مما ينفعنا في الإجابة عن هذا السؤال أن ننظر إلى المسرح ومناظره، فهما عامل قوي يوجه الرواية المسرحية إلى خير جماعة تختارها موضوعا لتمثيلها، فافرض أنك في مسرح في مدينة القاهرة، تمثل عليه رواية تقع حوادثها في غرفة الاستقبال من منزل في لندن، فماذا تتوقع أن ترى؟ تتوقع أن ترى مناضد ومقاعد وما إليها، مما يصح أن يكون في غرفة الاستقبال من بيت إنجليزي، وعلى الرغم من يقينك بأن هذه المناضد والمقاعد التي تشاهدها على المسرح، لم تكن قط في بيت في لندن، فأنت توقن كذلك أنها تماثلها وتحاكيها، وإذا فالمسرح يحاول أن يكون بين أشيائه وبين الأشياء التي يمثلها شبه كالذي بين الأصل وصورته، أو بعبارة أخرى، يميل المسرح، بما عليه من أشياء، أن يكون واقعيا يصور الحقيقة كما هي، ثم تجيء المناظر المرسومة والستائر فتزيد من هذه النزعة الواقعية. وتاريخ المسرح من أوله إلى آخره، يتلخص في جهاده المتصل أن يقرب من تصوير الواقع جهد المستطاع، فتراه يصطنع الوسيلة إثر الوسيلة، مما يدنو به من هذه الواقعية المنشودة. وقد حقق المسرح ما ينشده من تصوير الواقع، تحقيقا بلغ أقصى مداه في المناظر، التي تمثل البيئة الاجتماعية المباشرة كالمنازل والشوارع، وبواطن الدور والمباني، كتصويره لغرف البيوت أو الفنادق، وللمكاتب والمتاجر، وقد ساعده على النجاح في تمثيل هذه الأماكن المغلقة، أنه بحكم هندسته يشبه الغرفة أو المكتب، أو المتجر بجدرانه الثلاثة التي يقع عليها بصر الرائي.
نتج عن هذا كله ميل طبيعي في المسرح نحو الواقعية فيما يمثله، أضف إلى ذلك ميل المسرحية بطبيعتها أن تعالج الشئون الاجتماعية، أعني شئون الإنسان باعتباره عضوا في جماعة، وأن تكون هذه الجماعة واقعة ملموسة كالأسرة، أو المدينة، أو القرية، أو الطائفة التي ينتمي إليها الفرد، وما إلى ذلك، فتصور المسرحية ما يقع من صدام بين الفرد وتقاليد الأسرة، كأن تمثله وقد أفلت من والديه ليؤسس أسرة لنفسه، أو تمثله وقد أراد أن يظفر بزوجة رجل آخر وما شابه ذلك. وكذلك تصور المسرحية ما يقع من صدام بين الفرد وطائفته التي ينتمي إليها، أو جماعته التي هو عضو فيها، كأن تمثله يعمل حيث تقضي التقاليد الدينية أن يقف العمل، أو تمثله صاخبا بالحديث في حجرة المطالعة العامة، حيث القراء يريدون الصمت، أو يلبس الجلباب حيث يجب أن يلبس غيره، أو يخلع الطربوش في وقت لا بد فيه أن يلبسه وهكذا. هذه أمثلة قليلة من الخلاف الذي يقع بين الفرد وما يحيط به من أفراد المجتمع، في منزله أو في ناديه أو في مكان عمله. وصفوة القول أن المسرح يعمل على تمثيل الحياة كما تبدو، ولاحظ أن هناك فرقا بين الحياة كما تبدو للعين وبينها على حقيقتها، والمسرح يهتم بها كما تتراءى وتبدو بغض النظر عن حقيقتها، هو يأخذ الأشياء بظواهرها لا بحقائقها الكامنة وراء تلك الظواهر، أي أنه يصور الحياة من السطح لا من الأغوار والأعماق، فهو مثلا يمثل السلوك الظاهر، ولا شأن له بمبادئ الأخلاق الكامنة وراء هذا السلوك، ويقف عند تقاليد المجتمع وأوضاعه، ولا يأبه بمشكلات الكون الكبرى. وبعبارة أخرى فإن المسرحية ملزمة - بحكم استخدامها للمسرح وأدواته - أن تتجه اتجاها واقعيا، وإن هذه الواقعية لتزداد شيئا فشيئا، كلما سارت المسرحية في طريق التطور، وكلما ازدادت في تطورها وواقعيتها، تبع ذلك ازدياد في ميلها إلى الملاهي دون المآسي، فالسير في طريق الواقعية يوازيه حتما رجحان الملهاة على المأساة، وذلك ما وقع فعلا في تاريخ الرواية المسرحية، فالكثرة العظمى مما يخرجه أدباؤنا اليوم من المسرحيات ملاه. وارجع ببصرك إلى بدء الرواية المسرحية في تاريخ الآداب الأوروبية، تجد للمأساة الرجحان، ثم تعادلتا أيام النهضة الأوروبية، ثم أخذت الملهاة تطغى على زميلتها وتسود. ومن الخطل أن نعلل هذه الظاهرة بأننا اليوم أقل جدا وأكثر هزلا من أسلافنا، والتعليل الصحيح إنما يلتمس في طبيعة المسرحية ذاتها. فهذا التحول نتيجة لا مندوحة عنها لما طرأ على المسرحية من تغير، وبخاصة صناعة المسرح نفسه وإعداده بأدواته.
