وتنال يد التغيير في الغرب الأسرة والتملك والديانة والأخلاق والمعتقدات، وتصبح هذه الأمور موضوع جدل، ولا يقدر أحد أن يتكهن بما يتمخض عنه العلم الحديث، وكلفت الجماهير بمبادئ سلبية في الوقت الحاضر، وبلغ كلفها بها درجة الحماسة غير مقدرة نتائج ذلك.
ونرى الآن قيام آلهة جدد مقام قدماء الآلهة، ونشاهد العلم يدافع عنهم اليوم، فمن ذا الذي يذود عنهم في المستقبل؟
وحال الشرق غير ذلك، فالشرق في طمأنينة وسكون، وقد بلغت شعوبه التي هي أكثرية البشر درجة ظاهرة من التسليم الهادئ الذي هو عنوان السعادة على الأقل، ولا عهد له بما عندنا من الانقسامات والحياة الصاخبة.
وتتمتع شعوب الشرق بما خسرناه من التماسك، فمعتقدات هذه الشعوب لا تزال قويمة، وتحافظ أسرها على استقرارها القديم، وبقيت مقومات المجتمعات القديمة، كالديانة والأسرة والنظم والتقاليد والعادات، وهي التي أصابها في الغرب من الهدم ما أصابها، مؤثرة في الشرق مسيطرة عليه، وليس على الشرقيين أن يفكروا في تبديلها.
2
فصلنا في كتاب آخر طرق البحث والاستقصاء، التي يستعان بها على درس الحوادث التاريخية، تفصيلا كافيا، والآن نذكر أهمها: إن مبدأ «العلة» المسيطر على دراسة قضايا العلم يسيطر على دراسة حوادث التاريخ أيضا، وأن طرق البحث والاستقصاء التي يستعان بها على دراسة القضايا العلمية يستعان بها على دراسة الحوادث التاريخية أيضا، فيجب، إذن، درس الحادثة الاجتماعية كما تدرس أية حادثة طبيعية أو كيماوية.
وتخضع الحادثات كلها لبعض السنن، أي لنظام من الضرورات والوجوب، ويعمل الإنسان، وتسيره في عمله قوى مسيطرة يسميها أناس بالطبيعة وآخرون بالحكمة الربانية أو القضاء والقدر أو المصير؛ ونحن مسيرون من المهد إلى اللحد بما لا نستطيع مقاومته من القوى القاهرة الغالبة المتماسكة، ولا تعدو أقصى جهودنا وغاية أمانينا حد الوصول إلى معرفة بعض مظاهرها وصفاتها اللازمة.
ومثل تاريخ الإنسان كمثل سرد واسع متماسك الأجزاء تتصل حلقاته الأولى بأقدم الأحقاب والعصور، وكل حادثة تاريخية نتيجة حادثات أقدم منها، والحال، وهو وليد الماضي، يحمل في أثنائه وتضاعيفه بذور المستقبل، فيستطيع صاحب ذكاء ثاقب أن يقرأ سير الأمور المقبلة من خلال الحوادث الحاضرة.
ولن يتصف أحد بمثل هذا الذكاء، والإنسان، وإن استطاع يوما أن يطلع على العوامل التي أوجبت حدوث الحال، وعلى ما في هذه العوامل من القوى المتقابلة، يتعذر عليه تحليل هذه العوامل، ومما لا يقدر عليه علم الفلك أن يعين بالحساب اتجاه جرم خاضع لتأثير ثلاثة أجرام أخرى، فما تكون المسألة حين البحث عن تأثير ألوف الأجرام في جرم واحد؟
ولم تستنبط جميع السنن التاريخية المزعومة من غير ما هو تحت الحس والاختبار، وهي تقاس بملاحظات علماء الإحصاء الذين يستطيعون، بما يشاهدون ويختبرون، أن ينبئوا، مثلا، بعدد الوفيات والجرائم وأنواع الجرائم التي يصاب بها بلد يسكنه مليون نفس في سنة ما من غير أن يخلصوا إلى صميم علل الحوادث الذي هو ضرب من المحال، وهذه العوامل كثيرة إلى الغاية.
صفحة غير معروفة