ثمن الكتابة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
ثمن الكتابة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الغائب
الغائب
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الفصل الأول
فتحت عينيها في ذلك الصباح وهي تشعر بانقباض غريب، يزحف في عروقها كنمل له دبيب، ثم يتجاذب ويتجمع في قلبها. ويلتصق بعضه ببعض متكورا كجلطة دم، تحتك بجدار قلبها حين يصعد صدرها أو يهبط كلما لاح لها أن تعطس أو تسعل أو تتنفس بعمق.
فركت عينيها وهي لا تفهم سبب هذا الانقباض؛ فالشمس ساطعة ككل يوم ينفذ ضوءها اللامع من خلال زجاج النافذة، ويسقط على مرآة الدولاب، فتعكس نورا كالوهج الأحمر فوق الجدار الأبيض وأوراق شجرة الكافور تلمع في الضوء ككل يوم وترتعش كقراميط صغيرة من السمك، والدولاب والشماعة والرف وكل شيء في مكانه في الحجرة.
ورفعت الغطاء عن جسمها ونهضت فوق قدميها الحافيتين، وسارت إلى المرآة بغير إرادة، لماذا تنظر في وجهها بمجرد أن تصحو من النوم؟ إنها لا تعرف تماما ما السبب، ولكنها تحس بأنها تريد أن تطمئن إلى أن شيئا غريبا لم يحدث لها أثناء النوم، إن رقعة بيضاء مثلا لم تزحف من بياض عينيها لتلتصق بالنني الأسود، أو أن ورما لم ينم فوق طرف أنفها المدبب.
ونظرت في المرآة، ورأت وجهها الذي تراه كل يوم، البشرة السمراء بلون اللبن الممزوج بالكاكاو، والجبهة العريضة تتهدل فوقها خصلة شعر غزيرة سوداء، وعينان خضراوان في داخل كل منهما نواة صغيرة سوداء، وأنف طويل حاد، وفم.
وسحبت عينيها بسرعة من فوق فمها، فهي تكرهه، أنه هو الذي يفسد شكل وجهها، تلك الفرجة اللاإرادية القبيحة، كأنما كان يجب أن تنمو شفتاها أكثر مما نمت، أو أن تنمو عظام فكيها أقل مما نمت، وسواء أكان هذا أم ذاك، فإن شفتيها لا تنطبقان بسهولة، وتظل هناك فرجة دائمة، تطل من تحتها أسنان بيضاء بارزة.
وشدت شفتيها وأغلقت فمها، وراحت تنظر في عينيها، إنها تنظر في عينيها دائما حين تتفادى النظر إلى فمها؛ فعيناها فيهما شيء، شيء ما يميزهما عن النساء كما يقول لها فريد.
ورنت كلمة فريد في رأسها، وانقشعت عن عينيها غشاوة النوم واستيقظت تماما، وتذكرت بوضوح شديد، ويقين لا يقبل الشك، ما حدث ليلة الأمس، وعرفت سبب ذلك الانقباض الذي جثم فوق صدرها، فإن فريد لم يأت في الموعد الذي اتفقا عليه ليلة أمس.
واستدارت لتترك المرآة، ولتخرج من باب حجرتها إلى الحمام، لكنها لمحت التليفون فوق الرف بجوار السرير، ووقفت لحظة، ثم سارت إلى طرف السرير وجلست تصوب إلى التليفون نظرة طويلة، ومدت أصبعها لتضعه في الثقب ولتدير القرص الخمس الدورات، لكنها سحبت يدها ووضعتها بجانبها فوق السرير؛ كيف تطلبه بعد أن أخلف الموعد بغير اعتذار؟ أليس من الممكن أنه أخلف الموعد عن عمد، وأنه لا يريد أن يراها، وأن حبه انتهى؟ انتهى كما ينتهي أي شيء، بسبب، أو بغير سبب، وما فائدة أن تعرف السبب ما دام قد انتهى، وهل يمكن أن تعرف السبب؟ إنها لم تعرف لماذا بدأ، كان يقول إنه يرى في عينيها شيئا ما وشيئا لا يراه في عيون الأخريات، شيئا يميزها عن النساء.
ونهضت من جوار التليفون وسارت إلى المرآة، ونظرت في عينيها، كانت تمعن النظر وتبحث عن ذلك الشيء ألما، ورأت الدائرتين البيضاوين الواسعتين تعوم داخلهما الدائرتان الخضراوان تتوسط كلا منهما تلك الحبة السوداء الصغيرة، عينان كأي عينين، كعيني الخروف، أو البقرة، أو الأرنب المذبوح.
أين هو ذلك الشيء الذي رآه فريد، والذي رأته هي بعينها، رأته أكثر من مرة يطل من داخل هاتين الدائرتين الخضراوين، كان يطل منهما، بارزا متحركا ككائن حي، أكان يتحرك؟ كيف كان يتحرك؟ إنها لا تذكر كيف كان يتحرك، ولا تذكر أنه كان يطل من الدائرتين الخضراوين، ربما كان يطل من مكان آخر، من أنفها ... من فمها ...! آه ... لا ... ليس فمها، ليس من تلك الفرجة القبيحة.
لم يكن هناك شيء ما، إنها لم تره، لم تره يطل من شيء، فريد كان يكذب، ولماذا كان يكذب؟ كان يكذب كما يكذب أي أحد، ما الغريب في أن يكذب أي أحد؟ ولكن فريد لم يكن أي أحد، كان مختلفا، كان مختلفا عن الآخرين، وكيف كان مختلفا؟ إنها لا تعرف تماما، ولكن كان هناك شيء ما في عينيه يجعلها تحس أنه مختلف، نعم كان هناك شيء ما في عينيه لا تراه في عيون الرجال، شيء ما يلمع ويطل من عينيه البنيتين، بارزا متحركا ككائن حي، وماذا كان هذا الشيء؟ إنها لا تتذكر، إنها لا تعرف تماما ماذا كان، ولكنها رأته، نعم رأته بعيني رأسها هاتين.
وصوبت أصبعها إلى عينيها فاصطدم بزجاج المرآة، وتنبهت، ونظرت إلى الساعة، كانت الثامنة، وتركت المرآة بسرعة، فقد حان موعد ذهابها إلى الوزارة.
توقفت مرة أخرى أمام الدولاب، فقد دخلت كلمة الوزارة مع الهواء إلى أنفها كحصوة مدببة، وحاولت أن تعطس لتطردها، لكن الهواء دفعها إلى صدرها، واستقرت في قاع صدرها، في ذلك الخندق المثلث تحت ضلوعها، أو بعبارة أدق عند تلك الفوهة التي تفتح على معدتها.
كانت تعرف أنها ستستقر في هذا المكان، إنها ترتع في تلك المساحة الخصبة، تأكل وتشرب وتنتفخ، نعم كانت تنتفخ كل يوم، وتضغط بجسمها الصلب على معدتها، التي كثيرا ما حاولت أن تلفظها، فتنقبض عضلاتها وتنبسط، وقد تفرغ كل ما في جوفها، لكن الكتلة الصلبة المدببة تبقى تحك بجدار معدتها كدبوس، ملتصقة به، قابضة عليه بأسنانها كدودة شريطية.
وسارت إلى الحمام وهي تحس بالألم المزمن تحت ضلوعها، تصاحبه رغبة في القيء لا تتحقق، وأسندت رأسها إلى حائط الحمام، إنها مريضة، مرضها حقيقي، وليس ادعاء، ولا يمكن لها أن تذهب إلى الوزارة.
ودب بعض النشاط في جسمها الناحل، وسارت بخطوات سريعة إلى السرير، ثم قفزت فوقه، ودخلت تحت اللحاف، وكان يمكن أن تغمض عينيها وتنام، لكنها تذكرت أنها يجب أن تطلب مدير القسم في التليفون وتعتذر له عن غيابها بسبب المرض.
وسحبت التليفون من فوق الرف، ووضعته فوق ركبتيها، ورفعت السماعة، ولكنها أعادتها بسرعة إلى مكانها، فقد تذكرت أنها استنفدت إجازاتها المرضية جميعا، ولا يمكن لأي مرض أن يشفع لها؛ بل لا يمكن للموت أيضا أن يمنحها إجازة، فقد ادعت الموت لكل أفراد أسرتها واحدا وراء الآخر، ولم يبق على قيد الحياة إلا هي، وهي لا تزال في الثلاثين، ولا يمكن لمدير القسم أن يصدق خبر موتها بسهولة.
ونهضت مرة أخرى تجر جسمها الثقيل، وتضغط بأصابعها فوق معدتها، ومرت بالمرآة متفادية النظر إليها، وارتدت ملابسها، واتجهت إلى الباب، وبينما هي تفتح الباب سمعت صوت أمها الواهن ينبعث من المطبخ قائلة: ألن تشربي الشاي؟ - ليس عندي وقت.
وأغلقت الباب خلفها وخرجت إلى الشارع.
كان الشارع مزدحما، لكنها لم تكن ترى شيئا، كانت عيناها لا تنظران إلى الخارج، وكان من الممكن أن تصطدم بشخص أو جدار، لكن قدميها كانتا تسيران وحدهما، بدراية عظيمة، تصعدان فوق الرصيف وتهبطان من فوق الرصيف تتفاديان حفرة، وتلفان حول كوم من الطوب، فكأن في قدميها عينين أخريين. وتوقفت قدماها عند محطة الأتوبيس، كان الزحام شديدا، وكانت الأجساد ترتطم بها، وداس شخص على قدمها وكاد يفرمها لكنها لم تحس إلا ضغطا ما فوق حذائها، ولم تعرف أنها داخل الأتوبيس إلا بتلك الاهتزازة التي تصيب جسدها، وتلك الرائحة الغريبة، التي لا تعرف تماما ما هي؛ فهي رائحة لا يألفها الأنف، ولا يعرف كيف يردها إلى مصدرها، فليس لها مصدر واحد، ليس هو الزوايا المنفرجة تحت الإبط، وليس هو الكهوف المظلمة اللاهثة وليس هو القشرة المشققة الخشنة يلتصق بها الشعر اللزج.
وتنبهت إلى شيء ما مدبب يضغط على كتفها، وكانت قد أحست به ولم تعره اهتماما، إن ضغوطا كثيرة، تضغط من كل ناحية على أعضائها جميعا، فلماذا تخص كتفها بهذا الاهتمام؟ ولكنها سمعت صوتا خشنا حادا يدخل أذنها كمسمار: التذكرة! وانتشر فوق وجهها رذاذ صغير كبشائر المطر، وفتحت حقيبتها بأصابع مرتجفة، فالرجل ينظر إليها نظرة غريبة، كنظرة شرطي إلى لص محترف، وهو يزمجر بكلمات لم تسمعها كلها، لكنها التقطت منها كلمتي ذمة وضمير.
وأحست أن وجهها يسخن، ليس لأنها سمعت هاتين الكلمتين، فهما وحدهما هكذا بغير حواشي وحروف أخرى لا يعنيان لها شيئا، لكنها رأت العيون كلها من حولها تتجه نحوها، وفي كل عين منها نظرة غريبة، كأنهم يحسون من أعماقهم أنهم متهمون مثلها ويحاولون نفي التهمة عن أنفسهم، ولكنهم يعلمون أنهم نجوا من العقاب ولم يبق لهم إلا تلك الشماتة الخفية فيمن يقع منهم.
ولكنها كانت متهمة على أي حال، وما دامت قد أصبحت متهمة، فقد ضاعت حقوقها في الاحترام، واستباحت عيون الرجال أعضاء جسمها كما يستبيحون أعضاء المومسات، وأحست بشيء يدفعها، وتقلصت عضلاتها داخل المعطف الواسع، ودفست رأسها في الياقة العريضة، ولم تثبت قدميها في الأرض لتترك جسمها في مهب التيار المتجه نحو الباب، وانقضت لحظة لم تعرف مداها من الانضغاط العنيف كورقة شجرة أو فراشة توضع بين الكتب من أجل التحنيط، ثم أحست بالضغط يزول فجأة، وإذا بجسمها يطير في الهواء كريشة حمامة ثم يرتطم بالأرض كقالب الطوب.
نهضت تنفض التراب عن معطفها، وشعرت بسعادة خفية حين تلفتت حولها فرأت مكانا لم تره من قبل، فقد خيل إليها أنها انتقلت إلى العالم الآخر في تلك اللحظة التي طار فيها جسمها في الهواء، لكن سعادتها لم تدم طويلا، فقد وجدت نفسها بعد خطوات قليلة أمام السور الحديدي الصدئ، وضغطت الدودة المزمنة بأسنانها على جدار معدتها، وباعدت ما بين فكيها لتفرغ ما في جوفها، لكن هواء جافا لاسعا اندفع من بين شفتيها، ودمعة صغيرة تجمدت عند زاوية عينها اليمنى وأخذت تحك فيها كذرة رمل.
رفعت رأسها إلى فوق، ورأت من خلال القضبان الحديدية ذلك المبنى الأسود، تتخلله بقع صغيرة صفراء تفضح لونه الأصلي، وعرفت بما يشبه اليقين أن هناك علاقة ما بين هذا المبنى وبين رغبة القيء المزمنة التي تشكو منها، فهي تبدأ حين تذكره، وتشتد شيئا فشيئا باقترابها منه، ثم تبلغ درجتها القصوى حين تبلغه، وتراه عينا لعين.
وقفت أمام الباب الحديدي لحظة تتلفت حولها، لم تكن تتعجل الدخول، فلتؤخر دخولها لحظة، من يدري؟ لعل في هذه اللحظة بالذات تسقط قنبلة من الجو فوقه، أو يرمي أحدهم عقب سيجارة مشتعلة في مخزن الملفات، أو تتوقف المضخة البالية في صدر مدير القسم فيصاب بسكتة قلبية.
وانقضت اللحظة دون أن يحدث شيء، فوضعت قدمها على عتبة الباب لتدخل وأبقت قدمها الأخرى على أرض الشارع، من يدري ماذا يمكن أن يحدث بين لحظة وأخرى؟ أشياء كثيرة تحدث في الحياة بين لحظة وأخرى، آلاف يموتون وآلاف يولدون، براكين تنفجر وتبتلع البيوت، زلازل أرضية تحدث وتدك المدن، أشياء كثيرة تحدث في الحياة بين لحظة وأخرى، أكثر مما يتخيله الناس، فالناس لا تتخيل إلا ما تعرفه، وتفهم معناه، وهل تعرف الناس ما معنى أن ينطلق صاروخ بين لحظة وأخرى؟ ليس صاروخا عاديا ولكنه صاروخ له رأس نووية، هل يمكن أن يتخيل الناس ماذا يمكن أن تكون الرأس النووية؟ وماذا يمكن أن يدك لو سقط من الجو؟ هل يعرف الناس أن السماء تزدحم بملايين من الكواكب تفوق الأرض حجما؟ ألا يجوز أن يسقط كوكب من هذه الكواكب المعلقة في الهواء فوق الأرض فيدكها دكا؟ أيمكن أن ينجو هذا المبنى القذر الأسود وحده من دون القارات الخمس؟ أيمكن أن يظل مدير القسم معلقا فوق كرسي مكتبه في الفضاء الخاوي يبل أصبعه في فمه، ويقلب بإمعان في دفتر الحضور والانصراف؟ هذا لا يمكن أن يحدث، وإذا حدث فلن يقبله أي عقل، وابتسمت وهي تقول لنفسها نعم لن يقبله أي عقل ... لكن الابتسامة تجمدت فوق شفتيها؛ فقد وجدت نفسها، بلحمها ودمها وبكامل وعيها وإرادتها في فناء الوزارة.
وقفت بقامتها الطويلة النحيلة تتلفت حولها في ذعر، كأنما وطئت قدماها بطريق الصدفة أرضا ملغمة، وبينما هي تقف على هذه الحال خيل إليها أن حركة ما غريبة ومفاجئة حدثت في الفناء، ورأت العربة الطويلة السوداء ذات البطن الأحمر تتهادى فوق أرض الفناء وكأن من تحتها ماء، ثم تنزلق كحوت ضخم لتقف أمام سلم رخامي أبيض، وليقف معها، وعلى كل جانب من جانبيها صف من تماثيل خشبية، يرتدي كل منها بدلة صفراء.
من أين جاءت هذه التماثيل في هذه اللحظة الخاطفة؟ إنها لا تدري، ربما كانت موجودة دائما هكذا دون أن تلحظها، أشياء كثيرة لا تلحظها رغم أنها موجودة، أهي لحظت مثلا أن هناك سلما رخاميا له هذا اللون الأبيض الناصع؟
واتسعت عيناها بالدهشة حين رأت واحدا من التماثيل يترك الصف ويتقدم نحو العربة بخطوات، وهي ليست خطوات بمعنى الخطوات، ولكنها اهتزازات وتشنجات كتلك الحركات التي تصدر عن العرائس المتحركة، وثنى نصفه الأعلى فوق نصفه الأسفل، ومد ذراعا طويلة متصلبة، وفتح باب العربة.
دعكت عينيها في تلك اللحظة لتطرد ذرة الرمل الغائرة في زاوية عينها اليمنى، لكن ذرة الرمل بدلا من أن تطرد إلى الخارج، ضغطت إلى الداخل، وحملقت بعينيها المحمرتين لترى ماذا يمكن أن يخرج من باب العربة، ورأت أول ما رأت بوز حذاء رجالي أسود مدبب، تبعته ساق رفيعة قصيرة لبنطلون رصاصي له ثنية عريضة منشاة، ثم خرج رأس كبير مخروطي أبيض تتوسطه رقعة صلعاء صغيرة عكست فوقها ضوء الشمس كمرآة، ثم كتف رصاصي مربع، ثم الساق الثانية القصيرة الرفيعة.
وتذكرت وهي تشهد خروج ذلك الجسم الآدمي عضوا عضوا، حالة ولادة شهدتها صدفة في البلد وهي طفلة، وكانت العربة لا تزال واقفة يرتفع ظهرها المقوس الأسود فوق مدخل السلم.
رأته يصعد السلم درجة درجة، وفوق كل درجة يتوقف لحظة، كأنما ليلتقط أنفاسه، فيثني رقبته إلى الوراء، ويهتز رأسه الكبير إلى الخلف كأنه سيسقط من خلف ظهره، لكنه لا يسقط، ويظل مشبوكا في الرقبة.
كان يخيل إليها أحيانا أنها تنظر إليه من خلال عدسة مصغرة، وكانت تظنه أحيانا عقلة الإصبع الذي كان بطل حكايات جدتها، وأحيانا أخرى حين تكون شاردة كما كانت في تلك اللحظة تنتهز حقيقته فرصة شرودها لتفرض عليها نفسها كوكيل لوزارة الكيمياء الحيوية التي تعمل فيها موظفة .
وابتلعه الدهليز الواسع، واختفت العربة، وفقدت التماثيل قوامها الصلب، وارتخت عضلاتهم وتهدلت، وساروا بسيقان معوجة إلى الدكة الخشبية الملاصقة للسلم فجلسوا عليها، وراحوا ينظرون إليها وهي تمر من جوارهم بعيون نصف مغمضة، وأفواه نصف مفتوحة، وقد يدس أحدهم في فمه لقمة خبز بالجبن القريش، أو يخرج صحن الفول المدمس من تحت الدكة.
واجتازت الفناء الواسع، ودارت حول المبنى الأسود حتى بلغت ظهره، وظهر المبنى كظهر أي شيء، أكثر سوادا، أكثر خشونة وغلظة، ووقفت لحظة أمام الباب الخشبي الصغير ذي الضلفة الواحدة، ترتسم فوقه بسواد كالهباب أشكال مختلفة. منها أصابع آدمية، ومنها دوائر كالأكف، وحروف كلمات مبتورة، ورأت كلمة انتخبوا وقد طمس السواد حروفها الثلاثة الأخيرة.
سارت في الدهليز الضيق المظلم، وصعدت السلم، وقفزت قدماها المدربتان فوق الدرجة المفقودة، وتفادتا قضيب الحديد البارز من «الدرابزين»، ووصلتا إلى الدور الرابع وانحرفتا إلى اليمين لتعبرا ممرا طويلا، وفاحت رائحة البول النتنة، وأشاحت بأنفها بعيدا عن باب دورة المياه، ثم دخلت من الباب الثاني المجاور لها، فأصبحت في مكتبها.
سارت إلى مكتبها وجلست، وأخرجت من الدرج فوطة صفراء ومسحت التراب من فوق المكتب فبدت قشرته السوداء وقد انتزعت في بعض أجزائها وظهر من تحتها لحم المكتب الأبيض، وأعادت الفوطة إلى مكانها في الدرج ثم رفعت رأسها، ورأت المكاتب الثلاثة الأخرى ملتصقة بعضها بالبعض في صف واحد طويل، ومن فوقها تبرز الرءوس الثلاثة المحنطة.
كانت الرائحة النتنة لا تزال في أنفها، وقد أضيفت إليها رائحة أخرى غريبة كتلك الرائحة التي تبيت في حجر النوم المغلقة المحكمة الإغلاق، ونهضت لتفتح النافذة لكن صوتا غليظا أشبه ما يكون بزمجرة حيوان مريض، قال: الدنيا برد! لا تفتحي.
عادت لتجلس إلى المكتب، وأخرجت من الدرج ملفا كبيرا، وتأملت الغلاف السميك الخارجي، ومن فوقه رقعة صغيرة بيضاء كتب عليها: الأبحاث الكيمياوية الحيوية. إنه خط يدها، والحروف مكتوبة بعناية وأناقة، كل حرف ضغط عليه بالقلم الحبر، إنها تذكر كيف ضغطت بالقلم على كل حرف، كان القلم جديدا، ودواة الحبر جديدة، لا تزال تذكر رائحة الحبر، كان منذ ست سنوات، لكنها تذكر الرائحة، وتذكر شكل أصابعها وهي تضغط على الحروف، كانت قد وقعت قرار استلامها العمل الجديد في قسم الأبحاث الكيمياوية الحيوية، وارتجفت أصابعها وهي تكتب اسمها تحت القرار الرسمي، أول مرة توقع قرارا رسميا، أول مرة يكون لتوقيعها قيمة رسمية.
وفتحت الغلاف، وظهر لها بطن الملف الأصفر، وقد شبك فيه من الوسط قضيب رفيع من الصفيح، تتدلى منه ورقة بيضاء، ليس عليها خط واحد.
أغلقت الملف وأعادته إلى الدرج ثم رفعت رأسها إلى السماء، لكن عينيها اصطدمتا بالسقف، فنهضت وسارت لتقف بالقرب من النافذة، ولتنظر من خلال الزجاج المتسخ إلى السماء.
شيء ما في السماء يجعلها تستريح ... ربما الاتساع، ربما اللون الأزرق القوي الثابت تحت ذلك البياض الزاحف، أو ربما لأن السماء تذكرها بفريد.
وهي لا تعرف ما العلاقة بين السماء وفريد؟! ولكنها تعرف أن هناك علاقة ما بينهما، ربما لأنها تكون موجودة دائما حين يكون فريد موجودا، أو لأنها تكون موجودة أيضا حين يغيب، وفريد لم يأت ليلة أمس إلى الموعد، أول مرة يخلف الموعد، ولم يتكلم في التليفون ولم يعتذر. ما الذي حدث ...؟
وبدت السماء ثابتة صامتة كأنها متواطئة معه، وواصلت السحب البيضاء زحفها وكأن شيئا لا يعنيها، وبرزت رءوس الأشجار من فوق المباني البعيدة سوداء متعرجة كالأورام.
فريد غاب لسبب، كل شيء يحدث في الحياة لسبب، الأشياء التي ظنت يوما أنها حدثت بغير سبب اتضح سببها بعد حين، ولكن ما السبب؟ قد تكون هناك حادثة أو مرض أو موت عزيز، وقد يكون شيئا آخر. ونقرت بأصابعها فوق زجاج النافذة، نعم، قد يكون شيئا آخر أراد فريد أن يخفيه؛ كان يخفي أشياء، كان يخفي أوراقا في أدراج مكتبه، وكان يغلق الباب أحيانا حين يتكلم في التليفون.
كانت هذه أشياء عادية لا تلفت نظرها، كل واحد له أسرار يحب أن يخفيها، خطابات غرامية قديمة، كمبيالات لم تسدد، عقود إيجار ثلاثة قراريط في البلد، صورة أمه بالجلباب والقبقاب، صور طفولته بطربوش زره ضائع. نعم هناك دائما أشياء يجب الواحد أن يخفيها في درج، إنه لا يستغنى عنها من حين إلى حين، وليس هناك ضرر في أن يضعها في درج مغلق في أسفل المكتب، ولكن أحاديث التليفون الطويلة من وراء الباب المغلق، ما تفسيرها؟
وضغطت بكعب حذائها فوق الأرض، فدخل في ثقب حفرة فأر أو صرصار في الخشب، وشدت قدمها لتخرج كعبها من الثقب فانخلع حذاؤها، وانثنت فوق الأرض وأخرجت الكعب وهي تنظر حولها، كانت الرءوس الثلاثة المحنطة لا تزال في وضعها إلا من تغيير طفيف، ونظرت في الساعة، كانت العاشرة والنصف، أمامها ثلاث ساعات ونصف لتخرج من هذا القبر، وجلست إلى المكتب لحظة، ثم نظرت إلى الساعة، كان العقربان الرفيعان قد تجمدا فوق الساعة العاشرة، ودست حقيبتها تحت إبطها، ونهضت ثم خرجت مسرعة.
وقفت لحظة في نهاية الممر قبل أن تهبط السلم، وفكرت أن تصعد إلى الدور الخامس وتعتذر لمدير القسم عن خروجها المبكر، ووضعت قدمها فوق السلم، لكنها بدلا من أن تصعد هبطت بسرعة وهي ترفع كتفيها، وتخفض رأسها إلى ما تحت ياقة المعطف العريضة.
ابتعدت بسرعة عن السور الحديدي، فأصبحت في الشارع الواسع المزدحم، وتركت كتفيها ورأسها تعود إلى وضعها الطبيعي، وسقطت أشعة الشمس فوق ظهرها فأحست بشيء قليل من اللذة، كان يمكن أن يكون أكثر من ذلك لولا تلك الهموم التي تثقل قلبها، ورأت المرأة الجالسة فوق الرصيف، ويدها الفارغة ممدودة للناس، وفي حجرها الطفل الصغير، وأشعة الشمس تغرق جسمها كله، وهي جالسة هادئة ساكنة، لا تجري هاربة من الوزارة، ولا يثقل قلبها كل تلك الهموم.
وتركت قدميها تسيران ببطء، لكن حركة الشارع السريعة انتقلت إليها كأنما بالعدوى، فوجدت قدميها تسرعان الخطى كأنها ذاهبة لتلحق بموعد هام، ولم يكن هناك موعد هام أو غير هام، لم يكن هناك أي شيء، ولم تكن تعرف إلى أين هي تسرع.
والتقطت عيناها من وسط الناس المسرعين فتاة طويلة نحيلة، خيل إليها أنها تشبهها؛ فقد كانت تمشي بسرعة، وتقذف بنصفها الأعلى إلى الأمام وكأنها على وشك أن تجري ولكن الخجل يمنعها، وفي يدها حقيبة تهتز، حقيبة جلدية سوداء كتلك الحقائب التي يحملها الأطباء أو المحامون أو كبار الموظفين، كانت الحقيبة منتفخة، ولا بد أن بداخلها أوراقا كثيرة وهامة، وأشارت الفتاة إلى تاكسي ثم قفزت فيه بنشاط ومرح واختفت. إنها تعرف إلى أين هي ذاهبة، وقدماها تقفزان في نشاط ومرح، لا شك أنها مشغولة جدا، ومنهمكة جدا ومستغرقة جدا، إنها تؤدي عملا هاما، وهي سعيدة بهذا العمل، راضية عن نفسها، تحس أنها شيء هام، نعم إنها شيء هام.
وأطبقت شفتيها وزمتهما لتزدرد ريقها، إنها شيء هام وليست مثلها متعطلة تتسكع في الشارع بغير هدف. وأحست أنها تحسدها، نعم؛ إن الحسد هي الكلمة التي يمكن أن تصف شعورها في تلك اللحظة، وهي لا تعرف معنى كلمة الحسد، ورثتها كما ورثت أنفها وذراعيها وعينيها، وهي تعرف أن الحسد عمل خارجي؛ أي إنها لا يمكن أن تحسد نفسها، ولا بد من وجود شخص آخر لتحسده، ولا بد لهذا الشخص من صفات يستحق بها الحسد، كأن يكون شيئا هاما، ليس شيئا هاما مجردا، ولكنه شيء هام بالنسبة لنفسها.
ووضعت يدها في جيب المعطف وراحت تلعب بأصابعها في ثقوب البطانية الحريرية كأنها تبحث عن شيء ما هام داخل نفسها، واكتشفت فجأة أن ليس لنفسها شيء هام، لم يكن اكتشافا، ولم يكن فجأة، ولكنه شعور مبهم متدرج بطيء بدأ منذ مدة لا تعرف مداها، ربما بعد أن تخرجت في كلية العلوم، ربما بعد أن اشتغلت في الوزارة، ربما أمس فقط حين ذهبت إلى المطعم ووجدت المائدة خالية، أو ربما في هذا الصباح حين اندس بين ردفيها ذلك الشيء المدبب وهي تقفز من الأتوبيس.
وابتلعت لعابا مرا وحركت لسانها الجاف وهي تقول لنفسها بصوت يكاد يكون مسموعا: نعم؛ أنا لست شيئا.
كان يمكن أن تردد مرة أخرى وتقول: أنا لست شيئا، لكن عضلات شفتيها تقلصت، فماتت الحروف في بطن فمها حيث زادت المرارة وأصبحت تلسع كالحامض.
ورفعت رأسها إلى فوق ، وراحت عيناها تفتشان في السماء كأنما تبحث عن شيء، نعم كانت تبحث عن شيء، فقد تذكرت صوت أمها وهي تقول: «ربنا يفتح عليك يا فؤادة يا بنتي وتخترعين اختراعا عظيما في الكيمياء.»
ورأت الزرقة لها مسام مسدودة، والسحب البيضاء تزحف فوقها بحركتها نفسها اللامبالية، وأطرقت رأسها إلى الأرض وهمست لنفسها بصوت لم يسمعه أحد: ظنونك خابت يا أمي وارتطمت دعواتك بسماء مصمتة.
ومصمصت شفتيها: اختراع عظيم في الكيمياء! ماذا كانت تعرف أمها عن الكيمياء؟ ماذا كانت تعرف عن الاختراع؟ كانت فؤادة ابنتها الوحيدة، وكانت ترضي طموحها الناقص فيها، وعلى عكس الأمهات في تلك الأيام لم تكن تفكر في زواجها، فلم يكن طموحها من ذلك النوع النسوي العادي، كانت قبل أن تتزوج قد ذهبت إلى المدرسة، وربما قرأت بعض القصص، ربما قرأت رواية عن فتاة تعلمت وأصبحت شيئا عظيما، ربما هي قصة مدام كوري أو واحدة أخرى من النساء الخالدات، لكنها فتحت عينيها ذات صباح فلم تجد مريلة المدرسة كما تركتها في الليلة السابقة فوق الشماعة، وسمعت صوت أبيها الخشن يقول: لن تذهبي إلى المدرسة. وجرت إلى أمها تبكي وتسأل عن السبب، ولم يكن السبب سوى الزوج، وكان هذا كافيا لأن تكرهه من أول نظرة، وظلت تكرهه حتى مات، وبعد أن مات وكانت فؤادة لا تزال في المدرسة الثانوية قالت لها أمها وهي تسوي شعرها الأسود الناعم أمام المرآة وتتأمل قوامها الممشوق:
مستقبلك في المذاكرة يا بنتي، الرجل ليس له فائدة.
كانت أمنية أمها أن تدخل فؤادة كلية الطب، ولكنها لم تحصل على مجموع عال في نهاية المرحلة الثانوية، ربما لأنها لم تستذكر كثيرا، أو ربما كانت تجلس في حصة التاريخ بجوار النافذة، وتشرد عيناها بعيدا إلى تلك الشجرة الكبيرة تنتشر فوقها زهور حمراء كثيرة متلاصقة فكأنها عمامة نثر فوقها مسحوق النحاس الأحمر، واكتشفت وهي جالسة في حصة التاريخ أنها تحب لون مسحوق النحاس الأحمر، وأنها تحب حصة الكيمياء، وأنها تكره التاريخ، لم تكن ذاكرتها تعي أسماء الملوك والحكام الذين حكموا مصر قبل أن يموتوا، لم تكن تفهم لماذا يضيع الأحياء وقتهم في اجترار ما فعله الأموات، لقد مات أبوها، ولعلها فرحت قليلا حين مات، لم تكن فرحتها بسبب شيء معين؛ فلم يكن أبوها شيئا معينا في حياتها، كان مجرد أب، ولكنها فرحت لأنها أحست أن أمها فرحت، وسمعتها بعد أيام تقول: لم يكن له فائدة كبيرة، واقتنعت بكلامها كل الاقتناع، فماذا كانت فائدة أبيها؟
لم تكن ترى أباها إلا يوم الجمعة، فقد كان يجيء إلى البيت بعد أن تنام ويخرج قبل أن تصحو، وكان البيت هادئا نظيفا في كل الأيام ما عدا يوم الجمعة، كان أبوها يبلل الحمام حين يستحم، ويخرج من الحمام ليبلل الصالة، ويقذف بملابسه المتسخة في كل مكان، ويرفع صوته الخشن بين لحظة وأخرى، ويسعل كثيرا ويبصق كثيرا ويتمخط بصوت عال حاد، وكانت مناديله كثيرة جدا وقذرة دائما، تضعها أمها في الماء المغلي وتقول لها: لأطهرها من الجراثيم، ولم تعرف فؤادة يومها ما معنى الجراثيم، لكنها سمعت مدرسة الصحة والأشياء تقول في إحدى الحصص إن الجراثيم أشياء صغيرة ضارة بالإنسان، وسألت مدرسة الفصل في ذلك اليوم: أين توجد الجراثيم يا بنات؟ لكن الفصل ظل ساكنا، ولم ترفع واحدة من البنات أصبعها، وأحست فؤادة أنها تعرف الجواب فرفعت أصبعها إلى أعلى في ثقة وكبرياء، وابتسمت المدرسة لتشجعها وقالت في رقة: هل تعرفين أين توجد الجراثيم يا فؤادة؟ ونهضت فؤادة واقفة رافعة رأسها فوق البنات وقالت بصوت عال مليء بالثقة: نعم يا أبلة، الجراثيم توجد في مناديل أبي. •••
وجدت فؤادة نفسها في البيت، في حجرة نومها، جالسة على طرف السرير تحملق في التليفون الراقد فوق الرف، لم تعرف كيف حملتها قدماها كل تلك المسافة الطويلة وكيف صعدتا في الأتوبيس، وكيف هبطتا منه في المحطة الصحيحة، وكيف سارتا من المحطة إلى البيت، كيف فعلتا ذلك كله وحدهما دون أن تدري هي، ولم تفكر في هذا الأمر التافه طويلا، فهي لا تتصور أن هذه صفة تفرد أو تميز تحظى بها قدماها ، فأقدام الحمار تفعل الشيء نفسه في صمت وهدوء.
