فتحت عينيها ونظرت في الساعة، كانت السابعة، فردت ساقيها تحت الغطاء فشعرت بآلام في مفاصلها، أغمضت عينيها لتنام مرة أخرى لكنها لم تنم، كانت قد نامت أربع ساعات متصلة، ولم يسبق لها أن نامت أربع ساعات متصلة في النهار. وتذكرت فجأة أنها لم تكن متصلة، لقد صحت مرة وكانت الساعة الخامسة، ولم تكن نسيت أن موعد الساعاتي في السادسة، لكنها أغمضت عينيها وهي تقول لنفسها: لا زال أمامي ساعة كاملة، وصحت مرة أخرى في السادسة إلا ربعا، وحركت ذراعها لتكشف عنها الغطاء وتنهض لكنها شدت الغطاء فوق رأسها وهمست لنفسها؛ ماذا يحدث لو تأخرت قليلا، ولم تفتح عينيها بعد ذلك إلا في الساعة السابعة.
بقيت تحت الغطاء تتمطى وتتخيل منظر الساعاتي بجثته الضخمة وساقيه الرفيعتين وهو واقف أمام باب المعمل، ضاغط على الجرس، ولا أحد يرد. كانت تحس بسرور خفي؛ فقد خلصها النوم من الساعاتي إلى الأبد.
وملأها هذا الإحساس بالنشاط فاختفت آلام المفاصل ونهضت وارتدت ملابسها وخرجت، وبينما هي تهبط السلم، رأت أمها تفتح شراعة الباب، وبدأ وجهها الشاحب بخطوط تجاعيده الرأسية والأفقية والمائلة، من خلف القضبان الحديدية الرفيعة، كصفحة كتاب شطبت وشطبت عشرات المرات، وسمعت صوتها الواهن يقول: ذاهبة إلى المعمل؟ وقالت: نعم، وسألت: هل ستتأخرين؟ وردت في شرود: لا أعلم. ورغبت في أن تسألها شيئا، لكنها نظرت إليها في صمت ثم هبطت السلم وخرجت إلى الشارع.
كان الهواء باردا ثقيلا، وظلام الليل الكثيف يزيد من ثقل الهواء وكثافته. وسارت في الشارع بخطوات بطيئة حذرة. كأنما ستصطدم بشيء، وكأنما الظلام تكثف في بعض أجزائه فأصبح أجساما صلبة يمكن أن تصطدم بها، وأسرعت الخطى لتخرج من شارعهم المظلم، وسارت بحذاء المشتل، وامتلأ أنفها برائحة الياسمين فانقبض قلبها، لماذا تبقى رائحته في أنفها؟ لماذا يبقى ملمس شفتيه في عنقها؟ لماذا يبقى طعم قبلته في فمها؟ لماذا تبقى هذه الأشياء معها، في حين أنه اختفى، اختفى بلحمه ودمه ورائحته وشفتيه، اختفى بكل شيء فيه، فلماذا يبقى أي شيء منه؟
ولكن، هل بقي شيء منه؟ ألا تكون تلك الرائحة هي رائحتها، وذاك الملمس هو جلدها؟ وذلك الطعم هو لعابها؟ لماذا تبدو أشياؤهما مختلطة وممتزجة إلى هذا الحد ؟ أيمكن أن يكون هو جزءا منها؟ أو تكون هي جزءا منه؟ وتحسست رأسها وأطرافها، أي جزء يمكن أن يكون؟ وتحسست كتفيها وصدرها وبطنها، لكنها تنبهت فجأة أنها تسير في الشارع الواسع المضيء، ونظرات كثيرة تصوب نحوها، فأسرعت الخطى إلى محطة الأتوبيس.
ركبت الأتوبيس إلى ميدان التحرير، وسارت في اتجاه شارع قصر النيل، ورأت العمارة من بعيد فشعرت بالكتلة الصلبة تتحرك في قلبها؛ المعمل أيضا أصبح شيئا مقبضا. تلك الأنبوبة الفارغة التي تفتح فوهتها للهواء وجدرانها الزجاجية الشفافة تكشف قاعها الخاوي، منتصبة هناك في حاملها الخشبي، تؤكد وجودها بغير محتوى.
