فأطرق الفيلسوف برهة، ثم أخذ يتكلم هكذا: إننا إذا تتبعنا الإنسان منذ ولادته إلى نهاية أمره؛ إنما نرى حياته تجري خاضعة إلى ما لا ينتهي من العبوديات، وهكذا نرى في جميع المخلوقات؛ فالطفل المولود عندما يسقط على الأرض يصرخ وينتحب علامة لإشعاره بوقوع سلطان المحيطات به عليه. ولم يزل عبدا طبيعيا لأمه ما دام يتغذى من لبنها، إلى أن تضع له المر على الثدي إشارة لطرده من حلاوة الحياة القاصرة إلى الدخول في مرارة الحياة المستقلة؛ وحينئذ يميل بوجهه إلى مواجهة عالم الغلبات، فتدفعه شرائع الاستقلال الحيوي في عبودية الموجودات، وتعصف به زوابع الأقدار في مفازة الطبيعة، فيعود مدافعا ومحاذيا جميع الكائنات أملا في الخلاص من فواعلها وتأثيراتها الطارئة عليه، فيخضع للحرارة ليستعين بها على الفرار من سلطة البرد. ويميل إلى هذا الأخير ليدفع عنه غلبة تلك الأولى، ويبسط يديه لدى مكارم المملكة الآلية
1
علنا ليسترجع منها ما اقتنصته من بنيته بالانحلال أو التنفس خفية. ويبتني من الجوامد بيوتا لتحميه من حوادث الجو وهجير الشمس، ويستنجد المعادن لوقاية أبنيته من غوائل الصواعق المنقضة، ويستخدم أجنحة البخار ليطير بها إلى كل فسحات الأرض.
وهكذا لا تبرح طيور أفكاره تحوم على دوحة الطبيعة، وأقدام آماله تعدو في ميادين العالم حتى تنتصر أخيرا على جميع قواته كل تلك الأكوان، وتزجه في أودية العدم حيثما تحيط به ظلمات الفناء وتكتنفه غمرات السكوت، بعد حياة قد تقضت بالتعبد لكافة الحادثات، وجرت تحت رق المصائب والأتعاب والأمراض، خاضعة لقوي مقتدر أو ضعيف مستتر حسبما تقتضي الغاية أو الضرورة؛ فلا حرية إذن للإنسان.
وهكذا تجري على هذا المجرى سائر الموجودات، أما ترى الحيوان القوي كيف يستعبد الضعيف؟ أما ترى أن كل الحيوانات كيف تسترق لخدمتها جميع جماهير الوجود النباتي؟ أما ترى كيف تجمع القوات الجاذبة ما بين المفترقات العنصرية وتخضعها لسلطان الاجتماع والتراكم تحت عبودية الفواعل الكيماوية وأسر قوات التماسك؛ بحيث لو أمكن للعناصر الهيولية أن تأخذ حرية الانفراد لما أمكن قيام النظام الطبيعي أصلا؟ أما ترى كيف تدخل السيارة في سلطة الثوابت؟
قم بنا لنطير في أجنحة التصورات ونرتفع ببخار الأفكار إلى سماء الحقيقة. وهناك أريك كيف أن هذه الكرة الأرضية تظهر لنا عن بعد سابحة في أعماق الفضاء وهي تدور منحنية على نفسها كشيخ أحنت ظهره أثقال السنين، وكيف أن هذا الجرم العظيم منقاد بسلاسل سرية إلى الخضوع لنظام الفلك الشمسي بحيث لا يمكن له الخروج عن حدود دائرته المضبوطة بأقطار من تشعشع جاذبية ذلك المركز الثابت. وكيف أن جميع الأجسام المنتشرة على سطحه خاضعة لحكم تقلب الفصول والأوقات حسبما يقتضي حلوله في إحدى جهات تلك الدائرة المنطقية، وكيف أن كل تلك الأجسام نراها ثائرة على بعضها لتدفع عبودية التغلبات حتى نشاهد بينها معامع مهولة؛ فهناك تسمع ضوضاء حرب الجو تضج ضد غلبة المؤثرات، وترعد في آذان الأرض التي نراها تقذف السماء بلهيب غضبها. وعجيج عالم المتحركات يصدع رءوس الجبال العالية؛ إذ تشاهد كلا من أنواعه يشن الغارة الشعواء على ضده حتى يهلك الجنس ويباد. فترى أسلحة تتلامع في الشمس وتقعقع في الهواء، وجيوشا تتضارب على صهوات الخيول تاركة سحب غبارها تغشي وجه السماء، وأيادي تتجالد وتتقارع، ومخالب تخلب وتجرح، وأظافر تنشب وتهشم، وحوافر ترفس وتصدع، وأجنحة تخفق وتلطم، وذنابات وأفواها تلدغ وتلسع.
وكذلك نرى مملكة الحياة النباتية مشتغلة بدفاع غارات
2
الطقوس بوسائط وطرق لا ينجلي غموضها، ولا يحصى عددها، وهي تضج وتئن ليلا ونهارا مما تفعله بها لطمات الأرياح الهائجة التي تخطف ورقها وتنثر ثمرها. ونرى أيضا عالم السوائل يقاسي تبديد التبخير تحت أحكام الحرارة فيهب إلى العلا وينضم هناك إلى بعضه على أشكال متخالفة، ثم يهبط غائرا في بطون الجوامد فيصادمها وتدفعه ثم تقذفه إلى حيث يذهب آنا مضطربا منذعرا مما قاسى. فكيف لا يمكن والحالة هذه أن يقال لا حرية في الخليفة ولا خلاص من العبودية؟!
ومع ذلك فقد يمكن للإنسان أن يحصل على شبه الحرية ويتمتع بلذة الحياة على نوع ما. أما حصوله على الحرية فلا يمكن إلا إذا أدرك أن سني وجوده مهما كانت عديدة بالنسبة إلى ما سبقه من العدم وما سيرد عليه ليست إلا كبرق طفيف لمع في ليل دامس. وأن جميع مصائب الدنيا وأكدارها تحيط بهذه الفترة الحقيرة من الحياة التي يجب أن يستثني منها أوقات نومه وطفوليته وشيخوخته، وهي الأوقات التي تعتبر عدما. وأن جميع المحيطات به تجتهد في هدم بنيته لتسترد منه ما سرقه من موادها بالاغتصاب، ولا تغفر السرقة إلا بالرد الذي هو حكم المغتصب.
صفحة غير معروفة