصية» المميزة لا بمجرد امرأة كائنة ما كانت أو بمجرد رجل كائنا ما كان، كما يغني كل فرد عن مثيله في الأنواع الوضيعة بين الأحياء.
وفي هذه الحالة لا ينتفع النوع بكل اتصال تتحقق به المتعة الجنسية، بل ينفعه الاتصال الذي تتم به الشخصيات وتتوافر فيه أتم صفات الرجال وأتم صفات النساء.
ثم تنشأ الآداب الاجتماعية وحقوق الأسرة وأمانة النسل، فإذا هي قد ألزمت الرجال والنساء آدابا من حقها أن تطاع وأن يحسب لها أوفى حساب.
نعم إن هذه الآداب صناعية أو مبتدعة من أحكام البيئة التي خلقها الناس، ولكنها - كجميع الآداب والفروض - تستند إلى أساس فطري عريق في الطبيعة وهو ضبط النفس وقوة البنية على مقاومة النوازع والأهواء.
ونضرب لذلك مثلا صغيرا من المحرمات التي جاءت بها الآداب الدينية أو العرفية بعد ظهورها في المجتمعات الإنسانية؛ فإن تحريم القمار أو الخمر أو السرقة لم يعرف في آداب الناس إلا بعد ظهور هذه الآفات، ولكن ضبط النفس الذي يناط به الامتناع عنها هو خلقة طبيعية لم تنشأ من العرف أو الاصطلاح، فلا يزال الفرق بين إنسان يستطيع أن يمتنع عنها وإنسان لا يستطيع الامتناع فرقا في صميم التكوين الذي لا ينشئه العرف ولا ينسب إلى الأوضاع الصناعية.
وكذلك الحواجز الجنسية التي يفرضها المجتمع أو توجبها مصلحة الأسرة هي حواجز لا يقدح في أصالتها أنها حدثت بعد حدوث الحاجة إليها، لأن القدرة عليها فضيلة من فضائل التكوين الأصيل.
والرجل الذي يقدر عليها هو رجل ممتاز في خلقته الطبيعية كالمرأة التي تقدر عليها، وكلاهما زوج أصلح من غيره للبقاء وإنجاب الأبناء.
فأسخف السخف أن يظن بالحضارة المدنية أنها رخصة تبيح التهافت على المتعة ونسيان الحواجز الجنسية؛ لأن التهافت نقص في الخلقة قبل أن يكون نقصا في الآداب الاجتماعية، وهذا النقص معيب وخيم العقبى وإن لم تحرمه الآداب.
وسيطول التبديل والتعديل في العرف والتشريع والشمائل المحبوبة بين الناس كلما تطاولت الأجيال، وسيقول كل ذي رأي قوله الذي يجوز فيه الجدال، ويبقى حكم واحد لا تبديل له وقول واحد لا يجوز الجدال فيه، وهو أن الاحتجاز قوام أخلاق الأنوثة، وأن المرأة التي تنساه هي حيوان ناقص في تكوينه، وليس قصارى القول فيها أنها فرد مقصر في حقوق المجتمع والأسرة، وأن مساك الأخلاق جميعا - ما أوجبته الفطرة وما أوجبه المجتمع - هو ضبط النفس والترفع عن مطاوعة كل عارضة من عوارض الأهواء.
حقوق المرأة
كلما ذكرت حقوق المرأة في العصر الأخير بدرت إلى الذهن حقوقها السياسية التي يطالب بها بعضهن ويدور البحث عليها بين أصحاب المذاهب الاجتماعية الحديثة: هل لها حق في ولاية الحكم؟ هل لها حق في الانتخاب؟ هل لها حق في الوظائف العامة وتدبير المتاجر والمصانع وأسباب الثروة على اختلافها؟
ونحن في هذا الكتاب لا يهمنا تفصيل القول في هذه الحقوق من الناحية الفقهية أو الناحية السياسية؛ لأن المهم عندنا أن ننظر إلى طبيعتها وإلى الفوارق الطبيعية بينها وبين الرجل لا إلى تلك الحقوق أو هذه الفوارق التي يجيء بها تشريع ويذهب بها تشريع، وتعرفها أمة وتنكرها أمة، وتحتمل التعديل والتبديل بما يسنح للفلاسفة والساسة من الخواطر والبرامج والبدوات.
ولا يمنع العقل أو الخلق أن تظفر المرأة بما تشاء من الحقوق السياسية أو الحقوق الاجتماعية التي تتغير وتتبدل مع نظم الثروة ونظم المجتمع وأساليب المعاملات.
فلها كل حق لا يخرجها عن واجبها الأول؛ لأنه واجبها الذي لا تحسن غيره ولا يحسنه غيرها، وهو البيت والجيل الجديد.
تنشئ في قلب هذا العالم الصاخب مأوى تسكن إليه البشرية فترة من الزمن من زحام الحياة.
وتنشئ للعالم الجيل الذي يقوى في غده على هذا الزحام، وليس هذا ولا ذاك عمل الآباء، فليكن هو إذن عمل الأمهات؛ لأنهن إذا تركنه لم يحسن خيرا منه، ولم يحسنه غيرهن خيرا منهن؛ ففي تركه تضييع بغير تعويض. •••
قال شوبنهور: إن «أرسطو شرح في سياسته ما حاق بأهل اسبرطة من جراء تساهلهم مع نساء عشيرتهم وتخويلهن حق الوراثة والبائنة ومنحهن قسطا كبيرا من الحرية، وبين كيف أن هذا التساهل كان سببا من أسباب سقوط اسبرطة واضمحلالها».
ثم قال: «وما لنا لا نقول نحن إن نفوذ النساء الذي أخذ يمتد ويشتد في فرنسا منذ أيام لويس الثالث عشر كان سر ذلك الخلل الذي ألم بالبلاط والحكومة تدريجا، وما زال بها حتى أفضى إلى الثورة الأولى وما جرت إليه من القلاقل والأهوال؟»
والحقيقة أن المرأة التي خضعت طائعة أو كارهة طوال آماد التاريخ وما قبل التاريخ قد يدعى لها كل شيء إلا السيطرة على الحياة العامة وتوجيه الدول والحكومات.
فليس في تجارب العصور ما يثبت ذلك وفيه الكثير مما يدحضه وينفيه، ومن العبث أن نستشهد على هبة الحكم عند المرأة بالملكات اللاتي جلسن على العروش الوراثية في الأزمنة القديمة فإنهن مجهولات المواهب والمناقب مطويات في حجب الأساطير والأوهام، مشتركات في الحكم غير منفردات حتى في تلك الأزمنة التي كان حكم الفرد فيها مرضيا عنه غير منصوص على بغضه في الكتب والدساتير. ولكننا إذا استشهدنا على هبة الحكم بالملكات المعروفات في العصور الحديثة قبل قيام الحكومات الشعبية فهن أبدا بين اثنتين: امرأة مفسدة أو امرأة صلحت بمقدار ما نقص فيها من صفات الأنوثة وزاد فيها من صفات الرجولة، وبمقدار من أعانها من المشيرين والخبراء، والمثل البارز على ذلك مثل «أليصابات» ملكة الإنجليز على عهد شكسبير.
لقد كانت الأمم المستعبدة تدين بالملك لإحدى الملكات اللاتي اشتهرن بالعزم والمثابرة من طراز كاترين الثانية في البلاد الروسية، فتصلح كما يصلح الملوك الرجال وتفسد كما يفسد الملوك الرجال، ولكن الأمر الذي يفوت بعض المؤرخين أن البلاد الروسية لم تكن لتحتمل فساد عشر ملكات متواليات من طراز كاترين كما احتملت فساد عشرات من الملوك الذين توالوا على عرشها القديم؛ لأن فساد جيل واحد في حكم كاترين الثانية قد هدم نظام جيشها وعرضه للهزائم مدى أجيال.
وما لم يكن أنصار الحقوق النسائية يزعمون للمرأة أنها أقدر على الحكم من الرجل، فقصارى ما يزعمونه أن الرجل مثلها وأنها هي مثله في سياسة الحكومة، فلا ضير إذن من تفرد الرجل بالحكم؛ لأنه سيحكم كما تحكم ولا يهبط بالسياسة إلى ما دونها، وإنما الضير أن تنصرف هي عن تنظيم البيت وتنشئة الجيل المقبل وهي صاحبة هذا العمل وأولى به وأقدر عليه.
