فأحنى الوزير رأسه لدى الملك، وقال: إنه لم يخطر بي البتة إمكان هجوم هؤلاء البرابرة علينا مرة ثانية بعد أن شاهدوا ما شاهدوه من بسالة أجنادنا الأقوياء في الحروب، وتيقنوا جيدا عجزهم وضعفهم بالنسبة إلى ثباتنا وقوتنا؛ فقد جرت الأقدار بما لم يخطر بالأفكار، ومع ذلك فليست إجابتي لطلبهم كانت مبنية على اقتناعي فقط بكونهم لا يجسرون على محاربتنا ثانية، بل وعلى طمعي بحقن الدم أيضا؛ إذ قد خطر لي أنه إذا لم نجب طلبتهم وواصلنا الحصار والمهاجمات فقد يمكن أن يجري نهر من الدماء حسبما جرى ذلك في كثير من مواقع العالم منذ يشوع أريحا إلى تيطس أورشليم وما بعده ...
فقاطعه الملك قائلا: إنه يوجد في طريق الإنسان كثير من الموانع التي لا يمكن الحصول على رفعها إلا بسفك الدماء، وكذلك قد يصيب الإنسان كثير من الحوادث التي لا يمكنه دفاعها إلا ببذل الروح، وعلى كل حال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم - ولكن يا أيها الملك المعظم ليس بجيد للإنسان أن يسرع حالا إلى إهراق الدماء على نزر الأشياء، وليس جميع الحوادث والأحوال تساوي الدم الإنساني الذي لا يوجد أثمن منه، ولا يجب مضارعة أولئك الشعوب الذين يبادرون إلى شن الغارات وفتك بعضهم بعضا على أقل أرب لا يعتد به، أو أدنى خرافة لا بيت لها في رقعة التمدن؛ بحيث لا يئول صنيعهم هذا إلى دمار ودثار أخصامهم فقط، بل وإلى انحطاط وخراب هيئتهم أيضا؛ إذ إن الرجل الظالم يرتد وجعه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه؛ فلا برهان إذن على سمو عقل الإنسان وتروض أخلاقه ودعة سجيته أعظم من محبته للسلم ونفوره عن الحرب والخصومات، على أنه بالسلامة تنمو الهيئة الاجتماعية وتتسع دائرة تقدمها بالثروة والمعارف والآداب.
بالسلامة تخصب الحقول وتغطي الأرض غلاتها وتجود الفلاحة ويكثر الحصاد.
بالسلامة تعمر البلاد والقرى وتتسع التجارة التي عليها يقوم مدار الاشتراك مع كافة العالم.
بالسلامة تتقوى الممالك وتعظم رجالا ومالا.
وبالإجمال إنه بالسلامة يقوم شرف البلاد ومصالح العباد.
ولكن إذا أخذنا نتصفح الحروب وغوائلها إنما نرى العكس تماما.
على أنه بالحرب تتبدد الهيئة الاجتماعية وتضيق دائرة تقدمها ونجاحها حينما يرسل إليها مركز الجهل أقطار الخراب.
صفحة غير معروفة