وتتضح العلاقة بين الملهاة والواقعية، إذا عرفنا الفروق بين الملهاة والمأساة، فقد رأينا فيما سلف أن الرواية المسرحية تمثل صراعا، والصراع إما أن ينتهي بالنصر أو بالفشل (لأن التعادل الذي لا هو إلى النصر ولا هو إلى الفشل، ليس نهاية لموضوع الخلاف، بل هو تسويف وإرجاء لصراع آخر). فأما المسرحية التي تنتهي بفوز البطل - والفوز عادة ظفر بزواج امرأة يحبها - فملهاة، وأما التي تنتهي بفشله - والفشل عادة يقتضي موته - فمأساة. على أن العبرة ليست بالنهاية وحدها، وإلا لكانت المأساة والملهاة كلتاهما سواء في سائر الأجزاء، حتى الفصل الذي يسبق الأخير، فإن كان الفصل الأخير فوزا للبطل كانت ملهاة، وإن كان فيه قضاؤه كانت مأساة. فالخاتمة في الحقيقة نتيجة لازمة للفصول السابقة كلها، وفيها العقاب أو الثواب الذي يترتب على سلوك البطل في مجرى الرواية كلها، ولو أراد المسرحي لبطل الرواية أن يموت في نهايتها، فحتم عليه أن يرتب الحوادث ترتيبا محكما، بحيث يجيء الموت نتيجة طبيعية، لا تثير العجب والاستنكار.
ماذا يحدث إذ نقصد إلى المسرح لنشاهد فيه مأساة؟ إننا ندفع أجرا لقاء «متعة»، نرقبها من رؤية منظر فيه الأسى وفيه الموت! ترى أيكون ذلك منا حمقا لا يبرره العقل السليم؟ لننظر إلى الأمر عن كثب، نحن ندفع أجر الدخول، ونستوي في مقاعدنا، ويرفع الستار ويقدم لنا المسرحي بطل الرواية، رجلا ليس لنا به صلة كائنة ما كانت، لكن المسرحي سرعان ما يستميلنا بفنه، فلا تكاد تمضي الرواية في حوادثها قليلا، حتى يكون البطل قد تسلل إلى قلوبنا، واحتل من نفوسنا مكانة، كأننا معه على ود قديم، ثم تمضي الرواية ونزداد بالبطل إعجابا، حتى إذا ما بلغ حبنا له وإعجابنا به أقصى الحدود، أخذ المسرحي نفسه يتسلل وراء البطل خفية، ثم يضربه الضربة التي تقضي عليه، ويكون في ذلك الختام. فكيف نحتمل مثل هذه الفجيعة تقع على مرأى منا فوق المسرح! لماذا لا يحدث للنظارة وقد أوذيت في شعورها، أن تنهض من فورها ثائرة تصب لعناتها على المسرحي الذي لم يعرف قلبه الرحمة، وظن النظارة في مثل فظاظته وغلظة قلبه؟ أم ترى المؤلف المسرحي يفترض أننا بغرائزنا نستمتع بموت من أحببناه وأعجبنا به؟ ولو لم يكن ذلك لما اقتضانا أجرا ولما دفعناه، اللهم إن كان هذا شأن المأساة فما أغنانا عن رؤية الفجيعة لقاء مال ندفعه! لكن المأساة ليس هذا شأنها، وما أصاب رجال النقد الذين زعموا أن المأساة والملهاة متشابهتان كل التشابه في مجرى الحوادث، ولا تختلفان إلا في الختام، فقد زعموا أن ما يصلح ملهاة قد يصلح مأساة، لو تغيرت الخاتمة وحدها، لكننا لا نذهب معهم فيما ذهبوا