واعتقادنا أن الطريق يطول بنا قبل الوصول إلى نتيجة من سؤالنا عن مساواة المرأة للرجل في الحقوق السياسية، وهل لها حقوق هذه المساواة أو ليست لها هذه الحقوق؟
لكننا ننتهي إلى الغاية قبل ذلك إذا سألنا: هي تفيدها هذه الحقوق؟ وهل تساوي فائدتها الشمائل البيتية إذا توفرت عليها النساء؟
واعتقادنا هنا أيضا أنه لا النساء ولا الرجال يصلحون المجتمع بالقوانين والأصوات الانتخابية، وأن القانون المستقيم يعوج في المجتمعات العوجاء، ويساء تطبيقه وتنفيذه ولو أفرغ في قالب الكمال، فإذا صلح تطبيق القانون وجرى تنفيذه على سنة العدل والإنصاف فلا بد لذلك من صلاح سابق وتمهيد شامل يبدأ من البيت والمدرسة ويعم الشارع والحانوت.
وعند المرأة حقوق غير حقوق الانتخاب تصل بها إلى التوجيه والطلب والإيحاء، وهي حقوق الأم وحقوق الزوج وحقوق الخطيبة وحقوق الصديقة الموحية إلى الذهن والعاطفة والخيال، فإن كانت هذه الحقوق مشلولة في يديها فذلك هو إفلاس الأنوثة الذي لا يعوضها عنه عوض قط يأتي من جانب التشريع وأصوات الانتخاب.
ولسنا نعرف كلمة وزنت حقوق المرأة كما وزنها التشريع الإسلامي حيث جاء في القرآن الكريم:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة [البقرة: 228].
فميزان حقوق المرأة الخاصة هو واجباتها الخاصة.
وواجباتها الخاصة هي الواجبات التي تحسنها ولا يحسنها غيرها ولا تحسن عملا أفضل منها.
وهي الأمومة وتنظيم الحياة البيتية، عمل إذا تركته لم يخلفها الرجل عليه ولم تتول عملا آخر أجدر منه بولايتها.
ذلك هو ميزان واجباتها وحقوقها.
وللرجال عليهن درجة الإشراف على الحياة العامة التي انفردوا بها منذ نشأت في العالم حقوق أو واجبات اجتماعية، وانفردوا بها بحكم الفوارق التي بينهم وبين النساء في تركيب الأجسام وخصائص الخلق والتفكير.
نعم إن زحام العيش في العصر الحديث يلجئ المرأة إلى كسب الرزق بالعمل ولا يغنيها بالحياة البيتية عن المشاركة في الحياة الخارجية، ولكن المرأة كانت في الحقيقة تعمل للرزق منذ كانت ولم تبدأ العمل للرزق في العصور الأخيرة.
فإذا كانت هذه العصور كفؤا لمقابلة الضرورات التي تواجهها فمهمتها الكبرى هي تقسيم العمل بين القادرين عليه بحيث لا يجور عمل المرأة على رسالتها في الحياة، وهي رسالة الأمومة والبيت والأسرة.
وكم من عمل تستطيعه المرأة ولا يجور على تلك الرسالة؟
بل كم من عمل يتمم أعمال تلك الرسالة ويوافقها ويجري في أثرها كأنه جزء منها!
فهناك تربية الطير والدواجن وصناعات الألبان والفاكهة والرياحين، ومشاركة الأزواج والآباء فيما يقدرون عليه من أعمال الريف والزراعة الخفيفة، والاشتغال بصنوف كثيرة من الصناعات الدقيقة التي قد تجيدها الريفية والحضرية على السواء، ومنها النسج والتطريز وتنسيق التحف وسائر الحرف اليدوية التي تمارسها يد المرأة منذ عهد الحضارة الأولى، كله عدا التعليم والتطبيب والمؤاساة في البيوت ودور العلاج.
فالذي يضن على المرأة بالعمل في غير هذه الميادين لا ينكر عليها حقا من الحقوق، ولكنه يحيلها إلى واجبها الأصيل أو يوفق بين حقوقها ورسالتها الوحيدة في العصر الحديث على التخصيص؛ لأنه عصر يشتد فيه الكفاح، والعصر الذي يشتد فيه الكفاح لا يستغني عن حضانة المرأة الرفيقة بل هو أحوج إليها، ولا يلغي البيت ويهدمه بل هو أحرى أن يدعمه ويحرس حماه، ولا يجند المرأة لاقتحام الزحام بل يجندها لتهوين هذا الاقتحام.
وقد قيل كثيرا عن استغلال المرأة في العصور الحديثة، وليس كل ما قيل بالكذب، وليس كل ما قيل بالصحيح.
ولكننا لا نعرف استغلالا للمرأة هو شر من استغلال قضيتها في ترويج المذاهب الاجتماعية التي تهدم الأسرة وتبطل مزية المرأة باسم المساواة بين النساء والرجال.
فتقسيم المزايا بين النساء والرجال أفاد الإنسانية قيما من الأخلاق والعواطف يمحوها التشابه المزعوم بين الجنسين، والمساواة المدعاة بين الفطرتين.
ولم يزل من دأب الطبيعة أن تقسم الوظائف وتغنم منها المزيد من التنويع والتحسين في صور الأخلاق وألوان الإحساس .
فانقسام النوع الإنساني إلى جنسين قد زاد ثروته من صور الأخلاق وألوان الإحساس، بما خص النساء من صفات لا تكمل في الرجال وما خص الرجال من صفات لا تكمل في النساء، وهذه هي القيم الحيوية التي لا يفرط فيها أحد يعلم ما معنى التقدم والارتقاء في أطوار الحياة.
ونشأة الأسرة قد أنشأت بين الناس تلك الأواصر التي هي أساس العلاقات الاجتماعية وأساس الشعور بالألفة والمعاطفة، أو الشعور بسجية الولاء والإيثار والتضحية، أو الشعور بالتوقير والحنان والرفق والإيناس، وأشباه ذلك من ألوان الشعور التي ما كان لها من أصل تتفرع عليه لولا أصل الأسرة القديمة، حيث اتصل الآباء والأمهات والأبناء والأزواج والزوجات بتلك الوشائج النفسية فتعددت في طوية الإنسان ألوان المودة وتفرعت من الأسرة إلى البعداء فالأبعدين، ولا تزال تسري وتتفرع إلى غير انتهاء.
تلك هي القيم الحيوية التي استفادتها البشرية من تقسيم الوظائف بين الجنسين، ومن قيام الأسرة وهي تحوي الكبار والصغار من كلا الجنسين، فتحوي العلاقات بين جميع الأسنان والمدارك والخوالج وضروب الطاقة والاقتدار.
فهذه القيم التي هي مكسب الحياة النفيس من مخلفات الزمن القديم، هي الثروة التي يعصف بها بعض الدعاة حين ينكرون الأسرة وينكرون الفوارق بين الرجال والنساء، ثم يبنون حياتهم الاجتماعية على محو هذه الفوارق وإلقاء ما كسبناه من تنويعها في عرض الطريق.
وإنهم ليفعلون ذلك لأنهم يريدون إثبات مذهبهم وتأييده لا لأنهم ينظرون إلى حقائق الدنيا ويحسون في طويتهم حسها السليم ويغارون على ثروة الحياة من القيم والمغانم الروحية، وأفانين الشعور والتفكير.
فأتباع كارل ماركس - وهم أصحاب هذه الدعوة - يفرضون المماثلة بين النساء والرجال؛ لأنهم لو قصروا الكلام على العمال في مواجهة رأس المال بقي النساء وخشوا أن يقوم رأس المال على العاملات، فوجب عندهم على هذا أن يصبح النساء مثيلات للرجال ليتاح لهم التغلب على رأس المال.
ولولا أن هذه المماثلة لازمة لتأييد مذهب الماركسيين لما سلكوا بهذا هذا المسلك ولا استغلوها لدعوتهم ذلك الاستغلال. •••
في الهند تكثر القردة ويكثر من قديم الزمن من يستغلون ذكاءها وقدرتها على التعلم فيعلمونها بعض الحيل المضحكة وبعض الحركات البهلوانية ويطوفون بها على الناس؛ ليعرضوا عليهم حيلها وحركاتها ويكسبوا القوت النزر من هذه الصناعة المزدراة.
