مقدمة
1 - الحلم
2 - الهواجس
3 - مملكة الروح
4 - السياسة والمملكة
5 - التمدن
6 - قواد الشر
7 - المحاكمة
8 - اليقظة
مقدمة
1 - الحلم
2 - الهواجس
3 - مملكة الروح
4 - السياسة والمملكة
5 - التمدن
6 - قواد الشر
7 - المحاكمة
8 - اليقظة
غابة الحق
غابة الحق
تأليف
فرنسيس فتح الله مراش
مقدمة
إنني بينما كنت ذات ليلة ضاربا في أودية التأملات العقلية، وطائرا على أجنحة الأفكار المتبلبلة في جو الهواجس والأحلام التخيلية، وإذا قد انفتح لدى أعين خواطري مشهد عجيب تلعب فيه أشباح الأعصار السالفة، وترن في هوائه نغمات الشعوب الغابرة من وراء حجب التواريخ الخالدة؛ فرأيت ممالك العالم القديم تتعالى إلى أوج العظمة والكرامة، وترتقي إلى سدرة الآداب والتهذيب حيثما ينتهي مجد الإنسان النازل من الخليقة منزلة الأول من العدد.
فبينما كنت أرى المصريين مشتغلين بتهذيب الفلاحة والزراعة وتربية العلم وصناعة الأيدي، والآثوريين مجدين في اختراع ظرافة المشادات والأبنية، والفينيقيين آخذين بتوسيع المتاجر وشق عباب البحار وتقريب صلة الهيئة الاجتماعية؛ وإذا راية فارس مقبلة من بعيد حاملة شمسها الساطعة وأسدها الزائر، وهي تخفق على رءوس جيش عرمرمي يتموج فوق صهوات الخيول الصاهلة التي كلما كانت تضرب بحوافرها أديم الأرض، كانت تثير غبارا يلقي وخط الشيب على هامة الزمان وينسج برده الأشهب لجسد التاريخ.
وهكذا لم يزل يتقدم ذلك الجيش الجرار تحت الراية الخافقة، إلى أن مد بساط سطوته على كل أولئك الشعوب الذين كانوا يرفلون في حلل الثروة والنعيم؛ فأحنى كل ركبة لدى تلك النار الفارسية، وأهال كل قلب بطلعة ذلك الأسد السائد.
وما برحت دولة فارس ممتعة بتلك الأراضي المحروسة وذاك الغنى الوافر، حتى برزت عساكر مكدونية وأحدقت من كل جانب تحت بيارق الإقدام والبسالة، مثيرة لهب الحروب الهائلة، إلى أن ظفرت بجميع هاتيك الممالك، وأخمدت نار فارس، ولم يزل الصولجان المكدوني يفرع تقدما ونجاحا، وميدان ملكه يتسع بالسطوة والاقتدار إلى أن رأيت نسر الرومانيين صاعدا من الشمال وهو يخفق بأجنحة النصر والظفر، منقضا على جميع ما امتلكه المكدونيون من تلك الممالك الواسعة والبقاع الشاسعة؛ وهكذا قد بسط جناحيه وخيم على العالم؛ فانتصب لدى أعيني حينئذ قوس النصر الروماني في وسط ساحة الدنيا، وعدت أرى جميع شعوب الأرض تتقاطر أفواجا أفواجا، وتمر تحت ذلك القوس العظيم إشارة للخضوع والطاعة، وما برحت تلك الدولة العجيبة تمتد وتتسع بالغلبة والجبروت إلى أن انفطرت إلى شطرين عظيمين؛ فكان الأول شرقيا، والثاني غربيا، فأخذ ذاك يتعاقب بين ارتفاع وهبوط تحت رحمة الأقدار، وهذا يتشعب ويتفرع إلى جملة ممالك وولايات تحت اختلاف الأطوار، ولم تزل تحصحص لأعين فكرتي تلك الظواهر، إلى أن انفتح أخيرا لدى أبصار بصيرتي باب رحب مكتوب على قنطرته: «العقل يحكم» ومنه عاينت برية فسيحة جدا.
ولاح لي عن بعد بيرق يخفق مقتربا؛ فوضعت نظارة الاختبار وأمعنت النظر فرأيت مكتوبا به «العلم يغلب»، وظهر لي حينئذ من ورائه جيوش التمدن الزاهر ممتطية متون الاختراعات العجيبة والمعارف الكاملة، وهي تخطر متموجة بأنوار أسلحة الحكمة والعدل، متدرعة بدروع الحرية الإنسانية والخلوص المحض، ورأيت أمام هذه الجيوش المظفرة تتراكض ممالك الظلام مع كافة أجنادها، ناكصة على أعقاب القهقرة والانكسار، وهي تزاحم بعضها البعض إلى الهبوط في لجج العدم والاضمحلال حيثما لا حركة ولا صوت؛ وهكذا مدت دولة العقل قوتها على كل بقعة ومكان، وعم السلام على كافة المسكونة.
وبينما أنا مشمول بشمول هذه المرئيات التصورية في هذا العالم الفكري، ثمل بما أشاهد في هذا المرسح الجديد الذي تتلامع به شموس هذا العصر الحديث، وإذ قد ظهر لي من وراء الأفق الغربي دخان كثيف مدلهم، وأخذت آذاني تسمع لغطا آتيا من بعيد يشبه لعلعة رعد شاسع، وكادت حينئذ نواظري تستلمح تلامع أسلحة الحرب، وإذ داخلني روح العجب لما عاينت من المنقلب، نادتني أصوات الأخبار الشائعة قائلة: هو ذا العالم الجديد (أمريكا) قد رفض قبول شريعة التعبد؛ ولذلك قد نهض ضد هذه العادة الخشنة بالأسلحة والنار إذ لم يعد يحتمل وجود بقية لدولة التوحش على سطح الأرض، وها دخان المواقع يبرقع وجه السماء، وتموجات رعود المدافع تنفتح في كتلة الهواء. فعندما استوعبت هذه الحوادث ووفيت التمعن حقه؛ تلاعبت يد الاضطراب في جهاز الحياة ، ومالت الأعضاء إلى الارتياح، ولم أزل فريسة ترتعد بين مخالب تلك الانفعالات إلى أن أخذتني سنة المنام، وانفتح لدى أعيني مرسح الأحلام.
الفصل الأول
الحلم
ولما غمرتني لجج الرقاد؛ وجدت ذاتي أتخطر في برية واسعة، وكان يظهر لي عن بعد غابة عظيمة ذات أشجار ضخمة عالية، بأغصان متكاثفة الأوراق ملتفة بعضها على بعض، بنوع أنه لا يمكن لأشعة الشمس أن تخترق قبابها الشاهقة إلى كبد السماء لكثرة تلبدها الشديد، وهي تفرش على الأرض بساطا ثخينا من ذلك الظل الذي لا يتقلص.
وبعد أن أجهدت المسير إلى أن تبطنت هذه الغابة، رأيت نفسي من ثم محاطا بسكوت عميق يتخلله من فترة إلى أخرى هدير مبهم يشبه دوي غدير متدفق ممزوج ببعض زمرات من وحوش الغاب، أو تغريدات من طائر السماء؛ فأخذت أتتبع هذا الصوت الذي يظهر كأنه ينعي ألم الوحدة أو يبث شكوى الفراق، ولم أزل مهتديا به إلى أصله وأنا أركض تارة وأتوقف أخرى إلى أن انتهى بي الجد إلى فسحة فسيحة واقعة في جوف تلك الغابة، ومحاطة بسياج من أعظم الأشجار، وهناك رفعت نظري فرأيت السماء حينئذ واقعة على تلك الفسحة المحاطة بذلك الشجر الهائل وقوع قبة من زجاج على عمد وقناطر من زبرجد، وإذ أطلقت نظري قليلا وجدت صخرة منفردة القيام مائلة على ناحية يتدفق من أسفلها غدير عظيم تدفقا يسابق الطير سرعة، وهو يتشعب إلى جوار تذهب متشتتة في أقطار ذلك الحرش تاركة عند انفصالها صياحا وأنينا موجعين.
وبينما كنت شاخصا في هذا المشهد البهيج، ومتأملا بما تصنعه الطبيعة من الفلتات الغريبة؛ وإذا بعاصف من الريح قد نهض من سكناته، وهب هبوبا كاد أن يقتلع جميع الغابة ويطير بها إلى أعالي الجبال الشامخة.
نفضت نواظري إذ ذاك لدى تلك الزوبعة الطائرة خوفا من لذع غبارها الثائر، ولما فتحت أجفاني رأيت عرشين منتصبين أمامي على الفور كأنهما مصاغان من الذهب الإبريز، وهما مرصعان بأفخر الأحجار الكريمة، ووضعهما كان قريبا من تلك الصخرة وذلك الغدير، وفي كل منهما لمحت شخصا جالسا وعليه من اللياقة والكمال ما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر.
أما الشخص الأول: فكان رجلا مكتسيا حلة أرجوانية تتلامع كأنوار الضحى، وفي يده اليمنى صولجان طويل، وقابض باليسرى على رقعة مطوية بغير نظام وهو معتقل سيفا ذا شفرتين، وعلى رأسه تاج مكتوب على إكليله: «يعيش ملك الحرية.» وكانت عيناه تتناثر شررا وهو عاقد الحاجبين مقطب الوجه؛ بحيث يتضح للناظر كونه منفعلا بنوبة عظيمة من الغضب لأمور تدخل في سياسته، وكان شاخصا في نقطة من الأفق يتصاعد منها دخان وقتام.
وأما الشخص الثاني: فكان امرأة، وعلى ما بان لي أنها زوجة الأول، وهذه المرأة قد كانت ذات وجه بيضي الشكل، يلوح عليه حسن بلغ أعلى درجة من سلم الجمال، بأعين تتلامع بأنوار الحور على سواد الكحل، وأجفن كأنها سكرى بخمرة الفتور ومأخوذة بسحر الغزل، وحواجب كأنها صورت بقلم رافائيل أو نقشت بإزميل ميخائيل قد جمعت بين الاقتران والزجج، جمع جبينها بين السعة والبلج، ورأسها متوج بشعر مسترسل يترامى على أقدامها كطالب شفاعة بهيئة تكل عن إحاطة تشخيصها الصناعة، وسواد يتموج بسنا الصقال اللامع كالليل الذي يخامره ضياء الفجر الساطع وهو مزنر بإكليل من الذهب والغار علامة للظفر والانتصار، وكأن وجنتيها صفحتا لجين قد اندفع إليهما نور الشفق، وكأن جيدها ومباسمها كشقيق أخذ ينفتح إذا ما الصبح انفلق، وكأن جيدها صيغ من بلور لطيف يعلو على صدر يحمل كرتي مرمر نظيف. أما معاصمها فقد كانت لدوائر الأساور مراكز ترسل أقطارا متساوية الاتصال، وكذلك أرساغ أقدامها كانت تملأ الخلخال. أما لباسها فقد كان جامعا لكل الاحتشام؛ بحيث لم يكن سوى جلباب عريض حريري النسج يحيط بجميع قوامها من العنق إلى الأقدام، مزرورا على صدرها، ومستدقا عند معاطفها المحاطة به كنطاق، ومن هناك يأخذ بالاتساع إلى أسفل بدون أن يبدي مشهد قبة عظيمة.
وبينما كنت أنظر إليها نظر المندهش الحيران؛ مأخوذا بخمرة ذلك الجمال البديع، مضطربا بوقوع تأثيراته على قلبي الذي كنت أضغطه بيدي خوفا لئلا يطير شعاعا ؛ إذ لاح لي سطر من أحرف نارية على إكليلها الذهبي يعلن: «هكذا تحيا ملكة الحكمة.»
وإذ شرعت أتأمل بعد تلاوة تلك الأحرف في أبهة هذه الملكة المتواضعة رأيت جبينها زاهرا بأنوار النباهة والذكاء، وأعينها متقدة بأشعة التعقل والفطنة، وأصداغها منتفخة بالحزم والرشد وهي تبتسم بالبشاشة والوقار، ملتفتة إلى ذلك الملك الغضبان التفاتا يرسم شكل القمر في الليلة الإحدى عشر، ومنحنية أمامه بأيد منبسطة تستميل خاطره وتستعطف قلبه بكلام يقع في السمع وقوع الدر في الصدف، فسمعتها تقول له هكذا: نعم يجب التغاضي عن هذا الملك الظالم الذي لا يبرح مجتهدا في زرع زوان الخشونة والتوحش في حقل مملكتنا ذات التمدن والتهذيب، ولا ينبغي الإضراب عن استئصال كل أعوانه وأنصاره الذين يلبسون جلود الحملان، وينشرون ما بين خراف رعايانا كلما غفلت عنهم أعين التيقظ والانتباه، واضعين على وجوههم براقع المكر والخديعة حتى إذا ما تمكنوا من استعطافهم بقوة الاحتيال يأخذون حينئذ بإفساد ضمائرهم السليمة، مظهرين لهم شرف التعبد لملكهم وما به من الفوائد والمنافع إلى أن يطرحوهم أخيرا بأيدي ذئاب عبوديته، ولكن مع ذلك لا ينبغي معاملة ذلك الملك العنيد وأولئك الأعوان المردة إلا بما يقتضيه قانون شريعتنا العادلة؛ أي بالأناءة والحلم والتدقيق حذرا لئلا تحسب من الأجانب ظلاما أو حمقى. - كيف يمكنني أن أعامل هؤلاء القوم بما تقتضيه نواميسنا حسبما تشورين، مع أنني قد أفرغت جهدا طويلا وتكلفت تعبا ليس بيسير حتى أوقعتهم أخيرا في قبضتي؟ أفما يخشى من هربهم بواسطة الحيل والخدع إلى حيث لا نعود نظفر بهم ثانية؟ فها أنا قد اعتمدت على شنق هذا الملك الخبيث وسجن جميع حفدته وعبيده مؤبدا، تدير مملكة العبودية بكل سرعة، ولم يعد لي حاجة لما كانت تدفعه هذه الدولة من الخراج؛ لأن جميعه آت من مال الظلم. - إياك تصنع هكذا يا أيها الملك العظيم لئلا نفتح سبيل التمرد والعصيان إلى شعوب مملكتنا، وتعود الثورات الأهلية قائمة؛ لأنه معلوم لديك كم وكم من الناس يميلون طبعا إلى تلك الدولة ما عدا الذين قد مالوا إليها بقوة الفساد والغش؟ فإذا - لا سمح الله - أخذت الحروب الأهلية بالانتشاب نعدم راحتنا ونقع في وجل عظيم، فتصير المصيبة الأخيرة شرا من الأولى؛ إذ نكون كالطبيب الذي يسرع إلى سفك الدم حالا في الحميات الخبيثة بدون ملاحظة المزاج والبنية؛ فيهلك المريض بشدة انحطاط القوى الحيوية.
فأشور عليك إذن يا أيها الملك المهاب، وأرجو أن تتنازل إلى قبول مشورتي بأن تستحضر لديك ذلك الملك العنيد مع أهم أعوانه، وتضع عليهم شرائع وقوانين جديدة يسلكون بموجبها، وتشدد ذلك الوضع بالصرامة اللازمة بعد توبيخهم وتبكيتهم، ثم تجعل لكل منهم مناظرا من طرفك، وكذلك يجب أن تكون أكثر عساكرهم من جنس عساكرنا؛ كي لا يعود لهم مقدرة على مخالفة الناموس أو العصيان والتمرد، ولكي يعلموا أنك أنت هو الملك الأكبر مقدارا والأشد عزيمة والأوسع مملكة وأجنادا، وأنه بأي وقت تشاء يمكنك شن الغارة عليهم وأسرهم حسبما فعلت الآن. - قد ظهر لي الآن من كلامك يا أيتها الملكة السعيدة أنه يجب إرجاع هؤلاء الظلمة إلى مملكتهم بعد تلك الحروب التي أثرناها عليهم، وكل ذلك التعب؛ فأنا أتعجب منك! كيف مع كونك بهذا المقدار حكيمة تشيرين علي بهكذا مشورة ولا تشورين باستئصالهم عن آخرهم لكي نأمن غوائلهم ومكايدهم؟!
فقاطعته الملكة قائلة: إن إشارتي إليك يا أيها الملك الجليل بوضع شرائع جديدة على أولئك القوم أصحاب تلك المملكة المشئومة، وبإرفاقهم بمناظرين عليهم من طرفنا وبجعل أكثر عساكرهم من جنس عساكرنا، إنما هو عين استئصالهم وإبادتهم؛ لأنه بذلك يمكننا وضع الأيدي على مملكتهم وضمها إلى مملكتنا بكل سهولة وبدون أدنى انزعاج لداخليتنا، ولكن مع طول الزمان والصبر الأمر الذي به قد نجحت أكثر ممالك العالم حسبما تخبرنا التواريخ، ولكن إذا أوقعت بهم الآن حد السيف بدون التبصر بعواقب العجلة، فأخشى عليك من الوقوع في بلبلة البال والندم على المحال.
وبينما كانت هذه الملكة الحكيمة تبسط أفكارها لذلك الملك الجليل، وإذا برجلين مقبلين من جوف الغابة بأقدام مهرولة، وبوجوه عليها سيماء الانشغال، ولم يزالا يتقربان إلى أن وصلا أمام المظهر الملوكي وسجدا هنالك بكل احترام ووقار، وكانا متدرعين بأسلحة الحرب، وأعينهما ملتهبة بضرام المواقع، وأحذيتهما متوشحة بما نسجه النقع، والدماء سائلة على حد ظباهما ومضمخة ثيابهما العسكرية، وكان مكتوبا على خوذة أحدهما: «هذا قائد جيش التمدن.» وعلى منكب الآخر: «هذا وزير محبة السلام.»
وعندما وقعت من الملك التفاتة إليهما حياهما بالإكرام، وقال لهما: هات أخبراني بما فعلتما شفاها. فأخذ الأول يسرد الحوادث هكذا: إن نصرتنا الكاملة على الأعداء لم تحتمل أكثر من موقعتين: أما الأولى فكان حدوثها على هذا الوجه، وهو أن هؤلاء الأخصام عندما شاهدوا جيوش آدابنا المستظهرة مقبلة عليهم فرقا فرقا؛ عدوا حالا على قتالنا منظمين صفوف أجناد مقاومتهم، وأخذوا يدافعون هجومنا عليهم بنيران مدافع العناد بدون أدنى اكتراث بنا، وكان حامل بيرقهم رجلا يسمى بالبغض.
فعندما لاحظنا قحتهم هذه زمرنا حالا ببوق النار الدائمة، ورفعنا بيرق النزال، فكنت ترى حينئذ جيوشنا تلك الغضنفرية غائصة في سحب دخان الغيرة، متلامعة ببروق سحيق التعاليم على صهوات جياد المدارس التي كانت تحمحم طلبا للهجوم وشوقا للاقتحام، ولم تزل قنابر براهيننا تنقض على صفوف الأعداء كالصواعق من أفواه مدافع استظهاراتنا التي كانت ترعد تحت سماء حرب الحرية، ولم تبرح بنادق ألفاظنا تمطر عليهم رصاص العزيمة إلى أن رأيت تلك الصفوف أخيرا متفرقة كبنات نعش، ومنهزمة أمام نظام فيلقنا الذي كان يحكي الثريا شملا والجوزاء مسيرا، وهكذا لم نزل هاجمين عليهم وهم ناكصون على أعقابهم حتى ظفرنا بالغلبة والانتصار، وتركنا أكثرهم بين قتيل وجريح، والبقية أدبروا وتحصنوا في معاقل الآراء السابق تصديقها.
أما الواقعة الثانية فكان وقوعها على هذه الكيفية، وهي أن أولئك الأعداء قد أرسلوا إلينا رسولا حاملا من طرف ملكهم رقعة بها يعدنا أنهم يتركون الأسلحة بشرط أن تنحي عنهم قليلا عساكرنا، فوعدهم سعادة رفيقي هذا - وأشار إلى وزير محبة السلام - أن يجري شرطهم، وكتب لهم بذلك رقعة ودفعها للرسول فأخذها وذهب، وهكذا أتممنا الوعد.
ومذ شاهدوا تنحينا عن معاقلهم طمعوا بتغاضينا، وأخذوا يجمعون عساكر جديدة مجددي العزم، واندفعوا علينا ثانية كالوحوش الضارية تحت إدارة سبعة قواد تسمى بالأرواح الشريرة، وكان حامل سنجقهم جنديا يقال له: «الخيانة».
فعندما رأينا تأهبهم للقتال وهجومهم علينا اغتيالا ومفاجأة تحت لواء الخيانة هرعنا حالا إلى أسلحتنا القاطعة وقابلناهم بأمواج كتائبنا المنتصرة، وأخذنا نصادمهم مصادمة بني أسد لبني كلب، وكنت أنا وهذا الوزير نخترق صفوف أجوقهم شاهرين سيف الهمة والمسعى، ونضرب يمينا وشمالا بكل عزائمنا لكي نشد قلوب الجنود المنقضة عليهم كالنسور، وكان دخاننا يبتلع دخانهم ورعود مدافعنا تخرس مدافعهم، ولم نزل نجزر مدهم ونفل حدهم حتى استظهرنا عليهم مليا وأوضحنا تقهقرهم جليا، ولم نرجع عنهم حتى أوقعنا جميع عساكرهم وقوادهم في قبضتنا بعد حرب أقوم من ساق على قدم، وأشهر من نار على علم.
ولم نكتف بهذه الغلبة فقط، بل دخلنا أيضا إلى معاقلهم السخيفة لكي نستخرج ما فيها من القوات، وبينما كنا نتجسس ونبحث في تلك الحصون واحدا فواحدا وجدنا في أحدها رجلا هرما قد نفضت أقدام الأيام على هامته غبار الشيب، وهو مختبئ في إحدى زوايا حجرة ناكس الرأس مكفهر الوجه منحط العزائم والقوى ذارف الدموع منحني الظهر، حتى يرى كأنه صنم لا يمكنه أدنى حراك؛ فقبضنا عليه أيضا وأخرجناه إلى الخارج وربطناه مع سبعة قواده المذكورين ومن يحمل بيرقه بسلسلة حديدية، ووضعناهم في سجن عندنا تحت الأسر، وحالا أخذت قلما وقرطاسا وسطرت به هاتين الواقعتين كواحدة على وجه الاختصار وأرسلت الأسطر إلى عظمتكم مع بريد مخصوص.
أجاب الملك: قد وصلتني رقعتكم مع البريد المذكور، ولكني لم أستوعب كل الحوادث حسب الواجب؛ ولذلك رددت إليكم البريد لكي يدعوكم إلى هنا وأفهم الأمر منكم مشافهة، فمن الرقعة التي أبرزتموها لي لم أعلم سوى موقعة واحدة وأنكم موعودون من الأعداء بالتسليم وترك الأسلحة عندما كان نظري يسبق ويرى من بعيد دخان وغبار معركة مهولة، وأذني كانت تسمع لغطا يشبه دوي رعود من أفق شاسع، ولم ألبث أن أغرقتني لجة البلبال؛ لأنني لم أعلم النصر لمن يكون. - نعم، إن هذه المعركة التي هي الثانية ربما كانت جارية حينما كنتم تشرفون معروضنا بتلاوته؛ لأننا بعد برهة قليلة من نهاية الكفاح الأول أسرعنا إلى إخبار عظمتكم وشرعنا في الاعتراك الأخير ونلنا النصر والظفر من حيث لا تعلمون.
ومع ذلك كنا نقتصر على إنجاز تلك الموقعة الأولى حسب المرغوب لو لم يدخل غش هؤلاء المردة على سلامة قلب وزير محبة السلام. وأشار إليه، أما هذا الأخير فقد كان مطرقا في الأرض غير متحرك وكأنه واقع في هواجس كثيرة، فالتفت الملك إليه، وقال له: بالحقيقة إن سلامة قلبك قد صارت السبب الوحيد لانتشاب تلك الموقعة الثانية؛ لأنه لو كنت تعرض عن تصديق دعواهم بالتسليم عالما أن الحرب خدعة لكانت جيوشنا أنهت الموقعة الأولى حسبما اقتضت الثانية، وكنا اغتنينا عن ثقلة هذه الأخيرة ووفرنا رجالا ومالا.
فأحنى الوزير رأسه لدى الملك، وقال: إنه لم يخطر بي البتة إمكان هجوم هؤلاء البرابرة علينا مرة ثانية بعد أن شاهدوا ما شاهدوه من بسالة أجنادنا الأقوياء في الحروب، وتيقنوا جيدا عجزهم وضعفهم بالنسبة إلى ثباتنا وقوتنا؛ فقد جرت الأقدار بما لم يخطر بالأفكار، ومع ذلك فليست إجابتي لطلبهم كانت مبنية على اقتناعي فقط بكونهم لا يجسرون على محاربتنا ثانية، بل وعلى طمعي بحقن الدم أيضا؛ إذ قد خطر لي أنه إذا لم نجب طلبتهم وواصلنا الحصار والمهاجمات فقد يمكن أن يجري نهر من الدماء حسبما جرى ذلك في كثير من مواقع العالم منذ يشوع أريحا إلى تيطس أورشليم وما بعده ...
فقاطعه الملك قائلا: إنه يوجد في طريق الإنسان كثير من الموانع التي لا يمكن الحصول على رفعها إلا بسفك الدماء، وكذلك قد يصيب الإنسان كثير من الحوادث التي لا يمكنه دفاعها إلا ببذل الروح، وعلى كل حال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم - ولكن يا أيها الملك المعظم ليس بجيد للإنسان أن يسرع حالا إلى إهراق الدماء على نزر الأشياء، وليس جميع الحوادث والأحوال تساوي الدم الإنساني الذي لا يوجد أثمن منه، ولا يجب مضارعة أولئك الشعوب الذين يبادرون إلى شن الغارات وفتك بعضهم بعضا على أقل أرب لا يعتد به، أو أدنى خرافة لا بيت لها في رقعة التمدن؛ بحيث لا يئول صنيعهم هذا إلى دمار ودثار أخصامهم فقط، بل وإلى انحطاط وخراب هيئتهم أيضا؛ إذ إن الرجل الظالم يرتد وجعه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه؛ فلا برهان إذن على سمو عقل الإنسان وتروض أخلاقه ودعة سجيته أعظم من محبته للسلم ونفوره عن الحرب والخصومات، على أنه بالسلامة تنمو الهيئة الاجتماعية وتتسع دائرة تقدمها بالثروة والمعارف والآداب.
بالسلامة تخصب الحقول وتغطي الأرض غلاتها وتجود الفلاحة ويكثر الحصاد.
بالسلامة تعمر البلاد والقرى وتتسع التجارة التي عليها يقوم مدار الاشتراك مع كافة العالم.
بالسلامة تتقوى الممالك وتعظم رجالا ومالا.
وبالإجمال إنه بالسلامة يقوم شرف البلاد ومصالح العباد.
ولكن إذا أخذنا نتصفح الحروب وغوائلها إنما نرى العكس تماما.
على أنه بالحرب تتبدد الهيئة الاجتماعية وتضيق دائرة تقدمها ونجاحها حينما يرسل إليها مركز الجهل أقطار الخراب.
بالحرب تمحل الأرض وتضن بإنتاجها وتتقهقر الفلاحة ويقل الحصاد.
بالحرب تنهدم البلاد وتغور المتاجر في أودية الاضمحلال، وتنقطع الشعوب عن مشاركة بعضهم بعضا.
بالحرب تضعف الممالك وتقل رجالا ومالا. وبالجملة إنه بالحرب تذل البلاد وتبيد القبائل ويصفر الخراب.
ومع كل ذلك فقد تلد السلامة حروبا والحروب سلامة.
بناء على أن زيادة الراحة تنشئ أضرارا جمة لا تذهب إلا بواسطة التعب والرياضة. وأيضا زيادة التعب قد تسبب جملة أعراض رديئة لا يمكن إخضاعها إلى الزوال إلا تحت سلطنة الراحة والسكون.
أما ترى حينما تمردت علينا مملكة العبودية وأخذت تفسد في الأرض بواسطة أعوانها وتعيث بسذاجة شعوبنا كيف نهضنا ضدها ابتدارا، وأشهرنا أسلحة الحروب حذرا من أن يبتلعنا القعر وتطبق البئر علينا فاها؟
وهكذا أتممنا تشتيت شمل العدو، وصحنا عليه بصافور الغلبة والظفر، ضاربين بطبول الحرية التي نحن أولادها. وحينئذ فأنا الذي تدعونه وزير محبة السلام قد اخترقت بذاتي جماهير معسكر هذه الأعداء، واقتحمت قلاعهم ناضيا سيف الهمة والمسعى، حتى أنزلت بهم النكال دفعا لوقوع القلق والاضطراب في بلادنا، ورفعا لتسلط القبائل الأجنبية علينا؛ الأمر الذي يفعل الخراب أكثر مما تفعله الحروب، فهنا نرى أن السلامة قد أنشأت حربا.
وعندما تسترجع هذه الحروب راحتنا السابقة وهدوءنا الاعتيادي منادية بكون سيف السلطان طويلا؛ نقول من ثم إن صخرة الحرب قد أفاضت مياه السلامة الدائمة التي بها يتمتع كل آت بعدنا، كما يتمتع بماء هذه الصخرة التي فجرتها العناية بعصا موسى الإعتاق كل سارح في برية الحرية أو غابة الحق. وأومى إلى الصخرة التي يتدفق منها الماء وأحاط بالإيماء جميع الغابة.
وبينما كان هذا الوزير يتكلم كانت الملكة الآخذة وضع الجلوس المحتشم متكئة على ساعد العرش السامي ومزهرة راحتها بوردة خدها الأزهر، وعلى مباسمها تقرأ الحلاوة آية الكوثر، وهي تهز رجلها اللطيفة إشارة لاستيعاب الخطاب متوسمة بوجه محبة السلام بأعين تفيض جمالا وكمالا على طلعة تنفث في العقول سحرا وتدير على القلوب خمرا؛ فهي ترمي فؤاد فانوس - إلهة العشق - بنبال الفتور، وتأخذ قلب باكوس - إله السكر - بنشوة الخمور، مع أنها تخلق في مينارفا - إلهة الحكمة - مهابة واحتراما، وتجري في روح المريخ - إله الحرب - بردا وسلاما.