ومدت يدها إلى التليفون، ووضعت أصبعها في القرص وأدارته الخمس الدورات المعهودة، وجاءها الجرس، فأسندت ظهرها إلى مسند السرير استعدادا لعتاب طويل، وظل الجرس يرن، ونظرت إلى الساعة، كانت الثانية عشرة، فريد لا يخرج من البيت قبل الواحدة أو الثانية، ربما يكون في حجرة النوم يقرأ في السرير، وبين حجرة النوم وحجرة المكتب حيث التليفون، ممر طويل، ربما يكون في الحمام والجرس لا يسمع من وراء باب الحمام المغلق، ورفعت عينيها إلى النافذة، ورأت فروع شجرة الكافور تتلاعب من وراء الزجاج، الشجر أيضا له قدرة على التلاعب، وكانت السماعة لا تزال ملتصقة بأذنها، والجرس الحاد يرن فيها رنينا عاليا، وخطرت لها فكرة؛ فوضعت السماعة لحظة ثم رفعتها وعادت تطلب الرقم من جديد وتأكدت أنها تضع أصبعها في الثقب الصحيح، وما إن توقف القرص بعد الدورة الخامسة حتى انطلق الجرس في أذنها كالقذيفة، وظلت ممسكة بالسماعة إلى جوار أذنها فترة طويلة، تكفي لخروج أي شخص من حمام، أو لاستيقاظه من النوم، وخطرت لها فكرة أخرى فوضعت السماعة لحظة ثم رفعتها وطلبت الدليل، وسألت عما إذا كان هناك عطل ما في التليفون ورد عليها الصوت الناعم الممطوط بعد لحظة يقول:
التليفون سليم، معك الجرس.
ودوى الجرس في أذنها مرة أخرى حادا عاليا لا ينقطع، فوضعت السماعة في مكانها فوق التليفون وأسندت رأسها إلى حافة المسند وراحت تحملق في النافذة.
لم تكن فكرت من قبل في علاقتها بفريد، كانت تعيشها فحسب، لم يكن هناك متسع للاثنين معا، أن تعيشها وأن تفكر فيها، وكان فريد مشغولا دائما، يقضي الساعات مع كتبه وأوراقه، قد يقرأ، وقد يكتب أشياء يضعها بعناية في درج المكتب، ويغلق الدرج بالمفتاح، وكان يخرج عصر كل يوم ويتأخر ليلا، وقد يقضي بعض الليالي خارج البيت، ولم تكن تسأله أين يذهب، لم تحب أن تقوم بدور الزوجة المستجوبة، بل لم تحب أن تقوم بدور الزوجة على الإطلاق، كانت تعشق حريتها، وتعشق حجرتها الخاصة وسريرها الخاص، وأسرارها الخاصة وأخطاءها الخاصة، لم تكن لها أخطاء بمعنى الأخطاء، ولكنها كانت تحب أن تختفي أحيانا فلا يعرف فريد طريقها، وكانت تطرب لكلمات الإعجاب حين تسمعها من فم رجل، طربا لذيذا خاليا من الدهشة؛ فقد كانت على يقين من أن فيها شيئا ما يستحق الإعجاب، لكن فريد كان محور حياتها، كانت تبتلع أيامها كجرعة من زيت الخروع، ثم يهل يوم الثلاثاء بإشراقته العجيبة؛ الثلاثاء هو موعدها مع فريد، كل ثلاثاء في الثامنة مساء في ذلك المطعم الصغير إذا كان الجو دافئا، أو في بيته في ليالي الشتاء القارصة، كم شتاء مر على علاقتهما؟ إنها لا تعرف تماما، ولكنها تعلم أنها تعرف فريد منذ زمن بعيد، وربما بعيد جدا.
كم شتاء مر، وكم ثلاثاء مر، وفي كل ثلاثاء يأتي فريد، لم يخلف الموعد مرة واحدة، ولم يكذب مرة واحدة، ربما أخفى عنها أشياء، لكنه لم يكذب، حتى حينما جاءت سيرة الزواج من حيث لا يدريان قال لها وهو ينظر إليها بعينيه البنيتين اللامعتين: لن أستطيع الزواج فترة من الزمن، لو قالها أي رجل آخر فربما أحست بشك فيه، أو بطعنة في كرامتها، لكن فريد كان مختلفا وكان كل شيء معه يصبح مختلفا. حتى الكلمات تفقد معناها التقليدي المعروف، والأسماء قد تبدو فجأة وكأنها لا تنطبق على الأشياء التي سميت بها، أو تبدو فارغة المعنى بغير محتوى. كلمة كرامة مثلا، ماذا تعني كلمة كرامة؟ أن يحافظ الإنسان على عزة نفسه؟ ضد من؟ ضد الآخرين؟ نعم؛ لا بد أن يكون هناك آخرون ليدافع الشخص عن عزة نفسه ضدهم.
ولكن لم يكن بينها وبين فريد شيء اسمه آخرون، أو شيء اسمه نفسها ضد نفسه، كانا يتبادلان كل شيء في الحب حتى نفسيهما، فتصبح هي نفسه ويصبح هو نفسها، ويدافع هو عن حقوقها، وتتولى هي الدفاع عن حقوقه، كان شيئا غريبا ذلك الذي يحدث بينهما، ولكنه كان يحدث بسهولة، ومن تلقاء نفسه، كهواء يدخل الأنف، لقد كان شيئا طبيعيا جدا.
وسمعت صوت قدمي أمها تزحفان في الصالة، في اتجاه حجرتها، فنهضت بسرعة وبدأت تتحرك في الغرفة؛ إنها لا تحب أن تدخل حجرتها فتراها ساهمة تحملق في الفضاء كالمعتوهين، ورأت أمها وهي تقف على عتبة الباب بطرحتها البيضاء وجلبابها الطويل وتقول لها بصوتها الضعيف المبحوح: أراك بملابس الخروج، هل ستخرجين؟ وردت عليها بغير تفكير سابق في الخروج: نعم. وقالت أمها: والغداء؟ وأمسكت فؤادة حقيبة يدها استعدادا للخروج وهي تقول: لا أشعر بجوع.
لم تكن فؤادة تعرف لماذا خرجت، كانت تريد ألا تبقى في البيت، كانت تريد أن تتحرك، وأن ترى حركة من حولها، وأن تسمع صخبا عاليا، يعلو على ذلك الجرس الذي يرن في أذنيها بإصرار واستمرار لا ينقطع، وخرجت من شارع بيتها، وانحرفت إلى اليمين لتسير بحذاء السور الحجري لمشتل الزهور، ورأت زهرات الياسمين البيضاء تلمع كقروش من الفضة في ضوء الشمس الساطع، وامتدت يدها بحكم العادة وقطفت واحدة، دعكتها بين أصابعها، وامتلأ أنفها برائحة الياسمين فشعرت بالكتلة الثقيلة تتحرك في قلبها، رائحة الياسمين كان لها معنى لقائها مع فريد، وكان لها ملمس قبلاته فوق عنقها، ولكنها الآن تعني غيابه، وهي برائحتها القوية تركز هذا الغياب فيرسب في أعماقها إحساسا واقعيا كئيبا، وكان كالوهم، أو كالحلم الذي سينتهي حتما حين تصحو من النوم.
وتركت زهرة الياسمين البالية تسقط من بين أصابعها، وسارت في الشارع الضيق الصغير ثم خرجت منه إلى شارع النيل، وعرفت فجأة أنها لم تخرج من البيت بغير سبب، أو لمجرد الحركة، كان لها هدف محدد تريد أن تبلغه، وسارت بضع خطوات قليلة فوجدت نفسها أمام باب المطعم الصغير.
ترددت لحظة وهي تدخل، لكنها دخلت، واجتازت الممر الطويل وسط الشجر، وبدأ قلبها يدق، فقد تصورت أنها ستخرج من هذا الممر لترى «فريد» جالسا إلى المائدة ذات المفرش الأبيض، ظهره ناحيتها ووجهه ناحية النيل، كتفاه مائلتان إلى الأمام قليلا، وأذناه الصغيرتان محتقنتان بالدم، وشعره الأسود يهبط في غزارة خلف أذنيه، وأصابعه الطويلة الرفيعة فوق المائدة تلعب بقصاصة ورق، أو تقلب في النوتة الصغيرة التي يحتفظ بها دائما، أو تفعل أي شيء آخر، ولكنها لا تبقى ساكنة أبدا.
نعم، ستخرج من الممر فتراه جالسا هكذا، وسوف تمشي على أطراف أصابعها حتى تقف خلفه، وتمد ذراعيها حول رأسه وتغطي عينيه بيديها، وسوف يضحك ويمسك يدها بقوة، ويقبلها أصبعا أصبعا.
ودق قلبها بعنف حين وصلت إلى نهاية الممر، وانحرفت إلى اليسار خطوة لتخرج منه، ورفعت رأسها نحو المائدة، فغاصت جلطة الدم في قلبها؛ كانت المائدة خالية، عارية بغير مفرش أبيض، واقتربت منها وتحسست ظهرها وكأنها ستعثر على شيء نسيه فريد، على ورقة صغيرة تركها لها، لكن أصابعها لم تلمس إلا ظهر المائدة الخشن المتعرج، يضربه الهواء من كل ناحية كجذع شجرة عجوز.
ولمحها الجرسون فجاء إليها يبتسم، لكنه رأى وجهها فأطرق إلى الأرض، وسارت نحو الممر، وقبل أن تنحرف لتدخل فيه استدارت ونظرت إلى المائدة، كانت لا تزال خالية فاندفعت داخل الممر ثم خرجت من المطعم بخطوات سريعة.
لم تكن تعرف إلى أين هي تسرع، كانت تعرف أنها تفر، تفر من المطعم، ومن البيت، ومن شارع النيل، ومن كل تلك الأمكنة التي تذكرها بفريد، كانت الأمكنة متواطئة معه، تخفي غيابه، وتؤكد وجوده، الأمكنة أيضا تنافق كما ينافق الموظفون. وأسرعت الخطى لتخرج من شارع النيل، ولتبحث عن مكان محايد لم ير «فريد»، ولم يعرفه ولن يكون متواطئا معه.
ووجدت نفسها في شارع الدقي الفسيح، ورأت أتوبيسا على وشك التحرك فقفزت فيه دون أن تعرف رقمه، ووضعت قدمها على السلم، وظلت القدم الثانية طائرة في الهواء، وامتدت إليها الأيدي تساعدها على الطلوع، واستطاعت أن تدس قدمها الثانية بين الأقدام الواقفة على السلم، وأحاطت بها ذراع طويلة قوية لتحميها من السقوط، ثم وجدت نفسها تدفع مع الأجسام إلى داخل الأتوبيس.
واحدة من الملايين، جسم من الأجسام البشرية التي تزحم الشوارع والمواصلات والمساكن، من هي؟ فؤادة خليل سالم، أنثى، من مواليد الصعيد، ورقم البطاقة 3125098 مركز شباط، ماذا يمكن أن يحدث للعالم لو أنها سقطت تحت عجلات الأتوبيس؟ لن يحدث شيء ، ستظل الحياة كما هي تجري لاهثة غير عابئة ولا مبالية، ربما تكتب أمها نعيها في صفحة الوفيات، ولكن ماذا يفعل سطر في جريدة؟ ماذا يغير في العالم؟
ودارت عيناها حولها في دهشة، ولكن لم الدهشة؟ إنها واحدة من ملايين فعلا، وهي جسم من الأجسام المحشورة في الأتوبيس فعلا، وهي لو سقطت تحت العجلات وماتت فلن يغير موتها من العالم شيئا، ما وجه العجب في هذا؟ لكنها كانت لا تزال تحس أنه عجيب، أنه شيء يثير دهشتها، شيء لا يمكن أن تصدقه أو تقبله.
فهي ليست واحدة من ملايين، إن في أعماقها شيئا يؤكد لها أنها ليست واحدة من ملايين، أنها ليست كتلة بشرية تتحرك، أنها لا يمكن أن تعيش وتموت فلا يحدث للعالم أي تغيير، نعم، في أعماقها شيء يؤكد ذلك، ليس في أعماقها وحدها، وإنما في أعماق أمها أيضا، وفي أعماق مدرسة الكيمياء وفي أعماق فريد.
وزحف في رأسها صوت أمها تقول: ستكونين شيئا عظيما مثل مدام كوري، وتبعه صوت مدرسة الكيمياء يقول: فؤادة شيء آخر غير باقي بنات الفصل، وهمس صوت فريد في أذنها: فيك شيء لا يوجد عند الأخريات.
ولكن ما قيمة كل هذه الأصوات المنتهية؟! لقد دوت مرة أو مرات وأحدثت ذبذبات في الهواء ثم انتهت. أمها قالت لها ذلك وهي صغيرة منذ زمن بعيد، ومدرسة الكيمياء قالتها وهي في المدرسة الثانوية منذ سنين كثيرة، وفريد قالها، نعم فريد قالها، ولكن فريد صوته تلاشى في الفضاء، وهو نفسه اختفى من الوجود، فكأنه لم يكن أبدا موجودا.
وداست امرأة سمينة فوق قدمها، ولكزها الكمساري في كتفها لتدفع التذكرة، وامتد كف كبير من الخلف وضغط على فخذها، نعم جسم من الأجسام التي تزحم العالم، وتملأ الجو برائحة العرق، واحدة من ملايين، ملايين، ملايين، وقالت بصوت عال دون أن تدري: ملايين ملايين! وحملقت فيها المرأة السمينة بعينين واسعتين كعيني البقرة، ونفخت في وجهها رائحة البصل فأشاحت بوجهها إلى ناحية النافذة، ورأت من خلال الزجاج ميدان التحرير فاندفعت بكل قوتها لتنزل من الأتوبيس. •••
وقفت في الميدان الواسع، تتلفت حولها، وترفع رأسها إلى فوق لترى العمارات العالية، وقد امتلأت واجهاتها بالأسماء ذات الخطوط العريضة، أطباء ومحامون ومحاسبون وخياطون ومدلكون ... إلخ، والتقطت عيناها لافتة كتب عليها: معمل عبد السميع للتحليلات، وفجأة اتضح في رأسها شيء، كأنما صوب نحو رأسها ضوء كشاف صغير، ولاحت الفكرة في رأسها واضحة في النور الجديد، كانت في رأسها دائما، كامنة في الظلام، لا يصدر عنها حركة، لكنها كانت موجودة، وكانت تعرف أنها موجودة.
ولكنها لم تعد موجودة فحسب، لقد بدأت تتحرك، وتخرج من ركنها المظلم إلى منطقة الضوء، واستطاعت فؤادة أن تقرأها، نعم لقد كانت مكتوبة بخط عريض واضح فوق واجهة العمارة: معمل فؤادة للتحليلات الكيميائية.
كانت هذه هي الفكرة المزمنة في رأسها، لم تعرف متى بدأت، فهي ليست من الذين يحفظون التواريخ، أو يجيدون حساب الزمن، الزمن أحيانا يمضي بسرعة، بسرعة شديدة، كسرعة دوران الأرض، فيبدو لها وكأنه لا يتحرك، وأحيانا أخرى يمضي ببطء، ببطء شديد فيهز الأرض هزا كبركان ينتفخ في باطنها.
إنها فكرة بدأت منذ زمن بعيد، لاحت لها مرة وهي جالسة في حصة الكيمياء في المدرسة الثانوية، لم تكن واضحة كل هذا الوضوح، وإنما كانت تتراءى لها من خلال بخار كالضباب، وكانت عيناها تتبعان باهتمام تلك الحركة الغريبة داخل أنبوبة الاختبار، وتلك الألوان التي تختفي فجأة وتظهر فجأة، والأبخرة ذات الروائح الغريبة، والراسب المتخلف في القاع، مادة جديدة هي نتاج تفاعل كيميائي لمادتين مختلفتين، لها صفات جديدة، ولها شكل جديد، ولها إشعاع جديد، وتنتهي حصة الكيمياء، وتبقى هي في المعمل، تمزج المواد بعضها بالبعض، وتراقب بدهشة التفاعلات، وتشم الغاز المنبعث من فوهة الأنبوبة ثم تصرخ في فرح: غاز جديد! ... اريكا.
وكان مساعد المعمل يندفع بجسمه الرفيع المدبب كرصاصة ويصيح بصوت عال حاد كانفجار موقد الغاز: اطلعي بره! ويشد من بين أصابعها أنبوبة الاختبار ويلقي مواد اكتشافها في البالوعة وهو يلعن الزمن الذي جعله مساعد معمل في مدرسة بنات حقيرة، وكان المفروض أن يكون معيدا في كلية العلوم لو أنه أكمل دراسته، ونفد صبرها في يوم وهو يلقي مواد تجربتها الفريدة في الحوض وصرخت: ضيعت اكتشافي! ورأته وهو يزم عينيه الضيقتين في نظرة ساخرة فأشاحت بوجهها بعيدا عنه وخرجت تجري من المعمل، وظلت نظرته الساخرة تطاردها وتعطلها عن اكتشافها فترة طويلة، وكان يمكن أن تصرفها نهائيا عن فكرة الاكتشاف الملحة، لولا أن عقلها كان قد اتجه إلى حصة الكيمياء، وإلى مدرسة الكيمياء.
كانت مدرسة الكيمياء طويلة نحيلة مثلها، ولها عينان باسمتان دائما أبدا، فيها نظرة عميقة دسمة كلها ثقة، وكان يخيل إليها أن هذه الثقة كلها متجهة إليها هي وحدها دون بنات الفصل، لماذا؟ هذا ما لم تكن تعرفه بالضبط، لم تكن هناك دلائل مادية عليه، ولكنها كانت تحسه، وتحسه بقوة، خاصة حين تقابلها صدفة في فناء المدرسة وتنظر إليها ثم تبتسم. لم تكن تبتسم لكل البنات، نعم لم تكن تبتسم للكل، ثم كان ذلك اليوم التاريخي، حين جاء مفتش الكيمياء وسألت المدرسة سؤالا لم تعرفه واحدة من الفصل سوى فؤادة، في ذلك اليوم سمعت صوت المدرسة يقول لها أمام الفصل كله وأمام المفتش أيضا: فؤادة شيء آخر غير باقي بنات الفصل. قالت هذه الجملة بنصها لا تزيد ولا تنقص حرفا، فهي محفورة في مخها كما نطقتها بحروفها المتشابكة، والمسافات التي تفصل الكلمة عن الكلمة، ونقط الحروف وفواصلها، وانحفار كلمتي «شيء آخر» بدرجة أشد، وامتداد الشرطة فوق الألف في كلمة آخر، تماما وبالضبط، وفقا للدرجة التي ضغطت بها المدرسة على كل حرف وزمن كل سكتة بين كلمة وكلمة.
نعم، أصبحت فؤادة تحب الكيمياء، لم يكن حبا عاديا كحبها للجغرافيا والهندسة والجبر، ولكنه كان حبا غير عادي، كانت تجلس في حصة الكيمياء فتصيب عقلها انتفاضة غريبة كالمغنطة، ويصبح كل شيء من حولها قابلا للالتصاق بمخها؛ صوت المدرسة، كلماتها، لفتاتها، جزئيات المواد المسحوقة التي قد تتطاير في الهواء، القطع المعدنية التي قد تتفرق فوق المنضدة، ذرات الأبخرة والغازات التي قد تطير في الجو، كل ذرة، كل اهتزازة، كل ذبذبة، كل حركة وكل شيء يلتقطه عقلها، كما يلتقط المغناطيس ذرات المعادن من فوق الخشب.
وكان طبيعيا بعد كل هذا أن يصبح عقلها كيميائيا، وتتخذ الأشياء من حولها أشكالا وأوصافا كيميائية، لم يكن غريبا عليها أن تحس يوما أن مدرسة التاريخ قد صنعت من النحاس الأحمر، وأن مدرسة الرسم صنعت من الجير المطفي، وأن الناظرة صنعت من المنجنيز، وأن غاز كبريتيد الأيدروجين ينبعث من فم مدرس العربي، وأن صوت مدرسة الصحة والأشياء كصوت احتكاك قطع الصفيح.
أصبح للمدرسين والمدرسات جميعا صفات معدنية إلا شخصا واحدا، كان هو مدرسة الكيمياء، كان صوتها وعيناها، وشعرها، وكتفاها، وذراعاها وساقاها وكل شيء فيها أعضاء إنسانية حية متحركة تنبض كشرايين القلب، كانت إنسانا حيا من لحم ودم لا يمكن أن يمت إلى المعادن بصلة.
لكن صوتها كان أبرز ما فيها، كانت له نكهة حلوة كنكهة برتقالة فوق شجرة، أو زهرة ياسمين صغيرة السن مغلقة لم تفتح ولم تلمسها أصبع. وكانت فؤادة تجلس في حصة الكيمياء وتفتح للصوت الحلو عينيها وأذنها وأنفها ومسام جسمها، وتدخل الكلمات من هذه الفتحات جميعا كهواء نقي دافئ.
وفي يوم حمل إليها الصوت قصة اكتشاف الراديوم، كان قد حمل إليها من قبل أسماء رجال كثيرين اكتشفوا أشياء، وكانت تقرض أظافرها وهي تسمع وتقول لنفسها: لو كنت رجلا لاستطعت مثلهم، وتحس بطريقة خفية أن هؤلاء المخترعين لا يزيدون عنها قدرة على الاكتشاف ولكنهم رجال. نعم، الرجل قد يفعل شيئا لا تفعله المرأة لمجرد أنه رجل، إنه ليس أكثر قدرة، ولكنه ذكر، وكأن الذكورة في حد ذاتها شرط من شروط الاكتشاف.
ولكن، ها هي امرأة تكتشف شيئا، امرأة مثلها وليست ذكرا. وبدأ الإحساس الخفي بقدرتها على الاكتشاف يقل اختفاء، وأصبحت على استعداد لأن تتأكد أن هناك شيئا ما حولها ينتظرها لترفع عنه الحجاب وتكتشفه، شيء موجود كالصوت والضوء والغازات والبخار وإشعاعات اليورانيوم، نعم؛ شيء موجود لكن أحدا غيرها لا يحس وجوده. •••
وجدت فؤادة جسمها ممددا فوق سريرها، وعيناها تحملقان في السقف ، ليس في السقف كله، وإنما في دائرة صغيرة مشرشرة سقط الطلاء الأبيض من فوقها فأصبحت بلون الأسمنت، كانت تحس ألما في قدميها من كثرة ما تجولت في الشوارع المتفرعة من ميدان التحرير، لم تكن تعرف تماما لماذا تتجول، لكنها كانت كأنما تبحث عن شيء، ربما كانت تبحث عن فريد فيمن يقابلها من الناس؛ لأنها كانت تحملق في وجوه الرجال، وتفحص الرءوس التي تمر من وراء زجاج عربة أو تاكسي، ربما كانت تبحث عن شقة خالية؛ لأنها كانت تتوقف هنا وهناك أمام العمارات الجديدة وترمق البواب بنظرة طويلة حائرة.
ولكنها الآن تحملق في رقعة السقف المشرشرة بغير تفكير في شيء محدد، وسمعت صوت قدمي أمها تزحفان في اتجاه حجرتها فشدت اللحاف بسرعة فوق جسمها وأغمضت عينيها متظاهرة بالنوم العميق، وسمعت صوت أنفاس أمها اللاهثة وعرفت أنها واقفة على عتبة الباب تتأملها وهي نائمة، وحرصت فؤادة على أن تبقى بغير حركة وتركت صدرها يعلو ويهبط في تنفس عميق منتظم، ثم سمعت صوت القدمين تزحفان بعيدا عن حجرتها، وكان يمكن أن تفتح عينيها وتعود تحملق في السقف لكنها شعرت براحة وهي مغمضة العينين، وفكرت في أن تنام، لكنها قفزت من السرير بسرعة، فقد خطرت لها فكرة؛ وأدخلت نفسها في المعطف الكبير، واتجهت إلى باب حجرتها، لكنها توقفت لحظة كأنما تذكرت شيئا، وسارت إلى التليفون وأدارت القرص الخمس الدورات، وجاءها الجرس عاليا حادا لا ينقطع، فوضعت السماعة وخرجت من البيت مسرعة.
كانت تسير بسرعة، توجه قدميها من هذا الشارع إلى ذاك، وتقفز في أتوبيس تعرف رقمه ثم تنزل في محطة تعرفها كل المعرفة، وتنحرف إلى يمينها في شارع جانبي صغير تعرف أن في نهايته بيتا أبيض، من ثلاثة أدوار، له باب صغير خشبي.
ورأت البواب الأسمر جالسا على دكته في مدخل السلم، وكانت على وشك أن تسأله عن فريد لكنها تجاهلت نظرته الفاحصة المستطلعة الخاصة بكل البوابين، إنه يعرفها، وقد رآها مرات ومرات تصعد إلى شقة فريد، لكنه كان دائما وفي كل مرة يصوب إليها النظرة نفسها الفاحصة المستطلعة، وكأنه لا يعترف بكل تلك العلاقة بينها وبين فريد، وصعدت السلم في نفس واحد، ثم وقفت تلهث أمام الباب الخشبي ذي اللون البني القاتم، ورأت نافذة المطبخ المطلة على السلم مفتوحة، إن «فريد» موجود، لم تحدث له حادثة كما تصورت، ولم تخطفه السماء، ودق قلبها بعنف وفكرت في أن تعود بسرعة قبل أن يراها؛ لقد أخلف الموعد عن عمد لا عن عجز، ولم يطلبها في التليفون بعد كل ذلك ليشرح السبب، وكان يمكن أن تستدير وتعود لكنها لم تر نورا من خلال زجاج الشراعة، كانت الشقة مظلمة تماما، ربما يكون في حجرة النوم يقرأ، ونور حجرة النوم لا يصل إلى شراعة الباب.
وضغطت بأصبعها على الجرس، وسمعت صوت الجرس الحاد وهو يرن في البيت، وظلت ضاغطة بأصبعها والصوت يرن عاليا حادا في الصالة دون أن يفتح أحد الباب، ورفعت يدها عن الجرس فانقطع الصوت، وعادت فضغطت على الجرس، وعاد الصوت العالي الحاد يرن في أرجاء الصالة دون أن يفتح أحد. وألصقت أذنها بالباب لعلها تسمع صوت حركة داخل الشقة، أو أنفاسا مكتومة، أو أنينا، لكنها لم تسمع شيئا، وفجأة سمعت صوت جرس التليفون ينبعث من حجرة المكتب وانتفضت إلى الوراء، فقد خيل إليها أنها هي التي تطلبه من بيتها، ولكنها تذكرت أنها تقف وراء الباب، ولا يمكن أن تكون هي التي تطلبه الآن، وظل جرس التليفون يرن بضع لحظات ثم انقطع، وعادت فألصقت أذنها بالباب ولم تسمع شيئا ينم عن وجود كائن حي بالشقة، وسمعت صوت كعب عال رفيع يهبط السلم فابتعدت عن الباب قليلا وضغطت على الجرس مرة أخرى، واستطاعت أن ترى بطرف عينها امرأة سمينة تهبط السلم، وظلت ضاغطة على الجرس شاخصة إلى الأمام، حتى اختفت المرأة في ثنية السلم، وانتظرت بضع لحظات أخرى انقطع صوت الكعب الرفيع الثقيل على السلم، فبدأت تهبط الدرجات بخطوات بطيئة ثقيلة.
تركت قدميها تسيران، والأفكار في رأسها تدب بصوت يكاد يكون مسموعا، فريد أخلف الموعد ولم يطلبها في التليفون وليس في البيت فأين يمكن أن يكون؟ لا يمكن أن يكون في القاهرة، أو في مدينة قريبة منها. لا بد أنه في مكان ما بعيد، ليس فيه تليفون أو مكتب بريد، لماذا أخفى عنها سر غيابه؟ ألم تكن العلاقة بينهما تحتم عليه أن يقول، ولكن ما العلاقة التي تحتم على الإنسان أن يفعل شيئا معينا إزاء إنسان آخر؟ ما ذلك الذي يحتم عليه أن يفعل ...؟! الحب!
وتكورت الكلمة في فمها كلقمة غير قابلة للمضغ، الحب! ما معنى كلمة الحب؟ متى سمعتها لأول مرة؟ من فم من؟ إنها لا تذكر تماما؛ فالكلمة لم تغب عن أذنها منذ وعت الحياة، كانت تسمعها كثيرا، ولأنها كانت تسمعها كثيرا لم تكن تعرفها، كأعضائها الأنثوية، تراها كثيرا ملتصقة بجسمها، وتغسلها بالماء والصابون كل يوم دون أن تعرفها، وكانت أمها هي السبب، ربما لو ولدت بغير أم لعرفت كل شيء من تلقاء نفسها، فقد كانت تعلم وهي صغيرة جدا أنها ولدت من فتحة في نهاية بطن أمها، وأنها قد تكون هي الفتحة التي تبول منها، أو فتحة أخرى مجاورة، لكن أمها نهرتها حين أطلعتها على اكتشافها، وقالت لها إنها ولدتها من أذنها. وأفسدت أمها بهذا التصريح أحاسيسها الطبيعية، وعطلت إدراكها لكثير من البديهيات مدة طويلة. فقد ظلت فترة من الزمن تحاول خلق علاقة ما بين سماع الأصوات والولادة، وتشككت أحيانا في أن الأذن خلقت للسماع، وأنها ربما صنعت لتبول منها النساء بعد الزواج. لم تكن تدري لماذا تربط دائما بين الولادة والتبول وتحس أنهما لا بد وأن يكونا قريبين، وظلت تبحث عن موقع الفتحة التي خرجت منها إلى العالم، وظنت أنها ستدرسها في حصة التاريخ، أو الجغرافيا، أو الصحة والأشياء، لكنهم درسوا لها كل شيء إلا هذا. أخذت حصة عن الدجاج وكيف يبيض ويفقس، وحصة عن السمك وكيف يتناسل، وحصة عن التماسيح والثعابين وكل الكائنات الحية ما عدا الإنسان، حتى النخل درسوا لها كيف يلقح بعضه البعض، أيمكن أن يكون النخل أكثر أهمية عندهم من أنفسهم؟ وقبل نهاية العام رفعت أصبعها وسألت مدرسة الصحة والأشياء، فاعتبرت سؤالها خروجا عن الأدب، وعاقبتها بالوقوف أمام الحائط رافعة ذراعيها، وتساءلت فؤادة وهي تحملق في الحائط لماذا تلقح النباتات والحشرات والحيوانات بعضها البعض ويعتبرون ذلك علما من العلوم، وفي حالة الإنسان يعتبرونه شيئا فاضحا يستحق العقاب؟ •••
وجدت فؤادة نفسها تسير في شارع النيل، كان الظلام الكثيف يغطي سطح الماء، وأنوار المصابيح المستديرة منعكسة على الجانبين، وبدا النيل وهو يزحف في الظلام طويلا ممشوقا كجسم امرأة لعوب متشحة بالسواد حدادا على زوج تكرهه، وقد رشقت على جانبي ردائها الأسود حبات من اللؤلؤ المغشوش، وتلفتت حولها. كان كل شيء في الظلام يبدو لعوبا مغشوشا، حتى باب المطعم الصغير الذي انتشرت فوقه لمبات ملونة رخيصة أشاعت حوله ظلالا غريبة كالأشباح، ومرت أمام الباب دون أن تدخل، لكنها عادت إلى الوراء خطوة ودخلت، وسارت في الممر تحت الشجر، وانحرفت في نهاية الممر لتلقي نظرة على المائدة، لم تكن خالية، كان يجلس إليها رجل وامرأة، وكان الجرسون يضع أمامهما الأكواب والصحون، ويبتسم لهما الابتسامة نفسها التي كان يقدمها لها ولفريد، واستدارت بسرعة قبل أن يراها وخرجت من المطعم.
سارت في شارع النيل مطرقة، ما الذي أتى بها إلى هنا؟ ألا تعلم أن هذه الأمكنة متواطئة مع فريد، تعلن غيابه وتخفيه، يكتنفها الرياء والتناقض كأي موظف خبير، وخبطت بحذائها الأرض في غضب، ما الذي أتى بها إلى هنا؟ فريد هجرها واختفى فلماذا تحوم حول أمكنته؟ لماذا؟ لا بد أن تلفظه من حياتها كما لفظها من حياته. نعم، لا بد.