إليه، ونحتم أن يجيء موت البطل في المأساة نتيجة طبيعية لمجرى الحوادث، حتى لا نصدم النظارة في شعورهم. يجب أن يشعر هؤلاء النظارة أن موت بطلهم، الذي ظفر منهم بالحب والإعجاب، لم يكن عنه محيص؛ لأنه - كما يرون - جزاء وفاق لما قدمت يداه، وليس هو بالعقاب الظالم المفاجئ الذي لا تبرره المقدمات، فمنذ بداية الرواية يضع المؤلف المسرحي عنصرا أو مجموعة عناصر، ثم يدعها تفعل فعلها وتسير سيرها المنطقي الصارم المحكم الدقيق، فإذا بها تنتهي إلى ختامها الطبيعي وهو موت البطل، تلك هي المأساة الجيدة عندنا، وخير مقياس تحكم به على جودة المأساة، أن ترى هل تحقق عند مشاهديها الشعور، بأن موت البطل محتوم بحكم الحوادث، فإن فعلت جادت، وإلا فاحكم عليها بالضعف والفشل. لو شعرت لحظة واحدة وأنت تشاهد مأساة، أنك تود لو نهضت من كرسيك لتنقذ البطل من موقفه، فاعلم أن المأساة ضعيفة فاشلة. فمثلا قد يصيح مشاهد إذ يرى روميو قد هم بقتل نفسه، إلى جانب ما ظنها جثة حبيبته جوليت، أقول قد يصيح مشاهد في مكانه محذرا روميو ألا يتم فعلته؛ لأن جوليت في حالة من التخدير وليست بميتة، فتكون هذه الصيحة نقدا سليما، نوجهه إلى رواية شيكسبير «روميو وجوليت»؛ لأن هذا الصائح لم يحس من أعماق نفسه، أن روميو سيموت نتيجة لازمة لما قدمت يداه، بل شعر أنه موت ظالم وقع في غير موضعه، وإن كان هذا هكذا فالرواية ضعيفة بغير شك من هذه الناحية. إننا نعترف أن «روميو وجوليت» مترعة بألوان السحر الفني، الذي لا يستطيعه إلا شاعر في عظمة شيكسبير ونبوغه، لكنها من حيث هي مأساة فيها ضعف لا شك فيه، مصدره هذا الشعور الذي أشرنا إليه، وهذا الشعور إنما نشأ عن ضعف في منطق الحوادث، أدى إلى نتيجة لا تلزم حتما هذه المقدمات. الموت في ختام هذه الرواية ليس وليد الحوادث نفسها، إنما هو ضربة من القدر شاءتها المصادفة، وربما شاءت سواها، وقد أدرك ذلك شيكسبير - وهو الفنان العبقري - فأدخل في فنه عنصر «القدر»؛ ليسعفه بموت البطل، حيث لا تسعفه حوادث الرواية نفسها. لكننا اليوم إذ نشاهد رواية لشيكسبير فيها إصبع القدر، لا نعترف بهذا العامل الدخيل، على أنه جزء من طبائع الأشياء؛ لأنه في رأينا اليوم اسم آخر يطلق على المصادفة العمياء التي تقع لغير سبب ظاهر. وفي رواية «روميو وجوليت» يلجأ شيكسبير إلى حيلة فنية أخرى، يخفف بها من وقع الموت المفاجئ على النظارة، وهي إصلاح ذات البين بين الأسرتين المتخاصمتين - الأسرة التي منها روميو والأسرة التي منها جوليت - لعل هذا الوئام بين أسرتي الشهيدين يشفع له عند نظارته، لكنه في الحق عوض ضئيل، إذا قيس إلى الفاجعة الأليمة.