فما أتم الوزير كلامه إلا ورأيت زنجيين مهرولين من بعد إلى ساحة هذا المرسح ولم تزل بطون الأدغال تبتلعهما تارة وتتقاياهما أخرى حتى أدركا أخيرا هذا المحط، وسجدا على الفور تجاه المشهد الملوكي مكشوفي الرأس مطرقي الأعين، قد عبثت بأنفاسهما غصص الرعشة والهلع. وغب سجودهما أبرز أحدهما من جيبه درجا مطويا، ورفعه منشور لدى العظمة الملوكية مطأمن الظهر منحل العزائم.
فألقت عليهما الملكة لمحة عين، ثم أمرت قائد الجيش بحركة الإيماء أن يتناول الدرج ويتلوه عليا؛ فالتفت القائد وأشار إلى حامل هذا الدرج بالدنو، فدنا وألقى بين يديه الكتاب ونكص، فتلاه ذاك بصوت عال، وإذا مكتوب به هكذا:
إلى العظمة الملوكية
إن تقادير النحس والتعاسة قد حركتنا - نحن معشر الأشقياء - إلى رفع الأسلحة إزاء وجه عظمتكم الملوكية بحيث لم نكترث بيدكم القوية وساعدكم الرفيع؛ وهو الأمر الذي جلب علينا من لدن ملوكانيتكم غضبا لا يخفى وسخطا لا يطفى، فسقتم علينا جيوشكم الزاخرة، وصيرتمونا كالهباء الذي تذريه الريح عن وجه الأرض، فلبسنا اللعنة كالثوب؛ لأنه لم نعلم - لكثرة جهالتنا - أن كل سلطة هي من الله؛ ولذلك قد منعنا رب الحكمة كل حركة وأبقانا لديكم كعمود لوط، حاملين على عاتقنا رجسة الخراب، مسودي الوجه مضطربين بين يدي الغضب الآتي.
فإذا كان لم يزل يوجد في قلوبكم نحونا ذرة رحمة فاقبلوا من عبيدكم إعلان الندم على ما فات، وأطلقونا من سجن الحماقة وأسر الجهالة. ونحن نعدكم وعدا ثابتا أننا نجري جميع أوامركم وقوانينكم في كافة ولاياتنا الصغيرة، ولا نعود لوضع أدنى خلل في نظام مملكتكم ذات الاتساع والعمار، عالمين أن سيف السلطان طويل، وأن الذي يعصي السلطان أو الشريعة تكون نهايته الدمار والدثار، وأنه لا يمكن قط لأي ملة كانت أو أمة قهر الصولجان الملوكي، أو مجاوزة قوانين السياسة، وأنه واجب على كل إنسان أن يخضع خضوعا مطلقا لعظمة السلطان عالما أن الله قد جعله على الأرض قهرمان، وسلمه مقاليد الشريعة ذات الأمان.
فحينما أتم القارئ تلاوة الدرج طرحه على الأرض مرتعدا بثوران الحمية وصرخ: «يا للمكيدة!» فتناوله وزير محبة السلام وتلاه بفم الضمير ثانية، بينما كانت الملكة مشرئبة والبهتة شاملة وجهها وصارخة: «يا للحيرة!» وبعد برهة صمت تكفي تكرارا لتلاوة السرية رفع الوزير عينيه بحياء إلى حضرة الملكة واضعا الدرج جنبه برفق، وأخذ يستميل بلحظاته قلبها إلى إجابة أولئك المسجونين، ويحركها بظرافة تبسماته إلى الشفقة عليهم.
فانعطفت هذه السيدة إلى الجانب الملوكي ورمقته بأعين رطبها الإشفاق، وقالت له بتبسم يطفح بأنوار الحنو: دعهم يحضروا إلى المحاكمة عسى يفلحون. - أخشى وقوع المكيدة. - أنا أكفل ذلك والحكمة تعرف طريقها. - ليكن لك حسب قولك.
فالتفتت الملكة إلى الوزير وقالت له: قم فاذهب بذاتك واستحضر المسجونين إلى هنا كي نحاكمهم. فنهض الموما إليه للوقت وجاز مسرعا، ثم قالت الملكة لقائد الجيش: اكتب رقعة إلى الفيلسوف واستعجله بالحضور إلى هنا. ففعل، فقالت له: أرسلها مع هذين العبدين. فدفع لهما الرقعة حالا بعد أن أطلعهما على محلته في مدينة النور؛ فذهبا يذرعان الأرض، والقائد راح يتخطى في ناحية، وأخذ المظهر الملوكي يضرب في أغوار التفكرات. وما عدت أرى سوى هيبة السكوت المتعمق، ولا أسمع سوى هدير الماء المتدفق.
الفصل الثاني
الهواجس
وبينما كنت أجول في مراسح الأوهام العقلية، وأطوف في مسارح الخيالات الفكرية، إذ استلمحت شبحا يتقارب من بعد، وهو يخب في بطن الغاب غائصا في غمر الظلال المتكاثف، وما زال يعسف على قدم الإقدام حتى نفذ من تلك الغمرات المدلهمة، وظهر في مرسح الأحلام ظهور القمر من كبد الغمام.
وما برح يتردد قدوما ويتحذر هجوما حتى رأيته خر لدى العرشين بأسلوب ما به شين، وإذا هو رجل أحرز سمة الوقار، وعلى وجهه تلوح حذاقة الأفكار، فهو ذو جبهة تشير برحابتها إلى تمام العلم والعمل، ونظرات أشد نفوذا من نبال بني ثعل، وكان لباسه جامعا بين المهابة والاحتشام جمع الحرف بين الصحة والإشمام، ذو قامة لا تغرب عن العامة، ورشاقة تتوقد بها النامة. أما سنه فلم تتجاوز آحاد الخمسين على ما كان يلوح لي ويستبين.
فلما صادفته لحظات الجالسين على مقام السلطنة، بثته أشاير التحية مظهرة دلائل الابتهاج بقدومه، ثم أومأت إليه الملكة أن يجلس حذاها، فتقرب وجلس مستريحا على ركبتيه، فأوعزت إليه براحة الجلوس ففعل.
وبعد فترة من السكوت التفتت إليه هذه السيدة وقالت له: هل عرفت كيفية نهاية الحرب؟ - نعم قد بلغني أن النهاية كانت انتصارا لكم، والله يعطي النصر لمن يشاء. - ولكن بعد موقعتين يحكيان العويرض بما تكلفناه من تعب شاق، لا راحة إلا بعد تعب. - ولا نعيم إلا بعد شقا. - وهل بلغك أن ملك العبودية وأعوانه قد أسروا وطرحوا في السجن تحت سطوتنا بعد أن أدرنا عليهم رحى المنايا وأمطرنا على هامهم البلايا؟ - لا، لم يبلغني أمر الأسر.
أجاب بدون عبء: نعم هكذا تم الأمر. وقد أنفذوا إلينا عرض حال ينطوي على ترك التمرد والعصيان، والوعد بعدم الرجوع إلى زرع الخلل في نظام مملكتنا، نادمين على ما اجترموه ضدنا، ومسترحمين منا أن نطلق سجنهم ونفك أسرهم. - لا شك أنه يجب إجابة استرحامهم. أجاب الفيلسوف رافعا كتفيه: ولا ينبغي معاملتهم بالقساوة حذرا من ملامة العموم.
فقاطعه الملك بعد صغي وإمعان قائلا: إن الأمارات التي بها نهجوا سبل التوحش والعبودية في مملكة التمدن والحرية تستحق النهوض ضدهم بكل قساوة؛ لأنهم أخذوا يسلبون حرية الناس ويزرعون بينهم الخصومات والخرافات، فلو لم تستدركني هذه السيدة بمشورة حكيمة لكنت أنفذت أمرا بشنق ملكهم وسجن أعوانه وأنصاره مؤبدا.
هكذا تم الأمر. أجابت الملكة: أما المشورة التي تنازلت عظمة الملك بقبولها هي أننا نستحضر أولئك الأثمة، ونضع قوانين وشرائع جديدة يسلكون بموجبها، ونرفقهم بنظار من طرفنا، ونمزج عساكرهم بعساكرنا؛ وبذلك نأمن غوائلهم ونستولي على ولاياتهم بالتدريج بدون إثارة الحروب وشن الغارات؛ فنخلص من فخاخ دولة العبودية.
فأطرق الفيلسوف ساعة ثم رفع عينيه إلى السماء وأخذ يتأمل قليلا، ثم أدار رأسه يمينا ويسارا، وأحاط جميع الغابة بنظره وهو يهمهم بكلام مترادف، ثم أعاد الأطراف ثانية وأسدل على عينيه براقع الجمود حتى صار لبواشق الأفكار فريسة.
فشرعت الملكة تتأمل في هذه الظواهر مندهشة كأنها ترى مشهدا عجيبا، وأخذ الملك يفاوض العدل والحلم، وما كان إلا كلمح البصر حتى نبر الفيلسوف من هواجسه، وقال: لم أفهم معنى الخلاص من دولة العبودية، وهل يمكن أن يوجد لأحد خلاص منها؟
أجابت الملكة: كيف لا يمكن ذلك؟ وهل يخفاك فعل المدافع والبنادق؟
إنني لا أرى وسيلة يمكن بها الخلاص لأحد من لزوم التعبد، على أنني أرى جميع الطبيعة مربوطة بسلسلة الاستعباد بعضها لبعض، أجاب الملك: وكيف ذلك؟ وهلا يوجد حرية في العالم؟ - لا. - ولا يوجد طريقة بها يحصل الإنسان على شبه الحرية لكي ينال لذة؟ - نعم يوجد. - أوضح لنا ذلك.
فأطرق الفيلسوف برهة، ثم أخذ يتكلم هكذا: إننا إذا تتبعنا الإنسان منذ ولادته إلى نهاية أمره؛ إنما نرى حياته تجري خاضعة إلى ما لا ينتهي من العبوديات، وهكذا نرى في جميع المخلوقات؛ فالطفل المولود عندما يسقط على الأرض يصرخ وينتحب علامة لإشعاره بوقوع سلطان المحيطات به عليه. ولم يزل عبدا طبيعيا لأمه ما دام يتغذى من لبنها، إلى أن تضع له المر على الثدي إشارة لطرده من حلاوة الحياة القاصرة إلى الدخول في مرارة الحياة المستقلة؛ وحينئذ يميل بوجهه إلى مواجهة عالم الغلبات، فتدفعه شرائع الاستقلال الحيوي في عبودية الموجودات، وتعصف به زوابع الأقدار في مفازة الطبيعة، فيعود مدافعا ومحاذيا جميع الكائنات أملا في الخلاص من فواعلها وتأثيراتها الطارئة عليه، فيخضع للحرارة ليستعين بها على الفرار من سلطة البرد. ويميل إلى هذا الأخير ليدفع عنه غلبة تلك الأولى، ويبسط يديه لدى مكارم المملكة الآلية
1
علنا ليسترجع منها ما اقتنصته من بنيته بالانحلال أو التنفس خفية. ويبتني من الجوامد بيوتا لتحميه من حوادث الجو وهجير الشمس، ويستنجد المعادن لوقاية أبنيته من غوائل الصواعق المنقضة، ويستخدم أجنحة البخار ليطير بها إلى كل فسحات الأرض.
وهكذا لا تبرح طيور أفكاره تحوم على دوحة الطبيعة، وأقدام آماله تعدو في ميادين العالم حتى تنتصر أخيرا على جميع قواته كل تلك الأكوان، وتزجه في أودية العدم حيثما تحيط به ظلمات الفناء وتكتنفه غمرات السكوت، بعد حياة قد تقضت بالتعبد لكافة الحادثات، وجرت تحت رق المصائب والأتعاب والأمراض، خاضعة لقوي مقتدر أو ضعيف مستتر حسبما تقتضي الغاية أو الضرورة؛ فلا حرية إذن للإنسان.
وهكذا تجري على هذا المجرى سائر الموجودات، أما ترى الحيوان القوي كيف يستعبد الضعيف؟ أما ترى أن كل الحيوانات كيف تسترق لخدمتها جميع جماهير الوجود النباتي؟ أما ترى كيف تجمع القوات الجاذبة ما بين المفترقات العنصرية وتخضعها لسلطان الاجتماع والتراكم تحت عبودية الفواعل الكيماوية وأسر قوات التماسك؛ بحيث لو أمكن للعناصر الهيولية أن تأخذ حرية الانفراد لما أمكن قيام النظام الطبيعي أصلا؟ أما ترى كيف تدخل السيارة في سلطة الثوابت؟
قم بنا لنطير في أجنحة التصورات ونرتفع ببخار الأفكار إلى سماء الحقيقة. وهناك أريك كيف أن هذه الكرة الأرضية تظهر لنا عن بعد سابحة في أعماق الفضاء وهي تدور منحنية على نفسها كشيخ أحنت ظهره أثقال السنين، وكيف أن هذا الجرم العظيم منقاد بسلاسل سرية إلى الخضوع لنظام الفلك الشمسي بحيث لا يمكن له الخروج عن حدود دائرته المضبوطة بأقطار من تشعشع جاذبية ذلك المركز الثابت. وكيف أن جميع الأجسام المنتشرة على سطحه خاضعة لحكم تقلب الفصول والأوقات حسبما يقتضي حلوله في إحدى جهات تلك الدائرة المنطقية، وكيف أن كل تلك الأجسام نراها ثائرة على بعضها لتدفع عبودية التغلبات حتى نشاهد بينها معامع مهولة؛ فهناك تسمع ضوضاء حرب الجو تضج ضد غلبة المؤثرات، وترعد في آذان الأرض التي نراها تقذف السماء بلهيب غضبها. وعجيج عالم المتحركات يصدع رءوس الجبال العالية؛ إذ تشاهد كلا من أنواعه يشن الغارة الشعواء على ضده حتى يهلك الجنس ويباد. فترى أسلحة تتلامع في الشمس وتقعقع في الهواء، وجيوشا تتضارب على صهوات الخيول تاركة سحب غبارها تغشي وجه السماء، وأيادي تتجالد وتتقارع، ومخالب تخلب وتجرح، وأظافر تنشب وتهشم، وحوافر ترفس وتصدع، وأجنحة تخفق وتلطم، وذنابات وأفواها تلدغ وتلسع.
وكذلك نرى مملكة الحياة النباتية مشتغلة بدفاع غارات
2
الطقوس بوسائط وطرق لا ينجلي غموضها، ولا يحصى عددها، وهي تضج وتئن ليلا ونهارا مما تفعله بها لطمات الأرياح الهائجة التي تخطف ورقها وتنثر ثمرها. ونرى أيضا عالم السوائل يقاسي تبديد التبخير تحت أحكام الحرارة فيهب إلى العلا وينضم هناك إلى بعضه على أشكال متخالفة، ثم يهبط غائرا في بطون الجوامد فيصادمها وتدفعه ثم تقذفه إلى حيث يذهب آنا مضطربا منذعرا مما قاسى. فكيف لا يمكن والحالة هذه أن يقال لا حرية في الخليفة ولا خلاص من العبودية؟!
ومع ذلك فقد يمكن للإنسان أن يحصل على شبه الحرية ويتمتع بلذة الحياة على نوع ما. أما حصوله على الحرية فلا يمكن إلا إذا أدرك أن سني وجوده مهما كانت عديدة بالنسبة إلى ما سبقه من العدم وما سيرد عليه ليست إلا كبرق طفيف لمع في ليل دامس. وأن جميع مصائب الدنيا وأكدارها تحيط بهذه الفترة الحقيرة من الحياة التي يجب أن يستثني منها أوقات نومه وطفوليته وشيخوخته، وهي الأوقات التي تعتبر عدما. وأن جميع المحيطات به تجتهد في هدم بنيته لتسترد منه ما سرقه من موادها بالاغتصاب، ولا تغفر السرقة إلا بالرد الذي هو حكم المغتصب.
فإذا عرف هذا جميعه يعود متحررا من سلطان الوقائع ومعتوقا من عبودية الزمان؛ فلا يلبث معرضا للأكدار والأحزان لعدم ميلانه إليها، ولا يوجد هائما بالمسرات والملذات لكونه لا يعتبرها، بحيث يرى الجميع بخارا يتصاعد قليلا ثم يضمحل. ومن لا يبالي بالألم لا يشعر بمضضه، ومن لا يعبأ باللذة لا يدرك بهجتها.
إذا كان وقع السيف ليس يمضني
فعندي سواء غمده وغراره
وإن كان جمر الخطب ليس يصيبني
فلا خوف لي مهما يهب شراره
أنا لا أرى في الأرض شيئا يروقني
لذلك نور العمر عندي ناره
أيطربني هذا الزمان وكله
عراك على الدنيا يثور غباره
أما حصول الإنسان على لذة الحياة فلا يقوم إلا إذا طرح ثقل العالم عن ظهره وارتضى بما قسم له من الله لقيام وجوده، خالعا كل أمارة تجعله عبدا وأسيرا لمن يتعالى عليه، وذلك كالحسد والطمع والكبرياء والحقد ... وهلم جرا. موجها أقدامه على هذه الأرض حسبما يهديه الصواب والاختبار، منعزلا عن الناس ما أمكن، واضعا لأفكاره ناموسا يحفظها في قيود الاستقامة والرشد، لاجما لسانه عن كثرة الكلام لئلا يحسب تكلمه هذيانا، راكضا وراء الحكمة والعلم، معرضا عما يئول إلى خراب بصره وبصيرته، كالتهافت على اللذات الجسدية والتمرغ في أوحال التهافت والفساد. ناظرا في كل لحظة إلى الموت الذي يتهدده على ممر اللحظات، عالما أن كل نفخة من نفسه مأخوذة من روحه، عارفا أن القوة الضابطة لأقدامه على سطح الأرض ستكون يوما ما سببا لابتلاعه إلى عمقها.
فبهذا جميعه قد يحصل الإنسان على لذة قصوى في مسير حياته؛ إذ يشاهد ذاته محلولا من جميع وثاقات الأكدار والآلام الأدبية والطبيعية، ومنقطعا عن كل عالم العبوديات اللازمة والمتعدية.
وإذا تحركت به الأميال إلى مخالطة أشباهه بالنوعية، فعليه باختيار من حسن وطاب واجتناب من قبح وخبث . على أنه بذاك تنفسد الفطرة السليمة التي هي أصلية في الإنسان؛ وبهذا تصلح وتجود وتسمو إلى أوج الكمال.
وإذا اتفق وجوده في مركز بعيد عن دائرة المخالطة الحسنة فعليه بالانفراد بذاته ومخالطة العوالم المحيطة بحواسه حيثما ينال لذات لا مزيد عليها ويغتني بها عما سواها.
فإن الإنسان المثقف لا يدرك لذة أعظم اعتبارا من تلك الملذات التي يدركها عندما ينشر شراع التعقل لسفينة أفكاره، ويطلقها في بحور هذه الموجودات لدى مهب أرياح الحوادث.
هناك نرى غزالة العالم تبرز يومئذ من كناس المشارق الذهبية ناشرة أنوار بهجتها على وجه السماء حيثما تعود كافة الخليقة مستبشرة بلقاها وتخطراتها؛ فالجبال تتمنطق بمناطق لجينية، وترفع قممها الغاطسة في غمرات الظلام فاتحة باعاتها لاعتناق طفحات الضوء. والمياه تتموج بلمعان الأشعة المنبعثة من لدن أبي الأنوار كأنها متسربلة بدروع نارية. والأشجار تمرجح رءوسها لدى بشائر النسيم كذي طرب متموجة بأكاليلها العسجدية ذات المنظر البديع. والأزهار تبتسم إزاء وجه الطبيعة نافحة بأطيابها التي تذهب مبشرة سائر الخلائق بثوران حركة الحياة. والأطيار تغرد وتصيح مهللة ومكبرة على أدواحها العديدة ومنازلها المتفرقة، وسائر الحيوانات تأخذ بالحركة والانتعاش.
هناك نشاهد هذه الغزالة
3
مائلة على خط الزوال بوجه يقدح شررا، حتى إذا ما بلغت الطفل
4
وأوشكت الفراق صبغت بدموعها الدموية وجنات المغرب وغارت في كهف الأفق، سادلة على المسكونة ستار الظلام، تاركة العالم في حالة سكون الموت، منهضة الخمود العميق في جميع البنية الآلية، سالبة من جميع المواد المظلمة ما أفاضته عليها من الصور الجلية حيثما تتبلبل الأرض مع السماء، وتضيع الجبال في الأودية، ولا يعود يقال سوى: ما هذا السكوت العظيم؟
هناك تحوم عقولنا على كل حادثة طبيعية وظاهرة أدبية، فترتقب طيور السماء متبصرة باجتماعاتها وانفراداتها واختلاف أصواتها وحركاتها، وتتبع مسير وحوش الغاب متأملة في فرائسها المرتعدة وحروبها المتقدة، وتهب مع الرياح الأربع إلى حيث لا يعرف إلى أين ذهابها ولا من أين إيابها. وتقف حائرة عند نهوض الزوابع وانتشاب الأنواء وتراكض البروق وانقضاض الصواعق وهدير الرعود، حيثما لا يدرك الباحث من الأسباب سوى ما يظن به ولا يعلم من الحقائق سوى ما يراه ماديا. فيغرق في بحور الاندهاش والذهول ملتطما بأمواج الهذيان والبحران،
5
مأخوذا بخمرة الهواجس والأوهام إلى أن يصبح كريشة تتجاذبها رياح الأحكام المضطربة، ويأخذ في تصوير الغيوم إلى أشكال وصور تتجدد على ممر الدقائق والأوقات خالعة كل هيئة حقيقية.
هناك نهجس بهذه المواد الكونية من أسمى جرم إلى أدنى ذرة، باحثين عن أصولها وفروعها وعلاقاتها ونسب بعضها إلى بعض وغاياتها وأحكامها، ناظرين في كل من أجناسها حركة متوزعة على سائر أنواعه تحت ناموس المناسبة. فالبعض يجمد متصلبا، والبعض يسيل مائعا، والبعض ينتشر طائرا، وهذا ينمو بلا حياة ولا انتقال، وذا يتمتع بالنمو والحياة ولا يتحرك، وذاك يفاخرهما بأسلوب نموه وحياته وحركته المطلقة والإرادية.
هناك نتصفح هذه الأشياء وتلك الحوادث فنقول إن كلا منها له حياة خصوصية تقوم بتدبير وظائفه وحركاته الذاتية، وحياة عمومية تشركه مع بقية الأشياء وتربطه بعللها. ثم لا نرضى فنقول إن الكهرباء هي السبب الوحيد لجمع وتحريك كل العناصر بما أنها روح العالم. ثم لا نرضى فنقول إن سيال الحرارة هو عنصر جميع الحركات والمتحركات، وعليه مدار سببية الحياة والتقنم. ثم لا نرضى فنقول إن النور ذاته هو القائم بإحياء وتحريك كل مادة مؤلفة أو بسيطة. ثم لا نرضى فنقول إن شريعة التثاقل التي تثبت أقدام الأكوان في مراكزها وأوضاعها وترشد جميع خطواتها إلى سواء السبيل هي هي ذاتها سبب القيام العام ومبدأ الحركة. ثم لا نرضى فنقول إن الفضاء الغير المتناهي هو ينبوع البداية والنهاية، ومنه أخذت كل الأصول العالمية وإليه سترجع ثم لا نرضى فنقول إنه يوجد رب متنزه عن إدراك الأفهام، ذو عناية دائما بتدبير عموم تلك المخلوقات، ومنه الحياة كانت وكل به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كون، وهو محرك الحركات وأصل الكائنات، وإليه مصير الأشياء جميعها، لا إله إلا هو ولا معبود سواه. فحالا نرضى بهذا المقال ونسحب جميع أفكارنا من مواقع الأوهام والوساوس الغريبة، معانقين عروسة الحقائق وبكر كل برية متمتعين بلذة الحياة وحرية المعيشة.
وبينما كان الفيلسوف مواصلا خطابه، كان الملك والملكة شاخصين فيه بأعين يخامرها الذكاء والإصغاء، مستوعبين معانيه بكل اتضاع ودعة، وغب نهاية مقالته جعلت الملكة تقول له هكذا: إننا قد عرفنا عدم إمكان وجود حرية للإنسان، بل ولا لسائر الأنواع، وإن جميع الأشياء لكونها مرتبطة بخدمة بعضها البعض، فهي مقيدة أيضا بعبودية بعضها للبعض، ولكن عندما تكون هذه العبودية غريبة عن الفائدة أو مضرة لصالح الأمور، فالاجتهاد بإبطالها ضرب من اللزوم وقانون صوابي؛ وبناء على ذلك: عندما نظرنا دولة الاستعباد تتداخل ما بين شعوبنا تحت طرق مختلفة حيثما لا ينجم عن هذا التداخل سوى الإضرار بهم وفساد طبائعهم السليمة، نهضنا حالا ضدها وسطونا عليها سطوة إسكندر على داريوس وسجناهم كما علمت.
أما حصول الشخص على لذة الحياة معتوقة من كل حاكم وصافية من كل مكدر، فهو أمر لا يمكنه البتة ولو تطبع على تتبع تلك النواميس التي ذكرتها، والتي تصعب في الإجراء بمقدار سهولتها في التصور حسب كل الأعمال الفلسفية؛ لأن التطبع لا ينقلب طبعا، وما كان هكذا فهو غير لذيذ عند الطبيعة وبعيد عن السهولة، وإذا أمكن الإنسان السلوك - كما أشرت - فلا يكون ذلك إلا لمن وسمته العناية بسمة الانفراد وهذا شاذ، وليس حكم الشاذ إلا الحفظ وعدم القياس عليه.
وعلى كل حال إن الإنسان إذا كان متعبدا لأحكام دولة التمدن والصلاح، يكون داخلا في حقيقة الحرية التي تطلبها الواجبات الإنسانية، على أنه إذا كان التعبد لازما فتلك الحرية ملزومة؛ لأن اعتناق الإنسان واجباته لا يدعى عبودية، ولكن إذا كان الشخص معتوقا من رق تلك الدولة فهو يكون بالضرورة داخلا في عبودية ضدها تبعا لمقتضى الحال.
ولكون الدخول في أحكام دولة الخشونة والبربرية يفسد أحوال البشر وينثر نظام جمعيتهم، نازعا عنهم كل الصفات الحميدة والسلوك السليم - وذلك هو الأمر الذي لا يوجد أضر منه لمملكة التمدن والصلاح - وجب علينا دفعا لوقوع البلبال والوبال فيما بين رعايانا أن نثور على تلك الدولة الآبقة التي إذا لم نمح آثارها لم تقم حرية الإنسان المطلوبة أصلا، وهي الحرية التي لا يمكنك إنكارها مهما رددت الهواجس والأوهام الفلسفية التي لا وجود لها إلا في العقل الذي قد يخطر فيه ما لا حقيقة له في الظاهر.
فأردف الفيلسوف كلامه قائلا: أنا لم أمنع إمكان الحرية الأدبية بل الطبيعية، ولا شك إنا إذا أطلقنا أنظارنا إلى عالم الآداب وتبصرنا بشرائع الحكمة، نعاين أقواما أحرارا وآخرين عبيدا حسبما تقتضي أحوالهم وكيفياتهم. وعلى كل حال إن الاجتهاد في عتق العبيد وهدم مباني العبودية هو أمر ضروري وواجب.
فطرح الملك أنظاره على الفيلسوف، وقال: إذن مشروعنا في محاربة مملكة العبودية واستنقاذ شعوبنا من قيودها لا يستحق الملام. - كلا، بل هو حسن وواجب يا أيها الملك المعظم؛ لأن الاستعباد مكروه عقلا وطبعا، وقد نهض العالم بأسره ضد هذه العادة المستهجنة وما سواها؛ فحاربوا من ظلم واعتدى وأعدوا له سلاسل وأغلالا.
الفصل الثالث
مملكة الروح
وإذ كان التمدن والحكمة يناقشان الفلسفة، رأيت جمهورا آتيا من شاسع وما زال يحجل متقربا تحت كراديس الأغصان، حتى بزغ من أفق الغاب وانتصب أمام المشهد المهاب. وبينما كان يظهر لي أن الشمس مالت إلى الطفل، وعاد الغروب يطوي ذلك الشراع الذهبي الذي نشرته أيدي الأصيل على هام الشجر لم أعد أرى حينئذ سوى أشباح ضئيلة تتنحنح في الفسحة، ولا عاد يمكن تمييزها لاندفاع تيار الظلام عليها؛ بحيث أوشكت جميع الغابة أن تنمحي تحت أقدام الظلال، أو تغور في غمر الظلمات المتراكمة.
وما كان إلا فترة قصيرة حتى رأيت نارا لمعت عن بعد فجأة، وصارت تتقرب تاركة خلفها مصابيح مضيئة. ولم تزل تتكاثر هذه النبارس ممتدة إلينا وراء العرشين حتى ملأت ميدان النظر. ولما خزقت الأضواء جلباب الظلام رأيت رجالا كثيرة عليهم أبهة العسكرية، بارزين كمن كمين وهم يوقدون ما لا يحصى من تلك القناديل التي كانت معلقة على الأغصان، وما برحوا يتمون مسعاهم حتى ملئوا الغابة جميعها أنوارا؛ فأخذت تتموج بالأضواء الساطعة وصارت شعلة واحدة حتى أظهرت مشهدا عجيبا لم أشاهد أبهج وأسنى منه. فصار يظهر لي كأن الأرض أخذت تقذف السماء ليلا بما طرحت عليها من شهب الرمضاء نهارا، أو كأن جميع عرائس الغاب جعلت ترشق علينا بروق نظراتها، وعدت حينئذ أخال نفسي كأنني قائم في وسط فلك يتشعشع بالنجوم والكواكب التي لا عدد لها. وما زلت أتبع بأنظاري هؤلاء الرجال الذين زرعتهم الهمم في جميع أقطار الغابة لكي يذيعوا آثارهم ويبثوا أنوارهم اللامعة، حتى رأيتهم يرجعون منضمين أجواقا أجواقا، ويعسكرون وراء المحفل الملوكي مثنى وثلاث ورباع حيثما كان يحثهم الصوت العالي قائلا: أتموا الصفوف؛ فإني أراكم خلف ظهري.