واستراحت لهذا التهديد، ورفعت عينيها لتتأمل الطريق، لكن قلبها دق بعنف، فقد رأت رجلا له مشية فريد مقبلا من بعيد، وأسرعت الخطى لتقترب منه، كان يميل بكتفيه إلى الأمام قليلا وينقل قدميه فوق الأرض ببطء يشبه الحذر، حركات فريد نفسها، واقتربا أكثر وأكثر، إنه يحرك ذراعيه بشكل ملحوظ، وفريد لم يكن يحرك ذراعيه بهذا الشكل الملحوظ، ولكن ربما يكون متعجلا لبلوغ المطعم بعد كل هذا الغياب، وأصبح على بعد خطوات منها وفتحت فمها لتهتف: فريد! لكن نور عربة مارة أزاح الظلام عن وجه آخر غير وجه فريد. وغاص قلبها في بطنها كقطعة من حديد وانكمشت حول نفسها داخل المعطف، وهز الرجل رأسه الأكرت في إيماءة لزجة، فأشاحت بوجهها بعيدا عنه وأسرعت الخطى، لكنه سار وراءها يهمس بكلمات مبتورة غير مفهومة، وتركت شارع النيل لتدخل في شارع جانبي، فدخل وراءها، وظل يطاردها من شارع إلى شارع حتى وجدت نفسها أمام بيتها. •••
فتحت باب الشقة وهي تلهث، ولم تسمع صوت أمها، فسارت على أطراف أصابعها لتجتاز الصالة، ورأت أمها من خلال بابها المفتوح نائمة في سريرها على جانبها الأيمن، ورأسها الملتف بالطرحة البيضاء مرتفعا فوق الوسادتين السميكتين، وجسمها النحيل مختفيا تحت الغطاء الصوفي المزدوج.
دخلت فؤادة حجرتها وأغلقت الباب، وظلت واقفة في وسط الحجرة بضع لحظات ثم بدأت تخلع ملابسها، وارتدت قميص نومها، وخلعت الساعة ووضعتها على الرف بجوار التليفون، ومست يدها جسم التليفون البارد فأحست برجفة ونظرت في الساعة، كانت الثانية عشرة، أيكون فريد في البيت؟ أتجرب وتطلبه؟ ولكن، ألا يجب أن تكف عن هذه المطاردة؟ ولكن يمكنها أن تطلب الرقم فإذا جاءها صوته يقول «ألو» قفلت السكة. نعم، هكذا لن يعرف من الذي يطلبه.
ووضعت أصبعها في قرص التليفون وأدارته الخمس الدورات وجاءها الجرس المعهود، وقد ارتفع صوته الحاد في سكون الليل، وكتمت فوهة السماعة بكفها وقد ظنت أن الرنين العالي قد يوقظ أمها من النوم، وظل الجرس يهدر في أذنها كذئب جائع يعوي، يرتطم صداه برأسها ويرتد عنه كأنه جدار مصمت من الحجر.
وضعت السماعة في مكانها فانخمد الهدير، وألقت جسمها فوق السرير وأغمضت عينيها لتنام، لكنها لم تنم. ظل جسمها فوق السرير ممدودا ورأسها فوق الوسادة، وفتحت عينيها فرأت الدولاب والمرآة والشماعة والرف والنافذة، والسقف الأبيض بالدائرة المشرشرة التي سقط الطلاء من فوقها، وأغمضت عينيها وجعلت صدرها يعلو ويهبط في أنفاس عميقة منتظمة، لكنها لم تنم، ظل جسمها موجودا بوزنه وكثافته فوق السرير ، وانقلبت فوق بطنها ودفنت وجهها في الوسادة، وتظاهرت بأنها قد غابت عن الوعي، لكن وعيها ظل موجودا، وجسمها ظل ممدودا تحت الغطاء الصوفي الخشن، وانقلبت مرة أخرى فوق جنبها الأيسر وفتحت عينيها فلم تر إلا الظلام الكثيف، وخيل إليها أنها لا زالت مغمضة العينين، أو أنها فقدت البصر، لكن خطا رفيعا من الضوء ما لبث أن ظهر فوق الحائط، وضغطت برأسها على الوسادة وشدت الغطاء لتغطي عينها، لكنها لم تنم. ظل رأسها بثقله المعهود فوق الوسادة، وطنين خافت يبدأ يرن، بدأ خافتا جدا ثم أصبح يعلو شيئا فشيئا حتى أصبح أزيزا حادا متصلا كرنين جرس لا ينقطع، وخيل إليها أن سماعة التليفون ملتصقة بأذنها فمدت يدها تحت رأسها فلم تجد إلا الوسادة. وانقطع الطنين حين رفعت أذنها عن الوسادة ثم عاد يطن مرة أخرى، وكتمت أنفاسها لحظة فوضح لها مصدر الصوت، كان هو تلك الضربات المتتابعة المألوفة لقلبها، ولكنها لم تكن مسموعة في أية ليلة سابقة بمثل هذه القوة كمطرقة، وبمثل هذا التتابع والاستمرار. كانت في أي ليلة سابقة تضع رأسها فوق الوسادة ولا تسمع شيئا، وما هي إلا لحظات حتى تنام. كيف كانت تنام؟ حاولت أن تعرف كيف كانت تنام كل ليلة، لكنها اكتشفت فجأة أنها لا تعرف تماما كيف كانت تنام؟ كان جسمها يثقل وكأنه يسقط في بئر ثم تفقد الوعي، وتذكرت أنها حاولت مرة أو ربما مرتين أن تعرف كيف تفقد الوعي في النوم، ففتحت عينيها قبل أن يتلاشى وجودها، وتشبثت بقوة بآخر لحظة في وعيها لتعرف ماذا يحدث لها، لكن النوم كان يغلبها دائما قبل أن تعرف.
إنها لم تعرف شيئا، إنها لا تعرف أبسط الأشياء، لا تعرف البديهيات ولا تتعلم من التكرار، كم ليلة نامتها في كل عمرها؟ عمرها الآن ثلاثون عاما، وكل عام ثلاثمائة وخمسة وستون يوما، لقد نامت عشرة آلاف وتسعمائة وخمسين ليلة دون أن تعرف كيف تنام.
وضغطت برأسها فوق الوسادة، ودوى الطنين في رأسها، رأس مصمت من الحجر، رأس جماد لا يعرف شيئا، لا يعرف أين اختفى فريد، ولا يعرف لماذا دخلت كلية العلوم، ولا يعرف لماذا اشتغلت في قسم الأبحاث الكيميائية الحيوية، ولا يعرف ما البحث الكيميائي الذي يجب أن يبحث، ولا يعرف الاكتشاف القديم المزمن الذي يجب أن يكتشف، ولا يعرف كيف كانت تنام. نعم، رأس مصمت من الحجر، جاهل لا يعرف شيئا، وغير قادر على شيء سوى أن يردد ذلك الصدى الأجوف كأي حائط أو جدار.
وخيل إليها أن جدارا عاليا ثقيلا سقط فوقها، فاندك جسمها في بطن الأرض، وأحست بالمياه تحوطها من كل جانب، كأنما تعوم في بحر، كان البحر عميقا كبيرا، ولم تكن تعرف السباحة، لكنها كانت تعوم بمهارة فائقة، كأنها تطير فوق الماء، وكان الماء دافئا لذيذا، وأبصرت حوتا كبيرا يزحف تحت الماء، كان يفتح فكيه الكبيرين، وفوق كل فك أنياب طويلة مدببة، واقترب منها الوحش فاتحا فاه كسرداب طويل مظلم، وحاولت أن تجري لكنها لم تستطع، فصرخت من الفزع وفتحت عينيها. •••
كان نور النهار يدخل من بين شقوق الشيش الرفيعة، ورفعت رأسها من فوق الوسادة فشعرت بدوار فأعادته إلى الوسادة، ثم مدت ذراعها وسحبت الساعة من فوق الرف، وما إن ألقت نظرة عليها حتى قفزت من السرير وارتدت ملابسها بسرعة، وابتلعت كوب الشاي البارد الذي أعدته أمها وخرجت إلى الشارع.
لفح وجهها الهواء البارد فأحست بانتعاش وراحت تحرك ساقيها وذراعيها في نشاط، ولكنها أحست فجأة بألم في معدتها، فأبطأت الخطى، وضغطت بأصبعها على المثلث المنفرج تحت ضلوعها، كان الألم تحت أصبعها، غائرا في لحم بطنها، يقرص جدار معدتها كدودة لها أسنان. إنها لا تعرف ما سبب هذا الألم الغريب الذي يفاجئها كل صباح.
ووقفت على محطة الأتوبيس وجاء الأتوبيس رقم 613 الذي يمر في شارع الوزارة، وقف أمامها وتلكأ لتركبه، ولكنها لم تركب، وقفت تحملق فيه كتمثال، وتحرك الأتوبيس فتنبهت إلى أنها يجب أن تركب، وأسرعت تجري وراءه لكنها لم تلحقه، وعادت لتقف في المحطة وهي تشعر بشيء من الراحة؛ إنها لن تذهب إلى الوزارة اليوم، إجازاتها انتهت كلها، ولكن ما الذي سيحدث لو أنها لم تذهب اليوم؟ هل سيتغير شيء في العالم؟! إن موتها كله وغيابها بلحمها ودمها عن العالم لن يحدث شيئا، فما قيمة غيابها يوما عن الوزارة؟ فراغ سطر واحد من دفتر الحضور والانصراف القديم الذي بليت جلدته.
وأشرقت الدنيا من حولها لهذا الخاطر، وتلفتت حولها تنظر إلى الناس باستخفاف وهم يهرولون لاهثين وراء الأتوبيسات ويقذفون بأنفسهم داخلها أو خارجها كالعميان، لماذا يجري هؤلاء الجهلة؟ هل يعرف أي واحد فيهم كيف نام ليلة أمس؟ هل يعلم كل واحد منهم لو سقط تحت العجلات ومات، أو أن الأتوبيس كله انقلب به وبكل من فيه وغرق في النيل، هل يعلم أن ذلك لا يعني شيئا للعالم؟
ورأت أتوبيسا يقف أمامها، وكان فيه بعض مقاعد خالية، فقفزت فيه بسرعة وجلست بجوار رجل عجوز، كان الرجل يمسك بأصابعه المرتجفة سبحة صفراء ويتمتم بصوت هامس: يا حفيظ! يا حفيظ! احفظنا يا رب! احفظنا يا رب! كان يطل من خلال زجاج النافذة ويتطلع إلى السماء من حين إلى حين بعينين متآكلتين لا رموش لهما، وتصورت فؤادة أن الرجل قد أصيب توا بكارثة؛ فابتسمت له في رقة لتواسيه، لكنه ذعر وانكمش في كرسيه مبتعدا وألصق جسمه الناحل بالنافذة، وقالت لنفسها وهي تنظر إلى الناحية الأخرى: يا للذعر الذي يملأ العالم!
في الناحية الأخرى كانت امرأة شابة تقف إلى جوارها، وقد أصبح الأتوبيس مزدحما بالواقفين كالعادة، كان يفوح من المرأة رائحة عطر، وفوق وجهها تلك الطبقة المعهودة من البودرة، وفوق شفتيها ذلك الطلاء الأحمر القاني، كانت نحيلة الجسم وقصيرة حتى إن بطنها كان ترتطم بكتف فؤادة وهي جالسة، لكن ردفيها كانا سمينين وبارزين خلفها.
ونهضت فؤادة فجأة بغير داع، فاندفعت المرأة في مقعدها وجلست مكانها تنفخ من الغيظ، وشقت لنفسها طريقا بين الأجسام ثم قذفت بنفسها من الأتوبيس قبل أن يتحرك من المحطة، وارتطمت قدماها بالأرض وكادت تقع لكنها استطاعت أن تنتصب واقفة، ورفعت رأسها لترى أين هي، ووجدت نفسها أمام سور الوزارة الصدئ.
وكأنما سقط فوق رأسها كوز ماء بارد فأفاقت، وتذكرت أنها لم تكن تنوي المجيء إلى الوزارة، لكن قدميها حملتاها بغير وعي في الطريق اليومي المعتاد، كحمار يفتحون أمامه باب الزريبة فيخرج وحده إلى الحقل، خروجا غير إرادي، ولأنه غير إرادي فهو طبيعي جدا، كخروج طفل من بطن أمه.
ورفعت عينيها إلى المبنى الكالح فرأته بارزا في الفناء ومفلطحا كبطن أمها، تنتشر فوق سطحه الأسمر القاتم شقوق طولية وعرضية كتجاعيد الجلد، وبدأت تشم الرائحة الغريبة، كتلك التي تشمها في أقسام الولادات بالمستشفيات، أو في دورات المياه النتنة، وتعثرت في خطواتها وبدأ الغثيان يشتد فقد عرفت أنها تقترب من مكتبها. •••
كان مدير القسم غاضبا، يتكلم بصوت عال تناثر له لعابه كالشظايا الشفافة الصغيرة، طارت واحدة منها واستقرت فوق خدها، تركتها في مكانها ولم تمسحها بمنديلها نفاقا له، وسمعته يقول: انصرفت من مكتبك أمس قبل الموعد الرسمي المحدد بثلاث ساعات ونصف! وصفعت كلمة أمس أذنها، فقالت بنصف وعي: أمس! وانقلبت شفتا المدير الغليظتان إلى الخارج وهز صلعته اللامعة وهو يصيح: نعم أمس ... هل نسيت؟ وقالت كأنما تكلم نفسها: لم أنس، ولكني كنت أظن أن ذلك حدث ... (وابتلعت بقية الكلمات دون أن يسمعها أحد) منذ أسبوع أو أسبوعين.
وراح المدير يتكلم بصوت عال، لكنها لم تكن تسمع، كانت تفكر باندهاش في الطريقة التي يعيش بها الناس الزمن، وكيف لا يتفق الإحساس بالزمن أحيانا مع عدد الساعات أو الدقائق التي مرت، وهل يمكن أن تكون تلك الحركة الثابتة المتتابعة لعقربي الساعة داخل تلك الدائرة الضيقة المحدودة مقياسا حقيقيا للزمن؟ فكيف يمكن إذن أن يقاس شيء غير مرئي وغير محدود بشيء مرئي محدود؟ وكيف نقيس شيئا لا نراه ولا نحسه ولا نلمسه ولا نذوقه ولا نشمه ولا نسمعه؟ كيف يمكن أن نقيس شيئا غير موجود بشيء موجود؟
وخطرت ببالها فكرة ظنت أنها لم تخطر ببال أحد، وأحست بفرحة سرية أخفت معالمها عن مدير القسم، ولم تعرف لماذا أو كيف فتحت فمها، فجأة ، وقالت لمدير القسم بصوت مسموع: إنني أعمل في قسم الأبحاث منذ ست سنوات، وأعتقد أن من حقي أن أقوم ببحث منذ اليوم.
وكأنما تفوهت بلفظ جارح أو كلمة نابية فامتقعت صلعته باللون الأحمر وبدا شكله وهو جالس وراء المكتب كقرد يجلس فوق رأسه ويرفع مؤخرته في الهواء.
وفلتت من بين شفتيها ابتسامة للمنظر، فسمعته يقول في غضب: لماذا تبتسمين هكذا؟ وزمت شفتيها حتى لا ترد، لكنها قالت: لك أن تحاسبني على الزمن الذي غبته ولكن ليس من حقك أن تسألني لماذا أبتسم هكذا!
وتصورت أن غضبه سيشتد، وأن صوته سيزداد ارتفاعا لكنه سكت فجأة وكأنما فوجئ بقدرتها الخارقة على الرد، وشجعها صمته على أن تتظاهر بالغضب، فقالت وهي ترفع صوتها بدرجة أعلى: أنا لا أقبل أن يدوس أحد مهما كان على حق من حقوقي، فأنا أعرف كيف أدافع عنها! واستحال احمرار صلعته إلى لون أصفر باهت؛ فبدت كرأس شمامة، وقال بصوت مندهش: وما حقوقك التي دست عليها؟ فلوحت بيدها في الهواء وهي تصيح: لقد دست على حقين هامين من حقوقي؛ الحق الأول حين سألتني لماذا تبتسمين؟ والحق الثاني حين أكملت السؤال قائلا: هكذا؟ أما الحق الأول فهو حقي في الابتسام، وأما الحق الثاني فهو حقي المطلق في اختيار الطريقة التي أبتسم بها.
واتسعت عيناه المدفونتان في وجهه وأزاحتا عنهما بعض ما حولهما من لحم مكتنز، وقال في دهشة بالغة: ما هذا الكلام الذي تقولينه لي يا آنسة؟ ولم تعرف فؤادة كيف سيطر عليها الغضب فقالت بغير إرادة: من قال لك إنني آنسة؟ واتسعت عيناه أكثر وهو يقول: ألست آنسة؟ وهنا خبطت فؤادة بيدها فوق المكتب وصاحت: كيف يمكن أن تسألني هذا السؤال؟ ما الذي أعطاك هذا الحق؟ اللائحة؟!
لم تدر فؤادة كيف انقلب المشهد بهذه السرعة، فأصبحت هي الغاضبة، وهي صاحبة الحق في الغضب، وأصبح مدير القسم في حالة أقرب إلى الخوف منها إلى الدهشة، وضاعت من عينيه تلك النظرة الشرسة التي يصوبها إلى مرءوسته، وحلت محلها نظرة مستأنسة بل ومتهيبة أيضا تشبه إلى حد كبير تلك النظرة التي ينظر بها إلى وكيل الوزارة ورؤسائه من مديري العموم، وسمعته يقول بصوت كان يمكن أن يكون رقيقا لو أنه مارس الكلام بصدق لعدة سنوات سابقة: يبدو أنك متعبة اليوم، فأنت في حالة غير طبيعية، إني أعتذر لك إذا كنت قد آلمتك بكلمة، ووضع أوراقه تحت إبطه وغادر الحجرة، وتأملت ظهره وهو يخرج من الباب؟ كان مقوسا كظهر العجائز، لكنه لم يكن تقوس الشيخوخة وإنما ذلك التقوس المبكر الذي يصيب ظهور الموظفين من كثرة الانحناء والانثناء.
خرجت فؤادة في ذلك اليوم من الوزارة، وما إن ابتعدت عن السور الحديدي الصدئ، حتى قالت لنفسها: لن أعود أبدا إلى هذا القبر الآسن. ولم تعلق أهمية كبيرة لهذه الجملة؛ فقد كانت تقولها لنفسها كل يوم منذ ست سنوات، وسارت إلى محطة الأتوبيس لتعود إلى بيتها، لكنها بلغت المحطة ولم تتوقف، ظلت قدماها تسيران في الشارع. لم تكن تعرف إلى أين هي ذاهبة، لكنها ظلت تسير بغير هدف، ونظرت إلى الناس وهم يسيرون متجهين بسرعة وبإصرار سابق نحو هدف محدد يعرفونه، وتعجبت بينها وبين نفسها كيف استطاعوا أن يحققوا هذه المعجزة وبهذه البساطة الشديدة التي يحركون بها سيقانهم، ودارت حول نفسها دورة كاملة لا تعرف أي اتجاه تسلك، وعرفت أنها وحدها داخل دائرة مغلقة، وأن أحدا لا يدور معها، لا أحد معها، لا أحد على الإطلاق.
ورفعت رأسها إلى فوق وهي تتنهد فرأت العمارات العالية وقد رشقت فوق جدرانها اللافتات، وتذكرت فجأة أنها اتخذت بينها وبين نفسها قرارا وهي جالسة إلى مكتبها في ذلك الصباح، قرارا نهائيا غير قابل للجدل. نعم لقد قررت أن تؤجر شقة صغيرة وتصنع منها معملها الكيمياوي، وشدت قامتها وخبطت الأرض بقدمها في قوة. نعم، هذا هو قرارها وهذا هو تصميمها، وهي لن تتخلى عن قرارها أو تصميمها.
ووجدت نفسها في شارع قصر النيل، فسارت بخطوات بطيئة تتطلع بعينين ثابتتين إلى العمارات، وتتوقف بين عمارة وأخرى وتسأل البوابين عن شقة خالية. ووصلت إلى نهاية الشارع من ناحية الأوبرا فاجتازته إلى الرصيف المقابل ثم عادت أدراجها تفحص العمارات على الجانب الآخر للشارع.
وبينما كانت تسأل أحد البوابين نظر إليها الرجل بوجهه الأسود وعينيه الحمراوين نظرة فاحصة ثم سألها: هل معك ألف جنيه؟ وقالت: لماذا؟ فقال: هناك شقة ستخلو أول الشهر، لكن صاحبها يريد أن يبيع أثاثها لمن يؤجرها. وقالت: وهل الأثاث في الشقة؟ قال: نعم. قالت: أيمكن أن أراه؟ قال: نعم.
وسار البواب إلى مدخل العمارة فسارت وراءه، واتجه إلى المصعد، وضغط على الرقم 12 بأصبع رفيعة طويلة فحمية اللون لها ظفر أبيض مدبب بدا وكأنه قلم رصاص أسود له غطاء أبيض، وسألته بينما هما يصعدان: وكم حجرات الشقة؟ قال: اثنتان. وقالت: والإيجار؟ قال: ستة جنيهات في الشهر، إيجار قديم. قالت: ومن هو صاحب الشقة؟ قال: رجل أعمال كبير. قالت: هل كان يسكن فيها؟ قال: لا، كانت مكتبا لأعماله.
وقف المصعد في الدور الثاني عشر، واتجه البواب إلى باب كبير بني اللون تعلوه رقعة نحاسية صغيرة عليها رقم 129، وفتح الباب ودخل، فدخلت وراءه إلى صالة صغيرة بها كنبة عريضة تهدلت بطنها وكادت تسقط فوق الأرض، وكرسيان كبيران قديمان ومنضدة خشبية كالحة اللون، ثم دخلت إلى الحجرة الأولى فرأت سريرا عريضا من الصاج الأزرق وكرسيا كبيرا وشماعة، ودخلت إلى الحجرة الثانية وكانت تظن أن بها المكتب ولكنها رأت سريرا آخر ودولابا ومرآة، واستدارت إلى البواب قائلة: وأين هو المكتب؟ وانقلبت شفتا البواب الزرقاوان فتعرى بطنهما الأحمر الندي وقال بصوت غليظ: لا أعلم، أنا بواب العمارة فقط! وعادت فؤادة تتجول في الشقة، وتنظر من النوافذ، كانت الشقة تطل من ارتفاعها الشاهق على قلب مدينة القاهرة، وتكشف الشوارع الرئيسية والميادين، والكباري وأفرع النيل. لم تكن فؤادة قد صعدت إلى هذا الارتفاع من قبل، فبدت لها مدينة القاهرة أصغر بكثير مما كانت تظن، وبدا لها الزحام الذي كان يبتلعها، والأتوبيسات الكبيرة التي كان يمكن أن تسحقها، والشوارع الكبيرة الطويلة المتشابكة التي كان يمكن أن تتوه فيها، كل ذلك بدا تحت عينيها ككتل صغيرة تزحف كقطع الشطرنج.
وأحست بلذة غريبة إزاء هذا التصغير الواقعي لكل شيء في الحياة ما عدا نفسها، فقد كانت هي هي، بحجمها المألوف، ووزنها العادي تقف في النافذة، بل لعلها زادت حجما ووزنا بالنسبة لما تراه تحتها.
وتنبهت على صوت البواب يقول: هل أعجبتك الشقة يا هانم؟ واستدارت إليه وهي تقول كالحالمة: نعم؛ ولكن عينيها اصطدمتا بالسرير الصاج فقالت: ولكن، ألا يمكن تخفيض الألف جنيه؟ إن هذا الأثاث لا يساوي أكثر من ... وسكتت، وهمس البواب في أذنها: إنه لا يستحق شيئا، ولكن الشقة ... هذه الشقة الآن لا تؤجر بأقل من ثلاثين أو أربعين جنيها في الشهر. وقالت: هذا صحيح، ولكن لو بعت نفسي في السوق الآن فلن أحصل على ألف جنيه، وابتسم الوجه الأسود كاشفا عن أسنانه ناصعة البياض، وقال: أنت تساوي ثقلك ذهبا، وانشرح صدر فؤادة للمجاملة العابرة انشراحا كبيرا خيل إليها أنها لم تحسه منذ زمن بعيد وابتسمت ابتسامة عريضة وهي تقول: أشكرك يا عم ... وقال البواب: عثمان، فقالت: أشكرك يا عم عثمان.
وهبطا في المصعد إلى الدور الأرضي، وصافحت البواب وشكرته وتركته لتواصل سيرها، لكنه قال: لماذا تؤجرين شقة يا هانم؟ للسكن؟ قالت فؤادة: لا، ستكون معملا كيمياويا. وصاح بغير فهم: كيمياويا؟ قالت: نعم كيمياويا. وكشف مرة أخرى عن أسنانه البيضاء، وقال كأنه فهم: نعم نعم كيمياويا، إنها شقة مناسبة جدا لأن تكون كذلك. وقالت فؤادة: إنها مناسبة جدا ولكن ... وقرب البواب فمه الأزرق من أذنها، وقال: يمكنك التفاهم مع صاحب الشقة، قد يخفض المبلغ إلى ستمائة جنيه، أنت أول من أقول له هذا السر، ولكنك إنسانة طيبة القلب وتستحقين كل خير، وقالت فؤادة لنفسها: ستمائة جنيه؟ أيمكن أن تعطيها أمها ستمائة جنيه؟ ونظرت إلى البواب بعينين حائرتين وقال الرجل: يمكنني أن أحدد لك موعدا مع صاحب الشقة إذا وافقت على ذلك، وفتحت فمها لتقول لا، لكنها قالت نعم. وقال: غدا الجمعة، وهو يأتي هنا كل يوم جمعة ليتفقد أحوال العمارة، وابتسم في زهو: إنه صاحب العمارة أيضا. وقالت: ومتى يكون هنا؟ في أي ساعة؟ قال: في العاشرة صباحا تقريبا. وقالت: سآتي في العاشرة والنصف، ولكن عليك أن تخبره أنني لا أملك ستمائة جنيه الآن. وقال البواب: يمكنك أن تدفعي ما معك وتقسطي الباقي، يمكنني أن أتوسط لك عنده في هذه النقطة وهو لن يتشدد، وقرب فمه الأزرق مرة أخرى، وقال: فالشقة خالية منذ سبعة شهور، ولكن لا تظهري له أنك تعرفين هذه الحقيقة لأنه سيعرف أنني أنا الذي قلت لك، أنت أول شخص أقول له هذا السر، ولكنك إنسانة طيبة القلب وتستحقين كل خير. وابتسمت فؤادة وهي تقول: أشكرك يا عم عثمان، سوف أكافئك على هذه الخدمة الكبيرة التي أديتها لي، وكشف الوجه الأسود عن الأسنان الناصعة البياض في ابتسامة عريضة مفعمة بالأمل.
وصلت فؤادة بيتها قبل حلول الظلام، ورأت أمها جالسة في الصالة متدثرة بالصوف ومعها أم علي الطباخة، وما إن وضعت المفتاح في الباب حتى هبت أم علي وصاحت من الفرح: الحمد لله أنها وصلت. ولفت جسمها اليابس الصغير في ملاءتها السوداء ووضعت صرتها الصغيرة تحت إبطها استعدادا للعودة إلى بيتها؛ ورأت فؤادة عيني أمها الواسعتين وقد طفا على سطحهما الأبيض اصفرار باهت كالغشاء الرقيق، واحمرت أرنبة أنفها كأنها مصابة بزكام، وسمعت صوتها الضعيف يقول: قلقت عليك طول النهار، لماذا لم تتكلمي في التليفون؟ وقالت فؤادة وهي تجلس إلى المائدة لتأكل: لم يكن بجواري تليفون يا ماما، وقالت الأم: لماذا؟ أين كنت كل هذا الوقت؟ ودست في فمها ملعقة أرز بالصلصة وقالت: كنت ألف في الشوارع، وردت الأم في دهشة: تلفين في الشوارع، لماذا؟ وانتظرت حتى ابتلعت ما في فمها ثم قالت: كنت أبحث عن الاختراع العظيم. وارتسمت على وجه أمها دهشة أضافت إليه بعض التجاعيد الجديدة وقالت: ماذا تقولين؟ وابتسمت فؤادة وهي تعض على قطعة لحم محمرة: هل نسيت بسرعة دعوتك القديمة؟ ورفعت فؤادة كفيها إلى فوق مقلدة حركة أمها حين تتأهب للدعاء وهتفت بلهجتها نفسها: ربنا يفتح عليك يا فؤادة يا بنتي لتخترعي اختراعا عظيما في الكيمياء، وانفرجت شفتا أمها اليابستان عن ابتسامة ضيقة، وقالت: ياما دعوت لك يا ابنتي. وأحست فؤادة بانتعاش ومرح وهي تلتهم قطعة من الطماطم المتبلة بالفلفل الأخضر وقالت في سرور: يخيل إلي أن دعوتك قد وجدت باب السماء مفتوحا، وتهلل وجه أمها فزادت كراميشه وقالت: ماذا؟ هل أعطوك علاوة في الوزارة، أو ترقية؟ الوزارة! لماذا نطقت بهذا اللفظ؟ أما كان في إمكانها أن تنتظر حتى أنتهي من طعامي؟ وأحست فؤادة بلذة الأكل وكأنما تجهض، وبدأ ذلك الألم المزمن يزحف إلى معدتها، يصاحبه ذلك الغثيان الجاف بغير قيء، ونهضت لتغسل يديها دون أن ترد، لكن صوت أمها انبعث مرة أخرى قائلا: أفرحي قلبي يا بنتي، هل حصلت على درجة؟ وخرجت فؤادة من الحمام ووقفت في وسط الصالة أمام أمها، وقالت: ما قيمة درجة أو علاوة يا أمي؟ بل ما قيمة الوزارة؟ أنت تتصورين أن الوزارة شيء ضخم عظيم، إنها ليست إلا مبنى قديما آيلا للسقوط، وأنت تتصورين أنني حين أخرج كل يوم في الصباح الباكر وأعود بعد الظهر أكون قد أديت عملا ما في الوزارة، ولكنك لا تصدقين إذا قلت لك إنني لا أعمل شيئا، لا أعمل شيئا على الإطلاق، إلا أن أكتب اسمي في دفتر الحضور والانصراف! ونظرت إليها أمها بعينيها الصفراوين الواسعتين وقالت بصوت واه: ولكن، لماذا لا تشتغلين يا ابنتي؟ إنهم لن يرضوا عنك بسبب هذا، ولن تحصلي على ترقيات. وابتلعت فؤادة ريقها وقالت: ترقيات! الترقيات تعطى حسب شهادة الميلاد، وحسب مرونة عضلات الظهر! وقالت أمها في دهشة: مرونة عضلات الظهر! هل أنت في قسم الأبحاث الكيميائية أم الألعاب الرياضية؟ وضحكت فؤادة ضحكة قصيرة سريعة ثم وضعت أصبعها على فم أمها قائلة: لا تقولي الأبحاث، إنها من الألفاظ الجارحة! وقالت الأم: ماذا؟ وقالت فؤادة: لا شيء، إنني أضحك معك؛ المسألة كلها هي أنني سأنشئ معملا كيمياويا.
وجلست فؤادة إلى جوار أمها، وراحت تشرح لها بحماس ما معنى أن يكون لها معمل خاص، وأنها ستجري فيه تحليلات للناس وتحصل على أموال كثيرة، وأنها إلى جانب هذا ستجري فيه أبحاثا كيميائية وقد تكتشف شيئا خطيرا يغير العالم. كان لا بد من هذه المقدمة الحماسية حتى تصل فؤادة إلى تلك النقطة المادية السخيفة، حين تطلب من أمها مالا. وكانت أمها تنصت باهتمام وسرور لكل ما يمكن أن تقوله فؤادة إلا تلك التلميحات الخفية لمطالب مادية. وفهمت الأم المدربة أن تلك الرنة المجلوة في صوت فؤادة إنما تعني في النهاية مطلبا.
وقالت الأم في النهاية: هذا شيء جميل جدا، وليس لي إلا أن أدعو لك بالتوفيق يا ابنتي، وقالت فؤادة: ولكن الدعوات وحدها لا تكفي يا أمي، لا يمكن أن أنشئ معملا كيمياويا بالدعوات؛ لا بد من مال لشراء الأدوات والأجهزة.
وقالت الأم وهي تنفض يديها المعروقتين: مال؟ من أين المال؟ أنت تعرفين «البير وغطاه». وقالت فؤادة: ولكنك قلت مرة إن عندك ما يقرب من ألف جنيه. وقالت الأم وقد اختفت النبرة الضعيفة من صوتها: ألف! لم يعد هناك ألف! ألم نسحب منها جزءا لتبييض الشقة وتجديد العفش، هل نسيت؟ وقالت فؤادة. وهل أنفقت الألف جنيه كلها؟ وقالت الأم وهي تمصمص شفتيها اليابستين: لم يبق إلا ثمن كفني. وقالت فؤادة: بعيد عنك الشر يا ماما. وقالت الأم بصوتها الواهي وقد تضعضعت نظراتها مرة أخرى: ليس بعيدا يا ابنتي، من يدري ماذا يحدث غدا، لقد حلمت حلما سيئا منذ أيام. وقالت فؤادة وهي تنهض: لا، لا، لا تقولي هذا الكلام، ستعيشين مائة عام، وأنت الآن في الخامسة والستين؛ أي لا يزال أمامك خمسة وثلاثون عاما من الحياة، ليست الحياة العادية، وإنما الحياة السعيدة الرغدة، لأن ابنتك فؤادة، سوف تحقق في هذه السنوات المعجزات! وتنهال الأموال عليك من السماء!
وقالت الأم وهي تبتلع ريقها الجاف: لماذا لم تدخري بعض المال؟ لقد ادخرت الألف جنيه من معاش أبيك الذي يقل عن مرتبك بثلاثة جنيهات. أين تبددين أموالك؟ وقالت فؤادة: أموالي! إن مرتبي لا يشتري لي فستانا محترما !