فخطر لبعض المستغلين على طراز العصر الحديث أن يستغلوا هذه القدرة فيما هو أنفع وأجدى، وأن يجربوا تدريب القدرة على تحريك أنوال النسيج وهو أسهل وأبسط من الحركات البهلوانية المعقدة التي تحذقها ولا تخطئ فيها بعد المرانة عليها، ففعلوا ونجحت القردة في إدارة مصنع صغير يشتمل على عدة أنوال ... ولكنهم لاحظوا أنها إذا اجتمعت معا في بقعة واحدة غلبت عليها طبيعة اللعب التي ركبت فيها فتركت العمل أو عبثت به وأفسدته، فعالجوا ذلك بالرقابة والإرهاب، ووكلوا بها حارسا يحمل سيفا مصلتا كلما ونى من القردة وان أو عبث عابث أهوى عليه بالسيف فطاح برأسه، فإذا هي قد نفضت عنها العبث وهرولت إلى العمل، وجدت فيه فلم تنزل جادة غاية الجد برهة من الوقت حتى تنسى الرأس الطائح فيعاد عليها الدرس المخيف من جديد. •••
لو علم كارل ماركس وأتباعه بقصة هذه القردة، وعلموا أن شيوعها مستطاع في معامل النسيج الحديثة وغيرها من المعامل التي تشبهها لما كان بعيدا منهم أن يعمموا الحقوق والمشابهات قليلا أو كثيرا حتى تنطوي فيها فصائل القردة، ولا تنطوي على نوع الإنسان وحده من العاملين والعاملات بين الرجال والنساء.
لأن المذهب عندهم ليس بحق لأنه حق، وليس بباطل لأنه باطل، ولكنه حق بمقدار ما يثبت من دعوتهم ويمهد لها، وباطل بمقدار ما ينقص من دعوتهم ويعترض في سبيلها، ولولا ذلك لما عموا عن الفوارق في الخلق وعن فائدة الإنسانية من تنويع هذه الفوارق وخسارتها بمحوها وتعفية آثارها. •••
ولقد سلكوا في نظرتهم إلى الأسرة مثل هذا المسلك فأنكروا فصلها في خلق الأواصر والعواطف وتوليد الحقوق والواجبات بين الأفراد من الأقرباء والبعداء، ولم يعرفوا لها إلا أنها أعانت الاستغلال في عصور الإقطاع خاصة، فارتبط بها نظام الميراث، وقامت عليها قواعد الملك والادخار والتوريث وتعاقب السادة من النبلاء والفرسان، وخلطوا كدأبهم بين كراهة الطبقة كأنها جزء من نظام الثروة العامة وبين كراهة الطبقة كأنها جزء من الإنسانية يعمل عمله في توليد تراثها وتزويدها بالقيم الأدبية، ويترك لها محصوله من هذه القيم، فيتعين عليها أن تصونه وتضيف إليه كما صانت المخترعات والآلات ولم تقل إنها تنبذها وتعفي على آثارها، لأنها من توليد عصور الإقطاع أو عصور المرابين والمستغلين.
فإذا كانت القرائح الذهنية قد أبدعت الصناعات والآلات التي أعانت على تسخير الضعفاء وطغيان الأقوياء، فمن الحسن أن تذهب السخرة حيثما أمكن ذهابها وليس من الحسن أن تذهب القرائح الذهنية ولا أن تذهب الصناعات والآلات أو تحتقر القدرة التي تسنى بها الإبداع والاختراع.
وإذا كانت عواطف الأسرة قد أخرجت للناس قانونا يضير أو سنة تعاب أو عادة تتخلف عن أوانها، فمن الحسن أن تذهب القوانين والسنن والعادات وليس من الحسن أن تذهب عواطف الأسرة ولا أن ترجع إلى مصادرها من فوارق الطباع والخوالج بين الأزواج والزوجات والآباء والأبناء، فننعاها ونسفه أحلام المعتزين بها ونبطل هذه الفوارق من معدنها ونقول: إن وشائج الرحم بين الأنوثة والذكورة فضول من بقايا عهد الإقطاع أو بقايا عهد الرعاة أو بقايا عهد الربا والاستغلال. فكل لون من ألوان الوشائج الإنسانية فهو قيمة نفسية نجمعها ونقتنيها ونضيفها إلى ذخائرنا الحيوية، ولا نفرط فيها كما لم نفرط في القيم الصناعية والقيم الذهنية، فليست كل ثروة الإنسان ثروة مصنوعات ومخترعات، وليس الزاد الإنساني - زاد الإحساس والعاطفة وأفانين الشعور والخلجات - هو الزاد الرخيص الذي يستوي أن يبقى أو يذهب من حيث جاء.
وستنال المرأة من حقوقها الصحيحة أو المزعومة كل ما تستطيع المرأة أن تأخذه، وكل ما يستطيع الرجال أن يمنحوه أو ينزلوا عنه.
ولكن الحقوق التي تقوم على محو الفوارق بين الجنسين في تكاليف الأسرة والحياة الاجتماعية هي من بداية الأمر ليست بحقوق كما يسميها المتحدثون بها؛ لأن الحقوق لا تناقض طبيعة التكوين.
وهي بعد هذا ليست مما يملكه الرجال لينزلوا عنه طائعين أو كارهين، وليست مما تأخذه المرأة لأنها لا تزيد في الخلق ولا تنقص منه ما تشاء، ومحو الفوارق قضاء بيد الطبيعة لا بأيدي الأمم أو أيدي الحكومات ومجالس التشريع.
وربما استقرت الحقوق الاجتماعية طويلا على ظلم المرأة؛ لأن ظلم الضعيف سنة معهودة في الطبيعة لم تبطل قط، ولا نخالها تبطل كل البطلان في حياة الحيوان ولا في حياة الإنسان.
ولكن الحقوق الاجتماعية لا تستقر طويلا على ظلم الرجل؛ لأنه اختلال ينقض سنة العدل وسنة الطبيعة على السواء.
ومن ظلم الرجل ألا تكون له مزية في الحقوق الاجتماعية وهو أقدر عليها من المرأة كيفما تقلبت الآراء، فمهما يبلغ من غلو المتحدثين بالمساواة فهم على الأقل لا ينكرون أن الرجل يقدر على أعمال كثيرة في خارج بيته لا تقدر عليها المرأة ولو في بعض الأوقات التي تشغل فيها بالحمل والحضانة وتدبير البيت.
ومن ظلم الرجل ألا تكون رقابته على المرأة أوفى من رقابة المرأة عليه؛ لأنها إذا فرطت في حقوقه ألحقت به نسلا غير نسله، وهو إذا فرط في حقوقها لم يلحق بها نسلا غير نسلها ولم يخالف بذلك قوام خلقه الأصيل في جميع الذكور، فإذا الذكر يؤدي فريضة النوع إذا اتصل بأكثر من أنثى واحدة، وليس للأنثى فريضة نوعية تؤديها إذا اتصلت بأكثر من ذكر واحد، إلا أن تكون شهوة خائنة أو تحللا من متانة الأخلاق.
ومن ظلم الرجل أن تنكر عليه العزيمة والإرادة وما يتبعهما من وجوب الطاعة في بعض الشئون إن لم يكن معظم الشئون، فتركيب خلقه هو تركيب المريد، وتركيب خلق المرأة هو تركيب الملبية أو الموافقة للإرادة الأخرى. وما كمن في دخيلة الجنس منذ الأزل هيهات تبدله أقوال المجالس وصفحات الكتب ونصوص الدساتير.
وكل نظام اجتماعي يبنى على هذا «الظلم» عبث وضلالة ولو طغت به نوبة من نوبات المذاهب المغرضة إلى حين؛ فلعل صلاح المذاهب للدوام لا يعرف من دليل حاسم كما يعرف من دليل الفوارق السرمدية بين الجنسين، ومن مبلغ الجور على حدود الطبيعة إزاء الرجال وإزاء النساء.
ومن لغو القول أن يسهب الباحثون في حقوق المرأة بعد أن تتيسر لها رعاية البيت وتنشئة الجيل الجديد؛ فهذه الحقوق فضول لا تريده المرأة ولا ترحب به إذا جاءها بغير سعي منها، بل هو وهم لا يجيء بسعي في مقدور ساع أو ساعية، وإن المرأة تطالب المجتمع والرجال بما يملك المجتمع أن يعطيه وبما يملك الرجال أن يعطوه، وليس إلغاء الفوارق ونتائجها مما يعطى بقوة أو بحيلة، أو مما يساغ فيه الأخذ والعطاء.
