ولما استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون وأصحابه شرب الخمر- وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحًا على ما فهموه من آية المائدة١ -اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصَرُّوا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جُلدوا، فلم يكفّروهم بالاستحلال ابتداءً لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق٢، فإذا أصرَّوا على الجحود كفروا، وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذّبه أحدًا من العالمين. فأمر الله سبحانه البرّ فردَّ ما أخذ منه، وأمر البحر فردّ ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له"٣. فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده، أو جوّز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلًا لم يتبيّن له الحق بيانًا يكفر بمخالفته فغفر الله له.
ولهذا كنتُ أقول للجهمية من الحلولية والنفاة والذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش- لما وقعت محنتهم-: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهّال، وكان هذا خطابًا لعلمائهم وفضلائهم، وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم من قصور في معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، وكان هذا خطابنا. فلذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذبًا عليه لم يكن له أن يشهد عليه بالزور، ولا أن يقذفه بالفاحشة". انتهى المقصود منه٤.
_________
١ وهو قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا..﴾ الآية [سورة المائدة: ٩٣] .
والخبر أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (٩/٢٤٠/ ١٧٠٧٥، ١٧٠٧٦) .
٢ وهذه قاعدة مهمة في مسألة التكفير؛ فاعقلها.
٣ أخرجه البخاري (٧٥٠٦) ومسلم (٢٧٥٦) .
٤ "الاستغاثة والرد على البكري" (٢/ ٤٩٢- ٤٩٤- ط. الغرباء الأثرية) .
1 / 47