وسادت لحظة صمت طويلة، وسارت فؤادة إلى باب حجرتها، ووقفت على عتبة الباب لحظة تنظر إلى أمها المتكومة تحت الأغطية الصوفية فوق الكنبة، الكفن أم الاختراع العظيم؟ أيهما أكثر أهمية أو فائدة؟! وفتحت فمها لتقول في محاولة أخيرة: كأنك لن تعطيني شيئا. وقالت الأم دون أن ترفع عينيها إليها: هل ترضين لي أن أدفن بغير كفن؟
ودخلت فؤادة حجرتها وألقت نفسها فوق السرير. لم يعد هناك أمل في شيء، لم يعد هناك شيء، كل شيء اختفى، كل شيء ضاع، المعمل الكيمياوي، والبحث وفريد، والاكتشاف الكيمياوي، لم يبق شيء، لم يبق شيء إلا جسمها الكئيب الثقيل، الذي يأكل ويشرب ويبول وينام ويعرق. ما فائدة هذا الجسم؟ لماذا يبقى وحده دون كل الأشياء؟ لماذا هو وحده داخل تلك الدائرة المغلقة؟
كانت تحملق في الجدار الأبيض المجاور للدولاب، وكان هناك شيء أسود فوق اللون الأبيض، شيء على شكل مربع، على شكل إطار صورة، كانت الصورة لفتاة بملابس العرس البيضاء الطويلة، تمسك بأصابعها الملفوفة كأصابع الموز باقة ورد، وإلى جوارها شاب طويل الوجه له شارب أسود، كانت فؤادة منذ وعت الحياة ترى هذه الصورة معلقة في الصالة، ولم يحدث مرة أن وقفت أمامها ودققت النظر، كانت أمها تقول إنها صورة زفافها لكنها كانت تراها من بعيد وكأنها صورة فتاة أخرى غير أمها.
وحدث مرة أن وقفت فؤادة أمام الصورة وتأملتها، كان ذلك بعد موت أبيها بسنة أو أكثر، وكانت مدرسة التاريخ قد ضربتها بالمسطرة عشرين مرة فوق أصابعها، مرتين فوق كل أصبع، وعادت فؤادة إلى البيت تشكو لأمها، فصفعتها أمها على وجهها بسبب إهمالها التاريخ، ثم ذهبت إلى الخياطة وتركتها بالبيت وحدها. لم تدر فؤادة يومها لماذا وقفت أمام الصورة، لكنها كانت تتجول في البيت وتتأمل الجدران كالسجن. ولأول مرة ترى الصورة، لأول مرة ترى وجه أبيها، وتأملت عينيه طويلا وخيل إليها أنهما تشبهان عينيها، وكأنما اخترق قلبها سكين حاد، فقد اكتشفت فجأة أنها تحب أباها، وأنها تريده، تريد أن ينظر إليها بهاتين العينين وأن يطوقها بذراعيه. ودفنت رأسها في وسادة الكنبة وأخذت تجهش بالبكاء. كانت تبكي لأن أباها مات دون أن تبكي، وتمنت في تلك اللحظة أن يحيا أبوها ثم يموت مرة أخرى لتبكي، حتى يستريح ضميرها. ومسحت عينيها في ملاءة الكنبة ونهضت وخلعت الصورة من مسمارها ومسحت التراب من فوق زجاجها، ونظرت إليها مرة أخرى، وكأنما كان التراب يحجب عنها عيني أمها، لأنها ظهرتا أمامها واضحتين واسعتين فيهما نظرة غريبة لم ترها من قبل، نظرة شرسة ظالمة. ورفعت فؤادة الصورة لتعلقها في مسمارها لكنها أخذتها معها إلى حجرتها ودقت لها مسمارا بجوار الدولاب وعلقتها، ونسيتها في ذلك المكان ولا تذكر أنها نظرت إليها مرة أخرى.
أغمضت فؤادة عينيها لتنام، لكنها أحست بشيء ما بين جفنيها، له ملمس الدموع، لكنه يحرق، ودعكت عينيها وهي تمسحها بطرف ملاءة السرير، وضغطت رأسها فوق الوسادة وشدت الغطاء فوقها لتنام، لكن الطنين بدأ يرن في أذنيها كرنين جرس خافت لا ينقطع، وتذكرت شيئا فنهضت بسرعة وأدارت قرص التليفون الخمس الدورات، وجاءها الجرس العالي الحاد. الليلة الثالثة وفريد غائب عن البيت. أين يمكن أن يكون؟ عند أحد أقاربه؟ ولكنها لا تعرف أحدا من أقاربه. عند أحد أصدقائه؟ وهي لا تعرف أيضا أحدا من أصدقائه. إنها لا تعرف إلا هو، وهي لا تعرفه تلك المعرفة التقليدية، لا تعرف ماذا كان أبوه، وكم قيراطا يمكن أن يرثه عنه، وكم يقبض كل شهر، وكادر وظيفته والدرجة والاختصاصات، وبيان الجزاءات والاستقطاعات ورقم البطاقة وتاريخ الميلاد. إنها لا تعرف شيئا من هذه المعلومات، ولكنها تعرفه هو بلحمه ودمه، تعرف شكل عينيه وذلك الشيء الفريد يطل منهما ككائن حي، تعرف شكل أصابعه، تعرف طريقته حين يفتح شفتيه ليبتسم، تعرف صوته من بين الأصوات، وتعرف مشيته من بين المئات، تعرف طعم قبلته في فمها، وملمس يده على جسمها، وتعرف رائحته؛ نعم تعرف رائحته جيدا، تستطيع أن تميزها؛ فهي رائحة دافئة خاصة غير عادية، تسبقه بقليل قبل أن يأتي، وتبقى معها بعد أن يمضي، وتظل عالقة بملابسها وشعرها وثنيات أصابعها، فكأنما هي شخص آخر يلازمها، أو كأنما تنبعث منها هي لا منه هو.
ولكن، أهذه هي المعلومات التي تعرفها عن فريد؟ شكل الأصابع، حركة الشفتين، طريقة المشية والرائحة أيضا؟! أيمكن أن تتجول هنا وهناك تتشمم رائحته وتبحث عنه في كل مكان كما يفعل الكلب البوليسي؟ لماذا لم تعرفه أكثر؟ لماذا لم تعرف وظيفته ومكان عمله؟ لماذا لم تعرف بيت أسرته وأقاربه؟ ولكنه لم يكن يقول لها، ولم تكن هي تسأله؛ ولماذا كانت تسأله؟ إنه لم يكن يسألها. كانت زميلته في كلية العلوم وكان زميلها، هكذا كانت بداية القصة.
وسمعت فؤادة صوتا إلى جوارها ففتحت عينيها، ورأت أمها واقفة إلى جوار السرير. كانت عيناها أكثر اتساعا واصفرارا ووجهها أكثر تجعدا، وسمعت أمها تقول: كم يلزمك لإنشاء المعمل؟ وابتلعت فؤادة ريقها وهي تقول: كم بقي معك؟ وقالت الأم: ثمانمائة جنيه وقالت فؤادة: كم يمكن أن تعطي؟ وسكتت الأم لحظة ثم قالت: مائة، وقالت فؤادة: أريد مائتين وسوف أسددها لك. وقالت الأم بصوت يائس: متى؟ إنك لم تسددي ديونك القديمة. ابتسمت فؤادة: وقالت: كيف أسددها؟ إنك تطالبينني بتسعة شهور الحمل وآلام الولادة ولبن الرضاعة وسهر الليالي بجوار المهد! أيمكن أن أسدد كل هذا؟! وقالت الأم: عوضي على الله في هذا، ولكن عليك أن تسددي المائة جنيه التي أخذتها العام الماضي. وقالت فؤادة في شرود: العام الماضي؟! وقالت الأم: هل نسيت؟
تذكرت فؤادة ذلك اليوم من العام الماضي. كانت جالسة فوق السرير كما هي جالسة الآن وفجأة دق جرس التليفون فرفعت السماعة وجاءها صوت فريد، كان يتكلم بسرعة على غير عادته، قال لها: أنا أتكلم من البيت ولكن هناك مهمة عاجلة؛ هل يمكن أن تحصلي على شيء من المال؟ وقالت: معي الآن عشرة جنيهات. فقال بسرعة: أنا بحاجة إلى مائة. قالت متى؟ قال: اليوم أو غدا على أكثر تقدير.
أول مرة يطلب فريد منها شيئا، بل أول مرة يطلب أحد منها شيئا. كانت في ذلك اليوم مريضة بالإنفلونزا، وكانت تحس بصداع شديد، ولم تكن قادرة على أن تحرك جسمها من تحت الفراش، ولكنها أحست فجأة أن قوتها تعود، وجلست تحملق في الجدار وقد خيل إليها أنها قادرة على أن تهدئه لتبحث عن المائة جنيه، ونهضت بسرعة وارتدت ملابسها، لم تكن تعرف من أين ستأتي بالمال، ولكنها تعرف أنها لا بد أن تخرج وتبحث، وبينما هي تتجول في الشوارع كالتائهة خطرت لها أفكار كثيرة من أول الاستدانة بالربا إلى السرقة والقتل، وأخيرا تذكرت أمها، فعادت تجري إلى البيت.
لم يكن سهلا أن تحصل من أمها على المال، لكنها حصلت عليه بعد أن روت لها كذبة كبيرة جعلتها تصدق أن حياة ابنتها معلقة بهذه الجنيهات المائة، وكانت لحظات تاريخية، تلك اللحظات التي بدأت حين وضعت فؤادة المال في حقيبتها وأسرعت تجري إلى بيت فريد، كانت تلهث وتنتفض حين فتح لها الباب، وأسرعت إلى حقيبتها ففتحتها ووضعت الجنيهات المائة فوق المكتب دون أن تنطق بحرف، ربما من شدة السعادة.
نعم؛ كانت سعيدة، ربما كانت في أسعد لحظة مرت بحياتها؛ فقد استطاعت أن تفعل شيئا لفريد، استطاعت أن تفعل شيئا لأحد، شيئا له فائدة ما. ونظر إليها فريد بعينيه البنيتين اللامعتين يطل منهما ذلك الشيء الغريب الذي تحبه ولا تعرفه، وقال: أشكرك يا فؤادة وحوطها بذراعيه وكان يمكن أن يقبل شفتيها ككل مرة يلتقيان في البيت، لكنه قبل جبهتها برقة واستدار بسرعة قائلا: يجب أن أذهب الآن.
بكت فؤادة في تلك الليلة وهي عائدة إلى بيتها، أما كان في استطاعته أن يبقى معها خمس دقائق أخرى؟ أكان مشغولا إلى ذلك الحد حتى إنه لم يقبلها؟ وما الذي يمكن أن يشغله إلى هذه الدرجة؟!
الفصل الثاني
جلست على كرسي قديم في الصالة، وجلس صاحب العمارة على الكرسي المقابل لها، وبينما كانت المنضدة الكالحة، ومن فوقها صينية صغيرة عليها فنجانان من القهوة. كان وجهه كبيرا ممتلئا باللحم، من تلك الوجوه التي نراها لأول نظرة فتفقد الثقة في صاحبها، شيء ما في حركة الشفتين أو في حركة العينين، أو في شيء آخر لا تعرفه، يوحي إليها أنه يكذب، أو أنه لا يمكن أن يصدق، ربما هي تلك الذبذبة اللاإرادية المستمرة في عينيه الجاحظتين، أو الرعشة الخفيفة التي تصيب شفتيه حين تنفرجان لتخرج من بينهما كلماته السريعة المتآكلة. إنها لا تدري تماما.
ولكن أتصدر أحكاما على الناس من ملامحهم؟ هي صاحبة العقل الكيميائي؟ أيمكن أن تحكم على الناس بأحاسيسها وانطباعاتها؟ لماذا لا تكف عن هذه العادة السخيفة.
ورأت شفته العليا الرفيعة تقفز وهو يتكلم فتكشف عن أسنان صفراء كبيرة. كان يقول: هذه الشقة إيجارها اليوم لا يقل عن ثلاثين جنيها في الشهر، ومدت يدها إلى فنجان القهوة وهي تقول: أعرف أعرف، ولكني لا أملك إلا هاتين المائتي جنيه، وسوف أدفعها لك دون أن آخذ العفش؛ فإنني لن أحتاج إليه، وارتجت عيناه الجاحظتان من تحت نظارته البيضاء السميكة كعيني سمكة كبيرة تمشي تحت الماء، ورمق البواب الواقف بجوار الباب نظرة سريعة ثم قال: إذا كنت في غير حاجة إلى العفش فإني أخفض القيمة إلى أربعمائة جنيه.
وابتلعت رشفة من القهوة المرة، وقالت: قلت لك ليس معي إلا مائتان، وقال البواب بعد أن نظر إلى سيده نظرة متواطئة: يمكنها يا سعادة البيه أن تدفع المائتين الآن وتقسط الباقي، وانفرجت الشفتان الرفيعتان عن ابتسامة ضيقة وتذبذبت العينان الجاحظتان وهو يقول: أقبل التقسيط ولكن كم يكون كل قسط؟
لم تكن تعرف فؤادة شيئا عن تلك المساومات، كانت تريد الشقة، بل أصبحت الشقة أملها الوحيد في الحياة، قارب النجاة الوحيد من ذلك الضياع والفراغ، والخيط الوحيد المتين الذي يقودها إلى البحث الكيميائي، وربما إلى الاكتشاف العظيم، ولكن هذا الوجه الكبير المشبع باللحم من كل زاوية، وهاتان العينان المقعرتان تنظران إليها في جوع ونهم وكأنها قطعة من اللحم، ألا تكفيه مائتان من الجنيهات نظير لا شيء؟ وكيف تقسط الباقي؟ إنها ستشتري الأدوات والأجهزة بالتقسيط، فمن أين تدفع كل هذا؟ ثم إنها ستدفع إيجار الشقة كل شهر، وقد تستأجر شخصا يستقبل الزبائن ويساعد في تنظيف المعمل.
كانت مطرقة تفكر في صمت، ورفعت عينيها فجأة إليه وضبطت عينيه الزجاجتين يرمقان ساقيها بنظرة شرهة فشدت بغير إرادة فستانها ليغطي ركبتيها، وقالت: لن أستطيع أن أدفع شيئا بالتقسيط، وأمسكت حقيبتها ونهضت لتخرج، ونهض هو الآخر وكأنه محرج وأطرق إلى الأرض وتمتم في أسف، أنا لم أخفض المبلغ عن خمسمائة جنيه لأي أحد، وجاءني أشخاص كثيرون لكني رفضت تأجير الشقة لمدة طويلة؛ إنها أجمل شقة في العمارة.
وقالت وهي تتجه إلى الباب: إنها شقة جميلة ولكني لا أستطيع دفع أكثر من مائتي جنيه، وسارت نحو المصعد، وأحست بنظراته تلسع ظهرها، وفتح لها باب المصعد فدخلت ودخل وراءها، كان ضخم الجثة عريض الكتفين له بطن عال، وساقان رفيعتان تنتهيان بحذاء صغير، وقال للبواب قبل أن يهبط المصعد: أغلق الشقة يا عثمان.
وهبط المصعد بهما، ورأت عينيه المقعرتين ترشقان صدرها بنظرة فاحصة دقيقة كأنما هو يقيسه أو يزنه، وكتفت ذراعيها حول صدرها وتشاغلت بالنظر في المرآة، وكأنما فوجئت حين رأت وجهها؛ منذ مدة طويلة لم تر وجهها، إنها لا تذكر أنها نظرت في المرآة في اليومين السابقين، منذ غياب فريد، ربما ألقت مرة نظرة خاطفة على شعرها بعد أن مشطته، لكنها لم تر وجهها، وبدا لها وجهها أطول مما كان، وعيناها أكثر اتساعا يشوب بياضها احمرار خفيف، وأنفها هو أنفها، وفمها هو فمها بتلك الفرجة اللاإرادية القبيحة، وزمت شفتيها وابتلعت لعابا له طعم البن المر حين توقف المصعد في الدور الأرضي، وتنبهت إلى أن صاحب العمارة كان لا يزال يرمقها من تحت نظارته السميكة البيضاء. وفتحت باب المصعد وأسرعت تخرج من العمارة لكنها سمعت صوته من خلفها يقول: لو سمحت يا آنسة. واستدارت إليه فقال: لم أعرف لماذا تريدين الشقة ... للسكن؟ وقالت في ضيق: لا؛ سأجعلها معملا كيمياويا. وانحسرت شفته العليا عن الأسنان الكبيرة الصفراء وقال: هذا شيء عظيم، وأنت التي ستعملين فيه؟ قالت: نعم. وتذبذبت عيناه لحظة ثم قال: كنت أود أن أعطيك الشقة ولكن ...
وقاطعته قائلة: أنا أشكرك ولكني كما قلت لك ليس معي إلا المائتان.
وثبتت نظرته لحظة وهو يقول: سأقبل منك المائتين، تأكدي أنني لم أكن أقبلها أبدا من أي شخص غيرك. ونظرت إليه في دهشة وقالت: معنى هذا أنك توافق. وابتسم ابتسامته اللزجة وعيناه الجاحظتان ترتجفان من تحت زجاج النظارة كعيني ضفدعة تتلصص تحت ماء عكر، وقال: من أجل خاطرك فقط. وقالت وهي تخفي سرورها: هل يمكن أن أدفع الآن؟ قال: إذا شئت. وفتحت حقيبتها بسرعة وناولته المائتي جنيه وقالت: متى أكتب العقد؟ قال: متى تشائين ... قالت: الآن؟ قال: الآن. •••
خرجت فؤادة من العمارة، وسارت في الشارع ساهمة، يسيطر عليها شعور غريب كذلك الذي تحسه في الأحلام. كان مزيجا من عدم التصديق الكامل بالحصول على الشقة وبالخوف الشديد من فقدانها، ذلك الخوف الذي ينتاب المرء حين يحصل على شيء ثمين فيظن أنه سيفقده في لحظة حصوله عليه.
وخيل إليها أن ما حدث لم يكن إلا حلما، ففتحت حقيبتها ورأت عقد الإيجار مطويا تحت كيس النقود، وأمسكت الورقة وفتحتها ووقعت عيناها على بعض كلمات، طرف أول محمد الساعاتي، وطرف ثان فؤادة خليل سالم ... وتأكد لها أن الأمر لم يكن إلا حقيقة، فطوت عقد الإيجار وأعادته إلى مكانه في الحقيبة، وواصلت سيرها.
شيء ما يجثم فوق قلبها ويجعله ثقيلا، ما هذا الذي يثقل قلبها؟ أما كان يجب أن تكون مسرورة، ألم تحصل على الشقة؟ ألم تحقق الأمل؟ ألن تصبح صاحبة معمل كيمياوي؟ ألن تجري بحثها؟ ألن تسعى إلى اكتشافها؟ نعم؛ كان يجب أن تكون سعيدة، ولكن قلبها ثقيل، كأنه ربط بحجر.
ولن تشعر برغبة في العودة إلى البيت، وتركت قدماها تسيران ولمحت تليفونا من وراء باب زجاجي فدفعت الباب ودخلت ووضعت يدها فوق السماعة لترفعها لكن صوتا خشنا قال لها: ممنوع استعمال التليفون، وخرجت تبحث عن تليفون، الساعة الواحدة واليوم جمعة، ربما يكون فريد قد عاد إلى البيت، ولكن قلبها يحس أنها لن تجده، سيأتيها ذلك الجرس الأخرس حادا متصلا لا ينقطع، خير لها ألا تطلبه في التليفون ، خير لها أن تكف عن السؤال عنه، لقد هجرها واختفى فلماذا تثقل قلبها بالأوهام؟
ورأت تليفونا في كشك سجائر فتظاهرت بأنها لا تراه وسارت في طريقها رافعة رأسها ولكنها استدارت وعادت لترفع السماعة بأصابع مرتجفة باردة.
نفذ الجرس إلى رأسها كمسمار مدبب، كان يؤلم أذنها لكنها كانت تبقيه وكأنما تستعذب الألم، كأنما تعالج به ألما آخر أشد وأفدح، كالذي يكوي جلد بطنه بسيخ محمى ليتخلص من ألم الكبد أو الطحال. وظلت السماعة إلى جوار أذنها، ملتصقة بها، حتى سمعت البائع يقول: هناك غيرك يريد التليفون. فوضعت السماعة وواصلت سيرها مطرقة الرأس.
أين اختفى؟ لماذا لم يقل لها الحقيقة؟ أكان كل ذلك خداعا؟ أكانت كل أحاسيسها كذبا؟ لماذا لا تكف عن التفكير فيه؟ إلى متى تتجول كالتائهة في الشوارع؟ ما جدوى هذه الحركة الدائرية العقيمة كدوران عقربي الساعة؟ ألا يجب أن تبدأ في شراء أدوات المعمل وأجهزته؟
ورفعت رأسها فاصطدمت عيناها بظهر كظهر فريد، وتصلبت واقفة في مكانها كأنما أصيبت بمس كهربي، لكنها أفاقت بعد لحظة حين رأت وجه الرجل من الجانب، لم يكن فريد. وتراخت عضلاتها كما تتراخى أثر انتهاء الصدمة الكهربية وشعرت أنها لا تستطيع السير، وأن قدميها لا تقويان على حملها، كان إلى جوارها مقهى صغير تنتشر كراسيه فوق الرصيف فجلست على كرسي منها، وراحت تحملق بنصف وعي فيما حولها، وكانت الأشياء من حولها تبدو مألوفة كأنما رأتها من قبل؛ الرجل العجوز الأعرج الذي يوزع أوراق اليانصيب، والجرسون الأسمر ذو الخط العميق في ذقنه أثر جرح قديم، والمنضدة الرخامية المستطيلة التي تضع يدها عليها، والرجل القصير السمين الذي يجلس إلى المنضدة المجاورة يشرب فنجان القهوة، والخطوط الرفيعة الحمراء التي رسمت على فنجان القهوة؛ بل وتلك الرعشة المستمرة في أصابع الرجل وهو يرفع فنجان القهوة إلى فمه ... كل هذا حدث في مرة سابقة كما يحدث الآن. إنها لم تجلس في هذه القهوة أبدا، بل إنها لم تأت إلى هذا الشارع من قبل، ولكن هذه الجلسة التي تجلسها ومن حولها تلك الأشياء قد حدثت مرة سابقة لا تدري أين؟
وتذكرت أنها قرأت مرة شيئا عن تناسخ الأرواح وقالت لنفسها في سخرية ربما عشت هذه الحياة من قبل في جسم آخر.
وخطر لها في هذه اللحظة خاطر غريب، فقد تصورت أنها سترى فريد مارا أمامها في الشارع، لم يكن تصورا فحسب ولكنه كان كاليقين؛ بل لقد خيل إليها أن قوة ما خفية هي التي ساقتها إلى هذا المقهى بالذات وفي هذا الشارع بالذات وفي هذه الدقيقة بالذات لكي ترى «فريد».
ولم تكن تؤمن بالأرواح الخفية، كان عقلها كيميائيا لا يؤمن إلا بما يخضع للتحليل الكيميائي ويوضع في أنابيب الاختبار، ولكن هذا الخاطر سيطر عليها بدرجة كبيرة إلى حد أنها ارتجفت من الرهبة، فقد تصورت أنها في اللحظة التي ترى فيها «فريد» ستسقط على الأرض ويصعقها الإيمان. وشدت عضلات وجهها وجسمها متأهبة للصاعقة التي ستحل بها حين يقع بصرها على فريد سائرا بين الناس وظلت عيناها تبحثان في الوجوه المارة ولا ترمشان، وأنفاسها تهبط ولا تصعد، وقلبها يدق بعنف وكأنه يفرغ آخر جرعاته.
ومرت لحظة ولم تر «فريد»، وابتلعت ريقها، كأنما تسترد بعض هدوئها، كأنما تحمد الله على أنه لم يظهر وعلى أنها لم تصعق، ومرت لحظة أخرى فبدأت تشعر بالقلق لأن النبوءة لم تتحقق ولأنها سوف تسقط مرة أخرى في هوة الانتظار، ولكنها كانت لا تزال تأمل في أن تراه، وظلت تحملق في وجوه الرجال تفرز بسرعة كل وجه، وكان بعض الرجال يشترك مع فريد في شيء من الملامح والحركات، وكانت عيناها تستقران لحظة على الشيء المتشابه وكأنها ترى جزءا حقيقيا من فريد.
ومر وقت طويل قبل أن تتأكد فؤادة من كذب النبوءة الغاشمة، وارتخت عضلات رأسها ورقبتها في خيبة أمل، لكن راحة خفية كانت قد تسربت إلى نفسها، تلك الراحة التي تعقب التحرر من مسئوليات الإيمان. •••
مضت ثلاثة أيام وأصبح المعمل معدا، كان اليوم الثلاثاء بعد الظهر، حين سارت فؤادة في شارع قصر النيل في اتجاه المعمل، تحمل في يدها لفة بها بعض أنابيب اختبار وخراطيم رفيعة من «الكاوتش»، كانت على الرصيف المواجه للعمل فوقفت مع الواقفين عند الإشارة لتجتاز الشارع.
بينما هي واقفة تنتظر اللون الأخضر، رفعت رأسها إلى واجهة العمارة. كانت اللافتات تغطي النوافذ والشرفات والأبواب والمساحات الخالية من الجدران، لافتات بأسماء أطباء ومحامين ومحاسبين وخياطين ومدلكين وغيرهم من ذوي المهن الحرة. كانت الأسماء مكتوبة بخط أسود عريض فوق أرضية بيضاء فبدت لها كصفحة الوفيات في جريدة، والتقطت عيناها اسمها؛ فؤادة خليل سالم مكتوبا بأحرف سوداء في أعلى الصفحة، وأحست بثقل في قلبها كأنها تقرأ نعيها، لكنها كانت تعلم أنها لم تمت، وأنها واقفة عند الإشارة تنتظر اللون الأخضر، وأنها قادرة على تحريك ذراعيها، واصطدمت ذراعها وهي تحركها برجل كان يقف إلى جوارها مع ثلاثة من الرجال، وكانوا ينظرون جميعا إلى واجهة العمارة ويقرءون اللافتات، وخيل إليها أنهم ينظرون إلى اسمها هي بالذات، فانكمشت داخل معطفها في خجل، وخيل إليها أن حروف اسمها لم تعد خطوطا من الطلاء الأسود، وإنما أشياء مجسدة كالأعضاء، كأعضاء جسمها، لم تدر كيف تصورت هذا، لكنها أحست وعيون الرجال تتأمل اسمها المعروض كأنما يتأملون جسمها العاري ممدودا فوق النافذة، وفتحت الإشارة فاندست بين السائرين تتخفى بينهم، وتذكرت حادثة وقعت لها وهي في السنة الأولى بالمدرسة الابتدائية. كان مدرس الدين بأنفه المقوس الغليظ كمنقار البطة واقفا في الفصل يشرح للبنات الصغيرات ما بين السادسة والثامنة من العمر تعاليم الدين التي تنص على احتشام الإناث، وقال في ذلك اليوم إن الأنثى لا بد أن تغطي جسمها لأنه عورة، ولا تتكلم في حضرة الرجال الغرباء لأن صوتها عورة، وقال أيضا إن اسمها عورة ويجب ألا يذكر علنا أمام الرجال الغرباء، وضرب مثلا بنفسه قائلا: حين يعن لي وللضرورة القصوى أن أذكر زوجتي في حضرة الرجال فإني لا أنطق اسمها الحقيقي وإنما أطلق عليها اسم الجماعة.
كانت فؤادة الطفلة الصغيرة جالسة تسمع، ولم تكن تفهم شيئا مما يقال، لكنها كانت تقرأ ملامح المدرس وهو يتكلم، وحين نطق كلمة عورة لم تفهم معناها، لكنها أحست من التعبير الذي ارتسم على ملامحه أنها تعني شيئا قبيحا ومزريا للغاية فانكمشت في الدرج حسرة على نفسها المؤنثة، وكاد أن يمر اليوم بسلام كأي يوم آخر لولا أن مدرس الدين عن له في تلك اللحظة أن يسألها عن معنى ما قاله، فوقفت تنتفض من الذعر، وبينما هي واقفة لم تدر كيف فلت البول من بين ساقيها بغير إرادة، واتجهت عيون البنات جميعا إلى ساقيها المبتلتين، وأرادت أن تبكي لكنها لم تستطع من شدة الخزي. •••
أصبحت فؤادة في معملها الكيمياوي، كل شيء من حولها يبدو جديدا مغسولا ينتظرها؛ الأنابيب، المخابير، الأجهزة، الأحواض، وكل شيء، واقتربت من الميكروسكوب الموضوع على منضدة خاصة لها ضوء خاص، وحركت مساميره، وهي تنظر من خلال العدسة، ورأت دائرة الضوء نظيفة خالية، وقالت لنفسها: ربما أجد ضالتي يوما في هذه الدائرة.
وشعرت برغبة في العمل؛ فلبست الفوطة البيضاء وجهزت الأنابيب، وأشعلت موقد الغاز، كان ضوء اللهب زاهيا فأمسكت أنبوبة اختبار بماسكها المعدني الخاص، وغسلتها غسلا دقيقا خشية أن تظل بها ذرة تراب وقربتها من لسان اللهب حتى جفت تماما، ثم شدت عضلاتها وتأهبت لإجراء البحث.
لكنها ظلت ممسكة بالأنبوبة الفارغة تحملق فيها وكأنها نسيت موضوع البحث وأحست بعرق بارد يندي جبينها وقد فوجئت بسؤال بدهي كانت تعرف جوابه دائما، لكنها حينما ووجهت بالسؤال وبدأت تفكر، هرب منها الجواب، وكلما كانت تفكر وتفكر كان يهرب منها أكثر وأكثر. وتذكرت يوما قرأت لها زميلة الفنجان لتدلها على بعض أحداث المستقبل، وبينما كانت الزميلة تقرأ الفنجان سألتها فجأة: ما اسم أمك؟
لم تدر فؤادة كيف فاجأها السؤال حتى إنها نسيت اسم أمها، وألحت الزميلة في معرفة الاسم، وكلما كانت تلح بالسؤال كان الاسم يهرب من ذاكرة فؤادة، واضطرت الزميلة في النهاية أن تواصل قراءة الفنجان بغير اسم الأم، ولكن فؤادة تذكرت الاسم في اللحظة نفسها التي كفت فيها الزميلة عن السؤال.
ظلت فؤادة تحملق في الأنبوبة الفارغة ثم وضعتها في حامل الأنابيب وأخذت تروح وتجيء في الحجرة مطرقة الرأس، كل شيء يمكن أن يختفي إلا هذا، كل شيء يمكن أن يهرب منها إلا هذا! إنها لن تحتمل اختفاءه هو الآخر، لن تحتمل هروبه، فهو الشيء الوحيد الباقي لها، وهو السبب الوحيد الذي يبقيها على قيد الحياة.
وتوقفت عند النافذة وفتحت الزجاج، ولفح الهواء البارد وجهها فأحست بشيء من الانتعاش وقالت لنفسها: إنه الإرهاق، يجب ألا أفكر في البحث وأنا مرهقة، ونظرت من النافذة، كانت اللافتة الكبيرة معلقة في حديد الشرفة، ورأت الشارع بعيدا، والناس يسيرون في طريقهم دون أن يرفعوا رءوسهم إلى أعلى، غير عابئين بمعملها الكيمياوي، وخيل إليها أن أحدا لن يفطن إلى وجود معملها ولن يطرق بابها زبون واحد، ومصمصت شفتيها في أسى، وهمت بأن تغلق النافذة حين لمحت امرأة تقف على الرصيف وتلوي رأسها إلى فوق وتنظر ناحية نافذتها، ودب الحماس في جسمها فجأة، لا بد أنها مصابة بداء النقرس وقد جاءت لتحليل بولها، وأسرعت إلى الحجرة الخارجية التي كتب على بابها حجرة الانتظار، وعدلت بعض الكراسي المعوجة، ونظرت إلى نفسها في المرآة الطويلة بجوار الباب، ورأت الفوطة البيضاء تتدلى إلى ما فوق ركبتها كحلاقي الشعر وغضت الطرف عن فمها المنفرج ونظرت في عينيها، وابتسمت وهي تهمس لنفسها: فؤادة خليل سالم صاحبة معمل للتحاليل الكيميائية، نعم؛ إنها هي.
وسمعت أزيز المصعد يتوقف، وسمعت بابه يفتح ويغلق، وطرقع كعب الحذاء الثقيل العالي على أرض الممر البلاط، وانتظرت فؤادة وراء الباب لتسمع صوت الجرس لكنها لم تسمع شيئا، ففتحت شراعة الباب بهدوء شديد، ورأت ظهر السيدة وهي تدخل من باب الشقة المجاورة لها، وقرأت الرقعة النحاسية الصغيرة فوق الباب: معهد شلبي الرياضي للتدليك والتخسيس.
وأغلقت الشراعة، وعادت إلى الحجرة الداخلية التي كتب على بابها: حجرة التحليل والأبحاث، وأشاحت بوجهها عن الأنبوبة الفارغة، وأخذت تروح وتجيء في الحجرة ثم نظرت في الساعة، كانت الثامنة، وتذكرت أن اليوم هو الثلاثاء، فخلعت الفوطة البيضاء بسرعة وألقتها على أحد الكراسي ثم خرجت إلى الشارع مسرعة .
الثلاثاء الماضي لم يأت، ربما لسبب قاهر، وها هو ثلاثاء آخر، أتراه يأتي في الموعد؟ أيمكن أن تذهب إلى المطعم فتجده جالسا إلى المائدة؟ ظهره ناحيتها ووجهه ناحية النيل؟ إن قلبها يخفق ولكن تهتز داخله تلك الجلطة التي تجمدت وتقلصت وثقلت ككرة الرصاص، إنها لن تجده فلماذا تذهب إلى المطعم؟ وحاولت أن تغير اتجاهها وتعود إلى البيت لكنها لم تستطع، كانت قدماها تندفعان بغير وعي في اتجاه المطعم كحصان جامح شد اللجام من يد صاحبه وانطلق يجري وحده.
وصفع عينيها ظهر المائدة العاري بغير مفرش، والهواء يضربه من كل جانب كصخرة عاتية هرمة في قلب بحر هائج، ووقفت لحظة ساهمة ثم خرجت من المطعم مطرقة، وسارت بخطوات بطيئة وثقيلة حتى وصلت بيتها. •••
كانت أمها في ركن من الصالة تصلي، ظهرها للباب ووجهها للحائط، ووقفت لحظة تتأملها. كان ظهرها المقوس ينحني إلى الأمام فيرتفع طرف جلبابها عن بطن ساقيها، وتركع على الأرض بضع لحظات ثم تنهض واقفة لتنحني مرة أخرى إلى الأمام ويرتفع جلبابها كاشفا عن بطن ساقيها، ورأت فؤادة عروقا كبيرة زرقاء نافرة في بطن ساقيها كالديدان الطويلة المتعرجة، وقالت لنفسها: مرض خطير في القلب أو الشرايين، وركعت أمها على الأرض ثم لوت رأسها ناحية اليمين وهمست ببضع كلمات ثم ناحية اليسار وهمست بالكلمات نفسها ونهضت مستندة بيدها على الكنبة ووضعت قدميها في الشبشب واستدارت لترى فؤادة وراءها. وقالت وهي تبصق في فتحة جلبابها عند العنق: بسم الله الرحمن الرحيم! متى دخلت؟ وقالت فؤادة وهي تجلس على الكنبة تتنهد في إعياء: الآن، وجلست الأم على الكنبة إلى جوارها وقالت وهي تتأملها: يبدو أنك متعبة.