يشترط لخاتمة المأساة أن تكون نتيجة لازمة لطبائع الأشياء ، حتى يشعر المشاهدون أنها متفقة مع ما يسود الكون كله من سببية مطردة لا تتخلف، فإن وقعت الأسباب فلا مناص من وقوع المسببات في أثرها. لا يجوز أن يجيء موت البطل في النهاية بفعل المصادفة، التي لا تجد مبرراتها في فصول الرواية، بل يجب أن تصعد الحوادث بعقول النظارة خطوة فخطوة، حتى تبلغ ذروة مرتكزة على الماضي كله. هنالك مآس يموت أبطالها بفعل حوادث عارضة أو عوامل مؤقتة، فلا شك في أن هذه المآسي معيبة لم يكمل فنها، إذ أعوزها شعور المشاهد بأن القوانين التي تتحكم في حوادثها هي نفسها القوانين التي يسير بمقتضاها الكون كله، فقد يموت البطل مثلا في حادثة تصدمه فيها سيارة فتقضي عليه، ومثل هذه الحادثة مما يقع في الحياة، ويستدر العطف والإشفاق، ومع ذلك فلا يجوز للمؤلف المسرحي أن يختارها نهاية لبطله؛ لأنها تشعر بعامل المصادفة الذي لا ينساق مع قوانين الكون، اللهم إلا إن كان المشاهد ممن يعتقدون أن اصطدام السيارة نتيجة ترتبت على ألوف الحوادث قبلها، فمنذ الساعة الأولى التي رصفت فيها الطريق، ومنذ الطرقة الأولى في صناعة السيارة، ومنذ اليوم الأول في حياة البطل، ودقائق الحادثات تجري على صورة معينة من شأنها أن تؤدي، في لحظة معينة، إلى أن تصدم السيارة البطل في هذا المكان. نقول إنه بغير هذه العقيدة - وهي بعيدة عن معظم المشاهدين - لن يسعك إلا أن ترى في موت الرجل تحت عجلات السيارة خروجا على المألوف وشذوذا في القانون ونتيجة لا تلزم طبائع الأشياء. وإذا فمأساة كهذه ضعيفة في فنها.
تلك هي المشكلة في كثير من المآسي الحديثة التي تؤثر في الأعم الأغلب أن تختار موضوعها ما بين الفرد وموقفه الاقتصادي من تعارض وصراع. وخير مثل يساق لذلك روايات «جولز ورذي»، فلو جعلت تحس وأنت تشاهد الرواية أن النظم الاقتصادية والقضائية القائمة، التي يصارعها البطل فتصرعه في النهاية - لو جعلت تحس أن هذه النظم رغم ما يبدو أنها مؤقتة عرضية قد تتغير وتتبدل ، ضاربة بجذورها في طبائع الأشياء الثابتة الدائمة - كانت المأساة جيدة لا غبار عليها ولا عيب فيها، لكنك لا تحس هذا الإحساس في المآسي الحديثة، بل إن المؤلف المسرحي نفسه يعرض عليك في رواياته هذه النظم الفاسدة التي تصرع الأفراد، ليستحثك على إصلاحها وتغييرها، وما دمت قد شعرت أن الأسباب التي انتهت بمصرع البطل عرضية عابرة، لا تمت إلى نظام الكون المطرد وقوانينه الدائمة الصارمة التي لا تتخلف، كانت المأساة معيبة في فنها. نعم قد تستدر منك العطف والإشفاق، لكنها مع ذلك يعوزها «العنصر الكوني»، أي يعوزها العنصر الذي يوحي إلى المشاهد أنه يرى قطعة تأتلف مع نواميس الكون، ليس بينها وبينه نبو ولا نشاز. ولسنا نريد بهذا أن نزعم أن ظروفا معينة، أو موضوعا معينا، يستعصي على الفنان فلا يمكنه من معالجته على نحو يجعله «كونيا»، كما ينبغي له أن يكون إذا قصد به إلى الكمال الفني - وفي هذا قدرة الفنان ونبوغه - إنما أردنا أن نوضح قاعدة للحكم على المأساة بجودة الفن أو ضعفه، فليس أصحاب المآسي الحديثة من الفنانين المجيدين، تطبيقا لهذه القاعدة، هم يعالجون المشكلات الاجتماعية حقا، يشخصون الداء ويصفون الدواء، فينتفع بهم نظام المجتمع، فإن استحقوا على مجهودهم الجزاء، فإنما هو الجزاء الذي نقدمه لمن ينفعنا في أخلاقنا وبنائنا الاجتماعي، وليس هو بالجزاء الذي يستحقه الفنان القدير في فنه. ونعود فنقرر الفكرة من جديد ترسيخا لها في الأذهان، وهي أن مآسي «إبسن» ومن لف لفه من رجال الرواية المسرحية في عصرنا الحديث، وهم جميعا يعالجون في مسرحياتهم مشكلات اجتماعية، ويبينون أن للنظم القائمة كثيرا من الضحايا لاضطرابها وفسادها. مآسي «إبسن» ومن لف لفه قد تعد جيدة، لو اعتبرت البيئة الاجتماعية بنظامها الراهن جزءا من نظام الكون ليس لنا برده قبل، أو بعبارة أخرى لو كنت قدريا، يؤمن بأن كل أوضاع الحياة من فعل القضاء الذي لا راد له، عندئذ تشاهد المأساة وتشهد البطل صريعا أمام هذه النظم الاجتماعية، فتدرك أنه هزم أمام قوة تشتمل الكون كله، فتكون المأساة جيدة سليمة. أما إذا نظرت إلى النظم الاجتماعية، نظرتك إلى الأشياء العرضية السطحية العابرة، التي كان يمكن اجتنابها، والتي لا يزال في وسعنا أن نصلح فيها كما نريد، فليست المآسي الحديثة من جودة الفن في شيء.
