ليست الألفاظ - إذن - أدوات نستعين بها على الحياة، ولكنها في ذاتها جزء من الحياة، بل إن الألفاظ حية أبدا لا تعرف الموت، وما ماتت إلا على صفحات المعجم؛ فجامع المعجم يحدد لك معنى اللفظ تحديدا قاطعا، ويحسب أنه بذلك قد حنطها وخلفها مضمونة من العبث في صندوق من زجاج، فما يروعه - وقد مضى على معجمه عشرون عاما - إلا أن يرى سواه قد اضطلع بجمع معجم آخر؛ لأن الألفاظ التي ماتت و«حنطها» قد دبت فيها الحياة وهو لا يدري، فطرأ عليها ما يطرأ على الكائنات الحية جميعا من تغير وتحول، ومن هنا مست الحاجة إلى معجم جديد. ومن ذا يريد لنفسه أن يقرأ عن فلان أنه ذهب في «سيارة» إلى داره، فيخامره الشك أن تكون السيارة المقصودة قافلة من الإبل لأن ذلك ما يريده لنا المعجم؟ الألفاظ كائنات حية تولد وتنمو وتتغير وتفنى كسائر الكائنات الحية، ومنها ما يبلغ فيه التحول حدا بعيدا بحيث يصبح من المعنى السابق كالنقيض من نقيضه، ونسوق لهذا مثالا كلمة إنجليزية هي «توري»
Tory ، فقد ظلت تعني حتى سنة 1680م مارقا سفاكا، ثم أخذت تتحول رويدا رويدا حتى باتت تطلق اليوم على أكثر الناس احتراما وأشدهم رعاية للقانون والنظام. ألست ترى إلى الفلاسفة يشكون مر الشكوى أن ألفاظ اللغة لا تذعن لهم ولا تستقر في أيديهم، فما تنفك قلبا حولا، وهم يريدونها ثابتة جامدة؛ لتصلح للتعبير عن أفكارهم المجردة التي تتصف بالدوام والثبوت؟ الفيلسوف في حقيقة الأمر لا ينشد ضالته في ألفاظ اللغة؛ لأنها لا تسعفه في مسايرة أفكاره، فهي متغيرة تغير المادة الحية، وأفكاره ثابتة؛ لأنها مجردة عن المادة. إنه يريد رموزا تعبر له عن آرائه العارية الخالصة؛ لأن الرأي الخالص العاري لم يخلق للألفاظ ولم تخلق له الألفاظ، إذ هي تحمل في تضاعيفها إلى جانب الفكرة المجردة الخالصة عددا يقل أو يكثر من الذكريات والعواطف والمشاعر، وكلها شراك وفخاخ يخشاها الفيلسوف؛ لأن فكرته إفراز عقلي خالص، لا تشوبه شائبة من عاطفة أو شعور؛ فإن أراد الرياضي - مثلا - أن يحدد العلاقة المجردة بين ضلعي مثلث تساوت ساقاه، فهو لا يريد لعاطفته أن تتدخل في مجرى تفكيره ليتحزب لضلع دون ضلع، ولا يحب لعينيه أن تفتنا بجانب وتنفرا من جانب؛ ولذلك تراه لا يطلق على أضلاع مثلثه ألفاظا؛ خشية أن تحمل اللفظة أكثر مما يراد لها أن تحمل، وهو يتحوط للأمر ويميز الأضلاع برموز تحددها، ولا تضيف إلى ذلك التحديد شيئا آخر، فيقول عن هذا «أ ب» وعن ذاك «أ ج». وحيثما استطاع الفيلسوف أن يصطنع من الرموز ما اصطنعه إقليدس في الهندسة، سارع إلى ذلك فرحا مغتبطا؛ لأن الرموز مؤتمنة على نقل المعاني المحدودة البينة، فهي ميتة لا حياة فيها. أما ألفاظ اللغة الحية فأداة خطيرة في نقل المعاني، إن أردت لمعانيك تحديدا لا يعرف الغموض وثباتا لا يقبل التغير.