كانت على وشك أن تقول متعبة جدا، لكنها نظرت في وجه أمها ورأت عينيها الواسعتين مشربتين باصفرار واضح لم تره من قبل فقالت: اشتغلت كثيرا فقط، هل تشعرين بتعب يا ماما؟ قالت الأم في دهشة: أنا؛ أي تعب؟ وردت قائلة: في القلب مثلا. وقالت الأم: لماذا؟ قالت فؤادة: لاحظت عروقا نافرة في رجليك وأنت تصلين. وقالت الأم: وما دخل القلب بالرجلين؟ قالت: الدم يمشي من القلب إلى الرجلين.
وشوحت الأم بيديها في لا مبالاة؛ يمشي كما يمشي، أنا لا أشعر بتعب. قالت فؤادة: لا نشعر أحيانا بالتعب لكن المرض يكون كامنا في أجسامنا، من المفيد أن نبحث من الآن، وقالت الأم وهي تربع رجليها فوق الكنبة: أنا أكره الأطباء كالعمى.
قالت فؤادة: لن تذهبي إلى طبيب. سأتولى أنا البحث. قالت الأم في دهشة: أي بحث؟ ردت فؤادة: سآخذ عينة من بولك وأحللها في معملي، وابتسمت الأم ابتسامة صغيرة وقالت بصوت عال: آه فهمت! تريدين إجراء تجاربك علي.
ونظرت إليها فؤادة لحظة ثم قالت: أي تجارب! إني أعرض عليك خدمة بغير مقابل. وقالت الأم: أشكرك جدا، أنا في تمام الصحة ولا أريد أن أوهم نفسي بمرض، وقالت فؤادة في ضيق: لن يكون هناك أي وهم يا ماما ولن يكون عندك مرض. وقالت الأم: إذن ما فائدة التحليل؟ وقالت فؤادة: لنتأكد من عدم وجود المرض هذا شيء، والشيء الآخر أن التحليل ... وسكتت لحظة ثم قالت بصوت منخفض: التحليل في حد ذاته فن يلذ لي أن أمارسه.
وقالت الأم وهي تقلب شفتها السفلى في امتعاض: وما هو الفن أو اللذة في تحليل البول! وردت فؤادة وكأنها تكلم نفسها: إنه عمل يعتمد على الحواس، كالفن سواء بسواء، وقالت الأم: أي حواس؟ وقالت فؤادة: الشم، اللمس، النظر، التذوق ... وصاحت الأم قائلة: تذوق! ونظرت إلى ابنتها لحظة ثم قالت: يخيل إلي أنك لا تعرفين شيئا عن هذه التحليلات.
ونظرت فؤادة إلى أمها، ورأت في عينيها نظرة غريبة تشبه النظرة التي رأتها في عينيها في صورة الزفاف، نظرة قاسية، متشككة، فاقدة الثقة فيمن أمامها فقدانا مريرا، وأحست بسخونة ترتفع في رأسها ووجدت نفسها تقول بغير وعي: أنا أعرف لماذا ترفضين التحليل، أنت ترفضين لأنك لا تثقين في تحليلي، وارتفع صوتها بغير إرادة وصاحت: أنت لا تثقين في أنني يمكن أن أعمل شيئا، هذه هي نظرتك لي دائما، وهذه كانت نظرتك دائما لأبي.
وفتحت أمها فمها في دهشة ثم قالت: ماذا تقولين؟ وردت بصوت أكثر ارتفاعا: نعم؛ أنت لا تثقين في، هذه هي الحقيقة التي كنت تخفينها دائما عني.
ونظرت إليها أمها في دهشة شديدة، وقالت بصوت واهن: ولماذا لا أثق فيك؟
وصاحت فؤادة: لأنني ابنتك؛ فالناس دائما لا ترى الأشياء الثمينة التي تمتلكها لمجرد أنها تمتلكها.
وأطرقت فؤادة رأسها إلى الأرض وأمسكته بيديها كأنها تشعر بصداع شديد، وراحت الأم تتأملها في صمت وإشفاق ثم قالت بصوت حنون: من قال لك إنني لا أثق فيك يا ابنتي؟! أنت لا تعرفين كيف أحسست بك حين رأيتك لأول مرة بعد ولادتك، كنت نائمة إلى جواري كالملاك الصغير تتنفسين بهدوء وتنظرين حولك في دهشة بعينيك الصغيرتين اللامعتين، وحملتك بين ذراعي ورفعتك إلى فوق ليراك أبوك وقلت له: انظر إليها يا خليل، وألقى عليك أبوك نظرة خاطفة وهو يقول في أسى: إنها بنت. وقلت له وأنا أقربك من وجهه: ستكون امرأة عظيمة يا خليل، انظر إليها، انظر في عينيها، قبلها يا خليل! قبلها! وقربتك منه حتى كاد وجهك يلامس وجهه، لكنه لم يقبلك، وأشاح بوجهه بعيدا عنا وتركنا وخرج. ومسحت الأم بكمها دمعة صغيرة بللت جفنيها، وقالت: كرهته في تلك الليلة أكثر من أي ليلة أخرى، وبقيت طول الليل صاحية أنظر إلى وجهك الصغير وأنت نائمة، وكلما كنت أقرب أصبعي من يدك تلتف أصابعك الصغيرة الرقيقة حول أصبعي وتمسكه بقوة ولا تتركه، وظللت أبكي حتى طلع النهار، ولا أدري يا ابنتي ما المرض الذي أصابني فقد ارتفعت حرارتي فجأة وفقدت الوعي أياما، وحينما أفقت واسترددت صحتي عرفت أنني نقلت إلى مستشفى حيث انتزعوا من جسمي الرحم فأصبحت عقيما.
وأخرجت منديلها من جيب جلبابها لتمسح الدموع التي تسربت إلى أنفها، وقالت: كنت أنت الشيء الوحيد لي في الحياة، وكنت أدخل عليك حجرتك وأنت ساهرة تستذكرين وأقول لك ... وغلبتها الدموع فوضعت المنديل فوق عينيها لحظة ثم رفعته عن عينين محتقنتين بالدم، وقالت: هل نسيت يا فؤادة؟
كانت فؤادة تقاوم ألما حادا في نصف رأسها، وكانت صامتة شاردة كأنها نصف نائمة وقالت بصوت ضعيف: لم أنس يا ماما.
وسألت الأم في رقة: ماذا كنت أقول لك يا فؤادة؟ وقالت فؤادة في شرود: كنت تقولين إنك واثقة من أنني سأنجح وأسبق كل زملائي.
وانفرجت شفتا الأم الذابلتان عن ابتسامة واهنة وقالت: أرأيت؟ كنت واثقة دائما منك. وقالت فؤادة: كنت تتصورين أنني أحسن من كل البنات.
وقالت الأم في شيء من الحماس: لم أكن أتصور فقط. كنت متأكدة.
ونظرت فؤادة في عيني أمها وقالت: ولماذا كنت متأكدة؟ وقالت الأم بسرعة: هكذا! بغير سبب! وحاولت فؤادة أن تثبت عينيها في عيني أمها لترى نظرتها وتفهمها، وتعرف سر ذلك التأكد الذي كان يلازمها لكنها لم تر شيئا، وشعرت بشيء من الضيق تحول بعد لحظة قصيرة إلى غضب خفيف، وقالت لأمها فجأة: هذا التأكد أفسد حياتي.
وارتفع الجفنان الخاليان من الرموش عن مساحة أكبر من بياض العينين الأصفر ذي الشعيرات الدموية الحمراء وقالت الأم في دهشة شديدة: ماذا؟
وقالت فؤادة بغير إرادة وكأنما يلقنها شخص من الماضي البعيد: هذا التأكد كان يطاردني كالشبح، كان يثقل قلبي، ولم أكن أنجح في الامتحانات إلا ... وسكتت لحظة وابتلعت ريقها بصوت مسموع ثم واصلت كلامها: نعم؛ لم أكن أنجح إلا من أجلك أنت، وكان هذا يعذبني، نعم كان يعذبني لأنني كنت أحب العلوم وكان يمكن أن أنجح وحدي، وأمسكت رأسها بين يديها وضغطت عليه بقوة.
وسكنت الأم لحظة واجمة ثم قالت في أسى: أنت مرهقة يا فؤادة الليلة، ماذا حدث في الأيام الأخيرة؟ أنت لست في حالتك الطبيعية.
ظلت فؤادة، مطرقة صامتة، تضغط بكلتا يديها على رأسها وكأنما تخشى عليه أن ينكسر، كان هناك ألم حاد يشق رأسها نصفين، وفي مكان ما من مؤخرة رأسها كانت هناك نقطة تكشف عن نفسها، لم تكن تعرف تماما ما هي، ولكن خيل إليها أنها بدأت تكتشف السبب الحقيقي للحزن الغامض الذي كان ينتابها أحيانا حين تمر بها لحظة سعيدة. لم يكن هذا السبب سوى أمها، كانت تحب أمها أكثر من أي شيء آخر؛ أكثر من فريد، وأكثر من الكيمياء، وأكثر من الاكتشاف، وأكثر من نفسها، ولم تكن لتتحرر من هذا الحب رغم أنها كانت تريد أن تتحرر، كأنما وقعت في شرك أبدي، التفت أسلاكه وخيوطه حول قدميها ويديها ولم تستطع منه فكاكا طوال حياتها.
وتحرك أصبعها الصغير بغير إرادة وزحف فوق شفتها العليا ثم دخل في فمها، وأخذت تعض طرف أصبعها كطفل ظهرت أسنانه ولا يزال يمص ثدي أمه، وانقضت فترة طويلة وهي جالسة على الكنبة في الصالة، رأسها بين يديها وطرف أصبعها الصغير بين أسنانها، وخيل إليها أن أمها تركت الصالة، ولم تعرف أين ذهبت لكنها عادت بعد قليل وفي يدها زجاجة صغيرة مليئة بسائل أصفر ومدت يدها النحيلة المعروقة إلى ابنتها، ممسكة بالزجاجة، ورفعت فؤادة عينيها إليها فسقطت الدمعة الحبيسة من بينهما في حجرها. •••
أحست فؤادة بلذة كبيرة وهي تغسل الأنابيب وتعد زجاجات القلويات والأحماض، وتضبط أجهزة التحليل الكيميائي وقراءة الألوان، وأشعلت الموقد وسكبت قليلا من بول أمها في أنبوبة الاختبار وأمسكت الأنبوبة بماسكها المعدني وقربتها من طرف اللهب. وبينما هي في هذا الوضع أدركت لماذا ألحت على أمها لتأخذ منها عينة؛ كانت تريد أن تستخدم أدوات المعمل الجديدة.
كانت العينة خالية من الزلال، فلم تجمد الحرارة منها شيئا وأطفأت الموقد، وسكبت قطرة صغيرة من البول البارد فوق شريحة زجاجية وضعتها تحت الميكروسكوب، ونظرت من خلال عدسته فرأت تلك الدائرة الكبيرة تتحرك داخلها دوائر صغيرة مختلفة الأحجام والأشكال، وحركت المرآة لتضبط الضوء ولفت المسمار الجانبي الخاص بالعدسة المكبرة فاتسعت الدائرة الكبيرة وزادت عن المدار الذي تدور فيه عيناها، وكبرت الخلايا الدائرية الصغيرة المهتزة وبدت كحبات من العنب تطفو فوق ماء.
وركزت عينها على إحدى الخلايا، كان لها شكل البويضة بل إنها كانت بويضة فعلا، كانت تهتز ككائن حي وتتذبذب داخلها نويتان قاتمتان كالعينين، وأمعنت النظر فيهما، وخيل إليها أنهما تنظران إليها نظرة أليفة كنظرة أمها، وتذكرت أن هذه البويضة هي بويضة أمها، وأنها هي نفسها كانت هذه البويضة منذ ثلاثين سنة، لكن أمها لم تضعها في زجاجة وتغلق عليها بسدادة، كانت تتشبث بلحمها كما تتشبث القملة بجلدة الرأس، وكانت تأكل خلاياها وتمص دمها.
لم تدر فؤادة كيف استرسلت في أفكارها، وكيف تصورت بكثير من الاندهاش وعدم التصديق منظر أمها وهي مستلقية فوق السرير وإلى جوارها أبوها. لم تكن تخيلت من قبل أن أمها مارست تلك الأعمال التي تمارسها النساء قبل إنجاب الأطفال، لكنها كانت على يقين من أن أمها قد مارستها بدليل وجودها في الحياة، وحاولت أن تتصور شكل أمها في مثل هذا الموقف، وخيل إليها أنها كانت تظل بتلك الصورة التي عرفتها بها، الطرحة البيضاء تلتف حول رأسها، والجلباب الطويل فوق جسمها، والجورب الأسود الطويل في قدميها، والشبشب الصوفي أيضا. نعم؛ لقد تصورتها بكل تلك الأشياء راقدة فوق السرير بين ذراعي أبيها مطبقة شفتيها في صرامة وفوق جبينها العريض تكشيرة جادة، تؤدي واجبها الزوجي بالحركات الوقورة البطيئة نفسها التي تؤدي بها الصلاة.
وسمعت جرس الباب يرن، كانت قد سمعته منذ رأت البويضة لكنها ظنت أنه جرس الشقة المجاورة، أو جرس عجلة في الشارع، لكن الرنين تكرر واستمر فتركت الميكروسكوب وذهبت لتفتح الباب.
كانت الخلايا الدائرية لا تزال تهتز أمام عينيها حين وقع بصرها على العينين الجاحظتين تهتز داخلهما نويتان بارزتان سوداوان، وخيل إليها أنها لا تزال تنظر في الميكروسكوب فدعكت عينيها بيدها وهي تقول: تفضل يا أستاذ ساعاتي.
سار وراءها بجسمه الضخم إلى حجرة الانتظار في خطوات محرجة وكأنه لا يعرف سببا وجيها لمجيئه، وقال وهو يتلفت حوله إلى الكراسي المعدنية الجديدة: مبروك. ألف مبروك؛ لقد أصبح معملا جميلا جدا. وجلس على أحد الكراسي وهو يقول: فكرت أن أمر عليك قبل اليوم أكثر من مرة لأهنئك على المعمل الجديد لكنني خشيت أن ... وسكت لحظة وتذبذبت عيناه الجاحظتان من تحت النظارة السميكة ثم قال: لكني خشيت أن أزعجك.
وقالت في هدوء: أشكرك.
ورفع عينيه وقرأ الرقعة النحاسية فقال في دهشة: حجرة الأبحاث! ونهض وأدخل رأسه من باب الحجرة فرأى الأجهزة والأدوات والأنابيب والأحواض الجديدة فقال في سرور وإعجاب: هذا رائع! رائع! لقد أصبح معملا كيمياويا بمعنى الكلمة.
ونظرت حولها في شيء من الدهشة، لم تكن أحست بعد أنها تمتلك المعمل، أو أنه أصبح معملا كيمياويا بمعنى الكلمة، كان يخيل إليها أنه ليس كاملا وأن أشياء كثيرة تنقصه، فقالت بدهشة حقيقية: حقا! هل ترى أنه معمل كيمياوي؟!
ونظر إليها مندهشا، وقال: وأنت، ألا ترين ذلك؟
وقالت في شرود وهي تتأمل معملها بعين جديدة: نحن لا نرى دائما الأشياء التي نمتلكها.
وابتسم، فقفزت شفته العليا كاشفة عن أسنانه الكبيرة الصفراء وقال: هذا صحيح خاصة في حالة الزوجات والأزواج. وضحك ضحكة قصيرة ثم عاد وجلس على كرسيه، وظلت واقفة فقال لها: يبدو أنك مشغولة، هل أنا أعطلك؟ وجلست على كرسي بجوار الباب وهي تقول: كنت أجري بعض الأبحاث.
وابتسمت بغير سبب، ولعلها تذكرت شكل بويضة أمها، والتهمت نظراته الحدباء وجهها وقال: سأقول لك شيئا، هل تعرفين أنك تشبهين ابنتي؟ الابتسامة نفسها، العينان، القوام، كل شيء.
وأحست فؤادة بوقع نظراته فوق جسمها فصمتت مطرقة، وهمست لنفسها: إنه يريد أن يثرثر فحسب. وقال: حين رأيتك لأول مرة أحسست بهذا الشبه الغريب، وخيل إلي أنك قريبة مني، وربما هذا هو السبب الذي جعلني أصمم بيني وبين نفسي على أن أعطيك الشقة.
نعم؛ إنه يريد أن يثرثر، وها هو يذكر الشقة، ما الذي أتى به في هذا الوقت؟ لقد أفسد عليها لذة تحليل بول أمها.
وأكمل كلامه قائلا: فكرت في الأيام الماضية أن آتي وأساعدك في تجهيز المعمل، لكني خشيت أن تظني بي سوءا. النساء عندنا يسئن الظن بأي رجل يبدي رغبته في المساعدة، أليس كذلك؟
ولم ترد، كانت قد شردت فجأة في شيء آخر، تذكرت حادثة صغيرة وقعت لها وهي طفلة؛ كانت تلعب مع الأطفال في الشارع، وكان هناك الرجل العجوز الأبله الذي يتجول في الشوارع بغير هدف ويجري الأطفال خلفه يهللون: العبيط أهه! وكانت تجري خلفه مع الأطفال وتهلل معهم، وفي ذلك اليوم جرت خلفه أكثر من اللازم فابتعدت عن الأطفال واقتربت منه، واستدار إليها الرجل العجوز ونظر إليها نظرة مخيفة فارتعدت وخيل إليها أنه سيجري خلفها ويمسكها فأطلقت ساقيها للريح، وكفت من يومها عن الجري خلفه مع الأطفال، وكانت تختبئ بسرعة حين تراه، وقد خيل إليها أنه يخصها دون الأطفال بتلك النظرة المخيفة المرعبة.
لم تدر فؤادة لم تذكرت تلك الحادثة البعيدة، لكن عيني الرجل العجوز الأبله كانتا جاحظتين كهاتين العينين، وتلفتت حولها في المعمل، وكأنما اكتشفت فجأة أنها وحدها مع الساعاتي في الشقة، فشعرت بخوف غامض ونهضت، وهي تقول: لا بد أن أذهب الآن؛ فقد تذكرت شيئا هاما، ونهض الساعاتي قائلا: متأسف لأنني عطلتك، هل تودين أن أوصلك بعربتي؟ وقالت وهي تسرع وتفتح الباب: لا، أشكرك؛ فالمكان ليس بعيدا. وخرج من الباب فأغلقت الشقة بالمفتاح وأسرعت أمامه لتهبط السلم، فقال لها مندهشا: ألا تنتظرين المصعد؟ وقالت وهي تهبط السلم مسرعة: أفضل الهبوط على قدمي. •••
سارت في الشارع تتطلع إلى نوافذ المحلات، وكان الليل قد بدأ يهبط بثقله وكثافته على الأرض، وأضيئت أنوار الشارع والمحلات، لم تشعر برغبة في العودة إلى البيت، فسارت تحملق في الوجوه التي تمر بها، وكانت قد أدمنت تلك العادة الغريبة، عادة مقارنة الرجال بفريد، في ملامحهم، في حركاتهم، في أحجامهم، وأدمنت شيئا أغرب من هذا، وهو خلق تنبؤات مبتكرة والانسياق وراء احتمال تحققها، كانت تقول لنفسها مثلا وهي سائرة في الشارع: ستمر بي ثلاث عربات ملاكي يتبعها تاكسي، وسأنظر داخل التاكسي فأرى فريد جالسا، وكانت تبدأ في عد العربات التي تمر بها ولا تتحقق النبوءة فتعض شفتها السفلى، وتقول: ومن قال إنها يمكن أن تتحقق؟ إنها ليست إلا وهما، وتواصل سيرها، وبعد قليل تخطر لها نبوءة أخرى بشكل آخر.
ووصلت إلى نهاية شارع قصر النيل فوجدت جمعا من الناس يلتفون حول عربة، وسمعت الأصوات تقول: رجل مات، ووجدت نفسها تندفع بين الناس وتشق الزحام وهي تلهث وترتجف حتى وصلت إلى الرجل الممدود فوق الأرض، ونظرت في وجهه ولم يكن فريد، فعادت تخرج من بين الزحام بخطى بطيئة ثقيلة.
وتركت شارع قصر النيل وسارت في اتجاه شارع سليمان؛ كان الشارع مزدحما بالناس لكنها لم تر أحدا. كانت تسير شاردة، تدرك الأجسام من حولها بحدودها الخارجية التي تفصلها عن كتلة الدنيا الهلامية الضخمة، فتعرف بغير إرادة أن ذلك الجسم يشغل ذلك الحيز من الشارع وعليها أن تتفادى الاصطدام به. وهكذا سارت دون أن تصطدم بشخص أو جدار.
وخيل إليها أن حاجزا ما يسد الطريق، ورفعت رأسها فرأت طابورا طويلا من الناس يقف في عرض الشارع، فوقفت هي الأخرى.
كان الطابور يتناقص شيئا فشيئا، حتى وجدت نفسها أمام شباك التذاكر، فاشترت تذكرة واتجهت مع الناس إلى الباب الواسع. كانت الصالة مظلمة، وسقط نور الكشاف الصغير على ظهر تذكرتها وصعدت السلم وراء كرة الضوء حتى جلست في كرسيها.
كان الفيلم قد بدأ منذ قليل، ورأت على الشاشة رجلا وامرأة يتعانقان فوق سرير، وتحركت الكاميرا مبتعدة عنهما لتظهر قدم رجل تطل من تحت السرير ثم عادت إلى الرجل والمرأة وكانا لا يزالان ملتحمين في قبلة طويلة. وأحست بذبابة تمشي على ساقها فهشتها بيدها وهي تحملق في الشاشة.
وانتهت القبلة وارتدى الرجل حلته وخرج من الباب، وقالت المرأة شيئا فخرج الرجل الآخر من تحت السرير وبدأ العناق من جديد.
وخيل إليها أن الذبابة تعود، لم تكن ذبابة صغيرة كالذباب فهي كبيرة في حجم صرصار، وهي لا تقفز بسرعة الذباب وإنما تزحف ببطء صاعدة فوق ساقها. وكانت حريصة على ألا يفوتها شيء من مناظر الفيلم فظلت شاخصة ببصرها إلى الشاشة ومدت يدها في الظلام لتقبض على الحشرة قبل أن تصعد فوق ركبتها، لكن أصابعها تقلصت فوق شيء صلب، فنظرت في فزع إلى يدها، ووجدت أنها تقبض على أصبع الرجل الجالس إلى جوارها، وظلت ممسكة بأصبعه في يدها ونظرت إليه في غضب، لكنه لم يلتفت إليها، وظل ينظر إلى الشاشة، في استغراق شديد وكأنه لا يراها، وكأن أصبعه ليست ممسوكة في يدها، وقذفت بأصبعه في وجهه حتى كادت تقلع إحدى عينيه لكنه ظل يحملق في الشاشة كالنائم، ونهضت بسرعة من جواره وغادرت السينما. •••
تمددت فوق سريرها، وراحت تحملق في السقف، في تلك الدائرة الصغيرة المشرشرة التي سقط عنها الطلاء الأبيض، وشعرت ببرودة فشدت الغطاء فوق جسمها وأغمضت عينيها لتنام، لكنها لم تنم، وفكرت أن تمد يدها إلى التليفون وتطلب الرقم الخماسي كما تفعل كل ليلة قبل أن تنام، لكنها لم تمد يدها وضغطت برأسها على الوسادة وهي تقول: يجب أن أكف عن هذه العادة، لكنها لم تكف، كانت تعرف أنه لن يكون هناك سوى الجرس الحاد الأخرس، وأنه لم يعد صوتا، أو ذبذبات هواء تصل إلى أذنها، ولكنه قد تحول إلى سيخ مدبب من الحديد، يؤلم أذنها، ليس ألما عاديا، ولكنه ألم حارق كالنار.
غير أنها كانت قد ألفته، وكانت في الموعد المحدد كل ليلة تطلبه، وتفتح أذنها للساعة وتدعه يدخل مؤلما حارقا، كأنما كان الألم يريحها، كمريض يكوي جسمه بالنار ليتخلص من نار أخرى أشد، أو كمدمن ألف طعم السم وأصبح يطلبه كل يوم.
ولم يكن رنين الجرس يصل إليها خالصا، كان يختلط بصوت شهيقها وزفيرها ودقات قلبها، ولم تكن تعرف هذا من ذاك؛ فالأصوات كانت تمتزج وتتشابك وتصبح كلها صفيرا حادا متصلا، كذلك الصفير الطبيعي الذي يدوي في الأذن حين تصمت كل الأشياء.
أجل، كانت تنتظر الجرس كل ليلة كأنما أصبح حبا جديدا، لم تكن تنسى أنه جرس حاد أخرس، لكنها كانت تعرف أنه ينبعث من تليفون فريد، ويرن في بيت فريد، ويرتطم بمكتب فريد الذي كثيرا ما جلسا عليه إلى جوار بعضهما البعض، ويصطدم بالكنبة الكبيرة التي كثيرا ما تمددا فوقها جنبا إلى جنب، ويحرك الهواء الذي تنفساه معا وزفراه معا.
وانقطع الجرس، وجاءها صوت فريد يهمس في أذنها، وأحست بذراعه حول خصرها، وأنفاسه الساخنة على عنقها، ولم تكن نسيت أنه غاب عنها كل تلك الأيام لكنها بدت وكأنما نسيت كل شيء، ولم تعد تذكر شيئا، لم تعد تذكر أن لها رأسا أو ذراعين أو ساقين، وفقدت كل حواسها ولم يبق منها إلا شفتان متضخمتان ملتهبتان.
وفتحت عينيها لتنظر في عينيه، لكنه لم يكن فريد، كان رجلا آخر، له عينان ضيقتان زرقاوان وحاجبان كثيفان، أول رجل أحبته. كانت طفلة صغيرة لا تذكر كم كان عمرها في ذلك الوقت، لكنها تذكر أنها كانت قد كبرت وأصبحت تفتح عينيها كل صباح فتجد فراشها جافا، وكانت تكره البلولة وحمدت الله لأنها تخلصت منها؛ لكن الله لم يخدع بحمدها فسرعان ما أصابها ببلولة من نوع آخر، أشد خطرا، فهي ليست بلا لون كالبلولة السابقة، ما إن تجف حتى تعود الملاءة بيضاء من جديد، ولكنها ذات لون أحمر قان، لا تضيع إلا بالغسل الشديد الذي يلهب أصابعها الصغيرة، وهي لا تضيع تماما بعد الغسل، وإنما تترك أثرا باهتا أصفر.
ولم تكن تعرف سببها الحقيقي، فهي بلولة عشواء تظهر وتختفي كما يحلو لها، وظنت أن شبحا ما اغتال جسمها الصغير وهي نائمة، أو أن مرضا خبيثا ألم بها وحدها من دون البنات. وأخفت كارثة جسدها عن عيني أمها، وفكرت أن تذهب وحدها إلى طبيب ليشفيها سرا، لكن أمها ضبطتها مرة وهي تغسل ملاءة السرير أمام الحوض، ودارت بها الأرض من شدة الخزي وكورت الملاءة بيديها ورأت عيني أمها تنظران إليها من تحت عتامة لم ترها من قبل، وامتدت يدها إلى الملاءة ففردتها، ورأت البقعة الحمراء المتعرجة فوق النسيج الأبيض راقدة ممدودة كصرصار ميت. وحاولت أن تنكر جريمتها الشائنة، لكن أمها بدت وكأنها مشتركة معها في الجريمة، إنها لم تفزع، ولم تغضب؛ بل إنها لم تفاجأ على الإطلاق، كانت وكأنها تتوقع حدوث هذه المصيبة لها، وتستسلم لها استسلاما هادئا.
ولم تطمئن فؤادة إلى هذا الهدوء؛ بل إنه أفزعها حتى إن جسمها ارتعد، إنها ليست كارثة إذن، إنها ليست مرضا شاذا مؤقتا، إنها شيء عادي، عادي جدا. وكان فزعها يزداد كلما زاد إحساسها بعاديته. كانت تتمنى أن يكون شيئا شاذا، فالأشياء الشاذة محتملة لأنها شاذة وغير دائمة.
وأصبح جسمها الصغير يتغير، كانت تحس التغيير يسري في جسدها كحية ناعمة لها ذيل طويل رفيع تلعب به في صدرها وبطنها، وتلدغها في أماكن مختلفة من جسمها، كانت اللدغات مؤلمة ولذيذة، وعجبت كيف يمكن لأحاسيس جسمها أن تبدو لها مؤلمة ولذيذة في الوقت نفسه، لكن جسمها كان وكأنه أكثر ذكاء منها، كان يبدو مقتنعا بالألم واللذة، راضيا بهما جنبا إلى جنب، يحتضنهما معا بغير تعجب أو دهشة.
كان جسمها يتغير فجأة وبالتدريج، وكانت تحس التغيير ولا تحسه كهواء دافئ يدخل أنفها، أو كماء فاتر ينسكب عليها بهدوء فهي تحمل كثافته فوق جسمها، لكنها لا تحس حرارته لأنه من نفس حرارتها.
ودهشت حين رأت صدرها يوما في المرآة، لم يكن ذلك الصدر الأملس الذي ألفته عيناها، ولكنه تقعر إلى الأمام على شكل قمعين ينتهيان بزبيبتين سوداوين يصعدان ويهبطان مع كل شهيق وزفير، ويهتزان إذا ما اهتزت وكأنما سيسقطان من فوق صدرها كما يسقط البرتقال من فوق الشجرة لولا تلك الطبقة الشفافة من الجلد.
وبينما هي تهتز، أحست بشيء آخر يهتز خلفها، واستدارت أمام المرآة فاكتشفت نهدين آخرين متكورين مشدودين بجلد سميك إلى أسفل ظهرها، ووقفت لحظة تتأمل جسمها، وخيل إليها أنه جسم فتاة أخرى غيرها، أو جسم امرأة كبيرة، وشعرت بشيء من الخزي وهي ترى تلك التعاريج والبروزات تعلن عن نفسها كالفضائح مع كل شهيق وزفير، لكن كان هناك شيء آخر غير الخزي، شيء عميق ودفين، يسربل نفسه بضباب كثيف، شيء كالسرور الخفي أو الزهو الخبيث.
ولماذا تبقى كل هذه الصور القديمة في ذاكرتها بجوار صورة الرجل الأول؟ لماذا تبقى على حين زالت صور أخرى كبيرة وحديثة؟ لكنها تعتقد أن هناك تفاعلا كيميائيا لا شك يحدث في خلايا الذاكرة، يذيب بعض الصور، ويركز بعض الصور، ويشوه بعض الصور، يبقى منها أجزاء ويبتر أجزاء. نعم، يبتر أجزاء، فقد بتر النصف السفلي لجسم أول رجل في حياتها. لماذا بتره؟ إنها لا تعرف، فهي لا تذكر أنه كان يمتلك نصفا سفليا؛ كان له رأس كبير، وعينان زرقاوان ضيقتان، وكتفان وذراعان طويلتان. كيف كان يمشي بغير ساقين، إنها لا تذكر، فهي لم تره أبدا وهو يمشي، كان يطل من نافذة غرفته دائما، وكان يمكن للكبار ذوي القامات الطويلة أن يروا داخل الغرفة وهم سائرون على الأرض في الشارع لكنها كانت قصيرة، ولم تكن ترى شيئا إلا إذا قفزت.
كانت تتعمد أن تقفز الحبل تحت نافذته، وفي كل قفزة تصوب نظرة إلى داخل الحجرة؛ لم تكن ترى كل شيء بوضوح؛ لأن رأسها كان يهبط بسرعة، لكنها استطاعت أن تلمح صورا ملونة معلقة على الحائط، وحقيبة كبيرة فوق الدولاب، ومكتبة فيها كتب، كانت تحب الصور الملونة أكثر من أي شيء آخر، وقالت له يوما وهي تقفز تحت النافذة: أريد صورة ملونة. وقال لها: تعالي وأنا أعطيك صورة. ولم يكن في استطاعتها أن تذهب بغير إذن من أمها، لكن أمها رفضت وقالت لها في شدة: لقد كبرت على القفز في الشارع، ودست نفسها في سريرها وهي تنتفض غضبا، وكرهت أمها في تلك اللحظة كراهية شديدة وحسدت صديقتها سعدية لأن أمها ماتت وهي تلدها. ولم تبق في السرير كثيرا، فقد نهضت، وسارت حافية على أطراف أصابعها تمسك حذاءها في يدها وأسرعت تجري إلى الشارع.
خفق قلبها الصغير حين طرقت بابه، كانت سعيدة لأنها ستحصل على صورة ملونة، لكنها كانت تعرف أن الصورة وحدها ليست سبب سعادتها. كانت تريد أن ترى غرفته من الداخل تريد أن ترى شكل دولابه، وشكل سريره، وشكل شبشبه، وكانت تريد أن تمسك كتبه وأوراقه وصوره، وأن تلمس بيدها كل أشيائه.
وفتح الباب، ودخلت وهي تلهث، وقفت بجوار الحائط تنتفض كدجاجة نتف ريشها في البرد، وقال لها شيئا فاختنق صوتها ولم ترد، واقترب منها، ورأت عينيه الزرقاوين تقتربان منها، وشعرت بخوف، كان شكل وجهه عن قرب غريبا، وفي عينيه نظرة صارمة كعيني قط هائج، وشدها إليه بذراعيه الطويلتين فصرخت، كانت تظن أنه سيذبحها أو سيخنقها، وصفعها على وجهها قائلا: لا تصرخي! لكنها ذعرت أكثر وصرخت أكثر، وبينما هي تحاول أن تفلت من بين ذراعيه سمعت طرقا شديدا على الباب وتركها تفتح الباب، وكادت تسقط على الأرض؛ فقد رأت أمها بلحمها ودمها واقفة في وسط الغرفة.