وإذا أمعنت النظر في هذه الصفوف الملوكية رأيت على صدر كل منهم لوحا مكتوبا به: هذا جندي التمدن دام كاسرا. وما لبثت أن أخذت بمجامع حواسي جلالة هذا المشهد اللامع بالأنوار والساطع بالبهجة والازدهار، حيثما كان الملك نازلا في عرشه نزول الشمس في الحمل مغمورا في أشعة الهيبة والوقار، والملكة بازغة من سماء مجدها بزوغ الزهرة من أفق الصباح مكتسية بحلل الكمال وحلى الجمال، والفيلسوف جالسا قبالتهما جلوس الدعامة على أساسها موثق الأعين بسلاسل الأفكار والهواجس، وقائد جيش التمدن متخطرا في محله تخطر الأسد في عرينه، وأجواق الجنود مصطفة حول المرسح كالزرازير على الآجار، بينما كان الليل ناشرا شراع الهدو على جميع حركات الطبيعة، وضاغطا بكل ثقله على الهواء كي لا يخترقه صوت آخر سوى تكتة المصابيح أو تغريد البلابل.
ولما أخذ السكوت قراره طفق الملك يناجي الفيلسوف هكذا: إنه يوجد مملكة كبيرة جدا وقوية إلى الغاية يقال لها «مملكة الروح»، وهي ليست بعيدة عن تخومنا، فهل تعرفها؟ - نعم، إنه توجد هذه المملكة وأنا أعرفها حق المعرفة، فما سبب سؤال العظمة عنها؟ - لأنني أريد شن الغارة عليها أيضا. - وما الداعي إلى ذلك؟ - هو سماعي عنها أنها تتصرف كثيرا بما يضاد سياستنا، وأن ملكها الجالس على العرش القديم كثيرا ما يجتهد بخراب شرائعنا واضمحلال كل مملكة لا تخضع لنواميسه.
فهز الفيلسوف رأسه وأجاب هكذا: لا تعط صغيا لكل محدث أيها الملك المعظم؛ لأن أكثر خراب العالم ينشأ عن أحاديث ذوي الغرض، وكثيرا ما يتكلم الناس بلغة من لا ينتظر، وحقيقة الأمر هي بخلاف ما بلغ أذنيك؛ لأن العالم لم يدخل في دائرة التهذيب، ولم تقم مملكتكم هذه إلا منذ قيام تلك المملكة القديمة، وإذا كان البعض من رعاياكم ينسبون إليها بعض أراجيف، فهذا ناجم عن الصالح الخصوصي الذي من شأنه أن يهدم بناء الصالح العام.
فأرشق الملك نظره وقال: إن كثيرين من ذوي الصدق والثقة قد أخبروني عن جملة أمور خشنة تواظبها مملكة الروح؛ فهي على ما يقولون: إنها لا تفتر عن بث التصورات الباطلة في عقول الناس لكي تنهض بذلك تصديقات سخيفة تؤسس عليها أقيسة دعواها بالسياسة المطلقة؛ وعلى هذا الأساس قد شيدت قوس نصرها في ساحة العالم ونشرت عليه راية سلطانها. ثانيا: لم يكفها التسلط المطلق على الأنفس والأجساد حتى جعلت تمد سلاسل سطوتها إلى أعماق القلوب أيضا لكي تجتذب السرائر والضمائر إلى ميدان أحكامها وعبوديتها. ثالثا: لا تكل أعوانها وأنصارها من الجولان في كافة المسكونة لأجل زرع الشقاق والفتن حتى إن أكثر الحروب التي جرت في الدنيا كانت مسببة من أطوارهم على ما قيل. فهل يسوغ لنا الصمت عن هذه المملكة إذا كان هذا شأنها؟!
وبعد برهة من السكوت وثب الفيلسوف على قدميه، وأحنى رأسه أمام الملك، وقال: اسمح لي أيها الملك أن أجاوب عظمتك بالتفصيل عما شرفت به آذاني. - قل ما تشاء. - أولا: إن هذه المملكة ما علمت قط - ولن تعلم - إلا بما يقود الناس إلى نوال السعادة الحقيقة كما يظهر لنا ذلك تدقيق الاستقصاء والفحص بدون التفات إلى ما يهذر به أهل الغرض الأعمى. وجميع تعليماتها مأخوذة من الكتاب المعصوم الذي لا ينكره إلا أهل الضلال المبين، ولو لم يرتفع قوس نصرها في ساحة العالم وتخفق رايتها على كافة الأقطار لكان النوع البشري يقع في هاوية الفساد، ويعم الخراب على جميعه، سيما في هذه الأجيال الأخيرة حيثما انتبهت الطباع الخبيثة من غفلات السذاجة لدى ارتفاع نهار التمدن الذي لا يوجد عنده لجم لرد جماح تلك الطباع سوى ما تعلمه مملكة الروح. فإذا رغبت عظمتكم في خرابها تكون هذه الرغبة واقعة على نفس مملكتكم أيضا؛ فلا تنقموا على ذواتكم.
ثانيا: إذا كانت تمد سلاسل سطوتها إلى أعماق القلوب فلا يكون ذلك إلا لإيقاع التهديد والخوف على السرائر والضمائر الشريرة لا للاستيلاء عليها، فلو لم تكشف هذه المملكة حجاب غفلات البشر عن المستقبل وتظهر لهم ما يكمن فيه من المخاوف المستعدة لابتلاعهم، من كان يمكنه ردع الفقير عن الغني؟ من كان يستطيع رد جماح المغتال؟ من كان يحسن تقييد رجل السارق؟ من كان يقدر على قمع ثوران الزاني؟ من كان يمكنه قطع لسان شاهد الزور؟ وبالإجمال من كان يمسك العالم البشري عن تمزيق بعضه البعض ويحفظ نظامه من الانتثار؟
ثالثا: إن الإنسان لانطباعه على السوء ينسب جميع المعاصي والقبائح لمن ينهى عنها ويوبخ مرتكبيها؛ وبناء على ذلك قد توهم البعض من الأشرار كون جولان خدام مملكة الروح في الأقطار المسكونة هو لأجل غرس الخصومات والقلاقل بين الناس، مع أن الأمر بالعكس؛ أي إنهم يتهمون دائما بنشر الاتفاق والسكينة في العالم، ولو اضطرتهم الحال أحيانا إلى ترك السلم وإشعال نيران الحروب يجب أن لا تقتصروا على أن تتركوا هذه المملكة وشأنها، بل ينبغي أن تكون مملكتكم موجهة كل قوتها إلى مساعدة مسراها وانتشارها.
على أنه إذا كانت دولتكم قائمة بالأبدان فتلك ثابتة بالأرواح. ومن المستحيل قيام البدن بدون الروح؛ فمن الجهالة تغافل ذاك عن هذه. وإذا خامر أفكاركم الميل إلى محاربتها، فلا يخطر لكم إمكان الانتصار عليها، بل يجب أن تعلموا أنكم سترجعون القهقرى ناكصين على أعقاب الندم؛ لأن يد القدرة ممتدة دائما إلى مساعدتها وإغاثتها، حتى لا يمكن لنفس أبواب سقر أن تقوى عليها. وطالما اجتهدت ملوك قبلكم بدثارها وإسقاطها ولم ينجح لهم اجتهاد، وبمقدار ما كانت الاضطهادات ثائرة عليها كانت هي تزداد قوة وامتدادا إلى أن استغرقت في حضنها العالم وأخضعت كل ملوك الأرض تحت موطئ قدميها. وما ذاك إلا لكون العناية العلوية قد سلمتها زمام السياسة ورافقتها في كل المسالك، ولن تزال هكذا تنمو وتكثر وتشحن الأرض إلى أن تتم المشيئة.
فبعد أن استوفى الملك كلام الفيلسوف ووجده في غاية الصواب، أيقن ببطلان فكره وخطأ اعتماده، وعلم أن ما كان يبلغه البعض من أهالي مملكته ضد مملكة الروح هو ناشئ عن روح التغرض والتعرض. وهكذا عزم على تقديم الإعانة والإغاثة بدل المضاربة والمحاربة، وبعد فترة من الصمت التفت إلى ملكة الحكمة، وقال: إن جميع كلام هذا الرجل صواب، وليس فيه أدنى ارتياب. وكل ما كنا نسمعه كان باطلا ولا حقيقة له، وإذا افترضنا عدم صحته وأشهرنا الحرب، فلا نرجع إلا خائبين، وربما نقع في خطر اضمحلال كل مملكتنا وسياستنا؛ لأن ما يساعده الروح لا يغلبه الجسد.
فأجابت الملكة بتواضع: لا شك فيما تكلم الفيلسوف، ولا ريب أن الاعتماد كان باطلا؛ لأن السياسة العلوية منتصرة دائما على السفلية، وما يكون هابطا من الأعالي يسطو مطلقا على ما ينهض من الأسفل، وما تفعله الصدف لا يغلب مفاعيل القصد. - لعل سياستنا ودولتنا وجدتا على سبيل الصدفة والاتفاق. - إذا تتبعنا شجرة امتداد السياسة والتملك في العالم من حيث الأصل، إنما نراها باسقة من جرثومة المصادفات والتقادير.
فالتفت الملك إلى الفيلسوف، وقال له: ماذا تقول أنت؟
فأطرق الفيلسوف قليلا ثم أجاب: لا شك فيما قالته حضرة ملكة الحكمة. - هات فصل لنا ذلك. - إن تفصيل هذا الأمر يعسر جدا، ولا يوجد نور واضح نستهدي به إلى الحقيقة، وإنما يمكنني أن أورد على ذلك ما أتناوله من الاستقراء والاستنتاج التاريخي. - لا بأس، خذ راحة الجلوس، وقل ما يخطر لك.
فامتثل الفيلسوف الأمر وجلس، وبعد إطراق قليل رفع رأسه، وجعل يقول ...
الفصل الرابع
السياسة والمملكة
كما أن نظام هذه الكرة الأرضية لا يمكن قيامه بمجرد حركتها اليومية على نفسها فقط، بل يحتاج إلى الحركة الشمسية حول فلكها أيضا، هكذا الإنسان بما أنه محمول على ظهر تلك الكرة وآخذ جميع مواده ومقوماته منها، فهو تابع بجميع أطواره لأحوالها. فلا يمكنه القيام بمجرد اقتصاره على ذاته فقط؛ وذلك لعدم مقدرته على حفظ نظام حياته الشخصية، بل يحتاج إلى الدوران حول مركز المجموع الإنساني، وكما أن القوة الجاذبة التي تتبادلها جميع الأجرام السماوية لا تسمح بوقوع خلل في نظام الفلك العام، هكذا يحتاج ذلك المجموع الإنساني إلى قوة تحفظه من الوقوع في الخلل والتبديد. وإذا أخذنا نفتش على قوة مثل هذه، فلا نراها سوى في السياسة والشريعة، على أنه بذلك يوجد الإنسان محافظا على التئام شمل جمعيته.
أما ينبوع ظهور السياسة والسيادة والشرائع، فهو جار من تغلب الناس بعضهم على بعض منذ القديم، وهو الأمر الذي أنتج التملك والمملكات على وجه الأرض؛ فلا سبيل لمن يرغب الاطلاع على حقائق الحوادث البشرية وطرائق حدوثها إلا في إطلاق طيور التبصرات الدقيقة لتحوم باسطة أجنحة البحث والاستقصاء على شواجن التاريخ العام، حيثما يشتبك شجر المواقع في منحدرات الأجيال الغابرة وتهوي غدران الوقائع من شواهق القدمية العالية.
فلا ريب أنه إذا تطلبنا معرفة أصل انتماء وانقياد العالم البشري بعضه إلى بعض، وكيفية انتشار السيادة والشريعة فيه، إنما يدعونا الأمر إلى التوغل في أودية التواريخ الفسيحة. وهناك تبرز لدينا عروسة غابة الحقائق من خباء الأزمنة السالفة مقدمة لنا بين أناملها زهرة المراد، فنعلم حينئذ أن الإنسان لم يسد في أول أمره إلا على عيلته ومتعلقاتها فقط، ثم آلت به حركات الظروف إلى أن يسود ويسطو على قبيلة، ثم أفضت به تلك السيادة والسطوة إلى التسلط على شعوب مختلفة وقبائل متنوعة حيثما نودي به: يعيش الملك.
فهات بنا لنهبط بأقدام الاستقراء في أعماق القدمية الغامضة حيثما قد ابتدأت تلك الحركات وأخذت بالصعود إلى قمة التمام الأقصى، حتى إذا ما بلغنا سدرة التتبع مخترقين فلوات الأدهار المتراكمة نجد أنفسنا منتصبين على عرفات البداية؛ إذ نشاهد الإنسان القديم يهرع إلينا شاهرا حسام السيادة هكذا. إنه لما كان النوع البشري تائها في البراري وثقوب الأرض لا يجد له مقرا في بطون الأودية التي كانت تهدده بانقضاض قمم الجبال الشامخة عليه، ولا راحة في فسحات القفر الذي كان يقذفه بثوران العواصف القاصفة، ويلذعه بلهبات الهجير المستعر بين أثافي الجنادل والآكام. ولا مفر من زوابع الجو التي كانت ترشقه بمعجزاتها؛ إذ ترسل بروقها لدى أعينه فتخطفها دهشة، وتطلق صواعقها في آذانه فيرتعد جزعا، وتسكب أنواءها على هامته فيخر ساجدا لديها طالبا رحمة كأنه يطلبها من إله يستحق العبادة، كانت الأرض وقتئذ غير محروثة ولا مزروعة وعديمة كل فلاحة، ومع ذلك فقد كانت تزهو ببساطها السندسي الذي بسطته عليها يد الطبيعة تحت مضارب السحاب منسوجا من كل شجر عظيم ونبات وسيم.
فبينما كان أحد أفراد هذا النوع العظيم مضطجعا على كثيب مرتفع في فلاة قفرة الأديم تحت سماء وضيئة الأثير رائقة النسيم، محفوفا بنسائه وبنيه؛ وإذا بنسمة هبت عليه عند انتصاب عمود الصباح، منطوية على نفحات زهور متنوعة الأطياب، وحاملة صرخات المواشي التي كانت تسبح رب الفلق، فأرشدت لحظاته الزائغة إلى أفق شاسع يترعرع بجلباب خضل الاخضرار، ويترقرق تحت مساحب ذيول الغمام ومساقط أنداء الفجر.
فعندما بدا لديه ذلك المشهد الناضر وثب على قدميه في الحال، وصاح بلفيف عيلته المقرون وهو باسط يد الإيماء قائلا: أما تنظرون ذلك الأفق البعيد الذي يتبين لنا من خلال البزوغ كيف هو بهج المنظر وحسن المظهر؟! قوموا بنا لنذهب إليه ونتجسسه عله يكون صالحا لإقامتنا؛ فنتخلص من هذه الأرض الممحلة وتعب تلك الحياة التائهة، ونتمتع برغيد العيش. فما أتم كلامه إلا ورأى أقدام جميع تبعته تهرول أمامه إلى المحل الموما إليه.
ولم يزل هذا المهاجر يطوي أديم الثرى حاديا رحل رفاقه، آخذا هدير الحيوانات دليلا إلى حيث المناخ، حتى انتهى به المسير أخيرا إلى بقعة رحبة الأرجاء؛ فوقف للحين واستوقف وأطلق نظرات التأمل ليرى جليا ما كان يلحظه عن بعد خفيا، وإذا هو منتصب في غوط قد كسته العناية بوشاح الجمال العجيب، وكللته الطبيعة وأنوار الفصل الرطيب؛ فهناك كانت الشمس تسبل أشعة ضحاها على طلعة ذلك الروض الأزهر فيزدهي بألوان أجنحة الطاووس. هناك كانت الأنداء تتراقص على ثغور الزهر الأنور فتمثل تراقص الحبب في أفواه الكئوس. هناك كان الجو الصافي يتعطر بأنفاس السحر فتهب نسماته ناشرة على الدنيا أطياب البشرى. هناك كانت عرائس الربيع ينثرن من رءوسهن لآلئ النور على حدائق الرياض، ويرسلن نظراتهن الصاحية إلى آفاق الأرجاء الغراء، هناك كانت رءوس أشجار الخمائل تحرق بنيران أنوار المشرق، وأقدامها الثابتة تغرق في مسيل الماء المتدفق، وقدود أغصانها تترنح تحت عقود الزهور لدى خطرات الرياح، وصفحات أوراقها تتلامع بطفحات النور تلامع الأسنة والصفاح. هناك كانت الأطيار تصدح باختلاف الألحان، هناك كانت المواشي تسرح متنوعة الأبدان.
فلما شاهد هذا الإنسان سمو تلك البقعة الزاهرة، وكيف أن الطبيعة قد توجتها بكل أكاليل الجمال، وسكبت عليها مياه البهجة والازدهار، والتفت إلى جمهور ذريته وقال: هو ذا مدبر العالم ومديره قد أرشدنا إلى مقر الراحة في مكان خضرة حيث لا بكا ولا تنهد؛ فهلموا لنمكث ها هنا تحت هذه الأفياء الممتدة بين الزهور والينابيع، ونستريح مما قاسيناه من النصب والوصب في تلك البرية الجدباء. فأحنى كل منهم رأسه امتثالا وساروا جميعا تحت إيعاز إشارته إلى حيث المحط. فكان حلولهم تحت ظلال دوحة لا تلتفحها لفحة الرمضاء، ولا تخترقها أشعة البيضاء.
ولما استروح الكل ريح الارتياح، وطفحت على شفاههم تبسمات الأفراح، جعلوا يتبادلون أحاديث البارحة، ويتذكرون كل غادية ورائحة. أما ربهم فقد كان شاخصا في الأفق حيثما كانت تتراقص بنات الصباح ذوات الأكاليل الذهبية أمام ملكة الشرق الراكبة على عجلة نارية، ومندهشا بما كانت الأنوار ترسمه على وجه الطبيعة ذات الحلل السندسية، وكأن لسان حاله يقول:
هو ذا الصباح بدا وبالأنوار
طبعت وجوه الكون في الأبصار
والشمس قد نشرت بيارقها على
قمم الجبال أمام جيش نهار
وعلى عمود الصبح قد شاد الضحى
برج النهار مسلحا بالنار
والشرق أوتر قوس نور وانثنى
يرمي على الدنيا سهام شرار
وغدا يزج على الرياض أشعة
كالنار تحرق أرؤس الأشجار
والفجر مد على السما بحر السنا
فهوت دراري الأوج في التيار
والليل مزق ثوبه حزنا على
فقد النجوم وغار في الأغوار
ما زال مد النور يدفع في العلا
جزر الظلال كعاصف لغبار
حتى امتلا جوف الفضاء من الضيا
وزهت بذلك كافة الأقطار
والنهر أصبح بالسنا متموجا
فجرى يرد الضوء للنظار
فترنم القمري فوق غصونه
طربا وفاحت نسمة الأسحار
والنسر هب إلى العلا كأنه
يبغي المسير مع السحاب الجاري
ومن الغمام الشمس حين بدت حكت
وجه الحبيبة لاح تحت خمار
وإذ أفاق من غفلات هواجسه نظر إلى أولاده ونسائه، فرآهم جالسين حوله كغروس الزيتون وهم يتعاطون كئوس الحديث، فأخذ يخاطبهم هكذا: ها إن معارض الصدف قد دفعتنا إلى هذا المكان الفاخر، فلنلبث به ولا نحد عنه. وعلى ما أرى إنه لا يعوز شيء ها هنا مما تحتاجه حياتنا؛ فها أشجار تطرح علينا أفياءها وتنثر أثمارها، وينابيع تدفق لنا مياهها، ومواش تسمح لنا بألبانها ولحومها. وإذا أرعد البرد فرايصنا وغرقتنا الأنواء نصنع من صوف هذه الحيوانات ثيابا تدفينا ومضارب تقينا. فاشربوا هنيا وكلوا مريا في جنات تجري من تحتها الأنهار، حيث لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
فولين كان التاريخ يعجز عن تمزيق حجاب القدمية القصوى ليكشف لنا تفصيل ما أحدثه الزمان مع تلك العيلة هناك، إلا أنه مع ذلك قد ينهج لنا طريقا نسير به على قدم الاستقراء إلى حيث نقول: إن هذه العيلة قد اغتنمت لذة العيش في ذلك المحل الخصيب، فتمكنت به آمنة وصارت تعيش بنتاج الأرض وحواصل الحيوانات المنفردة هناك، وتسلك تحت إرشاد الكبير منها خلفا فخلفا، ولم تزل مع تقدم الزمان تنمو وتتسع بانضمام آخرين إليها، حتى صارت جمهورا غفيرا يجري تحت سياسة ذلك الكبير الذي كان يخترع شرايع وقوانين يلتزم باعتناقها كل من هذا الجمهور لدفع وقوع الخلل في نظام الجمعية، وبناء على ذلك سموه أميرا. ولكون المواشي والأنعام قد كثرت أيضا وتعاظمت هناك لتواصل الداخلة وانقطاع الخارجة كما تطلب طبيعة حيوان الكلاء حيث يوجد الإنسان، لم تعد من ثم تلك البقعة كفوا لإشباع الجميع بدون توجيه الاعتناء إليها فصارت القطعان تتشتت؛ ولذلك بادر الناس إلى فلاحة الأرض وتهذيبها، بعد أن تعلموا العملية الإنباتية من نفس الطبيعة؛ لأنهم كانوا يراقبون كيفية هذه العملية من السنابل أو القصلات التي كانت تطرح الحبوب أو البذور في التراب بعد النضج، فتندفن هناك ثم تنهض نامية على شكل الأصل.
ولتسهيل إجراء التقليد للطبيعة بالفلاحة شرعوا يستخلصون المعادن الصلبة من مدافنها، ويعاملونها على النار الموقدة من حطب الغاب، فيسكبونها آلات ويستخدمونها لحرث الأرض وتحريك الأثقال آخذين الثيران أعوانا لهم.
وعلى هذا النمط: أخذوا يتمتعون مع مواشيهم بغلات الأرض وأثمارها مضاعفة، فصاروا يدفعون الأعشار لأميرهم أجرة لما كان يعانيه لأجلهم؛ لأنه كان يحمي برجاله مزارعهم وحقولهم، ويمنع تعدي هذا على أمتعة ذاك، مدافعا عن تخومهم هجوم المغتصب، ساهرا على جميع أحوالهم السياسية بدون أدنى خلل في ترتيب الجمهور، حاكما ما بينهم بالعدل، قاضيا بالإنصاف ناشرا على الجميع راية شريعة واحدة، غير ملتفت إلى الامتيازات الأدبية ما لم يكن لأربابها نفع الصالح العام، مجتهدا بكل إمكانه في راحة شعبه ورفاهيتهم، عارفا أن من يأخذ أجرته يطالب بالعمل، وإذا لم يعمل يسقط من عين ذاته بحيث من لا يؤثر أن يعمل فلا يأكل، عالما أن السياسة أو الرياسة إذا وقعت في غير محلها تطلب من الشعب إنقاذها، غير مأخوذ بخمرة حب الرياسة التي متى خامرت العقل منعت بأبخرتها الكثيفة نفوذ أشعة الصواب فيه. متيقظا لكل واجباته، صاحيا في كل أعماله، ذا سلوك حسن مع الجميع، محبا للغرباء، قادرا على السياسة، لا سكيرا ولا ضرابا ولا طماعا، وبعد مضي فترة من الزمان صار أولئك القوم ينحتون من الجبال حجارة ويشوون من التراب قرميدا ويوقدون من خشب الشجر نارا.
ولما رأى أولئك القوم أن هيئتهم الاجتماعية قد انطوت على كل شروط الأمن والسلام، وصارت حديقة حياتهم تزهو بأثمار الدعة والسكون تحت سياسة أميرهم واعتنائه، أعلنوا جميعهم وجوب الطاعة والانقياد له، دافعين قلوبهم إلى محبته، وصاروا يسمون ذواتهم عبيده، ويحامون عن حقوقه وبيته بكل مقدرتهم، وهو كان يضاعف اهتمامه بجميع صوالحهم العامة والخاصة، غير مفتكر إلا في دوام راحتهم، ولا ملتفت إلا إلى وقايتهم من كل المزعجات، مسميا إياهم شعبه وأولاده.
ولما كان لا يمكن لنظر الراوي أن يدرك جليا كيفية امتداد تلك السياسة على العالم، ولا أن يستوضح حقيقة المسلك الذي نهجته لها الأقدار لما يعارضه هناك من ظلمات الأحقاب والأعصار، وجب عليه حينئذ أن يستخدم العقل كمصباح لكي يمكن لأعينه بواسطة أشعة الانتقالات الفكرية أن تنفذ في تلك الظلمات الدامسة فتفوز بمشاهدة ما وراء ذلك.
فهلم إذن يا أيها الراوي واتل علينا بقية ما جرى هنالك، وأخبرنا عما عثرت عليه من المواقع بعد أن استطلعت العقل نيرا في أوج الغوامض.
إنني بعد أن أولجت نظري طويلا في بحر زاخر من الظلام الهائل حيثما كانت أمواج التيه والمعاثر تتلاطم تحت مهب عواصف الأيام والليالي، أنفذته أخيرا من هذه اللجج العميقة إلى سهل فسيح الأمد يعانق بباع نهايته أفق البداية، وإذا مرسح عظيم قد انفتح أمامي؛ وإذ كنت عاجزا عن استجلاء الأشباح اللاعبة فيه تماما لشدة توغلهم في عباب القدمية، وضعت على أعيني نظارة الاستقراء وجعلت أتأمل.
فرأيت جموعا عديدة من الناس قائمين بمهمات عظيمة، ومقيمين ضوضاء حافلة وهم يصيحون بعضهم على بعض قائلين: هلموا نبتني لأميرنا برجا يبلغ رأسه إلى السماء؛ فكان البعض يقطع من الجبال حجارة، والبعض يصنع طينا، وآخرون يشوون لبنا، وغيرهم يسرد ترابا، وما برحوا يحفلون بموسم البنيان حتى انتصب برج عظيم وصارت تخفق عليه راية أمير القبيلة.
وهكذا شرع كل من الناس يبني له بيتا ولمواشيه مذودا حتى قامت مدينة عظيمة المشاد، يضج في شوارعها أفواج وافرة من العباد. ولما صارت الأسواق تطن بمطارق معامل المعادن، والشوارع ترن بأصوات الصنائع والأشغال، والساحات ترتجف تحت أقدام المحافل والمعامع، والمراسح تتموج لدى لطم أمواج الأصوات الاحتفالية الآتية من أفواه آلات الطرب، صار يدوي في آذان الشعوب المتفرقة صوت ذلك الضجيج المرتفع واللغط الهادر، فكانوا يتقاطرون أجواقا أجواقا، ويخيمون في ظلال المدينة طالبين من سكانها أن يقبلوهم في الجوار لكي يتخلصوا من مشاق البادية ويفوزوا براحة الحضر.
وهكذا كانت تلك المدينة تقبلهم بكل إكرام على شرط أن يخضعوا لأحكامها وشرائعها ويؤدوا الأعشار لأميرها؛ فلم تلبث أن تعاظمت جدا، وتضاعفت مساحة وسكانا، وصارت محاطة بأسوار رفيعة وحصون منيعة، حتى أضحت مركز رهبة يدور عليه احترام القبائل وموضوع عظمة يحمل عليه حسد البشر.
وبينما كانت هذه المدينة الزاهرة رافلة بأذيال اليمن والكرامة، مختلة بسربال الهدو والسلامة، تطفح في حاناتها كاسات السرور، وتشدو في حدائقها بلابل الحبور، وإذا عجاج يثور عن بعيد، ونقع غبار يتصاعد إلى الجو، حتى عاد يظن أن زوبعة شديدة قد نهضت من جوف الثرى وهمت أن تكحل أعين السماء بإثمد تراب الأرض، وكانت أصوات كهدير هجمات المياه تهب من تلك الجهة، فصليل تمازجه قعقعة اللجم وصهيل تتخلله نقرات حوافر الخيل. وما كان إلا كتردد الفكر بين شك ويقين، حتى أسفر ذلك الغبار عن جيش جرار يتموج على الصهوات ويفري بطون الفلوات.
فلما نظرت عينا الأمير ذلك العجاج الثائر وسمعت أذناه تلك الأصوات الضاجة، لم يعد عنده ريب أن عدوا سمع بجلال مدينته فدفعه لهيب الحسد إلى إشهار الحرب وإيقاع الحصار.
ولما ثبت عنده ذلك الغضب المقبل، أخذته ثورة الحمية ودارت في رأسه حرارة الوطن، ونادى في جميع المدينة معلنا صوت الحرب حيثما صارت كافة الأهالي فريسة ترتعد بين مخالب الجزع والهلع لما عاينوا مما لم يعاينوا؛ فأوعز إليهم أن يجتمعوا في إحدى الساحات الفسيحة رؤساء ومرءوسين، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، أغنياء وفقراء، بدون أدنى امتياز أو مميز؛ لكون الجميع يلزمهم أن يحاموا عن حقوق الوطن ويقتسموا مطاليب محبته سوية لوجوب حقه على كل من لا ينكر عليه حق التمتع بخيراته.
