ويمكن التعبير عن الجسامة والطاقة والوزن والديمومة بأرقام أو خطوط دائما، ولا نرى حادثة نفسية أو اجتماعية معقدة يتعذر الإفصاح عنها بأرقام أيضا، ويكفي للوصول إلى قياسها بمقياس أن تفرق إلى عناصرها الأساسية، ولا جرم أن علم الإحصاء أقل العلوم الحديثة، التي هي في دور النشوء، تقدما، وما بلغه علم الإحصاء ينبئنا بفائدته المرجوة في المستقبل، فقد ألقى علماؤه، بما جمعوه من الأرقام، ضوءا على إنتاج البلدان واستهلاكها وثروتها واحتياجاتها وقوة سكانها المادية والأدبية، وتباين مشاعرها ومعتقداتها ومختلف العوامل المؤثرة فيها.
وريثما يقع ذلك في المستقبل، الذي يعبر فيه عن وقائع التاريخ والحوادث الاجتماعية بالصور والخرائط والمنحنيات الهندسية، نرى أن نستعين بأصح الآثار والأدلة التي خلفها الماضي وأكثرها ضبطا، وعندي أن ما لدينا من المواد التي ذكرناها يكفي لوضع صورة عن الحضارات الماضية وتاريخ تكوينها، ويجب، للانتفاع بتلك المواد، أن تدرس آثار الحضارات الماضية في أمكنتها، فمناظر هذه الآثار، لا الكتب، هي التي تعرب عن الماضي، وليس في الكتب ما تعرف به العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية.
وتكون دراسة البيئات في أمكنتها أمرا ضروريا عندما يبحث في أمة، كالأمة العربية، ذات آثار كثيرة في مختلف الأقطار التي ازدهرت حضارتها فيها، وتعلمنا الرحلات كيف نتحرر من قيود الآراء المتأصلة والتقاليد الموروثة وضلال الماضي وباطله.
وسيجد القارئ في هذا الكتاب تطبيقا للقواعد المذكورة التي ابتعدنا بها عن أكثر أحكامنا التقليدية الموروثة في الشرقيين، ولا سيما في دين محمد وتعدد الزوجات والرق والحروب الصليبية، والنظم والفنون وتأثير العرب في أوربة، وما إلى ذلك.
3
إن الآثار الباقية من حضارة العرب كثيرة، وهي تكفي لإيضاح أقسامها الجوهرية بسهولة، وقد استعنا بأكثرها، أي بما خلفه العرب من العلوم والآداب والفنون والصناعات والنظم والمعتقدات.
وأكثر ما رجعنا إليه في وضع هذا الكتاب هو ما نسميه الآثار الماثلة التي تستوقف النظر بأشكالها الظاهرة، وتعبر عن رغائب الزمن الذي قامت فيه ومشاعره تعبيرا صادقا، ولا غرو، ففيها يتجلى نفوذ العروق وتأثير البيئة، وبها يمكن الوقوف على أحوال القرون الغابرة، فالكهف الذي نحت في العصر الحجري أو المعبد المصري، أو المسجد الإسلامي، أو الكتدرائية، أو محطة السكة الحديدية، أو مخدع المرأة العصرية أو الفأس المصنوعة من الصوان، أو السيف ذو المقبضين، أو المدفع الذي يزن خمسين طنا، أفضل لمعرفة جميع ذلك من أكداس كتب البحث والجدل.
ولا نرى غير طريقة واحدة لوصف الآثار الماثلة، وهي عرض صورها، فصور الپارتنون والحمراء وأفروديت أولى من مجموعة الكتب التي وضعها جميع مؤلفي العالم لوصفها.
وما تلقيه صور الآثار التاريخية في الروع من المعاني الصادقة يدفعنا إلى الإكثار منها في هذا الكتاب ، والقارئ الذي يقتصر على تصفح صور هذا الكتاب يطلع على حضارة العرب وتحولاتها في مختلف الأقطار أكثر مما يطلع عليه من الكتب الكثيرة، وذلك عدا إعفائه من مطالعة المباحث المطولة في وصف تلك الآثار من غير أن يظفر منها بفكر صحيح، ولقد أصاب من قال: «إن صورة متقنة خير من مائة صفحة في الوصف»، وليس من المبالغة أن يقال: إنها خير من مائة مجلد.
ولا تكفي ألفاظ أية لغة لوصف آثار الشعوب، ولا سيما آثار الشرقيين، وإنما نطلع بالمشاهدة على مناظرها ومبانيها وفنونها وعروقها، ولا يستطيع أروع القول أن يؤثر في النفس بمثل ما تؤثر به رؤية الأشياء نفسها أو صورها عند الضرورة.
صفحة غير معروفة