وفتحت عينيها فوجدت نفسها راقدة فوق السرير تنتفض من البرد، وكان الظلام شديدا، والنافذة مفتوحة، وخيل إليها أن شبحا ما يتحرك خلف النافذة فارتعدت، لكنها عرفت أنها شجرة الكافور تهتز مع دفعات الهواء، ونهضت وأغلقت النافذة، ثم عادت إلى السرير ودخلت تحت الغطاء الصوفي، وخيل إليها أنها تسمع أنفاسا في الحجرة غير أنفاسها، فأخرجت رأسها من تحت الغطاء ونظرت بحذر في الغرفة، ووقعت عيناها على شبح طويل واقف بجوار الدولاب وكادت تصرخ، لكنها عرفت أنه ليس إلا الشماعة ومن فوقها معطفها، وأغمضت عينيها لتنام، ولكنها أحست بحركة وكأنها تأتي من تحت السرير، ورغبت في أن تمد يدها وتضيء النور؛ لكنها خشيت أن تخرج يدها من تحت الغطاء فينقض عليها الشبح القابع تحت السرير وظلت متكورة تحت الغطاء، مفتوحة العينين، حتى سرى النوم في جسمها ساخنا كالدم. •••
كانت أشعة الشمس تدخل من شقوق الشيش حين استيقظت فؤادة، وظلت في الفراش متكورة تحت الغطاء تتمنى بينها وبين نفسها لو أنها بقيت في الفراش إلى الأبد، لكنها نهضت وجرت جسمها الثقيل وسارت إلى المرآة. كان وجهها شاحبا، أكثر طولا مما كان، وعيناها أكثر اتساعا، وشفتاها الشاحبتان بينهما تلك الفرجة التي زادت اتساعا، وبدت تحتها أسنانها أكثر بروزا، وأمعنت النظر لحظة في عينيها كأنما تبحث عن شيء، ثم زمت شفتيها في امتعاض وسارت إلى الحمام، غسلت جسمها بالماء الساخن وشعرت بانتعاش، فابتسمت لنفسها ابتسامة صغيرة وهي تتطلع إلى جسمها في المرآة؛ كانت طويلة ممشوقة وفردت ذراعيها وساقيها وهي تشعر بقوة كامنة في عضلاتها، قوة لم تستنفد في شيء، قوة حبيسة لا تعرف كيف تفرج عنها. وارتدت ملابسها وخرجت إلى الشارع؛ كان الهواء باردا منعشا والشمس ساطعة دافئة وكل شيء يبرق ويهتز في انتعاش، وسارت تحرك ذراعيها بقوة في الهواء، إنها تشعر بقوة، إن في أعماقها طاقة كبيرة، إنها تستقبل يوما جديدا بكل حماس، ولكن إلى أين هي ذاهبة؟ إلى ذلك القبر الآسن الذي تفوح منه رائحة دورة المياه، إلى ذلك المكتب الأجرب الذي تجلس عليه ست ساعات دون أن تفعل شيئا، أتبدد هذه القوة وهذا الحماس في لا شيء؟
ورأت حصانا يجر عربة، كان يضرب الأرض بأقدامه في قوة ونشاط، وراحت تتأمل الحصان وكأنها تحسده؛ إنه يستنفد قوته في جر العربة، إنه يفرج عن طاقته، إنه يحرك أقدامه في سعادة، لو كانت حصانا لكانت الآن مثله، تجر عربتها، وتطرقع فوق الأرض بحوافرها منطلقة سعيدة.
وجاء الأتوبيس 613، ووقفت جامدة تنظر إليه بغير حراك كحصان جامح، لا؛ إنها لن تذهب إلى الوزارة، إنها لن تبدد ساعات النهار في لا شيء، لن تبدد عمرها في التوقيع في دفتر الحضور والانصراف؛ من أجل ماذا؟ تلك الجنيهات القليلة التي تأخذها كل شهر، أتبيع عمرها من أجل بضعة جنيهات؟ أتدفن ذكاءها في تلك الحجرة المغلقة ذات الهواء الفاسد؟ نعم؛ إنه الهواء الفاسد الذي يبدد نشاطها، إنه الهواء الفاسد الذي يعطل أفكارها ويقتلها قبل أن تنطلق، كثيرا ما خطرت لها أفكار، وكثيرا ما طرأت لها فكرة البحث، وكثيرا ما اقتربت من الاكتشاف، ولكن كل شيء كان يضيع في تلك الحجرة المغلقة الأبواب والنوافذ ذات المكاتب الكالحة الخاوية والرءوس الثلاثة المحنطة.
وجاء الأتوبيس رقم 613 مرة أخرى، وكادت تتحرك لتركب لكنها بقيت في مكانها تنظر إليه بعينين ثابتتين. كل يوم تمر بهذه اللحظة دون أن تنتصر عليها، لو أنها استطاعت اليوم فسوف تستطيع كل يوم، إنها مرة واحدة تنتصر فيها، مرة واحدة تقطع فيها تلك العادة القبيحة.
وتلكأ الأتوبيس، لكنها ثبتت قدميها في الأرض ورفعت رأسها إلى السماء سيمضي الأتوبيس بعد لحظة دون أن يحملها معه وينتهي كل شيء، والسماء ستظل كما هي عالية وزرقاء وصامتة، ولن يحدث شيء. نعم؛ لن يحدث أي شيء.
تنفست بعمق وهي تقول بصوت مسموع: لن يحدث أي شيء، ووضعت يديها في جيبي المعطف وسارت تدندن بلحن قديم، وتنظر إلى ما حولها في دهشة وفرحة، كسجين خرج لأول مرة إلى الشارع بعد سنين طويلة قضاها في السجن، ورأت بائع الجرائد فاشترت جريدة ومرت بعينها على عناوين الصفحة الأولى ثم مصمصت شفتيها، كانت هي العناوين العريضة الطويلة التي تراها كل يوم، والوجوه هي الوجوه، والأسماء هي الأسماء، ونظرت إلى التاريخ في أعلى الصفحة وقد خيل إليها أنها تمسك جريدة أمس أو الأسبوع الماضي أو السنة الماضية، وقلبت الصفحات وهي تبحث بعينيها عن موضوع جديد، أو وجه جديد، ووصلت إلى الصفحة الأخيرة دون أن يلفت نظرها شيء، فطوت الجريدة ووضعتها تحت إبطها، لكنها تذكرت أنها رأت عينين جاحظتين في صورة من الصور، وخيل إليها أنهما تشبهان عيني الساعاتي، وفتحت الجريدة مرة أخرى، ولدهشتها الشديدة وقعت عيناها على صورة الساعاتي نفسه وقرأت اسمه تحت الصورة: محمد الساعاتي رئيس الهيئة العليا للإنشاءات والمباني، وتحرك أصبعها بغير وعي وتحسست العينين، خيل إليها أنهما بارزتان من الورق، لكن الورقة كانت ناعمة ملساء بغير بروز.
وقرأت السطور تحت الصورة؛ كانت تصف اجتماعا عقده الساعاتي لعمال الهيئة في كلام كثير تبين لها أنها قرأته من قبل عدة مرات، وأنها قرأت اسم الساعاتي عدة مرات، ورأت صورته عدة مرات، وعجبت فؤادة كيف لم تربط بين هذا كله وبين الساعاتي صاحب العمارة الذي تعرفه، لكنها لم تتصور أبدا أن يكون ذلك الساعاتي موضوعا يمكن أن يذكر في الصحف، وأعادت النظر إلى الصورة والاسم ثم طوت الصحيفة ووضعتها تحت إبطها.
كان البواب جالسا على دكته في الشمس حين وصلت إلى العمارة، وانتصب واقفا حين رآها وجرى نحوها وهو يمد يده السوداء تمسك بورقة بيضاء صغيرة وفتحت الورقة وقرأت: سأمر في السادسة مساء اليوم لأمر هام، الساعاتي. ودخلت المصعد بينما كانت أصابعها تعبث بالورقة وتمزقها بغير وعي إلى قطع صغيرة جدا، وتلقي بها من خلال جدار المصعد الحديدي.
سيمر في السادسة مساء، ولأمر هام ... ماذا يمكن أن يكون الأمر الهام؟ ماذا يمكن أن يكون هاما في نظرها ؟ موضوع البحث؟ مكان فريد؟ سقوط مبنى الوزارة؟ هذه هي حياتها، لا شيء هاما خارجها، ولكن الساعاتي، لا يعرف شيئا عن البحث أو فريد أو الوزارة، فما الذي يمكن أن يكون هاما في زيارته؟
ودخلت المعمل، وارتدت الفوطة البيضاء، ورصت زجاجات الأملاح والأحماض فوق المنضدة، وأشعلت الموقد، وضغطت على الماسك المعدني لتمسك أنبوبة الاختبار، لكنها لم تمسكها، وتركتها في الحامل الخشبي، منتصبة، تفتح فوهتها الفارغة للهواء.
وظلت تحملق في الأنبوبة الفارغة لحظات، ثم جلست وأمسكت رأسها بيديها، من أين تبدأ، إنها لا تعرف! لا تعرف، الكيمياء تبخرت من عقلها، الأفكار الكثيرة كانت تتزاحم في رأسها وهي تقرأ، أو وهي تجري التجارب في معمل الكلية، أو وهي سائرة في الشارع أو نائمة، كل تلك الأفكار أين راحت؛ كانت في رأسها! نعم كانت موجودة، وكانت تحس حركتها وتسمع أصواتها، وحوار طويل كان يدور بينهما، وينتهي بنتائج تندهش لها.
كثيرا ما وصلت إلى فكرة جديدة، كادت تجن لها فرحا. نعم؛ كادت تجن، وتتلفت حولها في دهشة، وترى الناس تسير وكأنها كائنات من غير نوعها، وهي! هي شيء آخر! في رأسها شيء ليس في رأس أحد، شيء سيبهر العلماء، شيء يمكن أن يغير العالم. وتكاد تدهمها عربة أو أتوبيس فتصعد إلى الرصيف في خوف، وتمشي بجوار الحائط في حذر. حياتها يمكن أن تضيع تحت أي عجلات وتضيع معها الفكرة الجديدة إلى الأبد. وتسرع الخطى، إنها تريد أن تبلغ الفكرة إلى العالم قبل أن يحدث لها شيء، وتكاد تجري؛ بل إنها تجري فعلا، وتلهث ثم تتوقف وتتلفت حولها. إلى أين، إلى أين هي تجري؟ وتكتشف فجأة أنها لا تعرف! لا تعرف!
وأطفأت الموقد، وخلعت الفوطة البيضاء، وخرجت إلى الشارع، حركة الذراعين والساقين تريحها، تخفف من الضغط داخل رأسها، تنفس عن تلك الطاقة الحبيسة في أعماقها، ولمحت تليفونا داخل محل، فتوقفت فجأة، لماذا لا توضع التليفونات في أماكن خفية؟ لماذا يعرضونها هكذا أمام عيون الناس؟ لو لم تر هذا التليفون لما تذكرت. ومدت يدها ورفعت السماعة، ووضعت أصبعها في الثقب وأدارت القرص الخمس الدورات. ودوى الجرس في أذنها حادا عاليا لا ينقطع، ووضعت السماعة بهدوء وسارت بضع خطوات ثم وقفت فجأة وهي تقول لنفسها: أهو فريد؟ أغياب فريد هو السبب؟ لماذا أصبح كل شيء متغيرا؟ لماذا أصبح كل شيء غير محتمل؟ كان فريد موجودا وكانت حياتها هي حياتها، ولكن فريد كان يجعل كل شيء محتملا. كانت تنظر في عينيه البنيتين اللامعتين فتحس أن كل شيء في الدنيا لم تعد له قيمة؛ الوزارة تصبح مبنى صغيرا مهجورا، والبحث يصبح وهما صغيرا من أوهام الفراغ، والاكتشاف؛ نعم الاكتشاف أيضا يصبح حلما باهتا من أحلام الطفولة.
كان فريد يمتص آلامها وأحلامها وتصبح معه بغير آلام وبغير أحلام، تصبح معه فؤادة أخرى غير التي ولدتها أمها، فؤادة بغير ماض أو مستقبل، فؤادة التي تعيش لحظتها ويصبح هو كل لحظتها.
كيف أصبح كل لحظتها؟ كيف أصبح رجل كل حياتها؟ كيف ابتلع شخص كل اهتمامها؟ إنها لم تعرف كيف حدث هذا، فهي ليست امرأة من ذلك النوع؛ الذي يهب حياته لأحد. إن حياتها أكبر من أن توهب لرجل واحد وحياتها فوق ذلك ليست ملكا لها، إنها ملك العالم الذي تريد أن تغيره.
وتلفتت حولها في قلق، حياتها ملك العالم الذي تريد أن تغيره، ورأت الناس تسير بسرعة، والعربات تنطلق مسرعة، وكل شيء في العالم يجري بغير توقف، هي فقط التي تقف. وقوفها لا يعني شيئا لتلك الحركة المسرعة المتدفقة. وماذا يعني وقوفها؟ ماذا تفعل قطرة في بحر؟ أهي قطرة في بحر؟ أهي قطرة؟ نعم؛ هي قطرة، وها هو البحر من حولها تتلاطم أمواجه وتتصارع وتتسابق، أيمكن للقطرة أن تغلب الموج؟ أيمكن لقطرة أن تغير البحر؟ لماذا عاشت هذا الوهم؟
وابتلعت لعابا مرا، وانكمشت داخل معطفها، وسارت ساهمة مطرقة حتى وصلت إلى بيتها، فدخلت وألقت نفسها فوق السرير بملابسها. •••
فتحت عينيها ونظرت في الساعة، كانت السابعة، فردت ساقيها تحت الغطاء فشعرت بآلام في مفاصلها، أغمضت عينيها لتنام مرة أخرى لكنها لم تنم، كانت قد نامت أربع ساعات متصلة، ولم يسبق لها أن نامت أربع ساعات متصلة في النهار. وتذكرت فجأة أنها لم تكن متصلة، لقد صحت مرة وكانت الساعة الخامسة، ولم تكن نسيت أن موعد الساعاتي في السادسة، لكنها أغمضت عينيها وهي تقول لنفسها: لا زال أمامي ساعة كاملة، وصحت مرة أخرى في السادسة إلا ربعا، وحركت ذراعها لتكشف عنها الغطاء وتنهض لكنها شدت الغطاء فوق رأسها وهمست لنفسها؛ ماذا يحدث لو تأخرت قليلا، ولم تفتح عينيها بعد ذلك إلا في الساعة السابعة.
بقيت تحت الغطاء تتمطى وتتخيل منظر الساعاتي بجثته الضخمة وساقيه الرفيعتين وهو واقف أمام باب المعمل، ضاغط على الجرس، ولا أحد يرد. كانت تحس بسرور خفي؛ فقد خلصها النوم من الساعاتي إلى الأبد.
وملأها هذا الإحساس بالنشاط فاختفت آلام المفاصل ونهضت وارتدت ملابسها وخرجت، وبينما هي تهبط السلم، رأت أمها تفتح شراعة الباب، وبدأ وجهها الشاحب بخطوط تجاعيده الرأسية والأفقية والمائلة، من خلف القضبان الحديدية الرفيعة، كصفحة كتاب شطبت وشطبت عشرات المرات، وسمعت صوتها الواهن يقول: ذاهبة إلى المعمل؟ وقالت: نعم، وسألت: هل ستتأخرين؟ وردت في شرود: لا أعلم. ورغبت في أن تسألها شيئا، لكنها نظرت إليها في صمت ثم هبطت السلم وخرجت إلى الشارع.
كان الهواء باردا ثقيلا، وظلام الليل الكثيف يزيد من ثقل الهواء وكثافته. وسارت في الشارع بخطوات بطيئة حذرة. كأنما ستصطدم بشيء، وكأنما الظلام تكثف في بعض أجزائه فأصبح أجساما صلبة يمكن أن تصطدم بها، وأسرعت الخطى لتخرج من شارعهم المظلم، وسارت بحذاء المشتل، وامتلأ أنفها برائحة الياسمين فانقبض قلبها، لماذا تبقى رائحته في أنفها؟ لماذا يبقى ملمس شفتيه في عنقها؟ لماذا يبقى طعم قبلته في فمها؟ لماذا تبقى هذه الأشياء معها، في حين أنه اختفى، اختفى بلحمه ودمه ورائحته وشفتيه، اختفى بكل شيء فيه، فلماذا يبقى أي شيء منه؟
ولكن، هل بقي شيء منه؟ ألا تكون تلك الرائحة هي رائحتها، وذاك الملمس هو جلدها؟ وذلك الطعم هو لعابها؟ لماذا تبدو أشياؤهما مختلطة وممتزجة إلى هذا الحد ؟ أيمكن أن يكون هو جزءا منها؟ أو تكون هي جزءا منه؟ وتحسست رأسها وأطرافها، أي جزء يمكن أن يكون؟ وتحسست كتفيها وصدرها وبطنها، لكنها تنبهت فجأة أنها تسير في الشارع الواسع المضيء، ونظرات كثيرة تصوب نحوها، فأسرعت الخطى إلى محطة الأتوبيس.
ركبت الأتوبيس إلى ميدان التحرير، وسارت في اتجاه شارع قصر النيل، ورأت العمارة من بعيد فشعرت بالكتلة الصلبة تتحرك في قلبها؛ المعمل أيضا أصبح شيئا مقبضا. تلك الأنبوبة الفارغة التي تفتح فوهتها للهواء وجدرانها الزجاجية الشفافة تكشف قاعها الخاوي، منتصبة هناك في حاملها الخشبي، تؤكد وجودها بغير محتوى.
وفتحت باب المعمل ودخلت ولمحت فوق الأرض ورقة صغيرة فالتقطتها وقرأت الكلمات الصغيرة المنمقة: مررت في السادسة ولم أجدك، سأمر في التاسعة، الساعاتي. ونظرت في الساعة، كانت الثامنة والنصف، واستدارت بسرعة إلى الباب، لكنها سمعت الجرس فارتعدت ووقفت لحظة خلف الباب دون أن تفتح ودق الجرس مرة أخرى فقالت من وراء الباب: من؟ وجاءها صوت البواب فابتلعت ريقها وفتحت الباب، كان مع البواب رجل وامرأة، وسمعت البواب يقول: كانا يسألان عن معمل للتحاليل فأتيت بهما.
قادتهما إلى حجرة الانتظار حيث جلسا، وارتدت الفوطة البيضاء في غرفة الأبحاث ثم ذهبت إليهما. وقال الرجل بصوت خشن: جئنا لتعرفي بالتحاليل ما سبب عقم زوجتي. وأشار إلى المرأة التي كانت جالسة مطرقة في صمت، ووجهت فؤادة كلامها إلى المرأة قائلة: هل عرضت نفسك على طبيب؟ وحملقت فيها المرأة صامتة ورد الرجل قائلا: عرضتها على أطباء كثيرين، وعملت تحاليل وأشعات دون أن نعرف السبب، وسألته فؤادة: وهل فحصت نفسك أنت أيضا؟ ونظر إليها الرجل في دهشة وغضب، وقال: أنا؟ وقالت في هدوء: نعم أنت، الرجل أحيانا يكون السبب. ونهض الرجل واقفا وشد المرأة من ذراعها وقال في غضب: ما هذا الكلام الفارغ! إنها لن تحلل هنا!
وكان يمكن أن يأخذ زوجته ويخرج، لكن المرأة لم تتحرك من مكانها. ظلت واقفة جامدة تحملق في زوجها بعينين واسعتين لا ترمشان؛ كأنما ماتت وتجمدت في هذا الوضع. وشعرت فؤادة بشيء من الخوف فاقتربت من المرأة وربتت على كتفها قائلة: اذهبي مع زوجك يا سيدتي. وكأنما كانت في تلك اللمسة شحنة كهرباء فانتفضت المرأة وأمسكت بذراع فؤادة بكل قوتها وصاحت بصوت غريب: لن أذهب معه! أنقذيني! إنه يضربني كل يوم ويأخذني إلى أطباء يضعون أسياخا من الحديد في جسمي، فحصوا كل شيء وحللوا كل شيء، وقالوا إنني لست عقيما. إنه هو المريض! هو العقيم! تزوجني منذ عشر سنوات ولا زلت عذراء، إنه ليس رجلا! إنه لا يعرف في الظلام مؤخرتي من رأسي! وانقض عليها الرجل كالوحش، وراح يضربها بيديه وقدميه ورأسه، فأخذت المرأة تضربه بكل قوتها، وابتعدت عنهما فؤادة في ذعر وهي تتمتم لنفسها: مجنون! سيقتل المرأة في معملي! ماذا أفعل؟ واتجهت إلى الباب مسرعة، وخرجت إلى الممر لتنادي أحدا، ورأت باب المصعد يفتح فجأة، ويخرج منه الساعاتي.
وقالت في اضطراب: الرجل يضرب المرأة، ودوت صرخة عالية في تلك اللحظة فأسرع الساعاتي إلى المعمل، كانت المرأة راقدة فوق الأرض والرجل يضربها في بطنها بحذائه، وأمسكه الساعاتي بيد واحدة، وصفعه باليد الأخرى عدة صفعات على وجهه وألقى به هو والمرأة خارج الشقة وأغلق الباب.
وقفت فؤادة جامدة في وسط الصالة، تسمع صوتهما العالي وهما يتناحران على السلم، وسارت لتفتح الباب وترى ماذا يفعل الرجل بالمرأة، لكن صوتهما انقطع وأصبح الممر هادئا. وذهبت إلى النافذة لتطل عليهما وهما يخرجان من العمارة وكانت تظن أن المرأة لن تخرج منتصبة على قدميها، لكنها دهشت حين رأت الرجل يخرج ومن ورائه المرأة، كانت تسير مطرقة هادئة، الهدوء نفسه الذي كانت عليه قبل الحادثة. وظلت فؤادة تحملق فيها حتى اختفت عن عينيها، فتركت النافذة وجلست على أحد الكراسي شاردة.
كان الساعاتي يتأملها طول الوقت ولما رآها تجلس جلس هو الآخر على كرسي غير بعيد عنها، وقال وهو يبتسم: يبدو أنك تتألمين من أجل المرأة. وتنهدت وقالت: إنها يائسة. وتذبذبت العينان الجاحظتان وهو يقول: ما أكثر البؤساء الذين سترينهم هنا في معملك. ولكنك لن تستطيعي أن تفعلي لهم شيئا. ورفع أصبعه إلى فوق قائلا: لهم رب! وردت قائلة بشيء من الضيق، أوجد الرب ليمسح الناس فيه أخطاءهم؟
لم تعرف كيف قالت هذه الجملة، فهي ليست جملتها؛ إنها جملة فريد، كانت تسمعها منه كثيرا. وذكرتها الجملة بفريد فغاص قلبها في أعماقها ككتلة صلبة مصمتة. وأطرقت صامتة واجمة، وسمعت الساعاتي يقول: يبدو أنك تأثرت من منظر المرأة. ولم ترد وظلت مطرقة. ونهض وسار بضع خطوات مقتربا منها ثم قال: قلبك طيب مع كل الناس ... وسكت لحظة ثم أكمل بصوت مضطرب: إلا أنا.
ورفعت إليه عينيها في دهشة، فابتسم في حرج وقال: لماذا أخلفت موعدك معي؟ كنت مشغولة؟ أم أن هذه هي طبيعة كل النساء؟ وارتطمت «كل النساء» بأذنها فشعرت بغضب، وقالت بسرعة: أنا لست ككل النساء! فقال كمن يعتذر: أعرف أنك لست ككل النساء، أعرف هذا جيدا، وربما أعرفه أكثر من اللازم.
وفتحت فمها لتسأله وكيف عرفت ولكنها أطبقت شفتيها في صمت، ومرت فترة صمت طويلة ثم وجدت نفسها تقول: ما هو الأمر الهام؟ وقال وهو يجلس: قابلت صدفة بالأمس وكيل وزارة الكيمياء في حفل عشاء، إنه صديقي منذ سنين طويلة وتذكرت أنك تعملين في وزارة الكيمياء، فسألته عنك. وقالت: إنه لا يعرفني. وقال باسما: إنه يعرفك جيدا، لقد وصفك لي وصفا دقيقا. وقالت في دهشة: شيء غريب. وقال: الغريب أنه لا يعرفك، وقالت: لماذا؟ وقال: إنه رجل يتذوق الجمال.
ونظرت في عينيه البارزتين في غضب وقالت: أهذا هو الموضوع الهام؟ وقال: لا؛ ولكني حين سألته عنك قال لي إنك موظفة ممتازة وتقاريرك ممتازة جدا. وابتسمت في سخرية. وقال: وخطرت لي فكرة وهو يتكلم عنك بهذا الحماس، أنا في الهيئة في أشد الحاجة إلى باحثة كيميائية. وقالت: ماذا تعني؟ قال: أعني أن أنقلك عندي في الهيئة. وقالت: عندك! وأكمل كلامه قائلا: لن يكون العمل كثيرا كما هو في الوزارة، لن تفعلي شيئا على الإطلاق؛ فالهيئة ليس بها معمل كيمياوي. ونظرت إليه بدهشة وقالت: ولماذا أذهب إذن؟ وابتسم، فقفزت شفته العليا كاشفة عن أسنانه الصفراء وقال: ستكونين في مكتبي.
ونهضت واقفة؛ كان رأسها قد سخن، ونظرت في عينيه المهزوزتين نظرة ثابتة، وقالت: أنا لست من هذا النوع يا أستاذ ساعاتي! إنني أريد أن أعمل! أريد أن أقوم بأبحاث كيمياوية! إنني أدفع عمري من أجل أن أعمل بحثا. وسكتت لحظة وابتلعت ريقها، وقالت: إنني أكره الوزارة! أمقتها! لأنني لا أعمل فيها شيئا، لا أدري كيف تكون تقاريري ممتازة وأنا لم أعمل شيئا منذ ست سنوات؟ لن أذهب إلى الهيئة، ولن أذهب إلى الوزارة، سأقدم استقالتي وأتفرغ لمعملي.
وطفت فوق عينيه سحابة خفيفة وأطرق إلى الأرض، وسادت فترة صمت طويلة. كانت فؤادة قد نهضت وسارت إلى النافذة ثم عادت فجلست على طرف الكرسي وكأنما ستنهض ثانيا. واختلس نظرة طويلة إليها من تحت نظارته السميكة، كانت هناك عضلة صغيرة ترتجف تحت عينها اليمنى. وقال بصوت منخفض: أنا لا أفهمك في هذه اللحظات التي تثورين فيها، عيناك تمتلئان بحزن دفين؛ إنك تنطوين في أعماقك على ألم لا أعرف سببه الحقيقي، وأنت صغيرة السن على أن تحملي بين جنبيك كل هذه المرارة، ولكن يبدو أنك مررت بتجربة قاسية في حياتك. والحياة يا فؤادة لا تحتمل كل هذا الجد. لماذا لا تأخذين الحياة كما هي؟
واقترب منها وهي جالسة وأحست يده الطرية السمينة فوق كتفها فانتفضت واقفة، وسارت إلى النافذة، وسار وراءها وهو يقول: لماذا تضيعين شبابك في هذه الأوهام؟ انظري؛ وأشار لها إلى الشارع. انظري؛ كيف يستمتع الشباب مثلك بحياته ... وأنت؛ أنت هنا في المعمل غارقة في عمل تحليلات وأبحاث، عن أي شيء تبحثين؟ هل هناك شيء تريدينه ليس موجودا في كل هذه الدنيا؟!
ومدت بصرها إلى الشارع. كانت الأنوار والناس والعربات تموج بحركة حية مرحة، لكنها حركة بعيدة عنها، حركة منفصلة عنها، كحركة الصور المتحركة على شاشة السينما، تحكي حياة أخرى غير حياتها، وقصة أخرى غير قصتها، وشخصيات أخرى غير شخصيتها، وهي وحدها، وحدها داخل تلك الدائرة الضيقة التي تلتف حولها، والتي تضيق كثيرا لتصبح حدود جسمها.
وسمعت صوت الساعاتي يقول وكأنه يأتي من بعيد: يبدو أنك متعبة. اخلعي هذه الفوطة البيضاء وتعالي نخرج لنشم الهواء. ونظر في ساعته ثم قال: عندي اجتماع الليلة في المجلس السياسي ولكني لن أذهب؛ هذه الاجتماعات السياسية مملة جدا؛ لا أدري كيف أتكلم فيها كل هذا الكلام، وفي كل مرة أقول الكلام نفسه.
وتذكرت فجأة الموضوع الصحفي الذي قرأته مرارا، وصورته التي نشرت كثيرا، وقالت: يبدو أن لك نشاطا سياسيا واسعا. وقال: لماذا؟ قالت: يخيل إلي أنني قرأت كثيرا عن هذا النشاط. وضحك ضحكة قصيرة اهتزت لها نظارته السميكة وقال: أتقصدين ما يكتب في الصحف؟ يخيل إلي أن الناس لم تعد تصدق شيئا مما يكتب، إنهم يقرءون الصحف بحكم العادة وليس لسبب آخر. هل تقرئين الصحف كل يوم؟
قالت: أقرؤها ولا أقرؤها، وابتسم وظهرت أسنانه ككل مرة، وقال: وماذا تقرئين فعلا؟ قالت وهي تتنهد: الكيمياء. وقال: تتكلمين عن الكيمياء وكأنك تتكلمين عن رجل تحبينه. هل أحببت رجلا مرة؟
وكأنما سكب فوق رأسها ماء باردا فأفاقت لتجد نفسها واقفة في النافذة وإلى جوارها الساعاتي. واستدارت بسرعة فوجدت المعمل خاليا صامتا، ونظرت في الساعة: كانت الحادية عشرة، كيف حدث هذا؟ ألم تحاول الهروب من المعمل قبل أن يأتي؟ وتذكرت حادثة الرجل والمرأة. ولكن ألم يكن في استطاعتها أن تنزل من المعمل مباشرة؟ واختلست نظرة إلى الساعاتي، كان متكئا على النافذة بنصفه الأعلى الكروي الضخم يتدلى من تحته ساقاه الرفيعتان كساقي النعامة. وكانت عيناه تتذبذبان من تحت الزجاج السميك وفيهما تلك النظرة الضفدعية الجاحظة، وخيل إليها أنها أمام نوع غريب من الزواحف البرية غير المستأنسة، وتلفتت حولها في شيء من الخوف، وقالت وهي تخلع الفوطة البيضاء وتتجه إلى الباب: يجب أن أعود إلى البيت فورا.
ونظر إليها في دهشة ثم قال: كنا نتكلم في هدوء فما الذي حدث؟ هل ضايقك سؤالي؟ وقالت: لا لا، لم يضايقني شيء، ولكن أمي وحدها في البيت ولا بد أن أعود فورا. وقال وهو يسير معها إلى الباب: يمكنني أن أوصلك بعربتي. وفتحت الباب وهي تقول: أشكرك. سآخذ الأتوبيس. وقال: الأتوبيس! في هذا الوقت المتأخر؟! لا يمكن! وهبطا إلى الدور الأرضي وسبقها إلى عربة زرقاء طويلة وفتح لها الباب، ورأت البواب ينتصب واقفا في احترام. ووقفت لحظة مترددة، كانت تريد أن تهرب لكنها لم تعرف، كان الباب مفتوحا، والرجلان واقفان ينتظران دخولها، فدخلت وأغلق الساعاتي الباب، ثم أسرع إلى الناحية الأخرى من العربة وفتح بابها وجلس وأدار المحرك.
كان الشارع خاليا إلا من عدد قليل من الناس والعربات، وكان الهواء باردا ورطبا، ورأت رجلا يقف أمام كشك سجائر، وارتعدت فجأة وكادت تصيح: فريد! لكن الرجل استدار ورأت وجهه. لم يكن فريد، وانكمشت داخل المعطف ترتجف ببرودة مفاجئة، ونظر إليها الساعاتي وقال: هل رأيت أحدا تعرفينه؟ قالت بصوت خافت: لا، وسألها: أين تسكنين؟ قالت: في الدقي. ووصفت له الشارع والبيت.
اجتازت العربة كوبري قصر النيل، ورأت برج القاهرة واقفا منتصبا في الظلام كشبح ضخم، وعيناه الحمراوان المتوهجتان تدوران حول رأسه دورانا مستمرا. وشعرت بدوار وهي تحملق في الكرات المتوهجة الدائرة حول نفسها، وبدا لها البرج برجين اثنين وله رأسان يدوران، ودعكت عينيها بيديها فاختفى البرج الثاني وبقي برج واحد له رأس واحد يدور، ثم ظهر البرج الثاني، ودعكت عينها ليختفي البرج الثاني لكنه لم يختف، ونظرت إلى الساعاتي بطرف عينها ورأت له رأسين وأربع عيون جاحظة وارتعدت وأخفت وجهها بيديها.
وسمعت صوته يقول: أنت متعبة ... وقالت وهي ترفع رأسها: أشعر بصداع، ونظرت من خلال النافذة. كان الظلام كثيفا فلم تر إلا كتلا من السواد، وتذكرت فجأة قصة قرأتها عن رجل شاذ كان يتصيد النساء ويذهب بهن إلى مكان مظلم بعيد ويذبحهن، واختلست نظرة حذرة إلى الساعاتي، كان جالسا وعيناه الجاحظتان تنظران إلى الأمام، ورقبته المكتنزة باللحم تستند إلى الكرسي، وركبتاه الرفيعتان مدببتان. والتفت ناحيتها، فنظرت من النافذة. كانت البيوت مغلقة بالشيش ومظلمة، لا نور يظهر في نافذة ولا أحد يسير في الشارع.
لماذا ركبت معه العربة؟ من هو؟ إنها لا تعرفه، لا تعرف عنه شيئا، أهي صاحية أم أنها تحلم حلما مزعجا؟ وضغطت بظفرها على فخذها لتتأكد من وجودها.