الجنس
ظواهر الجنس أعرق وأهم وأشيع في دنيانا من أن يتركها الإنسان تمضي به ذلك الزمن الطويل بغير فهم أو بغير تفهم يحاول به التحقيق من طريق التخمين والتوفيق، إن أعوزته وسائل العلم إلى الفهم الصحيح.
وقد خمن وأصاب.
فقال قديما بلغة الأساطير ما يقوله الباحثون اليوم بلغة العلم والتفكير، ولمس الحقيقة بخيال الشاعر وفطنة الساحر قبل أن يلمسها بمبضع الجراح ومجهر الكشاف.
وخلاصة ما يقوله العلم اليوم: إن الحياة التي لا جنس لها سابقة للحياة التي انقسمت إلى جنسين ذكر وأنثى، وإن صفات الجنسين موزعة بينهما في أصولها الأولى، وإن هذا التوزيع في أرفع الأنواع الحية لم يبلغ من الحسم مبلغه الذي يمنع كل تماثل ويدفع كل التباس.
وقديما لمحت الأساطير إلى هذه المعاني برموزها التي تطوي الحقائق لينشرها من يريد كما يريد.
في أسطورة من أساطير اليونان القديمة أن الذكر والأنثى كانا بنية واحدة فشقها الآلهة شقين لأنهم أوجسوا خيفة من تمردها وعصيانها، وأنها لا تفتأ منذ انشقت نصفين يبحث كل منهما عن صاحبه ليتم به ويرجع معه إلى أصله.
وفي أسطورة أخرى هي أعمق الأساطير في معناها إشارة إلى اختلاط الصفات الجنسية على نحو لا يقال في لغة الرموز ما هو أصدق منه ولا أبين عن الحقيقة. وفحوى هذه الأسطورة أن ربا من الأرباب وكل إليه أن يصنع جمهرة من الذكور وجمهرة من الإناث، ثم دعي إلى وليمة في الأولمب فسكر وعربد، وذهب إلى مصنعه مخمورا لا يعي من الخمار وأمامه عمل النهار ولم يصنع منه شيئا وليس له أن يرجئه إلى غده ؛ لأن الأقدار تصنع كل شيء بميعاد لا يختلط بغيره. وكان قد أعد الأعضاء والجوارح والخوالج والأحاسيس ونوى أن يميزها ويقسمها قسمين قبل أن يضعها في أهبها وتراكيبها، فلما أعجل عن التمييز والتقسيم؛ إذا هو يتناول الإهاب فيلقي فيه بما اتفق له من الأعضاء والخصائص والطباع، فيقذف قلب رجل في إهاب امرأة ويضع رأس امرأة على عنق رجل، ويمنح فتاة عضلات فتى أو يمنح فتى أعطاف فتاة، فلم يأت الموعد الموقوت حتى كان قد فرغ من عمله وصنع كل ما عنده من الذكور والإناث، ولكنها هذه الصنعة المختلطة التي يلتبس فيها النظر وتختلف فيها الأسماء والمسميات، فلا يندر أن ترى امرأة لها صلابة رجل أو رجلا له رقة امرأة، ولا يتفق لك دائما أن ترى رجلا بحتا كله رجولة أو امرأة بحتا كلها أنوثة، ولا أن توافق المسميات ما أطلق عليها من الأسماء أو ما أودعته من الجوارح والأعضاء.
وجاءت الفلسفة في القرن الماضي فأعادت هذه الأسطورة بالصيغة الفلسفية التي اختارها النابغة الألماني «أوتوفيننجر» في كتاب «الجنس والأخلاق»، ومجمل رأيه كما لخصناه في كلامنا على حب المرأة من كتابنا «ساعات بين الكتب»: «أنه لا ذكورة ولا أنوثة على الإطلاق، وإنما هي نسب تتآلف وتتخالف على مقاديرها في كل إنسان، ولا عبرة فيها بظواهر الجوارح والأعضاء، فإذا فرضنا مثلا أن صفات الذكورة مائة في المائة فأين هو الرجل الذي تتم له المائة جميعها بلا زيادة ولا نقصان، وتتآلف ذرات تكوينه واحدة واحدة بلا نشوز ولا انحراف؟ وكيف تجتمع له هذه الصفات المتفرقة بحيث لا تتخلف صفة ولا تحل واحدة محل أخرى؟ وكذلك النساء أين منهن المرأة التي هي مثل أعلى لجنسها جامع لكل ما هو نسائي في الجمال والعقل والعاطفة والأعضاء والهندام؟ إن هذا الاتفاق لا يجيء به الواقع؛ لأن التمام من وراء ما يبلغه الإنسان أو كائن سواه في هذه الحياة، ولكنها أمور نسبية تدخل فيها صفات الرجولة والأنوثة كما تدخل فيها صفات سائر الأشياء، فليس في الدنيا رجل هو الرجولة كلها وليس في الدنيا امرأة هي الأنوثة كلها، وهيهات أن تقع على إنسان فيه كل صفات جنسه في جميع أخلاقه وأطواره كما تقع كل يوم على قطرة ماء فيها كل صفات المائية التي لا بد منها لتكوين كل قطرة؛ فإن العناصر هنا مقيدة محدودة، أما عناصر الطبائع والأخلاق والمواهب والأجسام فمما لا يقيده الحد ولا يحده التقدير.»
وعلى هذا «يحب الرجل المرأة أو تحب المرأة الرجل على حسب ما بينهما من التوافق والتباين في تلك العناصر والصفات؛ فالرجل الذي فيه ثمانون في المائة من الرجولة وعشرون في المائة من الأنوثة تتممه امرأة فيها ثمانون في المائة من الأنوثة وعشرون في المائة من الرجولة، ويجوز على هذا أن توجد امرأة ليس لها من جنسها إلا ظواهره، فتكون هي التي فيها الثمانون في المائة من الرجولة وهي التي تنشد الرجل الذي فيه عشرون في المائة من صفات جنسه؛ ومن هنا تنشأ الميول الشاذة في الجنسين وتنبو الطبائع عما خلقت له في سواء التكوين ...».
والعلم الحديث يعرف هذه المعالم الجنسية ويعرف هذا الاختلاط في توزيعها بين الجنسين، ولكنه يعرف ذلك على نهجه لا على نهج الشاعر في أسطورته ولا على نهج الفيلسوف في حدسه وتقديره ... وسينتهي إلى الحقيقة الممحصة حيثما بدأ من البداهة النافذة والواقع المشاهد، وهما لا يأذنان له بالضلال عن سواء النهج وإن تشعبت مسالك الناهجين عليه.
ومن الثقات الراسخين في علم الحياة اثنان يعتمد على ذكائهما كما يعتمد على تجربتهما في هذا الموضوع، وهما سير آرثور ثومسون
Arthur Thomson
وسير باتريك جيدس
صاحبا كتاب تطور الجنس
Evolution of sex
وغيره من المراجع المعتد بها في علم الحياة.
فهذان العالمان الجليلان ينزلان بالفارق بين الجنسين إلى قرارة المادة الحية التي تتمثل في النبات، ويوشك أن يجعلا في الأنوثة شيئا من النباتية التي تمكث في موضعها، وفي الذكورة شيئا من الحيوانية التي تنفق من مادتها بالحركة.
ويمكن أن نتوسع في شرح رأيهما فنقول: إن التفرقة عندهما بين الأنوثة والذكورة كالتفرقة بين التجميع والتصريف، أو بين الاختزان والاحتراق ، أو بين الاحتجاز والاندفاع.
ففي كل كائن حي عملان كيميان يتقابلان ويتكافآن، وهما البناء والتصريف، أو جمع الغذاء وحرق ما اجتمع منه.
ويتبين هذا في الورقة الخضراء التي يعرضها النبات للشمس فيجري فيها بناء مادة من السكر وما شابهه، وذاك فيما يرى العالمان الجليلان أهم عمل كيمي في الخليقة؛ لأن جزءا من قوة شعاع الشمس يستخدم لصنع مركبات الكربون من ثاني أكسيد الكربون الذي في الهواء وفي ماء التربة.