وعندما تم الاجتماع وشملت النخوة كل الجموع وقف ذلك الأمير على محل عال وأنشأ يقول:
هو ذا الغربا قد أحدقوا بنا فدونكم والطراد، الأعداء قد هاجمونا فعليكم بالجلاد، أنتم الأسود وهم الكلاب، فوا عجبا لكلب يقتحم الغاب! هيا إلى النزال هيا إلى القتال، أنزلوا بهم الحسام المسنون، وانظروا أي منقلب ينقلبون.
ولما فرغ الأمير من مقاله برز رجل عليه سيما الفصاحة والحماسة ورفع صوته في وسط الجمع وجعل ينشد:
الحربية
فيقوا من الغفلات يا أهل الوطن
إن العدو دنا وها نقع الفتن
حتام أنتم يا بزاة روابض
هبوا فقد حام الغراب على الدمن
هجم العدو وها الغبار وأنتم
من فا الغبار ستنسجون له كفن
لا تحجل الغربان في سعة الفلا
يوما إذا نهض العقاب من الوكن
ناداكم الوطن الذي قد ضمكم
في حضنه وسقاكم لبن المنن
كروا على الأعداء كر الأسد يا
أسد الوفاء فهم ثعالبة الخون
فاصغوا لصوت أب لكم يرجو الحمى
منكم فهيا طاردوا عنه المحن
أوما ترون الدمع منه لأجلكم
يهمى فقوموا نشفوا دمع الوطن
لا يحسن الموت الزءوم لدى امرئ
لكن فدى الأوطان موتكم حسن
فتقلدوا عدد السلاح وبددوا
جيش العدى وخذوا أمامكم الزمن
فما فرغ من إنشاده الحربية حتى صارت أعين القوم تنثر شرر نيران الحمية التي كانت تتوقد في القلوب؛ فأخذ جميع الرجال يتراكضون إلى الأسلحة أفواجا، ويندفعون من أبواب الأسوار كاندفاع الصواعق من بطون السحب وهم يصرخون: لا جبن إلا وراء السور. وكان الأمير ساعيا أمامهم كأحد الجنود.
أما النساء فكن يحافظن على الأولاد ويجهزن أدوات الحرب، وهكذا أخذت الحرب تنتشب بين الجيوش؛ فكانت أصوات المقاليع ترن بين الأودية، والحجارة تترامى بين الصفوف، وعمد الحديد تتساقط على الرءوس، ولم يزل حتى صارت الصدور تتلاطم والأيدي تتقاوم، وكان الغبار يتصاعد من الأرض كتصاعد الدخان من فم الأتون. وما برحت هذه الملحمة حتى أخذ جيش العدو يتقهقر إلى الخلف ناكصا على الأعقاب، وصارت جيوش المدينة تنادي خلفه بالغلبة والظفر، ولم تلبث أن شتت شمل الأعداء ونثرت نظام صفوفهم واستأسرت أكثر أجنادهم فوقعت خشية الأمير في قلوب سائر الأخصام، وعمت هيبته على كافة الصقع وازدادت محبته في نفوس شعبه الخاص وصار الجميع يقدمون له الخراج ويقولون: ليعش الملك ولتدم المملكة.
وهكذا لم تزل هذه المملكة تنمو وتتسع ويمتد سلطانها إلى الأباعد ، حتى صارت أخيرا واسعة السياسة قائمة الشرائع والروابط؛ بحيث لم يمكن لأحد أن يعيش إلا تحت ذلك النظام.
فحينئذ يظهر لنا مما تقدم أنه قد كان ظهور السيادة والسياسة على هذا النمط في العالم القديم وعلى ذلك المنوال كان قيام الممالك. فمن يعلم أن مملكة آثور أو فينيقية لم يكن ظهورها وامتدادها على النسق المذكور، ومن يعلم أن مكدونية التي ابتلعت تينك الأمتين لم تكن هكذا، ومعلوم أن رومية التي خفق نسرها على المسكونة قد كانت أكواخا.
1
ولما فرغ الفيلسوف من مقالته هذه نظر إليه الملك نظرة المندهش وقال له: ولئن كان خطابك هذا مبنيا على نتائج الوساوس والظنون مفعما من أحلام المخيلة وأوهام الفكر، إلا أنه مع ذلك لا يخلو من رائحة الصواب وسمة الحقيقة فلا بأس فيه.
وهكذا رمقته ملكة الحكمة بمقلة المرتضي واستصوبت خطابه، وبعد وقوع السكوت في مرسح المطارحة برهة زهيدة وخلو الكلام من الموضوعات، أخذ الملك يناجي الملكة بصوت سري لم أعلم من موضوعه سوى الأهمية.
وإذ رأى الفيلسوف أن بواعث المناقشة صارت تحول بينه وبين الخواطر، نهض مخليا لهما ساعة المناجاة وسار قاصدا جهة قائد جيش التمدن الذي كان يتخطر على مسافة، ولما دنا منه وتلاطمت النظرات تبادلا مصافحة الأكف وسلما على بعضهما، ثم جلسا معا على جذع شجرة عظيمة قد أضجعها الزمان.
ولما مكن الفيلسوف نظره من القائد وجد عينيه متقدتين بلهيب الغضب، ووجهه مبرقعا بسحابة الغيظ، وأثوابه مضمخة بالدماء، علم أن هذه الظواهر ناجمة عن مواقع الحروب؛ فأخذ يطيب خاطره بعبارات لطيفة، ويبشره باقتطاف ثمرة مشروعه قائلا: ما لي أرى دخان الهيجاء يتصاعد إلى الآن من منخريك يا أيها القائد الشجاع؟
ولماذا يتناثر شرر السخط من عينيك؟ ولم لم تلق عن وجهك لثام الكمود وأنت الظافر بالعدو والقاهر صفوف المردة والمنادي في مرسح الكفاح: ها أنا الغالب؟ هل الغضب لا يرحل بعد حلول الانتقام؟ وهل الانتقام لا يروي لدى فيضان نهر الانتصار؟ وكيف لا يتبسم الانتصار عندما يظهر إكليل الغار؟ رحب سعة صدرك؛ فقد أنزلت بالأعداء نكبات الضيق. شد حقويك بالقوة فقد ضعفت عزائم الأخصام، أنقذ أطوار وجهك من أسر الغيظ فقد سقطت دولة العبودية، كيف يزأر الأسد والفريسة ترتعد بين يديه؟ كيف يعتكر البحر والرياح قد سكنت أمامه؟ كيف يدلهم الصباح والليل يتمزق إزاء وجهه؟
نعم قد بذرت الحروب ولكن حصدت السلامة، نعم قد غرست القتال ولكن جنيت الظفر، نعم قد أمت العبودية ولكن أحييت الحرية، نعم قد قيدت البربرية ولكن أطلقت التمدن، فاحكم بما شئت واقض ما أنت قاض، فأجابه القائد مبتسما وكأنه دخل في خلق جديد: إن دوام لوائح الغضب والكآبة على وجهي إلى الآن ليس مسببا عن تلك الحروب والمواقع التي ملكنا بها الغلبة والنصر، والتي تستدعي ظهور لوائح الفرح والابتهاج، بل عن سبب مهم جدا. أجاب الفيلسوف: وما هذا السبب؟ - هو اعتماد الحضرة الملوكية على إرجاع العصاة إلى أوطانهم ومملكتهم. - نعم، قد بلغني ذلك، ولكن على شروط كثيرة منها إرفاقهم بجماعة من طرف دولتكم كنظار على كل أحوالهم وأحكامهم، ومنها إلزامهم باتباع شرائع التمدن وقوانينه. - إن أولئك القوم هم محتالون منافقون، وليس لهم ذمم ولا عهود تربطهم، يقولون ما لا يفعلون وفي كل واد يهيمون أما تعلم أنه لا يوجد لجماعة الخشونة والبربرية ميثاق سوى الكذب، ولا شريعة غير الاحتيال والمكر، ولا حكم عدا التعدي والظلم، ولا حاكم خلاف الرشوة؟ ومن أصعب الأمور إخضاعهم بدون تبديد شملهم وهتكهم عن آخرهم. - نعم، كل ذلك هو أكيد ولا ريب فيه، ولكن متى شاعت بينهم شرائع التمدن وطفقوا يتعلمونها من نعومة أظفارهم، وقامت عليهم نظار ومساعدون من طرفكم، لا يعودون لابثين على تلك الخصال التي ذكرتها ويصيرون بعد قليل من الزمان طبق المراد. - نعم، ربما يتم ذلك ولكن بعد ألف عام. ولماذا كل هذه المدة؟ لأنهم شعب مجموع من كل قبيلة وملة تحت السماء؛ فكل حزب منهم يبغض الآخر ويجتهد في خرابه ودثاره بناء على أن المحبة لا تقوم في اختلاف الأجناس، ومتى بطلت المحبة زال التمدن؛ لأنها الأساس الأول له، ومتى زال التمدن تمزقت أحشاء الوطن وخفقت سناجق العبودية، فلا يمكن رفع كل هذه الصعوبات ما لم يمر زمان طويل جدا. إنه ولئن كانت كل هذه المبادئ صحيحة فقد لا يمتنع نهوض التمدن في وسطها؛ لأن قوة انتشاره تغلب كل تلك الصعوبات كما جرى ذلك في أقوام كثيرين مختلفي الأصل والفصل، أظن أنه بدون قوة المعجزات لا يقوم انتشار التمدن بين هذه القبائل. وإذا كان جرى ذلك ما بين أقوام متعددين مختلفين أصلا وفصلا، فهم قد كانوا متفقين ميلا ورأيا. لا يجب عمل المعجزات هنا ولا الآيات؛ إذن بأي قوة ينتشر التمدن؟ بقوة دعائمه المرتكزة على قلب الإنسان طبعا قبل انحرافه إلى الفساد. - كم دعامة يوجد للتمدن؟ - خمس دعائم. - هل يمكنك تعديدها لأنني أفتكر أنه يوجد أكثر من ذلك؟ - نعم، يوجد ولكن ينحصر الكل في تلك الخمس. - فاشرح إذن لي ذلك.
الفصل الخامس
التمدن
قال الفيلسوف: إن التمدن في اللغة: الدخول في المدينة، وفي الاصطلاح: ناموس يرشد الإنسان إلى تجويد أحواله الطبيعية والأدبية، وهذا الناموس يبنى على خمس دعائم، وهي أولا: تهذيب السياسة، ثانيا: تثقيف العقل، ثالثا: تحسين العادات والأخلاق، رابعا: إصلاح المدينة، خامسا: المحبة.
الدعامة الأولى: تهذيب السياسة
إنه لما كان نظام العالم الإنساني لا يمكن قيامه محفوظا من كل خلل إلا بسياسته، كانت هذه الشريعة تقتضي تمام الالتفات إلى تهذيبها وتحسينها لكونها محورا يدور عليه عالم كبير يستحق كل الالتفات إلى نظامه، ولا يوجد لهذا التهذيب أساس آخر سوى توطيد الحق وتحسين الهيئة؛ لأنهما المركز الأول الذي يتوقف عليه مدار السياسة العامة. ومتى طرأ على الأساس خلل ما لحق ذلك الخلل بكل ما بني عليه، ولا يمكن استمرار ذلك الأساس وطيدا إلا تحت جملة أحوال وهي:
أولا:
حالة الشخص الذي يتعاطى السياسة؛ فهو يجب أن يكون رجلا من أصل كريم وموسر؛ لأنه متى كان هكذا يوجد ذا تربية حسنة وصالحة، فيكون ذا صفات حميدة وأخلاق راضية حسبما يستلزم حسن التربية ويقتضي صلاح الأحكام. ثم يجب أن يكون مروضا بالعلوم الرياضية والأدبية ومثقفا بمعرفة واجبات الشرائع والقوانين؛ لأنه إذا كان جاهلا هذه الأمور لا يكون قادرا على تتميم خدمته ويعود حينئذ مضطرا إلى الاسترشاد من الأجانب أو تحكمهم، وهم ربما يضلونه أو يخونونه لأغراض ذاتية لهم؛ فتصير كل أحكامه عبثا ويقع في نتائج اشمئزاز الجمهور. ثم ينبغي أن يكون فطنا نبيها لأنه إذا كان خاملا لا تجد دقائق السياسة محلا في عقله فيضيع الحق وتضطرب الأحكام، ويروح المحقوق غالبا والمحق مغلوبا. ثم يقتضي أن يكون عادلا؛ لأن العدل يثبت الحكم ويوطده ويجعل الحاكم محبوبا من جميع الناس ممدوحا من الأخيار مهابا ومخافا من الأشرار الذين لا لجام لجماح شرهم سوى هيبة الحاكم. وخلاف ذلك الظلم لكونه يهدم بناء السياسة ويعارض اتجاهات الحق ويلقي المقت والكراهية في قلوب الشعب، وينهج سبيلا رحبا لهجوم العصاة وتمزيق الهيبة، ثم يجب أن يكون قنوعا؛ لأن الطمع نتيجة التوالع بالمال، وحيثما وجد الولع بالأموال يوجد الاحتشاد والارتشاد وهما الصفتان اللتان متى باشرتا قلب الحاكم أراغتاه عن الحق وجعلتا بينه وبين الصالح العام حجابا كثيفا، ثم أن يكون ذا أناة لأن الأناة هي الآلة الوحيدة لاستقصاء الحقائق من صدور الدعاوى حيث يقوم العلاج، أما العجلة فعليها يسافر الصواب.
ثم ينبغي أن لا يكون سكيرا؛ على أنه لا يوجد أعظم طارد للرشد والنباهة من مداناة الدن ومخامرة الخمر، فمتى ذهب رشد الحاكم فسدت الحكومة وبطل الحق.
ثم من الواجب أن يكون شجاعا؛ لأن الشجاعة درع للرؤساء ودرع للمرءوسين، ولا عار أعظم من جبانة الرئيس؛ لأنها تبقيه عاجزا عن اقتحام صعوبات الرياسة وتصيره ريشة ترتجف لدى هبوب كل ريح.
ثم من الضرورة أن يكون غير ممازح؛ لأنه متى لازم المزاح سخرت به الناس واستهجنته، وربما استقلت بعقله فلا يعود أحد يعتبر أحكامه مهما كان حازما.
ولا شك أن وجود صفات كهذه في الشخص الذي يتناول زمام الحكومة قد يستلزم وجود نتائجها ما بين تبعته وحواشيه، وهو الأمر الذي له دخل كبير في واجبات السياسة. أما العكس فبالعكس، وذلك كالمركز الذي تتوقف استقامة أقطاره على استقامة وضعه، فبمقدار كونه مستقيما تستقيم، وبمقدار كونه منحرفا تنحرف.
ثانيا:
حالة الاستواء؛ إن أعظم المقومات لصحة السياسة وإقامة الحق هو مجرى شرائعها متساوية على كل أبنائها بدون أدنى امتياز بين الأشخاص أو تفريق بين الأحوال. فلا يجب الأخذ بيد الكبير ودفع الصغير، ولا الالتفات إلى الغني والإعراض عن الفقير، ولا مؤازرة القوي ومواراة الضعيف، بل يجب معاملة الجميع على حد سواء كي لا يقع خلل في نظام الحق؛ لأن كل فئة من الناس لها منزلة في طريق السياسة تستدعي النظر إليها، فكما أن العظماء والأغنياء هم القوة الواصلة، كذلك الصغار والفقراء هم الآلة الموصلة، فلولا يد الصغير لم يطل ساعد الكبير، ولولا تعب ذوي الفاقة لم تسهل متاجر أرباب الغنى ولم تحرس أموالهم ولم تقم قصورهم العالية وسرادقهم المشيدة. لعل ذلك الغني عندما يأتي من محل ملاهيه ومراسحه إلى مسكنه الوسيع، ويضجع على فراشه المصنوع من ريش النعام، وينظر إلى رقوش حجرته ونقوشها، لا يفكر في ذاك المسكين الذي بعد أن يكد ويكدح طول النهار مقاسيا حر صيفه، ومتكبدا برد شتائه لأجل تشييد ذاك المسكن وتنميق تلك الحجرة، يذهب إلى كوخه الحقير ويأكل خبزته اليابسة مع أولاده العراة الجائعين، ثم يضجع على طراحته المنخرقة تحت لحاف الإعياء والوصب، فهل كل هذا التباين لا يكفيه حتى يرغب إيقاعه أيضا في موقف الحق الذي يستوي عنده الجميع؟ وهل يسوغ لأرباب السياسة أن يقبلوا وقوع هذا التباين ويجحفوا بذلك المسكين الذي بدونه لا تصل قوتهم إلى مواقعها فلا يخافون من وثوب التسعة والتسعين وفرط عقد الجمعية؟
ولماذا يوجد حق لأصوات الأغنياء فترن في قاعات السياسة، ولا يوجد هذا الحق لأصوات بقية الشعب الذين هم الجانب الأكبر والأهم، والذين بواسطتهم تقوم سطوة الممالك وقوات الملوك، وعليهم يتوقف مدار السياسات؟ فلا شك لسان السياسة نفسه ينادي بوجوب حالة الاستواء ويصرح ضد الضد.
ثالثا:
حالة المطابقة؛ إن منزلة السياسة من الهيئة الاجتماعية هي كمنزلة الدم من الجسد ، فكما أن هذا السائل يقوم بتغذية الجسد وبدونه لا تثبت الحياة، هكذا السياسة تقوم بعول تلك الهيئة، وبدونها لا يثبت النظام. وكما أن الدم يجب أن يكون مطابقا في مقداره ونسب أجزائه لما يحتاجه الجهاز العضوي بحيث إذا لم تحصل هذه المطابقة بزيادة أو نقصان أن لا تلبث الأعضاء على صحتها، وتقع في حالة الاضطراب الوظيفي. هكذا ينبغي أن تكون السياسة مطابقة بقوانينها وشرائعها لما يقتضيه واقع الحال بدون زيادة ولا نقصان، ومتى عدمت تلك المطابقة زاغت الهيئة عن واجباتها واضطرب كل نظامها، وكما أن السائل الدموي يستلزم التنقيص عند زيادته استدراكا لوقوع الأمراض الالتهابية والزيادة عند نقصانه دفعا لنهوض العاهات الافتقارية، هكذا يجب أن تعامل الأحكام السياسة في محكوماتها حذرا من وقوع البلبال؛ فلا يستعمل الصرامة والقساوة والجور والانتقام مكان الرفق والشفقة والحلم والإغضاء، وبالعكس. بل يجب توقيع كل في محله مطابقا؛ بحيث إذا زاد أو نقص يجب تعديله لإخلاله بالواجب السياسي.
ولما كانت حوادث الهيئة الاجتماعية تختلف جرما وموقعا كان لكل منها شأن يستوجب حكما يلائمه ويطابقه، ولكل حكم قوانين تناسبه وتشاكله. وهكذا تكون الأحكام وقوانينها مختلفة اختلاف الحوادث الجارية، فمتى استعمل الواحد محل الآخر نشأ خلل عظيم في نظام السياسة يستدعي خلل الهيئة جميعها؛ فلا يسوغ تنزيل واجبات الكبائر منزلة واجبات الصغائر، ولا يجوز إيقاع الحوادث العظيمة موقع الحوادث الحقيرة، بل يجب إعطاء كل حكمه ليستوفي كل حقه.
وبما أن الأحكام والقوانين تعتبر كأجزاء تؤلف جسم الشريعة في عالم السياسة، وجب أن يكون كل من هذه الأجزاء ثابتا على نقطة وضعه؛ وبناء على ذلك نرى أنه متى زاغ أحدها عن الوضع المعين له، يقع حالا في حركة الاضطراب ويستفز البقية إلى مشاركته في تلك الحركة، ولم يرجع إلى سكونه ويسترجع ما لم ينقطع تأثير الفاعل؛ بحيث إذا دام متواصلا ينهدم بناء ذلك الجسم ويتشتت شمل أجزائه حسبما يتم في الأجسام الرنانة.
ثم ولا يستعمل الحرب مكان السلامة ولا السلامة مكان الحرب؛ لأن الواحد يبدد والآخر يجمع، ومتى نزل أحدهما منزلة الآخر تزعزعت أساسات الهيئة.
رابعا:
حالة الصالح العام؛ إن أهم دواعي السياسة وأعظم بواعثها هو النظر الدائم إلى الصالح العام وتواصل السهر عليه، بحيث مهما أتقنت السياسة نظامها وأحكمته ولم تلتفت إلى هذا الصالح أو تغافلت عنه، فلا تعتبر إلا كمساعد على نثر عقد الهيئة الاجتماعية الذي لا يمكن دوامه منظوما ما لم تكن الملاحظة السياسة عاصمة له؛ إذ إن إهمال ما يسبب العمار هو تسبيب لوقوع الخراب، وهذه الملاحظة تنحصر جميعها في توقيع ما يئول نفعه إلى العامة إجمالا وإفرادا، ودفع ما يقضي إلى الضرر.
وذلك يستريح على خمسة أركان؛ وهي: تمهيد سبل العلوم، وتسهيل طرائق التجارة، وتقوية وسائط الصنائع والأشغال، ومساعدة الزراعة والفلاحة، وقطع أسباب التعدي.
أما الركن الأول: الذي يناط بتمهيد سبل العلوم: فهو يتضمن المساعدة على تشييد المدارس وتسهيل الدخول فيها لأجل كل من يرغب، وترقية الناجحين بالدراسة على قدر الاستحقاق.
وأما الركن الثاني: الذي يلاحظ تسهيل طرائق التجارة: فهو يتوقف أولا: على تقريب أبعاد الأسفار بواسطة إصلاح الطرقات. ثانيا: على إزالة مخاوف ومعاثر الطريق وإيقاع الأمان والسهولة. ثالثا: على وضع حدود ونظامات تجري على كل أرباب هذه الحرفة؛ بحيث لا يمكن أحدا تجاوزها، رابعا وهو الأخير: على منع كل الصعوبات التي يمكنها صدم تقدم التجارة وإبطال كل عائق لسيرها.
والركن الثالث: الذي يخص تقوية وسائط الصنائع والأشغال: فهو يتأسس أولا: على إثارة هم ذوي الاختراعات بتعظيم جوائزهم ورفع شأنهم وتثبيت ما به يمكنهم اقتطاف ثمرات أتعابهم، ثانيا: على توسيع دوائر الأدوات الصناعية وتضييق مساحة التلف والمصاريف، ثالثا: على رفع كل ما يوقف الخطوات عن الهجوم إلى معاناة الأشغال، أخيرا: على المساعدة في تكثير المعامل وتسهيل مجراها.
وأما الركن الرابع: الذي يتعلق بمساعدة الزراعة والفلاحة: فهو يقوم برفع الجور عن الفلاح وفتح الطريق للزراع، وتعجيل خطوات الحصاد ومنع حشر العشار واحتشاد الخزان، وبملاشاة كل موانع البدار وتسديد جميع مطاليب الأرض.
وأما الركن الخامس: الذي يشمل رفع أسباب التعدي: فهو يستوي على ثلاث قضايا فقط، وهي: حماية المتاع، وصيانة الاعتبار، ووقاية الأرواح.
الدعامة الثانية: تثقيف العقل
إنه إذا فحص الجوهر الإنساني من حيث فطرته الأولى وأصله الطبيعي، إنما يشاهد لامعا بكل الصفات الساذجة والخصال البسيطة حسبما يتبين ذلك من كل إنسان يتربى منفردا عن ازدحامات عالم المخالطة. ولما كان عظم لطافة هذا الجوهر وشدة احتياجه إلى وقاية نفسه سببا فعالا لقبوله التأثر بكل صورة تلوح له، والتخلق بكل سمة يحافظ بها على ذاته؛ كان انضمامه في سلك الجمعية إذ ذاك موجبا لانطباع صور الحوادث الاجتماعية والوقائع الأدبية على ستائر قلبه وتطبعه بأخلاق وطباع بها يمكنه أن يعارك ويزاحم أمواج العالم البشري تحت لواء حوادثه.
غير أن كثرة تقلبات الأحوال والأجيال تأدت به إلى أن يفقد كل أطوار تلك الفطرة الأولى، ويصير من أشر المخلوقات وأوحشها؛ ومن ثم لم يعد الإنسان قادرا على الدخول في دائرة التمدن الذي يطلب سذاجة الصفات وسلامة الطباع إلا إذا كان متزينا بتثقيف العقل الذي يعتبر كآلة عظيمة بها يمكن لكل من البشر أن يسترجع إلى طبيعته ما أفقدها التوحش.
ولا يتم هذا التثقيف إلا بالتروض في العلوم والفنون ودراسة المعارف الطبيعية والأدبية. ومن المعلوم أن العلم يخلق في الإنسان قلبا نقيا وروحا مستقيمة، ويجعله ظافرا بكل الصفات الصافية ونافرا عن كل ما يشين الجوهر الإنساني، ولا يترك له سبيلا إلى التفكر في الأمور الدنية والأميال المنحرفة؛ وهو الأمر الذي تشتق منه كل أفعال الشر، وعليه تبنى كل دعائم التوحش. فكيف يفكر الإنسان مثلا في دناءة السلوك عندما يكون الفلك طائرا به إلى أعالي الإجرام السماوية حيثما يرى ألوف ألوف وربوات ربوات من النجوم التي هي شموس هائلة الحجم، وكل منها جالس على عرش الفضاء ثابت في مركزه، وتدور حوله كواكب سيارة مختلفة الأبعاد والأشكال، وجميع ذلك له من السمو والعظمة ما يخبر بعظم أعمال الله. وكيف يأخذ بذهنه الهتك بالقريب بينما تكون الطبيعة هاتكة له أسرارها ومبدية لديه غوامضها؛ فإذا نظر إلى الأرض يراها تدعوه إلى تمييز تراكيب طبقاتها وتعديد مفردات عناصرها ومعرفة نسبة كل من موادها إلى غيره. وإذا تأمل في الحيوان يراه باسطا أنواعه لدى حكمه وطالبا منه فصل كل عن الآخر، وإذا لحظ النباتات يراها كأنها تدعوه إلى معاينة عجائب نموها وماهية جوهرها وكيفية تغذيتها وعملية إنتاجها وتأثير خاصياتها، وكأنها تكلفه إحصاء كل من أنواعها وتحديده تكليفا فوق وسعه.
وكيف يرتضي بعمل المنكرات حينما تكون الكيمياء مقدمة له مشكلاتها وطارحة عليه مسائل غوامضها، فما ينتهي من معرفة صفات عنصر منها وإدراك نسبة اتحاده بغيره وكيفية قوامه إلا ويبرز لديه عنصر آخر ويدعوه إلى تفنيده فيذهب خابطا في عباب المشكلات حيثما يقابله مولد الحوامض بإيقاده وإنارته، ويطارحه مولد الماء برشاقته ولهيبه، ويناقشه حامل الأنوار بلمعانه وإضاءته، ويدهشه الذهب بثباته، وتذهله الفضة بوضاءتها ونقاوتها، ويلطمه الحديد بكثافته وصدئه، ويحيره الزئبق بفراره ونفاره.
وكيف يسمح لأمياله أن تسرح في عالم الشرور والمعاصي حيثما تكون الجغرافية سارحة به على ظهر هذه الكرة الأرضية المملوءة من عجائب الخليقة وغرائب الحوادث. فتارة تطير به إلى قمم الجبال العالية فيرى ما بها من الأودية العميقة والسلاسل المستطيلة والينابيع الجارية؛ فيفكر فيما سبب المرتفعات وما أحدث المنخفضات وما جمع المياه. وأحيانا تمر به على السهول الواسعة والبحار الشاسعة والأنهار المتدفقة؛ فيقف متفكرا فيما جمد اليابسة وجمع السوائل إلى مكان واحد. وأوقاتا تسيح به في الأقاليم والأقطار فيستوقفه اختلاف العرض والطول في ميدان التأمل لتباين المناخات والأهوية، وطورا تترحل به إلى بلاد لا عدد لها وأماكن لا تحصى، وجميعها تختلف باختلاف المواقع والوقائع؛ فيقف متحيرا بما تحويه الأرض من الأمم والقبائل المختلفة بالمذاهب والمشارب والهيئات. ومندهشا لما يراه من أحوال البلدان والسياسات والشرائع، وممعنا فيما يعاينه من الصنائع المتنوعة الأشكال والتجارات المتشكلة الأحوال، وهكذا يطوف به هذا العلم إلى أقاصي العالم بدون أن يترك له سبيلا للجولان في عالم المآثم وهو جالس على وسادته غير مبارح صديقا ولا مفارق حبيبا.
وكيف لا يبدل الأعمال الرديئة بالصالحة عندما يكشف له التاريخ حجب الأجيال الغابرة ويطلعه على كثيرين من البشر الذين كانت أعمالهم سببا لأحوالهم إن رديئة فرديئة أو صالحة فصالحة. ويظهر له كثير من الناس الذين بواسطة سمو أفعالهم قد بلغوا أسمى المراتب وأعلى المنازل، وكم وكم من الناس الذين بواسطة دناءة أفعالهم قد هبطوا إلى الحضيض، لا بل يظهر له أن كثيرا من الممالك العظيمة القوة والراسخة الأركان قد أفضت بها قبائح السلوك إلى الاضمحلال والملاشاة، وكثيرا من الولايات الصغيرة قد آلت بها قوة الأطوار الحميدة إلى الاتساع والامتداد ورفعتها إلى سماء المجد والكرامة، وخاصة يظهر له أن أفعال الخشونة والتوحش ليس كانت تبدد الممالك وتستأصل الملوك فقط، بل كانت أيضا تشتت العباد وتهدم البلاد مهما كانت حصينة وغنية. أفلا يشعر بحركة غامضة في أعماق قلبه تدعوه إلى احتقار العظمات الإنسانية والفخفخات
1
الكاذبة وتجذبه إلى الاتصاف بالصفات السليمة والتخلق بالأخلاق الحميدة؛ وذلك حينما تمتطي تأملاته السرية خيول التاريخ، وتجري في برية سوريا مثلا حيثما يشاهد أن عظمة ذلك الإقليم القديم العهد والكريم التربة والأصل قد استحالت بفعل الأجيال الخشنة إلى دمار مهول؛ حيث لا يرى سوى خرابات تلقي الكآبة على الأبصار، وعدد قليل من الشعوب المفتقرة بدل تلك العظمات السابقة والمجد الزاهر والغنى الوافر.
