وبينما كنت ذات يوم أتمشى على الكبري وقت الراحة، وإذا عبد نظيري يقول لي: نهارك سعيد همشري. - نهارك سعيد ومبارك.
وبعد أن تأملته بإمعان شعرت بشرارة كهربائية طارت من دمي وسرت في جميع مفاصلي فسألته: ما الاسم؟ - مرجان.
فازددت حنوا. - وكيف كان مجيئك من بلادنا؟ - بقوة الاختطاف. - وهل خطفوك وحدك أم خطفوا غيرك معك؟ - خطفوا معي أخي أيضا؛ لأنني كنت أتمشى معه في البرية وإذا جماعة من المصريين دنوا منا وخطفونا وقتلوا والدتنا لأنها رغبت إنقاذنا.
فما عاد لي شك أن هذا العبد هو أخي ذاته، وصارت عيني مغرورقة بالدموع وقلبي خافقا بأجنحة الأشواق والفرح، ولكنني اجتهدت في إظهار الجلد لأستتم التأكيد؛ فسألته: وما اسم أخيك؟ - ياقوت، وهو أكبر مني.
فقبضت على يده وقلت له: اتبعني لأريك أخاك. فأخذته إلى حجرتي على انفراد وقلت له: أنا هو أخوك ياقوت. فتعانقنا وتباكينا ساعة حتى أطفأنا بماء الآماق نار الأشواق، ثم قصصت عليه جميع ما جرى لي من الأول إلى الآخر، وبعدما بلغته ذلك طلبت منه أن يروي علي ما جرى له وكيفية وصوله إلى الآستانة، فقال: إن تاجر العبيد في القاهرة باعني إلى رجل إسكندراني، فذهب بي إلى الإسكندرية وجعل يستخدمني في بيته وأنا صغير لا أعرف شيئا سوى اللعب مع الأولاد، ولما بلغت أشدي باعني لأحد الأتراك فأخذني هذا الرجل وسافر بي إلى إسلامبول، وأبقاني عنده مدة سنة ثم باعني إلى رجل من كبار هذه المدينة، وها أنا منذ سبع سنين عنده. - وكيف معاملته لك؟ - بغاية الرقة واللطافة حسبما تقتضيه طبيعة أهالي الآستانة. ولكن مع ذلك أرغب جدا إعتاقي؛ لأن الفكر وحده بوجودي عبدا أو بكوني أنا وملك يدي لسيدي، وبأن حياتي وموتي بين شفتيه أو يديه ومتى شاء باعني ومتى شاء اشتراني؛ بحيث لا يوجد لي أدنى حرية معتوقة ولا حركة مطلوقة، يجعلني مائلا كل الميل إلى الحرية والانعتاق، ولو صرت خادما بأجرة حياتي فقط عند الرعاع. - إذن تشتهي الانعتاق؟ - نعم بكل قلبي. - فلماذا لا تطلب من سيدك ورقة إعتاقك؟ - وهل يسمح لي بذلك؟ - نعم؛ لأنه يعلم أن الحكومة لا تسمح بأخذ العبيد، وبأنها تلزمه بتحريرك إلزاما، فاذهب وخذ منه ورقة الإعتاق، وإذا منع ذلك فأنا المسئول.
فذهب من عندي، وبعد ثلاثة أيام أتاني ومعه ورقة الإعتاق، فأدخلته معي المدرسة، وبعد مرور خمس سنين خرجنا منها ودخلنا في خدمة دولة التمدن تحت راية جانب السلطان الأكبر. وها نحن بين أيديكم نرى أخصامنا بأعيننا ووثاقهم بأيدينا فأعز الله أنصار الحرية وأيد دولة الرفاهية.
وبعد تتميم الزنجي روايته التي كانت مؤثرة في جميع المحفل، جاذبة كل الالتفات إليها، أخذ السكوت موقعا نحو دقيقة؛ إذ كانت الملكة تمسح أعينها من الدموع التي استقطرتها رواية العبد، ثم التفت وزير محبة السلام إلى الفيلسوف الذي كان مضجعا على الصخرة بدون حراك، وأوعز إليه بإشارة أن يرجع إلى كلامه. ففرك الفيلسوف جبهته المرتفعة وأنشأ يقول: هذا ما يجب تبليغه لآذان ملك العبودية الذي إذا لم يسلك حسب مضمون ما تقرر لديه فلا قيام لمملكته إزاء تقدم هذا العصر الجديد، فليسمع قواده وأنصاره ما سيرد عليهم وليركنوا إلى الحق.
ثم التفت إلى قائد الجهل مبتدئا منه وجعل يقول:
الجهل
أما أنت يا أيها الجهل فمن أخبث الأرواح الشريرة التي تفسد في الأرض وتعضد يد العبودية وتخرب أبنية العلم. فما أنت إلا السبب الأعظم لأكثر الوبال الذي جرى ويجري وسيجري في المسكونة، والأصل الأول الذي منه قد نشأت فروع البدع والخرافات التي تجعل البشر عبيدا لأهوائهم وأباطيلهم وتحرمهم لذة حرية الحياة، فإذا كانت المسببات تستوجب مقدارا من الجزاء فالأسباب تستلزمه مضاعفا، فتكون إذن يا أيها الجهل مستلزما صرامة الحكم بمقتك من الناس وتبديدك وكسر شوكتك والنفار عنك؛ فإنك تعتبر كسبب موجب لتلك الآفات المحكوم عليها بالمقت والكراهية منذ بدء الخليقة، ويجب على البشر أن يعتنوا بإخضاع مملكتك لدولة العلم الذي حيثما نزل أنزل المجد والعظمة والكرامة. فبالعلم يجلس الإنسان على قمة كماله الطبيعي، ويعمل حسب استحقاق إنسانيته، وبالجهل يهبط أسفل السافلين ويتصرف كسائر الحيوانات؛ بذاك تعظم قوة الممالك وتتبين حدود الملوك، وبهذا تسقط القوات ويمد التعدي باعه، بذاك يقوم اعتبار الشعوب وتنتشر ثروة القبائل وبهذا يخفق جناح الاحتقار وينعق غراب الإقلال. بذاك قد تلألأ محيا الغرب، وبهذا قد أظلم جبين الشرق.
صفحة غير معروفة