ولوفرة المادة التي يبنيها النبات لغذائه يستطيع أن يعتمد عليها كما يعتمد معه آكلو العشب من جميع الأحياء.
إلا أن الحي الذي يتحرك ويعمل يحرق جزءا من مركبات الكربون فيه وتنطلق القوة منه كما تنطلق من الآلة البخارية.
فالذكورة هي حالة البنية التي تتطلب احتراقا أعنف وأكثر وأقرب إلى الاطراد من الأنوثة، والأنوثة هي حالة البنية التي تتطلب تجميعا للغذاء أهدأ وأقرب إلى القرار من الذكور.
أو هما كما أسلفنا يفترقان بالقدرة على التجميع والقدرة على التصريف، ويفترقان بنزعة الاحتجاز ونزعة الاندفاع، ولنا أن نترجمها في لغة الأدب والواقع المشاهد بالتفرقة بين التلبية والاقتحام!
وكأنما قال العالمان: إن الرجل حي النزعة في مجمل صفاته، وإن المرأة نباتية النزعة في مجمل صفاتها.
وهي هي لا تزال منذ درجت من الحياة الأولى «تلك الشجرة» التي تبسط زهرتها وهي في مكانها لتتلقى فيها اللقاح على جناح الهواء.
وكل بنية حية فيها النزعتان متقابلتين متكافئتين، فحيث زادت القدرة على التجميع فثم أنوثة ولو حملت غير اسمها، وحيث زادت القدرة على التصريف فثم ذكورة ولو حملت غير اسمها، وعود على بدء إذن إلى أسطورة الرب السكران. •••
وأيا كان تعليل العلم لنشأة الفوارق الجنسية في قرارها فالعلماء المحدثون المعنيون بمسائل الجنس يرجعون بالاختلاف بين مزاج الذكورة ومزاج الأنوثة في جسدي الرجل والمرأة إلى الهرمون الذي تفرزه الغدد الصماء، وهو سائل شفاف يسري في الجسم من غدد ثلاث توجد في أجسام الأحياء الفقارية، إحداها: الغدة الدرقية في الحلق، والثانية: الغدة النخامية في أسفل الدماغ، والثالثة: الغدة الكظرية على مقربة من الكليتين، وهي عظيمة الأثر فيما يشاهد من الاختلاف بين أجسام الذكور والإناث بعد سن البلوغ، ومتى تشخصت الذكورة والأنوثة ظهر الفارق الأكبر في تركيب الخصية وتركيب المبيض، فاختص الرجل بإفراز المني واختصت المرأة بإفراز البويضات.
ومن التجارب في بعض الحيوان كالجرذان يلاحظ أن استئصال الغدد المنوية يميل بالحيوان إلى مزاج الأنوثة، ولكنه إذا استئصل منه المبيض لا يستعير مزاج الذكورة إلا بإضافة الغدد المنوية إليه.
وقد يتفق أن يكون في الإنسان خصية ومبيض بدلا من الخصيتين، فيسري في جسده إفرازان يميل به أحدهما إلى الذكورة ويميل به الآخر إلى الأنوثة، ويشاهد في مثل هذا الإنسان أحيانا مشابه من المرأة في الصدر وبعض الأعضاء الداخلية.
على أن الحيوانات الدنيا تتناوب الذكورة والأنوثة كما في بعض الحالات النادرة، فتكون المحارة البالغة ذكرا، ثم تنقلب أنثى، ثم تعود ذكرا مرة أخرى، وهي لا تلد البويضات إلا إذا ارتفعت الحرارة حولها إلى درجة معلومة؛ ففي الدرجة من عشرين إلى اثنتين وعشرين تنقلب المحارة أنثى مرة في كل سنة، وفي الدرجة الرابعة عشرة إلى السادسة عشرة تنقلب أنثى مرة كل ثلاث سنوات أو أربع سنوات، ولا تنقلب أنثى فيما دون هذه الدرجة على الإطلاق.
وتشاهد هذه الظاهرة في بعض الأسماك الصغرى وبعض الحشرات المائية، فيحدث فيها التحول على نحو يشبه التحول في المحار، ولا يشترط فيه تفاوت الحرارة بذلك المقدار.
فالفوارق بين الجنسين تتقارب كلما هبط الحيوان في سلم الخلق حتى تزول الفوارق جميعا في الخلية الأولى، ولكنها تتشعب وتتعدد ويصبح التحول بينهما فلتة من فلتات الخوارق كلما ارتقى الحيوان في سلم الخلق، حتى تبلغ هذه الفوارق قصاراها من التنوع والتكافؤ في بنية الإنسان. •••
ومع هذا يوجد الفارق بين الخلايا المنوية والخلايا البيضية محسوسا مميزا لمن يكشفه بالمجهر، فتختلف الخلية المنوية من الخلية البيضية بالحركة والشكل والتركيب.
والخلايا المنوية في الحيوانات اللبون هي التي تقرر جنس الجنين ذكرا يكون أو أنثى؛ لأن الذكر يفرز نوعين من الخلايا أحدهما يشبه خلية الأنثى والآخر خاص بالذكورة لا يشبه البويضات الأنثوية، فإذا امتزجت عند اللقاح خليتان متشابهتان فالمولود أنثى، وإذا امتزجت خليتان مختلفتان فالمولود ذكر؛ لأن الخلية المختلفة هي التي تعطيه صفة الذكورة، وقد لوحظ أن خلية الذكر تتألف على الأكثر من نواة تميل إلى الحركة وتقل فيها المادة الغذائية الأخرى التي تكثر في الخلية الأنثوية، وتقبل مادة النواة الاصطباغ فيسهل تمييزها بألوانها؛ ولذلك سميت في اللغات الأوروبية
Chromosoms
نسبة إلى الصبغ والتلوين.
وفي كل خلية عدد من هذه الصبغيات يتساوى في خلايا النوع كله، أقله صبغيان اثنان كما في الدودة الخيطية التي تعلق بالخيل، وأكثر ما شوهد منه في خلية الإنسان؛ حيث يبلغ عدد الصبغيات ثمانية وأربعين، ولكن هذا العدد ليس بالمهم في الدلالة على ارتقاء النوع؛ لأن بعض الحشرات الحلزونية تشتمل خلاياها على مثل هذا العدد.
إنما المهم أن عدد الصبغيات بعينه يتكرر في كل خلية من خلايا الجسم كله، وأن الخلية المنوية تشتمل على نصفه فقط، وكذلك الخلية البيضية، كأنما الملحوظ من البداية أن النصفين يكونان خلية واحدة هي التي يتخلق منها الجنين.
ومن عجائب الاختلاف العريق بين خصائص الذكورة وخصائص الأنوثة أن عدد هذه الصبغيات في خلية الذكر سبعة وأربعون وفي خلية الأنثى ثمانية وأربعون، والذي يحدث عند اللقاح أن خلية الذكر تنقسم نصفين وخلية الأنثى تنقسم نصفين، ثم يتقابل نصف من هذه ونصف من تلك، فإذا كانا عند الامتزاج يؤلفان ثمانية وأربعين، فالمولود الذي يتخلق من هذه الخلية أنثى، وإذا كانا يؤلفان سبعة وأربعين فالمولود الذي يتخلق من الخلية ذكر، وكأنما النواة الكثيرة الحركة هي العوض في خلية الذكر من الصبغي الناقص فيها.
ما أعجب بداهة الأساطير في النفاذ إلى حقائق الحياة!
ففي الأسطورة التي أشرنا إليها زعموا أن الذكر والأنثى كانا في النوع الإنساني بنية واحدة فأوجست الآلهة منهما متحدين متفقين فسطرتهما شطرين، فهما منذ تلك اللحظة يبحث كل منهما عن النصف الآخر ليتم به نقصه ويجد فيه لفقه الذي يسكن إليه.
وتلك هي الحقيقة في ظلمات الرحم تشطر الذكر والأنثى نصفين، ثم تطلق كلا منهما يبحث عن لفقه حتى يسكن إليه، ثم تطلقهما بعد ذلك نصفين في كل منهما حنين إلى النصف الآخر يبحث عنه حتى يلقاه. •••
خلاصة هذه جميعه أن الجنس محدود الفوارق منذ الخلية الأولى، وأن هذه الفوارق - كائنا ما كان اسمها - ترجع إلى فارق واحد يلخصها بأجمعها، وهو مزيد من الإقدام في جانب الذكورة ومزيد من الإحجام في جانب الأنوثة، أو مزيد من الإرادة يقابله مزيد من التلبية، أو مزيد من التصريف والحركة يقابله مزيد من التجميع والدعة، ثم يتفرق هذا الفارق الوحيد على مئات من الصور في كل من الجنسين.