وليس لختام الملهاة كل هذا الخطر، الذي عزوناه إلى ختام المأساة؛ لأن الملهاة لا تخلص إلى نهاية يكون الأمر فيها موتا أو حياة، وكذلك تقل في نظرنا أهمية العوامل والقوى، التي تتفاعل في مجرى الرواية وتؤدي إلى الخاتمة، تقل في الملهاة عنها في المأساة. الحوادث في الملهاة أقل شأنا وأخف وزنا منها في المأساة، فلو صورت لنفسك بطل المأساة وقد وقف أمام محكمة القدر، تطوح به هنا وهناك جريا على قوانين الكون الثابتة، فلك أن تتصور بطل الملهاة رجلا تفصل في أمره جماعة النادي؛ لتقبله عضوا بين أعضائها أو لا تقبله، فالملهاة تختار الحوادث السطحية التافهة الخفيفة، وتترك للمأساة الحوادث العميقة الجادة ذات الخطر البعيد. الملهاة تنظر في الرجل، هل تخول له عاداته وصفاته، أن يكون عضوا في ناد أو لا يكون، والمأساة تنظر في الرجل هل يقضى عليه بالموت لما قدمت يداه أو لا يقضى. فمن شأن الملهاة أن تعالج من الأشخاص عاداتهم، التي قد تتفق أحيانا مع أوضاع المجتمع وقد تتعارض أحيانا، ولكنها على كل حال لا تضم الشرف ولا تمس صميم الأخلاق، من شأنها أن تصور من الأشخاص جوانبهم، التي تجعلهم مصادر شغب في المجتمع، لكنها لم تبلغ من العمق والجد حدا يجعلهم بين المجرمين الآثمين، فإن كان بين بطل الملهاة وبين المجتمع الذي يحيط به صراع وتضارب، فمن أجل هذه التوافه، فهو يثرثر والناس يريدون الهدوء والصمت، وهو يشمخ بأنفسه والناس يريدون التواضع، ففي مثل هذا التعارض بين الصفات السطحية الخارجية للشخص، وبين نظم المجتمع العرضية المتغيرة العابرة، يكون موضوع الملهاة. العالم الذي تتحرك فيه الملهاة تسيره التقاليد، وأما العالم الذي تتحرك فيه المأساة، فتسيره القوانين الطبيعية التي لا تتخلف، فليس هناك قانون كوني صارم، يحتم أن تنطق حرف القاف في مثل «قلم» ألفا أو جيما، لكن إن تواضع القوم على نطقه ألفا وجاء رجل ينطقه بالجيم، كان في ذلك تعارض بين عاداته وبين الجماعة التي هو عضو فيها، وفي مثل هذا التعارض تكون ملهاة، ومثل هذا الخارج على أوضاع الجماعة يكون بطل الملهاة، وعاقبة خروجه أن يعاقبه الناس بالضحك والسخرية. وأغلظ أنواع الملاهي هو ما يختار بطله رجلا لا يأتي الأشياء إلا معكوسة مغلوطة مقلوبة، وعندئذ يكون بطل الملهاة مهرجا لا أكثر ولا أقل، فيدخل هذا المهرج الساخر سائرا على يديه ورجلاه إلى أعلى، ويضع السترة حيث تواضع الناس أن يضعوا السراويل، ويقول ألفاظا تعني عكس ما يريد وهكذا. وتتدرج الملهاة صاعدة من هذا التهريج الصبياني الغليظ، إلى ألوان من الانحراف دقيقة لطيفة، لكن أساس الملهاة واحد في كلتا الحالتين. ولئن كان المسرح وأدواته يحاول أن يمثل الواقع كما يبدو للعين، فهو في هذه المحاولة أنجح في تمثيل الملهاة منه في تمثيل المأساة، ما دامت الملهاة تتحرك على سطح الحياة الظاهر، والمأساة تغوص إلى الأعماق. إنه أيسر على المسرح بغير شك أن يمثل ثياب الرجل من أن يمثل قلبه الدفين، وأن يمثل عاداته