وخيل إليها أن العربة تقف، وارتعدت وهي تلتصق بالباب، وسمعت صوت الساعاتي يقول: أهذا هو البيت؟ ونظرت من النافذة، ورأت بيتها فهتفت بدهشة: إنه هو! وفتحت الباب وخرجت مسرعة، وخرج هو أيضا، وسار معها إلى الباب. كان السلم غارقا في ظلام دامس، وقال لها: أنت متعبة والسلم مظلم، هل أصعد معك حتى باب الشقة؟ قالت بسرعة: لا لا أشكرك. سأصعد وحدي، ومد يده الطرية وهو يقول: هل أراك غدا؟ وقالت في اضطراب: لا أدري، لا أعلم، ربما لا أخرج غدا، وبرقت عيناه البارزتان في الظلام، وقال: أنت متعبة، سأسأل عنك بالتليفون، وابتسم؛ لا ترهقي نفسك في الأبحاث الكيميائية!
وصعدت السلم بقدمين مرتجفتين، وخيل إليها أنه سيصعد وراءها. كثير من الجرائم تقع على سلم مظلم، ووصلت إلى باب الشقة وهي تلهث، وأخرجت المفتاح وارتجفت أصابعها وهي تبحث عن الثقب، وفتحت الباب ودخلت وأغلقت الباب خلفها بسرعة، وسمعت صوت أنفاس أمها العالية المنتظمة فشعرت ببعض الهدوء، لكنها كانت لا تزال تنتفض من البرد، وارتدت ملابس صوفية ثقيلة ودست نفسها في الفراش وأسنانها تصطك وأغمضت عينيها وغابت عن الوعي. •••
فتحت عينيها في الصباح على صوت أمها، كانت تقول لها شيئا لم تسمعه، ورأت عيني أمها الواسعتين الصفراوين تنظران إليها في قلق، وحاولت أن ترفع رأسها من فوق الوسادة فلم تستطع؛ كان رأسها ثقيلا ترتج داخله كتلة صلبة وترتطم بعظام رأسها محدثة صوتا؛ كأنما تجمد مخها وأصبح مادة معدنية، ودارت عيناها في الغرفة، ورأت الدولاب والنافذة والشماعة والتليفون فوق الرف، وفتحت فمها لتقول شيئا لكنها أحست بألم حاد في حلقها، ورأت وجه أمها المجعد يقترب منها وسمعتها تقول: هل تريدين التليفون؟ وهزت رأسها وخرج صوتها مبحوحا: لا لا. خذيه إلى الصالة؛ لا أريده هنا! وحملت أمها التليفون فوق صدرها وكأنها تحمل قطا أسود ميتا، وسمعت صوت قدميها تزحفان إلى الصالة ثم تعودان إلى حجرتها.
وأخفت رأسها تحت الغطاء، وسمعت صوت أمها يقول: سمعتك تسعلين بالليل، هل أخذت بردا؟ وردت من تحت الغطاء: يبدو ذلك يا ماما، وحركت لسانها الجاف في فمها، فأحست بمرارة تهبط إلى جوفها. ورغبت في البصق وأخرجت المنديل من تحت الوسادة وبصقت، ومسحت أنفها الذي كان يرشح، وأحست بشيء صلب كالحصوة يحتك بحلقها، وراحت تعطس وتسعل لكن الحصوة لم تطرد، كانت تزحف ببطء مع الهواء داخل صدرها.
وسمعت أمها تقول شيئا فقالت: نعم دون أن تعرف ماذا كانت تقول، وسمعت القدمين تزحفان خارج الغرفة وصنعت لأنفها فتحة صغيرة بين السرير والغطاء ليدخل منها الهواء، لكن الضوء دخل أيضا ورأت يدها تحت رأسها. وحول معصمها كانت تلتف الساعة، والتقطت عيناها الرقم الذي يشير إلى العقرب الصغير وتذكرت الوزارة، وسدت فتحة الضوء فعاد الليل مرة أخرى.
نعم، ليعد الليل ويبق، وليختف الضوء من حولها ولا يكن هناك نهار أبدا، فما فائدة النهار؟ تلك الحركة الدائرية من البيت إلى الوزارة ومن الوزارة إلى المعمل ومن المعمل إلى البيت. ما جدوى هذه الحركة؟ ما جدوى الدوران في تلك الحلقة المفرغة؟ تحريك عضلات الذراعين والساقين؟ تنشيط الهضم ودورة الدم؟ وتذكرت صوت الساعاتي: عن أي شيء تبحثين، هل هناك شيء تريدينه ليس موجودا في كل هذه الدنيا؟ إنها لا تريد شيئا من كل هذه الدنيا، لا تريد أن تأخذ شيئا منها، لا تريد مالا، وماذا تفعل بالمال؟ ماذا تفعل المرأة بالمال في هذه الدنيا؟ تشتري فساتين غالية كثيرة؟ ولكن ما فائدة الفساتين الغالية؟ إنها لا تذكر شكل فساتينها، لا تذكر أن «فريد» نظر إلى فستانها مرة واحدة، لم تحس يوما أن فستانها له قيمة ما سوى أنه يغطي أجزاء من جسمها.
وماذا غير الفساتين؟ ماذا تفعل امرأة بالمال في هذه الدنيا غير شراء الفساتين؟ تشتري أدوات الزينة وعلب البودرة؟ ذلك المسحوق الأبيض الذي تدهن به المرأة وجهها وتخفي تلك الشعيرات الدموية التي تجري في البشرة الحية؟ وماذا يبقى للبشرة الحية بعد أن يختفي منها لون الدم؟ ذلك الجلد المعتم الميت؟ ذلك اللون الجيري الأبيض كلون حذاء الكاوتش.
وماذا غير شراء المساحيق والفساتين؟ ماذا تريد امرأة من هذه الدنيا؟ الذهاب إلى السينما؟ زيارة الصديقات؟ النميمة والغيرة والسعي من أجل الزواج؟
ولكنها لا تريد شيئا من هذا، إنها لا تشتري مساحيق، ولا تذهب إلى السينما، وليس لها صديقات ولا تسعى وراء زواج فما الذي تريده؟
وضغطت برأسها فوق الوسادة وجزت على أسنانها في غيظ: ماذا أريد؟ ماذا أريد؟ لماذا لا أريد تلك الأشياء التي تريدها النساء، ألست امرأة مثلهن؟!
ورفعت الغطاء قليلا عن وجهها ليدخل الهواء، ورأت أصابعها الرفيعة وأظافرها، أصابع وأظافر امرأة، وتحسست بشرتها وجسمها؛ بشرة امرأة وجسم امرأة. إنها امرأة فعلا. فلماذا لا تريد ما يريده النساء؟ لماذا؟
نعم، لماذا؟ لماذا؟ إنها لا تعرف. أتكون الكيمياء هي السبب؟ ولكن أهي الوحيدة التي درست الكيمياء؟ أتكون مدام كوري هي السبب؟ ولكن أهي الوحيدة التي سمعت عن مدام كوري؟ أتكون مدرسة الكيمياء؟ ولكن أين هي مدرسة الكمياء؟ إنها لا تعرف عنها شيئا. إنها لم تسمع عنها شيئا منذ تركت المدرسة، أتعلق حياتها على كلمة قالتها امرأة مغمورة؟ أتكون أمها؟ ولكن أتعرف أمها شيئا عن العالم الواسع خارج جدران البيت؟ أيكون فريد؟ ولكن أين هو فريد؟ من هو؟ إنها لا تعرف أحدا يعرفه، ولا تعرف أين هو، ولا تعرف أكان موجودا حقا في يوم من الأيام، ربما كان وهما، ربما كان حلما، إنه غائب، وما دام غائبا فكيف إذن تفرق بين الحلم والحقيقة؟ لو ترك ورقة صغيرة بخط يده لاستطاعت أن تعرف. نعم، ورقة صغيرة تستطيع، أما هي برأسها وذراعيها وساقيها فلا تستطيع شيئا، لا يستطيع جسمها شيئا، ولا رأسها أيضا. كل شيء يتحول داخل رأسها إلى طنين أخرس، كل شيء ينسحق داخلها إلى صفير حاد مستمر كذلك الصفير الذي يدوي حين تصمت كل الأشياء.
نعم؛ إنه الصمت المطبق في أعماق ذلك الجسد الممدود في عجز تحت الغطاء. الصمت ولا شيء غير الصمت، إنه عاجز عن أن يقول شيئا، تلك الكلمات التي تخرج من بين شفتيه ليست كلماته، إنها أصداء متناثرة لكلمات سمعها من قبل، كلمات قالها فريد، أو أمها، أو مدرسة الكيمياء، أو كلمات قرأها في الكتب. نعم؛ إنه يردد ما سمع وما قرأ، إنه قادر على الترديد فحسب كأي جدار من الحجر.
وحركت جسمها تحت الغطاء؛ كان ثقيلا كأنه قد تحجر، وأحست بسخونة شديدة وعرق غزير يبلل جسمها، وسائل دافئ لزج ينساب من أنفها، فأخرجت المنديل من تحت الوسادة ومسحت أنفها في تقزز. أنفها يرشح كصنبور بال وجسمها ينز بالعرق. إنها ليست جدارا جافا نظيفا. ولكنها جدار رشق في رأسه وبطنه بصنابير بالية ترشح من فوق ومن تحت، بلولة لا إرادية مقززة.
ورفست الغطاء عن جسمها، كانت تريد أن ترفس عنها ذراعيها وساقيها، كانت تريد أن ترفس عنها جسدها. لكنه ظل ملتصقا به، مشدودا إليها، جاثما فوقها بثقله الكئيب وبلولته الكريهة كشخص آخر غريب عنها.
غريب عنها! غرابة أي شخص يقابلها صدفة في طريق، غرابة بواب العمارة، غرابة الساعاتي! وارتعدت. نعم، غريب كل هذه الغرابة، يبتلع الأكل في جوفه ولا تعرف ماذا يفعل به؟ تسمع أصواتا أحيانا في معدتها كمواء القطط كأنها لا تعرف ماذا يدور هناك، أين تذهب تلك الكميات الكبيرة من الطعام؟ كالطاحونة، تدور وتدور وتسحق الأشياء الصلبة، إنه الدوران والسحق ولا شيء سواهما، لا شيء آخر.
وماذا يمكن أن يكون الشيء الآخر؟! ذلك الوهم الذي كان يتراءى من وراء الضباب؟ أنبوبة الاختبار يتراقص من فوهتها غاز جديد؟ وماذا يفعل الغاز الجديد؟ قنبلة هيدروجينية جديدة؟ صاروخ له رأس نووي جديد؟ ماذا ينقص العالم؟ وسيلة جديدة للقتل؟
ولماذا القتل؟ ألا يكون شيئا آخر له فائدة؟ شيئا يقضي على الجوع؟ على المرض؟ على الشقاء؟ على الظلم؟ على الاستغلال؟ نعم نعم؛ أيها الرأس المصمت، ردد الكلمات التي سمعتها من فريد، ردد الصدى كأي جدار، ماذا تعرف أنت عن الجوع؟ وماذا تعرف عن المرض؟ وماذا تعرف عن الشقاء؟ وماذا تعرف عن الظلم؟ وماذا تعرف عن الاستغلال؟ ماذا تعرف عن هذه الأشياء التي تحدث للناس وأنت لا تعيش مع الناس؟ تنظر إليهم من بعيد وتتأمل حركاتهم وسكناتهم وكأنهم صور متحركة فوق شاشة بيضاء. هل جعت يوما؟ هل رأيت يوما إنسانا جائعا؟ تلك الشحاذة الجالسة على رصيف الوزارة وفي حجرها الطفل الصغير، هل رأيتها مرة؟ هل نظرت في عينيها لحظة؟ ألم تكن ترى منها إلا ظهرها الذي تغرقه الشمس الدافئة وتحسدها؟
هل عرفت شيئا من هذا أيها الرأس المصمت؟ لم الإصرار إذن على هذا الوهم؟ ألا تأكل وتشرب وتبول وتنام كالآخرين، لماذا لا تكون كالآخرين؟ لماذا؟
نعم؛ لماذا؟ لماذا؟ لماذا لا تكون كالآخرين وتستقر وتهدأ وتقبل حياتك كما هي؟ لماذا لا تأخذ الحياة كما هي؟ وهذه الكلمات أيضا ليست كلماتك، ألم تسمع هذا السؤال نفسه من الساعاتي بالأمس في المعمل؟ أتختزن في جوفك كل الكلمات؟ حتى كلمات الساعاتي؟ يا لتفاهتك! ألا تقول كلمة واحدة من عندك؟
وأفاقت فؤادة على صوت أمها، ورأتها تقف إلى جوارها تمد يديها النحيلتين المعروقتين بكوب من الشاي، ونظرت إلى أصابعها الرفيعة الطويلة المجعدة، أصابعها طويلة رفيعة كأصابع أمها، وسوف تصبح مجعدة كأصابعها بارزة المفاصل كعيدان الذرة الجافة. ورفعت إليها عينيها، ورأت وجهها ذا التجاعيد الكثيرة، وشفتيها اليابستين منفرجتين. الفرجة نفسها، والأسنان نفسها، ولسوف تملأ التجاعيد نفسها ووجهها هي أيضا، ولسوف تعجز قدماها عن المشي السريع وتزحفان مثل قدميها.
ومدت ذراعا نحيلة واهبة وأخذت منها كوب الشاي، وجلست أمها على طرف السرير تنظر إليها؛ لماذا هي صامتة؟ لماذا لا تقول شيئا، لماذا لا ترفع يديها للسماء وتردد دعوتها القديمة؟ راح الحلم وضاع الوهم، إنها لم تلد فلتة من فلتات الطبيعة، من قال لها إنها ستلد فلتة؟ ولماذا هي بالذات؟ لماذا بطنها بالذات؟ ملايين البطون تلد كل يوم فمن الذي وضع في رأسها ذلك الوهم؟ ربما أمها هي التي أورثتها هذا الوهم كما ورثته فؤادة عنها؟! إنها امرأة من العائلة تصورت بطنها غير البطون، إنها واحدة التي بدأت، لا بد أن تكون هناك واحدة بدأت، لا بد أن يكون هناك دائما من يبدأ.
وسمعت صوت أمها يقول في حزن: ما لك يا فؤادة؟ لماذا لا تتكلمين؟ كان صوتها حنونا إلى حد أنها رغبت في البكاء، لكنها ابتلعت دموعها وفتحت فمها المر لتقول: عندي صداع شديد. وسألت الأم: هل آتي لك بأسبرين؟ وهزت رأسها: نعم. وخرجت الأم إلى الصالة مرة أخرى. وبينما هي في الصالة دق جرس التليفون، وقفزت فؤادة من فوق السرير وهي ترتعد؛ أيكون الساعاتي؟ ووقفت على عتبة بابها تنظر إلى التليفون. واقتربت أمها من التليفون لترد لكنها صاحت: لا ترفعي السماعة يا ماما! هناك شخص لا أريد أن أكلمه! لكنها تذكرت فجأة أنه ربما يكون «فريد» فقفزت إلى التليفون في خطوة واحدة ورفعت السماعة وهي تلهث، ألو؛ وجاءها صوت الساعاتي اللزج فسقطت على الكرسي كالجثة الهامدة.
الفصل الثالث
خرجت فؤادة من الوزارة، وسارت بحذاء السور الحديدي الصدئ، كان رأسها ثقيلا، وقلبها ترتج داخله الجلطة المتصلبة المزمنة، ورأت المرأة الجالسة على الرصيف، تحتضن طفلها في صدرها وتمد يدها الفارغة للناس، والشارع صاخب مزدحم، لا يرى الذراع الممدودة أحد، وقد يدفعها واحد بعيدا ليفسح الطريق أو يدوسها آخر وهو مسرع، وسمعت بكاء الطفل وهي تمر بجانبها، ورأت هيكلا صغيرا له عينان غائرتان وخدان بارزان وفم صغير مدبب، يحاول دون جدوى أن يمص قطعة جلد أسمر مجعد تتدلى من صدرها.
ووضعت يدها في جيبها لتخرج قرشا، لكن يدها بقيت داخل جيبها، ورفعت عينيها إلى الشارع، كانت العربات الطويلة تجري الواحدة وراء الأخرى، وفي كل عربة منها رأس لامع يعكس الضوء، ورقبة مكتنزة باللحم تشبه رقبة الساعاتي.
وأخرجت القرش وأمسكته في يدها لحظة، ماذا يفعل القرش؟ هل يكسو عظام الهيكل الصغير باللحم؟ هل يدر اللبن في تلك القطعة المتدلية من الجلد؟ وعضت بأسنانها على شفتها؛ ماذا يمكن أن تفعل؟ اكتشاف كيمائي يقضي على الجوع؟ غاز جديد يتنفسه الملايين بدل الأكل؟
وتركت القرش يقع من بين أصابعها في الكف الفارغة الممدودة، لن يفعل القرش شيئا، ولكن ليكن صدقة عابرة ترضي بها ضميرها ليكن ثمنا بخسا تدفعه وتنسى.
إنها كلمات فريد تعود، وصوته في رأسها له دبيب، وعيناها تبحثان عن عينيه البنيتين اللامعتين، عيون كثيرة من حولها فلماذا عينيه بالذات؟ حين كانت تنظر في عينيه من قرب لم تكن تشعر بذلك الاستغراب، وهي تستغرب منظر العيون عن قرب، حتى عيني أمها، بل حتى عينيها هي نفسها، حين كانت تقربهما من المرآة يختفي الشكل المألوف، كأنهما عينا حيوان غير أليف، لكن عيني فريد كان فيهما شيء غريب، شيء قريب، يقترب ويقترب ولا يبدو غريبا، وحين تتلاشى المسافة بينها وبينه ويتلامسان تحس بأمان شديد.
أيكون ذلك كله وهما؟ أتخدعها أحاسيسها إلى هذا الحد؟ وإذا كذبت أحاسيسها فأي شيء تصدق؟ كلمات من حبر على ورق، خطابا رسميا عليه ختم الوزارة، شهادة بصم عليها اثنان؟ أي شيء تصدق إذا كذبت أحاسيسها؟
وتوقفت فجأة لتسأل: ولكن ما هي الأحاسيس؟ أيمكن أن تلمسها؟ أيمكن أن تراها؟ أيمكن أن تشمها؟ أيمكن أن تضعها في أنبوبة اختبار وتحللها؟ أحاسيس ... مجرد أحاسيس ... حركة غير مرئية تحدث في رأسها، كالأوهام، كالأحلام، كالقوى الخفية، أيؤمن عقلها الكيميائي بهذه الخزعبلات؟
وتلفتت حولها كالتائهة، هل الأحاسيس خرافة أم حقيقة؟ لماذا تنظر في عيني فريد فتحس أنه قريب، وتنظر في عيني الساعاتي فتحس أنه لص؛ أهي وهم أم علم؟ أهي حركة عشواء في أعصاب العين أم حركة واعية في خلايا المخ، وكيف تفرق بينهما؟ كيف تفرق بين ذبذبة خاطئة لعصب مرهق وبين فكرة سليمة لخلية في المخ؟ وكيف تفكر خلية المخ؟ تلك الكتلة الصغيرة من البروتوبلازم كيف تفكر؟ من أين تأتيها الفكرة، وكيف تسري في نسيجها المادي، كهرباء! تفاعل كيمياوي!
ورفعت رأسها لترى ما حولها، ولمحت العمارة ومن فوقها اللافتة البيضاء تحمل حروف اسمها السوداء، وانقبض قلبها، الأنبوبة ذات الفوهة المفتوحة وقاع بغير محتوى، ولسان اللهب يحرق الهواء ويحترق، وذلك الصفير الحاد يدوي في الأذنين حين تصمت كل الأشياء.
نعم؛ إنه المعمل، لكنه لم يعد معملا، أصبح مصيدة يتصيد عجزها، يتصيد جهلها، يتصيد الصمت واللاشيء من رأسها.
ومرت أمام باب العمارة ولم تدخل، وسارت بضع خطوات ثم توقفت؛ إلى أين تذهب؟ كل مكان أصبح كالمعمل مصيدة للعجز والصمت والصفير، البيت والوزارة والتليفون والشارع، كل شيء أصبح متشابها كأنه مترابط.
وعادت لتدخل إلى العمارة ولتصعد إلى المعمل. لا مفر ولا مهرب، المصيدة تفتح فكيها وهي تدخل بينهما، وسيأتي الساعاتي بعد قليل، سيأتي حتما إلى المعمل أو إلى أي مكان، فقد عرف كل مكان؛ عرف التليفون والبيت والوزارة والمعمل، سيأتي بعربته الطويلة الزرقاء وعينيه الجاحظتين ورقبته المكتنزة باللحم، سيأتي حتما، فلماذا لا يختل توازن الأرض فيهتز حامل الأنابيب وتسقط الأنبوبة الفارغة وتنكسر؟ لماذا تدور الأرض بكل هذا الاتقان؟ لماذا لا يختل توازنها مرة واحدة فحسب؟
كانت قد دخلت المعمل، وارتدت الفوطة البيضاء، ووقفت وراء النافذة تتأمل الشارع وتراقب العربات كأنما تنتظره، كانت تنتظره فعلا، ورأت العربة الزرقاء الطويلة تقف أمام العمارة، وخرج منها الساعاتي بنصفه الأعلى الضخم وساقيه الرفيعتين.
وسارت بخطوات ثقيلة نحو الباب، ولمحت نفسها في المرآة الطويلة المجاورة للباب؛ كان وجهها قد نحل واستطال، وعيناها غاصتا في محجريها وانطفأتا، وفرجة فمها زادت اتساعا، وأسنانها برزت أكثر وأكثر فكأنها أسنان أمها.
وأطبقت شفتيها لتخبئ أسنانها، وضغطت فكها الأعلى فوق الأسفل بكل قوتها لتسحق أسنانها بينهما، أو لتسحق شيئا آخر. لا بد أن يكون هناك شيء يسحق. واصطكت أسنانها محدثة صوتا معدنيا. دق جرس الباب، وضربت الهواء بقبضتها، وقالت: لن أفتح! ووقفت جامدة كالتمثال، ودق الجرس مرة أخرى فازدادت أنفاسها سرعة وأصبح صدرها يعلو ويهبط كأنما تلهث وتلفتت حولها وتصيدت الفوهة المفتوحة عينيها كالفخ، فسارت وفتحت الباب. •••
كان يحمل في يديه السمينتين علبة صغيرة، وتقلصت شفته العليا كاشفة عن أسنانه الكبيرة الصفراء وتذبذبت عيناه الجاحظتان من تحت الزجاج السميك، وقال: هدية بسيطة. ووضع العلبة فوق المنضدة وجلس.
وظلت واقفة تنظر إلى الشريط الرفيع الأخضر الملتف حول العلبة، وسمعت صوته المبتهج يقول: افتحي العلبة. إنه يوجه إليها أمرا! إنه يكتسب لنفسه حقا في أن يأمرها! لقد دفع ثمن هذا الحق وله أن يستخدمه. ونظرت في عينيه، كانتا تتذبذبان بدرجة أقل، كأنما بدأ يثق في نفسه بعض الشيء. إنه أعطاها شيئا، وإنه دفع له ثمنا، إنه أصبح قادرا على أن يشتري منها شيئا، أي شيء، ولو ذلك الحق في أن يأمرها بأن تفتح العلبة. وظلت واقفة لا ترد.
ونهض وفتح العلبة بنفسه، وسار إليها حيث هي واقفة وقرب منها العلبة وهو يقول: ما رأيك في هذا الخاتم؟
ورأت شيئا يبرق فوق قطيفة حمراء، وقالت في شرود وهي تنظر إلى أسنانه الصفراء: أنا لا أفهم في هذه الأشياء.
وحملق فيها مندهشا وقال: إن فيه فصا من الماس الحر!
واقترب وجهه منها، ورأت عينيه الجاحظتين عن قرب يطفو فوقها غشاء معتم يخفي ذلك البريق الطبيعي للعينين.
لعله دفع ثمنا غاليا، ربما دفع مائة جنيه أو أكثر، ولكن ما قيمة هذا عندها؟
إنها لا تستخدم هذه الأشياء، لا تلبس الخواتم أو الأساور أو العقود، إنها تضيق بجلدها الذي يلتف حول جسمها فكيف تلف حول أعضائها حبلا آخر؟ إنها تحس ثقل عضلاتها وعظامها فكيف تثقل مفاصلها بسلاسل معدنية من أي نوع كانت؟
واقترب منها وهو يردد: إن فيه فصا من الماس الحر!
وابتسمت في صمت، إنه لن يفهم أبدا. ماس حر! لن تستخدمه في شيء، فما الفرق بينه وبين قطعة عاج أو زجاج؟ هل يفرق التراب بين أي شيء؟
وعادت إلى عينيه الذبذبة بدرجتها المعهودة وقال بصوت مصدوم: أي هدية يمكن أن ترضيك؟ ولم تعرف بماذا ترد. ماذا كان فريد يهديها؟ هل اشترى لها فريد هدية؟ إنها لا تذكر؛ لم يكن يشتري لها شيئا، لم يكن هناك شيء قابل للشراء، وماذا كان يمكن أن يشتري؟ كلماته؟ نبرة صوته؟ بريق عينيه؟ دفء أنفاسه وحنان شفتيه؟
ووضع يده السمينة الطرية فوق كتفها، وقال: ماذا آتي به إليك لتكوني سعيدة؟ وتقلصت عضلات كتفها ونفضت عنها ثقل يده وتلفتت حولها؛ ماذا يمكن أن يأتي لي به؟ أيمكن أن يأتي بالمحتوى الهارب من الأنبوبة؟ أيمكن أن يأتي بتلك الفكرة الضائعة؟ أيمكن أن يقطع ذلك الصفير الأخرس غير المنقطع؟ أيمكن أن ترفع السماعة يوما فينقطع الجرس ويأتيها الصوت الغائب؟
ونظرت إليه؛ كان يضع العلبة في جيبه بأصابع مرتجفة، إنه لن يستطيع شيئا فماذا تقول له؟ وسارت بضع خطوات مضطربة ثم قالت بصوت مختنق: هيا نخرج إني أكاد أختنق. •••
سارت بهما السيارة الزرقاء الطويلة في شوارع القاهرة، وظلا صامتين حتى خرجت السيارة إلى الخلاء بالقرب من الهرم، ثم سمعته يقول بصوت غليظ: في حياتك سر لا أفهمه، لماذا لا تفتحين قلبك لي؟ ونظرت إليه نظرة خاطفة ثم مدت بصرها إلى الصحراء الواسعة، وقالت: لا أعرف لحياتي سرا أو معنى، آكل وأنام كأي حيوان ولا أفعل شيئا مفيدا لأحد.
وارتجت العتامة فوق عينيه الجاحظتين، وقال: ألا زلت في هذه المرحلة الأولى؟ وقالت ماذا تعني؟ قال وهو يتنهد: كنت أعيش هذه المرحلة منذ عشرين سنة. وسكت لحظة ثم قال: ولكنني اكتشفت أن الحياة الواقعية شيء آخر.
وقالت: ما تعني؟ وقال وهو يبتسم ابتسامة ضيقة: كانت المبادئ الرفيعة تضعني دائما في صدام مع الحياة الواقعية. وقالوا عني «غير متكيف».
وسألت: من هم؟ وقال: زملائي في الجامعة.
وقالت: هل كنت في الجامعة؟ قال: كنت مدرسا صاحب مبدأ.
وسألت: وماذا حدث؟ وضحك ضحكة قصيرة ثم قال: ثم تكيفت!
والتفت ناحيتها وثبتت عيناه الجاحظتان لحظة، وقال: لم يكن أمامي طريق آخر.
وسألت: هل أجريت بحثا وأنت في الجامعة؟
قال: أجريت ثلاثة وسبعين بحثا.
وصاحت في دهشة: ثلاثة وسبعون بحثا؛ كيف؟ هذا مستحيل.
قال وهو يمصمص شفتيه: كان شيئا بسيطا جدا. كنت أضع اسمي فحسب.
وسألت في ذهول: والباحث الحقيقي؟!
قال: كان شابا صغيرا لا يزال يسعى للوصول.
وصاحت: ولكن، لماذا لم تجر أنت بنفسك بحثا واحدا عميقا؟
وقال في بساطة: لم يكن ذلك ممكنا، ثم إن الاستغراق في أي بحث حقيقي يمتص العمر ويضيع فرص الحياة الواقعية.
وسكتت لحظة ساهمة، ونظرت في عينيه الجاحظتين المتذبذبتين، وقالت لنفسها: تماما كما أحسست أول مرة، عينا لص! لقد سرق ثلاثة وسبعين بحثا.
وقالت: ثم ماذا؟ وضحك: ثم أصبحت أستاذا كبيرا.
وقالت: ثم ماذا؟ وابتسم: طموح الإنسان بغير حدود، اتجهت إلى السياسة. قالت: وماذا تعرف في السياسة؟ وقال: كل شيء. يكفي أن أصادق هذا وذاك وأردد بعض شعارات بنبرة فصيحة.
ونظرت إلى رقبته المكتنزة باللحم في تقزز، وقالت: وهل تحترم نفسك الآن؟ وقال بالصوت نفسه: كيف يحترم الإنسان نفسه يا فؤادة؟ احترام النفس لا يحدث في فراغ؛ إنه ينبع من احترام الآخرين، وأنا؟ أنا رئيس الهيئة العليا للإنشاءات والمباني، ورئيس المجلس السياسي، والصحف تكتب عني، وأتحدث في الراديو والتلفزيون، وأعطي نصائحي للناس، العالم كله يحترمني فكيف لا أحترم نفسي؟!
وأوقف العربة إلى جانب الطريق، ونظر إليها، وقال: صدقيني يا فؤادة، إنني أحترم نفسي، بل أكثر من ذلك، إنني أصدق الأكاذيب التي أرددها أمام الناس، أنا نفسي أصبحت أصدقها من كثرة ما رددتها بصوت قوي مقنع، ما هو الإنسان يا فؤادة؟ ما هو الإنسان؟ أليس مجموعة من أحاسيس؟ ما هي الأحاسيس؟ أليست تلك الخبرات المتراكمة من واقع الحياة؟ أكنت ألغي كل تلك الخبرات الواقعية وأدور في فلك مبادئ ونظريات لا يمكن تطبيقها في واقعنا؟ أأفعل مثل ما فعله حسنين أفندي؟ وسكت لحظة كأنما يستعيد ذكريات قديمة.
وواصل كلامه؛ حسنين أفندي كان زميلي في الجامعة، وكان يؤمن بأن في رأسه فكرة جديدة، وبدأ يجري بحثا علميا، كان يشتري أنابيب الاختبار من مرتبه الصغير، وكان يسافر هنا وهناك ليجمع المواد. ثم ماذا حدث؟ وسألت في شرود: ماذا حدث له؟
ومصمص شفتيه وقال: سبقه زملاؤه في تسجيل بحوث شكلية من أجل الترقية، وحاربه الأساتذة الكبار لأنه رفض أن يبيع اسمه لأحد ثم فصلوه بتهمة ملفقة.
وهزت رأسها: لا يمكن!
وقال بهدوء: قابلته منذ شهور في الشارع، كان ينظر أمامه في ذهول ولم يعرفني. وابتسم كاشفا عن أسنانه الصفراء، ورأيت طرف أصبعه يطل من حذائه. كان شيئا مؤلما جدا، هل يحترم أحد حسنين أفندي؟ وصاحت: أنا أحترمه.
وقال بهدوء شديد: ومن أنت؟
ونظرت إليه في غضب: أنا؟ أنا؟
وأحست أن صوتها يضيع، وأنها تختنق، ففتحت باب العربة وخرجت إلى الصحراء. وخرج الساعاتي وراءها وسمعته يقول: الحقيقة مرة يا فؤادة، ولكن يجب أن تعرفيها؛ كان يمكن أن أكذب عليك، ما أسهل الكذب، تعودته وخبرته، ولكني أحبك يا فؤادة وأشفق عليك من الحيرة والتمزق.
وأمسك يدها الصغيرة النحيلة في يده السمينة الطرية، وهمس: أحبك. وشدت يدها وصاحت في ضيق: دعني! دعني وحدي! لا أريد أن أسمع صوتا.
وتركها وعاد ليجلس في العربة، وسارت وحدها في الصحراء وبدأ الصفير يدوي في أذنيها. نعم؛ ليدو الصفير الحاد، فالصمت أفضل من ذلك الصوت، ليدو الجرس الأخرس الذي لا ينقطع، فالجرس أفضل من تلك الكلمات، وأنت يا فريد استمر في الغياب؛ فماذا كنت تفعل لو أنت موجود؟ ماذا كنت تفعل؟ ماذا تفعل قطرة في بحر؟ ماذا تفعل قطرة في بحر؟
وفردت ذراعيها في الهواء واحتضنت الفراغ. نعم؛ الفراغ أفضل، واللاشيء أفضل، ولكن كيف تصبح لا شيء؟ قدماها تنتقلان فوق الرمل، وأنفاسها تدخل وتخرج من صدرها، ودقات قلبها لا تزال في أذنيها.
كيف يمكن أن يتلاشى جسدها؟
وخبطت الأرض بقدمها: لماذا لا أتلاشى؟ وكتمت أنفاسها ليكف الهواء عن الدخول والخروج من صدرها. وضغطت بيدها على قلبها ليكف عن الدق.
