الفتوحات المكية في معرفة الاسرار الملكية

ابن عربي الشيخ الأكبر ت. 638 هجري
36

الفتوحات المكية في معرفة الاسرار الملكية

الناشر

دار إحياء التراث العربي

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

1418هـ- 1998م

مكان النشر

لبنان

وصل : ولا يحجبنك أيها الناظر في هذا الصنف من العلم الذي هو العلم النبوي الموروث منهم صلوات الله عليهم | إذا وقفت على مسألة من مسائلهم قد ذكرها فيلسوف أو متكلم أو صاحب نظر في أي علم كان ، فتقول في هذا القائل الذي | هو الصوفي المحقق إنه فيلسوف لكون الفيلسوف ذكر ذكر تلك المسألة وقال بها واعتقدها وأنه نقلها منهم أو أنه لا دين | له ، فإن الفيلسوف قد قال بها ولا دين له ، فلا تفعل يا أخي فهذا القول قول من لا تحصيل له ، إذ الفيلسوف ليس كل علمه | | باطلا ، فعسى تكون تلك المسألة فيما عنده من الحق ولا سيما إن وجدنا الرسول عليه السلام قد قال بها ، ولا سيما فيما | وضعوه من الحكم والتبري من الشهوات ومكايد النفوس وما تنطوي عليه من سوء الضمائر ، فإن كنا لا نعرف الحقائق | ينبغي لنا أن نثبت قول الفيلسوف في هذه المسألة المعينة وأنها حق ، فإن الرسول [ & ] قد قال بها أو الصاحب أو مالكا أو | الشافعي أو سفيان الثوري ، وأما قولك إن قلت سمعها من فيلسوف أو طالعها في كتبهم فإنك ربما تقع في الكذب | والجهل ، أما الكذب فقولك سمعها أو طالعها وأنت لم تشاهد ذلك منه ، وأما الجهل فكونك لا تفرق بين الحق في تلك | المسألة والباطل ، وأما قولك إن الفيلسوف لا دين له فلا يدل كونه لا دين له على أن كل ما عنده باطل وهذا مدرك بأول | العقل عند كل عاقل ، فقد خرجت باعتراضك على الصوفي في مثل هذه المسألة عن العلم والصدق والدين ، وانخرطت | في سلك أهل الجهل والكذب والبهتان ونقص العقل والدين وفساد النظر والانحراف ، أرأيت لو أتاك بها رؤيا رآها هل | كنت إلا عابرها وتطلب على معانيها ، فكذلك خذ ما أتاك به هذا الصوفي واهتد على نفسك قليلا وفرغ لما أتاك به محلك | حتى يبرز لك معناها أحسن من أن تقول يوم القيامة ^ ( قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ) ^ [ الأنبياء : 97 ] فكل | علم إذا بسطته العبارة حسن وفهم معناه أو قارب وعذب عند السامع الفهم فهو علم العقل النظري لأنه تحت إدراكه ، ومما | يستقل به لو نظر إلا علم الأسرار فإنه إذا أخذته العبارة سمج واعتاص على الإفهام دركه وخشن ، وربما مجته العقول | الضعيفة المتعصبة التي لم تتوفر لتصريف حقيقتها التي جعل الله فيها من النظر والبحث ، ولهذا صاحب العلم كثيرا ما | يوصله إلى الأفهام بضرب الأمثلة والمخاطبات الشعرية .

وأما علوم الأحوال فمتوسطة بين علم الأسرار وعلم العقول . وأكثر ما يؤمن بالعلم الأحوال أهل التجارب وهو إلى | علم الأسرار أقرب منه إلى العلم النظري العقلي ، لكن يقرب من صنف العلم العقلي الضروري بل هو هو ، لكن لما كانت | العقول لا تتوصل إليه إلا بأخبار من علمه أو شاهده من نبي أو ولي لذلك تميز عن الضروري لكن هو ضروري عند من | شاهده ، ثم لتعلم أنه إذا حسن عندك وقبلته وآمنت به فأبشر إنك على كشف منه ضرورة وأنت لا تدري لا سبيل إلا هذا ، | إذ لا يثلج الصدر إلا بما يقطع بصحته وليس للعقل هنا مدخل لأنه ليس من دركه إلا إن أتى بذلك معصوم حينئذ يثلج | صدر العاقل ، وأما غير المعصوم فلا يلتذ بكلامه إلا صاحب ذوق .

فإن قلت : فلخص لي هذه الطريقة التي تدعي أنها الطريقة الشريفة الموصلة السالك عليها إلى الله تعالى وما تنطوي | عليه من الحقائق و المقامات بأقرب عبارة وأوجز لفظ و أبلغه حتى أعمل عليه ونصل إلى ما ادعيت انك توصلت إليه ، | و بالله أقسم اني لا آخذه منك على وجه التجربة والاختبار وإنما آخذه منك على الصدق ، فإني قد حسنت الظن بك إحسان | قطع ، إذ قد نبهتني على حظ التجربة ما أتيت به من العقل ، و إن ذلك مما يقطع العقل بجوازه و إمكانه أو يقف عنده من غير حكم | معين ، فشكر الله لك ذلك ، وبلغك آمالك ، ونفعك ونفع بك .

صفحة ٧١