الظاهرة من أن يوضح مبادئه الكامنة في نفسه، وسلوكه البادي من أن يمثل أساسها الخلقي الراسخ. والملهاة أقرب من المأساة إلى المجتمع الذي يمسنا من قريب، هي أقرب إلى حياتنا في الدار والنادي ومكان العمل. ولما كان أيسر على المسرح وأدواته أن يمثل هذه البيئة القريبة تمثيلا واقعيا صادقا، أيسر عليه أن يمثل غرفة في الدار أو بهوا في النادي أو حجرة في مكان العمل، كانت كل العوامل المسرحية مؤدية إلى نجاح الملهاة أكثر مما تؤدي إلى نجاح المأساة. ومن ثم كان تطور الملهاة وتطور المسرح يسيران جنبا إلى جنب كما أسلفنا لك القول، ومن ثم كان التوفيق الذي أصابه أدباء المسرح في ملاهيهم في عصرنا هذا. فنستطيع أن نضع ملاهي «برنارد شو» في طليعة ما عرفته آداب العالم من الأدب المسرحي حتى اليوم.
ولا أحب لك أن تفهم من هذا العرض الذي عرضته أمامك من خصائص الملهاة والمأساة، أن الملهاة لخفة موضوعها تخلو حتما من الجد العميق؛ فامتيازها ومجال نبوغها أنها تصور الأشياء من ظواهرها، ولا تتعمق فيما يكمن وراء هذه الظواهر البادية من مبادئ عميقة. امتياز الملهاة ومجال نبوغها أنها تصور من الأشياء جانبها المادي، والصعاب التي تقيمها في وجه بطلها أدخل في شئون الحياة العارضة منها في أصولها الحيوية الجوهرية، والمبادئ التي يخرج عليها بطل الملهاة هي التقاليد السائدة في جماعة - ضاقت حدودها أو اتسعت - وليست هي النظم الأبدية الثابتة في الخير والشر والصواب والخطأ. لكن الملهاة تستطيع أن توسع من أفقها بحيث تمثل النظام الاجتماعي، الذي يظلل الإنسان بصفة عامة، ولا يقتصر على قوم أو طائفة، وتستطيع أن تجعل التقاليد التي يخرج عليها البطل، مما يؤمن به الجنس البشري كافة، ضرورة لا مندوحة عن رعايتها وصيانتها؛ لتسير الحياة الإنسانية سيرها في أمن وسلام. فالبطل في الملاهي الخفيفة يستمد بطولته هذه من خروجه على تقاليد طائفة أو فريق محدود من الناس، والبطل في الملاهي الرفيعة بطل؛ لأنه يخرج على أوضاع الجنس البشري كله، ويتحدى ما يمليه الإدراك الفطري السليم. وأسمى الملاهي ما مجد هذا الإدراك الفطري السليم الذي يهدي - أو يحب أن يهدي - الإنسان في سلوكه وتصرفه. فمن أخطأه هذا الإدراك الفطري، فثار على ما يوحى به، وتحدى ما يمليه يعد ثائرا على المجتمع متحديا له؛ لأنه لا يعترف بالشروط والقيود التي لا بد من رعايتها، إن أريد للإنسان حياة آمنة فوق هذه الأرض. والملهاة بما تصوره لنا من شروط الحياة الواجبة المفروضة، إنما تقصد إلى غاية عملية خالصة، تريد أن تبصرنا كيف ينبغي أن نحيا حياة مستقيمة، لا تعارض فيها ولا تضارب، وتريد أن تمدح الخصال التي تعين على مثل هذه الحياة، وأن تقدح في الخصال التي تعرقل سيرها وتعوق مجراها. غاية الملهاة أن تفصل ما يصلح للعيش من صفات، تاركة لزميلتها المأساة أن تبين ما هو حقيق، بالتضحية والموت في سبيله من تلك الخصائص والصفات، الملهاة تأخذ الأمور كما هي، ولا تبحث عما يمكن لها أن تكون