ولا تحسبن أننا وحدنا قد احتكرنا لأنفسنا الحق في نفخ الحياة السارية في ألفاظ اللغة بما ندسه فيها من تجارب حياتنا؛ فقد تداول أسلافنا هذه الألفاظ، وكان كل إنسان في كل مرة يستخدم فيها لفظا من الألفاظ، يبث في ثناياها شيئا من المعنى، فكلما أمعنت الكلمة في القدم، أو كلما ازدادت الكلمة تداولا، كانت أثقل شحنة بتجارب الناس في حيواتهم، أو بعبارة أخرى كانت أملا بحياة الذين اتخذوها أداة للتعبير عما في نفوسهم. هكذا تفعم اللفظة بالحياة كما عاشها الناس، تتداولها الأجيال المتعاقبة، فيقطر فيها كل جيل تجاربه الخاصة من حياته الخاصة، وكأنما يتخذ من الفكرة الكامنة في حنايا اللفظة مشجبا يعلق عليه هذه التجارب التي بثها إياها. أتظن -مثلا - أن «الناقة» تعني لساكن البادية ما تعنيه لساكن الحضر؟ أكانت تثير كلمة «الحرية» عند المصريين القدماء ما تثيره فينا اليوم؟ أم ترى أن الألفاظ تختلف خلاء وامتلاء باختلاف الظروف؟ لقد كانت «الجبال» عند أهل القرن الثامن عشر من الإنجليز تعني هضبة ناهضة على صدر الأرض، يضطرب لها خط الأفق، فيضطرب في إثره قلب المسافر المسكين، فلا يظل على بشره ورجائه، إذ ربما اعترضته في طريقه فألزمته أن يجاهد لاهثا في صعودها وهبوطها، لكن «الجبال» تبدلت عند أهل القرن التاسع عشر، فأصبحت محاريب الطبيعة الشامخة بأنفها إلى السماء، وباتت مهبط الوحي وملاذ المكروب بجمالها الفتان، وكان «الدكتور جونسن» هو الذي طبع الكلمة في القرن الثامن عشر بطابعه، ووسمها بميسم تجاربه؛ فجاءت من البشاعة بما رأيت، وكان «وردزورث» هو الذي نفث في الجبال سحرها في القرن التاسع عشر، فأصبحت بفضله مجتلى للفن والجمال.
فليست الفظة إذن رمزا يشير إلى فكرة ومعنى فحسب، بل هي نسيج متشعب من صور ومشاعر أنتجتها التجربة الإنسانية، وبثت في اللفظة فزادت معناها خصبا وحياة؛ فإن رأيت رجلا غنيا بألفاظه فاعلم أنه لذلك أوسع حياة من سواه، وإن رأيت رجلا قديرا على استخراج المعاني من ألفاظها فاعلم أنه أيضا أعمق حياة من سواه. وأول طابع يميز الشاعر من سائر الناس قدرته على أن يستخرج من اللفظة المعينة عددا من المعاني يعجز عن استخراجه سائر الناس. للألفاظ تأثير عجيب في الشاعر؛ فهي تتفجر في نفسه كأنها القنبلة المشحونة، فتخرج كل ما تحتويه في جوفها من صور ومشاعر وتجارب؛ أعني أنها تنحل في نفس الشاعر، فتخرج مكنونها الذي اختزنته على مر الدهور؛ فكل لفظة عند الشاعر مستقلة بوجودها متميزة بشخصيتها، تختلف عن كل لفظة أخرى في خصائصها وسماتها. ولنضرب لذلك مثالا يوضح ما نريد: لقد رووا أن الخنساء سمعت في عكاظ حسان بن ثابت يقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقالت الخنساء في نقده: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع. قال: وكيف؟
قالت: قلت «لنا الجفنات» والجفنات ما دون العشر فقللت العدد، ولو قلت «الجفان» لكان أكثر. وقلت «الغر» والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت «البيض» لكان أكثر اتساعا . وقلت «يلمعن» واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت «يشرقن» لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت «بالضحى» ولو قلت «بالعشية» لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقا. وقلت «أسيافنا» والأسياف دون العشر، ولو قلت «سيوفنا» كان أكثر. وقلت «يقطرن» فدللت على قلة القتال، ولو قلت «يجرين» لكان أكثر لانصباب الدم. وقلت «دما» و«الدماء» أكثر من الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك. وهذا يدلك على الفروق الدقيقة بين الألفاظ عند الشعراء.
صفحة غير معروفة