العبودية
فاعلم يا ملك العبودية أن جميع شرائعك وأحكامك التي كنت توسوس بها في صدور الناس قد سقطت الآن مبانيها، ودثرت أصولها، ولم يبق لها مدخل في جميع العالم، وكل ملوك الأرض قد نهضوا ضدها، ولكن لم يزل بعض الناس إلى الآن متمسكا ببقية خبيثة من نواميسك التي قد نشرتها بينهم منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنتين وسبعين سنة، وهي استعباد بني البشر.
فمن المعلوم لدى العموم أن الطبيعة البشرية قد خلقت في كمال الحرية الأدبية وأن خالقها ذاته - عز وجل - قد منحها هذه السيماء الجليلة عندما أطلق لها عنان الاختيار بين الماء والنار، واضعا فيها معرفة الخير والشر ومبدعا في سجيتها حركة الانعكاف على هذا والانكفاف عن ذاك. فمن أين يسوغ لبني هذه الحرية الإنسانية أن يبيحوا تمزيق جلبابها بأنياب الأغراض لبعضهم بعضا؟ وكيف قد أمكن للإنسان منذ القديم أن يستحسن هذه الزلة القبيحة لدى الخالق والمخلوقات وأن يسلك في شأنها رغما عن كراهية نفس غريزيته لهذا السلوك؛ لأنه إذا دخل كل من الناس إلى مخدع ضميره إنما يرى ذاته نافرا كل النفار عن ارتباطه بعبودية غيره، ومتوجعا كل التوجع لمن دفعته الأقدار في فخاخ هذه العبودية الأدبية الخاصة، زيادة على تلك الطبيعة العامة السابق ذكرها. وليس الإنسان وحده ينفر طبعا عن هذه الغلبة بل أكثر الحيوانات أيضا، على أنه متى عارض حركة أميالها مانع ما ظهرت عليها حالا دلائل الانزعاج وأشائر المدافعة، فلا يبرح الأسد الواقع في القنص يزأر ويضج حنينا إلى الغاب والعرين، ولا يزال النمر الموثق بالسلاسل يصرخ ويعج رغبة في الوثوب إلى أعالي الجبال، ولا يفتر الكلب يهر وينبح طالما يكون مسجونا، ولا ينفك الطائر المأسور في القفص يخفق ويصيح شوقا للطيران إلى رءوس الشجر وهلم جرا.
فإذا كان الحيوان العديم النطق لا يحتمل مضض الرق، ولا يصبر على ضنك الاستعباد، فكم يكون الإنسان الناطق خليقا بعدم احتمال هذه المشاق عندما يقع في شراكها، وجديرا بطلب المناص. وكم يكون خشنا بربريا من يهجم على باعة الأسرى ليتعاطى بيع أو شراء أشباهه في الطبيعة وعدلائه في الحد والرسم؟! وكيف يمكن الإنسان الطبيعي أن يشاهد إنسانا نظيره مغلولا بقيود التعبد والأسر ولا يجم غضبا ويؤخذ بخواطر الشفقة والحنانة، لا سيما إذ يرى ذلك العبد الوجع القلب والمنكسر الخاطر مرتعدا إزاء مولاه الأليم القاسي كالفريسة بين مخالب الوحش الضاري؟! وربما أفضت قساوة ذلك المولى إلى ربط هذا المخلوق بالحبال وجلده بالسياط تحت مواقع العنف الشديد بدون أدنى رفق أو خشية آثام أيان دعا الداعي، وربما كانت هذه الحالة حتى إن هذا المسكين يعود صارخا ولا مجاوب مستجيرا ولا مجير مستغيثا ولا منقذ.
فهل يوجد قلب مستقيم لا يلعن عادة اتخاذ العبيد بين الناس حينما يعاين إنسانا يحوي كل الأخلاق الإنسانية متخذا له أسيادا من جنسه ومقدما كل حياته ضحية في هياكل أوامرهم المظلمة حيثما لا يجازى بسوى الضرب والشتم واللعنات، فلا يأكل خبزه الدنيء إلا بالتنهد والحسرات، ولا يشرب ماءه العكر إلا بالدموع والعبرات، ولا ينام على فراشه الحجري إلا قلقا بالأوجاع والأوصاب، وربما لا تكاد أهداب أجفانه أن ترتجف بمرور نسيم النعاس إلا ويهب من مضجعه هبوب العاصفة إذ يتخيل رنين صوت في أذنه أو هفيف وسواس ظانا أن سيده يدعوه لقضاء حاجة، أو سيدته أتت تنبهه ليأتي فيغير لها رفائد الولد أو يلهيه عنها إذا كان باكيا لكي يمكنها استيفاء لذة النوم، وهكذا فلا يعطس أنف الصباح أو يسيل مخاط الشيطان إلا على يقظته.