والباحثون المعنيون بالجنس يسجلون درجات من الفوارق بين الرجل والمرأة تتفاوت في الظهور بين ما هو ظاهر من اللمحة الأولى إلى ما يظهر بعد كثير من البحث أو قليل، وأشهر من تكلم في هذه الفوارق الباحث الإنجليزي
Havelook Ellis
في كتبه الكثيرة وبخاصة كتابه «الرجل والمرأة ودراسة الخصائص الثانية والثالثة بينهما».
Man and woman: A Study of Secondary and Tertiary sexual characters.
وهو كتاب جامع تناول فيه الفوارق التي تبدو من المشاهد والفوارق التي تبدو بعد الفحص والتحليل في كل جزء من أجزاء البنية الإنسانية، فاستقصى ذلك أحسن استقصاء مما يضيق بنا المقام هنا لو شرحناه أو لخصناه.
ولكننا نلم بالفوارق الذهنية أو الفوارق النفسية العامة فنجتزئ منها ببعض الملاحظات التي تدل على سائرها:
فمنها - ولعله أهمها - أن النساء الموسومات بالعبقرية لم ينبغن مستقلات بأنفسهن أو بمعزل عن رجل يعتمدن عليه؛ فمدام كوري أشهر النابغات في ميدان العلم كانت زوجة رجل من كباء العلماء يشاركها أو تشاركه في بحوثها وآرائها، ومسز بروننج الشاعرة الإنجليزية نظمت أجمل قصائدها وهي زوجة للشاعر روبرت بروننج، وجورج إليوت كتبت أفضل رواياتها وهي في عشرة لويس صديقها المأثور لديها، والليدي ديلك
Dilke
كتبت في الدراسة العلمية حين كانت زوجة للعالم الأديب مارك باتيسون
وكتبت في السياسة والإدارة حين أصبحت زوجة رجل من رجال السياسة والإدارة.
وأشار هافلوك أليس إلى تجارب الباحثين بأنحاء القارة الأوروبية فيما بين الرجل والمرأة من الفوارق الذهنية والنفسية، فكانت خلاصتها أن المرأة مطبوعة على الوصول إلى النتائج بالحيلة والتحسس وخفة التناول والتنفيذ، وأن الرجل يقابل ذلك بالاتجاه الصريح والنفاذ والتصميم.
وممن درس هذا الموضوع على الطريقة العلمية الأستاذ إرنست كرتشمر أستاذ الأمراض النفسية والعصبية بجامعة ماربورج
Ernst Kretschmer ، فألمع في كتابه «نفسيات العباقرة» إلى النساء اللائي اشتغلن بالفنون، ولخص رسالة موبياس
Mobius
الذي خص القول بالموسيقيات؛ لأن المرأة لم تعطل قط عن تعلم الموسيقى والعزف على آلاتها. قال: ومع هذا لم يبق من أسماء نابغات الموسيقى إلا الأسماء التي كانت تتصل ببعض الرجال كاسم كلارا شومان زوجة شومان الموسيقي العالمي المعروف، وفاني مندلسن أخت مندلسن وكورونا شروتر صديقة جيتي، وغيرهن على هذا المنوال.
وذكر الشاعرة الألمانية فون درست هلشوف
Anette von droste Hulshoff .
فقال: إنها كانت أقرب إلى الرجولة في مزاجها وكلامها، وكانت تتزيا بأزياء الرجال وتتمنى في بعض شعرها لو كانت صيادا منطلقا بالعراء أو جنديا مقاتلا أو رجلا على الأقل. ولم تنظم قط في عواطف الأمومة أو وصف الطفولة أو حنين المرأة إلى الحب والألفة وما شابه ذلك من معارض الشعر التي يكلف بها النساء، وأضاف إلى ذلك أن هذا النزوع إلى التشبه بالرجال والتزيي بأزيائهم مشهود مطرد في نساء التاريخ المشهورات مثل أليصابات ملكة إنجلترا وكاترين قيصرة الروس وكرستينا ملكة السويد؛ فهن ينبغن في اقتدارهن على بعض أعمال الرجال بمقدار ما ينقص فيهن من صفات الأنوثة، لا بمقدار ما يزيد ويفضل عن الحاجة إليه. •••
وأسلم ما يقال في هذا الباب ولا يقبل الخلاف عليه أن فاصل الجنس موجود، وأن هناك صفات ذكورة وصفات أنوثة لا التباس بينها حين تنعزل وتتمادى إلى طرفيها، ومن خير بني الإنسان أن يصان لهم هذا التنويع في الصفات على اختلاف ألوانها وظلالها ودرجاتها وطبقاتها؛ لأن التنويع زيادة في ثروة الإحساس وزيادة في ثروة الحياة وزيادة في الأعمال التي تستطاع في كل حالة من هذه الأحوال، وترتقي إلى غايتها من الإتقان كما يرتقي كل شيء إلى غايته بالتخصيص وتوزيع العمل فيه.
وأن الجنس لم يخلق ليزول ويتشابه الجنسان.
ولكنه خلق ليبقى ويتعاون جانباه على إتمام حياة الإنسان.
الحب
نرانا مرة أخرى أمام تضليل اللغة لنا عن فهم الحقيقة أو أمام جناية الأسماء على المدارك الإنسانية.
فالأسماء قد حصرت المعاني فأفادت؛ لأنها جمعتها من الفوضى والشتات، وحصرتها فأضرت لأن المعاني أوسع من أن تقبل الحصر ولكل منها حالات مثلها لا تحصى.
ومن هذه الأسماء اسم «الحب» لذلك العالم الزاخر الذي لا نهاية لمعانيه.
فهو اسم واحد ولكنه ليس بشيء واحد.
ويضل من أجل هذا عن حقيقته كل من ينتظر شيئا واحدا حين ينظر إليه.
لأنه على أية حال ليس بشيء واحد موجز المعاني كلفظه الوجيز الذي يدل عليه. •••
في كل حب بين رجل وامرأة شيء من حاسة الجمال، وشيء من الأثرة وحب الاحتجان، وشيء من الغريزة النوعية والخصائص الجنسية، وشيء من الرغبة في المتعة الحسية والنفسية، وشيء من التجميل وزخرفة الخيال والتطلع إلى المثل الأعلى، وشيء من الألفة التي تحبب إلينا كل مألوف أو توحشنا من بعده والمعيشة بدونه، وشيء من الخوف والقلق والرجاء والحيلة والمحاولة وكل ما يدور في سريرة الإنسان حول تلك العناصر التي تشتمل عليها تلك الكلمة الصغيرة ذات الحرفين الاثنين.
وهذه الخصائص توجد في حب الرجل والمرأة وتوجد في غيره من العلاقات.
فالإنسان يألف المرأة التي أحبها ويألف الموطن الذي أطال الإقامة فيه.
ويلجأ إلى التجميل وزخرفة الخيال إذا فتن بالعظمة والنبوغ كما يلجأ إلى التجميل وزخرفة الخيال إذا فتن بالمعشوقة الحسناء.
ويروقه الجوهر النفيس فيتمنى أن يملكه ويستأثر به دون غيره، وكذلك يفعل حين يروقه جمال المرأة التي يهواها.
ويحس الغريزة النوعية حين يحب ولا يحب، وتتيقظ فيه الخصائص الجنسية وهو بعيد من المرأة أو قريب منها.
ويستمتع بحاسة الجمال وهو ينظر إلى الشفق وإلى الريحانة وإلى الصورة وإلى التمثال.
فهي عناصر تتفرق في الدنيا وتتجمع في عاطفة الحب كما تتجمع العناصر القليلة في صور لا تقبل الحصر ولا تحدها الأسماء.
ومن الأمثلة التي تقرب لنا هذه الحقيقة أن عناصر المادة تعد بالعشرات، ولكن الصور التي نراها في هذا العالم تربى على الألوف وألوف الألوف.
وإن حروف الهجاء لا تتم العشرات الثلاث ومنها الكلمات التي تضيق بها المجلدات في جميع اللغات.