عليه، ولا ما ينبغي أن تصير إليه، تأخذ العالم كما يبدو للعين، لا كما هو في حقيقته الخافية، وروح الملهاة وصميمها أنها تجعل من الإدراك الفطري السليم، فيصلا يفرق بين الطيب والخبيث. فالبداهة عند الملهاة هي الحكم الأول والأخير، فما رأيت بالبداهة الفطرية أنه صحيح فهو صحيح، وليس بك حاجة إلى تعمق الأمور إلى جذورها وأصولها، وحكم البداهة عند الملهاة هو مفتاح السعادة والنجاح، في هذه الحياة الدنيا التي نحياها، في هذه الحياة الدنيا التي جعلت للناس جميعا، ولم تخلق لفريق من الناس دون فريق، والتي نرى الحياة فيها مشكلة عملية تحتاج إلى حلول عملية، لا إلى فروض نظرية، حتى يتاح للفرد أن يعيش بين الناس في غير تضارب، مع تقاليدهم وقوانينهم ومصالحهم، وفي غير تعارض مع ما للطبيعة من شروط وفروض. الملهاة من شأنها أن تفصل للناس أسلوب العيش الهانئ السعيد، وليس من شأنها أن تعد الإنسان للخلود بعد الموت، مهمتها السعادة هنا لا هناك، ومجالها الحياة الدنيا لا الحياة الآخرة.
تلك إذا غاية الملهاة، فامتيازها ومجال نبوغها أن توضح ضرورة الإدراك الفطري السليم، ضرورة الاحتكام إلى البداهة التي لا عوج فيها ولا التواء؛ كي نعيش في هذه الحياة الدنيا خير عيش مستطاع. وعلامة الملهاة الجيدة في فنها، هي هذه النظرة الصادقة التي تفرق بها بين السوي والملتوي، بين المألوف والشاذ، علامتها هي إرهافها لحواسنا إرهافا يشعرها بما يقع من تناقض بين حماقة الحمقى، وبين ما يستوجبه الإدراك الفطري والبداهة السليمة، علامتها أنها تصور العالم وقد ساده النظام بفضل ما فيه من تناسق بين الأجزاء. وتناسق الأجزاء في صميمه وجوهره، إن هو إلا حب الإنسان للإنسان، وتسامح سخي كريم يصدر عن روح الفكاهة. علامتها أنها تنظر إلى الدنيا كما هي، لا تضجر بها ولا تضيق، تلك هي الغاية التي تلتمس إليها الملهاة الجيدة مختلف الوسائل والسبل، فقد تسلك إليها سبيل إظهار الفعل المنحرف بوضعها في محيط يبرز انحرافه واعوجاجه. وفي هذا التباين الواضح بين الشيء وما يحيط به ما يستثير الضحك، كأن تلبس عبدا أسود قبعة من الحرير الأسود، أو أن تجعل الماجن المأفون يقف موقف الواعظ الهادي، فهذا تناقض تلمحه العين. وقد تسلك إليها سبلا أخرى في بيان التناقض والتباين، إذ توضح التناقض بين الفكرة والفكرة، لا بين الشيء المنظور والشيء المنظور. وفي التناقض الذي يلمحه العقل ولا تراه العين فطنة بارعة، ومن ثم كان الحوار الفكه من أفعل أدوات الملهاة؛ لأنه مجال خصيب للمؤلف المسرحي أن يعرض فيه الفكرة، ثم لا ينفك يقرنها إلى أضدادها وأشباهها، مقارنة تبين على الفور أوجه الضعف والركاكة فيها. فكم فكرة لنا رسخت في أذهاننا بحكم العرف القوي، ولم نتبين سخفها وغضاضتها إلا حين تعرض لها كاتب مثل «وايلد» أو «شو»، فوضعها أمام عقولنا جنبا إلى جنب مع أشباهها، فظهرت لنا فيها أشياء لم تدر بخلدنا من قبل، وبهذا اهتز أساسها، وترنح بناؤها، وقد كان متينا مكينا.