فهات أعرب لنا يا أيها السيد عن الامتياز الطبيعي الحاصل بينك وبين عبدك البائس، وقل لنا ما هو الفرق بينكما من حيث الشعور والإحساس. أخبرنا، هل تظن أن جلده الأسود لا يشعر بالفواعل عليه كنفس جلدك الأبيض؟ وهل تزعم أن شفاهه الغلاظ لا ترتاح إلى مناولة الأطعمة اللذيذة كعين شفاهك الرقاق؟ وهل تخال أن عينه المستديرة لا تشتاق إلى التمتع بطيب الكرى كذات عينك المستطيلة؟ وهل تفترض أن أنفه الأفطس لا يحس بالمشمومات الذكية نظير أنفك الأقنى؟ وبالإجمال نقول: هل تتوهم أن وجوده في بيتك تحت سلطان دراهمك التي بها اشتريته يجعله غريبا عن جنسك ومميزا عن نوعك وبعيدا عن حواسك؟ حاشا وكلا. إن جميع أعضاء هذا الأسير وطبيعته هي نظير أعضائك وطبيعتك، ولا يوجد بينكما أدنى اختلاف بسوى جلده الأسود الذي ربما يكون زاهيا ببياض الأفعال، وبجلدك الأبيض الذي ربما يكون مدنسا بسواد الأعمال.
فمن أين أبيح لك شراء الإنسان وعذابه وقهره يا أيها الظالم العنيت؟ وكيف تمكنك الطبيعة الإنسانية من مجاوزة حدودها وشرائعها بمثل هذه الأفعال الشريرة؟ ألم تتحرك في باطنك جوارح الشفقة عندما يكون هذا الغريب المسكين واقفا بين يديك القاسيتين مرتعدا مذعورا وعيناه مغرورقتان بالدموع، ويداه مبسوطتان لديك بكل ذل وهوان عسى يتقبلان منك العفو والرأفة على ذنب ربما يكون حسنة؟ أطلق هذا العبد الغريب فلا يسوغ لك استعباد الجنس البشري. أطلق هذا العبد الغريب فلا عاد يحتمل أثقال تهافتك ومضض خدمتك. أطلق هذا العبد الغريب فقد بح حلقه من الصراخ وذبلت عيناه من كثرة الرجاء، أطلق هذا العبد الغريب فقد تناثرت لحومه من مقارعك وخفقت قواه من أحمالك، أطلق هذا العبد الغريب فقد أجمع على إطلاقه كل ممالك العالم، وها رائحة بارود أميريكا منتشرة إلى الآن في آفاق المسكونة مما أثاروا من الحروب على مستعبدي البشر، أطلق هذا العبد الغريب أو يطلق ذاته رغما عنك آخذا الإسعاف من جميع الناس ومساعدا من نفس الحكومة المدنية بعد أن يستعطيك أجرة المثل. أطلق هذا العبد الغريب ولا تقل إن وجوده عندي خير له وماذا يعمل خارجا؟ لأن الله يدبره، وحسبه امتلاك بغية الطبيعة. أو خذه مستأجرا وارفع عنه ثقل سلطانك، أطلقه أطلقه فلا عاد يمكنك استئسار الإنسان، وسوف ترى أن نفس حضرة قيل مصر سيبرز أمرا بإبطال اقتناص العبيد من أعماق أفريقيا، وسيلاشي هذه العادة المذمومة من بلاده حسبما يقتضي اجتهاده بتقديم التمدن وتمهيد سبل خطوره مقتديا بولي نعمته جلالة السلطان العثماني الأعظم ذي الشوكة والاقتدار عبد العزيز خان، دام ملكه مدى الدوران.
وإذ كان الفيلسوف مسترسلا كلامه هذا كان الجوق القائم ورائي يعوج ويموج بين الطرب والكرب ضاجا بأصوات السلب والإيجاب، فكان هذا يقول: نعم، إن العبودية لا تحتمل ولا يوجد أصعب على الطبع البشري منها ولا أشنع من عادة اتخاذ العبيد. وذا يقول: لا، لا، ليس الأمر كذلك لأن الله خلق مولى وخلق عبدا؛ إذ جعل إناء للكرامة وإناء للإهانة، والكتاب نفسه قد أمر بطاعة العبد لمولاه وصرح بدعوى هذا ودعوى ذاك؛ فعلى أي أساس نبني بطلان العادة الآخذة مبدأها من سالف الحقب. وذاك يقول: بكل حق يجب نسخ هذه العادة الخشنة التي ينفر منها الطبع الإنساني، ولا يجوز التعبد لسوى الله الذي هو قال: «للرب إلهك تسجد وله وحده تعبد.» وما ورد من ذكر عبد أو أمة في الكتاب يأخذ مفهوم الخادم أو السرية أخذا يتضمن الانتماء البسيط من الفقير الباذل تعبه بحريته إلى الغني الدافع فضته بإرادته منتخبا هذا ومرذلا ذاك. وذلك يقول: إن هذا الكلام هذيان، كيف نترك عبيدنا الذين قد اشتريناهم بالذهب والفضة وأنفقنا عليهم كذا مصاريف من أكل وشرب وكسوة؟! (اسمعوا يا ناس، هل يطاق هذا الفشار العمي؟) ويقول الآخر: ليس الهاذي سوى من ينزل الإنسان منزلة البهيمة بالبيع والشراء والعلف، زاعما أن الزنجي أو المملوك الكرجي هو حمارنا ناطق، ولا يوجد فيه أدنى إحساس إنساني (ما شاء الله على النتائج الذهنية).