فلا نهاية لألوان الحب التي تتجمع من تلك العناصر القليلة؛ لأنها تتباين في الترتيب، وتتباين في القوة، وتتباين في المقادير، وتتباين أبعد التباين على حسب المحبين، وعلى حسب الأعمار والأطوار النفسية في المحب الواحد.
ولا وجه للمقابلة بينها، كما لا وجه للمقابلة بين كلام وكلام؛ لأنهما مركبان من حروف متشابهة، فحب هذا الإنسان لا يشبه حب ذاك الإنسان، وما يشاهد من محب في عنفوان هواه لا يلزم على وجه من الوجوه أن يشاهد من سائر المحبين.
إنما العنصر الذي لا تخلو منه عاطفة الحب بالغة ما بلغت ألوانه ودواعيه هو تميز شخصية بين سائر أفراد الجنسين؛ حيث لا يوجد رجل مميز بين الرجال وامرأة مميزة بين النساء فلا حب ولا علاقة ولكنها شهوة كشهوة الطعام يشبعها كل غذاء، ولذة كلذة الحس من متاع اللمس والسمع والرؤية ولو في جماد.
ولا يزال الأمر في حدود الاستحسان والروعة والرغبة في الحب حتى تمتاز بين أفراد الجنس شخصية لا تغني عنها شخصية أخرى، وإن شاركتها في مجمل صفاتها أو زادت عليها في محاسنها. فإذا امتازت هذه «الشخصية» فذلك هو الحب وذلك هو الغرام، وفي اسمه بالعربية شرح لأطواره وشروطه وأولها الألفة واللجاجة والعكوف.
وقد يولد الحب من النظرة الأولى.
ولكنه ينمو بعد ذلك - لا محالة - حتى يستوفي نموه بعد التمييز والألفة والافتنان في صور الخيال.
وإنما يولد الحب من نظرة واحدة إذا استولى بتلك النظرة على حاسة الجمال أو أثار الغريزة أو أذكى حمية الغيرة والشوق إلى الحيازة والاحتجان، ولكنه لا يكون أقوى الحب حتما؛ لأنه ولد على عجل أو جاش في النفوس قويا من نظرة واحدة، فربما أبطأ الحب وسرى في الضمير غير محسوس به ولا ملتفت إليه، ثم يشعر به المحب يوما، فإذا هو أقوى من كل حب تثيره المفاجأة وتعجل به النظرة الخاطفة.
ودأب الحب في ذلك كدأب الخوالج الإنسانية في أطوار السرعة والزوال، وأطوار الأناة والبقاء.
وقد يلتقي الرجل بالمرأة فيعرض عنها وينفر منها، ثم يلتقي بها في حالة غير تلك الحالة فيألفها ويتعشقها ويصمد على هواها؛ لأن المعول في هذه الحالات على الابتداء وتسلسل البواعث الأخرى، فإذا حسنت البداءة تبعتها البواعث التالية في نسق مقبول حتى تبلغ مداها.
ولو كان الحب شيئا واحدا لما اختلف وقعه بين نظرة ونظرة وبين مقابلة ومقابلة وبين الرجل في آونة من الزمن والرجل نفسه في غير تلك الآونة.
هو في عناصره كألوان الطيف الشمسي لا تنطبق على عدها أصابع اليدين، ولا تكفي أرقام الحساب كلها لإحصاء ما يتألف منها ويتفرع عليها من الظلال والشيات والأصباغ.
ولهذا لا نسأل عنه سؤالنا عن خصلة واحدة أو خصال محدودة، كما لا نسأل عن الألوان والأصباغ على هذا الأسلوب.
فمن ضيق النظر إلى الحب أن يقول قائل: إنه ينطفئ بالاتصال بين الجسدين، أو إنه يستلزم الاتصال ولا يذكو بغيره.
ومن ضيق النظر أن يقال: إن الحب يكون عذريا أو لا يكون، أو يستدل عليه بهذه الصلة ولا يستدل عليه بصلة سواها.
لأن الحب قد وجد بين الجنسين قبل أن توجد الأواصر الاجتماعية التي تحرم الاتصال بين الرجل والمرأة بغير عقد مشروع.
فإذا سئل عن الحب العذري فليس السؤال: هل يوجد أو لا يوجد، وهل هو مشروط في طبيعة الحب أو غير مشروط فيها؟ وإنما السؤال: هل المحبان قد غلبت عليهما نزعة الفطرة، أو غلبت عليهما آداب الجماعة أو أوامر الدين؟ وقد يستتبع هذا السؤال سؤالا تاليا وهو: هل جمحت الغريزة بصاحبها، أو لا تزال في قبضة العنان التي يقدر عليها الأقوياء، أو يقدر عليها بعض الضعفاء إذا هان أمر الجماح؟
وعلى هذا يوجد الحب العذري ولا يوجد، ويعهد في بيئة ولا يعهد في بيئة غيرها، ولا يعدو أن يكون لونا من ألوان الحب يستطاع في علاقات وتنوء به الطاقة في غيرها من العلاقات.
وكذلك السؤال عن الحب: هل هو سعادة أو هو شقاء؟ فقصارى القول فيه أنه هو حب سواء قلت حب شقي أو حب سعيد، فإذا اتفقت جوانبه الكثيرة فهو أقرب إلى السعادة وإن كان لا يستغني عن قلق يغليه ويعيد الأمن به والسكون إليه بعد المخافة عليه، وإذا افترقت جوانبه الكثيرة فهو أقرب إلى الشقاء، وإن كان هذا الشقاء لا يخلو من دواعي الإغراء والإعزاز؛ لأنه هو التكاليف التي تقوم بها قيم الشعور.
ولكنه - لكثرة عناصره - أقرب إلى الشقاء منه إلى السعادة؛ لأنه عرضة لافتراق الهوى في النفس الواحدة حين تتناقض الرغبة والكرامة، أو تتناقض أسباب الألفة وأسباب النفور، وعرضة لافتراق الهوى بين نفسين اثنين لا تزول الحواجز بينهما كل الزوال وإن أفرطا في المودة والوفاء، وعرضة لافتراق الهوى بين تينك النفسين وبين البيئة التي يعيشان فيها، وعرضة لافتراق الهوى من تقادم العهد وتبدل الإحساس وتجدد العلاقات التي يتعرض لها كل هؤلاء.
وإنما كان له هذا الشأن الأكبر بين العواطف الإنسانية؛ لأنه هو العاطفة التي تنفذ إلى جميع العواطف والتجربة التي تمتحن بها النفس في جميع طواياها، والشعور الذي تتأهب له بنيتان وطويتان بكل ما أودع فيهما من نوازع الجنس العريقة في أعمق جذور الحياة من الخلية الأولى إلى فطرة الإنسان.
ولا يقال إن امرءا عرف نفسه وسبر أغوار ضميره ما لم يسبرها في هذه العاطفة مرات؛ لأنها لا تتغلغل إلى أنحاء الضمير جميعا من نوبة واحدة ولا تزال لكل نوبة رسالتها التي تحملها إلى قرار في أغوار الضمير لم يكن بالمعروف ولا بالميسور، وقد تطلع المرء على أخس ما فيه كما تطلعه على أنبل ما فيه.
فهي بوتقة لا نظير لها، وهي بوتقة تدخلها معادن لا تحصى، وقد يدخلها المعدن ذهبا تارة وقصديرا تارة أخرى، على حسب الشخصيتين، وعلى حسب النوازع التي تثار في العلاقة بين تينك الشخصيتين.
ولا يلزم أن تكون الضعة في إحدى الشخصيتين ضعة في العاطفة وتعبيراتها، لأن هذه الضعة قد تحيي في النفس مناعتها وتستجيش محاسن العطف والرحمة فيها، كما تحيي الجرثومة مناعة البنية التي تداخلها وتستنفر حراسها وحماتها.
وعلى هذا النحو لا يلزم أن تكون الرفعة في إحدى الشخصيتين رفعة في العاطفة نفسها، فمن الرفعة ما تلقاه النفس بالإعجاب ولا تلقاه بالفطرة الثائرة التي ترجها وتزلزلها وتستخلص منها ذخيرتها وكوامن قواها.
إنما هو تفاعل بين شخصين، وكثيرا ما يتفق في العواطف البشرية كما يتفق في الكيمياء أن يكون للمادة الخسيسة فعل مفيد وأثر نفيس في المادة التي تفاعلها، ولا بد من التفاعل بين النقائض والمتشابهات في بوتقة النفس وفي بوتقة الكيمياء.