أفلا يطرق تأسفا إذ يرى صور مدينة الفينيقيين التي كانت مركز تجارة العالم ومحط رحال الآمال قد صارت نسيا منسيا ولم يبق فيها سوى شباك الصيادين؟ أفلا يرتعد لدى سطوة الحدثان حينما يرى أورشليم مدينة داود ومحل عظمة سليمان قد أصبحت قرية لا يذكر منها سوى المحلات التي لم يحفظها سوى يد القداسة؟ أفلا يضطرب مخافة من بوائق الزمان عندما يرى أنطاكية مدينة الله العظمى ذات الأسوار العالية والحصون المنيعة قد أضحت رمة مضجعة في قبر أنوبال؟ أفلا يرتجف لدى هيبة الأيام إذ يرى مدينة تدمر التي كانت مبنية بالصفاح والعمد قد صارت أطلالا دارسة ورسوما بالية حتى لا يشاهد فيها سوى عواميد هابطة وعضايد ساقطة وهياكل مهدومة؟ أفلا يهجس كربا إذ يعاين أن منبج ذات الصيت الرنان قد غدت كالسمك الذي لا صوت له؟ أفلا يقف متحيرا عندما يصعد على رأس سمعان ويرى أن جميع ما كان يحويه من المدن العظيمة والقرى الخصبة والمزارع الناضرة والأديرة العامرة والكنائس الرحبة قد صار خرابا تاما ودمارا لا مزيد عليه بحيث لم يبق سوى بعض رسوم وأشكال؟ وبعد هذا فلا تسحقه صواعق الاشمئزاز عندما يتأكد أن جميع هذا الخراب هو نتيجة الجهل والتوحش؟
فبالإجمال نقول إن العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل والمروض الأكبر لجماح الطبائع، والسبب الأهم لتشييد التمدن والعمار إذ هو يرفع أفكار الإنسان إلى الحقائق السامية فلا تعود دائرة على مستحقرات الأشياء، ويرسم في مرآة ذهنه صور الكائنات الدقيقة فلا يعود هاذيا بخزعبلات الأمور فتنطفي من قلبه توقدات الحسد بنظره إلى زوال المحسودات، ويطرد من صدره ضواغط الطمع بإدراكه حقيقة المطموعات، وتتلاشى من روحه بقية الأطوار المنتجة رجسه الخراب كالقساوة التي غرقت مراكب مصر، والالتطاخ الذي هدم قصور آثور، والتغفل الذي كسف شمس فارس، والطمع الذي كسر صولجان مكدونية، والضغينة التي مزقت أحشاء فلسطين، والكبرياء التي ثلت عرش الروم، والخيانة التي قلبت ممالك الرومانيين، والبغض الذي شتت شمل لبنان وزعزع أركان دمشق.
ثم تنمو به الصفات الداعية إلى جلالة العمار كالشجاعة والنباهة والمحبة والاتضاع والدعة والإحسان والوفاء والأمنية؛ إذ يعود خبيرا بغوائل تلك الأطوار الطالحة، وعليما بنتائج هذه الصفات الصالحة.
فبدون تثقيف العقل إذن لا يعد الإنسان إلا مع البهائم التي لا عقل لها ولا يمكن أن يدعى متمدنا قط.
الدعامة الثالثة: تحسين العوائد والأخلاق
إن النظر إلى عوائد البشر وأخلاقهم يعتبر كأعظم دليل على حالة تمدنهم ومقامه، فكلما كانت هذه العوائد والأخلاق جيدة كان تمدن أربابها جيدا وعاليا، وكلما كانت قبيحة كان قبيحا؛ ولذلك يجب على الشعب الداخل في دائرة التمدن أن يبذل الاعتناء كثيرا في تحسين عاداته وأخلاقه كي لا يكون تمدنه من باب الدعوى لا الحقيقة كما يشاهد ذلك في كثير من الأمم، ولما كانت العوائد والأخلاق تارة تعتبر في الخصوص وأخرى في العموم وجب أن يكون كلامنا عليها خاصا وعاما.
أولا «الخاص»:
إن المراد هنا هو النظر إلى تحسين العادات والأخلاق الشخصية؛ أي التي تخص الشخص المفرد، وهي إما طبيعية أو أدبية؛ فالطبيعية تدعى ملكات، والأدبية عادات. وجميعها يرجع إلى التطبع لأنه الأصل لجميع هذا الباب؛ ولذلك يجب عليه أن يكون المدار. فنقول إن الإنسان حينما يولد على الأرض يكون خاليا من جميع العوائد والأخلاق جيدة كانت أو رديئة، ولا يوجد فيه شيء سوى الاستعداد إلى التطبع، فإذا كان استعداده جيدا مال إلى قبول الجيد، وإذا كان رديئا مال إلى قبول الرديء. فلا يوجد لتحسين العادات والأخلاق الشخصية أهم من إخضاع الاستعداد الإنساني منذ نعومة الأظفار إلى التطبع بالطبائع الحسنة والتخلق بالأخلاق الجيدة. على أنه في هذه المدة من الحياة تكون الطبيعة شديدة الخضوع لقبول التأثيرات والانفعالات؛ فلذلك كل عادة وجدت في الحداثة ولم تستدرك طبعت أثرها على الفطرة وكانت ملكة عند الكبر لا تسمح باستئصالها إلا تحت مشاق التعب الزائد وهكذا كل خلق. ومتى حصل الانتقال إلى سن البلوغ فصاعدا صار التطبع صعبا جدا على الطبيعة ولا يعود للملكة سلطان عليها، بل تصير خاضعة لغلبة العادة التي ليس لإزالتها صعوبة.
أما كيفية ذلك الإخضاع للاستعداد الإنساني، فهي تتم بإمالة الأميال عن التطبعات بالعوائد والأخلاق المنكرة وإلحاقها بالمقبولة، ولا يمكن التسليم بكون الشخص متمدنا ما دامت عوائده وأخلاقه غير موافقة لما يقتضيه التمدن من التعود والتخلق.
فلا يتفق التمدن مع ملكة السكر؛ لأن ذاك يطلب تقوية أفعال العقل بتصحيح التصور وإصلاح الحكم وتنشيط الذكر، وهذه تقتضي إضعاف الأفعال العقلية بإيقاع الخمول وإفساد الأحكام وإلقاء الهذيان. ذاك يستلزم حسن الصفات كالأناسة واللطافة وعزة النفس، وهذه تستدعي قبح الأوصاف كالتوحش والكثافة والدناءة. ذاك يطلب الالتفات إلى الأعمال والأشغال والنشاط، وهذه تطلب البطالة والتواني والكسل. ذاك يستميل إلى المحافظة على الصحة ورفع أسباب الأمراض، وهذه تطرد كل قانون صحي وتفتح سبيلا عظيما لنهوض كل مرض عضال كالحدار والتيبس وسوء الهضم والاستحالات الآلية ونحو ذلك.
ولا يتفق التمدن مع عادة النهم؛ لأن ذاك يطلب الاقتصار على كفاية الطبيعة طبق إنسانيتها، وهذه تطلب تحميلها فوق طاقتها فتكسيها الأخلاق البهيمية. ذاك يطلب الترتيب في المعيشة حذرا من وثوب الاحتياج، وهذه تقتضي كثرة الانهماك فتكون داعية إلى الحاجة.
ولا يتفق التمدن مع ملكة الفجور؛ لأن ذاك يستلزم الطهارة والعفة، وهذه تستجوب الدنس والشهوة. ذاك يلتمس الدعة والتعقل، وهذه تبغي الشراسة والحمق. ذاك يطلب الاستحياء والأدب، وهذه تقتضي الوقاحة والعهارة.
ولا يتفق التمدن مع خلق الكذب؛ لأن ذاك يطلب الاستقامة والحقيقة، وهذا يقتضي الاعوجاج والتزوير. ذاك يستلزم الأمانة والثقة، وهذا يستدعي الخيانة والنكث. ذاك يدعو إلى النصيحة والتحريض، وهذا يستميل إلى الخديعة والغش. ذاك يجعل الإنسان مكرما محبوبا، وهذا يصيره مهانا مبغوضا. ذاك ينهج بصاحبه طرق السعادة والغنى، وهذا يطرحه في وهاد النحس والفقر.
ولا يتفق التمدن مع عادة النميمة؛ لأن ذاك ينادي بقبح الكشف عن الأعمال السرية للبشر، وهذه تصرخ بإعلانها لدى الآفاق. ذاك يسدل ستارة الخفاء على كل النقائص والعيوب، وهذه مهتمة بخرق كل ستارة. ذاك يفتح صدر الإنسان لدخول الأسرار فيه، وهذه تغلقه وتجعل صاحبها مجتنبا من جميع الناس وممقوتا.
ولا يتفق التمدن مع خلق الغضب؛ لأن ذاك يطلب الهدو والتأني في الأمور، وهذا يطلب الضوضاء والعجلة. ذاك يطلب إرضاء الناس واستمالتهم، وهذا يستلزم إسخاطهم وتنفيرهم. ذاك يقتضي البشاشة والطلاقة، وهذا ينتج الوجوم
2
والقنوط. ذاك يجذب بركات الجماعة إلى وجه صاحبه، وهذا يسبب اللعنات.
ولا يتفق التمدن مع الجبن؛ لأن ذاك يطلب الثبات والصبر على الأهوال والمصايب، وهذا يطلب التقلقل لدى كل حادثة. ذاك يقتضي الإقدام على تشتيت المخاوف والمزعجات، وهذا يقتضي الفرار من كل شيء. ذاك يستوجب استصغار المستكبرات، وهذا يقتضي استكبار المستصغرات.
فجميع هذه العادات والأخلاق الشخصية وأشباهها مما لم يذكر لا يمكن اتفاقها مع قوانين التمدن؛ ولذلك يجب استئصالها من الناس وتربيتهم على أضدادها ولو دعا الأمر إلى صعوبة قصوى، وبهذا يقوم التحسين المطلوب هنا في الكلام الخاص.
ثانيا «العام»:
إن كرور أزمنة الجهالة على بعض البشر وتقلبات الظروف فيما بينهم قد أحدثت فيهم كثيرا من العوائد والأخلاق التي تنكر عليهم إذا دخلوا في نظام التمدن؛ ولذلك يجب أن يجتهدوا كثيرا في إزالتها ويستبدلوها بما يناسب روح العصر.
فلا يعتبر أولئك المدعون بالتمدن إذا كانت بيوتهم مشحونة بالأثاث العقيم كالفضة والنحاس وأنواع الخزف والأقمشة، ولم يوجد فيها كتاب أو مياومة ولا أدنى آلة للعلم. لكنما اعتبارهم يقوم إذا كانوا يعلمون أن زينة العقل تفوق زينة المسكن، وأن هذه نتيجة الأجيال المظلمة التي كانت تنطبق على الفخفخات والعظمات الفارغة، وتلك نتيجة الجيل المتنور الذي لا يقبل ما لا نفع فيه.
ولا تعتد بهؤلاء المتظاهرين بالتمدن إذا كانت رءوس نسائهم تتشعشع بأنوار الأحجار الكريمة ذات الثمن الوافر والعديمة الثمرة، ولم يكن في تلك الرءوس أدنى شعاع للعقل والآداب، بل يعتد بهم إذا رفعوا جميع تلك الظواهر الخيالية وأثبتوها للنفقة على تعليم نسائهم وتهذيبهن، كما أنهم لا يعتبرون أصلا مهما ضيقوا أثوابهم وأطالوا خيزراناتهم وهرولوا مسرعين إذا لم يوسعوا أفكارهم ويقيدوا جماح أميالهم المنحرفة.
ولا اعتبار لأولئك الذين ينفقون المبالغ الوافرة على تجهيز المآدب الفاخرة والولائم الحافلة في أيام المواسم والأعياد. ولا يدفعون فلسا واحدا لعمل الخير، لكنهم يعتبرون إذا جعلوا ذلك الإنفاق مخصوصا للأعمال الخيرية وعلموا أن عظمات المآدب والولائم إنما كانت معتبرة في هياكل الوثنيين عند تقديم الضحايا لآلهتهم يوم الموسم أو العيد.
ولا يعد مع المتمدنين أولئك الذين يتسابقون مسرعين إلى منازل بعضهم في الأيام الموسومة عندهم بالرسمية خابطين تحت شمس الصيف وغباره، وخائضين في أمطار الشتاء وأوحاله. ولا يوجه أحد منهم خطوة واحدة إلى فعل الجميل، وإذا وجد منهم من يقصد ذلك الفعل سد الآخرون طريقه بحجارة الملامة، كما يرجمونه بها لو تأخر في مسابقتهم إلى قضاء تلك الرسوم الباطلة.
ولا يقبل التمدن من تثور في أعراسهم صيحات زغاريت النساء وصراخات جوقات الرجال، خصوصا حينما يكون صدوح آلات الطرب داعيا إلى الهدو والسكوت، فهم يجمعون بين المتضادات؛ إذ يتركون الآذان مصدوحة ومرتاحة معا فلا يشتمون رائحة التمدن ما داموا معتنقين هذه العادة الخشنة.
ولا ينخرط في سلك المتمدنين كل أولئك الذين متى دخلت المنية بيت أحدهم نهضت ضوضاء الولاول وطارت صراخاتها الذريعة إلى قبة السماء؛ بحيث تقشعر الأبدان انفعالا منها ويستولي الكمود والانزعاج على كل سامعيها. ولكن قد يضمون إلى عقد التمدن بشرط أن يبطلوا هذه العادة القبيحة ويعلموا أنها موروثة من أزمنة عرب الجاهلية الذين كانوا يكلفون الطبيعة الإنسانية في هذا الأمر ما تستعمله بعض الحيوانات، ويتحققوا أن إنسانيتهم تكون ساقطة سقوطا حقيقيا حتى إنها لم ترث من أولئك القبائل سوى تلك العادة المستقبحة، وتركت كل ملائحهم الجليلة مثل الكرم والنخوة والحماسة وحماية الجار وقبول الضيف وهلم جرا.
وهكذا لا يدعون متمدنين كل الذين يجعلون الحزن شريعة ظالمة إلى حد أنها لا تسمح قط لمن يدخل تحت لوائها أن يستعمل أدنى شيء من لوازم الطبيعة إلا بعد بضع سنين؛ فلا يمكنه أن يخفف عنه حرارة الصيف بلبس الثياب البيض ولو اقتضى ذلك إلى الإضرار بصحته، ولا يقدر على تنقية جسمه من الأوساخ وتنشيط وظيفة التبخير في ذهابه إلى الحمام ولو افترس القمل جلده وأهلكه الاستقساء، ولا يستطيع الخروج إلى البستان لأجل استنشاق الهواء النظيف ولو تسرطن جميع دمه، ولا يؤذن له بسماع آلات الطرب أو أصوات الغناء ولو أوقعته الأكدار في داء المراق، ولا يسوغ له أن يصنع في بيته شيئا من المأكولات الطيبة عند إحساسه بقبولها حذرا من قول الناس عنه إنه قليل الحس، ولكنهم قد يحسبون من أرباب التمدن متى علموا أن الحزن شريعة تطلب عكس ما ينسبون إليها، وأنه انفعال كلما حدث في النفس لا يكف عن استنهاض ضده إيقاعا لرد الفعل، وكلما كان وقوع الفعل شديدا أو سريعا كان رده شديدا أو سريعا.
وهيهات أن يحسبوا متمدنين كل أولئك الذين يشرعون إذلال النساء وتحقيرهن وإهانتهن وربما ضربهن أيضا؛ بناء على أن هذا الجنس ساقط ولا يستحق أدنى اعتبار، مع أن الأمر على خلاف ما يظنونه؛ فإن الجنس النسائي جوهر لطيف للغاية وأهل لكل كرامة ويستحق كل الالتفات إليه، والطبيعة نفسها تدعو إلى إكرامه ومداراته؛ إذ إنه الجزء الأهم في الإنسانية، والمساعد العظيم لقيام الجنس البشري والينبوع الأول لتغذية الحياة ومواساتها في زمن قصورها.
ولا يحسب متمدنا ذلك الرجل الذي يزعم أن الإفراط في معاشرة النساء ومخالطتهن من واجبات التمدن غير عالم أن كثرة التهافت على المرأة تجعل الرجل ذليلا لديها، وكلما عز نفسا ارتفع عندها مقاما.
ولا تخلو سيماء التمدن على أولئك الذين عندما يتكلمون أو يتخاصمون يفغرون أفواههم ويرفعون أصواتهم إلى درجة تمزيق أوتار حناجرهم، حتى يكادوا يشاركون الجمل بجعجعته والثور بعجعجته والحمار بنهيقه. مع أن غاية التمدن هي نزع كل سمة بهيمية عن الإنسان. ولا تحسن ثياب التمدن على كل أولئك الذين ينزلون الخرافات منزلة الحقائق وينذرون بها على الآفاق غير عالمين أنه لا شيء يدنس تلك الثياب النقية ويلطخها نظير اعتناق الأكاذيب والأباطيل وإشاعتها. فهم تارة ينسبون إلى بعض الحيوانات خاصيات لو أمكن وجودها لكان الإنسان خليقا بها، وكذلك كنباح الكلب دلالة على حدوث مصيبة، ونعق البوم إشارة إلى وقوع خراب، وهروب الطيور علامة على قدوم وباء. وتارة يتهمون الأفلاك بما تفعله الظروف والأقدار؛ إذ ينسبون إليها كل الحوادث التي تتم على الأرض عموما وخصوصا؛ فيعطون الحرب للمريخ والسعد للمشتري والنحس لزحل والذكاء لعطارد وخفة الروح للزهرة والصقاعة للقمر وطبخ المعادن للشمس. هذا عدا أمور لا تعد ولا تحصى ينسبونها إلى كل من هذه الأجرام التي تقسم بذواتها إنها لا تعرفهم، ولم تطرح عليهم قط لا حربا ولا سلامة ولا سعدا ولا نحسا ولا غير ذلك فضلا عما ينسبونه إلى العين من التأثيرات وإلى الأحلام من التفسيرات.
فلا يمكن لأحد أن يحسن عوائده وأخلاقه التمدنية إلا إذا رفع من فكره الاعتقاد بمثل هذه الأكاذيب عالما أنها واصلة إليه من خرافات اليونانيين الذين كانت عباداتهم ورسومهم تسمح لهم أن يعتقدوا بمثل هذه الأضاليل.
وبالإجمال نقول: إنه يوجد شوارد شتى مما يقتضيه مقام هذا الكلام العام قد عدلنا عن جمعها حبا في الاختصار، إلا أنا نختم سياقنا هذا قائلين: إنه لا يمكن للتمدن أن يقبل في نظامه أدنى عادة قبيحة أو خلق رديء، ولا يقدر أحد على الدخول تحت ألويته ما لم يحسن عاداته وأخلاقه.
الدعامة الرابعة: صحة المدينة
إن أول شيء يستدل به على تمدن أمة ما أو توحشها هو النظر إلى حالة مدينتها، فكلما كانت المدينة صحيحة كان التمدن صحيحا، وكلما كانت سقيمة كان سقيما، أما كيفية هذه الصحة المدنية فهي تقوم تحت جملة أحوال، وأخصها ثلاث:
أولا «النظافة»:
إنه لا مناص للمتمدنين من بذل مزيد من الاجتهاد والاعتناء بتنظيف أسواقهم ومنازلهم تسديدا لطلب الطبيعة نفسها؛ لأن المراد من ذلك ليس نوال الغاية الأدبية وحدها، بل الغاية الطبيعية أيضا وهي إراحة الطبيعة الحيوية مما يقلق نظامها ويزعج وظائفها، ولا يوجد خطب أشد تأثيرا على هذه الطبيعة من دخول المواد الغريبة عنها إليها لا سيما إذا كانت مفسودة، فكما أن بعض الجواهر المعدنية لغرابة تركيبه يزعزع أركان البناء العضوي للجهاز الحيواني ويسلب مجموع حياته متى دخل إليه؛ هكذا تفعل الانبعاثات الفاسدة بالأوخام والأقذار عندما يحملها الهواء ويدفعها إلى عضو التنفس حيثما يتناولها الدم ويمر بها إلى مواقع التغذية.
فكم تقاسي الطبيعة من الاضطرابات المرضية المميتة؟ وكم تلتمس الإنقاذ بلسان حال الانزعاج الوظائفي عندما تمازجها هذه المواد الغريبة؟ فهي السبب الأعظم لتهييج الحميات الخبيثة كأنواع التيفوس والتيفوئد، كما أنها سبب قوي لتمهيد طريق الوافدات الوبائية المهلكة كأنواع الطاعون والهواء الهندي.
وبالإجمال نقول: إن الغاية الوحيدة للطبيعة هي قبول ما يناسبها لقيام حياتها ودفع ما يستنزل عليها صاعقة الموت بمغايرته لها ولو كان صادرا عن ذات فعلها. ألا ترى كيف أنها تجتهد في طرد التراكيب الصديدية التابعة لالتهاب ما عضوي إلى الخارج بواسطة النفث أو الغائط أو الاستطراق من المركز الانفعالي إلى بعض جهات المحيط البدني، حتى إذا لم يمكنها تتميم هذه العملية ودخل الصديد الفاسد إلى التيار الدموي ألقى عليها رعدة الاضطراب بإفساد جميع كتلة الدم وأماتها بعد نزاع شديد.
فإذا كانت الطبيعة لا تقبل ما يغرب عنها ولو كان آخذا صدوره من ذات أجزائها لعدم نفعه لها، فكيف تقبل ما يكون غريبا وأجنبيا معا، ومن حيث إن الأقذار والأوساخ لها أشد الأفعال السمية كما سبق. فلا يسوغ - والحالة هذه - تغافل أرباب التمدن عن ملاشاتها، ويجب الاعتناء الوافر بحفظ النظافة العامة للأسواق والشوارع، والخاصة للبيوت والمساكن فرارا من تلك التأثيرات الرديئة ومراعاة لحق المدينة. ولا شك إذا نظرنا إلى العمل البديهي الذي تصنعه الحيوانات بتنظيف ذواتها نأخذه دليلا على ضرر القذارة ووجوب النظافة ومثالا يقتدي به كل متغافل؛ إذ إن الحيوان لا يفعل إلا ما ترشده الطبيعة إليه طلبا لما يصلح شأنها ودفعا لما يفجع بها.
ثانيا «تمهيد الشوارع والأزقة»:
إنه مما يستدل أيضا على الحالة التمدنية لقوم ما هو ملاحظة كيفية الشوارع والأزقة، فمن أهم الواجبات للداخلين في التمدن إذن إفراغ الهمة في تحسين هذه الكيفية وإتقانها، على أنه لا يسمح لهم التمدن قط بترك الشوارع والأزقة ضنكة معوجة رديئة التبليط والتخطيط، بل يطلب منهم دائما أن تكون مستقيمة عريضة ممهدة البلاط والخط؛ وذلك لأن الشارع أو الزقاق إذا كان ضنكا يمنع سهولة تجدد الهواء ويعوق امتداد النور إلى مخادع الناس أو حوانيتهم؛ فيجلهم مستعدين للآفات الليمفاوية والدرنية كالسرطان والخنازير والسل والأورام الباردة والحدار واكمداد البشرة ونحو ذلك. وإذا كان معوجا فإنه يعسر انطلاق خطوات الناس فتتعثر أرجلهم وتتلاطم صدورهم وتتقارع جباههم؛ وحينئذ يكون السير في الزقاق عراكا لا انتقالا، وإذا كان وعرا مستويا فإنه يصدع أقدام الماشين ويسبب سقطات البهائم تحت أحمالها الثقيلة؛ فتتهشم حوافرها وتتكسر أرساغها، وذلك ينافي ما تطلبه الشفقة على البهائم التي لا نطق لها لتشكو مصابها وتندب عذابها، هذا ما خلا المؤيدات التي يجدها الشتاء هناك لأن يصنع بحيرات من الأوحال والأطيان بحيث يعود الناس ملتزمين لقوارب يخوضون بها ولا يبقى سبيل لسلوك العميان.
ثالثا «ترميم الأبنية»:
ومما يتخذ دليلا على تمدن المدينة أو خشونتها هو ملاحظة أمر أبنيتها؛ ولذلك يقتضي لقاصدي التمدن وفور الاهتمام في إصلاح شأن الأبنية والمشيدات، وهذا يتوقف على فحصها كل مدة لاستعمال حالة متانتها وثباتها فرارا من حدوث الأخطار؛ لأنه متى ترك الناس جسرا لعبور السنين بدون ملاحظة أمره أحدثت فيه طول الزمان تقلقلا ووهنا فيعود خطر هبوطه قريبا، وخصوصا في أيام الشتاء عندما يصبح عرضة لصدم الرياح واندفاق الأمطار فإن سقوطه إذ ذاك يكون عظيما.
ولما كان تعرض الناس إلى اقتبال هذا الخطر كثيرا وجب على جميعهم تواصل التدقيق على حالة الأبنية من الداخل والخارج لكي يمنعوا بذلك أخطارا عظيمة تنهددهم على ممر الدقائق ويدخلوا إلى منازلهم بسلام آمنين.
الدعامة الخامسة: المحبة
هو ذا رنين صوت الكون العالي يدوي في أعماق العالم العقلي ليستفز سكون الأرواح الفكرية إلى التطاير بأجنحة التخيلات السرية على دوح الوجود العام، حيثما يمكنها اختطاف تصورات تدعو القوة الحاكمة إلى أن تحكم بأن الناموس الذي جعلته حكمة العناية ضابطا لمجموع نظام الخليقة هو المحبة نفسها التي يختلف اسمها باختلاف موقعها. فها هي هذه المحبة قد صعدت على منبر ذلك النظام العظيم، وشرعت تنادي بصوت الغوامض هكذا: اسمعي أيتها السماء فأتكلم وأنصتي أيتها الأرض. أنا التي قد جمعت شمل الذرات الأولية فكانت أجراما تتلامع في قبة السماء، فلماذا دعيت التصاقا؟ أنا التي قد أوثقت هذه الأجرام برباط الانضمام فكانت أفلاكا تدور حول بعضها، فلماذا سميت تجاذبا؟ أنا التي قد ألفت بين العناصر المختلفة فكانت مملكات تزهو بمجد الارتباط، فلماذا لقبت تماسكا؟ أنا التي قد فتحت في أجناس الحياة مسالك الميل إلى أن تحافظ على أنواعها، فلماذا دعيت تناسلا؟ أنا التي قد جمعت أشتات البشر إلى هيئة واحدة فكانوا متعاضدين في حروب الحوادث فلماذا سميت اغتصابا؟ أنا التي قد قفلت مصارع البحر وأتخمت كبرياء لججه، فلماذا أدعى جزرا ومدا؟ أنا التي حيثما نزلت عمرت وحيثما رحلت خربت، فلماذا لا يكترث بأمري؟ أنا التي لا تغتني الطبيعة عني ولو طاردتني فلتات الأقدار، فلماذا ينكرني البعض؟ أنا التي اتخذني التمدن دعامة قوية له وبدوني لا يثبت له بناء، فهل يهدمني إلا كل متوحش؟
ها قد عظمت دعوى المحبة وتفاقمت إلى الغاية؛ لأنها قد جعلت لنفسها ربط العالم بأسره، وجعلت جميع الأسماء المستعملة في التعبير عن القوة المؤلفة مترادفة على معناها، حتى كأنها تود أن تشرح بذاتها معنى تلك المحبة الجوهرية التي قد أنشأها الباري بذاته أزليا، وأصدرها كلمة لتدبير الأكوان التي بها كانت وبغيرها لم يكن وبغيرها لم يكن شيء مما كون.
مهلا مهلا، فلا عاد يقدر هذا الكلام على إتمام سيره؛ فقد حاولت الاستطراق إليه أشواط المنتقدين، وها غبار أغراضهم بدأ يتصاعد عن بعد، وكل منهم فاغر أتون فاه ليقذف دخان التفنيد، فالبعض يعبسون وجوههم ويقولون هو ذا يستنتج من هنا ألوهية حركة الموجودات، وآخرون يرفعون أنوفهم ويقولون: ها. ها. إنما يستفاد من هذا الكلام كون الكلمة ممتزجة ماديا في عموم الموجودات. وغيرهم يحملقون بأعينهم ويصيحون: هذا تعليم الماديين نفسه. وهذا فضلا عمن سيبسط عثنونه ويقول: كيف يسوغ لمن لم يسلم على عتبة مدرسة أن يتكلم عن اللاهوتيات بشيء لم يسعه إدراكه؟ وعلى أي قاعدة أثبت حكم القوة الفاعلة للقوة المنفعلة وضعضع الروحيات بالماديات؟ ثم يشهر المدرسية سيوف الشتائم مجردة من أغماد شهادات مزورة، ولكن ليأخذ حذره من انتقام الشبل عن الأسد.
أما لسان الصواب فيقول لذوي الدقة في التأمل هكذا: إن المراد من دعوى المحبة العامة ليس أن تكون هي نفس الذات الإلهية منبثة في جزيئات الخليقة، بل إنها هي القوة التي جعلها الله لتحريك الخلائق وتدبير الكائنات تحت أشكال مختلفة تدعى الناموس العام، وإذ ذاك فيكون المراد هو الإشارة إلى أن الإنسان إذا كان يحب نفسه فهو ملزوم تبعا لهذه المحبة أن يحب شبيهه بالإنسانية تسديدا لحق كماله الطبيعي؛ وذلك اقتداء بخالقه الذي عندما رأى ذاته ملء الكمال أحب ذاته وبمحبته هذه خلق العالم محبوبا منه وجعل يدبر هيئة نظامه بما لم تدركه أفكار الطبيعيين؛ فأعطوا لكل حركة اسما مبهما. فينتج إذن أنه بالمحبة قد قام العالم جميعه، وبالمحبة تتحرك جميع الأشياء، وبالمحبة يثبت كل من المخلوقات على حدته، وبالمحبة يحافظ الكل على أجزائه وهكذا. فبدون المحبة بين البشر المطبوعين على فطرة الله لا يمكن قيام نظامهم الاجتماعي على الوجه المطلوب؛ إذ إن المحبة هي القوة الوحيدة للتأليف بين أفرادهم المتفرقة على وجه الأرض، والضابط الأول لنظام عالم تمدنهم، بخلاف البعض الذي ينزل منزلة القوة الدافعة بين الأجسام فيبعدهم عن بعضهم ويشتت شمل هيئتهم ويسلبهم راحة الحياة المحبوبة لهم بالظفرة الأصلية.