وخيل إليها أن الهواء كف عن الدخول، وأن صدرها لم يعد يعلو ويهبط وأن دقات قلبها لم تعد مسموعة في أذنيها، وابتسمت ابتسامة راضية، إنها تتلاشى، ولكن هناك شيء ثقيل يجثم على صدرها، وشيء لاسع مر يحرق حلقها، ورائحة كريهة غريبة تملأ أنفها، ويد طرية سمينة تمسك يدها. وحاولت أن تشد يدها لكنها لم تجدها، كانت قد تلاشت. •••
فتحت عينيها ورأت الدولاب والشماعة والنافذة والسقف بتلك الدائرة المشرشرة وتلفتت حولها في ذهول، إنها لم تتلاش، وهذه هي حجرتها كما كانت، وها هو رأسها الثقيل فوق الوسادة، وجسمها بثقله وكثافته ممدودا تحت الغطاء، وصوت القدمين الزاحفتين تقتربان من الحجرة، والوجه الأسمر ذو التجاعيد يطل من الباب، ورأت العينين الواسعتين تنظران إليها وسمعت الصوت الواهن يقول: ما لك يا بنتي؟ ما لك يا فؤادة؟
وهزت رأسها وقالت بصوت مبحوح: لا شيء يا ماما. لو كنت فقط أموت! وعامت العينان الصفراوان في الدموع: لماذا يا فؤادة؟ الموت للعجائز مثلي، كنت تكرهين سيرة الموت، ماذا حدث؟
وهمست: فريد. وقالت الأم في فزع: من؟ فريد مات؟
وانتفضت في السرير: لا لا؛ إنه غائب فقط، وسوف يعود، وأخفت وجهها تحت الغطاء، وابتلعت لعابا غريبا على فمها، لعابا لاسعا مرا. من أين أتى هذا اللعاب؟ وبدأت تتذكر بشيء من الوضوح، كانت واقفة في الصحراء تحملق في الفضاء، وأحست بالساعاتي خلفها، وحوط ذراعيه حول خصرها، وأصبحت عيناه تقتربان وتتسعان وتزدادان جحوظا، وأحست شفتيه الباردتين فوق شفتيها، وأسنانه الكبيرة تصطك بأسنانها، وملأ أنفها رائحة معدنية غريبة، كرائحة الحديد الصدئ، وملأ فمها لعابا مرا لاسعا.
نعم؛ كانت ترى وتحس، لكنها لم تكن رؤية واضحة، ولم يكن إحساسا أكيدا، كان كالحلم الكئيب. وحاولت أن ترفع ذراعها وتصفعه لكن ذراعها لم تكن ترتفع.
ومدت يدها من تحت الغطاء وتحسست ذراعها، كانت موجودة وحركتها فتحركت وأخرجت المنديل من تحت الوسادة وبصقت ثم بصقت، لكن المرارة اللاسعة كانت ملتصقة بفمها، وخيل إليها أنها موشكة على التقيؤ، فدفعت عنها الغطاء وسارت إلى الحمام، لكن رغبة القيء لم تكن لتتحقق، ودعكت أسنانها بالفرشاة والمعجون، وغرغرت فمها، وظلت المرارة ملتصقة بحلقها تهبط شيئا فشيئا إلى جوفها.
وأحست يد أمها النحيلة على كتفها: ماذا حدث لفريد؟ ورفعت عينيها إليها، كان في عيني أمها نظرة غريبة فارتعدت: لا أعلم. لا أعلم. دعيني وحدي يا ماما. وسارت إلى حجرتها وجلست على طرف السرير تمسك رأسها بيديها، ودق جرس التليفون فانتفضت؛ إنه هو حتما، سيأتي صوته الغليظ الصدئ من خلال الأسلاك، سيأتي حتما، فلماذا لا يختل توازن الأرض ويقع التليفون وينكسر؟ لكن الأرض تدور بغير خلل أو كلل، والتليفون لن يقع ولن ينكسر، وسيأتي صوته حتما من ثقوب السماعة، كما تأتي الريح من ثقوب الباب، سيأتي حتما بغير خلل أو كلل، وستلسع مرارته حلقها وستملأ رائحته الصدئة أنفها، فلماذا لا ترتدي ملابسها وتهرب؟
ورفعت جسمها الثقيل ونهضت، وارتدت ملابسها، ورأت عيني أمها تنظران إليها في صمت، كانت فيهما نظرة غريبة، وتعثرت خطواتها وهي تفتح الباب ووقفت تنظر إليها لحظة، كان يمكن أن تبقى معها، كانت تريد أن تبقى ولكنها فتحت الباب وخرجت.
سارت في الشارع تجر جسمها جرا، لم تكن تفكر في شيء كان رأسها هادئا؛ ليس هدوءا بمعنى الهدوء، ولكنه كان نوعا من الشلل، كذلك الذي يصنعه المخدر المركز بخلايا المخ.
وتركت قدميها تسيران وحدهما بغير إشراف من رأسها، ولماذا الرأس دائما، لماذا لا يكون العقل في الساقين؟ الرأس لا يفعل شيئا سوى أن يحمل فوق الأكتاف ثم يحكم ويتحكم، والساقان تقومان بالعبء وتحملان الرأس والكتفين والجسم بأكمله ثم لا تحكمان أبدا، كما يحدث في الحياة. الذين يعملون يكدحون ولا يحكمون، وتبقى الرءوس محمولة فوق الأعناق تقطف الثمار وتصدر الأحكام.
كلمات فريد مرة أخرى تعود، ونبرة صوته، وحركة يديه لا تزال باقية في رأسها. لماذا تبقى وهو غائب؟ كيف تصنع تلك الحركة في رأسها وتعود تدب من جديد؟
وسارت بحذاء المشتل، وصعدت رائحة الياسمين إلى أنفها، وعادت أنفاس فريد على وجهها برائحتها وسخونتها، وعاد ملمس شفتيه فوق عنقها، ورفعت يدها الصفراء لتلمس وجهه، لكن يدها ارتجفت في الهواء ثم سقطت إلى جوارها.
كان النيل كما كان دائما، راقدا محنطا بجسمه الطويل ذي التجاعيد، ينثني بخمول كمومس عجوز، مستسلما راضيا متكيفا، وتلفتت حولها، كان كل شيء هادئا مستسلما متكيفا. وهي هل يمكن أن تتكيف؟ هل يمكن أن تصبح واحدة من تلك الرءوس المحنطة في المكتب؟ هل تضع اسمها فوق بحث لم تجره كما يفعل الناجحون واللامعون؟
وحلقت بعينيها في السماء والأرض. ماذا كانت تريد منذ البداية؟ لم تكن تريد شيئا. لم تكن تريد أن تنجح أو تلمع، كانت تحس فحسب، تحس أن فيها شيئا ما ليس في الآخرين. إنها لن تعيش وتموت ويبقى العالم كما هو. كانت تحس في رأسها حركة، فكرة جديدة، لا تعرف كيف تنطق بها، الفكرة كانت في رأسها صاحية وحية، لكنها لم تكن تخرج، كأنما كانت تصطدم بجدار سميك، أكثر سمكا من عظام رأسها.
كانت كلها أحاسيس، ولكن ما بداية أي شيء جديد؟ كيف بدأ أي مكتشف غير العلم أو التاريخ؟ أليست البداية أحاسيسها؟ وما هو الإحساس؟ فكرة مبهمة، حركة غامضة في خلايا المخ. نعم؛ ألا تكون البداية دائما حركة غامضة في خلايا المخ، لماذا إذن تهزأ بأحاسيسها؟ لماذا تكذبها؟ ألم تحس حين رأت الساعاتي لأول مرة أنه لص؟ أخدعت أحاسيسها بالعمارة الشاهقة والسيارة الطويلة؟ هل غيرت الهيئة العليا والمجلس السياسي وكلام الصحف من أحاسيسها الأولى؟ ألم تظل رغم كل هذا تنظر في عينيه الجاحظتين وتحس أنه لص؟ ألم تلتقط خلايا مخها ذلك الكذب اللامرئي في ذبذبة عينيه؟ لماذا إذن تهزأ بأحاسيسها؟
وتوقفت لحظة عن السير وسألت نفسها: هل شكت في أحاسيسها أبدا؟ ومتى بدأت تشك؟ متى؟ وتلفتت حولها، واصطدمت عيناها بباب المطعم الصغير وتذكرت، أنها تلك الليلة، تلك الليلة المظلمة المتربة. حين دخلت المطعم ورأت المائدة خالية عارية بغير فرش، والهواء يضربها من كل ناحية كجذع شجرة مبتور.
واقتربت قدماها من باب المطعم في وجل أتدخل؟ أتلقي نظرة؟ ربما، ربما تجده، ربما يكون قد عاد، وانتقلت قدماها خطوة ناحية الباب، ووقفت لحظة تلتقط أنفاسها، ثم دخلت الممر الطويل يحوطه الشجر، قدماها ترتجفان وقلبها يخفق، ستخرج من الممر وتنظر إلى المائدة ولا تجده، خير لها أن تعود الآن، خير لها أن تعود وفي نفسها بعض أمل، إنه هناك موجود، جالس إلى المائدة، ظهره مائل قليلا إلى الأمام، وشعره الأسود الغزير، وأذناه المحتقنتان بالدم دائما، وعيناه البنيتان اللامعتان، يتحرك فيهما ذلك الشيء الغريب؛ الشيء الذي تحسه ولا تراه، الشيء الذي يجعله هو نفسه بذاته المنفردة عن الآخرين وكلماته وأفكاره ورائحته الخاصة، هو فريد وليس رجلا آخر كالملايين.
واستدارت لتعود، لكن قدميها تحركتا إلى الإمام، وسارتا إلى نهاية الممر وانحرفت إلى اليسار، ووقفت لحظة مطرقة لا تقوى على رفع رأسها، ثم رفعت رأسها، وارتطمت عيناها بجدار من الطوب، اختفت المائدة واختفى كل شيء ولم تر إلا جدارا قصيرا بني في العراء كتلك الجدران القصيرة التي تبنى فوق الموتى.
وسمعت صوتا خافتا من ورائها يسأل: هل تريدين سمكا؟ ونظرت خلفها، ورأت امرأة تحمل طفلا، لم يكن طفلا. كان هيكلا عظميا صغيرا يفتح فكيه الصغيرين الخاليين من الأسنان ويقبض بهما على ثدي ضامر جاف، يتدلى من صدر المرأة كقطعة من جلد الأحذية. ونظرت إليها المرأة بعينين نصف معتمتين ملتصقتي الرموش وقالت بصوت ضعيف: هل تريدين سمكا؟ وابتلعت فؤادة لعابها المر، وقالت في شرود: كان هنا مطعم صغير. وقالت المرأة: نعم؛ ولكنه أفلس وترك المكان.
وسألت: ومن أخذ المكان؟ قالت المرأة: البلدية.
وسألت: ومن بنى هذا الجدار؟ وقالت المرأة: البلدية.
وسألت وهي تتلفت حولها للعراء الواسع: ولماذا بنته؟
وردت المرأة وهي تشد ثديها الجاف وتدسه بين فكي الطفل: زوجي يقول إن البلدية تبني هذا الجدران لتكتب عليها اسمها.
ونظرت إليها المرأة من خلال رموشها الملتصقة ثم قالت: هل تريدين سمكا؟
وابتسمت ابتسامة واهنة، وقالت: ليس اليوم، ربما آتي لأشتري يوما.
وخرجت من الباب الصغير وسارت في الشارع. لم يعد هناك أمل. لم يعد هناك شيء. لم يعد إلا جدار من الطوب، جدار قصير بني في العراء لا يصلح لشيء سوى أسماء الموتى.
نعم؛ لم يعد إلا جدار. وهل كان هناك شيء آخر؟! ليس هناك شيء، كل شيء اختفى كأنه حلم، وما الفرق بين الحقيقة والحلم؟ لو ترك ورقة صغيرة بخط يده لاستطاعت أن تعرف ... ورقة عليها حروف تستطيع أن تفرق بين الحلم والحقيقة، أما هي برأسها وذراعيها وساقيها فلا تستطيع.
وهزت رأسها في ضيق، كان رأسها ثقيلا كأنما تحجر، كأنما أصبح هو الآخر جدارا من الطوب، وهل كان شيئا آخر؟ هل كان شيئا سوى جدار مصمت يردد الصدى، يردد ما سمع وما قرأ، هل قال شيئا من عنده؟ هل قال شيئا جيدا لم يقله أحد من قبل؟ ألم يكن يطلق ذلك الصفير الحاد المتواصل حين تصمت كل الأشياء؟
وبدأ الصفير يطن في رأسها فأمسكته بين يديها وجلست على السور الحجري، وظلت مطرقة لحظة ثم رفعت عينيها المحتقنتين بالدم إلى السماء، أكان كل ذلك حلما؟ أكانت أحاسيسها وهما؟ وإذا كذبت أحاسيسها فماذا تصدق؟ ماذا يمكن أن تصدق؟ اسما مكتوبا على جدار؟ اسما مختوما فوق بحث؟ كلمة مطبوعة في صحيفة؟
ودارت بعينيها الحمراوين في السماء. وأنت يا سماء، هل أنت الجدار العلوي الذي يصنع السقف؟ هل أنت جدار مصمت كأي جدار؟ وهزت يديها في الهواء وقالت بصوت عال: هل أنت جدار؟ لماذا تصمتين؟
وحملق فيها رجل كان يسير في الشارع. واقترب منها يتفحصها بعينيه الضيقتين السوداوين ثم ابتسم نصف ابتسامة، وقال: أدفع لك ريالا فقط؛ إن ساقيك رفيعتان، ونظرت إليه في ذهول ثم رفعت جسمها الثقيل من فوق السور وحملتها قدماها بغير وعي منها إلى بيتها. •••
كان باب البيت مفتوحا، والصالة مليئة بالناس، وجوه تعرفها ووجوه لا تعرفها. كانوا ينظرون إليها بعيون غريبة، وسمعت صوتا عاليا كالصراخ، ورأت وجها يشبه وجه أمها بغير تجاعيد، إنها خالتها سعاد بجسمها السمين وفستانها الأسود الضيق، وسمعت صوتها الحاد يصرخ: فؤادة ...
وحوطتها بذراعيها السمينتين القصيرتين، والتف حولها نساء كثيرات يصرخن في صوت واحد وتفوح من ملابسهن السوداء رائحة عطر، وكادت تختنق، فدفعت عنها الأجسام السمينة وصاحت بأعلى صوتها: ابتعدوا عني!
وتفرقت من حولها النساء مذعورات. وسارت بخطوات ثقيلة بطيئة إلى حجرة أمها، كانت نائمة فوق السرير، وقد غطي جسمها ورأسها، واقتربت منها بخطوات وجلة، ومدت يدها بحذر لتكشف الغطاء. وظهر رأس أمها ملتفا بالطرحة البيضاء، ووجهها ذو التجاعيد، وعيناها مغمضتان، وفمها مطبق، والحلق الذهبي الصغير في أذنيها، إنها نائمة كما كانت تنام، لكن أنفاسها ليست عالية.
وتفرست في جسمها؛ كانت ملامحها تتغير شيئا فشيئا، كأنما تهبط في وجهها وتلتصق بعظامها ويضيع منها الدم. وسرت في جسمها قشعريرة؛ أصبح وجه أمها كوجه تمثال من الجرانيت يشع برودة غريبة، وأعادت الغطاء فوق الرأس وهي ترتعد، ودوى الصراخ في أذنيها كصفير حاد متصل، وسارت إلى حجرتها كالتائهة، لكن حجرتها كانت مليئة بوجوه لا تعرفها، وخرجت إلى الصالة، كانت العيون الجاحظة الغريبة تحوطها وتحاصرها، والصراخ يدوي في رأسها، وسارت ناحية الباب بغير وعي، واختفت خلف الباب لحظة ثم هبطت السلم وخرجت إلى الشارع تجري.
لم تكن تعرف إلى أين هي تجري، لكنها كانت تجري وتتلفت وراءها كأنما يطاردها شبح، كانت تريد أن تهرب إلى مكان بعيد لا يراها فيه أحد، لكنه لم يدعها تهرب، لمحها وهي تجري في الشارع فأوقف العربة الزرقاء وجرى خلفها وأمسكها من ذراعها قائلا: فؤادة ... إلى أين تجرين؟ ووقفت تلهث، ورأت عينيه الجاحظتين ترتجان من تحت زجاج النظارة، وقالت بصوت خائر: لا أدري.
وقال: طلبتك بالتليفون منذ ساعة وعرفت الخبر، وأطرق إلى الأرض ثم قال: جئت لأعزيك.
وتلتفت حولها، كان الصراخ لا يزال يدوي في أذنيها، وعيون غريبة جاحظة تحاصرها من كل ناحية، وأخفت وجهها بين يديها وأجهشت بنشيج مكتوم، وأسندها الساعاتي وأجلسها وانطلقت بهما العربة من شارع إلى شارع، وفي الأفق البعيد كانت ذؤابة الشمس الأخيرة تنطفئ، وانتشرت في السماء أجسام رمادية مضرجة بدماء باهتة، وخرجت العربة إلى الخلاء، ولمعت رمال الصحراء تحت ضوء العربة، وتذكرت وجه أمها في الصباح حين كانت تنظر إليها قبل أن تخرج، كان في عينيها نظرة غريبة، نظرة مستجدية ضعيفة تطلب منها أن تبقى معها، لكنها لم تر هذه النظرة بوضوح كما تراها الآن، ربما رأتها وتجاهلتها بغير عمد، كثيرا ما تجاهلت نظراتها الصامتة، كثيرا ما تجاهلتها، كانت تريد أن تسرع وتخرج، لماذا كانت تسرع؟ لماذا كانت تخرج؟ إلى أين كانت تذهب؟ لماذا لم تبق معها ذلك اليوم الأخير؟ كانت وحدها، وحدها تماما، ربما نادتها ولم تجدها، ربما أرادت شيئا من الماء فلم تجد أحدا، لماذا تركتها في ذلك اليوم؟ أيمكن أن يعود ذلك اليوم مرة أخرى؟
وتدفقت الدموع في أنفها وحلقها، ففتحت فمها للهواء ولهثت، كانت العربة قد وقفت، والساعاتي إلى جوارها جالس صامت، ينظر إلى وجهها الطويل الشاحب ويتأمل عينيها الخضراوين الشاردتين، ومد يده السمينة الطرية وأمسك يدها النحيلة المرتجفة، وقال: لا تحزني يا فؤادة؛ هذه طبيعة الحياة لا توجد حياة بغير موت، وسكت لحظة ثم قال: ما فائدة الحزن؟ لا شيء إلا المرض، أنا لا أحزن أبدا. وإذا حدث لي ما يحزن فإني أفكر في الأشياء المفرحة، أو أسمع لحنا مرحا.
ومد يده إلى الراديو وأداره، وانبعث لحن راقص، وتجمدت الدموع في حلقها كالغصة، وأحست اختناق ففتحت باب العربة وخرجت إلى الصحراء، كان في الهواء برودة خفيفة شدت عضلاتها، لكن جسمها كان كالعبء الثقيل، وحركت ساقيها لتنفض عنها ذلك العبء المزمن لكنه ظل جاثما فوقها، وفتحت فمها لتصرخ وتطرد الغصة من حلقها لكن عضلات فمها كانت تنقبض وتنبسط دون أن تطرد شيئا، وهبطت الغصة إلى رقبتها، فبدأت عضلات رقبتها تنقبض وتنبسط، لكن الغصة انتقلت إلى صدرها وبطنها، وبدأت عضلات صدرها وبطنها تنقبض وتنبسط، وزحفت الغصة كالدودة إلى جميع أجزاء جسمها فأصبحت عضلاتها جميعا تنقبض وتنبسط في اهتزازات سريعة عنيفة كتشنجات الصرع، كانت تريد أن تتخلص من ذلك الشيء الحبيس في أنسجتها.
وكان اللحن يرن في الصحراء الساكنة، لم تكن تسمعه، ولكنه كان يسري في الهواء ويدخل ويخرج مع أنفاسها، كانت تلهث وتريد أن تتوقف، لكن عضلاتها أفلتت من قبضة وعيها وانطلق جسمها يهتز مع اللحن، يفرز سموم الطاقة الحبيسة ويستشعر متعة الرقص بغير وعي.
نعم؛ كانت غائبة عن الوعي، وكانت تستمتع بلذة الحركة العنيفة، لكن نقطة صغيرة في رأسها، ربما خلية واحدة من خلايا مخها، كانت لاتزال تحتفظ بوعيها، ولا تزال تعرف أنها في الصحراء، وأن الساعاتي يقف وراءها، وأنها حزينة حزنا شديدا، أمها ماتت، وفريد غائب، وفكرة البحث ضائعة، وحياتها في الوزارة فارغة.
وهزت رأسها بعنف لتفصل عنه تلك الخلية الواحدة الواعية، لكنها لم تكن تنفصل أبدا. كانت قد تماسكت وتصلبت وراحت ترتج داخل رأسها وتمزق خلايا مخها الهلامية كقطعة زلط.
وانقطع اللحن فجأة، ربما بلغ نهايته، أو ربما أطفأ الساعاتي الراديو، وسقط جسمها فوق الرمل منقطع الأنفاس مبللا بالعرق، منذ متى لم يبلل جسمها مثل هذا العرق؟ منذ زمن لم ترقص رقصة الخلاص من سياج العقل؟ منذ متى لم تسمع تيوردوراكس السجين؟ منذ متى قال كازانزاكس لا ينقض الجنون إلا الجنون؟ لكن فريد كان يقاوم الجنون، كان يقول جنون فرد واحد معناه الحبس أو الموت، ولكنه جنون الملايين. وماذا يصنع جنون الملايين يا فريد؟! كان يقول المعرفة والجوع؛ الجوع موجود ولا ينقص إلا المعرفة، لماذا لا يعرفون يا فريد؟ وكيف يعرفون يا فؤادة، وكل شيء من حولهم إما أخرس وإما يكذب؟
وفتحت عينيها، ووجدت نفسها راقدة فوق الرمل، وإلى جوارها كتلة ضخمة من اللحم لها عينان جاحظتان يطل منهما شيء كاذب يتلصص، وسمعت صوتا غليظا يقول: أبدع رقصة رأيتها، وأجمل راقصة في الوجود! وحوطها بذراعيه وملأت أنفها رائحة الحديد الصدئ، وانتشر في فمها اللعاب اللاسع المر، ورأت عينيه الجاحظتين تبرزان وتتسعان تطل منهما نظرة غريبة مخيفة، وتلفتت حولها في فزع، ولم تر إلا الصحراء والظلام. وحاولت أن تتنفس ولم تستطع، فدفعته بعيدا عنها بكل قوتها ونهضت مسرعة لتجري. وجرى وراءها.
لم يكن أمامها إلا ظلام يتسع، ومن خلفها ذلك الشبح الجاحظ العينين يطاردها، وخيل إليها أن الأرض المنبسطة أمامها تعلو وتتكور لتصبح عينين كبيرتين جاحظتين، وهي تجري بينهما في خندق طويل ضيق، وكانت السماء أيضا بكتلتها المقعرة السوداء قد أصبحت عينين كبيرتين جاحظتين تجثمان فوقها وتضغطان عليها، واصطدمت بشيء مقعر صلب وسقطت على الأرض فاقدة الوعي.
فقدت وعيها تماما فيما عدا تلك الخلية الواحدة الواعية، استقطبت حواسها الخمس، وظلت ترى وتسمع وتحس وتذوق وتشم، وأحست الكف السمينة الطرية فوق صدرها، وشمت رائحة الحديد الصدئ، وذاقت طعم اللعاب اللاسع المر.
وتحولت الكف الطرية إلى أصابع غليظة ترتعش، لم تكن رعشة ثابتة في مكانها، لكنها رعشة هابطة أسفل، إلى بطنها وفخذيها، ورأت رقبته المكتنزة باللحم كجذع شجرة عجوز يبرز منها برعم صغير أسود كان يمكن أن يعيش وينمو لكنه مات وتعفن، وقميصه الحريري المفتوح يكشف عن صدر سمين أملس بغير شعر، ويهبط إلى حزام من الجلد مفكوك، يدور حول بطن منتفخ عال تتدلى منه ساقان رفيعتان معوجتان بغير شعر، وكان بطنه المرتفع يعلو ويهبط مع أنفاسه المتقطعة، وتنبعث من داخله حشرجة خافته غريبة كأنين ثور جريح.
وزحفت فوق جسدها برودة ثقيلة غريبة، برودة لم يعرفها جسمها من قبل سوى مرة واحدة سابقة، كانت راقدة فوق ملاءة من الجلد ومن حولها أجهزة معدنية، مشارط وإبر ومقصات، وأمسك الطبيب إبرة حادة طويلة وغرزها في ذراعها. وسرت في جسمها تلك البرودة الثقيلة الغريبة فكأنما هي تغطس في حوض ماء مثلج وجسمها يثقل ويعرق شيئا فشيئا.
ولم يكن تحتها ماء، كان هناك شيء ناعم له ملمس الرمل، وهواء بارد يدخل في ثوبها المفكوك، ولعاب مر لاسع يتجمع في جوفها، ورائحة صدئة عتيقة تسد أنفها، وإلى جوارها كتلة ضخمة ممددة على الأرض، تلهث وترتج، وترتج معها عينان جاحظتان مطفأتان وساقان رفيعتان مرتخيتان، وحاولت أن تفتح فمها لتبصق لكنها لم تستطع واقترب جفناها الثقيلتان وانغلقتا. •••
فتحت عينيها لترى نور النهار يدخل من شقوق الشيش، ونظرت حولها في ذهول، كان كل شيء في حجرتها كما كان دائما؛ الدولاب والشماعة والنافذة والسقف والدائرة المشرشرة، وسمعت صوت القدمين تزحفان في الصالة وتقتربان من حجرتها، ونظرت إلى الباب تنتظر ظهور وجه أمها، لكن وقتا طويلا مر دون أن يظهر وجه أمها، وانتفضت من فوق السرير واقفة على قدميها، لقد تذكرت، وسارت بقدمين مرتجفتين إلى الصالة، واقتربت من باب حجرة أمها في وجل، أكان حلما؟ أم أنها ماتت حقا؟ ومدت رأسها لتنظر داخل الحجرة وارتطمت عيناها بالسرير الخالي وتراجعت إلى الوراء في ذعر، وسارت إلى المطبخ، وإلى حجرة الطعام، وإلى الحمام لم تكن أمها في أي مكان، وأحست بدوار، فأسندت رأسها إلى الحائط، كانت كتلة صلبة تلف وتدور داخل رأسها وترتطم بعظامه، وشيء مر لاسع يلتصق بحلقها. وزحفت مستندة إلى الحائط لتصل إلى الحوض، وفتحت فمها لتبصق لكن المرارة ضغطت على جوفها فتقيأت، وفاحت الرائحة الصدئة الكريهة من فمها وأنفها وملابسها، وخلعت ملابسها ووضعت جسمها تحت الماء الجاري، وغسلته بالليفة والصابون، لكن الرائحة لم تزل، كانت قد نفذت إلى أحشائها وخلاياها وامتزجت بدمائها.
وعادت تستند على الجدران إلى حجرتها، ودارت بعينيها المحتقنتين بالدم حولها ثم استقرت فوق وجه أمها معلقا بجوار الدولاب، ونظرت إليها أمها بعينيها الواسعتين الصفراوين تطل منهما تلك النظرة الضعيفة تستجديها أن تبقى، وأخفت وجهها بيديها، ألا تكف أمها عن هذه النظرة الساحقة؟ ألم تكفر عن ذنبها؟ ألم تملأ جوفها بذلك العلقم اللاسع المر؟ ألم تنقع جسدها في تلك المرارة الصدئة المركزة؟ هل هناك حزن أشد من هذا الحزن؟ وما هو الحزن؟ كيف يحزن الناس؟ صراخ عال يجلو الصوت ويفرج عن الكبت؟ ملابس سوداء جديدة تنعش جدتها الجسم؟ ولائم وذبائح تفتح الشهية وتملأ البطن؟ أهناك أم ماتت وحظيت بأكثر من هذا الحزن؟ هل خلفت أم ابنة تتجرع من بعدها السم؟ أهناك وفاء للأمومة أكثر من هذا الوفاء؟ أهناك سداد لديون البنوة أكثر من هذا السداد؟
وسارت إلى السرير تحس بعض ارتياح، وفردت ذراعيها وساقيها، لا زال جسمها ثقيلا ولا زال جوفها مرا، متى؟ متى يضيع هذا الثقل تماما وينتهي العبء؟
وانبعث من التليفون الجرس، إنه هو، لا أحد غيره، لم يعد هناك شيء سواه، لم يبق إلا أن تتجرع السم يوما بعد يوم، ستملأ جوفها بالعلقم اللاسع المر، وستنقع جسمها في المرارة الصدئة المركزة، لم يبق إلا الموت البطيء.
ومدت يدها النحيلة الصفراء، ورفعت السماعة، وجاءها الصوت الغليظ اللزج: صباح الخير يا فؤادة، كيف أنت؟
وقالت بفتور: أعيش.
قال: ماذا ستفعلين الليلة؟
قالت: لا أدري، لم يبق لي شيء.
قال: وأين أنا؟ أنا الباقي لك.
قالت: نعم؛ لم يبق إلا أنت.
قال: سأمر عليك بالمعمل في الثامنة والنصف. •••
كانت على وشك أن تخرج من باب البيت حين لمحت شيئا، شيئا أبيض يلمع من وراء الزجاج، وعادت إلى الوراء بضع خطوات، وقربت عينيها من الصندوق، نعم؛ كان هناك خطاب، وبدأ جسمها ينتفض، وفتحت الصندوق وأمسكت الخطاب بأصابع نحيلة طويلة ترتجف، والتقطت عيناها الحروف المربعة الكبيرة وتلك التاء الطويلة ذات الذيل الملفوف، ودب قلبها، إنه خط فريد. وتلفتت حولها في ذهول، حلم أم حقيقة؟ ورأت السلم والباب وصندوق البريد، ومدت أصبعا مرتجفا ولمست صندوق البريد. نعم؛ إنه موجود ومحسوس، وضغطت بأصابعها على الخطاب، إنه ورقة حقيقية لها سمكها وكثافتها. ورفعت أصبعها الصغيرة ولمست جفنها، إنه مفتوح.
وقلبت الخطاب على ظهره وبطنه، وتفقدت زواياه وأطرافه، لم يكن عليه إلا اسمها والعنوان، وقربته من أنفها، وشمت الرائحة المميزة للورق وختم البريد، وفتحت الخطاب وسحبت ورقة طويلة شفافة تملؤها السطور:
فؤادة ...
كم يوم مضى منذ لقائنا الأخير ... منذ تلك الليلة القصيرة المحملة بأول رياح الشتاء، كنت تجلسين أمامي ومن خلفك النيل، وفي عينيك ذلك البريق الغريب الذي يقول: عندي شيء جديد، وأصابعك الطويلة الرفيعة تنقر على ظهر المائدة بهدوء يخفي من تحته بركانا مكتوما. كنت صامتة وعرفت أنك تتألمين. وقلت لي بعد صمت طويل: ما رأيك يا فريد؟ سأترك الوزارة. كنت أفهمك، وأردت أن أقول لك في تلك اللحظة: اتركيها وتعالي معي، لكنك تذكرين أنني لم أرد، كنت أحس أن لك دورا آخر غير دوري، كان دورك هو أن تصنعي شيئا جديدا لو أعطيت الفرصة، وكان دوري هو أن أصنع الفرصة ليصنع الناس الجديد. وما الجديد؟ تغيير القديم؟ وماذا يصنع التغيير؟ أليس هو التفكير؟ هل تذكرين؟ ذلك الطفل الصغير الذي يدور حول الموائد في المطعم، هل تذكرين يده اليابسة المشققة وهو يمدها من أجل قطعة خبز أو قرش، وكان الناس يشفقون عليه ويعطونه قرشا بغير تفكير، لو أنهم فكروا ماذا يفعل قرش؟! لو أنهم فكروا لماذا هو يجوع؟! نعم يا فؤادة، إنه التفكير، إنها الفكرة التي تخرج من الرأس، وهل تخرج الفكرة من الرأس بغير نطق؟
كان دورك أن تصنعي الفكرة وكان دوري أن أصنع النطق، ولم أكن أستطيع وحدي شيئا. لم يكن دوري سهلا أو مقنعا كما تبدو الكلمات سهلة ومقنعة، كان نوعا من الجنون، فكيف تنطق الأفواه المكممة؟
وكيف ينفذ الصوت من خلال كمامات سميكة كالجدران؟ كان نوعا من الجنون، وجنون فرد واحد لا يصنع شيئا ولكنها الجموع، هل تذكرين ذلك الحوار القديم؟
أجل، لم أكن واحدا، كان معي آخرون، لم نملك إلا ذلك الدور البسيط الخطير، تلك الكلمات الطبيعية البسيطة التي ولدت مع أول إنسان، أن يفكر وأن ينطق، لم تكن إلا هذه الكلمات نقولها ونكتبها، لم تكن مدافع أو بنادق أو قنابل، كانت كلمات فحسب.
وافترقنا في تلك الليلة القصيرة، وسرت وحدي في شارع النيل، كنت أفكر فيك، كنت أحس أنك تتألمين، أن في أعماقك فكرة جديدة تصارع من أجل الخروج، تصارع وحدها جدرانا عالية ... في الوزارة والبيت والشارع وعظام رأسك، نعم يا فؤادة، كان هناك جدار آخر في رأسك، جدار قصير لم يولد معك، لكنه بني يوما بعد يوم من الصمت الطويل، وقلت لنفسي ليلتها وأنا أسير: إنه جدار قصير وسينهار حتما حين تنهار الجدران الأخرى.
ولم أصل إلى البيت، كان هناك رجل يتعقبني، أظن أنه لم يكن واحدا، كانوا أكثر من واحد ...
بل كانوا كثيرون مسلحين، ولم يكن معي شيء، تذكرين، كنت أرتدي القميص البني والبنطلون، وفتشوا جيوبي، ولم يجدوا شيئا، وهل توضع الكلمات في الجيوب، وأمسكوا بي ووضعوني في الحديد، لكن الكلمات حملها الهواء فهل يمسكون الهواء ويضعونه في الحديد؟
الجدران من حولي، لكنك معي، أحس يدك الصغيرة الناعمة على وجهي وأرى عينيك الخضراوين في عيني، يطل منهما ذلك الشيء الجديد الحبيس يريد أن ينطق ولا يستطيع، لا تحزني يا فؤادة ولا تبكي، فالكلمات في الهواء خارج الجدران، تعيش وتدخل مع الهواء إلى الصدور، وسيأتي حتما يوم تسقط فيه الكمامات وتنطق الأفواه من جديد.
فريد (انتهت)
صفحة غير معروفة