فألقت عليهما الملكة لمحة عين، ثم أمرت قائد الجيش بحركة الإيماء أن يتناول الدرج ويتلوه عليا؛ فالتفت القائد وأشار إلى حامل هذا الدرج بالدنو، فدنا وألقى بين يديه الكتاب ونكص، فتلاه ذاك بصوت عال، وإذا مكتوب به هكذا:
إلى العظمة الملوكية
إن تقادير النحس والتعاسة قد حركتنا - نحن معشر الأشقياء - إلى رفع الأسلحة إزاء وجه عظمتكم الملوكية بحيث لم نكترث بيدكم القوية وساعدكم الرفيع؛ وهو الأمر الذي جلب علينا من لدن ملوكانيتكم غضبا لا يخفى وسخطا لا يطفى، فسقتم علينا جيوشكم الزاخرة، وصيرتمونا كالهباء الذي تذريه الريح عن وجه الأرض، فلبسنا اللعنة كالثوب؛ لأنه لم نعلم - لكثرة جهالتنا - أن كل سلطة هي من الله؛ ولذلك قد منعنا رب الحكمة كل حركة وأبقانا لديكم كعمود لوط، حاملين على عاتقنا رجسة الخراب، مسودي الوجه مضطربين بين يدي الغضب الآتي.
فإذا كان لم يزل يوجد في قلوبكم نحونا ذرة رحمة فاقبلوا من عبيدكم إعلان الندم على ما فات، وأطلقونا من سجن الحماقة وأسر الجهالة. ونحن نعدكم وعدا ثابتا أننا نجري جميع أوامركم وقوانينكم في كافة ولاياتنا الصغيرة، ولا نعود لوضع أدنى خلل في نظام مملكتكم ذات الاتساع والعمار، عالمين أن سيف السلطان طويل، وأن الذي يعصي السلطان أو الشريعة تكون نهايته الدمار والدثار، وأنه لا يمكن قط لأي ملة كانت أو أمة قهر الصولجان الملوكي، أو مجاوزة قوانين السياسة، وأنه واجب على كل إنسان أن يخضع خضوعا مطلقا لعظمة السلطان عالما أن الله قد جعله على الأرض قهرمان، وسلمه مقاليد الشريعة ذات الأمان.
فحينما أتم القارئ تلاوة الدرج طرحه على الأرض مرتعدا بثوران الحمية وصرخ: «يا للمكيدة!» فتناوله وزير محبة السلام وتلاه بفم الضمير ثانية، بينما كانت الملكة مشرئبة والبهتة شاملة وجهها وصارخة: «يا للحيرة!» وبعد برهة صمت تكفي تكرارا لتلاوة السرية رفع الوزير عينيه بحياء إلى حضرة الملكة واضعا الدرج جنبه برفق، وأخذ يستميل بلحظاته قلبها إلى إجابة أولئك المسجونين، ويحركها بظرافة تبسماته إلى الشفقة عليهم.
فانعطفت هذه السيدة إلى الجانب الملوكي ورمقته بأعين رطبها الإشفاق، وقالت له بتبسم يطفح بأنوار الحنو: دعهم يحضروا إلى المحاكمة عسى يفلحون. - أخشى وقوع المكيدة. - أنا أكفل ذلك والحكمة تعرف طريقها. - ليكن لك حسب قولك.
فالتفتت الملكة إلى الوزير وقالت له: قم فاذهب بذاتك واستحضر المسجونين إلى هنا كي نحاكمهم. فنهض الموما إليه للوقت وجاز مسرعا، ثم قالت الملكة لقائد الجيش: اكتب رقعة إلى الفيلسوف واستعجله بالحضور إلى هنا. ففعل، فقالت له: أرسلها مع هذين العبدين. فدفع لهما الرقعة حالا بعد أن أطلعهما على محلته في مدينة النور؛ فذهبا يذرعان الأرض، والقائد راح يتخطى في ناحية، وأخذ المظهر الملوكي يضرب في أغوار التفكرات. وما عدت أرى سوى هيبة السكوت المتعمق، ولا أسمع سوى هدير الماء المتدفق.
الفصل الثاني
الهواجس
وبينما كنت أجول في مراسح الأوهام العقلية، وأطوف في مسارح الخيالات الفكرية، إذ استلمحت شبحا يتقارب من بعد، وهو يخب في بطن الغاب غائصا في غمر الظلال المتكاثف، وما زال يعسف على قدم الإقدام حتى نفذ من تلك الغمرات المدلهمة، وظهر في مرسح الأحلام ظهور القمر من كبد الغمام.
صفحة غير معروفة