فلا يخطئ من يسمي المحبة إلهة الهيئة الاجتماعية بناء على ما يصدر عنها من المفاعيل الغريبة والتأثيرات العجيبة بين البشر، فلو أقيم لها وثن في هيكل الذهن لكان على شكل غادة كلها جميلة وليس فيها معاب إذ تجمع من الصفات ما يتقرر في هذه الأبيات:
على وجهها نور الصلاح يلوح
ومن ثغرها عطر الفلاح يروح
وبرق الهدى من لحظها متألق
ومبسمها بالطيبات يفوح
وفي خدها ورد المسرة ينجلي
لنا وبه قطر الهناء صريح
وقد لها يهتز عن طرب كذا
على غصنه طير السلام صدوح
رعى الله قلبا فيه قد صاح صوتها
وقاتل قلبا فيه ليس تصيح
هي الأصل في الأكوان فهي مثابة
لكل قلوب العالمين تريح
بها تحسن الدنيا بها تفضل الورى
بها كل شيء صالح ومليح
لدى وجهها تجثو القبائل كلها
وكل سجود لا يعاب صحيح
بها كافة الأجيال غنت وقد أتى
لها من جميع المنذرين مديح
هي الكوكب السيار في فلك الدنا
به السعد يغدو والنحوس تروح
فلا يسمح التمدن بالدخول تحت لوائه لأحد ما لم ينصب في هيكل قلبه تمثال المحبة مقدما بخور الأفكار الطيبة والعواطف الجيدة وصارخا بلسان الروح هكذا: ها هنا يجلس التمدن على عرش الكمال فتتخذق أمامه بيارق الخشونة ويمزق التوحش ثوبه. هنا تخب بلابل السكون على منابر شجر السلامة فيصمت صياح القلق ويخفي الإضراب صوته، هنا ترن صنوح الأفراح وتضرب طبول البشائر فتخرس صرخات الأكدار ويتلاشى ذوي المصائب. هنا يشرق صباح الأعضاء ويتلامع شعاع التغاضي فيغور ديجور الضغينة وتنجاب الظلمة عن الحق، هنا يتبدد دخان الانتقام ويتقشع ضباب الغضب فيتضح أثير الصفح ويتلألأ ضوء الرضا، هنا تنفطر صخور القساوة وتمور جبال الجفاء فيجري سلسبيل الشفقة وتتمهد سهول الوفاء، هنا ثغر الابتسام ويضحك محيا الندى فيجم جبين الاكتئاب ويبكي وجه القتار، هنا يفرع غرس التمني، هنا يثمر غصن الرجاء، هنا تدور الهيئة على مركز التمام والكمال، هنا ينثل عرش العبودية وترفع الحرية بيارقها.
فإذا كان يوجد للمحبة أثمار طيبة المخبر وشهية المنظر كهذه الثمرات، فكيف لا تحسب إذن دعامة راسخة للتمدن؟ نعم إن التمدن لا يستغني عن هذه الدعامة أصلا، ولا يمكن ثباته بدونها كما لا يمكن وقوف قناطر الهيئة إلا عليها، وبعد ذلك فلا بد من وجوب حد للمحبة لا تتجاوزه لئلا تجانس ضدها في النتائج القبيحة، على أنه ولو كانت المحبة تحسب روح الانتظام البشري وحياته، لكن يوجد للإفراط فيها كثير من النتائج المضرة؛ وذلك كمعارضة السلامة مثلا لمشروعات الحرب حيثما تكون هذه المشروعات واجبة لإصلاح حالة ما أدبية. وكالمعاملة بالشفقة إذ تكون الصرامة واجبة وكإيقاع الأعضاء والصفح موقع الانتقام الذي ربما يوجد لازما للتعليم، وكالإسفار عن الرضا بينما تكون لوائح الغضب مطلوبة للتهديد.
هذه عدا ما ينتج عن إفراط المحبة الخصوصية في قلب شخص خصوصي لمحبوب ما فإنه وإن كان أصلا تتفرع عنه جملة غصون صالحة لتمدن صاحبه كتلطيف الروح وتهذيب الطبع وترفيع العقل والذوق وحسن المعاشرة، إلا أنه إذا بلغ أشده يترك وراءه جملة آفات تنكد عيش المعترى به وتسلبه كل راحته كقهر الحرية الذاتية مثلا، والاضطرار إلى البطالة، وإهانه الدراهم التي يدعوها البعض إله العيشة، وتسليم النفس إلى تأثير ثوائر الانفعالات الشاقة وتعاقبها؛ كالحزن فالفرح، والخوف فالجراءة، والتعب فالراحة. وهذا ما خلا التأثيرات الكثيرة التي تفترسه على ممر الأوقات، فلا يبرح قلبه في حضرة المعشوق هدفا لنبال العيون وموقد الجمرات الخدود وموقعا لرمح القوام وقدرا لغليان ماء المحيا. ولا تزال روحه في الغيبة أتونا لارتفاع لهيب الأشواق والأتواق، ومحلا لتناثر شرر الأفكار والتصورات، وميدانا لمسابقة خيول الأميال والعواطف؛ فيجيء الليل سهرا وأرقا، ويقضي النهار تعبا وقلقا؛ إذ يرى ذاته ضاربا في أودية الوحدة والانفراد حيثما يشاهد قلبه طائرا على أجنحة شياطين الوساوس والأوهام، خائضا في بحور الآمال والمطامع، وهكذا يرى العالم بأسره كأنه مرسح للغرام ويخال الكائنات جميعها تصور لديه ملعب الهوى وتتنفس بأماراته وخواطره؛ فيظن الشمس ممثلة لديه أشعة جمال الحبيب، ويحسب القمر رسم وجهه مطبوعا في مرآة الفلك ويخال الأهلة قلامات من ظفره، ويزعم الكواكب أعينا ترشق نظرات الرقيب، ويفترض الجبال منطوية على معنى أثقال الجوى، أو يظنها أوتاد التمكين خيمة السماء على عالم الهوى، ويرى السحاب سارقا دموعه والضباب ممثلا ولوعه. لا بل يرى طوفان نوح كعبرته ونار الخليل كزفرته، ويتخذ الريح رسولا لتبليغ الأشواق، ويرى الماء مقلدا له أنين العشاق، ويعاين الأغصان مترنحة بأعطاف المحبوب، والأطيار شاكية لوعة فراقه، والأزهار نافحة بعطر نفثاته، والغزلان تغزل بنظراته وتفك طلاسم لفتاته ونفراته. وهاك هذا القصيد شرحا للعشق العنيد:
ماذا ترى في العشق ماذا تزعم
يا أيها الصب الكئيب المغرم
هل فيه غير المؤلمات فدونه
مقل تسيل وأكبد تتضرم
إني نفقت العمر في سوق الهوى
بخسا ولم أربح سوى ما يؤلم
كم ليلة قضيتها وظبا الجوى
تدمي الحشى فيسيل من عيني الدم
وكأن صوت خفوق قلبي مزعج
صمت الظلام فيدلهم ويدهم
أصبو إلى برق الربوع إذا بدا
وأضج ما لمعت لدي الأنجم
أبكي لدى خطرات كل تذكر
والأفق يعبس والكواكب تبسم
والليل بحر هاج في عمق السما
فغدا به زبد المجرة ينجم
والشرق يلقي الشهب في جوف الدجى
والغرب يبتلع الجميع ويهضم
وأنا أحير كأنني ضب وفي
دوح الحشى طير الهوى يترنم
في كل جارحة تدب صبابة
وبكل عضو للغرام بدا فم
يا أيها الحب الذي تخفى لدى
أصواته كل الحواس وتبلم
كم راح يخبط فيك يا وادي البكا
قلب وكم سحقت بسيلك أعظم
ما أنت إلا دولة غزت الورى
وبظلمها كل امرئ يتظلم
أي السعادة في الغرام لربه
وسحابة البلوى عليه تغيم
فحياته مسلوبة ودموعه
مسكوبة وفؤاده متكلم
أيرق رب الحب نقطة لذة
وعليه بحر المؤلمات عرمرم
إني أرى وقت النعيم كخلب
يمضي وأوقات الشقاق تخيم
يا ويح من للحب عرض نفسه
جهلا فسوف يذوب فيه ويعدم
سلني أيا باغي الهوى أخبرك عن
أحواله فأنا به متقدم
إني علقت بذات حسن ما بدت
إلا وعنها البدر راح يترجم
خود إذا نضت اللثام بدا لنا
قمر بليل ذوائب متلثم
قد كلمت أحشاي بالمقل التي
فيها الجمال مسلم ومكلم
مقل لعيني نرجس أو أكؤس
لكن لقلبي أسيف أو أسهم
من وجهها نور الحياة لأعيني
يجلي ونار فنا لقلبي تضرم
لم ألق نفسي مفردا أو مصحبا
إلا وشوقي نحوها مستلزم
شوق يمثلها لطرفي كلما
غابت فينعم حيثما لا يغنم
فهي النسيم تطيب كيف سرت ولا
عين ترى خطراتها إذ تقدم
ماذا على عيني فؤادي قد جنى
حتى تعاقبه عقابا يعظم
طبعت عليه خيال غالبة النهى
فأحاطه لهب ودمع يسحم
فأنا بروح الحب مسكون فلم
للنار أو للماء رحت أسلم
من لي بها غيداء فوق جبينها
نور المحاسن والتعقل يرسم
وبسيف صاعقة الهوى ألحاظها
قامت تحاربني فأني أسلم
أنا لست أنعم في الحياة ولا أرى
حظا سوى معها ففيها أنعم
وكذاك لا أهنأ بكل تكلم
إن لم أكن معها بها أتكلم
فإذا نأت عني أعود على لظى
وأروح في خرس وعقلي يعقم
أترقب الطرقات علي ألتقي
معها وإن لمع التلاقي أبكم
ترنو إلي كذاك أرنو نحوها
والوجد في نظراتنا متبسم
ونصافح الأيدي وألسنة الهوى
تروي أحاديث اللقا وتترجم
تمضي فأرقب خطوها ونواظرى
تجثو لدى أقدامها إذ تقدم
وأعود في كبد تذوب ومقلة
عبرى وما عندي لسان أو فم
أقضي الدجى وأنا أحن إلى غد
وكذا يجيء غد وعمري يصرم
يا أيها الغد كم غليت دمي على
نار الرجا وإلى متى أتتيم
ولكم أحاطت بي تباريح الجوى
وغدا يساعدها القضاء المبرم
فهرعت نحو الروض معدوم القوى
أبكي وأفواه الأزاهر تبسم
أترقب البلوى وقلبي راقب
عددا من الآمال لا يترقم
قلب به استهوى الهوى عنفا إلى
وادي العنا فغدا يهيم ويلطم
وهاك هذه الأبيات الأخر تبيانا لما ينجم عن الهوى وما يعانيه أخو الجوى:
إلام ذاوت الخدر يجذبن أميالي
وحتام أهوى من تدافع آمالي
عيون المها بالله كفي فلم تذر
لكن بقلبي موقعا ربة الخال
ويا ظبيات الأنس نفرا عن الذي
يحب التي من حبه قلبها خالي
صريع بأدبار التي هدرت دمي
فلا حظ لي منكن قط بإقبال
مهفهفة تدنو الغصون لقدها
ويعنو لسامي وجهها القمر العالي
ولما تلاقينا معا بعد هجعة
من البين أورث في الحشى كل تشعال
لبثنا وكل مطرق دهشة اللقا
وصوت خفوق القلب مستنطق البال
وما بيننا الأشواق تلعب في الخفا
وتعرب عن الحال الهوى ألسن الحال
يود التقاء العين بالعين شوقنا
ويمنعه دمع لأعيننا مالي
فوا عجبا من عاشق رغب اللقا
ومذ ناله لم يغتنم غير بلبال
ولكنني لما تنهدت حسرة
وحاولت إطلاقي لتيار أقوالي
تحرك في أحشائها ساكن الولا
فألقت علي نظرة تنعش البالي
وقالت بصوت أرجفته يد الهوى
ولفظ كدر زان مبسمها الحالي
لك الله من صب حوى الصبر كله
فليتك لي أبقيت وزنة مثقال
فليس يليق الصبر إلا بمغرم
إلى غير ما يهواه ليس بميال
أقلت الهوى عند السوى فلك الهنا
ولو مضنى فالقصد بسطك يا قالي
فقلت يمين الله لم أذكر السوى
وحسبك تبريرا شواهد أفعالي
أنا لست ممن ينشئ الهجر والقلى
ولكنما أنت المقيلة إيصالي
غزوت جميع العقل مني والقوى
فلم يبق لي نطق لأشرح أحوالي
فقد سكنت دون الهوى ألسن النهى
كما حط عن إدراكه الزكن العالي
أراك فيعروني جمود وبهتة
ولا عجب فالسحر في وجهك العالي
على عدد الأنفاس ذكرك في فمي
وشخصك في قلبي وعهدك في بالي
أبات الليالي والشئون سواكب
على ما أقاسي من شجون وأهوال
على فرط أتواقي على عظم لوعتي
على طول أشواقي على سوء إقبالي
كذا يحكم العشق الظلوم بأهله
ويفتنهم فليحذر الرجل الخالي
فينبغي استعمال المحبة إذن على قدر الواجب وحسب الظروف التي تدعو إليها بدون زيادة ولا نقصان، أما ترى كيف أن الرئتين اللتين هما عضوا التنفس لا يتناولان من الهواء الذي به تقوم الحياة إلا ما يكفي لقيام هذه الحياة وما لا يؤثر عليهما ضررا بحيث لو عرضتا بأجمعهما إليه لفتك بهما وبكل الأعضاء عموما؛ فلمنع هذا الفتك الشديد تحفظتا منه ضمن حجاب متين وأخذتا تفتكان به رويدا رويدا.
فهكذا كل إنسان يجب عليه اعتناق المحبة عامة وخاصة وتحريكها حسب الاقتضاء بدون تسليم ذاته لجميع قواتها حذرا من فتكها به وتمزيقها جلباب راحته؛ وبذلك تقوم هذه الدعامة الخامسة للتمدن أو السلك الذي به تنضم فرائد البشر بعضهم إلى بعض.
وبعد أن ختم الفيلسوف مقالته هذه أثبت عينيه في الأرض قليلا كأنه يقصد إراحة فمه من كثرة التكلم، وجعل يخط في الثرى. ثم نظر إلى الذي كانت سحنته مرآة ترتسم عليها علامات صغيه وارتياح نفسه، وقال له: هاك دعائم التمدن، فإذا كان الإنسان قد خلق كاملا في الإنسانية متخلقا بصفات خلقته ومشبها بكمالاته لا يكون عندنا شك إذ ذاك في كون هذه الدعائم مرتكزة في قلبه حاملة اسم الناموس الطبيعي حسب تعليم الأيتيكا (الفلسفة الأدبية)، ولا يعود لنا ريب بكون تقلبات الظروف وكرور الأزمان قد قلقلت تلك الدعامات وأفسدت ذلك الناموس؛ وبناء عليه لا يكون عسرا تثبيت قلقلة الثابت وإصلاح فساد الصالح، ولا يحتاج هذه الأمر إلى مضي أجيال وقرون.
فتنحنح القائد ونظر إلى الفيلسوف بدعة وقال له: إن جميع ما شرحته عن التمدن وكيفية أصوله وواجباته أعلمه جيدا، وطالما أتعبت ذاتي في نشره بين الآفاق ورفع رايته، ومع ذلك أشكر فضلك على توضيحك إياه لي، ولكنني لا أزال أرى انتشاره بين شعوب مملكة العبودية عسرا وشاقا إلى الغاية ولو كانت دعائمه مرتكزة على قلب الإنسان الطبيعي. ومن المعلوم أن الفساد إذا أخذ سعته في محل ما ومكن ذاته خاصة تحت مجرى سنين كثيرة فلا يعد إصلاحه إلا ضربا من العبث، كيف تنصلح الخمر إذا صارت خلا؟ كيف يحيا العضو إذا تغنغر (أي أصابته الميتوتة)؟ كيف يرجع الحديد إذا صار صدئا؟
إن الخمر تنصلح باقتلاع الاستحالة الخلية منها بواسطة شيء من القلويات، ويحيا العضو المتغنغر بإرسال المنبهات والمنقيات إليه كأملاح النوشادر والكلس، ويرجع الحديد بتصعيد العنصر الهوائي منه.
وبينما كان الفيلسوف يجاوب القائد على قواعد فن الكيمياء؛ لمع جمهور يتسرب إلى جهة المحفل النوراني، وهو يتشكل بكتلته ويسرع تارة ويبطئ أخرى حسب أهواء عوارض الشجر، وكان يأتي منه صوت صليل حديد، ولم يزل متقربا حتى نفذ في المرسح الملوكي واستقبل بوجهه طفحات الأشعة، وهناك توقف عن التقرب، وعندما أجلت فيه طرفي وجدته مركبا من تسعة أشخاص مقيدين من أرجلهم بسلسلة حديد وزنجيين يجرانها من كل جهة، وجملة أشخاص لم أعلم شأنهم، ونظرت رجلا يتقدم الجمع وهو يعجل بخطواته ويستعجل.
ثم رأيت هذا المتقدم قد انفرد عن الجمهور وسار يطلب جهة العرشين، وإذ وصل جثا على ركبتيه خطفا ثم نهض وحناها منه بوقار ويداه مضجعتان على جنبيه. فأمعنت النظر فيه وإذا هو وزير محبة السلام، وإذ رآه الملك قال له: هؤلاء جمهور المردة. فأمال الوزير رأسه وأجاب بصوت منتصر: نعم، حل وثاقهم واجعلهم أمامي صفا. فنكص الوزير إلى الوراء ثم التفت للزنجيين وأشار إليهما بحل الوثاق ففعلا، وبينما كان الصف يتركب والأشخاص اللاحقون يبعدون إلى الخلف انحدر القائد والفيلسوف وجلسا حذاء عرش الملكة.
الفصل السادس
قواد الشر
أما أنا فرأيت المحل الذي أشغله لم يعد مناسبا لحق المعاينة والاستماع لكون أنظاري لا يعود أن يمكنها الإحاطة بجميع الأشباح، وآذاني صارت تعجز عن إيفاء حق السمع لما استجد من الضوضاء؛ فتركت هذا المحل وأطلقت خطوات التجسس حتى بلغت الجمهور المحتفل وانخرطت في سلك الأشخاص اللاحقين من حيث لم يشعروا بقدومي. فرأيت الجوق الذي كان موثقا بالأداهم قد صار صفا منتظما إزاء العرشين، والقائد والفيلسوف لم يزالا جالسين حذاء الملكة يخاطبانها بحديث لم أسمعه، ووزير محبة السلام واقفا بجانب العرش الملوكي وتلوح على وجهه سحنة التفكر العميق، والملك مرسلا نظراته لفحص الجمهور وعلى وجهه تتلاعب أطوار الغضب، وما لبث السكوت برهة أن التفتت إليه الملكة وقالت له بصوت احتفالي: قد استصوب الفيلسوف والقائد ما تناجينا به منذ هنيهة في أمر كيفية محاكمة هؤلاء الأسرى. - فليذهب القائد إذن وليحضر الأشخاص الذين عيناهم إلى المرسح. فما أتم الملك كلامه إلا ورأيت القائد قد وثب وثوب الجواد وطلب موقف الأجناد. وإذ أسدل السكوت ستاره ونشر الهدو شراعه، أخذت أتأمل الصف المأسور وأنتقد كلا منه وأنا ملتطم بين موجتي التعجب والارتياع وواقع في بحراني التكذيب والتصديق، فكان الشخص الذي هو مقدام الجوق رجلا حليف الشيخوخة قد امتصت الأيام ماء وجهه المصفوع بكفي الزجر والانتقام، وحرثت السنون سهلة جبينه، وندف الزمان على لحيته قطن الشيب، ولا يقدر على نصب قامته من ثقل الحوادث المتراكمة على ظهره، وكان جميع حرارة أعضائه قد تجمعت في حدقتيه اللتين كانتا تنثران شررا ودخانا، أما رأسه فكان متوجا بإكليل عتيق الزي قد نخره صداء القدمية، وعلى صدره لوح مكتوب فيه: هذا ملك العبودية.
أما الشخص الأول: بعد ذاك المقدام فكان رجلا ضخم الجثة، غليظ العنق، مفرطح الرأس والجبهة، أفطس الأنف، ثخين الشعر، سميك الشفاه، وكانت أرواح التبسم البهيمي تتراقص على وجهه، وضباب الجمود الحيواني مخيما على عينيه، وعلى صدره لوح مكتوب فيه: هذا قائد الجهل.
أما الشخص الثاني: فلئن كان منظره جميلا إلا أنه لا يخلو من جملة أطوار لا تلذ الناظر؛ فقد كانت سعة جبينه مضنوكة بغضون العبوسة، وبياضه مبلبلا بظلمة الشكاسة. وكان أنفه الأقنى مرتفعا ومحصورا كذي اشمئزاز، وأنفه وحواجبه المقرونة مزررة كذي غضب وسخط، وأعينه السود المبرقعة بنظر المحتقر والمستصغر، وفمه الأقاحي مفترا بابتسام العجب والتيه، وعلى صدره لوح مكتوب فيه: هذا قائد الكبرياء.
يا قاتل الله الجمال فإنه
ما زال يصحب باخلا متكبرا
أما الشخص الثالث: فقد كان رجلا تعجز عن تشخيص أمارات وجهه دقائق الفراسة؛ فأعينه الزرق قد كانت حادة الشخوص جدا حتى إنها إذا نظرت إلى شيء تكاد أن تجحظ من الحجاج وتطير إليه، وكان وجهه الأعبس يظهر كأنه مصاب بالاستسقاء لما فيه من انتفاخ الرياء ، وكانت جوارح بلبال التفكر حائمة على جوانحه. وهيئة بكاء الطفل ما كانت تبارح شفتيه، هذا عدا أهبة الهجوم التي لم تكن مفارقة عموم هيئته الضخمة، وعلى صدره لوح مكتوب فيه: هذا قائد الحسد والطمع.
أما الشخص الرابع: فقد كان رجلا كهلا وعلى رأسه عمامة قد مزقتها مخالب الدهور وغيرت ألوانها صباغات الأقذار، وعلى بدنه ثوب أنكرت نسجه جميع الأقمشة لما أودعت فيه الأوساخ من الزركشة، فإنه شبعان من الدسم وريان من الوخم، ويعلو هذا الثوب وشاح قد توشح بالغثة ونهشت أقطاره أنياب العثة، فلا يحصى إلا مع الأحلاس ولا يعتبر إلا اعتبار الأدران والأدناس. أما وجه هذا الرجل فقد كان بيضيا، ومشهده دريا، ونظره لا يفتر واقفا على ما يلائمه وقوف شحيح ضاع في التراب خاتمه. ويداه قد كانتا منقبضتين بانقباض يد النخيل على ذهب ولجين. وهما مموهتان بالأوزار ومطليتان بالأقذار، وعلى صدره لوح مكتوب فيه: هذا قائد البخل.
رأى الصيف مكتوبا على باب داره
فحفه ضيفا فقام إلى السيف
فقلنا له خيرا فظن بأننا
نقول له خبزا فمات من الخوف
أما الشخص الخامس: فقد كان رجلا ذات طلعة صفراء، وحلة سوداء، وأسنان مكزوزة، وأصداغ مهموزة. وكانت جبهته تسبح في الكدر، وأعينه تنثر الشرر، وكأنه مشمول بهم عظيم، ومأخوذ بغم أليم، وعلى صدره لوح مكتوب فيه: هذا قائد الضغينة.
أما الشخص السادس: فقد كان إنسانا صغير الرأس متطاوله، كبير الفم فاغره، ظاهر الشدق قصير القامة، وكان على صدره لوح مكتوب فيه: هذا قائد النميمة.
أما الشخص السابع: فقد كان رجلا ذا أعين صغيرة التناسب، كروية الشكل، مضغوطة القزحية، متجاوزة حد البروز، وذا وجه متطاول مبطن ببشرة كثيفة مدلهمة، يعلوه أنف كالهرم المنبط ذو جناح منفرجة، وفمه كقطعة جلمود، على صدره لوح مكتوب فيه: هذا قائد الكذب والنفاق.
أما الرجل الثامن: فقد كان حامل بيرق الخيانة حسبما في لوحه مسطور.
وكل من هؤلاء الأشخاص كان مترديا بزي خاص؛ فهذا سابح في ثياب عريضة، وذا محشور في ضيق الملبوس، وذاك عارج على الركبتين؛ فلم أشاهد شبها بين الواحد والآخر. ثم بعد هجعة من الوقت رأيت القائد مقبلا وثمانية أشخاص يهرعون وراءه، ولم يزالوا حتى انتصبوا أمام العرشين وخروا ساجدين لدى العظمة الملوكية حيثما فصلوا بين المحفلين، وغب فترة ألقى الملك عينيه على القائد وقال له: أهؤلاء المعينون؟ - نعم (وحنا رأسه مع الجميع). - دع كلا منهم ينتصب أمام ضده لأجل الشروع في المحاكمة.
فأوعز القائد إلى المعينين بما أمر الملك فذهب ووقف حيث الإشارة. وإذ أثبت نظري على هذا السرب الجديد رأيت كلا مكللا بالغار واسمه مرسوما على جبهته بأحرف نارية؛ فكان الأول يسمى العلم، والثاني الاتضاع، والثالث الرضا والقناعة، والرابع الكرم، والخامس الصفح، والسادس الكتمان، والسابع الصدق والحق، والثامن الأمنية. وجميعهم كانوا متردين بزي واحد.
فما لبث السكوت فترة أن صرخت الملكة بصوت عال وقالت: تعال يا أيها الفيلسوف.
فوثب المذكور على قدميه وامتثل أمام الملكة وقال: مري العبد. - اصعد على قمة هذه الصخرة واشرع في الخطاب علنا، وليرن صوتك في جميع المرسح. أما أنت يا قائد جيش التمدن فتمنطق بسلاح العدل واذهب فقف على رأس ملك العبودية وتقو ولا تجزع.
الفصل السابع
المحاكمة
ففعل القائد حسب الأمر، وأسرع الفيلسوف وصعد على قمة الصخرة ووجه خطابه إلى ملك العبودية، وأنشأ يقول: أصغي أيتها العبودية لكلمات فمي، وأنصتوا يا جميع قواد الشر، هو ذا ملك التمدن قد انتصب على عرش جلاله، فلتنخفض دولة التوحش، وها ملكة الحكمة قد أبدت صوتها، فلتخرس أفواه الجهالة. أين شوكتكم يا مستعبدي البشر وأسنة الحرية لمعت في الآفاق؟ أين صولتكم يا عاملي الظلم وألوية العدل خفقت في الأعالي؟ زولوا فقد دهمتكم الغلبة، حولوا فقد أخذتكم الرعدة. ها قد هبت بكم عواصف القضاء المبرم إلى غاية الحق حيثما تصدح بلابل العدل وتتراقص أغصان الأمان تحت سماء التمدن العظيم؛ فلا عاد لسيوفكم مواقع ولا لنبالكم مرام.
العبودية
فاعلم يا ملك العبودية أن جميع شرائعك وأحكامك التي كنت توسوس بها في صدور الناس قد سقطت الآن مبانيها، ودثرت أصولها، ولم يبق لها مدخل في جميع العالم، وكل ملوك الأرض قد نهضوا ضدها، ولكن لم يزل بعض الناس إلى الآن متمسكا ببقية خبيثة من نواميسك التي قد نشرتها بينهم منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنتين وسبعين سنة، وهي استعباد بني البشر.
فمن المعلوم لدى العموم أن الطبيعة البشرية قد خلقت في كمال الحرية الأدبية وأن خالقها ذاته - عز وجل - قد منحها هذه السيماء الجليلة عندما أطلق لها عنان الاختيار بين الماء والنار، واضعا فيها معرفة الخير والشر ومبدعا في سجيتها حركة الانعكاف على هذا والانكفاف عن ذاك. فمن أين يسوغ لبني هذه الحرية الإنسانية أن يبيحوا تمزيق جلبابها بأنياب الأغراض لبعضهم بعضا؟ وكيف قد أمكن للإنسان منذ القديم أن يستحسن هذه الزلة القبيحة لدى الخالق والمخلوقات وأن يسلك في شأنها رغما عن كراهية نفس غريزيته لهذا السلوك؛ لأنه إذا دخل كل من الناس إلى مخدع ضميره إنما يرى ذاته نافرا كل النفار عن ارتباطه بعبودية غيره، ومتوجعا كل التوجع لمن دفعته الأقدار في فخاخ هذه العبودية الأدبية الخاصة، زيادة على تلك الطبيعة العامة السابق ذكرها. وليس الإنسان وحده ينفر طبعا عن هذه الغلبة بل أكثر الحيوانات أيضا، على أنه متى عارض حركة أميالها مانع ما ظهرت عليها حالا دلائل الانزعاج وأشائر المدافعة، فلا يبرح الأسد الواقع في القنص يزأر ويضج حنينا إلى الغاب والعرين، ولا يزال النمر الموثق بالسلاسل يصرخ ويعج رغبة في الوثوب إلى أعالي الجبال، ولا يفتر الكلب يهر وينبح طالما يكون مسجونا، ولا ينفك الطائر المأسور في القفص يخفق ويصيح شوقا للطيران إلى رءوس الشجر وهلم جرا.
