وتسيطر الحضارة العربية، منذ اثني عشر قرنا، على الأقطار الممتدة من شواطئ المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي، ومن شواطئ البحر المتوسط إلى رمال إفريقية الداخلية، وكان سكان هذه البلدان المترامية الأطراف تابعين لدولة واحدة، ويدينون الآن بديانة واحدة، ولهم لغة واحدة ونظم واحدة، وفنون واحدة.
ولم يقم عالم بوضع كتاب جامع لتأثير حضارة العرب في الأمم التي سيطرت عليها شامل لعجائبها في إسپانية وإفريقية ومصر وسورية وفارس والهند، ولم تنل يد البحث العام فنون العرب، وإن كانت أكثر ما عرف من عناصر حضارتهم، وباء المؤلفون القليلون الذين أرادوا ذلك بالخيبة، فعزوا حبوط عملهم إلى نقص الآثار والأسانيد!
ولا ننكر أن تشابه المعتقدات أوجب تجانسا كبيرا في فنون مختلف البلاد التي خضعت للإسلام، ولكن من الواضح أن ما بين الأمم الإسلامية من الاختلاف وما بين بيئاتها من التباين أدى - من جهة أخرى - إلى فروق بعيدة الغور في تلك الفنون، فما ذلك التجانس؟ وما تلك الفروق؟ سيرى القارئ الذي يتصفح فصول هذا الكتاب، الخاصة بدراسة فن البناء وما إليه، درجة صموت العلم الحديث عن هذه المسائل.
وكلما أمعنا في درس حضارة العرب، وكتبهم العلمية، واختراعاتهم، وفنونهم - ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأينا أن العرب أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها، مدة خمسة قرون، موردا علميا سوى مؤلفاتهم، وأنهم هم الذين مدنوا أوربة مادة وعقلا وأخلاقا، وأن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يفقهم قوم في الابتداع الفني.
وتأثير العرب عظيم في الغرب، وهو في الشرق أشد وأقوى ، ولم يتفق لأمة ما اتفق للعرب من النفوذ، والأمم التي كانت لها سيادة العالم، كالآشوريين والفرس والمصريين واليونان والرومان، توارت تحت أعفار الدهر ولم تترك لنا غير أطلال دارسة، وعادت أديانها ولغاتها وفنونها لا تكون سوى ذكريات، والعرب، وإن تواروا أيضا، لم تزل عناصر حضارتهم، وإن شئت فقل ديانتهم ولغتهم وفنونهم، حية، وينقاد أكثر من مائة مليون شخص مقيمين فيما بين مراكش والهند لشريعة الرسول.
وثبتت أصول شريعة الرسول وفنون العرب ولغتهم أينما حلت، ولم يدر في خلد أحد من الفاتحين الكثيرين الذين قهروا العرب إقامة حضارة مقام حضارة العرب، وانتحلوا كلهم دين العرب وفنونهم، واتخذ أكثرهم العربية لغة له، وتقهقرت أمام الإسلام في الهند ديانات قديمة، وجعل الإسلام مصر الفراعنة القديمة، التي لم يكن للفرس واليونان والرومان فيها سوى نفوذ قليل، عربية تامة العروبة، وعرفت أقوام الهند والفرس ومصر وإفريقية لهم سادة غير أتباع محمد فيما مضى، ولم يعرفوا لهم سادة غير مسلمين بعد أن رضوا بالإسلام دينا.
حقا إن من أعاجيب التاريخ أن يلبي نداء ذلك المتهوس الشهير شعب جامح شديد الشكيمة لم يقدر على قهره فاتح، وأن تنهار أمام اسمه أقوى الدول وألا يزال يمسك، وهو في جدثه، ملايين من الناس تحت لواء شرعه.
ويجب احترام أعاظم مؤسسي الأديان والدول، وإن وصفهم العلم الحديث بذوي الهوس، وحق له ذلك، ففيهم تتجلى روح الزمن وعبقرية القوم، وبلسانهم تنطق أجيال من الأجداد راقدة في ثنايا العصور، والخيالات، وإن كانت كل ما يأتي به هؤلاء المبدعون لمثل عالية، هي التي أوجدت كياننا الحاضر ولا تقوم بغيرها حضارة، ولم يكن التاريخ سوى قصص للحوادث التي أقام بها الإنسان خيالا فعبده ثم هدمه.
والحضارة العربية من صنع قوم من شباه البرابرة، فلما خرج هؤلاء القوم من صحارى جزيرة العرب صرعوا الفرس واليونان والرومان، وأقاموا دولة عظيمة امتد سلطانها من الهند إلى إسپانية، وأبدعوا تلك الآثار التي هي آية في الإعجاز والتي تورث بقاياها العجب العجاب.
فما العوامل التي ظهرت؛ ونمت بها حضارة العرب ودولتهم؟ وما أسباب عظمتهم وانحطاطهم؟
صفحة غير معروفة