ولنعد الآن بحديثنا إلى المأساة؛ تمثل المأساة فعل الفرد وهو في صراع مع بيئته، وليست غايتها عملية كالملهاة، إنما هي مطلقة مجردة تبحث عن القوى النظرية، والقوانين العامة التي تسير حوادث الحياة، ومن ثم رأيت مآسي كل عصر خير مرآة، تعكس لك عقائد ذلك العصر فيما يتعلق بالقوى التي تتحكم في مصاير البشر، ولكل عصر في ذلك عقائده، فالمأساة بهذا المعنى تنطوي على فلسفة عصرها؛ لأنها تمثل الفعل الذي يشف عن القوة العليا، المدبرة للكون المسيطرة على ما فيه، في رأي ذلك العصر. وعلى الرغم من ذلك فليس مؤلف المأساة فيلسوفا يحلل بعقله الكون وقواه، ليستخرج القوة العليا الكامنة وراء ظواهر الوجود، إنما هو رجل ذو خيال خصيب يدرك عناصر تلك القوة بقوة خياله، وليس لكاتب المأساة عن إدراك هذه القوة المتسلطة المسيطرة محيص؛ لأن مأساته لا بد لها أن تقرر مصير بطلها بالموت والحياة، فمن ذا يصرف مثل هذا القضاء الخطير غير قوة يعتقد العصر وأهله أن لها الأمر في آجال الرجال؟ وعظمة منشئ المأساة تنحصر في قدرته على إيهام النظارة بفعل تلك القوة الخفية الجبارة، إيهاما لا يدع لهم مجالا للشك بأنها هي صاحبة الحول والطول والنفوذ والسلطان، فالمأساة سلسلة من الأفعال يتلو بعضها بعضا، وينتهي بها البطل إلى قضائه المحتوم، فواجب الأديب أن يحبك هذه المراحل حبكا محكما، بحيث يبدي لنظارته في جلاء لا يقبل الشك، أن البطل سائر في طريقه ذاك، مسيرا بتلك القوة العليا لا يلوي ولا ينحرف. وما تلك القوة العليا بالطبع إلا ما تتعلق به عقيدة العصر، فقد كانت «ربة الانتقام» عند اليونان هي المصرفة للبشر، فكان على كتاب المآسي عند اليونان مثل: «اسخيلوس» و«سوفوكليز»، أن يؤلفوا مسرحياتهم على نحو يجعل الأمور كلها من فعل «ربة الانتقام»، ولم يصغروا من شأنها في أعين الناس، فيرمزوا لها بشخص يظهر على المسرح أمام الأبصار، إنما جعلوها يدا خفية، تبدي آثارها للناس ولا تبدو، وبهذا لم يزالوا في خطأ زل فيه رجال المأساة في العصور الوسطى، إذ جعل هؤلاء قواهم العليا مثل «الخير» و«الشر» و«الضمير» و«التوبة» إلى آخر هذه المعاني المجردة، التي شخصوها وجسدوها واعتبروها مصرفة للأمور، ثم جعلوها تبدو على المسرح مرموزا لها بأشخاص الممثلين، فكان ذلك بغير شك تخفيفا من خطرها وتهوينا من شأنها. خذ مأساة «أويدبس» عند اليونان، فقد تزوج «أويدبس» من أمه على غير علم منه، لكن الجريمة ترتكب جهلا لا تجد مغفرة عند «ربة الانتقام»، ولا بد أن يكفر الآثم عن إثمه؛ لأن قوة سماوية عليا قد أوذيت بفعله، فلا مناص من التكفير ليزول ذاك الأذى، لقد كان «أويدبس» أداة جاءت إلى الأرباب بالسوء، فلا بد أن ترد الأرباب عن نفسها السوء في شخص «أويدبس». وهكذا ترى أطراف القصة في محيط يعلو على المحيط الإنساني الخالص، ولا تقف عند القوانين الموضعية المؤقتة، بل تعدوها إلى قوانين الكون بأسره؛ فقوانين الكون العليا هي التي أوذيت بفعل الآثم، وقوانين الكون العليا هي التي ترد الإيذاء، وتقيم الأمور في نصابها الصحيح، وليست هذه قوانين الدولة أو قوانين المدنية أو تقاليد الأسرة أو النادي أو الحزب الذي ينتمي إليه البطل، ليست هذه القوانين الموضعية المؤقتة، هي التي تتصرف في الأمر، فمجال الفعل في المأساة اليونانية هو الكون الروحاني الأعلى، لا العالم الأرضي الذي نعيش فيه.
صفحة غير معروفة