فإذا كان الحيوان العديم النطق لا يحتمل مضض الرق، ولا يصبر على ضنك الاستعباد، فكم يكون الإنسان الناطق خليقا بعدم احتمال هذه المشاق عندما يقع في شراكها، وجديرا بطلب المناص. وكم يكون خشنا بربريا من يهجم على باعة الأسرى ليتعاطى بيع أو شراء أشباهه في الطبيعة وعدلائه في الحد والرسم؟! وكيف يمكن الإنسان الطبيعي أن يشاهد إنسانا نظيره مغلولا بقيود التعبد والأسر ولا يجم غضبا ويؤخذ بخواطر الشفقة والحنانة، لا سيما إذ يرى ذلك العبد الوجع القلب والمنكسر الخاطر مرتعدا إزاء مولاه الأليم القاسي كالفريسة بين مخالب الوحش الضاري؟! وربما أفضت قساوة ذلك المولى إلى ربط هذا المخلوق بالحبال وجلده بالسياط تحت مواقع العنف الشديد بدون أدنى رفق أو خشية آثام أيان دعا الداعي، وربما كانت هذه الحالة حتى إن هذا المسكين يعود صارخا ولا مجاوب مستجيرا ولا مجير مستغيثا ولا منقذ.
فهل يوجد قلب مستقيم لا يلعن عادة اتخاذ العبيد بين الناس حينما يعاين إنسانا يحوي كل الأخلاق الإنسانية متخذا له أسيادا من جنسه ومقدما كل حياته ضحية في هياكل أوامرهم المظلمة حيثما لا يجازى بسوى الضرب والشتم واللعنات، فلا يأكل خبزه الدنيء إلا بالتنهد والحسرات، ولا يشرب ماءه العكر إلا بالدموع والعبرات، ولا ينام على فراشه الحجري إلا قلقا بالأوجاع والأوصاب، وربما لا تكاد أهداب أجفانه أن ترتجف بمرور نسيم النعاس إلا ويهب من مضجعه هبوب العاصفة إذ يتخيل رنين صوت في أذنه أو هفيف وسواس ظانا أن سيده يدعوه لقضاء حاجة، أو سيدته أتت تنبهه ليأتي فيغير لها رفائد الولد أو يلهيه عنها إذا كان باكيا لكي يمكنها استيفاء لذة النوم، وهكذا فلا يعطس أنف الصباح أو يسيل مخاط الشيطان إلا على يقظته.
فهات أعرب لنا يا أيها السيد عن الامتياز الطبيعي الحاصل بينك وبين عبدك البائس، وقل لنا ما هو الفرق بينكما من حيث الشعور والإحساس. أخبرنا، هل تظن أن جلده الأسود لا يشعر بالفواعل عليه كنفس جلدك الأبيض؟ وهل تزعم أن شفاهه الغلاظ لا ترتاح إلى مناولة الأطعمة اللذيذة كعين شفاهك الرقاق؟ وهل تخال أن عينه المستديرة لا تشتاق إلى التمتع بطيب الكرى كذات عينك المستطيلة؟ وهل تفترض أن أنفه الأفطس لا يحس بالمشمومات الذكية نظير أنفك الأقنى؟ وبالإجمال نقول: هل تتوهم أن وجوده في بيتك تحت سلطان دراهمك التي بها اشتريته يجعله غريبا عن جنسك ومميزا عن نوعك وبعيدا عن حواسك؟ حاشا وكلا. إن جميع أعضاء هذا الأسير وطبيعته هي نظير أعضائك وطبيعتك، ولا يوجد بينكما أدنى اختلاف بسوى جلده الأسود الذي ربما يكون زاهيا ببياض الأفعال، وبجلدك الأبيض الذي ربما يكون مدنسا بسواد الأعمال.
فمن أين أبيح لك شراء الإنسان وعذابه وقهره يا أيها الظالم العنيت؟ وكيف تمكنك الطبيعة الإنسانية من مجاوزة حدودها وشرائعها بمثل هذه الأفعال الشريرة؟ ألم تتحرك في باطنك جوارح الشفقة عندما يكون هذا الغريب المسكين واقفا بين يديك القاسيتين مرتعدا مذعورا وعيناه مغرورقتان بالدموع، ويداه مبسوطتان لديك بكل ذل وهوان عسى يتقبلان منك العفو والرأفة على ذنب ربما يكون حسنة؟ أطلق هذا العبد الغريب فلا يسوغ لك استعباد الجنس البشري. أطلق هذا العبد الغريب فلا عاد يحتمل أثقال تهافتك ومضض خدمتك. أطلق هذا العبد الغريب فقد بح حلقه من الصراخ وذبلت عيناه من كثرة الرجاء، أطلق هذا العبد الغريب فقد تناثرت لحومه من مقارعك وخفقت قواه من أحمالك، أطلق هذا العبد الغريب فقد أجمع على إطلاقه كل ممالك العالم، وها رائحة بارود أميريكا منتشرة إلى الآن في آفاق المسكونة مما أثاروا من الحروب على مستعبدي البشر، أطلق هذا العبد الغريب أو يطلق ذاته رغما عنك آخذا الإسعاف من جميع الناس ومساعدا من نفس الحكومة المدنية بعد أن يستعطيك أجرة المثل. أطلق هذا العبد الغريب ولا تقل إن وجوده عندي خير له وماذا يعمل خارجا؟ لأن الله يدبره، وحسبه امتلاك بغية الطبيعة. أو خذه مستأجرا وارفع عنه ثقل سلطانك، أطلقه أطلقه فلا عاد يمكنك استئسار الإنسان، وسوف ترى أن نفس حضرة قيل مصر سيبرز أمرا بإبطال اقتناص العبيد من أعماق أفريقيا، وسيلاشي هذه العادة المذمومة من بلاده حسبما يقتضي اجتهاده بتقديم التمدن وتمهيد سبل خطوره مقتديا بولي نعمته جلالة السلطان العثماني الأعظم ذي الشوكة والاقتدار عبد العزيز خان، دام ملكه مدى الدوران.
وإذ كان الفيلسوف مسترسلا كلامه هذا كان الجوق القائم ورائي يعوج ويموج بين الطرب والكرب ضاجا بأصوات السلب والإيجاب، فكان هذا يقول: نعم، إن العبودية لا تحتمل ولا يوجد أصعب على الطبع البشري منها ولا أشنع من عادة اتخاذ العبيد. وذا يقول: لا، لا، ليس الأمر كذلك لأن الله خلق مولى وخلق عبدا؛ إذ جعل إناء للكرامة وإناء للإهانة، والكتاب نفسه قد أمر بطاعة العبد لمولاه وصرح بدعوى هذا ودعوى ذاك؛ فعلى أي أساس نبني بطلان العادة الآخذة مبدأها من سالف الحقب. وذاك يقول: بكل حق يجب نسخ هذه العادة الخشنة التي ينفر منها الطبع الإنساني، ولا يجوز التعبد لسوى الله الذي هو قال: «للرب إلهك تسجد وله وحده تعبد.» وما ورد من ذكر عبد أو أمة في الكتاب يأخذ مفهوم الخادم أو السرية أخذا يتضمن الانتماء البسيط من الفقير الباذل تعبه بحريته إلى الغني الدافع فضته بإرادته منتخبا هذا ومرذلا ذاك. وذلك يقول: إن هذا الكلام هذيان، كيف نترك عبيدنا الذين قد اشتريناهم بالذهب والفضة وأنفقنا عليهم كذا مصاريف من أكل وشرب وكسوة؟! (اسمعوا يا ناس، هل يطاق هذا الفشار العمي؟) ويقول الآخر: ليس الهاذي سوى من ينزل الإنسان منزلة البهيمة بالبيع والشراء والعلف، زاعما أن الزنجي أو المملوك الكرجي هو حمارنا ناطق، ولا يوجد فيه أدنى إحساس إنساني (ما شاء الله على النتائج الذهنية).
وبينما كان هذا الجوق المتجاذب يتبادل النضال، وإذا إيماء وزير محبة السلام يستوقف خطاب الفيلسوف المنتصب على الصخرة كأرز لبنان، وصوته يقول للزنجي الواحد هكذا: اشرح يا ياقوت هنا علنا ما رويته لي خفية. فتردد العبد خجلا ومهابة فأعيد عليه الأمر، فتقدم حينئذ هذا العبد الأسود قليلا وحنى رأسه أمام المظهر الملوكي، ثم نكص إلى الوراء والتفت إلى الحاضرين وافتتح كلامه بصوت منخفض يصعب استماعه، فناداه الوزير قائلا: اجهر صوتك، فجعل العبد يقص بكلام جهوري هكذا: إنه منذ خمس عشرة سنة بينما كنا ذات يوم أنا وأخي هذا مرجان (وأومأ إلى الزنجي الآخر) نسرح مع والدتنا في برية السودان على نحو غلوة من قريتنا، وكانت سني لم تتجاوز العشر، وسنه لم تبلغ الثماني. وإذا بقافلة من فلاحي مصر نظرناها تخب في القفر بين الأمواج الرملية المستعرة بإيقاد الهجير آخذة طريق جبال القمر حيثما يتوهم انبعاث النيل. فعندما نظر إلينا بعض الركاب أخذوا يعرضون علينا عن بعد قطعا كانت تتلامع بأشعة الشمس مظهرين قصد دفعها لنا، فهرعنا إليهم حالا رغما عن ممانعة والدتنا وقتئذ المشتقة عند حدس القلب. وإذ دنونا منهم على أمل قبضوا علينا سريعا وأردفونا على الإبل وأطلقوا الوخد ضاربين في أودية الرمال، فطفقنا نتباكى ونتصايح باسطين أيدينا إلى والدتنا التي كانت تولول وتنوح عن بعد بحنين يجرح الفؤاد، وتنسف الرمل على رأسها وهي تركض لتدركنا زاعمة إمكان إنقاذنا.
أما نحن فكنا نزيد في العويل ونبالغ في استنجادها كلما كانت تقرب منا. ولم تزل هذه المسكينة تجهد خطواتها حتى أدركت محلنا فأخذت تترامى على أقدام مقتنصينا سافحة دموعها السخنة وتتململ وتترجى بلغتنا التي لا يفهمونها صارخة بصوت يحرك الجلمود: أستحلفكم بما تعبدونه ردوا علي ولدي كرما لرب النيل، أعطوني ولدي ولا تتركوني أمت بفراقهما كمدا، ردوا علي ثمرة أحشائي وأنا أعطيكم كل ما أملكه من الخرز والقزاز. أما مقتنصونا فكانوا يزدادون قساوة كلما ازددنا بكاء وازدادت والدتنا انتحابا وململة؛ فكانوا يضربوننا ويزجرونها ويلطمونها في صدرها ويرفسونها بأرجلهم ويلقونها على الأرض، وهي لم تزل تندب وتذرف العبرات وتتوسل وتتضرع بأيديها وبكل أطوار وجهها، وهم لم يزالوا يلطمونها ويصرعونها حتى غشي عليها وانطرحت على وجهها معفرة وكأن لم يكن بها نفس، وما كادوا يبعدون عنها قليلا حتى أنعشتها أرواح الحنية وضوضاء عويلنا؛ فوثبت على أقدامها منهتكة وأطلقت المسير إلينا ثانية؛ فإذ رأوها قاصدة عادة الماضي مد أحدهم على هذه الأم المنكسرة الخاطر بندقية وأطلق الرصاص في أحشائها فسقطت على البساط المقفر وتلوت قليلا بتنهدات متقطعة وسلمت الروح متكفنة بالرمال.
وعندما وقعنا في اليأس من الخلاص صمتنا آخذين الصبر الذي هو سند المصابين عونا لنا. وأخذت الأباطح تسيل بأعناق المطايا التي كانت حاملة كثيرين من بني جنسي قنصا. ولم نزل نفري بطون السباسب والقفار حتى بلغنا الرستاق المصري. أما أنا فلم أعلم ذاتي بعد إلا مسلما بيد أحد تجار العبيد ومنادى على بيعي في سوق القاهرة؛ فاشتراني رجل من الأغنياء وأدخلني في داره للخدمة، وأما أخي فما كنت عالما ما تم به وكأنه صار نسيا منسيا، فجعل هذا الرجل يعاملني بأقسى المعاملات، وأخذت أطيعه الطاعة العمياء، ولكن لسوء حظي لم تكن طاعتي موجبة لراحتي؛ لأنني كلما كنت أزداد نشاطا وهمة في خدمته كان يزداد صرامة وقساوة، حتى إنه مرارا عديدة كان يربطني بالحبال ويجلدني بالسوط لأقل سبب، كعدم طيراني كالباشق حينما يدعوني، أو عدم إجرائي ما يكون في ضميره كالواجب، وطالما كان يقول لي: أما تعلم إرادتي؟ أما فهمت مزاجي؟ هذا وقد كنت في سن لا تسمح لي بعلم الضمائر الخاص بالله، ولا بفهم الأمزجة المنوط بالأطباء.
ولم أزل صابرا على هذا العذاب الأليم ومقاسيا صعوبات هذا المولى الظالم، حتى بلغت الثمانية عشر عاما وخرجت من مجزرته. وكان سبب خروجي أنه أرسلني ليلة ما لاستدعاء أحد جلسائه عنده فخرجت مسرعا لقضاء أمره، وكنت في أثناء طريقي أرفع نظري إلى الجو لأستعلم ابتداء هبوط الأمطار؛ لأن السماء قد كانت في تلك الليلة موشحة بالغيوم الكثيفة ومدلهمة على شكل مريع جدا، وكانت البروق تتلوى كالحية الرقطاء، وتنسحب من سحابة إلى أخرى مخترقة أعماق الفلك.
فما بلغت نصف الطريق حتى انفتحت ميازيب السماء، وانحل وكاء السحاب، وابتدأ يهبط برد عظيم كالحجارة؛ بحيث صرت أظن أن السماء شرعت ترجم الأرض، أو الضربة السابعة نهضت من كمين القدم. وكانت أصوات الرعود تزلزل أساسات المسكونة، وانتشاب الرياح ينسف الجبال نسفا؛ فأخذتني الدهشة والرعدة مما لم تتعوده عيني في تلك الديار لندرة حدوثه، فما كنت أشك حينئذ أن الخليقة جميعها تموج هلعا. ولما لم يعد يمكنني المسير خوفا من سحق حجارة البرد رأسي وتهشيمها عظامي، تواريت في إحدى الزوايا وصرت من جملة الخبايا.
وعندما انفطر كبد الغادية وأسفر البدر عن الأضواء لدى ساعة من هيجان الطبيعة، أطلقت أقدامي إلى تتميم الرسالة فلم أجد الرجل في بيته، فرجعت إلى سيدي وأخبرته بذلك فأزبد وأرغى واخرنطم وبرطم وحملق عينه الأتونية، وقال: لماذا تأخرت إلى هذا الوقت وتركتني أموت خوفا؟ - لأن هبوط المطر أدركني في نصف الطريق لذهابي. - ولماذا لم تعصه كما تعصيني وترتد حالا يا خبيث؟ - لأنه يكسر رأسي ويهشم عظامي، ومتى عصيتك يا مولاي؟ وكيف أرتد راجعا بدون تتميم أمرك؟! - إذن أنا لا أقدر على كسر رأسك وطحن عظامك أكثر من البرد، وهل جسدك الذي هو ملكي أفضل من إرادتي يا عبد السوء؟ ثم هجم إلى العصاء مكفهر الوجه والأعين وهو يردد هذا البيت البربري ماضغا ألفاظه:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
ووثب علي كالوحش الضاري، وصار يضربني ضربا عنيفا حتى إنه مزق جلدي وكاد ينثر لحمي وهو يقول لي بصوت أبج: هربت من غضب الله فأبشر بغضبي. وأخيرا قلت له: اتق الله يا ظالم، أي ذنب جرى مني يستحق هذا القصاص؟! فأجابني: أتعنفني يا أسود الوجه؟! اخس واخرس. ثم ذهب فأتى بمسد عازما على ربطي وتجديد الضرب، فلما رأيت حياتي وقعت في الخطر رفعت مهابته من قلبي وهجمت عليه غائبا عن الرشد والحس وواقعا في اليأس؛ فمسكت يديه بقبضتي ودفعته على الحائط دفعا شديدا، ورفست بطنه برجلي حتى كدت أخترط أمعاه، وقلت له: أقتلك أو تطلق سبيلي يا أسود الطبع. ولما أخذ يعاركني وهو في غليان الهيجان وإغراق الافتتان تناولت الحبل المعد لي وشددت به يديه ورجليه وألقيته موثقا بدون حراك. وإذ نظرت ذلك امرأته وأولاده أخذوا يصيحون ويضجون ليجمعوا الجيران؛ ففتحت الباب وطلبت الفرار وأبقيتهم في طغيانهم يعمهون.
وما زلت أركض هائما على وجهي حتى بلغت دسكرة فدخلتها وطلبت حجرة للنوم فأجيب طلبي، فتوغلت في هذه الحجرة وأغلقت الباب، ثم انطرحت على الفراش كالقتيل، ولم يكن ما يستنار به سوى سراج طفيف، ومن حيث إن أوجاعي وأفكاري كانت في غاية الثوران لم يمكن للغمض أن يمر بأجفاني، ولم يقدر الارتياح أن ينبث في عظامي. وبينما كنت أتأمل السراج الذي كان موضوعا نصب عيني وأنا مشمول بشمول السدر إذ رأيته يتراقص كفرائصي ويخفق كقلبي، وما لبث هكذا أن سلم روحه فاختطفتني موجة الظلام وابتلعني غمر الدجى وأطبقت البئر علي فاها، وما كنت أرى سوى ظلمة الموت، ولا أسمع سوى رمز الرياح المتلاطمة بين الأبنية؛ فصارت هوام الأوهام تتطاير في حرش مخيلتي تطاير الشرر المنتثر، وعادت غربان الوساوس تحوم على خربة رأسي من كل جهة حتى صرت أخال نفسي قائما في وسط جهنم.
ولم أبرح متقلبا على فراش القلق والأرق ضاربا في أودية الويل خابطا في لجج الليل إلى أن تبلجت كوة الحجرة بشعاع السحر؛ إذ علمت أن النجم قد غار على جواده الأدهم، والصبح قد أقبل على صهوة أشقر؛ فقفزت من مضجعي قفز الغزال المذعور، ووقفت في وسط المخدع لأجمع شوارد أفكاري وأنتخب منها ما يرشدني إلى سواء السبيل، وإذ أولجت يدي في جيبي على غير قصد إيفاء لما تطلبه بديهة الهجس فعثرت على بعض قطع الدراهم كانت مذخورة لمصروف بيت مولاي؛ فشملني الفرح للحال وقلت في نفسي: ها قد تسلمت زمام المستقبل. ففتحت المغلق وأطلقت عنان المسير، وإذ بلغت باب الدسكرة وجدت الرئيس مدلجا هناك فطلب مني أجرة المعرس، فأعطيته شيئا من الدراهم وواصلت الجري حتى أصبت الجسر، فما لبثت برهة أنتقد ذاتي أن رأيت ذهبية قاصدة الإسكندرية فركبتها وأخذت تفرط زرد الماء لدى مهب الهواء.
وبعد ثلاثة أيام بلغنا الإسكندرية فصعدت إلى البر وطلبت جانب المينا فصرت هناك عتالا، وبعد مضي خمسة أشهر خلعت أبهة العتالة وصرت ملاحا في إحدى المراكب العربية التي تشتغل في بحر الروم، ولكن بعد بضعة أشهر خطر لي أن أترك الملاحة وأدخل في إحدى المدارس التركية، وما ذاك إلا لأنني صرت أسمع شتيمة الجنس العربي واحتقاره من جميع الإفرنج الذين كانوا يصادفون مركبنا أو أحد ملاحيه، حتى إن أولادهم يظنون العرب هم نوع منقطع عن الجنس البشري، ولا يحسب إلا من جملة الحيوانات؛ لكثرة ما سمعوه من عبارات الازدراء والتحقير من آبائهم. فقلت في نفسي إن الجهل الفاشي في هذا الجنس أوجب انحطاط شأنه لدى هذه القبائل، ولو كان عنده مدارس كما عندهم ومساعدون على تقديم العلم ومحبة وطنية منزهة عن أغراض الدين لما أصبح أضحوكة عندهم، بل ربما يكون أرقى من جميع العالم علما لشدة حذقه الطبيعي وحزمه، ولا ينكر الغرب فضل العرب عليه. ولما تمكن من فكري خاطر الدخول إلى المدرسة بناء على أن كلا يعمل على شاكلته، تركت مركبنا وركبت بخاريا وقصدت الآستانة العلية دار السلام فوصلت إليها. وبعد قليل من وصولي طلبت الدخول في المدرسة العسكرية؛ ففتحت لي الأحضان وشرعت في الدراسة ناسيا كل ما جرى على رأسي.
وبينما كنت ذات يوم أتمشى على الكبري وقت الراحة، وإذا عبد نظيري يقول لي: نهارك سعيد همشري. - نهارك سعيد ومبارك.
وبعد أن تأملته بإمعان شعرت بشرارة كهربائية طارت من دمي وسرت في جميع مفاصلي فسألته: ما الاسم؟ - مرجان.
فازددت حنوا. - وكيف كان مجيئك من بلادنا؟ - بقوة الاختطاف. - وهل خطفوك وحدك أم خطفوا غيرك معك؟ - خطفوا معي أخي أيضا؛ لأنني كنت أتمشى معه في البرية وإذا جماعة من المصريين دنوا منا وخطفونا وقتلوا والدتنا لأنها رغبت إنقاذنا.
فما عاد لي شك أن هذا العبد هو أخي ذاته، وصارت عيني مغرورقة بالدموع وقلبي خافقا بأجنحة الأشواق والفرح، ولكنني اجتهدت في إظهار الجلد لأستتم التأكيد؛ فسألته: وما اسم أخيك؟ - ياقوت، وهو أكبر مني.
فقبضت على يده وقلت له: اتبعني لأريك أخاك. فأخذته إلى حجرتي على انفراد وقلت له: أنا هو أخوك ياقوت. فتعانقنا وتباكينا ساعة حتى أطفأنا بماء الآماق نار الأشواق، ثم قصصت عليه جميع ما جرى لي من الأول إلى الآخر، وبعدما بلغته ذلك طلبت منه أن يروي علي ما جرى له وكيفية وصوله إلى الآستانة، فقال: إن تاجر العبيد في القاهرة باعني إلى رجل إسكندراني، فذهب بي إلى الإسكندرية وجعل يستخدمني في بيته وأنا صغير لا أعرف شيئا سوى اللعب مع الأولاد، ولما بلغت أشدي باعني لأحد الأتراك فأخذني هذا الرجل وسافر بي إلى إسلامبول، وأبقاني عنده مدة سنة ثم باعني إلى رجل من كبار هذه المدينة، وها أنا منذ سبع سنين عنده. - وكيف معاملته لك؟ - بغاية الرقة واللطافة حسبما تقتضيه طبيعة أهالي الآستانة. ولكن مع ذلك أرغب جدا إعتاقي؛ لأن الفكر وحده بوجودي عبدا أو بكوني أنا وملك يدي لسيدي، وبأن حياتي وموتي بين شفتيه أو يديه ومتى شاء باعني ومتى شاء اشتراني؛ بحيث لا يوجد لي أدنى حرية معتوقة ولا حركة مطلوقة، يجعلني مائلا كل الميل إلى الحرية والانعتاق، ولو صرت خادما بأجرة حياتي فقط عند الرعاع. - إذن تشتهي الانعتاق؟ - نعم بكل قلبي. - فلماذا لا تطلب من سيدك ورقة إعتاقك؟ - وهل يسمح لي بذلك؟ - نعم؛ لأنه يعلم أن الحكومة لا تسمح بأخذ العبيد، وبأنها تلزمه بتحريرك إلزاما، فاذهب وخذ منه ورقة الإعتاق، وإذا منع ذلك فأنا المسئول.
فذهب من عندي، وبعد ثلاثة أيام أتاني ومعه ورقة الإعتاق، فأدخلته معي المدرسة، وبعد مرور خمس سنين خرجنا منها ودخلنا في خدمة دولة التمدن تحت راية جانب السلطان الأكبر. وها نحن بين أيديكم نرى أخصامنا بأعيننا ووثاقهم بأيدينا فأعز الله أنصار الحرية وأيد دولة الرفاهية.
وبعد تتميم الزنجي روايته التي كانت مؤثرة في جميع المحفل، جاذبة كل الالتفات إليها، أخذ السكوت موقعا نحو دقيقة؛ إذ كانت الملكة تمسح أعينها من الدموع التي استقطرتها رواية العبد، ثم التفت وزير محبة السلام إلى الفيلسوف الذي كان مضجعا على الصخرة بدون حراك، وأوعز إليه بإشارة أن يرجع إلى كلامه. ففرك الفيلسوف جبهته المرتفعة وأنشأ يقول: هذا ما يجب تبليغه لآذان ملك العبودية الذي إذا لم يسلك حسب مضمون ما تقرر لديه فلا قيام لمملكته إزاء تقدم هذا العصر الجديد، فليسمع قواده وأنصاره ما سيرد عليهم وليركنوا إلى الحق.
ثم التفت إلى قائد الجهل مبتدئا منه وجعل يقول:
الجهل
أما أنت يا أيها الجهل فمن أخبث الأرواح الشريرة التي تفسد في الأرض وتعضد يد العبودية وتخرب أبنية العلم. فما أنت إلا السبب الأعظم لأكثر الوبال الذي جرى ويجري وسيجري في المسكونة، والأصل الأول الذي منه قد نشأت فروع البدع والخرافات التي تجعل البشر عبيدا لأهوائهم وأباطيلهم وتحرمهم لذة حرية الحياة، فإذا كانت المسببات تستوجب مقدارا من الجزاء فالأسباب تستلزمه مضاعفا، فتكون إذن يا أيها الجهل مستلزما صرامة الحكم بمقتك من الناس وتبديدك وكسر شوكتك والنفار عنك؛ فإنك تعتبر كسبب موجب لتلك الآفات المحكوم عليها بالمقت والكراهية منذ بدء الخليقة، ويجب على البشر أن يعتنوا بإخضاع مملكتك لدولة العلم الذي حيثما نزل أنزل المجد والعظمة والكرامة. فبالعلم يجلس الإنسان على قمة كماله الطبيعي، ويعمل حسب استحقاق إنسانيته، وبالجهل يهبط أسفل السافلين ويتصرف كسائر الحيوانات؛ بذاك تعظم قوة الممالك وتتبين حدود الملوك، وبهذا تسقط القوات ويمد التعدي باعه، بذاك يقوم اعتبار الشعوب وتنتشر ثروة القبائل وبهذا يخفق جناح الاحتقار وينعق غراب الإقلال. بذاك قد تلألأ محيا الغرب، وبهذا قد أظلم جبين الشرق.
فكأن الشرق باب للدجى
ما له خوف هجوم الصبح فتح
ومع ذلك لا يجب على التمدن أن يستأصل جميع جذورك من أرضه يا أيها الجهل؛ فإنه لا بد من بعض دخل لك في غوطته استدراكا لشيوع الدعوى بتمام العلم مع ما بين غير أهله شيوعا لا ينكر ضرره؛ لأن الإنسان المدعي بالمعارف على غير أصل إنما ينشئ أضرارا جمة؛ إذ يزرع في عقول أصحابه ورفقائه الذين يثقون به قواعد وحقائق كاذبة باطلة، وهم ينقلونها إلى غيرهم إلى أن تشيع وتذيع، وربما صارت أساسات يبني الناس عليها ما يفضي بهم إلى الضلال والطغيان، فيعود مقتضيا لنفوذ أنوار الحقائق في أبصار بصائرهم عناء عظيم، ويكون سبب ذلك هذر الجاهل المدعي. فيجب إذن للتمدن أن يترك يدا لقائد الجهل في دائرته لكي يوحي إليه بواسطة تغلب العلم أن يلطم أفواه تبعته، ويضع أقفالا عليها؛ فلا يعودون يفوهون بما يؤذي؛ إذ يصيرون خاضعين لتبعة العلم ومجتهدين في نوال الحقائق قدر الإمكان، وعارفين أنفسهم أنهم منتسبون إلى الجهل. حتى إن المتوغلين في بواطن الأشياء أيضا كثيرا ما يلتجئون إلى حكم الجهل لكثرة ما يرون من المجهولات التي يفوتهم إدراكها، وكلما ازداد الإنسان علما ومعرفة وجد لحكم الجهل عليه اتساعا وغلبة؛ لأن نسبة ما يمكن علمه إلى عالم المجهول هي كنسبة ما يمكن للنظر إحاطته من البحر إلى ساحة المياه جميعها أو ما يمكن رؤياه من النجوم الظاهرة القليلة إلى بقية الأجرام المختلفة الممتنع عددها، فكما أن كروية البحر ورحابة الفلك تقدمان للنظر أمدا وعددا أكثر كلما ارتفع الناظر وقوى أسطرلابه إلى أن يحكم أخيرا أخيرا بعدم إمكانية الإدراك العام فيرجع بصفقة المغبون. هكذا العلم يعرض للدارس حقائق ومبادئ أكثر كلما ازداد توغلا فيه إلى أن يجزم أخيرا بامتناع الاطلاع المطلق، فيرتد ضاربا أسدريه آخذا الجهل عذرا له.
فعلى كل حال إذن يجب أن يكون العلم والجهل مترافقين في خدمة مملكة التمدن، ولكن بشرط أن يكون الثاني مردودا إلى الأول؛ وهكذا يكون كل منهما عارفا بواسطة رفيقه حقيقة حدوده، فيلبث الواحد مجدا في تمهيد مسالك العمار والطلب، ويرجع الآخر عن المعارضة إلى توقيف خطوات الخراب والدعوى؛ بحيث يصير هذا مدركا حده وذاك عارفا نفسه.