معاملة المرأة
إذا كانت هذه هي المرأة في جملة صفاتها ومزاياها ونقائصها وحقوقها فكيف نعاملها؟ أو كيف نهتدي بمجمل هذه الآراء والمشاهدات في معاملتها؟
ولا ينصرف هذا السؤال إلى معاملة المرأة في الأندية ومجالس البيوت والمحافل العامة؛ لأن هذه المعاملة تجري على سنة المجاملة التي تفرضها آداب كل أمة، وتجري على سنة المراسم التي يرعاها من يدين بها ويتقيد بعرفها ونكرها.
وهو أيضا لا ينصرف إلى معاملة المرأة في القوانين والدساتير؛ لأن جميع ءالقوانين والدساتير سواء ما لم تدرأ المرأة عن حوزتها الأولى وفريضتها العليا، وهي الإشراف على مملكة البيت وعلى تنشئة الجيل المقبل وصيانة الأسرة.
إنما ينصرف السؤال إلى «المرأة الطبيعية» لا سيدة النادي ولا عضو المجتمع ولا صاحبة الحقوق في القانون والدستور.
وأوجز ما يقال في جواب السؤال على هذا المعنى أن الرجل الذي يحسن معاملة «المرأة الطبيعية» هو الرجل الذي يشغل إحساسها، وأن الذي يشغل إحساسها ولو بالسخط والغضب والإثارة أقرب إليها ممن يتركها فاترة النفس لا تغضب ولا ترضى ولا تميل ولا تنفر ولا تشكر ولا تنطوي على حقد أو موجدة.
وقد شوهد نساء كن يحسبن من السعيدات المنعمات؛ لأن أزواجهن كانوا يغدقون عليهن النعمة ويتأدبون غاية الأدب في خطابهن ولا يزالون معهن على ديدن الكياسة في الخلوة والاجتماع كأنهم يعيشون معهن الدهر على ملأ من نبلاء القرون الوسطى! فلم تنقض عليهن مدة حتى طلبن الطلاق وألحفن في طلبه، وذهبن إلى أزواج يمزجون الرضا بالغضب واللين بالخشونة، فأخلدن إلى العيش معهم وآثرنه على تلك المجاملات التي لا انقطاع لها في خلوة ولا اجتماع.
وشوهد نساء يشكون بين الجد والمزاح أن أزواجهن يسرعون إلى استجابة كل إشارة لهن، وإنجاز كل رغبة من رغباتهن، وسمعت من هؤلاء النساء من تقول: بودي لو يخالفني يوما فيأبى أن يذهب إلى دور الصور المتحركة حين أقترح عليه الذهاب إليها، وبودي حين يقبل الذهاب أن يخالفني ولو في اختيار الدار التي أدعوه إليها.
وفي هذه الأمنية من جد أكثر مما فيها من مزاح.
لأن المرأة تستريح إلى الشعور «بالحماية» وتنوط بهذا الشعور طمأنينتها وتسند إليه ضعفها، وهي لا يخلص لها الشعور بالحماية إذا انطلقت بغير وازع يمنعها بعض المنع ويردها إلى الطاعة من حين إلى حين. وقد تخالف الرجل فتسعد بالنجاح في المخالفة، ولكنها تشيع هذا النجاح بالندم وتود لو حبطت مخالفتها وتعوضت منها الشعور بالقوة التي تردها إلى طاعتها.
وشغل الإحساس ضرورة للمرأة لا محيص لها عنها أو ضريبة مفروضة عليها لا نجاة لها منها، وكفى من بواعثها إلى شغل إحساسها أنها تمتحن في كل دورة قمرية بثورة لا تكبحها أو بهمود لا ينقذها منه إلا ثورة تلعجها وتحرك رواكدها، وإنه مع هذا لسبب عارض يزاد على السبب الدائم الذي جعل حياتها منوطة بالمؤثرات الحاضرة غير حافلة بما يعقبها.
ومن المتواتر في أقوال بعض الرجال من عشراء النساء الطبيعيات أن المرأة تحب الرجل الذي يضربها ويهينها، وتؤثره على الرجل الذي يكرمها ولا يزال يترضاها.
وقد يكون في هذا القول تقديم وتأخير: تقديم للضرب والإهانة على الحب، وأحرى أن يتقدم الحب على الضرب والإهانة؛ فإن المرأة تقبلهما ممن تحبه لتزداد شعورا بحبه وغلو قيمته لديها، وقد يسرها أن تعلم كيف أصبحت أثيرة عند الرجل حتى أثارته غيرة عليها أو اهتماما بشأنها؛ لأن قلة الاكتراث هي أخوف ما تخافه من الرجل الذي يعنيها.
ولكن التقديم والتأخير في ذلك القول لا يجردانه من الصدق الذي تعرف له علة معقولة؛ فإن المرأة يلذ لها الخضوع إذا وجدت من يخضعها لأنه يحقق لها أنوثتها بين يدي الفحولة الغالبة عليها، وإنها ليلذ لها الألم أحيانا لأن الألم مقترن بأحب الوظائف إلى طبيعتها وهي طبيعة الأمومة، ومتى لذ لها الخضوع والألم فلا عجب أن يلذ لها الضرب والهوان ممن يعنيها.
ويشبه هذا القول أن المرأة تعرض عمن يقبل عليها وتقبل على من يعرض عنها؛ لأن المرأة تتهم نفسها إذا أعرض عنها الرجل فلا يهدأ بالها حتى تدفع عنها التهمة وتسترد إليها الثقة بفتنتها وغوايتها. وقد تشعر أنها بلغت من الرجل كل ما توده إذا هي لمحت منه الإعجاب بها، فلا حاجة بها إلى المبالاة به؛ لأنها عرفت قيمتها لديه، إلا أن يكون الرجل قد أعجبها فهي تتخذ من إعجابه بها وسيلة إلى استبقائه في أثرها.
وذاك الذي يصدق على المرأة في هذه الخلة يصدق على كل ضعيف يلتمس قيمته في نظرات الناس إليه؛ فإنه ليقنع ويتعالى إذ لمح المبالاة به، وإنه ليخنع ويتردد إذا لمح الإعراض عنه. ومهما تكن المرأة جميلة فاتنة فهي تتهم جمالها وفتنتها إذا عجزت عن غزو رجل من الرجال بهما، ويقع في خاطرها على الأثر أنه يهملها؛ لأنه يعرف من النساء من هي أجمل وأفتن. فيكون رضاه أحب إليها من رضا المعجبين بها والحائمين حولها.
ومن المحقق أن المرأة لا تضن براحة ولا سمعة ولا كرامة في سبيل الرجل الذي تتبعل له تبعل الأنثى لفحلها، وقد تأنف من معاشرة الضرة مع رجل لا يملكها بفحولة طبعه ومتانة أسره، ولكنها تقبل معاشرة الضرات طيعة راضية إذا صادفها الرجل الذي يملكها بفحولة طاغية على مشيئتها، وتسرها يومئذ ساعة الحظوة لديه بين ضراتها كأنها نعمة منتزعة من السماء، تظل تحلم بها وكأنها لا تصل إليها إلا أن يسعدها الحظ عند مالكها ومولاها.
وقد تقول «سيدة النادي» غير ذلك بلسانها، ولكنها لا تقول غير ذلك لا بلسانها ولا بقلبها إذا حلت فيها «المرأة الطبيعية» محل السيدة الاجتماعية، وإنما تحل فيها «المرأة الطبيعية» محل سيدة النادي بين يدي «الرجل الطبيعي» الذي ينفذ بها من شعائر العرف المصطنع إلى ما وراءها.
والمرأة بعد لا تتطلع من الرجل إلى شعور أحب إليها من شعور الحماية المحيطة بها والقوة الغالبة عليها؛ ولهذا يرضيها أن يمتزج بمعاملتها شيء من معاملة الطفلة المدللة ولو من ابنها وأخيها. فأحب الرجل إلى المرأة هو الرجل الذي تسكن إليه طفلة مطمئنة تقبل حنانه وتخاف غضبه وتتوخى رضاه ولا تأنف من تأنبيه وتعذيبه.
تلك هي حواء، في قرارة الوقائع والآراء، لا تتبدل حتى تتبدل الأرض والسماء.
صفحة غير معروفة