وبينما كان هذا الجوق المتجاذب يتبادل النضال، وإذا إيماء وزير محبة السلام يستوقف خطاب الفيلسوف المنتصب على الصخرة كأرز لبنان، وصوته يقول للزنجي الواحد هكذا: اشرح يا ياقوت هنا علنا ما رويته لي خفية. فتردد العبد خجلا ومهابة فأعيد عليه الأمر، فتقدم حينئذ هذا العبد الأسود قليلا وحنى رأسه أمام المظهر الملوكي، ثم نكص إلى الوراء والتفت إلى الحاضرين وافتتح كلامه بصوت منخفض يصعب استماعه، فناداه الوزير قائلا: اجهر صوتك، فجعل العبد يقص بكلام جهوري هكذا: إنه منذ خمس عشرة سنة بينما كنا ذات يوم أنا وأخي هذا مرجان (وأومأ إلى الزنجي الآخر) نسرح مع والدتنا في برية السودان على نحو غلوة من قريتنا، وكانت سني لم تتجاوز العشر، وسنه لم تبلغ الثماني. وإذا بقافلة من فلاحي مصر نظرناها تخب في القفر بين الأمواج الرملية المستعرة بإيقاد الهجير آخذة طريق جبال القمر حيثما يتوهم انبعاث النيل. فعندما نظر إلينا بعض الركاب أخذوا يعرضون علينا عن بعد قطعا كانت تتلامع بأشعة الشمس مظهرين قصد دفعها لنا، فهرعنا إليهم حالا رغما عن ممانعة والدتنا وقتئذ المشتقة عند حدس القلب. وإذ دنونا منهم على أمل قبضوا علينا سريعا وأردفونا على الإبل وأطلقوا الوخد ضاربين في أودية الرمال، فطفقنا نتباكى ونتصايح باسطين أيدينا إلى والدتنا التي كانت تولول وتنوح عن بعد بحنين يجرح الفؤاد، وتنسف الرمل على رأسها وهي تركض لتدركنا زاعمة إمكان إنقاذنا.
أما نحن فكنا نزيد في العويل ونبالغ في استنجادها كلما كانت تقرب منا. ولم تزل هذه المسكينة تجهد خطواتها حتى أدركت محلنا فأخذت تترامى على أقدام مقتنصينا سافحة دموعها السخنة وتتململ وتترجى بلغتنا التي لا يفهمونها صارخة بصوت يحرك الجلمود: أستحلفكم بما تعبدونه ردوا علي ولدي كرما لرب النيل، أعطوني ولدي ولا تتركوني أمت بفراقهما كمدا، ردوا علي ثمرة أحشائي وأنا أعطيكم كل ما أملكه من الخرز والقزاز. أما مقتنصونا فكانوا يزدادون قساوة كلما ازددنا بكاء وازدادت والدتنا انتحابا وململة؛ فكانوا يضربوننا ويزجرونها ويلطمونها في صدرها ويرفسونها بأرجلهم ويلقونها على الأرض، وهي لم تزل تندب وتذرف العبرات وتتوسل وتتضرع بأيديها وبكل أطوار وجهها، وهم لم يزالوا يلطمونها ويصرعونها حتى غشي عليها وانطرحت على وجهها معفرة وكأن لم يكن بها نفس، وما كادوا يبعدون عنها قليلا حتى أنعشتها أرواح الحنية وضوضاء عويلنا؛ فوثبت على أقدامها منهتكة وأطلقت المسير إلينا ثانية؛ فإذ رأوها قاصدة عادة الماضي مد أحدهم على هذه الأم المنكسرة الخاطر بندقية وأطلق الرصاص في أحشائها فسقطت على البساط المقفر وتلوت قليلا بتنهدات متقطعة وسلمت الروح متكفنة بالرمال.
صفحة غير معروفة