الكبرياء
أما أنت يا أيها الكبرياء فمن أدهى الأرواح التي تتعب في مرادها الأجسام، ومن أعظم القوات التي تجعل البشر سالكين تحت نير العبودية؛ لأنك تتركهم عديمي الحرية في تتميم مقاصدهم وواجباتهم. فتعدم كلا منهم جزءا كبيرا مما يخصه من الحقوق على الهيئة التي هي أيضا تفقد أهم حقوقها على أبنائها؛ بحيث يصير هذا محروما من التمتع بتمام الألفة والمخالطة، وتلك معاقة عما تطلبه من الانتظام والالتئام.
فهل دخلت يا أيها الروح الشرير في أحد إلا وتركته خابطا في لجة البلبال والتعب، وجعلته مرذولا ومبغوضا من جميع بني نوعه، فحيثما جلس رأى نفسه أرقى من محله وأعز من جلسائه، وإذا ألقى سلاما على أحد أو تكلم معه زعم أنه صنع تنازلا عظيما أو منح الفوز الكبير وإن اقتضته الحاجة إلى السؤال على أمر أو استفادة شيء ما من أحد الناس يقع في حيرة عظيمة واضطراب لا مزيد عليه، ويصير محلا لتنازع عوامل الطلب والترك؛ إذ يرى لسانه منبسطا إلى المطلوب وقلبه منقبضا عنه، فتثور في جوانحه نار الألوهية، ويأخذ في ضرب الرموز والإشارات على مقصده، عسى ينال الجواب والفائدة بدون تصريحه بسؤال رسمي. وإذا أعياه بلوغ المراد حاول أن يسبك السؤال في قالب قصد التنكير لمعرفة لا طلب التعريف لنكرة دفعا لنسبة الجهل أو الوقوع تحت المنة واختلاسا للفائدة. وإذا أوقعته الصدف بمرافقة أحد إلى الدخول في مكان ما حاول كل المحاولة أن يتقدم عليه ويبقيه خلفه. وهكذا لا يزال هذا المستكبر معجبا بنفسه عاقدا حواجبه، إذ يظن أن السماء تعنو لديه والأرض تجثو لأقدامه، مع أنه يكون بمقتضى هذه الأطوار مبغوضا وممقوتا من الجميع ومحلولا من وثاق الهيئة الاجتماعية التي تتأسف عليه جدا، كما أنه هو نفسه يندب ذاته ويتأسف على حياته المقيدة بسلاسل العبودية لكبريائه؛ إذ يرى حاله مقهورا لطبعه ومحروما من لذات الخليقة ومرذولا لدى الخلائق ومدانا من الخالق، فلا يعتبر إلا كورقة الخريف المستعدة للهبوط من أعاليها لدى أوهى حركة.
فقل لنا يا أيها الروح المتعجرف: من أنت وما أنت لنعطيك حقك؟ فإن كنت بشرا فما فضلك على البشر؟ وإن كنت ملاكا فأنت إبليس الاستكبار؛ إذ لم تسجد لآدم متواضعا. وإن كنت ملكا فأنت خادم الناس ما دمت كبيرهم، ولا تنفعك كبرياؤك عليهم، وستحل في قبر النسيان قبل حلولك في قبر الأبدان، وقد قال قبلك الملك والنبي داود: أنا داود ولست إنسانا. وإن كنت نبيا فما عندك آية سوى الكبرياء وهذه سيماء الدجال. وإن كنت رسولا فقد كذبت رسل من قبلك، وإن كنت من ذوي الفضل والإحسان فهذا من الواجبات البشرية ولا يسمح لك واجبك بالعجب والتكبر على غيرك، وإن كنت غنيا فثروتك لنفسك ولا تنفع بها أحدا ما لم تنتفع منه أولا، على أن الأغنياء والفقراء متبادلون حقوق المعيشة سواء. وإن كنت حيوانا فأنت مخضع تحت قدمي الإنسان؛ إذ تكون نعجة أو بقرة أو إحدى بهائم البقاع.
ومع ذلك لا ينبغي الرفض المطلق لقائد الكبرياء من مملكة التمدن حذرا من حصول الدناءة التي لا تليق بالبشر، بل يجب تركه مقيدا بحكم الاتضاع حتى يستوفي كل منهما حقه حسبما يقتضي الحال، فتكون النتيجة حصول عزة النفس المقبولة في شرائع التمدن، وزوال عبودية الاستكبار عن الأنفس.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يرفع نفسه
إلى طبقات الجو وهو وضيع
الحسد والطمع
ها قد وصلنا إلى هذا الروح الذي كثر شره وعظم ضره منذ البدء إلى الآن؛ أعني به قائد الحسد والطمع كعبة الشقاء وركن الفساد، فما أنت يا أيها الروح الشرير إلا آلة بها يفتك الناس ببعضهم، وبها نشأ كل كريهة وعدوان. فكم كنت سببا لسقوط ممالك وزوال ملوك وعظماء! فبك تشتت قايين إذ أوقعته في معصية القتل، وبك جمدت امرأة لوط إذ أطعمتها بسبر غضب الله، وبك طردت هاجر إذ نزلت في قلب سارة، وبك طلب يعقوب الفرار إذ أثرت سخط العيس، وبك سقط يوسف في البئر وبيع وأسر إذ فشيت في أرواح إخوته، وبك زهقت روح شاول إذ ملأته حنقا على داود، وبك تبلبلت دولة المكدونيين إذ أفرغت فيها سمومك، وبك قتل يوليوس قيصر إذ دخلت في قلوب أصحابه، وبك وبأفعالك قد رجمت الفلاسفة ورذلت العلماء وانخذلت الأمة.
فكم يجب على البشر أن ينفروا عنك ويبغضوك يا أيها الحسد والطمع؛ لأنك تجتهد على الدوام في إلقاء الحقد والبغض ما بينهم وفي تفريق شملهم؛ إذ تجعلهم أخصاما وأعداء لبعضهم إفرادا وإجمالا، فمتى دخلت في قلب إنسان جعلته عدوا مبينا لأنداده، ونازعته الراحة والحرية، فإذا كان ملكا أخذ يضارب الملوك ويشن الغارات عسى ينال المرتبة الأولى على الجميع. وإذا كان وزيرا جعل يناكد الوزراء ويوشي بهم عند الملك رغبة في الارتقاء عليهم، وإذا كان شريفا شرع ينم على الأشراف ويستهجنهم إزاء العامة ويقذفهم بكلمات الاحتقار أملا في أن يعمي عيون الناس عن أن ترى شريفا سواه. وإذا كان غنيا تاجرا طفق يسخر بالأغنياء التجار ويشنع بهم ويشيع عنهم أخبار الإفلاس لكي يفتك باعتبارهم مؤملا أن ينحط عمود ثقتهم بقوة ذلك التشنيع والإشاعة؛ فيسر فرحا، وإذا ساقه الحديث أخذ يسند غناهم إلى عامل الشح والبخل وإن كان هو أشح وأبخل، ولم يزل يتزايد حسدا حتى إنه ربما لا يعود يمكنه النظر إلى ثوب جديد غير ثوبه أو طعام لذيذ غير طعامه، وإذا كان عالما أو شاعرا أخذ يزدري بمؤلفات العلماء ويهزأ بقصائد الشعراء باذلا جهده في تحصيل زلاتهم وغلطاتهم على خطأ كان أو صواب، حتى إذا عثر على شيء من ذلك أخذ بوق الانتقاد وجعل ينشر بصراخه كل أموات الغفلة. وربما أفضى به الحال إلى أن يطرح من يده كل مؤلف أو قصيدة ممن سواه من العلماء والشعراء ولا يتنازل إلى القراءة حذرا من أن يرى فكرا أجل من أفكاره أو قاعدة لا يعرفها، وبقدر ما يرى من سمو أفكار غيره وجمالها يكون إشعاره بثوران لهيب غضبه وهيجان بركان انتقاده، وهكذا فقد لا يعود لفمه إمكان أن يلفظ بسوى الشتائم والمسبات التي أخفها قوله: بجق، علك، ركاكة. وذلك بدون إبراز أقل حجة يحتج بها. هذا إذا لم يطرح قياد العلوم والقرائح في عهدة الجنس أو المذهب، وقس على ذلك سائر المراتب والصنوف من البشر الذين يأخذهم روح الحسد والطمع. فكم يستفز هذا الروح شرورا وبغضا بين البشر! وكم يهتك بحرمة هيئتهم ويخترق ستار اعتصابهم!
فماذا ينفعك الحسد يا أيها الحاسد الجاهل؟ وهل تظن أن هذه السيماء توصلك إلى أوطارك وآمالك؟ حاشا لله. إن هذه السيماء لا تسديك سوى التقلب على النار الدائمة في الدارين، ولا تجديك سوى قلق الفكر وعذاب النفس والتنهدات والحسرات، وتجعلك مضغة في أفواه الناس ومهملا من الجميع.
ولا يخفى ما يترك الحسد والطمع من الشوائب الذميمة في الإنسان، وذلك نظير البغض والحقد والحنق والاختلاس وحب القتل والإضرار. وكل من هذه الأطوار الرديئة يترك وراءه أطوارا أخر أشد رداءة، إلى أن يصبح الحاسد مؤلفا من كافة الأرواح الخبيثة. فلا بدع إذا كان الحسد يشبه الشجرة الهندية التي كلما وصل غصن منها إلى الأرض نبت وصار الشجرة ، وهكذا إلى أن تنقلب أخيرا إلى غابة عظيمة تعشو إليها طيور السماء والهيرودي يسكن في مقادمها.
فلا يوجد شيء أشد مقدرة على استعباد النفس من الحسد والطمع؛ فإن هذا الروح إذا تمكن من الأنفس أوثقها بجندل العبودية القصوى لسلطان الانفعالات، وقيدها عن التمتع بأدنى لذة أدبية، فتبقى مرتجفة بين فواعل الشهوات كارتجاف العصفور بين مخالب العقاب، فاقدة كل سلامة الحواس؛ إذ لا تعود ترى سوى تناثر شرر الاضطراب والطموح، ولا تسمع سوى دوي أصوات القنوط والأكدار، ولا تذوق سوى حرارة الأميال والآلام، ولا تشم سوى رائحة الزهاق العصبي، ولا تلمس سوى خشونة الأشياء التي ليست بقبضتها.
ومع ذلك فلا بأس من ترك بعض دخل لقائد الحسد والطمع في أحكام التمدن؛ لأن هذا الروح يقود الناس إلى الغيرة والتنافس التي ينجم عنها فوائد جزيلة لترقية الجمعية، كالهجوم على درس العلوم، وتنشيط الأشغال، وتنبيه القوى الاختراعية ونحو ذلك، ولكن يجب أن يرفق هذا القائد بالرضا والقناعة، ويكون خاضعا له لكي يمتنع ضرر ذاك ويقوم نفع هذا؛ فتحصل المغايرة.
البخل
هو ذا ضجيج عظيم آت من كافة أقطار الأرض، صراخ شديد يدوي تموجه في المسامع، فأميلوا آذانكم يا قاصدي التفتيش. وأصغوا لنرى ما هذه الضوضاء الآتية من بعيد، وعلام ذلك الصباح المرعد، ها قد بدا يلوح لي أن فتنة كبرى تثور في العالم. نعم، فتنة كبرى آخذة في الثوران؛ لأن أصوات لعنات وشتائم تتوارد إلى آذاني محمولة مع طلقات الضجيج، فما سبب هذا الافتتان العظيم؟ وعلى من يدور مداره؟ لعل ذلك على البخل لأن أكثر تلك اللعنات والمسبات تنطق على اسمه كما تسمعون. بلى، على البخل على البخل، ولا يوجد ما يستحق نهوض العالم لضده نظير البخل؛ لأنه يجتهد على الدوام أن يحتشد أرزاق البشر ويحشر قوت العباد احتشادا وحشرا يوجبان خلل النظام العام واستعباد الأنام.
وهاك قائد البخل منتصبا لدينا تجاه الكرم وهو قابض بيديه على ساعد دولاب المعاملات ومساعد قيام الحياة، فلنوجه خطابنا إليه قائلين: ها قد نهضت المسكونة عليك يا أيها الروح الخبيث قائد البخل والشح، وها جميع الناس يقذفونك باللعنات والمسبات؛ فأنت مستوجب أن يحكم عليك بالخذل والرذل بدون تردد؛ لأنك تود أن ينغلق كل باب لتقدم الخلائق وتفتح كل سبل التقهقر؛ فتخزن الأموال ولا تدع لها منفذا. أما تعلم أن العطاء ينهج طرق الخير ويسند أخاك الجائع، وتكنز الدنانير والدراهم في أعماق الصناديق حذرا من أن يلامسها الهواء أو يمسها الضياء. أما تدري أن الدراهم قد صارت الآن محورا لمدار عالم المعاطاة، وأن حجزها يضيق دائرة العلاقات البشرية ويعيق تبادل المعاملات، وتطرد كل سائل ومحتاج ولو على فلس، وتميل عن كل عمل كريم أو سمة تقتضي بذل الورق؟ أما تعرف أن العضد الأعظم لترتيب حياتك يؤخذ من مثل السائلين والمحتاجين؟ فهم يبنون دارك وحانوتك، وهم ينسجون ثوبك ورداءك، وهم يجهزون كل أدوات طعامك وشرابك، وهم يتسارعون إليك من كل الجهات ليحرسوك من وثبات المختلس وهجمات العدو، وهم يمدون أيديهم ليرفعوك لئلا تعثر رجلك بحجر، وإذا انتشبت حريقة في منزلك ألقوا أرواحهم لينقذوك وأولادك ويحموا أمتعتك. فلماذا تدوس في أعناقهم إذا انطرحوا تحت قدميك يطلبون إسعافا؟ ولماذا تعرض عنهم وتشتمهم إذا مدوا أيديهم إليك ليطلبوا سداد رمقهم، حتى إذا أمكن للإلحاح أن يقتلع من فولاذ يدك بارة واحدة استشعرت بألم اقتلاع الضرس.
ولماذا تعصي الآمر بإشباع الجائع وستر العريان؟ أما تخشى وقوع في ثورتي الدنيا والآخرة؟ وكم تهجس على مضجعك في أمر التوفير وتتصل به إلى حسابات وكميات تفوق طور الإدراك مرتقيا في سلسلة التضعيف والضرب حيث تقول في ضميرك: إنني من الغد سأشرع في تنقيص كمية اللحوم والبقول والزيوت، وفي إجهاد الأولاد في تتميم الأعمال الخدمية استغناء بهم عن الخدم. ولم أزل أنقص مقدار الطعام وأعود الأولاد على الخدمة حتى نصير أخيرا قابلين أن نعيش على النزر من الخبز والقليل من الجبن أو الزعتر، وقادرين على قضاء كل الأعمال الشاقة. وبهذا العمل يمكنني أن أجمع كل مال العالم؛ لأن درهما ودرهما درهمان، ودرهمين ودرهمين أربعة دراهم، وأربعة دراهم في أربعة دراهم ستة عشر درهما، و16 × 16 = 256، و256 × 256 = 65536. وهكذا ترتقي من المضروب إلى المضروب فيه إلى أن تبلغ الحاصل الأعلى حيثما لا يوجد رقم ولا يجري قلم. وحينئذ تأخذ نفسا، وتقول: ها أنا مزمع أن أملك العالم بأسره وأوقف كل دواليب الأشغال وأجعل الناس عبيدا لي.
نعم ستفعل هكذا يا هذا البخيل، ولكن بعد ألوف من السنين إذا لم تمت بداء التكميل. فليعش رأسك الكريم ولينجح مقصدك العظيم، ولا عتب عليك إذا فكرت في نفسك هكذا؛ لأنك ترافق القمر في مشروعه، فكما أن هذا الجرم يخال أنه سيوقف دوران الأرض بعد عدد من ألوف ألوف من السنين لا يحصى؛ وذلك بتأخير جاذبيته لحركتها ست ثوان في كل جيل، هكذا تخال أنت أيضا أنك ستوقف حركة الأشغال بجذبك كل الأموال من أيدي الناس وتعود منفردا بالسطوة والغنا بعد العمر الطويل.
فتبا لهواجسك وبعدا لمقاصدك وسحقا لك، أما ترى كيف تخفق على البشر أجنحة الموت بينما يكونون غارقين في لجج مطامعهم وتأهباتهم، وراتعين في حدائق أفراحهم ومسراتهم؟ أما تعلم أن السارق قد يأتيك من حيث لا تعلم؟ أما يلوح في رأسك الممتلي من أفكار الثراء مساء فكر واحد بإمكان انحداره في حفرة الثرى صباحا؟ ولماذا هذا البخل الكثير وذاك العناء الغزير؟ وهبك ملكت خزائن الملوك وجمعت كل ثروة العالم، أليس مصيرك إلى الزوال والفناء وأنت حامل على ظهرك كل تلك الأحمال الثقال؟ وهل يمكنك أن تمد عمرك إلى أمد أطول مما تقتضيه الطبيعة؟ وهل يمكنك أن تمد عمرك إلى أمد أطول مما تقتضيه الطبيعة؟ وهل تستطيع أن تردع بقوة أموالك مسير المركبات إلى الانحلال؟ فسوف توجد راحتاك المنقبضتان على كل تلك الكنوز التي جمعتها بالوهم منبسطتين إشارة إلى خروجك من هذه الدنيا بلا شيء، وربما لا تجزى ممن يرثك بسوى اللعنة ولو كان ابنك الحبيب الذي به سررت.
فلا يعتب العالم إذن إذا أثار عليك الفتن يا قائد البخل، وارتفعت أصواته ضدك وتبادرت قواته إلى الفتك بك؛ لأنك أنت العدو المبين له ولكل صوالحه ، وأنت المصر على هتك ستار هيئته واستعباد قلوب أبنائه بحشرك أهم أدوات مداره، ومع كل هذا فلا بأس من ترك ظفر لك في جسد التمدن لتكون مانعا لهجوم التبذير الكثير الضرر، ولكن يجب أن تكون ملحوقا بأوامر الكرم لكي تحصل الرتبة المطلوبة ما بين التبذير والبخل.
الضغينة
من هذا الرجل المنتصب تلقاء عرش التمدن ذو الأسنان المكزوزة والأعين المتوقدة بالشرر؟ من هذا الواقف وقوف النمر المستعد للوثوب على الفريسة؟ هل هذا هو قائد الضغينة؟ نعم، هذا هو قائد الضغينة المستعد لأن يغدر بكل من يمحضه السلام ويركن إليه.
فما أنت يا أيها الروح الحقود سوى عذاب أليم للأرواح؛ لأنك متى أوقعت أماراتك في أحد أعدمته الراحة والسكون وجعلته كالوحش الحائم على ما يفترسه؛ فلا ينام إلا على فراش الغضب، ولا يستيقظ إلا بأعين الانتقام، ولا يروي إلا بكرع الدماء، ولا يجد في نفسه حركة لأنه يقضي الليل والنهار مملوكا لخلقه ومأسورا لحب انتقامه وواقعا في خطر مبدآت كفايته. وهكذا فيعيش عبدا وأسيرا لأطواره ومعادى ومباعدا من معاشرة الذين يستلمحون طلائع هجماته فيجتنبونه.
فلا ريب إذن في أضرار هذا الروح لائتلاف البشر؛ إذ إنه يوقع النفار ما بينهم ويبعد بعضهم عن بعض خلافا لما يطلبه ميلهم إلى الالتئام في دائرة التمدن توطئة للاعتضاد في الانتفاع، فمن الواجب والحالة هذه أن يكون الصفح مرافقا قائد الضغينة ورادعا جماحه، كما يجب على الضغينة أيضا أن ترد اندفاع الصفح في بعض الظروف حذرا من انغلاق أبواب السلام أو انطلاق أشواط التهافت، ولكل وقت وأوان.
النميمة
ما لي أرى هؤلاء القوم يرشقون هذا الشخص السابع بنظرات النفور والاشمئزاز؟ ويبعدون عنه كأنه جيفة نتنة أو جرب معد؟ وجميعهم يومئون إليه بالبنان ويتوامرون؟ ولماذا كل يظهر إشارات الخوف منه والابتعاد؟ ولماذا قد أطبق الجمع على اجتناب هذا الرجل المسكين، حتى لم يعد أحد راضيا أن يكلمه أو يلقي عليه السلام، فليت شعري هل هذا رجل النميمة حيث لا يوجد من يستحق معاملة كهذه سوى النمامين ؟
نعم، هذا هو رجل النميمة وقائدها؛ ولذلك يتحاشاه جميع الناس ويبتعدون عنه غاية الابتعاد حذرا من آثاره الرديئة وأطواره الذميمة؛ لأن دأبه أن يهتك حرمة الأسرار ويكشف الستر عن معائب البشر، ويظهر كل الأعمال الصائرة منهم سرا، حتى إنه يفعل هذا مع أخص أصدقائه، وربما تعمد أن يصاحب أحدا ليطلع على خفياته بالاستيداع ثم يذيعها بالنميمة. ولا يبالي من ارتداد وجعه على رأسه في أحوال شتى، وذلك عندما تستقر الخيانة فيه فيستوجب لعنة الجماعة ويعاقب بالصد والجفاء مثل الأفعوان الأسود الذي إذ يلسع تنسحق أنيابه ويسيل منها سم فيمتصه فيموت.
فلا شك إذن في عظم أضرار هذا الروح الخبيث، وبكل عدل يجب طرده من عالم الآداب والتهذيب وكسر شوكته، وبكل حق يتعين النفار عنه واجتنابه على من ليس يرضى بهتك أسراره وخفياته، ولا يوجد أصعب على الإنسان من وقوع أعماله السرية في السنة العامة وإظهار عيوبه. ولو أمكن وجود إنسان خال من النقيضة لحق له أن ينتقد نقائص غيره، ولكن يمتنع وجود ذاك فلا حق في الانتقاد لهذا.
ولما كان السقوط المطلق لقائد النميمة قد يفتح طريقا لهجوم الأشرار على عمل العيوب بدون خشية كشف النقاب الذي يردع كثيرين عن الكبائر بلجمه جماح الشهوات، كان الأفضل أن يبقى له صوت في آذان العموم لأجل التهديد، ولكن بشرط أن يكون زمامه محفوظا في يد الكتمان.
الكذب والنفاق
أما أنت يا قائد الكذب والنفاق فلا تعتبر إلا كهادم لمباني الآداب الإنسانية، ومفسدا لصلاح الغريزية ومستعبدا لحرية الفطرة؛ لأنك متى أوقعت أحكامك على أحد أحدثت فيه بلبالا عظيما ظاهرا وباطنا إذ تجعله الخصم الألد لضميره كلما فتح فاه. وتبقيه أضحوكة في أفواه سامعيه فتكسبه العار والفضيحة، حتى إنه يعود متقلبا على جمر الندم ومشمولا بقنوط النفس كلما خلا في نفسه وتبصر بما أنشأ لسانه من الأكاذيب والنفاق في مسامع الناس، وبما سيرد عليه من التكذيب والإذلال، فيثني مصمما أن يحفظ لسانه من شين المين، ولكن غلبة الملكة لا تسمح له بذلك ما لم يحتمل مشقة عظمى؛ فيعيش أسيرا وعبدا لك يا قائد الكذب والنفاق.
ولما كان الطبع البشري يأنف ويستنكف جدا من تكلم الخلاف، ولا يميل إلا إلى صدق المقال وإثبات الحقيقة، كان الإنسان الذي لا يصدق بلسانه ولا يستقيم بجناحه مكروها حتى من نفس طبعه أيضا، على أنه يرى طبعه مضادا طبيعته فيكره نفسه.
فيجب على كل من الناس أن لا ينقاد إلى حكم هذا الروح الشرير منذ نعومة أظفاره عندما يكون التعود سهلا، وأن يرفض كل تلفظ ينسب إليه مهما كان وهنا؛ لأن الذي يبتدئ بالصغائر قد تهون عليه الكبائر، والذي يفكر في القليل يتصل إلى الكثير؛ لأن الفكر من شأنه أن يطير بأجنحة أدنى تصورا إلى قبة فلك التصورات حيثما لا يوجد نهاية ولا قرار.
وهكذا فلا جناح على ملك التمدن إذا كان يهلك كل الذين يتكلمون بالكذب؛ لأنهم يسعون في خراب مملكته بما تترك ألسنتهم المنافقة من الأضرار الكلية والجريئة؛ كإثارة الفتن وإلقاء الفساد وتبغيض المحبين وإغراء ذوي الغفلة والسذاجة ونحو ذلك، فهذه جميعها أطوار تعارض سير التمدن وتباين آرابه ولا تتفق مع نزاهة الطبع الإنساني بما فيها من الآثار الذميمة، فلا ظلم إذا طرد قائد الكذب والنفاق طردا مطلقا لعدم نفعه في شيء، وإقامة الصدق والحق مكانه.
ولما كانت الخيانة قائدة كل هؤلاء القواد وحاملة بيرقهم الأسود وأصلا تتفرع عنه أكثر الخصال الناقصة والصفات غير الصافية، كان الواجب أن يحكم عليها كما حكم على أولئك القوم، وإن تعامل بالطرد المطلق نظير قائد الكذب.
لا عاش من للعهد خان خونا
وبئس وغد لا يصون صونا
جرى أمامي الدهر فاتبعته
عسى أرى خلا فما وجدته
صحبت نذلا يستدر ودي
وهو مولع بنكث عهدي
قد كان يدعو نفسه رب الوفا
والآن في ذكري يهز الكتفا
أظهر لي الود ليجني زهري
ومذ تولاه لوى بالظهر
فصار قمحي عنده زوانا
ودرري أضحت له أدرانا
عن مثل ذا داود قد تنبا
قد أكلوا خبزي وداروا العقبا
لا بارك الله لذي الخيانة
ولا رعى من لا له أمانة
الفصل الثامن
اليقظة
وإذ أتم الفيلسوف كلامه حنى رأسه لدى المنتصب الملوكي، ونزل من فوق الصخرة، وبينما كان السكوت يحكم في المرسح لمعت بارقة تخطف الأبصار وأعقبها رعد يزعزع أركان القلوب، فسقطت على الأرض ارتياعا ودهشة. وبعد زوال هذه الوثبة الجوية نهضت من سقطتي لأرى ماذا جرى، فغشى نواظري ضباب التحير، ولبثت عديم الحركة؛ لأنني لم أعد أشاهد شيئا مما كان إذ وجدت نفسي منفردا في برية منخفضة لا نبات فيها ولا حيوان.
وعندما أجلت نظراتي في أقطار هذه الفلاة المقفرة أخذتني رعدة الخوف والهلع، وشملتني شمول الكمود والكآبة، وعدت حائرا في أمري؛ فسكوت الموت كان يحوم على هذا القفر الوجوم، ولم يوجد فيه من الكائنات سوى أتربة تبعذرها أرجل الرياح. وحصباء توهم فراش بحر جاف، وصخور تشهد على قساوة الزمان، وكان الشفق كالحديد المحمي يتطفا على كور المغرب بمنظر يستفز الكروب ويستهز الرعشة، ولم يكن مسموعا في هذا الغور الراسخ في حضن الوحدة سوى تعب البوم وصراخ ابن آوي، وكلما كنت أثبت تأملي كان يتزايد في باطني حراك الكمد والكرب، وكلما أطلقت أنظاري إلى السماء لأنال تعزية رددتها ممتلئة من البهتة والجمود؛ لأنها ما كانت ترى سوى سحابات متوقدة تندفع من الجنوب إلى الشمال، طارحة على الأرض نارا ودخانا، وبينما كنت أردد أفكاري في هذا المشهد الصامت وأسرح نواظري في هذه البيداء المجدبة، وإذا تل مرتفع يلوح لي فسرت إليه وصعدت على قمته ووجهت وجهي إلى جهة المشرق حيثما كان القفر يسبح تحت أعيني في تيار الظلام، وإذ أعطيت صغيا سمعت صوتا ينادي من بعيد هكذا: هذه برية الشهباء فلتبشر بقدوم الخير.
فقلت في نفسي: من أين سيأتي الخير إلى هذه القفار المجدبة والساقطة من أعين العناية منذ ألف سنة فأكثر؟ إن في هذه البشرى ضربا من المحال، ثم التفت إلى جهة الغرب لعدم اهتمامي بما سمعته، وإذا مد من الاخضرار يتموج من جانب الأفق وكأنه يهم أن يندفق على كل تلك القفار اليابسة، فشملني العجب للحال وأخذت أشخص في هذا المظهر العجيب ذي الجمال الغريب، وبعد أن تفرست قليلا سمعت صوتا يدوي من خلال الغمام وينادي قائلا: أبشري أبشري يا برية أرام القديمة، وافرحي وابتهجي يا شهباء سوريا، فها العناية الملوكية مقبلة إليك، والمراحم السلطانية هاجمة عليك؛ فلا عاد يفترسك المحل أو يهتك بك الإهمال. فلما سمعت هذا النداء الكريم طفقت أرجف من شدة سروري وفرحي، وقلت: لا شك ولا ريب في قدوم الخير والرخاء إلى هذه الديار المستعدة لقبول كل إصلاح؛ لأنها قد وقعت تحت أنظار عناية حضرة ذي الشوكة والاقتدار عبد العزيز خان دام ملكه مدى الدوران، وقد تشرفت بنعمته وجودته. ومما شملني من الاندهاش أثبت نواظري في متن الأفق، وبينما كنت مشخصا فيه رأيته قد استحال إلى بحر من النور الساطع وأخذ يتلألأ كالشمس. الضاحية في السماء الصاحية، وإذ لم يعد يمكنني النظر إلى هذا المشهد المنير أغمضت أعيني على غشاوة الانبهار، وأخذت أضرب في أودية الهواجس، ولما فتحت أجفاني وجدت نفسي مضجعا على فراش النوم تحت سماء اليقظة.
صفحة غير معروفة