ولما استولى الغالبون على مدينة مالقة وبلش وجميع الجهات لم يبق للمسلمين في تلك الناحية ملجأ، وفي عام ثلاثة وتسعين وثمانمائة خرج العدو نحو حصون الشرقية، وكانت في صلحه فاستولى على تلك الحصون كلها، وفي سنة 894 خرج نحو حصن موجر فاستولى عليه وعلى الحصون القريبة منه ومن مدينة بسطة.
وكان صاحب قشتالة كثيرا ما يستعين بالمرتدين والمدجنين على قتال المسلمين يدلونه على عوراتهم، ولطالما أمر بهدم المدن والقرى التي يستولي عليها يبني بأنقاضها مسورات في بضعة أيام كما فعل في غرناطة، ومن جملة الشروط التي شرط أهل غرناطة على ملك قشتالة: أن يؤمنهم في أنفسهم ونسائهم وصبيانهم ومواشيهم ورباعهم وجناتهم ومحارثهم وجميع ما بأيديهم، ولا يغرمون إلا الزكاة والعشر لمن أراد الإقامة ببلدة غرناطة، ومن أراد الخروج منها يبيع أصله بما يرضاه من الثمن لمن يريده من النصارى والمسلمين من غير غبن، ومن أراد الجواز لبلاد العدوة بالغرب يبيع أصله، ويحمل أمتعته، ويحمله في مراكبه إلى أي أرض أراد من بلاد المسلمين من غير كراء ولا شيء يلزمه لمدة ثلاث سنين، ومن أراد الإقامة من المسلمين بغرناطة فله الأمان على نحو ما ذكر، وكتب لهم بذلك كتابا، وأخذ عليه عهودا ومواثيق في دينه مغلظة، وبعد ذلك أخلى المسلمون مدينة الحمراء كما أخلوا غرناطة، ودخلها الإسبانيون، ولما سمع أهل البشرة أن أهل غرناطة دخلت تحت ذمة النصارى أرسلوا بيعتهم إلى ملك الروم، ودخلوا في بيعته، فلم يبق للمسلمين موضع بالأندلس.
ولقد صرح صاحب قشتالة للمسلمين بالجواز إلى الساحل، فصار كل من أراد الجواز يبيع ماله ورباعه ودوره، فكان الواحد يبيع الدار الكبيرة الواسعة المعتبرة بالثمن القليل، وكذلك يبيع جنانه وأرض حرثه وكرمه وفدانه بأقل من ثمن الغلة التي كانت فيه، فمنهم من اشتراه منه المسلمون الذين عزموا على الدجن، ومنهم من اشتراه منه النصارى، وكذلك جميع الحوائج والأمتعة، ومن المسلمين من ظلموا في عناية ملك النصارى بهم فاشتروا أموالا رخيصة وأمتعة، وعزموا على المقام في الأندلس.
ثم إن الملك أمر الأمير محمد بن علي بالانصراف من غرناطة إلى قرية أندرش من قرى البشرة، فارتحل بعياله وحشمه وأمواله وأتباعه، ثم ظهر له أن يصرفه فبعث للمراكب تأتي لمرسى عذرة، واجتمع معه خلق كثير ممن أراد الجواز، فركب الأمير محمد ومن معه في تلك المراكب حتى نزلوا مدينة مليلة ففاس من عدوة المغرب.
وأخذ ملك الإسبان بعد حين ينقض الشروط التي اشترطها عليه المسلمون، وشرع يفرض عليهم الفروض، وثقلت عليهم المغارم، وقطع لهم الأذان، وأمرهم بالخروج من مدينة غرناطة إلى الأرباض والقرى، وبعد ذلك دعاهم إلى التنصر وأكرههم عليه، وذلك سنة أربع وتسعمائة فدخلوا في دينه كرها، وصارت الأندلس كلها نصرانية، وامتنع بعض أهل الأندلس من التنصر كأهل قرية ونجر والبشرة وأندرش وبلفيق فأحاط بهم ملك قشتالة وقتل رجالهم وسبى نساءهم وأخذ صبيانهم وسلب أموالهم ونصرهم واستعبدهم، وامتنع أناس في غربي الأندلس من التنصر، وانحازوا إلى جبل وعر منيع، فلما امتنعوا عليه وقاتلهم فلم ينل منهم منالا أعطاهم الأمان على أن يجوزهم لعدوة المغرب مؤمنين على أن لا يسرح لهم شيئا من أموالهم غير الثياب التي كانت عليهم، وجوزهم لعدوة المغرب كما شرطوا، ولم تقم للإسلام والمسلمين بعد ذلك قائمة.
قال السلاوي: التزم أهل غرناطة طاعة صاحب قشتالة لما استولى عليها سنة سبع وتسعين وثمانمائة، والبقاء تحت حكمه، ولما نقض الشروط وهي سبعة وستون شرطا عروة عروة ومنها شريعة المسلمين على ما كانت، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، إلى أن آل الحال لحملهم على التنصر فتنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وكان أهل الأندلس كثيرا ما يهاجرون إلى بلاد الإسلام غير أن عامتهم كانوا قد تخلقوا بأخلاق العجم (غير العرب من الإسبان) وأثر فيهم ذلك أثرا ظاهرا؛ لطول صحبتهم لهم، ونشأة أعقابهم بين أظهرهم إلى أن كانت سنة ست عشرة وألف فهاجر جميع من لم يتنصر منهم إلى بلاد المغرب وغيرها، وفي خلال ذلك منع العرب من التكلم بالعربية.
1
قال المقري: كان النصارى بالأندلس قد شددوا على المسلمين بها في التنصر حتى إنهم أحرقوا منهم كثيرا بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغير فضلا عن غيرها من الحديد، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارا، ولم يقيض الله لهم ناصرا إلى أن كان إخراج النصارى إياهم أعوام سبعة عشر وألف؛ فخرجت ألوف بفاس، وألوف أخر بتلمسان ووهران، وخرج جمهورهم بتونس، وخرج طوائف بتطاوين وسلا والجزائر، وعمروا القرى، واغتبط بهم الناس، وتعلموا حرفهم، وقلدوا ترفهم
2
ووصل جماعة منهم إلى القسطنطينية وإلى مصر والشام، وغيرها من بلاد الإسلام.
صفحة غير معروفة