وفتحت باب المعمل ودخلت ولمحت فوق الأرض ورقة صغيرة فالتقطتها وقرأت الكلمات الصغيرة المنمقة: مررت في السادسة ولم أجدك، سأمر في التاسعة، الساعاتي. ونظرت في الساعة، كانت الثامنة والنصف، واستدارت بسرعة إلى الباب، لكنها سمعت الجرس فارتعدت ووقفت لحظة خلف الباب دون أن تفتح ودق الجرس مرة أخرى فقالت من وراء الباب: من؟ وجاءها صوت البواب فابتلعت ريقها وفتحت الباب، كان مع البواب رجل وامرأة، وسمعت البواب يقول: كانا يسألان عن معمل للتحاليل فأتيت بهما.
قادتهما إلى حجرة الانتظار حيث جلسا، وارتدت الفوطة البيضاء في غرفة الأبحاث ثم ذهبت إليهما. وقال الرجل بصوت خشن: جئنا لتعرفي بالتحاليل ما سبب عقم زوجتي. وأشار إلى المرأة التي كانت جالسة مطرقة في صمت، ووجهت فؤادة كلامها إلى المرأة قائلة: هل عرضت نفسك على طبيب؟ وحملقت فيها المرأة صامتة ورد الرجل قائلا: عرضتها على أطباء كثيرين، وعملت تحاليل وأشعات دون أن نعرف السبب، وسألته فؤادة: وهل فحصت نفسك أنت أيضا؟ ونظر إليها الرجل في دهشة وغضب، وقال: أنا؟ وقالت في هدوء: نعم أنت، الرجل أحيانا يكون السبب. ونهض الرجل واقفا وشد المرأة من ذراعها وقال في غضب: ما هذا الكلام الفارغ! إنها لن تحلل هنا!
وكان يمكن أن يأخذ زوجته ويخرج، لكن المرأة لم تتحرك من مكانها. ظلت واقفة جامدة تحملق في زوجها بعينين واسعتين لا ترمشان؛ كأنما ماتت وتجمدت في هذا الوضع. وشعرت فؤادة بشيء من الخوف فاقتربت من المرأة وربتت على كتفها قائلة: اذهبي مع زوجك يا سيدتي. وكأنما كانت في تلك اللمسة شحنة كهرباء فانتفضت المرأة وأمسكت بذراع فؤادة بكل قوتها وصاحت بصوت غريب: لن أذهب معه! أنقذيني! إنه يضربني كل يوم ويأخذني إلى أطباء يضعون أسياخا من الحديد في جسمي، فحصوا كل شيء وحللوا كل شيء، وقالوا إنني لست عقيما. إنه هو المريض! هو العقيم! تزوجني منذ عشر سنوات ولا زلت عذراء، إنه ليس رجلا! إنه لا يعرف في الظلام مؤخرتي من رأسي! وانقض عليها الرجل كالوحش، وراح يضربها بيديه وقدميه ورأسه، فأخذت المرأة تضربه بكل قوتها، وابتعدت عنهما فؤادة في ذعر وهي تتمتم لنفسها: مجنون! سيقتل المرأة في معملي! ماذا أفعل؟ واتجهت إلى الباب مسرعة، وخرجت إلى الممر لتنادي أحدا، ورأت باب المصعد يفتح فجأة، ويخرج منه الساعاتي.
وقالت في اضطراب: الرجل يضرب المرأة، ودوت صرخة عالية في تلك اللحظة فأسرع الساعاتي إلى المعمل، كانت المرأة راقدة فوق الأرض والرجل يضربها في بطنها بحذائه، وأمسكه الساعاتي بيد واحدة، وصفعه باليد الأخرى عدة صفعات على وجهه وألقى به هو والمرأة خارج الشقة وأغلق الباب.
صفحة غير معروفة