لم تكن تعرف إلى أين هي تسرع، كانت تعرف أنها تفر، تفر من المطعم، ومن البيت، ومن شارع النيل، ومن كل تلك الأمكنة التي تذكرها بفريد، كانت الأمكنة متواطئة معه، تخفي غيابه، وتؤكد وجوده، الأمكنة أيضا تنافق كما ينافق الموظفون. وأسرعت الخطى لتخرج من شارع النيل، ولتبحث عن مكان محايد لم ير «فريد»، ولم يعرفه ولن يكون متواطئا معه.
ووجدت نفسها في شارع الدقي الفسيح، ورأت أتوبيسا على وشك التحرك فقفزت فيه دون أن تعرف رقمه، ووضعت قدمها على السلم، وظلت القدم الثانية طائرة في الهواء، وامتدت إليها الأيدي تساعدها على الطلوع، واستطاعت أن تدس قدمها الثانية بين الأقدام الواقفة على السلم، وأحاطت بها ذراع طويلة قوية لتحميها من السقوط، ثم وجدت نفسها تدفع مع الأجسام إلى داخل الأتوبيس.
واحدة من الملايين، جسم من الأجسام البشرية التي تزحم الشوارع والمواصلات والمساكن، من هي؟ فؤادة خليل سالم، أنثى، من مواليد الصعيد، ورقم البطاقة 3125098 مركز شباط، ماذا يمكن أن يحدث للعالم لو أنها سقطت تحت عجلات الأتوبيس؟ لن يحدث شيء ، ستظل الحياة كما هي تجري لاهثة غير عابئة ولا مبالية، ربما تكتب أمها نعيها في صفحة الوفيات، ولكن ماذا يفعل سطر في جريدة؟ ماذا يغير في العالم؟
ودارت عيناها حولها في دهشة، ولكن لم الدهشة؟ إنها واحدة من ملايين فعلا، وهي جسم من الأجسام المحشورة في الأتوبيس فعلا، وهي لو سقطت تحت العجلات وماتت فلن يغير موتها من العالم شيئا، ما وجه العجب في هذا؟ لكنها كانت لا تزال تحس أنه عجيب، أنه شيء يثير دهشتها، شيء لا يمكن أن تصدقه أو تقبله.
فهي ليست واحدة من ملايين، إن في أعماقها شيئا يؤكد لها أنها ليست واحدة من ملايين، أنها ليست كتلة بشرية تتحرك، أنها لا يمكن أن تعيش وتموت فلا يحدث للعالم أي تغيير، نعم، في أعماقها شيء يؤكد ذلك، ليس في أعماقها وحدها، وإنما في أعماق أمها أيضا، وفي أعماق مدرسة الكيمياء وفي أعماق فريد.
وزحف في رأسها صوت أمها تقول: ستكونين شيئا عظيما مثل مدام كوري، وتبعه صوت مدرسة الكيمياء يقول: فؤادة شيء آخر غير باقي بنات الفصل، وهمس صوت فريد في أذنها: فيك شيء لا يوجد عند الأخريات.
ولكن ما قيمة كل هذه الأصوات المنتهية؟! لقد دوت مرة أو مرات وأحدثت ذبذبات في الهواء ثم انتهت. أمها قالت لها ذلك وهي صغيرة منذ زمن بعيد، ومدرسة الكيمياء قالتها وهي في المدرسة الثانوية منذ سنين كثيرة، وفريد قالها، نعم فريد قالها، ولكن فريد صوته تلاشى في الفضاء، وهو نفسه اختفى من الوجود، فكأنه لم يكن أبدا موجودا.
وداست امرأة سمينة فوق قدمها، ولكزها الكمساري في كتفها لتدفع التذكرة، وامتد كف كبير من الخلف وضغط على فخذها، نعم جسم من الأجسام التي تزحم العالم، وتملأ الجو برائحة العرق، واحدة من ملايين، ملايين، ملايين، وقالت بصوت عال دون أن تدري: ملايين ملايين! وحملقت فيها المرأة السمينة بعينين واسعتين كعيني البقرة، ونفخت في وجهها رائحة البصل فأشاحت بوجهها إلى ناحية النافذة، ورأت من خلال الزجاج ميدان التحرير فاندفعت بكل قوتها لتنزل من الأتوبيس. •••
وقفت في الميدان الواسع، تتلفت حولها، وترفع رأسها إلى فوق لترى العمارات العالية، وقد امتلأت واجهاتها بالأسماء ذات الخطوط العريضة، أطباء ومحامون ومحاسبون وخياطون ومدلكون ... إلخ، والتقطت عيناها لافتة كتب عليها: معمل عبد السميع للتحليلات، وفجأة اتضح في رأسها شيء، كأنما صوب نحو رأسها ضوء كشاف صغير، ولاحت الفكرة في رأسها واضحة في النور الجديد، كانت في رأسها دائما، كامنة في الظلام، لا يصدر عنها حركة، لكنها كانت موجودة، وكانت تعرف أنها موجودة.
ولكنها لم تعد موجودة فحسب، لقد بدأت تتحرك، وتخرج من ركنها المظلم إلى منطقة الضوء، واستطاعت فؤادة أن تقرأها، نعم لقد كانت مكتوبة بخط عريض واضح فوق واجهة العمارة: معمل فؤادة للتحليلات الكيميائية.
صفحة غير معروفة